Translate

الأحد، 6 مارس 2022

26-مجموع الفتاوى/المجلد السادس والعشرون كتاب الحج والعمرة

مجموع الفتاوى/المجلد السادس والعشرون
كتاب الحج والعمرة
 
 
سئل عن العمرة هل هي واجبة

 

 
سئل شيخ الإسلام رحمه الله ورضي عنه عن العمرة هل هي واجبة؟ وإن كان فما الدليل عليه؟

 

 
فأجاب:
والعمرة في وجوبها قولان للعلماء، هما قولان في مذهب الشافعي وأحمد، والمشهور عنهما وجوبها. والقول الآخر: لا تجب، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك.

 

 
وهذا القول أرجح؛ فإن الله إنما أوجب الحج بقوله: { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [1]، لم يوجب العمرة، وإنما أوجب إتمامهما. فأوجب إتمامهما لمن شرع فيهما، وفي الابتداء إنما أوجب الحج. وهكذا سائر الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا إيجاب الحج؛ ولأن العمرة ليس فيها جنس غير ما في الحج، فإنها إحرام وإحلال، وطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وهذا كله داخل في الحج.

 

 
وإذا كان كذلك فأفعال الحج لم يفرض الله منها شيئًا مرتين، فلم يفرض وقتين، ولا طوافين، ولا سعيين، ولا فرض الحج مرتين.

 

 
وطواف الوداع ليس بركن، بل هو واجب، وليس هو من تمام الحج، ولكن كل من خرج من مكة عليه أن يودع؛ ولهذا من أقام بمكة لا يودع على الصحيح، فوجوبه ليكون آخر عهد الخارج بالبيت، كما وجب الدخول بالإحرام في أحد قولي العلماء لسبب عارض لا كون ذلك واجبًا بالإسلام، كوجوب الحج.

ولأن الصحابة المقيمين بمكة لم يكونوا يعتمرون بمكة، لا على عهد النبي ﷺ، ولا على عهد خلفائه، بل لم يعتمر أحد عمرة بمكة على عهد النبي ﷺ إلا عائشة وحدها، لسبب عارض. وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
سئل عمن حج ولم يعتمر وتركها إما عامدا أو ناسيا فهل تسقط عنه بالحج أم لا
وسئل عمن حج ولم يعتمر، وتركها إما عامدًا أو ناسيا. فهل تسقط عنه بالحج أم لا؟ وهل ذكر أحد في ذلك خلافًا أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، العمرة في وجوبها قولان مشهوران للعلماء، هما قولان للشافعي، وروايتان عن أحمد، والمشهور عن أصحابهما وجوبها، ولكن القول بعدم وجوبها قول الأكثرين؛ كمالك، وأبي حنيفة، وكلا القولين منقول عن بعض الصحابة.
والأظهر أن العمرة ليست واجبة، وأن من حج ولم يعتمر فلا شيء عليه، سواء ترك العمرة عامدًا، أو ناسيا؛ لأن الله إنما فرض في كتابه حج البيت بقوله: { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [2]. ولفظ الحج في القرآن لا يتناول العمرة، بل هو سبحانه إذا أراد العمرة ذكرها مع الحج، كقوله: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } [3]، وقوله: { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عليه أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [4]، فلما أمر بالإتمام أمر بإتمام الحج والعمرة، وهذه الآية نزلت عام الحديبية سنة ست باتفاق الناس. وآية آل عمران نزلت بعد ذلك، سنة تسع أو عشر، وفيها فرض الحج.
ولهذا كان أصح القولين أن فرض الحج كان متأخرًا. ومن قال: إنه فرض سنة ست فإنه احتج بآية الإتمام، وهو غلط، فإن الآية إنما أمر فيها بإتمامهما لمن شرع فيهما لم يأمر فيهابابتداء الحج والعمرة. والنبي ﷺ اعتمر عمرة الحديبية قبل أن تنزل هذه الآية، ولم يكن فرض عليه لا حج ولا عمرة، ثم لما صده المشركون أنزل الله هذه الآية، فأمر فيها بإتمام الحج والعمرة، وبين حكم المحصر الذي تعذر عليه الإتمام؛ ولهذا اتفق الأئمة على أن الحج والعمرة يلزمان بالشروع، فيجب إتمامهما. وتنازعوا في الصيام، والصلاة والاعتكاف.
وأيضًا، فإن العمرة ليس فيها جنس من العمل غير جنس الحج، فإنها إحرام وطواف وسعي وإحلال، وهذا كله موجود في الحج. والحج إنما فرضه الله مرة واحدة لم يفرضه مرتين، ولا فرض شيئًا من فرائضه مرتين، لم يفرض فيه وقوفين، ولا طوافين؛ بل الفرض طواف الإفاضة، وأما طواف الوداع فليس من الحج، وإنما هو لمن أراد الخروج من مكة؛ ولهذا لا يطوف من أقام بمكة، وليس فرضًا على كل أحد، بل يسقط عن الحائض، ولو لم يفعله لأجزأه دم، ولم يبطل الحج بتركه بخلاف طواف الفرض، والوقوف. وكذلك السعي لا يجب إلى مرة واحدة، والرمي يوم النحر لا يجب إلا مرة واحدة، ورمي كل جمرة في كل يوم لا يجب إلا مرة واحدة، وكذلك الحلق والتقصير لا يجب إلا مرة واحدة.
فإذا كانت العمرة ليس فيها عمل غير أعمال الحج وأعمال الحج إنما فرضها الله مرة، لا مرتين علم أن الله لم يفرض العمرة.
والحديث المأثور في (أن العمرة هي الحج الأصغر)، قد احتج به بعض من أوجب العمرة، وهو إنما يدل على أنها لا تجب؛ لأن هذا الحديث دال على حجين: أكبر، وأصغر كما دل على ذلك القرآن في قوله: { يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ } [5]، وإذا كان كذلك فلو أوجبناها لأوجبنا حجين: أكبر، وأصغر. والله تعالى لم يفرض حجين، وإنما أوجب حجًا واحدًا، والحج المطلق إنما هو الحج الأكبر، وهو الذي فرضه الله على عباده، وجعل له وقتًا معلومًا، لا يكون في غيره كما قال: { يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ }، بخلاف العمرة فإنها لا تختص بوقت بعينه، بل تفعل في سائر شهور العام.
ولأن العمرة مع الحج كالوضوء مع الغسل، والمغتسل للجنابة يكفيه الغسل، ولا يجب عليه الوضوء عند جمهور العلماء، فكذلك الحج؛ فإنهما عبادتان من جنس واحد: صغري، وكبري. فإذا فعل الكبري لم يجب عليه فعل الصغري، ولكن فعل الصغري أفضل وأكمل كما أن الوضوء مع الغسل أفضل وأكمل.
وهكذا فعل النبي ﷺ وأصحابه، لكنه أمرهم بأمر التمتع وقال: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)، كما قد بسط في موضع آخر. والله أعلم.
سئل عن امرأة حجت حجة الإسلام وما اعتمرت
وسئل عن امرأة حجت حجة الإسلام، وما اعتمرت، وفي العام الثاني قصدت أن تحج عن بنتها، وكانت بالأول أحرمت بحج وعمرة، فهل عليها عمرة أخري؟
فأجاب:
لا عمرة عليها لما مضى، وأما إذا اعتمرت في هذا العام عن نفسها غير العمرة عن بنتها جاز ذلك.
سئل ماذا يقول أهل العلم في رجل آتاه ذو العرش مالا حج واعتمر
وسئل رحمه الله:
ماذا يقول أه ** ل العلم في رجل
آتاه ذو العرش مالا ** حج واعتمرا
فهزه الشوق ** نحو المصطفى طربا
أترون الحج أفض ** ل أم إيثاره الفقرا
أم حجه عن ** أبيه ذاك أفضل أم
ماذا الذي يا ** سادتي ظهرا
فأفتوا محبا لك ** م فديتكمو
وذكركم دأبه إن ** غاب أو حضرا
فأجاب رضي الله عنه:
نقول فيه: بأن ** الحج أفضل من
فعل التصدق ** والإعطاء للفقرا
والحج عن وال ** ديه فيه برهما
والأم أسبق في ** البر الذي ذكرا
لكن إذا الفرض خ ** ص الأب كان إذًا
هو المقدم في ** ما يمنع الضررا
كما إذا كان ** محتاجًا إلى صلة
وأمه قد كفاها ** من برى البشرا
هذا جوابك ** يا هذا موازنة
وليس مفتيك ** معدودًا من الشعرا
سئل عن امرأة تملك زيادة عن نحو ألف درهم ونوت أن تهب ثيابها لبنتها
وسئل رحمه الله عن امرأة تملك زيادة عن نحو ألف درهم، ونَوَتْ أن تهب ثيابها لبنتها، فهل الأفضل أن تبقي قماشها لبنتها؟ أو تحج بها؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم، تحج بهذا المال وهو ألف درهم، ونحوها. وتزوج البنت بالباقي إن شاءت، فإن الحج فريضة مفروضة عليها، إذا كانت تستطيع إليه سبيلا. ومن لها هذا المال تستطيع السبيل.
سئل عن شيخ كبير وهل يجوز أن يستأجر من يحج عنه الفرض
وسئل عن شيخ كبير وقد انحلت أعضاؤه. لا يستطيع أن يأكل أو يشرب، ولا يتحرك، هل يجوز أن يستأجر من يحج عنه الفرض؟
فأجاب:
أما الحج فإذا لم يستطع الركوب على الدابة، فإنه يستنيب من يحج عنه.
سئل هل يجوز أن تحج المرأة بلا محرم
وسئل: هل يجوز أن تحج المرأة بلا مَحْرم؟
فأجاب:
إن كانت من القواعد اللاتي لم يحضن، وقد يئست من النكاح، ولا محرم لها، فإنه يجوز في أحد قولي العلماء أن تحج مع من تأمنه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ومذهب مالك والشافعي.
فصل يجوز للمرأة أن تحج عن امرأة أخرى
وَقَالَ رَحِمهُ الله:
يجوز للمرأة أن تحج عن امرأة أخرى باتفاق العلماء، سواء كانت بنتها، أو غير بنتها، وكذلك يجوز أن تحج المرأة عن الرجل عند الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء كما أمر النبي ﷺ المرأة الخثعمية أن تحج عن أبيها، لما قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي، وهو شيخ كبير. فأمرها النبي ﷺ أن تحج عن أبيها، مع أن إحرام الرجل أكمل من إحرامها. والله أعلم.
فصل في الحج عن الميت
وَقَالَ رَحِمهُ الله:
في الحج عن الميت، أو المعضوب بمال يأخذه إما نفقة، فإنه جائز بالاتفاق، أو بالإجارة أو بالجعالة على نزاع بين الفقهاء في ذلك، سواء كان المال المحجوج به موصي به لمعين، أو عينًا مطلقًا، أو مبذولًا، أو مخرجًا من صلب التركة. فمن أصحاب الشافعي من استحب ذلك، وقال: هو من أطيب المكاسب؛ لأنه يعمل صالحًا ويأكل طيبًا. والمنصوص عن أحمد أنه قال: لا أعرف في السلف من كان يعمل هذا، وعَدَّه بدعة، وكرهه. ولفظ نصه مكتوب في غير هذا الموضع. ولم يكره إلا الإجارة والجعالة.
قلت: حقيقة الأمر في ذلك: أن الحاج يستحب له ذلك إذا كان مقصوده أحد شيئين: الإحسان إلى المحجوج عنه، أو نفس الحج لنفسه.
وذلك أن الحج عن الميت إن كان فرضًا فذمته متعلقة به، فالحج عنه إحسان إليهبابراء ذمته، بمنزلة قضاء دينه، كما قال النبي ﷺ للخثعمية: (أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يجزي عنه؟) قالت: نعم، قال: (فالله أحق بالقضاء)، وكذلك ذكر هذا المعني في عدة أحاديث، بين أن الله لرحمته وكرمه أحق بأن يقبل قضاء الدين عمن قضي عنه، فإذا كان مقصود الحاج قضاء هذا الدين الواجب عن هذا، فهذا محسن إليه، والله يحب المحسنين، فيكون مستحبًا، وهذا غالبًا إنما يكون لسبب يبعثه على الإحسان إليه، مثل رحم بينهما، أومودة وصداقة، أو إحسان له عليه يجزيه به، ويأخذ من المال ما يستعين به على أداء الحج عنه، وعلامة ذلك أن يطلب مقدار كفاية حجه، ولهذا جوزنا نفقة الحج بلا نزاع. وكذلك لو وصى بحجة مستحبة، وأحب إيصال ثوابها إليه.
والموضع الثاني: إذا كان الرجل مؤثرًا أن يحج محبة للحج وشوقًا إلى المشاعر، وهو عاجز فيستعين بالمال المحجوج به على الحج، وهذا قد يعطي المال ليحج به لا عن أحد، كما يعطي المجاهد المال ليغزو به، فلا شبهة فيه، فيكون لهذا أجر الحج ببدنه، ولهذا أجر الحج بماله، كما في الجهاد فإنه من جهز غازيا فقد غزا، وقد يعطي المال ليحج به عن غيره، فيكون مقصود المعطي الحج عن المعطي عنه. ومقصود الحاج ما يحصل له من الأجر بنفس الحج لا بنفس الإحسان إلى الغير.
وهذا يتوجه على أصل أبي حنيفة حيث قال: الحج يقع عن الحاج، وللمعطي أجر الإنفاق، كالجهاد. وعلى أصلنا فإن المصلي والصائم والمتصدق عن الغير والحاج عن الغير له قصد صالح في ذلك العمل، وقصد صالح في عمله عن الغير. وإذا كان النبي ﷺ قد قال: (الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملًا موفرًا طيبة به نفسه أحد المتصدقين)، فجعل للوكيل مثل الموكل في الصدقة، وهو نائب، وقال: (إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، وللزوج أجره بما اكتسب، وللخادم مثل ذلك)، فكذلك النائب في الحج، وسائر ما يقبل النيابة من الأعمال له أجر، وللمستنيب أجر.
وهذا أيضًا إنما يأخذ ما ينفقه في الحج كما لا يأخذ إلا ما ينفقه في الغزو، فهاتان صورتان مستحبتان، وهما الجائزتان من أن يأخذ نفقة الحج ويرد الفضل، وأما إذا كان قصده الاكتساب بذلك، وهو أن يستفضل مالا، فهذا صورة الإجارة والجعالة، والصواب أن هذا لا يستحب، وإن قيل بجوازه؛ لأن العمل المعمول للدنيا ليس بعمل صالح في نفسه، إذا لم يقصد به إلا المال، فيكون من نوع المباحات. ومن أراد الدنيا بعمل الآخرة فليس له في الآخرة من خلاق.
ونحن إذا جوزنا الإجارة والجعالة على أعمال البر التي يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب لم نجعلها في هذه الحال إلا بمنزلة المباحات، لا نجعلها من باب القرب، فإن الأقسام الثلاثة: إما أن يعاقب على العمل بهذه النية، أو يثاب، أو لا يثاب ولا يعاقب.
وكذلك المال المأخوذ: إما منهي عنه، وإما مستحب، وإما مباح فهذا هذا والله أعلم. لكن قد رجحت الإجارة على... إذا كان محتاجًا إلى ذلك المال للنفقة ومدة الحج، وللنفقة بعد رجوعه أوقضاء دينه، فيقصد إقامة النفقة وقضاء الدين الواجب عليه فهنا تصير الأقسام ثلاثة: إما أن يقصد الحج والإحسان فقط، أو يقصد النفقة المشروعة له فقط، أو يقصد كلاهما، فمتي قصد الأول فهو حسن، وإن قصدهما معا فهو حسن إن شاء الله؛ لأنهما مقصودان صالحان، وأما إن لم يقصد إلا الكسب لنفقته فهذا فيه نظر. والمسألة مشروحة في مواضع.
سئل عن امرأة حجت وقصدت أن تحج عن ميتة بأجرة فهل لها أن تحج
فأجاب:
يجوز أن تحج عن الميت بمال يؤخذ على وجه النيابة بالاتفاق. وأما على وجه الإجارة ففيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد:
إحداهما: يجوز وهو قول الشافعي.
والثاني: لا يجوز، وهو مذهب أبي حنيفة. ثم هذه الحاجة عن الميت إن كان قصدها الحج، أو نفع الميت كان لها في ذلك أجر وثواب، وإن كان ليس مقصودها إلا أخذ الأجرة فما لها في الآخرة من خلاق.
سئل عمن حج عن الغير ليوفي دينه
فأجاب:
أما الحاج عن الغير لأن يوفي دينه، فقد اختلف فيها العلماء أيهما أفضل. والأصح أن الأفضل الترك، فإن كون الإنسان يحج لأجل أن يستفضل شيئًا من النفقة ليس من أعمال السلف، حتى قال الإمام أحمد: ما أعلم أحدًا كان يحج عن أحد بشيء. ولو كان هذا عملًا صالحًا لكانوا إليه مبادرين، والارتزاق بأعمال البر ليس من شأن الصالحين. أعني إذا كان إنما مقصوده بالعمل اكتساب المال، وهذا المدين يأخذ من الزكاة ما يوفي به دينه خير له من أن يقصد أن يحج ليأخذ دراهم يوفي بها دينه، ولا يستحب للرجل أن يأخذ مالا يحج به عن غيره، إلا لأحد رجلين:
إما رجل يحب الحج، ورؤية المشاعر، وهو عاجز. فيأخذ ما يقضي به وطره الصالح، ويؤدي به عن أخيه فريضة الحج.
أو رجل يحب أن يبرئ ذمة الميت عن الحج، إما لصلة بينهما، أو لرحمة عامة بالمؤمنين، ونحو ذلك، فيأخذ ما يأخذ ليؤدي به ذلك. وجماع هذا أن المستحب أن يأخذ ليحج لا أن يحج ليأخذ، وهذا في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح، فمن ارتزق ليتعلم، أو ليعلم، أو ليجاهد، فحسن، كما جاء عن النبي ﷺ أنه قال: (مثل الذين يغزون من أمتي، ويأخذون أجورهم، مثل أم موسي ترضع ابنها وتأخذ أجرها)، شبههم بمن يفعل الفعل لرغبة فيه كرغبة أم موسي في الإرضاع، بخلاف الظئر المستأجر على الرضاع، إذا كانت أجنبية. وأما من اشتغل بصورة العمل الصالح لأن يرتزق فهذا من أعمال الدنيا.
ففرق بين من يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة، ومن تكون الدنيا مقصوده والدين وسيلة. والأشبه أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق، كما دلت عليه نصوص ليس هذا موضعها.
سئل هل يجوز لرجل أن يحج وعليه الدين
وسئل رحمه الله عن رجل عليه دين لشخص غائب ببغداد، والمديون مقيم بمصر وهو معسر، وقصد شخص أن يحج به من عنده. فهل يجوز له أن يحج وعليه الدين؟
فأجاب:
نعم، يجوز أن يحج المدين المعسر، إذا حججه غيره، ولم يكن في ذلك إضاعة لحق الدَّين، إما لكونه عاجزًا عن الكسب، وإما لكون الغريم غائبًا لا يمكن توفيته من الكسب. والله أعلم.
سئل عن رجل خرج حاجا فأدركه الموت في الطريق
وسئل رحمه الله عن رجل خرج حاجًا إلى بيت الله الحرام بالزاد والراحلة، فأدركه الموت في الطريق فهل يسقط عنه الفرض؟ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، لا يسقط عنه بذلك، ثم إن كان خرج إلى الحج حين وجب عليه من غير تفريط مات غير عاص، وإن فرط بعد الوجوب مات عاصيا، ويحج عنه من حيث بلغ، وإن كان قد خلف مالا فالنفقة من ذلك واجبة، في أظهر قولي العلماء.
وتفصيل ذلك: أنه إذا استطاع الحج بالزاد والراحلة وجب عليه الحج بالإجماع، فإن حج عقب ذلك بحسب الإمكان ومات في الطريق وجب أجره على الله، ومات وهو غير عاص، وله أجر نيته وقصده.
فإن كان فرط، ثم خرج بعد ذلك ومات قبل أداء الحج، مات عاصيا آثمًا، وله أجر ما فعله، ولم يسقط عنه الفرض بذلك، بل الحج باق في ذمته، ويحج عنه من حيث بلغ. والله أعلم.
باب الإحرام
سـئل في الإحرام. هل هـو ركن
سُئِلَ شيخ الإسلام عما حكي أصحابنا رحمهم الله في الإحرام. هل هو ركن؟ أم لا؟ ثم إنهم ذكروا في موضع آخر: أن الإحرام عبارة عن نية الحج، فكيف يتصور الخلاف في النية، مع أنه لا يتصور وجود الحج الشرعي بدونها، أبِنْ لنا عن هذا مثابًا، معظم الأجر؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، الجواب من طريقين: إجمالي وتفصيلي.
أما الإجمالي فنقول: أما النية للحج والعمرة فلا خلاف بين أصحابنا، وسائر المسلمين أن الحج لا يصح إلا بها، إما من الحاج نفسه، وإما من يحج به، كما يحج ولي الصبي، ولو عمل الرجل أعمال الحج من غير قصد لم يصح الحج، كما لا تصح الصلاة والصوم بغير نية، وسواء قيل: إن الحج ينعقد بمجرد النية، أو لا ينعقد إلا بها وبشيء آخر من قول أو عمل: من تلبية، أو تقليد هدي، على الخلاف المشهور بين العلماء في ذلك.
وسواء قلنا: إن الإحرام ركن، أم ليس بركن، وهذا أمر لا يقبل الخلاف، فإن العبادات المقصودة يمتنع أن تكون هي العبادات المأمور بها بدون النية.
وأما انعقاد الإحرام بمجرد النية، ففيه خلاف في المذهب وغيره، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفرق بين النية المشترطة للحج، والنية التي ينعقد بها الإحرام، فإن الرجل يمكنه أن ينوي الحج من حين يخرج من بيته، كما هو الواقع، ويقف ويطوف مستصحبًا لهذه النية، ذكرًا وحكمًا، وإن لم يقصد الإحرام ولا يخطر بقلبه.
وأصل ذلك أن النية المعهودة في العبادات تشتمل على أمرين: على قصد العبادة، وقصد المعبود. وقصد المعبود هو الأصل الذي دل عليه قوله سبحانه: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [6]، وقول النبي ﷺ: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
فإنه ﷺ ميز بين مقصود ومقصود، وهذا المقصود في الجملة لابد منه في كل فعل اختياري، قال النبي ﷺ: (أصدق الأسماء حارث وهمام)، فإن كل بشر بل كل حيوان لابد له من همة وهو الإرادة، ومن حرث وهو العمل، إذ من لوازم الحيوان أنه يتحرك بإرادته، ثم ذلك الذي يقصده هو غايته، وإن كان قد يحدث له بعد ذلك القصد قصد آخر، وإنما تطمئن النفوس بوصولها إلى مقصودها.
وأما قصد العبادة فقصد العمل الخاص، فإن من أراد الله والدار الآخرة بعمله فقد يريده بصلاة، وقد يريده بحج. وكذلك من قصد طاعته بامتثال ما أمره به، فقد أطاعه في هذا العمل. وقد يقصد طاعته في هذا العمل، فهذا القصد الثاني مثل قصد الصلاة دون الصوم، ثم صلاة الظهر دون صلاة العصر، ثم الفرض دون النفل، وهذه النية التي تذكر غالبًا في كتب الفقه المتأخرة، وكل واحدة من النيتين فرض في الجملة.
أما الأولى: فبها يتميز من يعبد الله مخلصًا له الدين ممن يعبد الطاغوت، أو يشرك بعبادة ربه، ومن يريد حرث الآخرة ممن يريد حرث الدنيا، وهو الدين الخالص لله الذي تشترك فيه جميع الشرائع، الذي نهي الأنبياء عن التفرق فيه. كما قال تعالى: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إليكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [7]
ولهذا كان دين الأنبياء واحدًا، وإن كانت شرائعهم متنوعة، قال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [8]، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إليهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [9]، وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [10]، وقال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [11]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } [12].
أما النية الثانية: فبها تتميز أنواع العبادات، وأجناس الشرائع، فيتميز المصلي من الحاج والصائم، ويتميز من يصلي الظهر ويصوم قضاء رمضان ممن يصلي العصر ويصوم شيئًا من شوال، ويتميز من يتصدق عن زكاة ماله ممن يتصدق من نذر عليه أو كفارة.
وأصناف العبادات مما تتنوع فيه الشرائع، إذ الدين لا قوام له إلا الشريعة، إذ أعمال القلوب لا تتم إلا بأعمال الأبدان، كما أن الروح لا قوام لها إلا بالبدن، أعني: ما دامت في الدنيا.
وكما أن معاني الكلام لا تتم إلا بالألفاظ، وبمجموع اللفظ والمعني يصير الكلام كلامًا، وإن كان المعني لا يختلف باختلاف الأمم، واللفظ يتنوع بتنوع الأمم، ثم قد يكون لغة بعض الأمم أبلغ في إكمال المعني من بعض، وبعض ألفاظ اللغة أبلغ تمامًا للمعني من بعض.
فالدين العام يتعلق بقصد القلب، ثم لابد من عمل بدني يتم به القصد ويكمل، فتنوعت الأعمال البدنية كذلك، وتنوعت لما اقتضته مشيئة الله ورحمته لعباده، وبحكمته في أمره، وإنما وجب كل واحد من النيتين؛ لأن الله فرض علينا أن نقيم دينه بالشريعة التي بعث بها رسوله محمدًا ﷺ، إذ لا يقبل منا أن نعبده بشريعة غيرها.
والأعمال المشروعة مؤلفة من أقوال وأعمال مخصوصة، قد يعتبر لها أوقات وأمكنة مخصوصة، وصفات، كلما كان فرضًا علينا أن نعبد الله، وأن تكون العبادة على وصف معين، كان فرضًا علينا أن نقصده القصد الذي نكون به عابدين. والقصد الذي به نكون عابدين بنفس العمل الذي أمر به.
ثم اعلم أن النيات قد تحصل جملة، وقد تحصل تفصيلا، وقد تحصل بطريق التلازم، وقد تتنوع النيات حتى يكون بعضها أفضل من بعض، بحيث يسقط الفرض بأدناها، لكن الفضل لمن أتي بالأعلى. وقد يكون الشيء مقصودًا بالقصد الثاني دون الأول، ثم قد يحضر الإنسان القصد الثاني، ويذهل عن القصد الأول، فإن الإنسان في قصده العبادة قد يريد وجه الله من حيث الجملة، أو يريد طاعته أو عبادته، أو التقرب إليه، أو يريد ثوابه من غير أن يستشعر ثوابًا معينًا، أو يرجو ثوابًا معينًا في الآخرة، أو في الدنيا، أو فيهما، أو يخاف عقابًا إما مجملًا، وإما مفصلًا.وتفاصيل هذه النياتباب واسع.
وهو بهذا الاعتبار قد لا يكون له غرض في نوع من الأعمال البدنية دون نوع إلا باعتبار تقييس ذلك نية نوع العمل، فإن من قصد الحج قد يكون قد استشعر الحج من حيث الجملة، وهو أنه قَصْد مكان معين، فيقصد ما استشعره من غير علم، ولا قصد تفصيل أعماله من وقوف وطواف، وترك محظورات، وغير ذلك؛ بل إنما تصير تفاصيل أعمال الحج مقصودة إذا استشعرها، وقد يكون عالمًا بجنس أعمال الحج، وأنها وقوف، وطواف، ونحو ذلك؛ لأنها قد وصفت له، وإن لم يعلم عين المكان، وصورة الطواف، فينوي ذلك. وقد يعلم ذلك كله فينوي ما قد علمه.
وكذلك الكافر إذا أسلم، وقلنا له: قد وجبت عليك الصلاة، فإنه يلتزمها وينويها لاستشعاره لها جملة، ولم يعلم صفتها، بل كل من آمن بالرسول ﷺ إيمانًا راسخًا، فإن إيمانه متضمن لتصديقه فيما أخبره، وطاعته فيما أمره، وإن لم يعلم ولم يقصد أنواع الأخبار والأعمال، ثم عند العلم بالتفصيل: إما أن يصدق، ويطيع، فيصير من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو يخالف ذلك فيصير إما منافقًا، وإما عاصيا فاسقًا، أو غير ذلك.
وهذا يبين لك أن الأقسام ثلاثة: رجل يقصد عبادة الله وطاعته ولم يقصد العمل المعين المأمور به: كرجل له أموال ينفق منها على السائل والمحروم، مريدًا بذلك وجه الله من غير أن يخطر بباله لا زكاة، ولا كفارة، ولا وضعها في الأصناف الثمانية دون بعض، فهذا يثاب على ما يعمله لله سبحانه، لكن بقي في عهدة الأمر بالواجبات.
ورجل قد يقصد العمل المعين، من غير أن يقصد طاعة الله وعبادته، كمن يدفع زكاة ماله إلى السلطان؛ لئلا يضرب عنقه، أو ينقص حرمته، أو يأخذ ماله، أو قام يصلي خوفًا على دمه، أو ماله أو عرضه. وهذه حال المنافقين عمومًا، والمرائين في بعض الأعمال خصوصًا، كما قال تعالى: { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ } [13]، وقال: { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [14]، وقال تعالى: { وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [15].
والقسم الثالث: أن يقصد فعل ما أمر به من ذلك العمل المعين لله سبحانه. واتفق الفقهاء على أن نية نوع العمل الواجب لابد منها في الجملة، فلابد أن يقصد الصلاة أو الحج أو الصيام، ولهم في فروع ذلك تفصيل وخلاف ليس هذا موضعه.
واختلفوا في النية الأولي: وهي نية الإضافة إلى الله تعالى. من أصحابنا من قال: لا تجب نية الإضافة إلى الله تعالى، ومنهم من فرق بين العبادات المقصودة، كالصلاة، والحج، والصوم، وغير المقصودة كالطهارة والتيمم، وكذلك أصحاب الشافعي لم يعتبروا نية الإضافة إلى الله تعالى، في أصح الوجهين.
وذلك لأن نفس نية فعل العبادة، تتضمن الإضافة، كما تتضمن عدد الركعات، فإن الصلاة لا تشرع إلا لله تعالى، كما أن صلاة الظهر في الحضر لا تكون إلا أربع ركعات، فلهذا لم تجب نية الإضافة.
وأيضًا، النية الحكمية تقوم مقام النية المستحضرة، وإن كانت النية المستحضرة أكمل وأفضل، فإذا نوي العبد صلاة الظهر في أول الأمر أجزأه استصحاب النية حكمًا، فكذلك العبد المؤمن الذي دخل الإيمان في قلبه قد نوي نية عامة: أن عباداته هي له لا لغيره، فإنه إن لم يكن كذلك كان منافقًا.
فإذا نوي عبادة معينة من صلاة وصوم كان مستصحبًا لحكم تلك النية الشاملة لجميع أنواع العبادات، كما أنه في الصلاة إذا نوي الركوع والسجود في أثناء الصلاة، كان مستصحبًا لحكم نية الظهر أو العصر الشاملة لجميع أعمال الصلاة، ثم إن أتي بما ينقض علم تلك أفسدها، فإنه يكون فاسخًا لها كما لو فسخ نية الصلاة في أثنائها، فإذا قام يصلي لئلا يضرب أو يؤخذ ماله، أو أدي الزكاة لئلا يضرب، كان قد فسخ تلك النية الإيمانية.
فلهذا كان الصحيح عندنا وعند أكثر العلماء أن هذه العبادة فاسدة لا يسقط الفرض بهذه النية، وقلنا: إن عبادات المرائين الواجبة باطلة، وأن السلطان إذا أخذ الزكاة من الممتنع من أدائها لم يجزه في الباطن على أصح الوجهين، لكن لما كان غالب المسلمين يولد بين أبوين مسلمين، يصيرون مسلمين إسلامًا حكميا من غير أن يوجد منهم إيمان بالفعل، ثم إذا بلغوا فمنهم من يرزق الإيمان الفعلى، فيؤدي الفرائض ومنهم من يفعل ما يفعله بحكم العادة المحضة، والمتابعة لأقاربه، وأهل بلده، ونحو ذلك؛ مثل أن يؤدي الزكاة لأن العادة أن السلطان يأخذ الكلف، ولم يستشعر وجوبها عليه لا جملة ولا تفصيلا. فلا فرق عنده بين الكلف المبتدعة، وبين الزكاة المشروعة، أو من يخرج من أهل مكة كل سنة إلى عرفات؛ لأن العادة جارية بذلك، من غير استشعار أن هذا عبادة لله، لا جملة ولا تفصيلا، أو يقاتل الكفار لأن قومه قاتلوهم، فقاتل تبعًا لقومه، ونحو ذلك، فهؤلاء لا تصح عبادتهم بلا تردد، بل نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة قاضية بأن هذه الأعمال لاتسقط الفرض، فلا يظن ظان أن قول من قال من الفقهاء: أن نية الإضافة ليست واجبة: أراد مثل هؤلاء؛ وإنما اكتفي فيها بالنية الحكمية، كما قدمناه.
ففرق بين من لم يرد الله بعمله لا جملة ولا تفصيلا، وبين من أراده جملة وذَهَل عن إرادته بالعمل المعين تفصيلا.
فإن أحدًا من الأمة لا يقول: إن الأول عابد لله، ولا مؤد لما أمر به أصلا؛ وهذا ظاهر، ومن أصحابنا من اشترط هذه النية عند العمل المعين، فقال: النية الواجبة في الصلاة أن يعتقد أداء فعل ما افترض الله عليه، من فعل الصلاة بعينها، وامتثال أمره الواجب من غير رياء، ولا سمعة. ولفظ بعضهم: اتباع أمره، وإخلاص العمل له. وعلى هذا يدل كلام أكثرهم، فإنهم يستدلون على النية الواجبة في الطهارة والصلاة ونحوهما بقوله: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [16]، قالوا: وإخلاص الدين هو النية. ومن اغتسل للتبرد أو التنظف لم يخلص الدين لله، ويستدلون بقوله: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [17]، قالوا: ومن اغتسل للتبرد والتنظف لم يرد حرث الآخرة فيجب ألا يخلص له.
ومعلوم أن هاتين الآيتين تدلان على وجوب العمل لله والدار الآخرة، أبلغ من دلالتهما على وجوب نية العمل المعين، لكن من نصر الوجه الأول قد يقول: نية النوع مستلزمة لنية الجنس، فإن من نوي العمل المعين فقد نوي العمل لله بحكم إيمانه، كما تقدم.
ومن نصر الثاني يقول: النية الواجبة لا تتقدم على العمل بعشرين سنة، بل إنما تقدم عليه إما بالزمن اليسير، وإما من أول وقت الوجوب، على اختلاف الوجهين.
وأيضًا، فالدليل الظاهر والقياس، يوجب وجود النية المحضرة في جميع العبادة، وإنما عفي عن استصحابها في أثناء العبادة، لما في ذلك؛ من المشقة، ولا مشقة في نية العبادة لله عند فعل كل عبادة.
وأيضًا، فغالب الناس إسلامهم حكمي، وإنما يدخل في قلوبهم في أثناء الأمر، إن دخل، فإن لم توجب عليهم هذه النية لم يقصدوها، فتخلو قلوبهم منها، فيصيرون منافقين، إنما يعملون الأعمال عادة ومتابعة، كما هو الواقع في كثير من الناس.
سئل عن التمتع والقران أيهما أفضل
وسئل شيخ الإسْلام أبو العّباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه عن التمتع والقران أيهما أفضل ؟.
فأجاب:
الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
لا يختلف مذهب أحمد أنه إذا قدم في أشهر الحج، ولم يَسُقْ الهدي فالتمتع الخاص أفضل له، وهو أن يتمتع بعمرة فيحل منها إذا طاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم يحرم بالحج.وأما إذا ساق الهدي، فنقل المروزي عنه: أن القِران أفضل. فمن أصحابنا من جعل هذا رواية ثانية عن أحمد. وجعلوا فيها إذا ساق الهدي: هل الأفضل التمتع؟ أو القِران؟ على روايتين.
وهذه طريقة المتأخرين الذين قالوا: إن النبي ﷺ حج متمتعًا، فإنه على هذا القول يكون النبي ﷺ تمتع، وساق الهدي، وأمر أصحابه بالتمتع، فلا يبقي لاختيار القران وجه.
ولكن المنصوص عن أحمد الذي عليه أئمة أصحابه المتقدمون: أنه حج قارنا، ولكن أمر أصحابه بالتمتع من لم يسق الهدي أن يحل من إحرامه، ويجعلها متعة. وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة).
وعلى هذا القول، فهذا من باب المطلق والمقيد، فإن أحمد لم ينص على أنه من ساق الهدي فالتمتع أفضل له. بل إنما اختار التمتع لأمر النبي ﷺ لأصحابه به، ولقوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة). والنبي ﷺإنما أمر بالتحلل من لم يسق الهدي، وإنما اختار أن يجعلها عمرة، ولا يحل من لم يختر أن يجعلها عمرة مع سوق الهدي.
وأيضًا، فإن أحمد لم يقل: إن النبي ﷺ حج متمتعًا التمتع الخاص بل نص على أن النبي ﷺ حج قارنًا. وقال: لا أشك أن النبي ﷺ كان قارنًا، والتمتع أحب إلى؛ لأنه آخر الأمرين من رسول الله ﷺ، فإنه قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة). فكلامه إنما كان في أيهما أفضل: أن يسوق ويقرن، أو يتمتع ولا يسوق؟. لأنه إذا ساق الهدي لم يجز له أن يتحلل. فهذا مما يختلف فيه الاجتهاد؛ لأن قول النبي ﷺ: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة)، هل كان لأن التحلل بعمرة أفضل من القران، أم لا؛ موافقة لأصحابه لما أمرهم بالتحلل فشق ذلك عليهم. فهذا مورد اجتهاد. ولم يختلف كلام أحمد أن من لم يسق الهدي وقدم في أشهر الحج فالتمتع أفضل له.
وأيضًا، فإنه إذا ساق الهدي، وقدم في العشر لم يجز له التحلل عند أحمد، وأبي حنيفة، وغيرهما حتى ينحر الهدي يوم النحر، سواء كان متمتعًا التمتع الخاص، أو قارنًا. وحينئذ فلا فرق بين المتمتع والقارن عند أحمد إلا في شيئين:
أحدهما: أن القارن يكون قد أحرم بالحج قبل الطواف، سواء أحرم بالحج مع العمرة، أو أحرم بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج، بأنه في كلاهما قارن باتفاق الأئمة.
وأما المتمتع التمتع الخاص، فإنه يؤخر إحرامه بالحج إلى ما بعد قضاء العمرة. ومعلوم حينئذ أن تقديم الإحرام بالحج أفضل من تأخيره فيكون القران أفضل لمن ساق الهدي.
الثاني: أن القارن عنده لا يطوف بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة، كالمفرد. وأما المتمتع فقد اختار له أن يسعي سعيين، ونص على أنه يجزيه سعي واحد كالمفرد، والقارن، وحينئذ فيكون قد تميز بسعي زائد مستحب، لكن هو أيضا يستحب للمتمتع أن يطوف أولًا بعد عرفة طواف القدوم، فيكون المتمتع قد طاف بعد عرفة مرتين، وسعي سعيًا ثانيًا.
وأما القارن، فإنه يعمل ما يعمله المفرد، لكن كل هذا فيه نزاع، وفي مذهبه قول آخر: أن السعي الثاني واجب على المتمتع.
وقول: إن القارن يطوف طوافين، ويسعي سعيين، كمذهب أبي حنيفة.
وقول: إن المتمتع لا يستحب له طواف القدوم، وهذا هو الصواب، بل ولا يستحب له سعي ثان. فإن الصحابة الذين حجوا مع النبي ﷺ لم يسعوا إلا مرة واحدة، وبهذا يظهر فضل القارن إذا ساق الهدي، على المتمتع الغير السائق.
وأما إذا حصل في عمل المتمتع زيادة سعي واجب، أو مستحب، أو زيادة طواف مستحب، فقد يقال: إنه أفضل من هذا الوجه، لكن هو خلاف سنة رسول الله ﷺ.
وأيضًا، فلو سلم استحباب ذلك، لم يسلم أن كلما زاد عملا كان أفضل، بل الأفضل قد يكون هو الأيسر، كما أن التمتع أفضل من الإفراد، وهو أيسر، والفطر في السفر أفضل، وهو أيسر، وكذلك القصر أفضل من التربيع، وهو أيسر.
وقد يفضل المتمتع بأن طوافه الأول يكون واجبا؛ لأنه طواف عمرة، والقارن يكون طوافه طواف قدوم، وهو لا يجب. والواجب أفضل وهذا ممنوع. فإن الفضل بحسب كثرة مصلحة الفعل، والوجوب سبب حصول مفسدة في الترك.
ولم يختلف كلام أحمد أن من لم يسق الهدي، وقدم في أشهر الحج، فالتمتع أفضل له؛ لأن النبي ﷺ أمر الذين حجوا معه جميعهم أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي.
ومذهب أحمد أيضًا أنه إذا أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، فهذا الإفراد أفضل له من التمتع. نص على ذلك في غير موضع.
وذكره أصحابه؛ كالقاضي أبي يعلى في تعليقه، وغيره، وكذلك مذهب سائر العلماء حتى أصحاب أبي حنيفة، فإنهم نصوا على أن العمرة الكوفية أفضل من القِران، مع أن القران عندهم أفضل.
لكن القران الذي فعله النبي ﷺ ليس هو القران الذي يقوله أبوحنيفة، فإن النبي ﷺلم يطف إلا طوافا واحدًا، ولم يسع إلا سعيًا واحدًا.
ومذهب أبي حنيفة أن القارن يطوف أولا، ويسعي للعمرة، ثم يطوف ويسعي للحج، وإذا فعل محظورًا كان عليه جزاءان للحج والعمرة، وقد حكي هذا رواية عن أحمد، وأن القارن يلزمه طوافان، وسعيان كمذهب أبي حنيفة، لكن مذهبه المنصوص عنه في غير موضع المعروف كمذهب مالك، والشافعي، وغيرهما، أنه ليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد.
بل أبلغ من ذلك أن المتمتع هل يجزيه السعي الأول الذي مع طواف العمرة، أو يحتاج إلى سعي ثان عقيب طواف الإفاضة، أو غيره، على قولين عن أحمد.
والمشهور عند أصحابه هو الثاني، والأول قد نص عليه أيضًا. قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: المتمتع يسعي بين الصفا والمروة. قال: إن طاف طوافين فهو أجود، وإن طاف طوافًا واحدًا فلا بأس.
قال: وإن طاف طوافين فهو أعجب إلى، واحتج بحديث جابر وكذلك نقل عنه ابن منصور. وإنما اختلف مذهبه في ذلك، لاختلاف الأحاديث في ذلك.
ففي صحيح مسلم عن جابر. قال: لم يطف النبي ﷺ وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدًا، طوافه الأول. وهذا مع أنهم كانوا متمتعين.
وروي أحمد قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقول: القارن والمتمتع والمفرد يجزيه طواف بالبيت، وسعي بين الصفا والمروة.
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله ﷺ: (من كان معه هدي فليهل بالحج، والعمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا). إلى أن قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين كانوا جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدًا بالبيت.
قلت: فقولها: طوافا آخر إنما أرادت به الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة. كذكرها في أول الحديث، ولأن الذين جمعوا بين الحج والعمرة لابد لهم من طواف الإفاضة، فعلم أنها إنما نفت طوافا معه الطواف بين الصفا والمروة، لا الطواف المجرد بالبيت، والذي نفته عن القارن أثبتته للمتمتع الذي أحرم بالعمرة، ولم يدخل عليها الحج.
وأحمد في بعض روايته فهم من هذا أنهم طافوا بالبيت فقط للقدوم، فاستحب للمتمتع أولا إذا رجع من منى أن يطوف أولا للقدوم ثم يطوف طواف الفرض.
ومن رد على أحمد حجته بأن المراد بالطواف طواف الفرض، فقد غلط؛ لأن طواف الفرض مشترك بين المتمتع والمفرد والقارن. وعائشة أثبتت للمتمتع ما نفته عن القارن.
ولكن المراد بهذا الحديث الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، إن لم تكن أرادت الطواف بالبيت؛ لأنها هي لم تطف بالبيت إلا مرة واحدة؛ لأجل حيضها. وهذا قد عارضه حديث جابر الصحيح: أن النبي ﷺوأصحابه الذين أمرهم بأن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا أول مرة. وهذا يناقض ما فهم من حديث عائشة، فإنهم إذا لم يكونوا سعوا بعد طواف الفرض فألا يطوفوا قبله للقدوم أولي وأحري.
وفي ترجيح أحد الحديثين كلام ليس هذا موضع بسطه، فإن المحققين من أهل الحديث يعلمون أن هذه الزيادة في حديث عائشة، هي من كلام الزهري ليست من قول عائشة، فلا تعارض الحديث الصحيح.
وقد روي البخاري تعليقًا عن ابن عباس، مثل حديث عائشة. وفيه أيضًا علة.
والشافعي اختار التمتع تارة، واختار الإفراد تارة. ومن قال: إن النبي ﷺ أحرم إحرامًا مطلقًا فقد غلط، واختلف كلامه في إحرام النبي ﷺ على هذه الأقوال الثلاثة.
ومالك يختار الإفراد، لكن قد قيل: يستحب مع ذلك تأخير العمرة إلى المحرم، فأما العمرة عقيب الحج من مكة كما يفعله كثير من الناس اليوم: فهذا لم يعرف على عهد السلف، ولا نقل أحد عن النبي ﷺ، ولا عن أحد من الذين حجوا معه أنهم فعلوا ذلك، إلا عائشة رضي الله عنها لأنها كانت قدمت متمتعة فحاضت، فأمرها النبي ﷺ أن تحرم بالحج، وتدع العمرة.
فمذهب أحمد ومالك والشافعي أنها صارت قارنة، ولا يجب عليها قضاء تلك العمرة، لكن أحمد في إحدى الروايتين عنه جعل القضاء واجبًا عليها لوجوب العمرة عنده في المشهور عنه، وكون عمرة القارن والعمرة من أدني الحل لا يسقط وجوب العمرة عنده في إحدى الروايتين.
وهكذا يقولون في كل متمتع ضاق عليه الوقت فلم يتمكن من الطواف قبل التعريف، فإنهم يأمرونه بإدخال الحج على العمرة، ويصير قارنا كالمفرد الذي قدم وقد ضاق عليه الوقت، فإنه يقف بعرفة أولا ولا يطوف قبل التعريف.
وهكذا يصنع حاج العراق إذا قدموا متأخرين، فإنهم يوافون عرفة يوم التعريف، فيعرفون ولا يطوفون قبل التعريف. ومذهب أبي حنيفة أن عائشة رفضت العمرة، وأهلت بالحج فصارت مفردة.
وعنده يجب عليها قضاء العمرة التي رفضتها، وبني ذلك على أصله: في أن القارن يطوف طوافين، ويسعي سعيين، فلم يكن في القران لها فائدة.
وأما الجمهور فبنوه على أصولهم: في أن عمل القارن لا يزيد على عمل المفرد، وقالوا: إن النبي ﷺ إنما أعمر عائشة تطييبًا لنفسها؛ لأنها قالت: يذهب أصحابي بحجة وعمرة، أذهب أنا بحجة. فقال لها النبي ﷺ: (يسعك طوافك بحجك وعمرتك). وفي رواية أهل السنن: (طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك).
فلما ألحت أعمرها تطييبًا لنفسها، وأحمد في رواية الأثرم وغيره. قال: إن عمرة القارن، والعمرة المكية لا تجزئ عن عمرة الإسلام، واحتج بحديث عائشة لما أعمرها النبي ﷺ فإنها كانت قارنة، وأعمرها بعد ذلك. فجعل هذه العمرة واجبة في هذه الرواية. كما قال أبو حنيفة. لكن اختلفا في تنقيح المناط، ولم يعتمر من مكة على عهد رسول الله ﷺ إلا عائشة خاصة؛ لأجل هذا العذر.
وأما عُمر النبي ﷺفإنما كانت وهو قاصد إلى مكة، فأحرم بالعمرة عام الحديبية من ذي الحليفة، وحل بالحديبية لما أحصر وصده المشركون عن البيت، والحديبية غربي جبل التنعيم حيث بايع النبي ﷺ أصحابه تحت الشجرة، وصالحه المشركون. وجبل التنعيم هو الجبل الذي عند المساجد، التي تسمي مساجد عائشة عن يمينك، وأنت داخل إلى مكة، وتلك المساجد مبنية في التنعيم، ولم تكن هذه المساجد على عهد النبي ﷺ...
فإن النبي ﷺ أمرها أن تعتمر من التنعيم، والتنعيم أدني الحل إلى مكة، فهو أقرب الحل إلى مكة، والمعتمر من مكة يخرج إلى الحل ليجمع بين الحل والحرم، بخلاف الحاج من مكة فإنه يخرج إلى عرفة، وعرفة من الحل، ثم اعتمر من العام القابل عمرة القضية من ذي الحليفة، ثم لما لقي هوازن بوادي حنين فهزمهم، ثم ذهب إلى الطائف فحاصرهم، ثم رجع إلى الجِعْرَانَة فقسم غنائم حنين بالجعرانة، اعتمر داخلا إلى مكة، وحنين والجعرانة والطائف كل ذلك من جهة الشرق، شرقي عرفات، فأقربها إلى عرفة الجعرانة، ثم وادي حنين، ثم الطائف.
ولم يكن يخرج هو ولا أصحابه من مكة فيعتمرون، إلا ما ذكر من حديث عائشة، فلهذا نص أحمد في غير موضع على أن أهل مكة ليس عليهم عمرة، وروي أحمد عن ابن عباس أنه قال: يا أهل مكة، ليس عليكم عمرة، إنما عمرتكم الطواف بالبيت، فمن أبي إلا أن يعتمر فليجعل بينه وبين مكة بطن واد. وذلك لأن الصحابة المقيمين بمكة على عهد النبي ﷺ لم يكونوا يعتمرون من مكة.
والعمرة واجبة في أشهر الروايتين عن أحمد. فمن أصحابه من جعل هذا رواية ثالثة. فقال: المسألة على ثلاث روايات: رواية تجب، ورواية لا تجب، ورواية يفرق بين المكي وغيره. وهي طريقة جدنا أبي البركات وغيره.
ومنهم من قال: أهل مكة يستثنون، فلا تجب عليهم عمرة، رواية واحدة. وهي طريقة الشيخ أبي محمد. وهي أصح.
ومن الفقهاء: من استحب لمن اعتمر من مكة أن يحرم من الحديبية، أو الجِعْرَانة، محتجًا بعمرة النبي ﷺ. وهو غلط، فإن الحديبية كانت موضع حله لما أحصر، لم تكن موضع إحرامه. وأما الجعرانة فإنه أحرم منها داخلا إلى مكة؛ لأنه أنشأ العمرة من هناك؛ ولهذا كان أصح الوجهين لأصحابنا، وهو المنصوص عن أحمد أنه لا يستحب الإكثار من العمرة لا من مكة ولا غيرها، بل يجعل بين العمرتين مدة ولو أنه مقدار ما ينبت فيه شعره. ويمكنه الحلاق، وهذا لمن يخرج إلى ميقات بلده ويعتمر.
وأما المقيم بمكة فكثرة الطواف بالبيت أفضل له من العمرة المكية، كما كان الصحابة يفعلون، إذا كانوا مقيمين بمكة، كانوا يستكثرون من الطواف، ولا يعتمرون عمرة مكية، فالصحابة الذين استحبوا الإفراد كعمر بن الخطاب، وغيره إنما استحبوا أن يسافر سفرًا آخر للعمرة؛ ليكون للحج سفر على حدة، وللعمرة سفر على حدة.
وأحمد وأبو حنيفة وغيرهما اتبعوا الصحابة في ذلك، واستحبوا هذا الإفراد على التمتع والقران.
قال أبو بكر الأثرم: قيل لأبي عبد الله: فأي العمرة عندك أفضل؟ قال: أفضل العمرة عندي أن تكون في غير أشهر الحج، كما قال عمر، فإن ذلك أتم لحجكم، وأتم لعمرتكم، أن تجعلوها في غير أشهر الحج. قيل لأبي عبد الله: فأنت تأمر بالمتعة، وتقول: العمرة في غير أشهر الحج أفضل؟ فقال: إنما سئلت عن أتم العمرة، فقلت: في غير أشهر الحج، وقلت: المتعة تجزيه من عمرته، فأتم العمرة أن تكون في غير أشهر الحج.
وقال: على بن تمام: العمرة أن تقدم من دويرة أهلك، وكان سفيان بن عيينة يفسره أن ينشئ لها سفرًا يقصد له، ليس أن تحرم من أهلك، حتى تقدم الميقات.
وقال عمر في العمرة: من دويرة أهلك. قيل لأبي عبد الله: فيجعل للحج سفرًا على حدة، وللعمرة سفرًا على حدة، قال: نعم. قلت له: فإن اعتمر في غير أشهر الحج، ثم أقام بمكة حتى يحج، أيكون هذا قد جعل له سفرًا على حدة، وللحج سفرًا على حدة؟ فقال: لا، حتى يرجع ثم يحج. فهذا مد للعمرة من أهله، وقصد للحج من أهله، هذا معناه.
قيل لأبي عبد الله: فإنهم يحكون عنك أنك تقول: المتعة أفضل من غيرها، فقال: أما أفضل من الحج وحده، فليس فيه شك، ثم قال: أيما أفضل أن يجيء بعمرة وحج أو أن يجيء بحج وحده؟ هي أفضل من إفراد الحج.
قلت له: وأفضل من القران؛ لأنه جاء بكل واحد على حدة، فهو أفضل من أن يجمع بينهما، فقال نعم، وأفضل من القران، ثم قال نحو ما قلت.
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: التمتع أحب إلى، هو آخر الأمرين من رسول الله ﷺ، أنه قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت كما صنعتم)، وقوله لأصحابه: (حلوا) وما جاء فيها من الحديث.
وقال أيضًا: قيل لأبي عبد الله: أنت تذهب إلى المتعة. فقال: هي أحب إلى، وأفضل. وذاك أنَّا نذهب إلى أن العمرة واجبة، قال تعالى: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } [18]، ثم قال: هذا بين.
وكان ابن عباس وابن عمر يريانها واجبة، وقال ابن عباس: والله إنها لقرينتها في كتاب الله، وقال جماعة: الحج الأصغر العمرة، فإذا وقع عليها اسم الحج، فهذا يدل على أنها فريضة، فإذا خرج متمتعًا فقد أجزأه من حجه وعمرته، جاء بعمرة مفردة، وحجة مفردة.
فأما عمرة المحرم فليس بمجزي عنه عندي، وليست بعمرة تامة، إنما هي من أربعة أميال.
وقال رسول الله ﷺ لعائشة: (إنما هي على قدر نصبك ونفقتك)، ومعني عمرة المحرم: أنهم كانوا يخرجون في المحرم من مكة ليعتمرون من أدني الحل إلى أن يعتمر، فكيف من اعتمر في ذي الحجة من مكة عقيب الحج، وهذا لم يكن السلف يفعلونه.
فإذا تبين أن العمرة المكية عقب الحج مع الحج، لم يفعلها النبي ﷺ باتفاق العلماء، ولا أحد من الصحابة إلا عائشة، ولا كان خلفاؤه الراشدون يفعلونها امتنع أن يكون ذلك أفضل.
وأما من قال من الفقهاء: الإفراد أن يحج، ويعتمر عقب ذلك من مكة، فهذا غالط، بإجماع العلماء، فإنه لا نزاع بينهم أن من اعتمر قبل أشهر الحج، ورجع إلى بلده ثم حج، أو قام بمكة حتى يحج من عامه، أنه مفرد للحج، وكذلك لو اعتمر بعد الحج في سفرة أخري، فإنه مفرد بالاتفاق، وهذا الإفراد هو الذي استحبه الصحابة، وهو مستحب أيضا عند أحمد وغيره، فإن الاعتمار في رمضان، والإقامة إلى أن يحج أفضل من التمتع، وإن كان الرجوع إلى بلده ثم السفر للحج أفضل منها.
والتمتع جائز باتفاق أهل العلم، وإنما كان طائفة من بني أمية وغيرهم يكرهونه.
وقد قيل: إن الذين كرهوا ذلك إنما كرهوا فسخ الحج إلى التمتع، فإن الناس يقدمون من الآفاق فيحرمون بالحج، فمن جوز الفسخ جوز لهم المتعة ومن منع من ذلك منعهم منه.
والفسخ فيه ثلاثة أقوال معروفة؛ قيل: هو واجب، كقول ابن عباس وأتباعه، وأهل الظاهر والشيعة.
وقيل: هو محرم، كقول معاوية، وابن الزبير، ومن اتبعهما كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي.
وقيل: هو جائز مستحب، وهو مذهب فقهاء الحديث، أحمد وغيره، والأمر به معروف عن غير واحد من الصحابة، والتابعين؛ ولهذا كان ابن عمر وابن عباس يأمران بالمتعة.
قال أحمد: أخبرنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر عن الزهري عن سالم قال: سئل ابن عمر عن متعة الحج، فأمر بها، فقيل له: إنك تخالف أباك، فقال: عمر لم يقل الذي تقولون، إنما قال عمر: إفراد الحج من العمرة، فإنها أتم للعمرة، أو أن العمرة لا تتم في أشهر الحج إلا أن يهدي، وأراد أن يزار البيت في غير أشهر الحج، فجعلتموها أنتم حراما، وعاقبتهم الناس عليها، وقد أحلها الله، وعمل بها رسول الله ﷺ. فإذا أكثروا عليه قال: أفكتاب الله أحق أن تتبعوا، أم عمر ؟! وكان ابن عباس يأمر بها، فيقولون: إن أبا بكر وعمر لم يفعلاها، فيقول: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال النبي ﷺ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!
وكان عروة بن الزبير يناظر ابن عباس فيها، فقال: إن أبا بكر وعمر أعلم برسول الله ﷺ منك، فقال له ابن عباس: ياعرية، سل أمك، يعني: أنها تخبره، أن النبي ﷺ أمر أصحابه بالإحلال، وكانت أسماء ممن أحلت.
وهذه المشاجرة إنما وقعت؛ لأن ابن عباس كان يوجب المتعة، بل كان يوجب الفسح، وكان يقول: كل من طاف بالبيت وبين الصفا والمروة ولم يسق الهدي، فقد حل من إحرامه. ويحتج بأمر النبي ﷺلأصحابه بالتحلل في حجة الوداع، وبقوله تعالى: { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [19].
وإيجاب المتعة هو قول طائفة من أهل الحديث، والظاهرية؛ كابن حزم وغيره، وهو مذهب الشيعة أيضا، لكن الجماهير من الصحابة، والأئمة الأربعة، وغيرهم، على أنه يجوز التمتع، والإفراد، والقران، لكن أهل مكة وبنو هاشم وعلماء أهل الحديث يستحبونها، فاستحبها علماء سنته، وأهل سنته، وأهل بلدته التي بقربها المناسك، وهؤلاء الثلاثة أخص الناس به، وهو أحد قولي الشافعي.
وأبو يوسف يجعل التمتع والقران سواء. وإنما جوز الجمهور الثلاثة؛ لأنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺأنه قال لأصحابه: (من شاء منكم أن يهل بعمرة فليفعل، ومن شاء منكم أن يهل بحجة فليفعل، ومن شاء منكم أن يهل بحجة وعمرة فليفعل).
وأما أمره لأصحابه ﷺ بعد ذلك أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي، فلأنه أراد أن يجمعوا بين الحج والعمرة، وألا يعتمروا عمرة مكية، وإن سافروا سفرًا آخر للعمرة. ومن كان هذه حاله فينبغي له أن يتمتع، فالتمتع كان متعينًا في حق الصحابة.
إذا أرادوا أن يفعلوا الأفضل لهم، وكان أولا قد أذن لهم في الفسخ، ولم يأمرهم به، لاسيما إذا قيل بوجوب العمرة، فإنه يجب التمتع على من لم يسافر سفرة أخرى ولم يعتمر عقب الحج من مكة، وعمرة المتمتع بمنزلة التوضؤ للمغتسل، فالمغتسل للجنابة إذا توضأ كان وضوؤه بعض اغتساله الكامل، كذلك عمرة المتمتع عند أحمد بعض حجه الكامل؛ ولهذا يجوز عنده للمتمتع أن يصوم الأيام الثلاثة من حين يحرم بالعمرة، وقد قال الله تعالى: { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } [20] فهو من حين أحرم بالعمرة دخل في الحج، كما أن المغتسل من حين توضأ دخل في الغسل.
وقوله ﷺ: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) أخرجاه في الصحيحين. يدخل فيه المتمتع من حين يحرم بالعمرة.
ولهذا كان أحمد ينكر على من يقول: إن حجة المتمتع حجة مكية. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: كان ابن المبارك زعموا يقول بالمتعة، فقيل له: يكون مجيؤه حينئذ للعمرة. فقال: أرأيتم لو أن رجلا خرج يريد صلاة الظهر في جماعة، فتطوع قبلها بأربع ركعات، ثم صلى الظهر، أزاده ذلك خيرًا، أم نقصه ؟
ثم قال أحمد: ما أحسن ما قال ! ثم قال أبو عبد الله: يقول مجيؤه حينئذ للظهر، أو للتطوع، أي إنما مجيؤه للظهر، قال أبو عبد الله: هذا قول محدث، يعني: قولهم: حجة مكية.
قال: وسمعت أبا عبد الله مرة أخرى وذكر قول ابن المبارك: إنه قول محدث، يعني: قولهم: حجة مكية.
قيل لأبي عبد الله: قول عبد الله قول محدث؟ ! قال: إي والله قول محدث، كلام بغيض، ما أدري ما هو، وكيف لا يكون محدثا ورسول الله ﷺ يعلم به، ويأمر به أصحابه ؟! وغلظ القول فيه.
قال: وسمعت أبا عبد الله مرة أخري. قيل له: من قال: حجة مكية؟ قال: هذا قول محدث، قيل له: عمن يروي؟ فقال: عن الشعبي، وسعيد بن جبير.
فصل الدليل أن النبي أمر أصحابه بالمتعة
والدليل على أنه قد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ: أنه أمر أصحابه في حجة الوداع لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقي على إحرامه، حتى يبلغ الهدي محله.
ولهذا لما قال سلمة بن شَبِيب لأحمد: يا أبا عبد الله، قويت قلوب الرافضة، لما أفتيت أهل خراسان بالمتعة. فقال: ياسلمة، كان يبلغني عنك أنك أحمق، وكنت أدافع عنك، والآن فقد تبين لي أنك أحمق، عندي أحد عشر حديثا صحيحًا عن رسول الله ﷺ أدعها لقولك؟! فبين أحمد أن الأحاديث متواترة بأمر النبي ﷺ بالتمتع لجميع أصحابه، الذين لم يسوقوا الهدي، حتى من كان منهم مفردًا، أو قارنًا، والنبي ﷺ لا ينقلهم من الفاضل إلى المفضول، بل إنما يأمرهم بما هو أفضل لهم.
ولهذا كان فسخ الحج إلى التمتع مستحبًا عند أحمد، ولم يجعل اختلاف العلماء في جواز الفسخ موجبًا للاحتياط بترك الفسخ، فإن الاحتياط إنما يشرع إذا لم تتبين سنة رسول الله ﷺ، فإذا تبينت السنة فاتباعها أولي.وإن كان بعض العلماء قد قال: إنه لا يجوز ذلك، لا سيما وآخرون من السلف والخلف قد أوجبوا الفسخ فليس الاحتياط بالخروج من خلاف أولئك بأولي من الخروج من خلاف هؤلاء.
والذين منعوا الفسخ، أو المتعة مطلقًا، قالوا: كان لأصحاب النبي ﷺخاصة. قالوا: لأن أهل الجاهلية كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج. ويقولون: إذ بَرَأ الدَّبَر، وعَفَا الأثَر، وانسلخ صَفَر، فقد حَلَّت العمرة لمن اعتمر. قالوا: فأمر النبي ﷺ أصحابه بالعمرة؛ ليبين جواز العمرة في أشهر الحج. وهذا القول خطأ عند أحمد وغيره لوجوه:
أحدها: لأن النبي ﷺ كان قد اعتمر قبل ذلك عمره الثلاثة في أشهر الحج، فاعتمر عمرته الأولي عمرة الحديبية في ذي القعدة، واعتمر عمرة القضية في ذي القعدة، واعتمر من الجِعْرَانة في ذي القعدة. وقد ثبت في الصحيح أن عائشة قيل لها: إن ابن عمر يقول: إن النبي ﷺ اعتمر في رجب، فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن ! ما اعتمر رسول الله ﷺ في رجب قط، وما اعتمر إلا وابن عمر معه. وقد اتفق أهل العلم على ما قالت عائشة: بأن عمره كلها كانت في ذي القعدة، وهو أوسط أشهر الحج. فكيف يقال: إن الصحابة لم يعلموا جواز العمرة في أشهر الحج حتى أمرهم بالفسخ، وقد فعلها قبل ذلك ثلاث مرات ؟!
الوجه الثاني: أنه قد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنه قال لهم عند الميقات: (من شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل). فبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج عند الميقات، وعامة المسلمين معه، فكيف لم يعلموا ذلك.
الوجه الثالث: أنه أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وأمر من ساق الهدي أن يتم على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله، ففرق بين محرم ومحرم، فهذا يدل على أن سوق الهدي هو المانع من التحل لإحرامه الأول. وما ذكره يشترك فيه السائق.. أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني، قال: فقام النبي ﷺ فينا فقال: (قد علمتم أني أتقاكم للّه، وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلوا). فحللنا، وسمعنا، وأطعنا. فقدم على من سعايته، فقال: (بما أهللت؟) قال: بما أهل به رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: (فاهد وامكث حرامًا). قال: وأهدي على له هديا، فقال سراقة بن مالك بن جُعْشُم: لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: (بل للأبد). وفي رواية البخاري: وأن سراقة بن مالك بن جُعْشُم لقي رسول الله ﷺ بالعقبة، وهويرميها، فقال جعشم: ألكم هذه خاصة يارسول الله؟ قال: (لا بل للأبد).
فبين أن تلك العمرة التي فَسَخ من فَسَخ منها حجه إليها للأبد، وأن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة، وهذا يبين أن عمرة التمتع بعض الحج، ولم يرد السائل بقوله: عمرتنا هذه لعامنا هذا، أم للأبد؟ أنه يسقط الفرض بها في عامنا هذا؛ لأن العمرة إن كانت واجبة فلا تجب إلا مرة واحدة، ولأنه لو أراد ذلك لم يقل بل للأبد، فإن الأبد لا يكون في حق طائفة معينة، بل إنما يكون لجميع المسلمين، ولا قال: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة).
فإن قيل: قوله: (دخلت العمرة في الحج) أراد به جواز العمرة في أشهر الحج؟
قيل: نعم. ومن ذلك عمرة الفاسخ، فإنها سبب هذا اللفظ، وسبب اللفظ العام لا يجوز إخراجه منه، فعلم أن قوله: (دخلت العمرة في الحج) يتناول عمرة الفاسخ، وأنها دخلت في الحج إلى يوم القيامة.
الوجه السادس: أن يقال: فسخ الحج إلى التمتع موافق لقياس الأصول لا مخالف له، فإن المحرم إذا التزم أكبر ما لزمه جاز باتفاق الأئمة فلو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج جاز بلا نزاع، وأما إذا أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، لم يجز عند الجمهور وهو مذهب أحمد ومالك، وظاهر مذهب الشافعي. وأما أبو حنيفة فيجوزه؛ لأنه يصير قارنًا، والقارن عنده يلزمه طوافان، وسعيان، وهذا قياس الرواية المحكية عن أحمد في القارن.
وإذا كان كذلك فالمحرم بالحج لم يلزمه إلا الحج، فإذا صار متمتعًا صار ملتزمًا لعمرة وحج، فكان ما التزمه بالفسخ أكبر مما كان عليه، فجاز ذلك، وهو أفضل، فاستحب ذلك، وإنما يشكل هذا على من يظن أنه فسخ حجًا إلى عمرة مجردة، وليس كذلك، فإنه لو أراد أن يفسخ الحج إلى العمرة مفردة، لم يجز بلا نزاع، وإنما الفسخ جائز لمن كان نيته أن يحج بعد العمرة.
وقد قدمنا أن المتمتع من حين يحرم بالعمرة دخل في الحج، كما قال النبي ﷺ: (دخلت العمرة في الحج)؛ ولهذا يجوز أن يصوم الأيام الثلاثة من حينئذ، وإنما إحرامه بالحج بعد ذلك، كما كان النبي ﷺإذا اغتسل للجنابة بدأ بالوضوء، وكما قال للنسوة في غسل ابنته: (ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها). فكان غسل مواضع الوضوء توضية، وهو بعض الغسل.
فإن قيل: دم المتمتع دم جُبْران، ونُسُك لا جبران فيه أفضل من نسك مجبور. قيل: هذا لا يصح لوجهين:
أحدهما: أنه ثبت عن النبي ﷺ أنه أكل من هديه فإنه أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فأكل من لحمها، وشرب من مرقها. وثبت أنه كان متمتعًا التمتع العام، فإن القارن يدخل في مسمي المتمتع، كما سنذكره. فدل على استحباب الأكل من هدي المتمتع، ودم الجبران ليس كذلك. وثبت أيضًا في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ أطعم نساءه من الهدي الذي ذبحه عنهن، وكن متمتعات. وهذا مما احتج به الإمام أحمد.
الثاني: أن سبب الجبران محظور في الأصل، كالإفساد بالوطء، وكفعل المحظورات، أو بترك الواجبات، فإنه لا يجوز له أن يفسد حجه، ولا أن يفعل المحظور إلا لعذر، ولا يترك الواجب إلا لعذر، والتمتع جائز مطلقًا، فلو كان دمه دم جبران لم يجز مطلقًا، فعلم أنه دم نسك وهدي، وأنه مما وسع الله به على المسلمين، فأباح لهم التحلل في أثناء الإحرام، والهدي مكانه، لما في استمرار الإحرام من المشقة، فيكون بمنزلة قصر الصلاة في السفر، وبمنزلة الفطر للمسافر، والمسح على الخفين للابس الخف.
فإن ذلك أفضل له من أن يخلع ويغسل في ظاهر مذهب أحمد؛ لأن النبي ﷺإذا كان لابس الخف على طهارة مسح عليه، ولم يكن يخلع ويغسل، بخلاف ما إذا لم تكن رجلاه في الخفين، فإنه كان يغسل. وقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول في خطبته: (خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد). وهدي محمد لمن كان مكشوف الرجلين أن يغسلهما. لا يقصد أن يلبس ليمسح عليهما، ولمن كان لابس الخفين أن يمسح عليهما، لا أن يخلعهما ويغسل، مع أن مسح الخفين بدل، فكذلك الهدي.
وإن كان بدلًا عن ترفهه بسقوط أحد السفرين، فهو أفضل لمن جمع بينهما، وقد قدم في أشهر الحج من أن يأتي بحج مفرد يعتمر عقبه والبدل قد يكون واجبًا كالجمعة، فإنها وإن كانت بدلًا عن الظهر فهي واجبة، وكالمتيمم العاجز عن استعمال الماء؛ فإن التيمم واجب عليه، وهو بدل. فإذا جاز أن يكون البدل واجبًا، فكونه مستحبًا أولي بالجواز.
ولهذا يستحب للمسافر أن يفطر ويقضي، والقضاء بدل عن الأداء وكذلك المريض الذي يشق عليه الصوم يفطر ويقضي، والقضاء بدل.
وتخلل الإحلال لا يمنع أن يكون الجميع بمنزلة العبادة الواحدة، كطواف الفرض؛ فإنه من تمام الحج باتفاق المسلمين، ولا يفعل إلا بعد التحلل الأول، ورمي الجمار أيام منى من تمام الحج. وإذا طاف قبل ذلك فقد رمي الجمار أيام منى، بعد الحل التام، وهو السنة، كما فعل النبي ﷺ، وشهر رمضان يتخلل صيام أيامه الفطر بالليل، وهو الصوم المفروض المذكور في قوله: { كُتِبَ عليكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } إلى قوله: { شَهْرُ رَمَضَانَ } [21]، وقال النبي ﷺ: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه). وهذا الصوم يتخلله الفطر كل ليلة، فكذلك قوله: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
والآية تتناول لمن حج حجة تمتع فيها بالعمرة، وإن كان قد يتخلل هذا الإحرام إحلال، وهو من حين إحرامه بالحج قد دخل في الحج، كما أنه بصيام أول يوم دخل في صيام شهر رمضان، وكذلك قال النبي ﷺ: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)، والقيام يتخلله السلام من كل ركعتين، وكذلك الوتر بثلاث مفصولة.
فصل في صفة حجة الوداع
لم يختلف أحد من أهل العلم أن النبي ﷺ أمر أصحابه إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة، وهذا مما تواترت به الأحاديث، ولم يختلفوا أنه لم يعتمر بعد الحج، لا النبي ﷺ، ولا أحد من الصحابة إلا عائشة، فهذا كله متفق عليه لم يختلف فيه النقل، ولا خالف فيه أحد من أهل العلم.
ولكن تنازعوا: هل حج متمتعًا، أو مفردًا، أو قارنًا؟ أو أحرم مطلقًا؟ واضطربت عليهم فيه الأحاديث، وهي بحمد الله غير مختلفة عند من فهم مراد الصحابة بها.
والمنصوص عن الإمام أحمد أن النبي ﷺ كان قارنًا بين العمرة والحج، حتى قال: لا أشك أن النبي ﷺ كان قارنًا، وهذا قول أئمة الحديث: كإسحاق بن راهويه، وغيره. وهو الصواب الذي لا ريب فيه وقد صنف أبو محمد بن حزم في حجة الوداع مصنفًا جمع فيه الآثار وقرر ذلك.
وأحمد إنما اختار التمتع؛ لأمر النبي ﷺ لأصحابه به، لا لكونه كان متمتعًا التمتع الخاص عنده؛ ولهذا قال في رواية المروزي: إنه إذا ساق الهدي فالقِران أفضل؟ ولولا أن النبي ﷺ قرن عنده، وساق الهدي لم يكن لهذا القول وجه، فإنه لو كان متمتعًا عنده لكان قد فعلها وأمر بها، فلا وجه حينئذ لاختيار القران لمن ساق الهدي.
ولم يقل أحد من قدماء أصحاب أحمد أنه كان متمتعا التمتع الخاص، وأول من ادعى من أصحاب أحمد أن النبي ﷺ كان متمتعًا التمتع الخاص فيما علمناه القاضي أبويعلى، وذكر في تعليقه الاحتجاج بهذه الطريقة على فضيلة التمتع، وذكر أن الأولي وهي أن الاحتجاج بأمره لا بفعله، وبقوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت) هي طريقة الأصحاب، كما كان يحتج بها إمامهم أحمد.
ثم إن الذين نصروا أن النبي ﷺ كان متمتعًا، من الأصحاب، على قولين:
الأول: أنه حل من إحرامه مع سوقه الهدي، وحمل هؤلاء رواية من روي أن المتعة كانت لهم خاصة، على أنهم خصوا بالتحلل من الإحرام مع سوق الهدي، دون من ساق الهدي من الصحابة، وهذه طريقة القاضي ومن اتبعه. وهذا الذي قاله هؤلاء منكر عند جماهير أهل العلم، وممن أنكر ذلك على القاضي الشيخ أبوالبركات، وغيره. وقالوا: من تأمل الأحاديث المستفيضة تبين له أن النبي ﷺ لم يحل هو، ولا أحد ممن ساق الهدي.

 

 
والقول الثاني: أن النبي ﷺ تمتع، بمعني أنه أحرم بالعمرة ولم يحل من إحرامه؛ لكونه ساق الهدي، وأحرم بالحج بعد أن طاف وسعي للعمرة وهذه طريقة الشيخ أبي محمد، وغيره. وهؤلاء يسمون هذا متمتعا، وقد يسمونه قارنا، لكونه أحرم قبل التحلل من العمرة، لكن القران المعروف أن يحرم بالعمرة قبل أن يطوف بالبيت ليقع الطواف عن العمرة والحج.

 

 
والفرق بين القارن والمتمتع الذي ساق الهدي يظهرمن وجهين:
أحدهما: من الإحرام بالحج قبل الطواف.
والثاني: من السعي عقب طواف الإفاضة، فإن القارن ليس عليه سعي ثان، كما ليس ذلك على المفرد. وأما المتمتع فهذا السعي واجب في حقه عند أكثر العلماء وفيه عند أحمد روايتان.

 

 
وأما الشافعي، فاختلف كلامه في حج النبي ﷺ. فقال تارة: إنه أفرد. وقال تارة: إنه تمتع. وقال تارة: إنه أحرم مطلقا. فقال في مختصر الحج: وأحب إلى أن يفرد؛ لأن الثابت عندنا أن النبي ﷺ أفرد. وقال في اختلاف الأحاديث: إن النبي ﷺ قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة). قال: ومن قال: إنه أفرد الحج، يشبه أن يكون قاله على ما يعرف من أهل العلم الذين أدرك، دون رسول الله ﷺ أن أحدًا لا يكون مقيما على حج إلا وقد ابتدأ إحرامه بحج، قال: وأحسب عروة حين حَدَّث أن النبي ﷺ أحرم بحج ذهب إلى أنه سمع عائشة تقول: يفعل في حجه على هذا المعني.
فقد بين الشافعي هنا أن النبي ﷺ كان متمتعًا، وأن من قال: أفرد الحج، فلأنه لما رأي أن من استمر على إحرامه لا يكون إلا حاجا، والنبي ﷺ لما استمر على إحرامه ظن أنه كان حاجًا.
وقال أيضا فيما اختلف فيه من الأحاديث عن رسول الله ﷺ في مخرجه: ليس شيء من الاختلاف أبين من هذا، وإن كان الغلط فيه قبيحا من جهة أنه مباح؛ لأن الكتاب، ثم السنة ثم ما أعلم فيه خلافا يدل على أن التمتع بالعمرة إلى الحج، وإفراد الحج والقران واسع كله. قال: وثبت أنه خرج ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء، وهو فيما بين الصفا والمروة، وأمر أصحابه أن من كان منهم أهَلَّ، ولم يكن معه هدي، أن يجعلها عمرة، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة).
قال: فإن قال قائل: فمن أين أثبت حديث عائشة، وجابر، وابن عمر، وطاوس، دون حديث من قال: قَرَن.
قيل: لتقدم صحبة جابر للنبي ﷺ، وحسن سياقه لابتداء الحديث، وآخره، ولرواية عائشة عن النبي ﷺ وفضل حفظها عنه، وقرب ابن عمر منه.
قال: ولأن من وصف انتظار النبي ﷺ القضاء، إذ لم يحج من المدينة بعد نزول فرض الحج طلب الاختيار فيما وسع الله من الحج والعمرة، يشبه أن يكون أحفظ؛ لأنه قد أتي في المتلاعنين فانتظر القضاء، فكذلك حفظ في الحج ينتظر القضاء.
قال المزني: إن ثبت حديث أنس عن النبي ﷺ، أنه قرن حتى يكون معارضًا للأحاديث سواه، فأصل قول الشافعي أن العمرة فرض، وأداء الفرض في وقت الحج أفضل من أداء فرض واحد؛ لأن من أكثر عمله لله كان أكثر في ثواب الله.
قلت: والصواب في هذا الباب أن الأحاديث متفقة ليست مختلفة إلا اختلافا يسيرًا، يقع مثله في غير ذلك، فإن الصحابة ثبت عنهم أنه تمتع، والتمتع عندهم يتناول القران، والذين رَوَي عنهم أنه أفرد رَوَي عنهم أنه تمتع.
أما الأول: ففي الصحيحين عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع على وعثمان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال علي: ما يريد إلا أمرًا فعله رسول الله ﷺ ينهى عنه، فقال عثمان: دعنا منك. فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما أن رأي على ذلك أهل بهما جميعا. هذا لفظ مسلم. ولم يذكر البخاري دعنا، إلى أن أدعك. وخرجه البخاري وحده من حديث مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان ينهى عن المتعة، وأن يجمع بين الحج والعمرة، فلما رأي على ذلك أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة. قال: ما كنت لأدع سنة النبي ﷺ لقول أحد من الناس.
فهذا يبين أنه إذا جمع بينهما كان متمتعًا عندهم، وأن هذا هو الذي فعله النبي ﷺ، وهو سنة النبي ﷺ التي فعلها على بن أبي طالب، ووافقه عثمان على أن النبي ﷺ فعل ذلك، لكن كان النزاع: هل ذلك أفضل في حقنا، أم لا؟ وهل يشرع فسخ الحج إلى المتعة في حقنا؟ كما تنازع فيه الققهاء.
وفي الصحيح عن عبد الله بن شَقيق، قال: كان عثمان ينهى عن المتعة وكان على يأمر بها، فقال عثمان لعلي: كلمة، فقال: لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله ﷺ، فقال: أجل، ولكنا كنا خائفين، فقد اتفق عثمان وعلي على أنهم تمتعوا مع النبي ﷺ. وأما قول عثمان "كنا خائفين" فإنهم كانوا خائفين في عمرة القَضِية، وكانوا قد اعتمروا في أشهر الحج، وكان كل من اعتمر في أشهر الحج يسمي أيضا متمتعا؛ لأن الناهين عن المتعة كانوا ينهون عن العمرة في أشهر الحج مطلقا.
وشاهده ما في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص لما بلغه أن معاوية نهى عن المتعة، قال: فعلناها مع رسول الله ﷺ، وهذا كافر بالعرش. يعني معاوية. ومعلوم أن معاوية كان مسلمًا في حجة الوداع، بل وفي عمرة الجِعْرَانة عام الفتح، أو قبل ذلك، ولكن في عمرة القضية كافر بعرش مكة. وقد سمي سعد عمرة القضية متعة. فلعل عثمان أراد الخوف عام القضية، وكانوا أيضا خائفين عام الفتح. وأما عام حجة الوداع فكانوا آمنين، لم يكن قد بقي مشرك، بل نفي الله الشرك وأهله؛ ولهذا قالوا: صلينا مع رسول الله ﷺ في آمن ما كان الناس ركعتين، فلعله قد اشتبه حالهم هذا العام بحالهم هذا العام. كما اشتبه على من روي أنه نهى عن متعة النساء في حجة الوداع. وإنما كان النهي في غزاة الفتح.
وكما يظن بعض الناس أن النبي ﷺ دخل الكعبة في حجة أو عمرة، وإنما كان دخوله الكعبة عام الفتح لما فتح مكة، ولم يقل أحد: إنه دخلها في حجة، ولا عمرة. بل في الصحيحين عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفي من صحابة النبي ﷺ: أدخل النبي ﷺ البيت في عمرته؟ قال: لا.
وفي الصحيحين عن مطرف بن الشِّخِير، قال: قال لي عمران بن حصين: أحدثك حديثا، لعل الله أن ينفعك به: إن رسول الله ﷺ جمع بين حجته وعمرته، ثم إنه لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه. وفي رواية قال: تمتع رسول الله ﷺ، وتمتعنا معه فهذا عمران وهو من أجل السابقين الأولين، أخبر أنه تمتع وأنه جمع بين الحج والعمرة.
وفي صحيح مسلم عن غنيم بن قيس قال: سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة في الحج، فقال: فعلناها، وهذا يومئذ كافر بالعرش. يعني بيوت مكة يعني معاوية. وهذا إنما أراد به سعد عمرة القضية، فإن معاوية لم يكن أسلم إذ ذاك. وأما في حجة الوداع فكان قد أسلم، فكذلك في عمرة الجعرانة، فسمي سعد الاعتمار في أشهر الحج متعة؛ لأن بعض الشاميين كانوا ينهون عن الاعتمار في أشهر الحج، فصار الصحابة يروون السنة في ذلك ردًا على من نهى عن ذلك، فالقارن عندهم متمتع، ولهذا وجب عليه الهدي ودخل في قوله تعالى: { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [22].
وفي صحيح البخاري وغيره عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله ﷺ وهو بواد العَقِيق: يقول: (أتاني الليلة آت من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة).فهؤلاء الخلفاء الراشدون: عمر، وعثمان، وعلي، وغير الخلفاء كعمران ابن حصين يروي عنهم بأصح الأسانيد، أن النبي ﷺ قرن بين العمرة والحج، وكانوا يسمونه تمتعًا.
وفي الصحيحين عن بكر بن عبد الله المزني، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله ﷺ يلبي بالحج والعمرة، فحدثت بذلك ابن عمر، فقال: لبي بالحج وحده، فلقيت أنسًا فحدثته، فقال: ما يعدونا إلا صبيانًا، سمعت رسول الله ﷺ يقول: (لبيك عمرة وحجًا). فهذا أنس يخبر أنه سمع النبي ﷺ يلبي بالحج والعمرة جميعًا، وما ذكره بكر عن ابن عمر عنه، فجوابه أن الثقاة الذين هم أثبت في ابن عمر من بكر، مثل ابنه سالم، رووا عنه أنه قال: تمتع رسول الله ﷺ بالعمرة إلى الحج، وهؤلاء أثبت عن ابن عمر من بكر. وغلط بكر على ابن عمر، أولي من تغليط سالم ابنه عنه، وتغليطه هو على النبي ﷺ.
ويشبه هذا أن ابن عمر قال له: أفرد الحج فظن أنه قال: لبي بالحج، فإن إفراد الحج كانوا يطلقونه ويريدون به إفراد أعمال الحج، وذلك يرد قول من يقول: إنه قرن فطاف طوافين، وسعي سعيين، ومن يقول: إنه أحل من إحرامه. فرواية من روي من الصحابة أنه أفرد الحج ترد على هؤلاء. يبين هذا: ما رواه مسلم في صحيحه عن نافع عن ابن عمر قال: أهللنا مع رسول الله ﷺ بالحج مفردا، وفي رواية أهل بالحج مفردا. فلم يذكروا عن ابن عمر إلا أنه قال: أفرد الحج، لا أنه قال: لبي بالحج.
وفي السنن من حديث البراء بن عازب أن النبي ﷺ قال لعلي: (قد سقت الهدي، وقرنت). وفي الصحيحين من حديث الزهري عن سالم عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، قال: تمتع رسول الله ﷺ في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدي فساق معه الهدي، من ذي الحليفة، وقد اعتمر رسول الله ﷺ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله ﷺ بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدي فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله ﷺ مكة قال للناس: (من كان منكم أهدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه، حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدي فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة، وليقصر، وليتحلل، ثم ليهل بالحج، وليهدي، فمن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله). وطاف رسول الله ﷺ حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء، ثم خَبَّ ثلاثة أشواط، من السبع، ومشي أربعة أطواف، ثم رجع حين قضي طوافه بالبيت، فصلي عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف، فأتي الصفا فطاف بالصفا والمروة، سبعة أطواف ثم لم يتحلل من كل شيء حرم منه، حتى قضي حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسول الله ﷺ من أهدي فساق الهدي من الناس. قال الزهري: وحدثني عروة عن عائشة مثل حديث سالم عن أبيه.
فهذا أصح حديث على وجه الأرض. وهو من حديث الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة عن سالم، عن ابن عمر، وهو أصح من حدث ابن عمر، ومن حديث عروة عن عائشة وهو أصح من حديث عائشة، وقد ثبت عنها في الصحيحين أن النبي ﷺ اعتمر أربع عمر: الرابعة مع حجته. ولم يعتمر بعدها باتفاق المسلمين، فتعين أن يكون قرن بين العمرة والحج، وقال: هكذا فعل رسول الله ﷺ. وكذلك أخبرت أن الذين جمعوا الحج والعمرة، إنما طافوا طوافًا واحدا.
وأما الذين نقل عنهم: أنه أفرد الحج، فهم ثلاثة: عائشة، وابن عمر، وجابر. والثلاثة نقل عنهم التمتع. وحديث عائشة وابن عمر أنه تمتع بالعمرة إلى الحج أصح من حديثهما أنه أفرد الحج، وما صح عنهما من ذلك فمعناه: إفراد أعمال الحج.
وفي الصحيحين عن حفصة أن النبي ﷺ أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع، قالت حفصة: فما يمنعك أن تحل؟ فقال: (إني لَبَّدتُ رأسي، وقَلَّدت هديي، فلا أحل حتى أنحر هديي). وفي رواية: ما شأن الناس، حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: (إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر الهدي). فهذا يدل على أنه كان معتمرًا، وليس فيه أنه لم يكن مع العمرة حاجًا.
ومما يبين ذلك أن في الصحيحين عن أنس أن النبي ﷺ اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته، عمرة الحديبية في ذي القعدة، وعمرة في العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجِعْرانة في ذي القعدة، وعمرة مع حجته.
وفي الصحيحين عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة، فقال له عروة: يا أبا عبد الرحمن، كم اعتمر النبي ﷺ؟ فقال: أربع عمر؛ إحداهن في رجب، فقال عروة: ألاتسمعين يا أم المؤمنين إلى ما يقول أبو عبد الرحمن، فقالت: ومايقول؟ قال يقول: اعتمر رسول الله ﷺ أربع عمر إحداهن في رجب، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن؟ ما اعتمر رسول الله ﷺ إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط. فعائشة أنكرت كونه اعتمر في رجب، وما أنكرت كونه اعتمر أربع عمر. فقد اتفقت عائشة وابن عمر على أنه اعتمر أربع عمر، كما روي ذلك عن أنس. وقد ثبت باتفاق الناس أنه لم يعتمر بعد الحج. وثبت أن ابن عمر وعائشة نقلا عنه أنه اعتمر مع الحج، وهذا هو التمتع العام الذي يدخل فيه القران، وهو الموجب للهدي.
فتبين أن الروايات الكثيرة الثابتة عن ابن عمر وعائشة توافق ما فعله سائر الصحابة، أنه كان متمتعا التمتع العام.
ومن قال: إنه أحرم مطلقًا فاحتج بحديث مرسل، ومثل هذا لا يجوز أن يعارض به الأحاديث الصحيحة.
فقد تبين أن من قال: أفرد الحج، فإن ادعي أنه اعتمر بعد الحج كما يظنه بعض المتفقهة، فهذا مخطئ باتفاق العلماء، ومن قال: إنه أفرد الحج، بمعني أنه لم يأت مع حجته بعمرة، فهذا قد اعتقده بعض العلماء، وهو غلط، ولم يثبت ذلك عن أحد من الصحابة.
ومن قال: إنه أحرم إحرامًا مطلقا، فقوله غلط، لم ينقل عن أحد من الصحابة.
ومن قال: إنه تمتع، بمعني أنه لم يحرم بالحج حتى طاف وسعي، فقوله أيضا غلط، لم ينقل عن أحد من الصحابة.
ومن قال: إنه تمتع، بمعني أنه حل من إحرامه، فهو أيضا مخطئ باتفاق العلماء العارفين بالأحاديث.
ومن قال: إنه قرن، بمعني أنه طاف طوافين وسعي سعيين، فقد غلط أيضًا، ولم ينقل ذلك أحد من الصحابة عن النبي ﷺ. فالغلط في هذا الباب وقع ممن دون الصحابة، فلم يفهموا كلامهم، وأما الصحابة فنقولهم متفقة.
ومما يبين أنه لم يطف طوافين، ولا سعي سعيين لا هو ولا أصحابه، ما في الصحيحين عن عروة عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ فقال: (من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا). وقالت فيه: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدًا.
وفي صحيح مسلم عن طاوس عن عائشة: أنها أهلت بعمرة، فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها، وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي ﷺ يوم النفر: (يسَعُك طوافك لحجك وعمرتك). فأبت، فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج. وفي مسلم أيضا عن مجاهد عن عائشة: أنها حاضت بسَرِف، فطهرت بعرفة، فقال لها النبي ﷺ: (يجزي عنك طوافك بالصفا والمروة، عن حجك وعمرتك). وفي سنن أبي داود عن عطاء عن عائشة: أن النبي ﷺ قال لها: (طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعمرتك). وفي الصحيحين عن جابر قال: دخل النبي ﷺ على عائشة ثم وجدها تبكي، وقالت: قد حضت، وقد حل الناس، ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، فقال: (اغتسلي ثم أهلي بالحج). ففعلت ووقفت المواقف كلها، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة، وبالصفا والمروة، ثم قال: (قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا). قالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي، أني لم أطف بالبيت حين حججت، فقال: (فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم) وذلك ليلة الحصبة.
فقد أخبرت عائشة في الحديث الصحيح أن الذين قرنوا لم يطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، إلا الطواف الأول الذي طافه المتمتعون أولا.
وأيضا، فقد ثبت بالأحاديث الصحيحة في قضيتها، أنها لما طافت يوم النحر بالبيت، وبين الصفا والمروة، قال لها: (قد حللت)، وقال لها: (يسعك طوافك لحجك وعمرتك)، وأنه لا يجب عليها قضاء تلك العمرة، ودل ذلك على أن القارن يجزيه طواف واحد بالبيت، وبين الصفا والمروة، كما يجزي المفرد، لا سيما وعائشة لم تطف إلا طواف قدوم، بل لم تطف إلا بعد التعريف، وسعت مع ذلك، فإذا كان طواف الإفاضة والسعي بعده يكفي القارن، فلأن يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة، وسعي واحد مع أحدهما بطريق الأولي.
ومما يبين ذلك أن الصحابة الذين نقلوا حجة رسول الله ﷺ كلهم نقلوا أنه لما طاف الصحابة بالبيت، وبين الصفا والمروة، أمرهم النبي ﷺ بالتحلل إلا من ساق الهدي، فإنه لا يتحلل إلا يوم النحر. ولم ينقل أحد منهم أن أحدًا منهم طاف وسعي، ثم طاف وسعي، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم ينقله أحد من الصحابة علم أن هذا لم يكن، وعمدة من قال ذلك أثر يرويه الكوفيون عن على، وأثر آخر عن ابن مسعود، وقد روي جعفربن محمد عن أبيه محمد بن على أنه كان يحفظ عن على بن أبي طالب للقارن طوافا واحدًا بين الصفا والمروة، خلاف ما يحفظ أهل العراق. وما رواه العراقيون منه ما هو منقطع، ومنه ما رجاله مجهولون أو مجروحون. ولهذا طعن علماء النقل في ذلك، حتى قال ابن حزم: كل ما روي في ذلك عن الصحابة لا يصح منه ولا كلمة واحدة، وقد نقل في ذلك عن النبي ﷺ ما هو موضوع بلا ريب.
وأيضا، ففي الصحيحين عن ابن عمر قال لهم: اشهدوا أني قد أوجبت حجًا مع عمرتي، ثم انطلق يهل بهما جميعا، حتى قدم مكة فطاف بالبيت، وبالصفا والمروة. ولم يزد على ذلك، ولم يحلق ولا قصر، ولا أحل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر، فحلق ونحر، ورأي أنه قد قضي طواف الحج والعمرة بطوافه الأول. ثم قال: هكذا فعل رسول الله ﷺ.
وأيضا، فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)، وإذا دخلت فيه لم تحتج إلى عمل زائد على عمله. وقد روي سفيان الثوري عن سلمة بن كُهَيل، قال: حلف لي طاوس ما طاف أحد من أصحاب رسول الله ﷺ في حجته وعمرته إلا طوافًا واحدًا.
وقد ثبت مثل هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وغيرهم، وهم من أعلم الناس بحجة رسول الله ﷺ ولا يخالفونها.
فهذه الأحاديث الثابتة الصحيحة عن النبي ﷺ تبين: أنه لم يطف بالبيت، وبين الصفا والمروة إلا طوافا واحدًا. فتبين بذلك أن الذي دلت عليه الأحاديث هو الذي قاله أئمة أهل الحديث، كأحمد وغيره، أن النبي ﷺ كان قارنًا، وأنه لم يطف إلا طوافا واحدًا بالبيت، وبين الصفا والمروة، لكنه ساق الهدي، فمن ساق الهدي فالقِران أفضل له من التمتع، ومن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل له، كما أمر النبي ﷺ أصحابه، والله أعلم.
سئل عن حج النبي صلى الله عليه وسلم هل كان مفردا أو قارنا
وسئل رحمه الله تعالى عن حج النبي ﷺ هل كان مفردًا؟ أو قارنا؟ أو متمتعًا؟ وأيما أفضل لمن يحج، فقد أكثر الناس القول، وأطالوا وزادوا ونقصوا، والقصد كشف الحق عن هذه الأحوال، وقول بعض الناس إن أحدًا من الصحابة أتي بعمرة من مكة، والحديث الذي رووه: (أن عمرة في رمضان تقوم كذا وكذا حجة). هل هو صحيح؟ أم لا ؟
فأجاب:
الحمد رب العالمين، أما حج النبي ﷺ، فالصحيح أنه كان قارنًا، قرن بين الحج والعمرة، وساق الهدي ولم يطف بالبيت، وبين الصفا والمروة إلا طوافا واحدًا، حين قدم. لكنه طاف طواف الإفاضة مع هذين الطوافين.
وهذا الذي ذكرناه هو الصواب المحقق عند أهل المعرفة بالأحاديث، الذين جمعوا طرقها، وعرفوا مقصدها، وقد جمع أبو محمد بن حزم في حجة الوداع كتابا جيدًا في هذا الباب
وقال الإمام أحمد: لا أشك أن النبي ﷺ كان قارنًا، والتمتع أحب إلى؛ لأنه آخر الأمرين. يريد به قول النبي ﷺ بعد أن طاف وسعي، وأمر أصحابه بالتحلل، فشق عليهم، فقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة). وهذا إنما يقتضي أنه كان متمتعًا بدون سوق الهدي، والنبي ﷺ كان قد ساق الهدي؛ ولهذا قال أحمد في رواية المروزي: إذا ساق الهدي فالقران أفضل، وذلك لأنه فعل النبي ﷺ.
وهذا الذي ذكرناه من أنه حج قارنا يتبين لمن تدبر الأحاديث، وفهم مضمونها، وبسط ذلك في هذا الموضع غير ممكن، لكن نذكر نكتًا مختصرة:
منها: أن الذين نقلوا لفظ رسول الله ﷺ كلفظ تلبيته، ولفظه في خبره عن نفسه، وفيما يخبر به عن أمر الله له: إنما ذكروا القِران؛ كقول أنس في الصحيحين: سمعته يقول: (لبيك عمرة وحجة) وكان تحت ناقته. وكحديث عمر الذي في الصحيح حيث قال: (أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك، وقال: قل: عمرة في حجة). وقوله في حديث البراء بن عازب: (فإني سقت الهدي وقرنت).
والذين قالوا: تمتع بالعمرة إلى الحج، لم تزل قلوبهم على غير القران، فإن القران كان عندهم داخلا في مسمي التمتع بالعمرة إلى الحج كما جاء مفسرًا في الصحيحين، من أن عثمان كان ينهى عن المتعة، وكان على يأمر بها، فلما رأي ذلك على أهل بهما جميعًا.
ولهذا وجب عند الأئمة على القارن الهدي بقوله: { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [23]. وذلك أن مقصود حقيقة التمتع أن يأتي بالعمرة في أشهر الحج، ويحج من عامه، فيترفه بسقوط أحد السفرين، قد أحل من عمرته، ثم أحرم بالحج، أو أحرم بالحج مع العمرة، أو أدخل الحج على العمرة، فأتي بالعمرة والحج جميعًا في أشهر الحج من غير سفر بينهما، فيترفه بسقوط أحد السفرين. فهذا كله داخل في مسمي التمتع، مع أن هؤلاء لم ينقلوا لفظ رسول الله ﷺ.
وكذلك الذين قالوا: أفرد الحج، مع أن هذا اللفظ يراد به الرد على من قال: تمتع بالعمرة إلى الحج، وحل من إحرامه، وعلى من قال: إنه طاف طوافين، وسعي سعيين، فإن أصحابه حلوا من إحرامهم حيث لم يسوقوا الهدي، فبقوا محرمين كما يبقي مفردًا بحج ولم يأتوا بزيادة على عمل المفرد. فبين هؤلاء أنه لم يفعل إلا أفعال الحج، لم يحل من إحرامه ولا زاد عليها، وتبين بذلك أنه قد اعتمر أربعًا؛ إحداهن عمرة مع حجته، ولا نزاع بين أهل العلم أنه لم يعتمر بعد الحجة لا هو ولا أحد ممن حج معه حجة الوداع، إلا عائشة خاصة، فإنه أعمرها مع أخيها عبد الرحمن، لأجل حيضها الذي حاضته وبنيت بعد ذلك مساجد، فسميت [24]، فإنها أحرمت بالعمرة من هناك، فإنه أدني الحل إلى مكة؛ إذ ذاك الجانب من الحرم أقرب جوانبه من مكة. وكان قد اعتمر مع حجته ولم يعتمر بعدها، فتبين أن عمرته كانت فيها قبلها، فيكون متمتعًا.
يوضح ذلك أن عامة الذين روي عنهم أنه أفرد الحج، كعائشة، وابن عمر. روي عنهم أنه تمتع بالعمرة إلى الحج، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن ابن عمر وعائشة وغيرهما، وقد تبين أن من قال: تمتع بالعمرة إلى الحج، وأنه حل من إحرامه، كما زعم ذلك بعض أصحاب أحمد، كالقاضي، وغيره، وزعموا أنه كان مخصوصًا بذلك، دون من تمتع وساق الهدي فهذا القول خطأ.
وكذلك من يظن من أصحاب مالك والشافعي أنه أفرد الحج، واعتمر عقب ذلك، فهذا القول خطأ، وكلا القولين مخالف لإجماع أهل العلم بالآثار.
وكذلك من زعم أنه طاف طوافين، وسعي سعيين، كما يختار ذلك أصحاب أبي حنيفة، وأنه خلاف الأحاديث الصحيحة، التي تبين أنه لم يطف بالبيت والصفا والمروة إلا مرة واحدة.
وأما من قال من أصحاب أحمد: إنه تمتع ولم يحل من إحرامه؛ لأجل سوق الهدي، كما يختاره أبو محمد وغيره، فالتمتع على المشهور عندهم: السعي بين الصفا والمروة بعد طواف الإفاضة للحج، كما سعي أولا للعمرة، والنبي ﷺ لم يسع بعد الإفاضة، فكيف يكون متمتعًا على هذا القول؟ لكن عن أحمد رواية أخري، أن المتمتع لا يحتاج إلى سعي ثان، بل يكفيه السعي الأول، كما يكفي المفرد، وكما يكفي القارن.
وسبب اختلاف الروايتين عن أحمد: أن في حديث عامر: أنهم لم يطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، إلا الطواف الأول، وفي حديث عائشة: أنهم طافوا بعد التعريف، فإنه على هذه الرواية لا يتوجه هذا الإلزام؛لكن لا يبقي بين القارن وبين المتمتع الذي ساق الهدي فلم يحل لأجله فرق، إلا أن القارن أحرم بالحج قبل الطواف والسعي، والمتمتع أحرم بالحج بعد ذلك، فإذا كان إدخاله الحج عليها بعد طوافه وسعيه كإدخاله قبل طوافه وسعيه لا يوجب عليه سعيا ثانيا، لم يكن بين القارن والمتمتع الذي لم يحل فرق أصلا.
وعلى هذا، فإحرامه بالحج قبل أن يطوف ويسعي، أفضل من أن يحرم به بعد الطواف والسعي، وقد صح عن النبي ﷺ أنه أحرم بهما جميعا، وقال: (لبيك عمرة وحجًا)، ومن لم يحرم بالحج إلا بعد الطواف والسعي لا يقول هذا.
ومن قال من أصحاب مالك والشافعي: أفرد الحج ولم يعتمر مع حجته، فالأحاديث الصحيحة التي تبين أنه اعتمر مع حجته وأنه اعتمر أربع عمر؛ عمرة الحديبية، وعمرة القضية، وعمرة الجِعْرَانة، والعمرة التي مع حجته ترد هذا القول. وكذلك قول حفصة في الحديث المتفق عليه: ما بال الناس حلو. ولم تحل من عمرتك؟ فقال: (إني لَبَّدت رأسي، وقَلَّدت هديي، فلا أحل حتى أنحر).
وأما قول القائل: أيما أفضل ؟
فالتحقيق في هذه المسألة: أنه إذا أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، فهو أفضل من القران، والتمتع الخاص بسفرة واحدة وقد نص على ذلك أحمد وأبو حنيفة، مع مالك، والشافعي، وغيرهم. وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر. وكان عمر يختاره للناس وكذلك على رضي الله عنه وقال عمر وعلى في قوله: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } [25] قالا: إتمامهما أن تهل بهما من دويرة أهلك. وقد قال النبي ﷺ لعائشة في عمرتها: (أجرك على قدر نصبك). وإذارجع الحاج إلى دويرة أهله، فأنشأ منها العمرة، أو اعتمر قبل أشهر الحج، وأقام حتى يحج، أو اعتمر في أشهره، ورجع إلى أهله ثم حج، فهنا قد أتي بكل واحد من النسكين من دويرة أهله. وهذا أتي بهما على الكمال، فهو أفضل من غيره.
وأما إذا أفرد الحج واعتمر عقب ذلك من أدني الحل، فهذا الإفراد لم يفعله رسول الله ﷺ، ولا أحد من أصحابه الذين حجوا معه، بل ولا غيرهم. كيف يكون هو الأفضل مما فعلوه معه بأمره؟ بل لم يعرف أن أحدًا اعتمر من مكة على عهد رسول الله ﷺ إلا عائشة، لا في حجة الوداع، ولا قبلها، ولا بعدها، بل هذه العمرة لا تجزئ عن عمرة الإسلام في إحدى الروايتين عن أحمد. وعند بعض أهل العلم أنها متعة.
وتكره العمرة في ذي الحجة عند طائفة من أهل العلم، مع أن عائشة كانت إذا حجت صبرت حتى يدخل المحرم، ثم تحرم من الجحفة فلم تكن تعتمر من أدني الحل، ولا في ذي الحجة.
وأما إذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة، وقدم مكة في أشهر الحج، ولم يسق الهدي. فالتمتع أفضل له، من أن يحج ويعتمر بعد ذلك من الحل؛ لأن أصحاب رسول الله ﷺ الذين حجوا معه ولم يسوقوا الهدي، أمرهم جميعهم أن يحجوا هكذا: أمرهم إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها متعة، فلما كان يوم التروية أمرهم أنم يحرموا بالحج، وهذا متواتر عنه ﷺ أنه أمرهم بذلك، وحجوا معه كذلك. ومعلوم أنهم أفضل الأمة بعده، ولا حجة تكون أفضل من حجة أفضل الأمة، مع أفضل الخلق بأمره، فكيف يكون حج من حج مفردًا، واعتمر عقب ذلك، أو قارنًا ولم يسق الهدي أفضل من حج هؤلاء معه بأمره، وكيف ينقلهم عن الأفضل إلى المفضول وأمره أبلغ من فعله؟!
وأيضًا، فإن من يحرم بالعمرة قد نوي الحج، فإنه ينوي التمتع بالعمرة إلى الحج، كما ينوي المغتسل إذا بدأ بالتوضؤ أنه يتوضأ الوضوء الذي هو بعض الغسل، فيكون تحريمان وتحليلان، كما للمفرد تحليلان وتحريمان، فيكون له هدي، كما للقارن هدي، والهدي هدي نسك، لا هدي جبران، فإن هدي الجبران الذي يكون لترك واجب، أو فعل محرم لا يحل سببه إلا مع العذر. فليس له أن يترك شيئا من واجبات الحج بلا عذر، أو يفعل شيئا من محظوراته بلا عذر، ويأتي بدم. وهذا له أن يتمتع بلا عذر، ويأتي بالهدي، فعلم أنه دم نسك. وقد ثبت بالسنة أنه يأكل، كما أكل النبي ﷺ من هديه، وقد كان قارنًا، وكما ذبح عن نسائه البقرة، وأطعمهن من ذلك، وكن متمتعات.
وأيضًا، فلمن يأتي بالعبادتين: إذا كانتا من جنس يجمع بينهما، أن يبدأ بالصغري على الكبري، كما يتوضأ المغتسل، ثم يتم غسله، وكما أمره بمثل ذلك في غسل الميت، فإذا اعتمر ثم أتي بالحج كان موافقا لهذا، بخلاف من حج فإنه أتي بالغاية. فإذا اعتمر عقب ذلك لم يكن في عمرته عمل زائد.
وإذا أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج جاز ذلك بالاتفاق؛ لأنه التزم أكثر مما كان عليه.
واما إذا أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يجز على الصحيح لأنه لا يلتزم زيادة شيء، وإنما جوزه أبوحنيفة بناء على أصله، في أن عمل القارن فيه زيادة على عمل المفرد.
ومن سافر سفرة واحدة واعتمر فيها، ثم أراد أن يسافر أخرى للحج، فتمتعه أيضا أفضل له من الحج، فإن كثيرًا من الصحابة الذين حجوا مع النبي ﷺ كانوا قد اعتمروا قبل ذلك، ومع هذا فأمرهم بالتمتع، لم يأمرهم بالإفراد، ولأن هذا يجمع بين عمرتين وحجة وهدي، وهذا أفضل من عمرة وحجة.
وكذلك لو تمتع ثم سافر من دويرة أهله للمتعة، فهذا أفضل من سفرة بعمرة، وسفرة بحجة مفردة، وهذا المفرد أفضل من سفرة واحدة يتمتع فيها.
وأما إذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة، ويسوق الهدي، فالقران أفضل، اقتداء برسول الله ﷺ حيث قرن، وساق الهدي.
ومن قال: إنه مع سوق الهدي يكون التمتع أفضل له. قيل له: مع أن هذا مخالف للسنة إذا أحرم قبل الطواف والسعي كان قد تقدم إحرامه، ووقع الطواف والسعي عن الحج والعمرة، وإذا أحرم بعدهما لم يكن الطواف والسعي واقعًا إلا عن العمرة. ووقوع الأفعال عن حج مع عمرة خير من وقوعها عن عمرة لا يتحلل فيها إلى أن يحج، لكنه قد يقول: إذا تأخر إحرامه بالحج لزمه سعي ثان، وهذا زيادة عمل، لكن هذا فيه نزاع كما تقدم.
وليس له أن يحتج بقول النبي ﷺ: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة). لأنه ﷺ لم يقل لتمتعت مع سوق الهدي، بل قال: (لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة).فجعل المطلوب متعة بلا سوق هدي، وهذا دليل ثان على أن من ساق الهدي لا يتمتع، بل يقرن. وإذا كان القران والتمتع مع سوق الهدي سواء، ارتفع النزاع.
فإن قيل: أيما أفضل أن يسوق الهدي ويقرن، أو أن يتمتع بلا سوق هدي، ويحل من إحرامه؟
قيل: هذا موضع الاجتهاد، فإنه قد تعارض دليلان شرعيان:
أحدهما: أنه قرن وساق الهدي في حجة الوداع، ولم يكن الله ليختار لنبيه المفضول دون الأفضل، فإن خير الهدي هدي محمد ﷺ.
والثاني: أن قوله هذا، يقتضي أنه لو كان ذلك الحال هو وقت إحرامه، لكان أحرم بعمرة، ولم يسق الهدي بقوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت)، فالذي استدبره هو الذي فعله ومضي فصار خلفه، والذي يستقبله هو الذي لم يفعله بعد، بل هو أمامه، فتبين أنه لو كان مستقبلا لما استبدره من أمره وهو الإحرام لأحرم بالعمرة دون هدي، وهو لا يختار أن ينتقل من الأفضل إلى المفضول، بل إنما يختار الأفضل. وذلك يدل على أنه تبين له حينئذ أن التمتع بلا هدي أفضل له.
ولكن من نصر الأول يجيب عن هذا بأنه لم يقل هذا لأجل أن الذي فعله مفضول، بل لأن أصحابه شق عليهم أن يحلوا من إحرامهم مع بقائه محرمًا، فكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أمروا به عن انشراح وموافقة، وقد ينتقل من الأفضل إلى المفضول لما فيه من الموافقة، وائتلاف القلوب، كما قال لعائشة: (لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولجعلت لهابابين). فهنا ترك ما هو الأولي؛ لأجل الموافقة والتاليف الذي هو الأدني من هذا الأولي، فكذلك اختار المتعة بلا هدي.
وعلى هذا التقدير، فيكون الله قد جمع له بين أن فعل الأفضل وبين أن أعطاه بما يراه من الموافقة لهم ما في ذلك من الفضل، فاجتمع له الأجران، وهذا هو اللائق بحاله ﷺ.
يبين ذلك أن سوق الهدي أفضل من ترك سوقه، وقد ساق مائة بدنة، فكيف يكون ترك ذلك أفضل في نفسه بمجرد التحلل والإحرام ثانيا، وسوق الهدي فيه من تعظيم شعائر الله ما ليس في تكرر التحلل والتحريم.
يبين ذلك أن المتمتع إذا ساق الهدي فينبغي أن يكون أفضل من جميع من لم يسق، والقارن الذي ساق الهدي أفضل منهما.
وأيضًا، فإن القارن والمتمتع عليه هدي، ومعلوم أن الهدي الذي يسوقه من الحل أفضل باتفاق المسلمين، مما يشتريه من الحرم، بل في أحد قولي العلماء: لا يكون هديا إلا بما أهدي من الحل إلى الحرم.
وحينئذ، فسوقه من الميقات أفضل من سوقه من أدني الحل، فكيف يجعل الهدي الذي لم يسق أفضل مما سيق، فهذا وغيره مما يبين أن سوق الهدي مع التمتع والقران أفضل من تمتع لا سوق فيه.
وأما سؤال السائل عن بعض الصحابة: هل اعتمر من مكة؟ فلم يعتمر أحد على عهد رسول الله ﷺ من مكة إلا عائشة خاصة، وعائشة نفسها كانت إذا حجت تمكث إلى أن يهل المحرم، ثم تخرج إلى الجحفة فتحرم منها بعمرة.
وقوله ﷺ: (عمرة في رمضان تعدل حجة). وفي لفظ: (تعدل حجة معي)، وفي رواية أنه قال: (الحج من سبيل الله)، فبين لها أن اعتمارها في رمضان تقوم مقام الحجة التي تخلفت عنها، والحجة كانت من المدينة، والعمرة كانت من المدينة، وذلك لأن شهر رمضان هو شهر الصيام، وهو قبل أشهر الحج.
ومن حج من عامه كان أفضل من المتمتع، والمتمتع لابد أن يعتمر في أشهر الحج، وقد كان يمكنه أن يحرم بالحج، فلما عدل عن الإحرام بالحج إلى الإحرام بالعمرة ترفه بسقوط أحد السفرين، فصار الهدي قائمًا مقام هذا الترفه.
ولهذا ظن بعض الفقهاء أن هدي المتمتع هدي جُبْران، ومنعوه من الأكل منه، وجعلوا وجوب الهدي في المتمتع دليلا على أنه مرجوح، فإن النسك السالم عن جبران أفضل من النسك المجبور.
فقال لهم الآخرون: دم الجبران لا يجوز للرجل أن يفعل سببه بغير عذر، وهنا يجوز التمتع من غير حاجة، فامتنع أن يكون هذا دم جبران. نعم، قد يقال: التمتع رخصة، والرخصة قد تكون أفضل، كما أن القصر أفضل من التربيع عند العلماء بالسنة المتواترة، واتفاق السلف، وكذلك الفطر، والمسح على أن أظهر قولي العلماء، فإن الفطر هو آخر الأمرين منه ﷺ.
وتنازع العلماء في وجوبه، وفي إجزاء الصوم في السفر، فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الصائم في السفر عليه القضاء، واتفق المسلمون على أن الفطر في السفر جائز؛ لأنه كان آخر الأمرين من النبي ﷺ، واتفق المسلمون على جوازه وهو أفضل، فما تنازعوا في جوازه، مع أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (ليس من البر الصيام في السفر)، وثبت في صحيح مسلم، أن حمزة بن عمرو قال للنبي ﷺ: إني رجل أكثر الصيام، أفأصوم في السفر؟ فقال: (إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس). فحسن الفطر، ورفع البأس عن الصوم.
وهكذا المسح على الخفين، فإنه لم ينقل أحد أن النبي ﷺ كان إذا لبس الخفين على طهارة ثم أحدث أنه لينزعهماوليغسل رجليه، بل كان ليمسح عليهما، وهذا مورد النزاع، فأما إذا لم يكن عليه خفان ففرضه الغسل، ولا ليشرع له أن ليلبس الخفين لأجل المسح، بل صورة المسألة إذا لبسهما لحاجته، فهل الأفضل أن ليمسح عليهما، أو ليخلعهما، أو كلاهما على السواء؟ على ثلاثة أقوال:
والصواب: أن المسح أفضل، اتباعًا للسنة.
وأيضًا، فالذي يحج متمتعًا فعل ما يشرع باتفاق العلماء المعروفين، وأما غير المتمتع ففي حجه نزاع، فقد ثبت عن ابن عباس، وطائفة من السلف أن التمتع واجب، وأن كل من طاف وسعي ولم يكن معه هدي، فإنه يحل من إحرامه، سواء قصد التحلل أو لم يقصده، وليس لأحد عند هؤلاء أن يحج إلا متمتعًا، وهذا مذهب ابن حزم، وغيره من أهل الظاهر. وهو مذهب الشيعة أيضًا؛ لأن النبي ﷺ أمر بذلك أصحابه في حجة الوداع، فإذا كان التمتع مختلفًا في وجوبه متفقًا على جوازه، وغيره ليس بواجب، ولم يتفق على جوازه، كان الحج الذي اتفق على جوازه أولي.
ولا يعارض هذا أن بعض المتقدمين كان ينهي عن المتعة، وكان بعض الولاة يضرب عليها، فعلماء أصحاب هذا القول قد قيل: إنهم لم يكونوا يحرمون المتعة، بل كانوا يختارون أن يعتمر الناس في غير أشهر الحج، كي لا يزال البيت معمورًا بالحجاج والعمار. ومن قدر أنه نهي عن ذلك نهي تحريم، فهذا قول مخالف للسنة الثابتة عن النبي ﷺ، مع مخالفته لكتاب الله، فلا يلتفت إليه.
وأما تنازع العلماء في جواز فسخ المفرد، والقارن، وانتقالهما إلى التمتع. فمن العلماء من قال: إن ذلك منسوخ، وإن ذلك كان مخصوصًا بالذين حجوا مع النبي ﷺ. قال بعضهم: لأن النبي ﷺ أراد أن يعلمهم جواز العمرة في أشهر الحج.
وقال آخرون: هذا قول ضعيف جدًا، فإن النبي ﷺ اعتمر في أشهر الحج غير مرة، بل عمره كانت في أشهر الحج: عمرة الحديبية كانت في ذي القعدة، وعمرة القضاء في العام القابل كانت في ذي القعدة، وعمرة الجعرانة كانت في ذي القعدة، أما كان في هذا ما يبين جواز الاعتمار في أشهر الحج؟!
وأيضًا، فقد ثبت في الصحيحين أنهم لما كانوا بذي الحليفة، قال: (من شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل، ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليفعل). فقد صرح لهم بجواز الثلاثة، وفي هذا بيان واضح لجواز العمرة في أشهر الحج.
وأيضًا، فالذين حجوا معه متمتعين كان في حجهم ما بين الجواز، فلا يجوز أن يأمر جميع من حج معه بالتحلل من إحرامه، وأن يجعلوا ذلك تمتعًا بمجرد بيان جواز ذلك، ولا ينقلهم عن الأفضل إلى المفضول، فعلم أنه إنما نقلهم إلى الأفضل، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قيل له: عمرتنا هذه لعامنا، أم للأبد؟ فقال: (بل للأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة).
وأيضًا، فإذا كان الكفار لم يكونوا يتمتعون، ولا يعتمرون في أشهر الحج، والنبي ﷺ قصد مخالفة الكفار، كان هذا من سنن الحج كما فعل في وقوفه بعرفة، ومزدلفة، فإن المشركين كانوا يعجلون الإفاضة من عرفة قبل الغروب، ويخرون الإفاضة من جَمْع إلى أن تطلع الشمس. فخالفهم النبي ﷺ، وقال: (خالف هدينا هدي المشركين). فأخر الإفاضة من عرفة إلى أن غربت الشمس، وعجل الإفاضة من جَمْع قبل طلوع الشمس، وهذا هو السنة للمسلمين باتفاق المسلمين، فهكذا ما فعله من التمتع والفسخ إن كان قصد به مخالفة المشركين، فهذا هو السنة، وإن فعله لأنه أفضل، وهو سنة، فعلى التقديرين يكون الفسخ أفضل، اتباعًا لما أمر به النبي ﷺ أصحابه، والله سبحانه أعلم.
لا يقبل الركن اليماني
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
وأما الركن اليماني فلا يقبل على القول الصحيح، وأما سائر جوانب البيت، والركنان الشاميان، ومقام إبراهيم فلا يقبل، ولا يتمسح به باتفاق المسلمين المتبعين للسنة المتواترة عن النبي ﷺ.
فإذا لم يكن التمسح بذلك، وتقبيله مستحبًا، فأولي ألا يقبل ولا يتمسح بما هو دون ذلك.
واتفق العلماء على أنه لا يستحب لمن سلم على النبي ﷺ عند قبره أن يقبل الحجرة، ولا يتمسح بها لئلا يضاهي بيت المخلوق بيت الخالق، ولأنه قال ﷺ: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد)، وقال: (لا تتخذوا قبري عيدًا)، وقال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). فإذا كان هذا دين المسلمين في قبر النبي ﷺ، الذي هو سيد ولد آدم، فقبر غيره أولي ألا يقبل ولا يستلم.
وقد حكي بعض العلماء في هذا خلافًا مرجوحًا، وأما الأئمة المتبعون، والسلف الماضون، فما أعلم بينهم في ذلك خلافًا، والله سبحانه أعلم.
منسك المؤلف
وقال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن شهاب الدين عبد الحليم ابن الإمام مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن تيمية رضي الله عنه:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فقد تكرر السؤال من كثير من المسلمين أن أكتب في بيان مناسك الحج، ما يحتاج إليه غالب الحجاج في غالب الأوقات، فإني كنت قد كتبت منسكًا في أوائل عمري، فذكرت فيه أدعية كثيرة، وقلدت في الأحكام من اتبعته قبلي من العلماء، وكتبت في هذا ما تبين لي من سنة رسول الله ﷺ مختصرًا مبينًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فصل أول ما يفعله قاصد الحج والعمرة
أول ما يفعله قاصد الحج والعمرة إذا أراد الدخول فيهما: أن يحرم بذلك، وقبل ذلك فهو قاصد الحج أو العمرة، ولم يدخل فيهما بمنزلة الذي يخرج إلى صلاة الجمعة فله أجر السعي، ولا يدخل في الصلاة حتى يحرم بها.
وعليه إذا وصل إلى الميقات أن يحرم. والمواقيت خمسة: ذو الحليفة، والجُحْفة، وقَرْن المنازل، وَيلمْلَم، وذات عِرْق، ولما وقت النبي ﷺ المواقيت قال: (هن لأهلهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن، لمن يريد الحج والعمرة، ومن كان منزله دونهن فمهلُّه من أهله، حتى أهل مكة يهلون من مكة).
فذو الحليفة: هي أبعد المواقيت، بينها وبين مكة عشر مراحل، أو أقل أو أكثر بحسب اختلاف الطرق، فإن منها إلى مكة عدة طرق، وتسمي وادي العَقِيق، ومسجدها يسمي مسجد الشجرة، وفيها بئر، تسميها جهال العامة: بئر علي ؛ لظنهم أن عليا قاتل الجن بها، وهو كذب، فإن الجن لم يقاتلهم أحد من الصحابة، وعلى أرفع قدرًا من أن يثبت الجن لقتاله، ولا فضيلة لهذا البئر، ولا مذمة، ولا يستحب أن يرمي بها حجرًا ولا غيره.
وأما الجحفة: فبينها وبين مكة نحو ثلاث مراحل، وهي قرية كانت قديمة معمورة، وكانت تسمي مهيعة، وهي اليوم خراب؛ ولهذا صار الناس يحرمون قبلها من المكان الذي يسمي رابغًا، وهذا ميقات لمن حج من ناحية المغرب: كأهل الشام ومصر، وسائر المغرب لكن إذا اجتازوا بالمدينة النبوية كما يفعلونه في هذه الأوقات أحرموا من ميقات أهل المدينة، فإن هذا هو المستحب لهم بالاتفاق. فإن أخروا الإحرام إلى الجحفة ففيه نزاع.
وأما المواقيت الثلاثة. فبين كل واحد منها وبين مكة نحو مرحلتين. وليس لأحد أن يجاوز الميقات إذا أراد الحج أو العمرة إلا بإحرام. وإن قصد مكة للتجارة أو الزيارة فينبغي له أن يحرم، وفي الوجوب نزاع.
ومن وافي الميقات في أشهر الحج، فهو مخير بين ثلاثة أنواع: وهي التي يقال لها: التمتع، والإفراد، والقران، إن شاء أَهَلَّ بعمرة، فإذا حل منها أَهَلَّ بالحج، وهو يخص باسم التمتع، وإن شاء أحرم بهما جميعًا، أو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف، وهو القران، وهو داخل في اسم التمتع في الكتاب والسنة، وكلام الصحابة، وإن شاء أحرم بالحج مفردًا، وهو الإفراد.
فصل أفضل الأنساك
في الأفضل من ذلك:
فالتحقيق في ذلك أنه يتنوع باختلاف حال الحاج، فإن كان يسافر سفرة للعمرة، وللحج سفرة أخري، أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج، ويعتمر ويقيم بها حتى يحج، فهذا الإفراد له أفضل باتفاق الأئمة الأربعة.
والإحرام بالحج قبل أشهره ليس مسنونًا، بل مكروه، وإذا فعله فهل يصير محرمًا بعمرة، أو بحج، فيه نزاع.
وأما إذا فعل ما يفعله غالب الناس، وهو أن يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة، ويقدم مكة في أشهر الحج وهن: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فهذا إن ساق الهدي فالقران أفضل له، وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل، فإنه قد ثبت بالنقول المستفيضة التي لم يختلف في صحتها أهل العلم بالحديث، أن النبي ﷺ لما حج حجة الوداع، هو وأصحابه، أمرهم جميعهم أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقي على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر، وكان النبي ﷺ قد ساق الهدي هو وطائفة من أصحابه، وقَرَن هو بين العمرة والحج، فقال: (لبيك عمرة وحجًا).
ولم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي ﷺ إلا عائشة وحدها؛ لأنها كانت قد حاضت، فلم يمكنها الطواف؛ لأن النبي ﷺ قال: (تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت). فأمرها أن تهل بالحج، وتدع أفعال العمرة لأنها كانت متمتعة، ثم إنها طلبت من النبي ﷺ أن يعمرها فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن، فاعتمرت من التنعيم، والتنعيم هو أقرب الحل إلى مكة، وبه اليوم المساجد التي تسمي [26]، ولم تكن هذه على عهد النبي ﷺ، وإنما بنيت بعد ذلك علامة على المكان الذي أحرمت منه عائشة، وليس دخول هذه المساجد، ولا الصلاة فيها لمن اجتاز بها محرمًا لا فرضًا ولا سنة، بل قصد ذلك، واعتقاد أنه يستحب بدعة مكروهة، لكن من خرج من مكة ليعتمر، فإنه إذا دخل واحدًا منها وصلي فيه لأجل الإحرام، فلا بأس بذلك.
ولم يكن على عهد النبي ﷺ وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر، لا في رمضان ولا في غير رمضان، والذين حجوا مع النبي ﷺ ليس فيهم من اعتمر بعد الحج من مكة، إلا عائشة كما ذكر. ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين، والذين استحبوا الإفراد من الصحابة إنما استحبوا أن يحج في سفرة، ويعتمر في أخري، ولم يستحبوا أن يحج ويعتمر عقب ذلك عمرة مكية، بل هذا لم يكونوا يفعلونه قط، اللهم إلا أن يكون شيئًا نادرًا.
وقد تنازع السلف في هذا: هل يكون متمتعًا عليه دم؟ أم لا؟ وهل تجرئه هذه العمرة عن عمرة الإسلام؟ أم لا؟.
وقد اعتمر النبي ﷺ بعد هجرته أربع عمر:
عمرة الحديبية. وصل إلى الحديبية والحديبية وراء الجبل الذي بالتنعيم عند مساجد عائشة عن يمينك وأنت داخل إلى مكة فصده المشركون عن البيت فصالحهم، وحل من إحرامه، وانصرف. وعمرة القضية؛ اعتمر من العام القابل.
وعمرة الجعرانة؛ فإنه كان قد قاتل المشركين بحنين، وحنين من ناحية المشرق من ناحية الطائف، وأما بدر فهي بين المدينة وبين مكة وبين الغزوتين ست سنين، ولكن قرنتا في الذكر؛ لأن الله تعالى أنزل فيهما الملائكة لنصر النبي ﷺ والمؤمنين في القتال، ثم ذهب فحاصر المشركين بالطائف، ثم رجع وقسم غنائم حنين بالجِعْرَانة، فلما قسم غنائم حنين اعتمر من الجعرانة داخلا إلى مكة لا خارجًا منها للإحرام.
والعمرة الرابعة مع حجته، فإنه قرن بين العمرة والحج باتفاق أهل المعرفة بسنته، وباتفاق الصحابة على ذلك، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه تمتع تمتعًا حل فيه، بل كانوا يسمون القران تمتعًا، ولا نقل عن أحد من الصحابة أنه لما قرن طاف طوافين، وسعي سعيين.
وعامة المنقول عن الصحابة في صفة حجته ليست بمختلفة، وإنما اشتبهت على من لم يعرف مرادهم، وجميع الصحابة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج؛ كعائشة، وابن عمر، وجابر. قالوا: إنه تمتع بالعمرة إلى الحج. فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة وابن عمر بإسناد أصح من إسناد الإفراد، ومرادهم بالتمتع القِران، كما ثبت ذلك في الصحاح أيضًا.
فإذا أراد الإحرام، فإن كان قارنًا قال: لبيك عمرة وحجًا. وإن كان متمتعًا قال: لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج. وإن كان مفردًا قال: لبيك حجة، أو قال: اللهم إني أوجبت عمرة وحجًا، أو أوجبت عمرة أتمتع بها إلى الحج، أو أوجبت حجًا، أو أريد الحج، أو أريدهما، أو أريد التمتع بالعمرة إلى الحج، فمهما قال من ذلك أجزأه باتفاق الأئمة، ليس في ذلك عبارة مخصوصة، ولا يجب شيء من هذه العبارات، باتفاق الأئمة، كما لا يجب التلفظ بالنية في الطهارة، والصلاة، والصيام، باتفاق الأئمة، بل متى لبي قاصدًا للإحرام انعقد إحرامه باتفاق المسلمين، ولا يجب عليه أن يتكلم قبل التلبية بشيء.
ولكن تنازع العلماء: هل يستحب أن يتكلم بذلك؟ كما تنازعوا: هل يستحب التلفظ بالنية في الصلاة؟ والصواب المقطوع به: أنه لا يستحب شيء من ذلك، فإن النبي ﷺ لم يشرع للمسلمين شيئًا من ذلك، ولا كان يتكلم قبل التكبير بشيء من ألفاظ النية، لا هو ولا أصحابه، بل لما أمر ضباعة بنت الزبير، بالاشتراط، قالت: فكيف أقول؟ قال: (قولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلي من الأرض حيث تحبسني). رواه أهل السنن، وصححه الترمذي، ولفظ النسائي: إني أريد الحج فكيف أقول؟ قال: (قولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلي من الأرض حيث تحبسني، فإن لَكِ على ربك ما استثنيتِ) وحديث الاشتراط في الصحيحين.
لكن المقصود بهذا اللفظ أنه أمرها بالاشتراط في التلبية، ولم يأمرها أن تقول قبل التلبية شيئًا، لا اشتراطًا ولا غيره، وكان يقول في تلبيته: (لبيك عمرة وحجا).وكان يقول للواحد من أصحابه: (بم أهللت؟). وقال في المواقيت: (مَهَلُّ أهل المدينة ذو الحُلَيفَة، ومهل أهل الشام الجُحْفَة، ومهل أهل اليمن يلَمْلَم، ومهل أهل نجد قرن المنازل، ومهل أهل العراق ذات عِْرق، ومن كان دونهن فمهله من أهله)، والإهلال هو التلبية، فهذا هو الذي شرع النبي ﷺ للمسلمين التكلم به في ابتداء الحج والعمرة، وإن كان مشروعًا بعد ذلك كما تشرع تكبيرة الإحرام، ويشرع التكبير بعد ذلك عند تغير الأحوال.
ولو أحرم إحرامًا مطلقًا جاز، فلو أحرم بالقصد للحج من حيث الجملة، ولا يعرف هذا التفصيل جاز.
ولو أهل ولبي كما يفعل الناس قاصدًا للنسك، ولم يسم شيئًا بلفظه ولا قصد بقلبه لا تمتعًا ولا إفرادًا، ولا قرانا صح حجه أيضًا، وفعل واحدًا من الثلاثة: فإن فعل ما أمر به النبي ﷺ أصحابه كان حسنًا، وإن اشترط على ربه خوفًا من العارض، فقال: وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، كان حسنًا، فإن النبي ﷺ أمر ابنة عمه ضباعة بنت الزبير ابن عبد المطلب أن تشترط على ربها، لما كانت شاكية، فخاف أن يصدها المرض عن البيت، ولم يكن يأمر بذلك كل من حج.
وكذلك إن شاء المُحْرِم أن يتطيب في بدنه فهو حسن، ولا يؤمر المُحْرِم قبل الإحرام بذلك، فإن النبي ﷺ فعله، ولم يأمر به الناس، ولم يكن النبي ﷺ يأمر أحدًا بعبارة بعينها، وإنما يقال: أَهَلَ بالحج، أَهَلَ بالعمرة، أو يقال: لبي بالحج، لبي بالعمرة، وهو تأويل قوله تعالى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [27].
وثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (من حج هذا البيت، فلم يرْفُث، ولم يفْسُق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). وهذا على قراءة من قرأ: { فلا رفثُ ولا فسوق } بالرفع، فالرفث: اسم للجماع قولا وعملا، والفسوق: اسم للمعاصي كلها، والجدال على هذه القراءة: هو المراء في أمر الحج. فإن الله قد أوضحه وبينه، وقطع المراء فيه، كما كانوا في الجاهلية يتمارون في أحكامه وعلى القراءة الأخرى قد يفسر بهذا المعني أيضًا، وقد فسروها بألا يماري الحاج أحدًا، والتفسير الأول أصح، فإن الله لم ينه المُحْرم ولا غيره عن الجدال مطلقًا، بل الجدال قد يكون واجبًا أو مستحبًا، كما قال تعالى: { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [28]، وقد يكون الجدال محرمًا في الحج وغيره كالجدال بغير علم. وكالجدال في الحق بعد ما تبين.
ولفظ الفسوق يتناول ما حرمه الله تعالى، ولا يختص بالسباب وإن كان سباب المسلم فسوقًا، فالفسوق يعم هذا وغيره.
والرفث هو الجماع، وليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنس الرفث، فلهذا ميز بينه وبين الفسوق.
وأما سائر المحظورات، كاللباس، والطيب، فإنه وإن كان يأثم بها، فلا تفسد الحج عند أحد من الأئمة المشهورين.
وينبغي للمحرم ألا يتكلم إلا بما يعنيه، وكان شُرَيح إذا أحرم كأنه الحية الصماء، ولا يكون الرجل محرمًا بمجرد ما في قلبه من قصد الحج، ونيته، فإن القصد مازال في القلب منذ خرج من بلده، بل لابد من قول أو عمل يصير به محرمًا؛ هذا هو الصحيح من القولين. والتجرد من اللباس واجب في الإحرام، وليس شرطًا فيه، فلو أحرم وعليه ثياب صح ذلك بسنة رسول الله ﷺ، وباتفاق أئمة أهل العلم، وعليه أن ينزع اللباس المحظور.
فصل يستحب أن يحرم عقيب صلاة
يستحب أن يحرم عقيب صلاة، إما فرض، وإما تطوع إن كان وقت تطوع في أحد القولين، وفي الآخر إن كان يصلي فرضًا أحرم عقيبه وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه، وهذا أرجح.
ويستحب أن يغتسل للإحرام، ولو كانت نفساء أو حائضًا، وإن احتاج إلى التنظيف: كتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، ونحو ذلك فعل ذلك. وهذا ليس من خصائص الإحرام، وكذلك لم يكن له ذكر فيما نقله الصحابة، لكنه مشروع بحسب الحاجة، وهكذا يشرع لمصلي الجمعة والعيد على هذا الوجه.
ويستحب أن يحرم في ثوبين نظيفين، فإن كانا أبيضين فهما أفضل، ويجوز أن يحرم في جميع أجناس الثياب المباحة؛ من القطن والكتان، والصوف.
والسنة أن يحرم في إزار ورداء، سواء كانا مخيطين، أو غير مخيطين، باتفاق الأئمة، ولو أحرم في غيرهما جاز، إذا كان مما يجوز لبسه، ويجوز أن يحرم في الأبيض، وغيره من الألوان الجائزة، وإن كان ملونًا.
والأفضل أن يحرم في نعلين إن تيسر، والنعل هي التي يقال لها: التاسومة، فإن لم يجد نعلين لبس خفين، وليس عليه أن يقطعهما دون الكعبين، فإن النبي ﷺ أمر بالقطع أولًا، ثم رخص بعد ذلك في عرفات في لبس السراويل، لمن لم يجد إزارًا، ورخص في لبس الخفين لمن لم يجد نعلين، وإنما رخص في المقطوع أولا؛ لأنه يصير بالقطع كالنعلين.
ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يلبس ما دون الكعبين؛ مثل الخف المكعب، والجمجم، والمداس، ونحو ذلك، سواء كان واجدًا للنعلين، أو فاقدًا لهما. وإذا لم يجد نعلين، ولا ما يقوم مقامهما، مثل الجمجم، والمداس، ونحو ذلك. فله أن يلبس الخف، ولا يقطعه، وكذلك إذا لم يجد إزارًا فإنه يلبس السراويل، ولا يفتقه، هذا أصح قولي العلماء؛ لأن النبي ﷺ رخص في البدل في عرفات كما رواه ابن عمر.
وكذلك يجوز أن يلبس كل ما كان من جنس الإزار والرداء، فله أن يلتحف بالقباء، والجبة، والقميص، ونحو ذلك، ويتغطي به باتفاق الأئمة عرضًا، ويلبسه مقلوبًا، يجعل أسفله أعلاه، ويتغطي باللحاف وغيره؛ ولكن لا يغطي رأسه إلا لحاجة، والنبي ﷺ نهي المحرم أن يلبس القميص، والبرنس، والسراويل، والخف، والعمامة. ونهاهم أن يغطوا رأس المحرم بعد الموت، وأمر من أحرم في جبة أن ينزعها عنه. فما كان من هذا الجنس فهو في معني ما نهي عنه النبي ﷺ، فما كان في معني القميص فهو مثله، وليس له أن يلبس القميص لا بكم، ولا بغير كم، وسواء أدخل فيه يديه، أو لم يدخلهما، وسواء كان سليمًا أو مخروقًا، وكذلك لا يلبس الجبة، ولا القباء الذي يدخل يديه فيه، وكذلك الدرع الذي يسمي: عرق جين، وأمثال ذلك باتفاق الأئمة.
وأما إذا طرح القباء على كتفيه، من غير إدخال يديه، ففيه نزاع. وهذا معني قول الفقهاء: لا يلبس. والمخيط ما كان من اللباس على قدر العضو، وكذلك لا يلبس ما كان في معني الخف: كالموق، والجورب، ونحو ذلك.
ولا يلبس ما كان في معني السراويل، كالتبان، ونحوه، وله أن يعقد ما يحتاج إلى عقده، كالإزار، وهميان النفقة، والرداء لا يحتاج إلى عقده، فلا يعقده، فإن احتاج إلى عقده ففيه نزاع، والأشبه جوازه حينئذ. وهل المنع من عقده منع كراهة أو تحريم، فيه نزاع، وليس على تحريم ذلك دليل، إلا ما نقل عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كره عقد الرداء. وقد اختلف المتبعون لابن عمر، فمنهم من قال: هو كراهة تنزيه كأبي حنيفة، وغيره، ومنهم من قال: كراهة تحريم.
وأما الرأس فلا يغطيه لا بمخيط ولا غيره، فلا يغطيه بعمامة، ولا قلنسوة، ولا كوفية، ولا ثوب يلصق به، ولا غير ذلك. وله أن يستظل تحت السقف، والشجر، ويستظل في الخيمة، ونحوه ذلك باتفاقهم. وأما الاستظلال بالمحمل؛ كالمحارة التي لها رأس في حال السير، فهذا فيه نزاع، والأفضل للمحرم أن يضحي لمن أحرم له، كما كان النبي ﷺ وأصحابه يحجون، وقد رأي ابن عمر رجلا ظُلِلَ عليه فقال: أيها المُحْرم، أضح لمن أحرمت له. ولهذا كان السلف يكرهون الق
باب على المحامل، وهي المحامل التي لها رأس، وأما المحامل المكشوفة فلم يكرهها إلا لبعض النساك، وهذا في حق الرجل.
وأما المرأة فإنها عورة، فلذلك جاز لها أن تلبس الثياب التي تستتر بها، وتستظل بالمحمل، لكن نهاها النبي ﷺ أن تنتقب، أو تلبس القفازين، والقفازان: غلاف يصنع لليد، كما يفعله حملة البزاة، ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق، وإن كان يمسه فالصحيح أنه يجوز أيضًا. ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه، لا بعود ولا بيد، ولا غير ذلك، فإن النبي ﷺ سوي بين وجهها ويديها، وكلاهما كبدن الرجل، لا كرأسه.
وأزواجه ﷺ كن يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة، ولم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي ﷺ أنه قال: إحرام المرأة في وجهها، وإنما هذا قول بعض السلف، لكن النبي ﷺ نهاها أن تنتقب، أو تلبس القفازين.
كما نهي المحرم أن يلبس القميص، والخف، مع أنه يجوز له أن يستر يديه ورجليه، باتفاق الأئمة، والبرقع أقوي من النقاب. فلهذا ينهي عنه باتفاقهم، ولهذا كانت المحرمة لا تلبس ما يصنع لستر الوجه، كالبرقع ونحوه، فإنه كالنقاب.
وليس للمحرم أن يلبس شيئًا مما نهى النبي ﷺ عنه إلا لحاجة، كما أنه ليس للصائم أن يفطر إلا لحاجة، والحاجة مثل البرد الذي يخاف أن يمرضه، إذا لم يغط رأسه، أو مثل مرض نزل به يحتاج معه إلى تغطية رأسه، فيلبس قدر الحاجة، فإذا استغنى عنه نزع.
عليه أن يفتدي: إما بصيام ثلاثة أيام، وإما بنسك شاة، أو بإطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من تمر، أو شعير، أو مُدٍّ من بر، وإن أطعمه خبزًا جاز، ويكون رطلين، بالعراقي، قريبًا من نصف رطل بالدمشقي، وينبغي أن يكون مأدومًا، وإن أطعمه مما يؤكل؛ كالبقسماط، والرقاق، ونحو ذلك جاز، وهو أفضل من أن يعطيه قمحًا أو شعيرًا، وكذلك في سائر الكفارات، إذا أعطاه مما يقتات به مع أدمه، فهو أفضل من أن يعطيه حبًا مجردًا إذا لم يكن عادتهم أن يطحنوا بأيديهم، ويخبزوا بأيديهم، والواجب في ذلك كله ما ذكره الله تعالى بقوله: { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } الآية [29]، فأمر الله تعالى بإطعام المساكين من أوسط ما يطعم الناس أهليهم.
وقد تنازع العلماء في ذلك، هل ذلك مقدر بالشرع، أو يرجع فيه إلى العرف، وكذلك تنازعوا في النفقة؛ نفقة الزوجة. والراجح في هذا كله أن يرجع فيه إلى العرف، فيطعم كل قوم مما يطعمون أهليهم، ولما كان كعب بن عُجْرَة ونحوه يقتاتون التمر، أمره النبي ﷺ أن يطعم فرقًا من التمر بين ستة مساكين، والفرق ستة عشر رطلا بالبغدادي.
وهذه الفدية يجوز أن يخرجها إذا احتاج إلى فعل المحظور قبله وبعده، ويجوز أن يذبح النسك قبل أن يصل إلى مكة ويصوم الأيام الثلاثة متتابعة إن شاء، ومتفرقة إن شاء. فإن كان له عذر أخر فعلها، وإلا عجل فعلها.
وإذا لبس، ثم لبس مرارًا، ولم يكن أدي الفدية أجزأته فدية واحدة في أظهر قولي العلماء.
فصل في التلبية
فإذا أحرم لبي بتلبية رسول الله ﷺ: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). وإن زاد على ذلك: لبيك ذا المعارج، أو لبيك وسعديك، ونحو ذلك، جاز كما كان الصحابة يزيدون، ورسول الله ﷺ يسمعهم، فلم ينههم، وكان هو يداوم على تلبيته، ويلبي من حين يحرم، سواء ركب دابة، أو لم يركبها، وإن أحرم بعد ذلك جاز.
والتلبية هي: إجابة دعوة الله تعالى لخلقه، حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم ﷺ، والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره، كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلبته. والمعني: إنا مجيبوك لدعوتك؛ مستسلمون لحكمتك، مطيعون لأمرك مرة بعد مرة، لا نزال على ذلك، والتلبية شعار الحج، فأفضل الحج العَجُّ والثَجُّ، فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة دماء الهدي.
ولهذا يستحب رفع الصوت بها للرجل، بحيث لا يجهد نفسه، والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع رفيقتها، ويستحب الإكثار منها عند اختلاف الأحوال، مثل أدبار الصلوات، ومثل ما إذا صعد نشزًا، أو هبط واديًا، أو سمع ملبيًا أو أقبل الليل، والنهار، أو التقت الرفاق، وكذلك إذا فعل ما نهى عنه، وقد روي أنه من لبي حتى تغرب الشمس، فقد أمسي مغفورًا له.
وإن دعا عقيب التلبية، وصلي على النبي ﷺ، وسأل الله رضوانه، والجنة، واستعاذ برحمته من سخطه، والنار، فحسن.
فصل فيما ينهى عنه المحرم
ومما ينهى عنه المحرم: أن يتطيب بعد الإحرام في بدنه أو ثيابه أو يتعمد لشم الطيب، وأما الدهن في رأسه، أو بدنه، بالزيت والسمن، ونحوه إذا لم يكن فيه طيب، ففيه نزاع مشهور، وتركه أولى.
ولا يقلم أظفاره، ولا يقطع شعره. وله أن يحك بدنه إذا حكه، ويحتجم في رأسه، وغير رأسه، وإن احتاج أن يحلق شعرًا لذلك جاز، فإنه قد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ احتجم في وسط رأسه، وهو محرم. ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر.
وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره وإن تيقن أنه انقطع بالغسل، ويفتصد إذا احتاج إلى ذلك، وله أن يغتسل من الجنابة بالاتفاق، وكذلك لغير الجنابة، ولا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب، ولا يصطاد صيدًا بريًا، ولا يتملكه بشراء، ولا اتهاب، ولا غير ذلك، ولا يعين على صيد ولا يذبح صيدًا، فأما صيد البحر كالسمك ونحوه، فله أن يصطاده، ويأكله.
وله أن يقطع الشجر، لكن نفس الحرم لا يقطع شيئًا من شجره، وإن كان غير محرم، ولا من نباته المباح، إلا الإذْخِر، وأمَّا ما غرس الناس، أو زرعوه، فهو لهم، وكذلك ما يبس من النبات، يجوز أخذه، ولا يصطاد به صيدًا، وإن كان من الماء كالسمك على الصحيح، بل ولا ينفر صيده؛ مثل أن يقيمه ليقعد مكانه.
وكذلك حرم مدينة رسول الله ﷺ، وهو ما بين لابيتها و[30] هي الحرة، وهي الأرض التي فيها حجارة سود، وهو بريد في بريد. والبريد: أربعة فراسخ، وهو من عير إلى ثور، وعير: هو جبل عند الميقات يشبه العير، وهو الحمار، وثور: هو جبل من ناحية أحد، وهو غير جبل ثور الذي بمكة؛ فهذا الحرم - أيضًا - لا يصاد صيده ولا يقطع شجره، إلا لحاجة كآلة الركوب، والحرث، ويؤخذ من حشيشه ما يحتاج إليه للعلف، فإن النبي ﷺ رخص لأهل المدينة في هذا لحاجتهم إلى ذلك؛ إذ ليس حولهم ما يستغنون به عنه، بخلاف الحرم المكي. وإذا أدخل عليه صيد لم يكن عليه إرساله.
وليس في الدينا حرم لا بيت المقدس، ولا غيره، إلا هذان الحرمان، ولا يسمي غيرهما حرمًا كما يسمي الجهال. فيقولون: حرم المقدس، وحرم الخليل. فإن هذين وغيرهما ليسا بحرم باتفاق المسلمين، والحرم المجمع عليه حرم مكة. وأما المدينة فلها حرم - أيضًا - عند الجمهور، كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي ﷺ، ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث إلا في وج، وهو واد بالطائف، وهو عند بعضهم حرم، وعند الجمهور ليس بحرم.
وللمحرم أن يقتل ما يؤذي بعادته الناس؛ كالحية، والعقرب، والفأرة، والغراب، والكلب العقور، وله أن يدفع ما يؤذيه من الآدميين، والبهائم، حتى لو صال عليه أحد، ولم يندفع إلا بالقتال قَاتَلَهُ، فإن النبي ﷺ قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد).
وإذا قرصته البراغيث والقمل فله إلقاؤها عنه، وله قتلها، ولا شيء عليه، وإلقاؤها أهون من قتلها، وكذلك ما يتعرض له من الدواب فينهى عن قتله، وإن كان في نفسه محرمًا كالأسد، والفهد، فإذا قتله فلا جزاء عليه، في أظهر قولي العلماء، وأما التفلي بدون التأذي فهو من الترفه فلا يفعله، ولو فعله فلا شيء عليه.
ويحرم على المحرم الوطء، ومقدماته، ولا يطأ شيئًا سواء كان امرأة ولا غير امرأة، ولا يتمتع بقبلة، ولا مس بيد ولا نظر بشهوة.
فإن جامع فسد حجه، وفي الإنزال بغير جماع نزاع، ولا يفسد الحج بشيء من المحظورات إلا بهذا الجنس، فإن قَبَّل بشهوة أو أمذي لشهوة فعليه دم.
فصل في دخول مكة والمسجد
إذا أتي مكة جاز أن يدخل مكة والمسجد من جميع الجوانب، لكن الأفضل أن يأتي من وجه الكعبة اقتداء بالنبي ﷺ، فإنه دخلها من وجهها من الناحية العليا التي فيها اليوم باب المعلاة.
ولم يكن على عهد النبي ﷺ لمكة ولا للمدينة سور، ولا أبواب مبنية، ولكن دخلها من الثنية العليا ثنية كَداء بالفتح والمد المشرفة على المقبرة، ودخل المسجد من الباب الأعظم الذي يقال له: باب بني شيبة، ثم ذهب إلى الحجر الأسود، فإن هذا أقرب الطرق إلى الحجر الأسود لمن دخل من باب المعلاة.
ولم يكن قديمًا بمكة بناء يعلو على البيت، ولا كان فوق الصفا والمروة والمشعر الحرام بناء، ولا كان بمنى ولا بعرفات مسجد، ولا عند الجمرات مساجد، بل كل هذه محدثة بعد الخلفاء الراشدين، ومنها ما أحدث بعد الدولة الأموية، ومنها ما أحدث بعد ذلك، فكان البيت يري قبل دخول المسجد.
وقد ذكر ابن جرير أن النبي ﷺ كان إذا رأي البيت رفع يديه وقال: (اللهم زد هذا البيت تشريفًا، وتعظيمًا، وتكريمًا، ومهابة وبرًا، وزد من شرفه وكرمه، ممن حجه أو اعتمره تشريفًا وتعظيمًا). فمن رأي البيت قبل دخول المسجد فعل ذلك، وقد استحب ذلك من استحبه عند رؤية البيت، ولو كان بعد دخول المسجد.
لكن النبي ﷺ بعد أن دخل المسجد ابتدأ بالطواف ولم يصل قبل ذلك تحية المسجد، ولا غير ذلك، بل تحية المسجد الحرام هو الطواف بالبيت، وكان ﷺ يغتسل لدخول مكة، كما يبيت بذي طُوَي، وهو عند الآبار التي يقال لها: آبار الزاهر. فمن تيسر له المبيت بها، والاغتسال، ودخول مكة نهارًا وإلا فليس عليه شيء من ذلك.
وإذا دخل المسجد بدأ بالطواف، فيبتدئ من الحجر الأسود يستقبله استقبالا، ويستلمه، ويقبله إن أمكن، ولا يؤذي أحدًا بالمزاحمة عليه، فإن لم يمكن استلمه، وقبل يده، وإلا أشار إليه، ثم ينتقل للطواف، ويجعل البيت عن يساره، وليس عليه أن يذهب إلى ما بين الركنين، ولا يمشي عرضًا، ثم ينتقل للطواف، بل ولا يستحب ذلك.
ويقول إذا استلمه: بسم الله، والله أكبر، وإن شاء قال: اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد ﷺ. ويجعل البيت عن يساره، فيطوف سبعًا، ولا يخترق الحجر في طوافه، لما كان أكثر الحجر من البيت، والله أمر بالطواف به، لا بالطواف فيه.
ولا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين، دون الشاميين، فإن النبي ﷺ إنما استلمهما خاصة، لأنهما على قواعد إبراهيم، والآخران هما في داخل البيت. فالركن الأسود يستلم ويقبل، واليماني يستلم ولا يقبل، والآخران لا يستلمان ولا يقبلان. والاستلام هو مسحه باليد. وأما سائر جوانب البيت، ومقام إبراهيم، وسائر ما في الأرض من المساجد، وحيطانها، ومقابر الأنبياء، والصالحين، كحجرة نبينا ﷺ، ومغارة إبراهيم، ومقام نبينا ﷺ الذي كان يصلي فيه، وغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، وصخرة بيت المقدس، فلا تستلم، ولا تقبل، باتفاق الأئمة.
وأما الطواف بذلك فهو من أعظم البدع المحرمة، ومن اتخذه، دينًا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولو وضع يده على الشاذروان الذي يربط فيه أستار الكعبة لم يضره ذلك، في أصح قولي العلماء، وليس الشاذروان من البيت، بل جعل عمادًا للبيت.
ويستحب له في الطواف الأول أن يرمل من الحَجَر إلى الحَجَر، في الأطواف الثلاثة، والرمل مثل الهرولة، وهو مسارعة المشي مع تقارب الخطا، فإن لم يكن الرمل للزحمة كان خروجه إلى حاشية المطاف، والرمل أفضل من قربه إلى البيت بدون الرمل. وأما إذا أمكن القرب من البيت مع إكمال السنة فهو أولى.
ويجوز أن يطوف من وراء قبة زمزم، وما وراءها من السقائف المتصلة بحيطان المسجد.
ولو صلى المصلي في المسجد والناس يطوفون أمامه لم يكره، سواء مر أمامه رجل، أو امرأة، وهذا من خصائص مكة.
وكذلك يستحب أن يضطبع في هذا الطواف، والاضطباع: هو أن يبدي ضبعه الأيمن، فيضع وسط الرداء تحت إبطه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، وإن ترك الرمل والاضطباع فلا شيء عليه.
ويستحب له في الطواف أن يذكر الله تعالى، ويدعوه بما يشرع، وإن قرأ القرآن سرًا فلا بأس، وليس فيه ذكر محدود عن النبي ﷺ، لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب، ونحو ذلك فلا أصل له. وكان النبي ﷺ يختم طوافه بين الركنين بقوله: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [31]، كما كان يختم سائر دعائه بذلك، وليس في ذلك ذكر واجب باتفاق الأئمة، والطواف بالبيت كالصلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير.
ولهذا يؤمر الطائف أن يكون متطهرًا الطهارتين الصغري والكبري ويكون مستور العورة، مجتنب النجاسة التي يجتنبها المصلي والطائف طاهرًا، لكن في وجوب الطهارة في الطواف نزاع بين العلماء، فإنه لم ينقل أحد عن النبي ﷺ أنه أمر بالطهارة للطواف ولا نهى المحدث أن يطوف، ولكنه طاف طاهرًا، لكنه ثبت عنه أنه نهى الحائض عن الطواف. وقد قال النبي ﷺ: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم). فالصلاة التي أوجب لها الطهارة ما كان يفتتح بالتكبير، ويختم بالتسليم، كالصلاة التي فيها ركوع وسجود، كصلاة الجنازة، وسجدتي السهو، وأما الطواف، وسجود التلاوة فليسا من هذا.
والاعتكاف يشترط له المسجد، ولا يشترط له الطهارة بالاتفاق، والمعتكفة الحائض تنهى عن اللبث في المسجد مع الحيض، وإن كانت تلبث في المسجد وهي محدثة.
قال أحمد بن حنبل في مناسك الحج لابنه عبد الله: حدثنا سهل بن يوسف، أنبأنا شعبة، عن حماد، ومنصور قال: سألتهما عن الرجل يطوف بالبيت وهو غير متوضئ. فلم يريا به بأسًا. قال عبد الله: سألت أبي عن ذلك، فقال: أحب إلى ألا يطوف بالبيت وهو غير متوضئ؛ لأن الطواف بالبيت صلاة. وقد اختلفت الرواية عن أحمد في اشتراط الطهارة فيه، ووجوبها، كما هو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، لكن لا يختلف مذهب أبي حنيفة أنها ليست بشرط.
ومن طاف في جورب ونحوه؛ لئلا يطأ نجاسة من ذرق الحمام، أو غطي يديه لئلا يمس امرأة، ونحو ذلك، فقد خالف السنة، فإن النبي ﷺ وأصحابه والتابعين مازالوا يطوفون بالبيت وما زال الحمام بمكة، لكن الاحتياط حسن، ما لم يخالف السنة المعلومة فإذا أفضي إلى ذلك كان خطأ.
واعلم أن القول الذي يتضمن مخالفة السنة خطأ، كمن يخلع نعليه في الصلاة المكتوبة، أو صلاة الجنازة خوفًا من أن يكون فيهما نجاسة، فإن هذا خطأ مخالف للسنة. فإن النبي ﷺ كان يصلي في نعليه، وقال: (إن إليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم)، وقال: (إذا أتي المسجد أحدكم فينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذي فليدلكهما في التراب، فإن التراب لهما طهور).
وكما يجوز أن يصلي في نعليه، فكذلك يجوز أن يطوف في نعليه، وإن لم يمكنه الطواف ماشيا فطاف راكبًا. أو محمولا أجزأه بالاتفاق، وكذلك ما يعجز عنه من واجبات الطواف، مثل من كان به نجاسة لا يمكنه إزالتها كالمستحاضة، ومن به سلس البول، فإنه يطوف ولا شيء عليه باتفاق الأئمة. وكذلك لو لم يمكنه الطواف إلا عريانا فطاف بالليل، كما لو لم يمكنه الصلاة إلا عريانا.
وكذلك المرأة الحائض إذا لم يمكنها طواف الفرض إلا حائضًا، بحيث لا يمكنها التأخر
بمكة، ففي أحد قولي العلماء الذين يوجبون الطهارة على الطائف: إذا طافت الحائض أو الجنب أو المحدث أو حامل النجاسة مطلقًا، أجزأه الطواف، وعليه دم؛ إما شاة، وإما بدنة مع الحيض والجنابة، وشاة مع الحدث الأصغر.
ومنع الحائض من الطواف قد يعلل بأنه يشبه الصلاة، وقد يعلل بأنها ممنوعة من المسجد، كما تمنع منه بالاعتكاف، وكما قال عز وجل لإبراهيم عليه والسلام: { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [32]، فأمره بتطهيره لهذه العبادات، فمنعت الحائض من دخوله، وقد اتفق العلماء على أنه لا يجب للطواف ما يجب للصلاة من تحريم وتحليل وقراءة، وغير ذلك، ولا يبطله ما يبطلها من الأكل والشرب والكلام، وغير ذلك.
ولهذا كان مقتضي تعليل من منع الحائض لحرمة المسجد، أنه لا يري الطهارة شرطا، بل مقتضي قوله أنه يجوز لها ذلك عند الحاجة كما يجوز لها دخول المسجد عند الحاجة، وقد أمر الله تعالى بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود. والعاكف فيه لا يشترط له الطهارة ولا تجب عليه الطهارة من الحدث الأصغر، باتفاق المسلمين، ولو اضطرت العاكفة الحائض إلى لبثها فيه للحاجة جاز ذلك. وأما { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فهم المصلون، والطهارة شرط للصلاة باتفاق المسلمين، والحائض لا تصلي، لا قضاءً ولا أداءً.
يبقي الطائف، هل يلحق بالعاكف، أو بالمصلي، أو يكون قسما ثالثا بينها؟هذا محل اجتهاد.
وقوله: (الطواف بالبيت صلاة) لم يثبت عن النبي ﷺ، ولكن هو ثابت عن ابن عباس، وقد روي مرفوعًا، ونقل بعض الفقهاء عن ابن عباس أنه قال: (إذا طاف بالبيت وهو جنب عليه دم). ولا ريب أن المراد بذلك أنه يشبه الصلاة من بعض الوجوه، ليس المراد أنه نوع من الصلاة التي يشترط لها الطهارة. وهكذا قوله: (إذا أتي أحدكم المسجد فلا يشبك بين أصابعه، فإنه في صلاة)، وقوله: (إن العبد في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، وما دام ينتظر الصلاة، وما كان يعمد إلى الصلاة) ونحو ذلك.
فلا يجوز لحائض أن تطوف إلا طاهرة إذا أمكنها ذلك باتفاق العلماء، ولو قدمت المرأة حائضًا لم تطف بالبيت، لكن تقف بعرفة، وتفعل سائر المناسك كلها مع الحيض، إلا الطواف، فإنها تنتظر حتى تطهر إن أمكنها ذلك، ثم تطوف، وإن اضطرت إلى الطواف فطافت أجزأها ذلك، على الصحيح من قولي العلماء.
فإذا قضي الطواف صلى ركعتين للطواف، وإن صلاهما عند مقام إبراهيم فهو أحسن، ويستحب أن يقرأ فيهما بسورتي الإخلاص: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }، ثم إذا صلاهما استحب له أن يستلم الحجر، ثم يخرج إلى الطواف بين الصفا والمروة. ولو أخر ذلك إلى بعد طواف الإفاضة جاز.
فإن الحج فيه ثلاثة أطوفة: طواف عند الدخول، وهو يسمي: طواف القدوم، والدخول، والورود. والطواف الثاني: هو بعد التعريف، ويقال له: طواف الإفاضة، والزيارة. وهو طواف الفرض الذي لابد منه، كما قال تعالى: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [33]. والطواف الثالث: هو لمن أراد الخروج من مكة، وهو طواف الوداع.
وإذا سعي عقيب واحد منها أجزأه، فإذا خرج للسعي خرج من باب الصفا. وكان النبي ﷺ يرقي على الصفا والمروة، وهما في جانب جبلي مكة، فيكبر ويهلل، يدعو الله تعالي، واليوم قد بني فوقهما دكتان، فمن وصل إلى أسفل البناء أجزأه السعي، وإن لم يصعد فوق البناء، فيطوف بالصفا والمروة سبعًا يبتدئ بالصفا ويختم بالمروة، ويستحب أن يسعي في بطن الوادي من العلم إلى العلم، وهما معلمان هناك. وإن لم يسْعَ في بطن الوادي، بل مشي على هيئته جميع ما بين الصفا والمروة، أجزأه باتفاق العلماء، ولا شيء عليه.
ولا صلاة عقيب الطواف بالصفا والمروة، وإنما الصلاة عقيب الطواف بالبيت بسنة رسول الله ﷺ، واتفاق السلف والأئمة.
فإذا طاف بين الصفا والمروة حل من إحرامه، كما أمر النبي ﷺ أصحابه لما طافوا بهما أن يحلوا، إلا من كان معه هدي فلا يحل حتى ينحره، والمفرد والقارن لا يحلان إلا يوم النحر، ويستحب له أن يقصر من شعره ليدع الحلاق للحج، وكذلك أمرهم النبي ﷺ. وإذا أحل حل له ما حرم عليه بالإحرام.
فصل فيما يفعله الحاج يوم التروية ويوم عرفة
فإذا كان يوم التروية، أحرم وأهل بالحج، فيفعل كما فعل عند الميقات، وإن شاء أحرم من مكة، وإن شاء من خارج مكة، هذا هو الصواب. وأصحاب النبي ﷺ إنما أحرموا كما أمرهم النبي ﷺ من البطحاء، والسنة أن يحرم من الموضع الذي هو نازل فيه، وكذلك المكي يحرم من أهله، كما قال النبي ﷺ: (من كان منزله دون مكة فمهلُّه من أهله، حتى أهل مكة يهلون من مكة).
والسنة أن يبيت الحاج بمنى؛ فيصلون بها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء والفجر، ولا يخرجون منها حتى تطلع الشمس، كما فعل النبي ﷺ.
وأما الإيقاد فهو بدعة مكروهة باتفاق العلماء. وإنما الإيقاد بمزدلفة خاصة بعد الرجوع من عرفة، وأما الإيقاد بمنى أو عرفة فبدعة أيضًا.
ويسيرون منها إلى نمرة على طريق ضب، من يمين الطريق، و[34] كانت قرية خارجة عن عرفات من جهة اليمين، فيقيمون بها إلى الزوال، كما فعل النبي ﷺ، ثم يسيرون منها إلى بطن الوادي، وهو موضع النبي ﷺ؛ الذي صلى فيه الظهر والعصر، وخطب، وهو في حدود عرفة ببطن عرنة. وهناك مسجد يقال له: مسجد إبراهيم، وإنما بني في أول دولة بني العباس.
فيصلي هناك الظهر والعصر قصرًا، كما فعل النبي ﷺ، ويصلي خلفه جميع الحاج: أهل مكة وغيرهم قصرًا وجمعا، يخطب بهم الإمام كما خطب النبي ﷺ على بعيره، ثم إذا قضي الخطبة أذن المؤذن وأقام، ثم يصلي كما جاءت بذلك السنة، ويصلي بعرفة ومزدلفة ومنى قصرًا، ويقصر أهل مكة وغير أهل مكة.
وكذلك يجمعون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى، كما كان أهل مكة يفعلون خلف النبي ﷺ بعرفة ومزدلفة ومنى، وكذلك كانوا يفعلون خلف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يأمر النبي ﷺ ولا خلفاؤه أحدًا من أهل مكة أن يتموا الصلاة، ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومنى أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر، ومن حكي ذلك عنهم فقد أخطأ، ولكن المنقول عن النبي ﷺ أنه قال ذلك في غزوة الفتح، لما صلى بهم بمكة.
وأما في حجه، فإنه لم ينزل بمكة، ولكن كان نازلا خارج مكة، وهناك كان يصلي بأصحابه، ثم لما خرج إلى منى وعرفة خرج معه أهل مكة وغيرهم، ولما رجع من عرفة رجعوا معه، ولما صلى بمنى أيام منى صلوا معه، ولم يقل لهم: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ولم يحد النبي ﷺ السفر لا بمسافة، ولا بزمان، ولم يكن بمنى أحد ساكنًا في زمنه؛ ولهذا قال: (منى مناخ من سبق)، ولكن قيل: إنها سكنت في خلافة عثمان، وأنه بسبب ذلك أتم عثمان الصلاة ؛ لأنه كان يري أن المسافر من يحمل الزاد والمزاد.
ثم بعد ذلك يذهب إلى عرفات. فهذه السنة، لكن في هذه الأوقات لا يكاد يذهب أحد إلى نمرة. ولا إلى مصلي النبي ﷺ، بل يدخلون عرفات بطريق المأزمين، ويدخلونها قبل الزوال، ومنهم من يدخلها ليلا، ويبيتون بها قبل التعريف، وهذا الذي يفعله الناس كله يجزي معه الحج، لكن فيه نقص عن السنة، فيفعل ما يمكن من السنة مثل الجمع بين الصلاتين، فيؤذن أذانا واحدًا ويقيم لكل صلاة، والإيقاد بعرفة بدعة مكروهة، وكذلك الإيقاد بمنى بدعة، باتفاق العلماء، وإنما يكون الإيقاد بمزدلفة خاصة في الرجوع.
ويقفون بعرفات إلى غروب الشمس، ولا يخرجون منها حتى تغرب الشمس، وإذا غربت الشمس يخرجون إن شاؤوا بين العلمين، وإن شاؤوا من جانبيهما. والعلمان الأولان حد عرفة، فلا يجاوزونهما حتى تغرب الشمس، والميلان بعد ذلك حد مزدلفة، وما بينهما بطن عرفة.
ويجتهد في الذكر والدعاء هذه العشية، فإنه ما رؤي إبليس في يوم هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أغيظ ولا أدحض من عشية عرفة، لما يري من تنزيل الرحمة، وتجاوز الله سبحانه عن الذنوب العظام، إلا ما رؤي يوم بدر، فإنه رأي جبريل يزع الملائكة.
ويصح وقوف الحائض، وغير الحائض.
ويجوز الوقوف ماشيا، وراكبًا. وأما الأفضل فيختلف باختلاف الناس، فإن كان ممن إذا ركب رآه الناس لحاجتهم إليه، أو كان يشق عليه ترك الركوب وقف راكبًا، فإن النبي ﷺ وقف راكبًا.
وهكذا الحج، فإن من الناس من يكون حجه راكبًا أفضل، ومنهم من يكون حجه ماشيا أفضل، ولم يعين النبي ﷺ لعرفة دعاء، ولا ذكرًا، بل يدعو الرجل بما شاء من الأدعية الشرعية، وكذلك يكبر ويهلل ويذكر الله تعالى حتى تغرب الشمس.
والاغتسال لعرفة قد روي في حديث عن النبي ﷺ، وروي عن ابن عمر، وغيره، ولم ينقل عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال: غسل الإحرام، والغسل عند دخول مكة، والغسل يوم عرفة. وما سوي ذلك كالغسل لرمي الجمار، وللطواف، والمبيت بمزدلفة فلا أصل له، لا عن النبي ﷺ، ولا عن أصحابه، ولا استحبه جمهور الأئمة؛ لا مالك، ولا أبوحنيفة، ولا أحمد، وإن كان قد ذكره طائفة من متأخرى أصحابه، بل هو بدعة إلا أن يكون هناك سبب يقتضي الاستحباب، مثل أن يكون عليه رائحة يؤذي الناس بها، فيغتسل لإزالتها.
وعرفة كلها موقف، ولا يقف ببطن عرنة، وأما صعود الجبل الذي هناك فليس من السنة، ويسمي جبل الرحمة، ويقال له إلال على وزن هلال، وكذلك القبة التي فوقه التي يقال: لها قبة آدم، لا يستحب دخولها، ولا الصلاة فيها. والطواف بها من الكبائر، وكذلك المساجد التي عند الجمرات لا يستحب دخول شيء منها، ولا الصلاة فيها. وأما الطواف بها أو بالصخرة، أو بحجرة النبي ﷺ، وما كان غير البيت العتيق، فهو من أعظم البدع المحرمة.
فصل في الدفع إلى المزدلفة والمبيت بها
فإذا أفاض من عرفات ذهب إلى المشعر الحرام على طريق المأزمين وهو طريق الناس اليوم، وإنما قال الفقهاء: على طريق المأزمين؛ لأنه إلى عرفة طريق أخرى تسمي طريق ضب، ومنها دخل النبي ﷺ إلى عرفات، وخرج على طريق المأزمين.
وكان ﷺ في المناسك والأعياد يذهب من طريق ويرجع من أخري، فدخل من الثنية العليا، وخرج من الثنية السفلي. ودخل المسجد من باب بني شيبة، وخرج بعد الوداع من
باب جزورة اليوم. ودخل إلى عرفات من طريق ضب، وخرج من طريق المأزمين وأتي إلى جمرة العقبة يوم العيد من الطريق الوسطي التي يخرج منها إلى خارج منى، ثم يعطف على يساره إلى الجمرة، ثم لما رجع إلى موضعه بمنى الذي نحر فيه هديه، وحلق رأسه، رجع من الطريق المتقدمة التي يسير منها جمهور الناس اليوم.
فيؤخر المغرب إلى أن يصليها مع العشاء بمزدلفة، ولا يزاحم الناس، بل إن وجد خلوة أسرع، فإذا وصل إلى المزدلفة صلى المغرب قبل تبريك الجمال إن أمكن، ثم إذا بركوها صلوا العشاء، وإن أخر العشاء لم يضر ذلك، ويبيت بمزدلفة، ومزدلفة كلها يقال لها: المشعر الحرام، وهي ما بين مأزمي عرفة إلى بطن محسر.
فإن بين كل مشعرين حدًا ليس منهما، فإن بين عرفة ومزدلفة بطن عرنة، وبين مزدلفة ومنى بطن محسر. قال النبي ﷺ: (عرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة، ومزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن محسر، ومنى كلها منحر، وفجاج مكة كلها طريق).
والسنة أن يبيت بمزدلفة إلى أن يطلع الفجر، فيصلي بها الفجر في أول الوقت، ثم يقف بالمشعر الحرام إلى أن يسفر جدًا قبل طلوع الشمس، فإن كان من الضعفة كالنساء والصبيان ونحوهم فإنه يتعجل من مزدلفة إلى منى إذا غاب القمر، ولا ينبغي لأهل القوة أن يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع الفجر، فيصلوا بها الفجر، ويقفوا بها، ومزدلفة كلها موقف، لكن الوقوف عند قزح أفضل، وهو جبل الميقدة، وهو المكان الذي يقف فيه الناس اليوم. وقد بني عليه بناء، وهو المكان الذي يخصه كثير من الفقهاء باسم المشعر الحرام.
فإذا كان قبل طلوع الشمس أفاض من مزدلفة إلى منى، فإذا أتي محسرًا أسرع قدر رمية بحجر، فإذا أتي منى رمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ويرفع يده في الرمي، وهي الجمرة التي هي آخر الجمرات من ناحية منى، وأقربهن من مكة، وهي الجمرة الكبري، ولا يرمي يوم النحر غيرها، يرميها مستقبلا لها يجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، هذا هو الذي صح عن النبي ﷺ فيها، ويستحب أن يكبر مع كل حصاة، وإن شاء قال مع ذلك: اللهم اجعله حجًا مبرورًا، وسعيا مشكورا، وذنبًا مغفورا، ويرفع يديه في الرمي.
ولا يزال يلبي في ذهابه من مشعر إلى مشعر، مثل ذهابه إلى عرفات، وذهابه من عرفات إلى مزدلفة، حتى يرمي جمرة العقبة، فإذا شرع في الرمي قطع التلبية، فإنه حينئذ يشرع في التحلل.
والعلماء في التلبية على ثلاثة أقوال: منهم من يقول: يقطعها إذا وصل إلى عرفة. ومنهم من يقول: بل يلبي بعرفة وغيرها إلى أن يرمي الجمرة. والقول الثالث: أنه إذا أفاض من عرفة إلى مزدلفة لبي، وإذا أفاض من مزدلفة إلى منى لبي حتى يرمي جمرة العقبة، وهكذا صح عن النبي ﷺ.
فصل فيما يفعل يوم النحر
وأما التلبية في وقوفه بعرفة، ومزدلفة، فلم ينقل عن النبي ﷺ، وقد نقل عن الخلفاء الراشدين وغيرهم أنهم كانوا يلبون بعرفة، فإذا رمي جمرة العقبة نحر هديه إن كان معه هدي، ويستحب أن تنحر الإبل مستقبلة القبلة، قائمة، معقولة اليد اليسري، والبقر والغنم يضجعها على شقها الأيسر، مستقبلا بها القبلة، ويقول: بسم الله، والله أكبر، اللهم منك ولك، اللهم تقبل منى، كما تقبلت من إبراهيم خليلك.
وكل ما ذبح بمنى، وقد سيق من الحل إلى الحرم فإنه هدي، سواء كان من الإبل، أو البقر أو الغنم، ويسمي أيضا أضحية، بخلاف ما يذبح يوم النحر بالحل، فإنه أضحية، وليس بهدي. وليس بمنى ما هو أضحية وليس بهدي، كما في سائر الأمصار. فإذا اشتري الهدي من عرفات وساقه إلى منى فهو هدي باتفاق العلماء، وكذلك إن اشتراه من الحرم فذهب به إلى التنعيم، وأما إذا اشتري الهدي من منى وذبحه فيها، ففيه نزاع؛ فمذهب مالك أنه ليس بهدي، وهو منقول عن ابن عمر، ومذهب الثلاثة أنه هدي، وهو منقول عن عائشة.
وله أن يأخذ الحصي من حيث شاء، لكن لا يرمي بحصي قد رمي به، ويستحب أن يكون فوق الحمص، ودون البندق، وإن كسره جاز. والتقاط الحصي أفضل من تكسيره من الجبل.
ثم يحلق رأسه، أو يقصره، والحلق أفضل من التقصير، وإذا قصره جمع الشعر وقص منه بقدر الأنملة، أو أقل، أو أكثر، والمرأة لا تقص أكثر من ذلك. وأما الرجل فله أن يقصر ما شاء.
وإذا فعل ذلك فقد تحلل باتفاق المسلمين التحلل الأول، فيلبس الثياب، ويقلم أظفاره، وكذلك له على الصحيح أن يتطيب، ويتزوج، وأن يصطاد، ولا يبقي عليه من المحظورات إلا النساء.
وبعد ذلك يدخل مكة فيطوف طواف الإفاضة، إن أمكنه ذلك يوم النحر وإلا فعله بعد ذلك، لكن ينبغي أن يكون في أيام التشريق، فإن تأخيره عن ذلك فيه نزاع. ثم يسعي بعد ذلك سعي الحج، وليس على المُفْرِد إلا سعي واحد، وكذلك القارن عند جمهور العلماء، وكذلك المتمتع في أصح أقوالهم، وهو أصح الروايتين عند أحمد، وليس عليه إلا سعي واحد، فإنه الصحابة الذين تمتعوا مع النبي ﷺ لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة قبل التعريف.
فإذا اكتفي المتمتع بالسعي الأول أجزأه ذلك، كما يجزئ المفرد، والقارن، وكذلك قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قيل لأبي: المتمتع كم يسعي بين الصفا والمروة؟ قال: إن طاف طوافين يعني بالبيت، وبين الصفا والمروة فهو أجود، وإن طاف طوافا واحدا فلا بأس، وإن طاف طوافين فهو أعجب إلي. وقال أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، أنه كان يقول: المفرد والمتمتع يجزئه طواف بالبيت، وسعي بين الصفا والمروة.
وقد اختلفوا في الصحابة المتمتعين مع النبي ﷺ مع اتفاق الناس على أنهم طافوا أولا بالبيت، وبين الصفا والمروة لما رجعوا من عرفة، قيل: إنهم سعوا أيضا بعد طواف الإفاضة، وقيل: لم يسعوا، وهذا هو الذي ثبت في صحيح مسلم عن جابر، قال: لم يطف النبي ﷺ وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدًا، طوافه الأول. وقد روي في حديث عائشة أنهم طافوا مرتين. لكن هذه الزيادة قيل: إنها من قول الزهري، لا من قول عائشة، وقد احتج بها بعضهم على أنه يستحب طوافان بالبيت، وهذا ضعيف. والأظهر ما في حديث جابر. ويؤيده قوله: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة). فالمتمتع من حين أحرم بالعمرة دخل بالحج، لكنه فصل بتحلل ليكون أيسر على الحاج، وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة.
ولا يستحب للمتمتع ولا لغيره أن يطوف للقدوم بعد التعريف، بل هذا الطواف هو السنة في حقه، كما فعل الصحابة مع النبي ﷺ، فإذا طاف طواف الإفاضة، فقد حل له كل شيء، النساء وغير النساء.
وليس بمنى صلاة عيد، بل رمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لأهل الأمصار، والنبي ﷺ لم يصل جمعة ولا عيدا في السفر، لا بمكة ولا عرفة، بل كانت خطبته بعرفة خطبة نسك، لا خطبة جمعة، ولم يجهر بالقراءة في الصلاة بعرفة.
فصل في رمي الجمرات
ثم يرجع إلى منى فيبيت بها، ويرمي الجمرات الثلاث، كل يوم بعد الزوال، يبتدي بالجمرة الأولي التي هي أقرب إلى مسجد الخِيف. ويستحب أن يمشي إليها فيرميها بسبع حصيات. ويستحب له أن يكبر مع كل حصاة، وإن شاء قال: اللهم اجعله حجا مبرورا، وسعيا مشكورا، وذنبا مغفورا. ويستحب له إذا رماها أن يتقدم قليلا إلى موضع لا يصيبه الحصي، فيدعو الله تعالي، مستقبل القبلة، رافعًا يديه بقدر سورة البقرة.
ثم يذهب إلى الجمرة الثانية فيرميها كذلك، فيتقدم عن يساره يدعو مثل مافعل عند الأولي.
ثم يرمي الثالثة، وهي جمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات أيضًا ولا يقف عندها.
ثم يرمي في اليوم الثاني من أيام منى مثل ما رمي في الأول، ثم إن شاء رمي في اليوم الثالث، وهو الأفضل، وإن شاء تعجل في اليوم الثاني بنفسه قبل غروب الشمس، كما قال تعالى: { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } الآية [35]
فإذا غربت الشمس وهو بمنى أقام حتى يرمي مع الناس في اليوم الثالث، ولا ينفر الإمام الذي يقيم للناس المناسك، بل السنة أن يقيم إلى اليوم الثالث، والسنة للإمام أن يصلي بالناس بمنى، ويصلي خلفه أهل الموسم.
ويستحب ألا يدع الصلاة في مسجد منى وهو مسجد الخيف مع الإمام، فإن النبي ﷺ وأبا بكر وعمر كانوا يصلون بالناس قصرًا بلا جمع بمنى، ويقصر الناس كلهم خلفهم أهل مكة، وغير أهل مكة. وإنما روي عن النبي ﷺ أنه قال: (يا أهل مكة، أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر) لما صلى بهم بمكة نفسها. فإن لم يكن للناس إمام عام صلى الرجل بأصحابه، والمسجد بني بعد النبي ﷺ، لم يكن على عهده.
ثم إذا نفر من منى فإن بات بالمحصب وهو الأبطح، وهو ما بين الجبلين إلى المقبرة ثم نفر بعد ذلك فحسن؛ فإن النبي ﷺ بات به، وخرج. ولم يقم بمكة بعد صدوره من منى، لكنه ودع البيت، وقال: (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) فلا يخرج الحاج حتى يودع البيت، فيطوف طواف الوداع، حتى يكون آخر عهده بالبيت، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه.
وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة حتى يكون بعد جميع أموره، فلا يشتغل بعده بتجارة ونحوها، لكن إن قضي حاجته، أو اشتري شيئا في طريقه بعد الوداع، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه ليحمل المتاع على دابته، ونحو ذلك، مما هو من أسباب الرحيل، فلا إعادة عليه، وإن أقام بعد الوداع أعاده، وهذا الطواف واجب عند الجمهور، لكن يسقط عن الحائض.
وإن أحب أن يأتي الملتزم، وهو ما بين الحجر الأسود والباب، فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه وكفيه، ويدعو، ويسأل الله تعالى حاجته، فعل ذلك، وله أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع، فإن هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال الوداع أو غيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة، وإن شاء قال في دعائه الدعاء المأثور عن ابن عباس: (اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك، حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن فارض عني، قبل أن تنأي عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك، ولا ببيتك، ولا راغب عنك، ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير) ولو وقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسنا.
فإذا ولَّي لا يقف، ولا يلتفت، ولا يمشي القهقري. قال الثعلبي في [36]: القهقري: مشية الراجع إلى خلف، حتى قد قيل: إنه إذا رأي البيت رجع فودع، وكذلك عند سلامه على النبي ﷺ لا ينصرف، ولا يمشي القهقري، بل يخرج كما يخرج الناس من المساجد عند الصلاة.
وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرِد، لكن عليه وعلي المتمتع هدي؛ بدنة، أو بقرة، أو شاة، أو شرك في دم، فمن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام قبل يوم النحر، وسبعة إذا رجع، وله أن يصوم الثلاثة من حين أحرم بالعمرة، في أظهر أقوال العلماء. وفيه ثلاث روايات عن أحمد. قيل: إنه يصومها قبل الإحرام بالعمرة. وقيل: لا يصومها إلا بعد الإحرام بالحج. وقيل: يصومها من حين الإحرام بالعمرة، وهو الأرجح. وقد قيل: إنه يصومها بعد التحلل من العمرة، فإنه حينئذ شرع في الحج، ولكن دخلت العمرة في الحج، كما دخل الوضوء في الغسل، قال النبي ﷺ: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)، وأصحاب رسول الله ﷺ كانوا متمتعين معه، وإنما أحرموا بالحج.
ويستحب أن يشرب من ماء زمزم، ويتضلع منه، ويدعو عند شربه بما شاء من الأدعية الشرعية، ولا يستحب الاغتسال منها.
وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام؛ كالمسجد الذي تحت الصفا، وما في سفح أبي قبيس، ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على آثار النبي ﷺ، وأصحابه، كمسجد المولد وغيره، فليس قصد شيء من ذلك من السنة، ولا استحبه أحد من الأئمة، وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة، والمشاعر: عرفة، ومزدلفة، والصفا، والمروة، وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر عرفة ومزدلفة ومنى، مثل جبل حراء، والجبل الذي عند منى الذي يقال: إنه كان فيه قبة الفداء، ونحو ذلك، فإنه ليس من سنة رسول الله ﷺ زيارة شيء من ذلك، بل هو بدعة. وكذلك ما يوجد في الطرقات من المساجد المبنية على الآثار، والبقاع التي يقال: إنها من الآثار، لم يشرع النبي ﷺ زيارة شيء من ذلك بخصوصه، ولا زيارة شيء من ذلك.
ودخول الكعبة ليس بفرض، ولا سنة مؤكدة، بل دخولها حسن والنبي ﷺ لم يدخلها في الحج، ولا في العمرة، لا عمرة الجِعْرَانة، ولا عمرة القَضِية، وإنما دخلها عام فتح مكة، ومن دخلها يستحب له أن يصلي فيها، ويكبر الله، ويدعوه، ويذكره، فإذا دخل مع الباب تقدم حتى يصير بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع، والباب خلفه، فذلك هو المكان الذي صلى فيه النبي ﷺ، ولا يدخلها إلا حافيا، والحجر أكثره من البيت من حيث ينحني حائطه، فمن دخله فهو كمن دخل الكعبة، وليس على داخل الكعبة ما ليس على غيره من الحجاج، بل يجوز له من المشي حافيا، وغير ذلك ما يجوز لغيره.
والإكثار من الطواف بالبيت من الأعمال الصالحة، فهو أفضل من أن يخرج الرجل من الحرم، ويأتي بعمرة مكية، فإن هذا لم يكن من أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا رغب فيه النبي ﷺ لأمته، بل كرهه السلف.
فصل إذا دخل المدينة قبل الحج أو بعده
وإذا دخل المدينة قبل الحج أو بعده، فإنه يأتي مسجد النبي ﷺ ويصلي فيه، والصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ولا تشد الرحال إلا إليه، وإلي المسجد الحرام، والمسجد الأقصي، هكذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وهو مروي من طرق أخر.
ومسجده كان أصغر مما هو اليوم، وكذلك المسجد الحرام، لكن زاد فيهما الخلفاء الراشدون، ومن بعدهم، وحكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام.
ثم يسلم على النبي ﷺ وصاحبيه، فإنه قد قال: (ما من رجل يسلم عَلَي، إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام) رواه أبو داود وغيره. وكان عبد الله بن عمر يقول إذا دخل المسجد: السلام عليك يارسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف، وهكذا كان الصحابة يسلمون عليه، ويسلمون عليه مستقبلي الحجرة، مستدبري القبلة، عند أكثر العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد. وأبوحنيفة قال: يستقبل القبلة، فمن أصحابه من قال: يستدبر الحجرة، ومنهم من قال: يجعلها عن يساره، واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة، ولا يقبلها، ولا يطوف بها، ولا يصلي إليها، وإذا قال في سلامه: السلام عليك يارسول الله، يانبي الله، ياخيرة الله من خلقه، يا أكرم الخلق على ربه، يا إمام المتقين، فهذا كله من صفاته،
بأبي هو وأمي ﷺ، وكذلك إذا صلى عليه مع السلام عليه، فهذا مما أمر الله به.
ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة. ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك. والحكاية المروية عنه: أنه أمر المنصور أن يستقبل الحجرة وقت الدعاء، كذب على مالك. ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة، ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة، ويدعون في مسجده، فإنه ﷺ قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)، وقال: (لا تجعلوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني)، وقال: (أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة، وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي). فقالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ أي بليت. قال: (إن الله حَرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء). فأخبر أنه يسمع الصلاة والسلام من القريب، وأنه يبلغ ذلك من البعيد. وقال: (لعن الله اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكنه كره أن يتخذ مسجدًا. أخرجاه في الصحيحين.
فدفنته الصحابة في موضعه الذي مات فيه، من حجرة عائشة، وكانت هي وسائر الحُجَر خارج المسجد، من قبليه وشرقيه، لكن لما كان في زمن الوليد بن عبد الملك عُمِّر هذا المسجد وغيره، وكان نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز، فأمر أن تشتري الحجر، ويزاد في المسجد، فدخلت الحجرة في المسجد من ذلك الزمان، وبنيت منحرفة عن القبلة مسنمة؛ لئلا يصلي أحد إليها، فإنه قال ﷺ: (لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها) رواه مسلم عن أبي مَرْثَد الغَنَوي. والله أعلم.
وزيارة القبور على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية.
فالشرعية: المقصود بها السلام على الميت، والدعاء له، كما يقصد بالصلاة على جنازته، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه، فالسنة أن يسلم على الميت، ويدعو له سواء كان نبيًا، أو غير نبي، كما كان النبي ﷺ يأمر أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم، والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم). وهكذا يقول إذا زار أهل البقيع، ومن به من الصحابة أو غيرهم، أو زار شهداء أحد، وغيرهم.
وليست الصلاة عند قبورهم أو قبور غيرهم مستحبة عند أحد من أئمة المسلمين، بل الصلاة في المساجد التي ليس فيها قبر أحد من الأنبياء والصالحين وغيرهم أفضل من الصلاة في المساجد التي فيها ذلك باتفاق أئمة المسلمين؛ بل الصلاة في المساجد التي على القبور إما محرمة، وإما مكروهة.
والزيارة البدعية: أن يكون مقصود الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو يقصد الدعاء به، فهذا ليس من سنة النبي ﷺ، ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هو من البدع المنهي عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها، وقد كره مالك وغيره أن يقول القائل: زرت قبر النبي ﷺ، وهذا اللفظ لم ينقل عن النبي ﷺ، بل الأحاديث المذكورة في هذا الباب مثل قوله: (من زارني، وزار أبي إبراهيم في عام واحد، ضمنت له على الله الجنة) وقوله: (من زارني بعد مماتي، فكأنما زارني في حياتي، ومن زارني بعد مماتي، حلت عليه شفاعتي) ونحو ذلك، كلها أحاديث ضعيفة، بل موضوعة، ليست في شيء من دواوين الإسلام، التي يعتمد عليها، ولا نقلها إمام من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ولكن روي بعهضا البزار، والدارقطني، ونحوهما بأسانيد ضعيفة، ولأن من عادة الدارقطني وأمثاله، يذكرون هذا في السنن ليعرف، وهو وغيره يبينون ضعف الضعيف من ذلك، فإذا كانت هذه الأمور التي فيها شرك وبدعة نهي عنها عند قبره، وهو أفضل الخلق، فالنهي عن ذلك عند قبر غيره أولي وأحري.
ويستحب أن يأتي مسجد قباء، ويصلي فيه، فإن النبي ﷺ قال: (من تطهر في بيته، وأحسن الطهور، ثم أتي مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان له كأجر عمرة) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه. وقال النبي ﷺ: (الصلاة في مسجد قباء كعمرة) قال الترمذي: حسن.
والسفر إلى المسجد الأقصي، والصلاة فيه، والدعاء، والذكر، والقراءة، والاعتكاف، مستحب في أي وقت شاء، سواء كان عام الحج، أو بعده. ولا يفعل فيه وفي مسجد النبي ﷺ إلا ما يفعل في سائر المساجد. وليس فيها شيء يتمسح به، ولا يقَبل ولا يطاف به، هذا كله ليس إلا في المسجد الحرام خاصة، ولا تستحب زيارة الصخرة، بل المستحب أن يصلي في قبلي المسجد الأقصى الذي بناه عمر بن الخطاب للمسلمين.
ولا يسافر أحد ليقف بغير عرفات، ولا يسافر للوقوف بالمسجد الأقصي، ولا للوقوف عند قبر أحد، لا من الأنبياء، ولا المشايخ، ولا غيرهم، باتفاق المسلمين، بل أظهر قولي العلماء أنه لا يسافر أحد لزيارة قبر من القبور.
ولكن تزار القبور الزيارة الشرعية، من كان قريبًا، ومن اجتاز بها، كما أن مسجد قباء يزار من المدينة، وليس لأحد أن يسافر إليه لنهيه ﷺ أن تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة.
وذلك أن الدين مبني على أصلين: ألا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا يعبد إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [37]. ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل فيه لأحد شيئًا. وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [38]. قال: أخلصه، وأصوبه. قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابا، لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا. والخالص أن يكون للّه، والصواب أن يكون على السنة، وقد قال الله تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [39].
والمقصود بجميع العبادات أن يكون الدين كله للّه وحده، فالله هو المعبود، والمسؤول الذي يخاف ويرجي، ويسأل ويعبد، فله الدين خالصًا، وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرهًا، والقرآن مملوء من هذا، كما قال تعالى: { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } إلى قوله: { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي } إلى قوله: { أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } [40]. وقال تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ } الآيتين [41]، وقال تعالى: { ققُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ } الآيتين. [42].
قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدْعُون الملائكة، والأنبياء، كالمسيح، والعزيز، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } الآيات. [43]. ومثل هذا في القرآن كثير؛ بل هذا مقصود القرآن، ولبه، وهو مقصود دعوة الرسل كلهم، وله خلق الخلق، كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [44]
فيجب على المسلم أن يعلم أن الحج من جنس الصلاة ونحوها من العبادات، التي يعبد الله بها وحده لا شريك له، وأن الصلاة على الجنائز وزيارة قبور الأموات من جنس الدعاء لهم، والدعاء للخلق من جنس المعروف والإحسان، الذي هو من جنس الزكاة.
والعبادات التي أمر الله بها توحيد وسنة، وغيرها فيها شرك وبدعة، كعبادات النصاري، ومن أشبههم مثل قصد البقعة لغير العبادات التي أمر الله بها، فإنه ليس من الدين، ولهذا كان أئمة العلماء يعدون من جملة البدع المتكررة السفر لزيارة قبور الأنبياء، والصالحين، وهذا في أصح القولين غير مشروع، حتى صرح بعض من قال ذلك أن من سافر هذا السفر لا يقصر فيه الصلاة؛ لأنه سفر معصية. وكذلك من يقصد بقعة لأجل الطلب من مخلوق، هي منسوبة إليه، كالقبر، والمقام أو لأجل الاستعاذة به، ونحو ذلك، فهذا شرك وبدعة، كما تفعله النصارى ومن أشبههم من مبتدعة هذه الأمة، حيث يجعلون الحج والصلاة من جنس ما يفعلونه من الشرك والبدع، ولهذا قال ﷺ لما ذكر له بعض أزواجه كنيسة بأرض الحبشة، وذكر له عن حسنها وما فيها من التصاوير، فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة).
ولهذا نهي العلماء عما فيه عبادة لغير الله، وسؤال لمن مات من الأنبياء، أو الصالحين، مثل من يكتب رقعة ويعلقها عند قبر نبي، أو صالح، أو يسجد لقبر، أو يدعوه، أو يرغب إليه. وقالوا: إنه لا يجوز بناء المساجد على القبور؛ لأن النبي ﷺ قال قبل أن يموت بخمس ليال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) رواه مسلم، وقال: (لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا). وهذه الأحاديث في الصحاح. وما يفعله بعض الناس من أكل التمر في المسجد، أو تعليق الشعر في القناديل، فبدعة مكروهة.
ومن حمل شيئا من ماء زمزم جاز، فقد كان السلف يحملونه، وأما التمر الصيحاني فلا فضيلة فيه، بل غيره من التمر، البرني والعجوة خير منه، والأحاديث إنما جاءت عن النبي ﷺ في مثل ذلك، كما جاء في الصحيح: (من تصبح بسبع تمرات عجوة، لم يصبه ذلك اليوم سم، ولا سحر). ولم يجئ عنه في الصيحاني شيء. وقول بعض الناس: إنه صاح بالنبي ﷺ جهل منه بل إنما سمي بذلك ليبسه، فانه يقال: تصوح التمر، إذا يبس.
وهذا كقول بعض الجهال: إن عين الزرقاء جاءت معه من مكة، ولم يكن بالمدينة على عهد النبي ﷺ عين جارية لا الزرقاء ولا عيون حمزة ولا غيرهما، بل كل هذا مستخرج بعده.
ورفع الصوت في المساجد منهي عنه، وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأي رجلين يرفعان أصواتهما في المسجد فقال: لو أعلم أنكما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا، إن الأصوات لا ترفع في مسجده. فما يفعل بعض جهال العامة من رفع الصوت عقيب الصلاة من قولهم: السلام عليك يارسول الله ! بأصوات عالية. من أقبح المنكرات. ولم يكن أحد من السلف يفعل شيئا من ذلك عقيب السلام بأصوات عالية، ولا منخفضة، بل مافي الصلاة من قول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، هو المشروع، كما أن الصلاة عليه مشروعة في كل زمان ومكان.
وقد ثبت في الصحيح أنه قال: (من صلى على مرة صلى الله عليه بها عشرا). وفي المسند: أن رجلا قال: يارسول الله، أجعل عليك ثلث صلاتي، قال: (إذًا يكفيك الله ثلث أمرك). فقال: أجعل عليك ثلثي صلاتي، قال: (إذا يكفيك الله ثلثي أمرك). قال: أجعل صلاتي كلها عليك، قال: (إذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وأمر آخرتك). وفي السنن عنه أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني). وقد رأي عبد الله بن حسن شيخ الحسنيين في زمنه رجلا ينتاب قبر النبي ﷺ، للدعاء عنده، قال: ياهذا، إن رسول الله ﷺ قال: (لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني) فما أنت ورجل بالأندلس إلا سواء.
ولهذا كان السلف يكثرون الصلاة والسلام عليه، في كل مكان وزمان، ولم يكونوا يجتمعون عند قبره، لا لقراءة ختمة، ولا إيقاد شمع، وإطعام وإسقاء، ولا إنشاد قصائد، ولا نحو ذلك، بل هذا من البدع، بل كانوا يفعلون في مسجده ما هو المشروع في سائر المساجد من الصلاة، والقراءة، والذكر، والدعاء، والاعتكاف، وتعليم القرآن والعلم، وتعلمه، ونحو ذلك.
وقد علموا أن النبي ﷺ له مثل أجر كل عمل صالح تعمله أمته، فإنه ﷺ قال: (من دعا إلى هدي فله من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا). وهو الذي دعا أمته إلى كل خير، فكل خير يعمله أحد من الأمة فله مثل أجره، فلم يكن ﷺ يحتاج إلى أن يهدي إليه ثواب صلاة، أو صدقة، أو قراءة من أحد، فإن له مثل أجر ما يعملونه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا.
وكل من كان له أطوع وأتبع كان أولي الناس به في الدنيا والآخرة، قال تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [45]، وقال ﷺ: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما ولي الله وصالح المؤمنين)، وهو أولي بكل مؤمن من نفسه، وهو الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده، ووعيده، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه.
والله هو المعبود المسؤول، المستعان به الذي يخاف ويرجي، ويتوكل عليه، قال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [46]، فجعل الطاعة للّه والرسول، كما قال تعالى: { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ } [47]، وجعل الخشية والتقوي للّه وحده لا شريك له، فقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ } [48]، فأضاف الإيتاء إلى الله والرسول، كما قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ } [49]، فليس لأحد أن يأخذ إلا ما أباحه الرسول، وإن كان الله آتاه ذلك من جهة القدرة، والملك، فإنه يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ولهذا كان ﷺ يقول في الاعتدال من الركوع، وبعد السلام: (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُ) أي: من آتيته جدا وهو البخت والمال والملك، فإنه لا ينجيه منك إلا الإيمان والتقوي.
وأما التوكل فعلي الله وحده، والرغبة فإليه وحده، كما قال تعالى: { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ } ولم يقل: ورسوله، وقالوا: { إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ } ولم يقولوا هنا: ورسوله، كما قال في الإيتاء، بل هذا نظير قوله: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [50]، وقال تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [51]، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين { قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }. وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [52]. أي: الله وحده حسبك، وحسب المؤمنين الذين اتبعوك.
ومن قال: إن الله والمؤمنين حسبك فقد ضل، بل قوله من جنس الكفرة، فإن الله وحده هو حسب كل مؤمن به. والحسب الكافي، كما قال تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [53]
وللّه تعالى حق لا يشركه فيه مخلوق؛ كالعبادات، والإخلاص والتوكل، والخوف، والرجاء، والحج، والصلاة، والزكاة، والصيام، والصدقة. والرسول له حق؛ كالإيمان به، وطاعته، واتباع سنته وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، وتقديمه في المحبة على الأهل والمال، والنفس، كما قال ﷺ: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، بل يجب تقديم الجهاد الذي أمر به على هذا كله، كما قال تعالى: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [54]، وقال تعالى: { وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } [55].
وبسط مافي هذا المختصر وشرحه مذكور في غير هذا الموضع. والله سبحانه وتعالى أعلم. (وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد للّه رب العالمين.)
فصل الحج أخذوا فيه بالسنن الثابتة عن رسول الله في صفته وأحكامه
وَقَالَ قدس الله رُوحه:
وأما الحج، فأخذوا فيه بالسنن الثابتة عن رسول الله ﷺ في صفته وأحكامه.
وقد ثبت بالنقل المتواتر عند الخاصة من علماء الحديث من وجوه كثيرة في الصحيحين، وغيرهما: أنه ﷺ لما حج حجة الوداع أحرم هو والمسلمون من ذي الحُلَيفَة، فقال: (من شاء أن يهلّ بعمرة فليفعل، ومن شاء أن يهلّ بحجة فليفعل، ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل). فلما قدموا وطافوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، أمر جميع المسلمين الذين حجوا معه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله. فراجعه بعضهم في ذلك فغضب. وقال: (انظروا ما أمرتكم به فافعلوه). وكان هو ﷺ قد ساق الهدي، فلم يحل من إحرامه.
ولما رأى كراهة بعضهم للإحلال، قال: (لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما سقت
الهدي، ولجعلتها عمرة، ولولا أن معي الهدي لأحللت). وقال أيضًا: (إني لَبَّدْت رأسي، وقَلَّدت هديي، فلا أحل حتى أنحر). فحل المسلمون جميعهم إلا النفر الذين ساقوا الهدي، منهم: رسول الله ﷺ، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله. فلما كان يوم التروية أحرم المحلون بالحج، وهم ذاهبون إلى منى، فبات بهم تلك الليلة بمنى، وصلى بهم فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم سار بهم إلى نمرة على طريق ضب، ونمرة خارجة عن عرنة من يمانيها وغربيها، ليست من الحرم، ولا من عرفة، فنصبت له القبة بنمرة، وهناك كان ينزل خلفاؤه الراشدون بعده، وبها الأسواق، وقضاء الحاجة، والأكل، ونحو ذلك.
فلما زالت الشمس ركب هو ومن ركب معه، وسار المسلمون إلى المصلى ببطن عرنة، حيث قد بني المسجد، وليس هو من الحرم، ولا من عرفة، وإنما هو برزخ بين المشعرين: الحلال والحرام هناك، بينه وبين الموقف نحو ميل، فخطب بهم خطبة الحج على راحلته. وكان يوم الجمعة، ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر مقصورتين، مجموعتين، ثم سار والمسلمون معه إلى الموقف بعرفة عند الجبل المعروف بجبل الرحمة، واسمه إلال على وزن هلال. وهو الذي تسميه العامة عرفة، فلم يزل هو والمسلمون في الذكر والدعاء إلى أن غربت الشمس.
فدفع بهم إلى مزدلفة، فصلى المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق قبل حط الرحال حيث نزلوا بمزدلفة، وبات بها حتى طلع الفجر، فصلى بالمسلمين الفجر في أول وقتها مُغَلِّسًا بها زيادة على كل يوم، ثم وقف عند قزح، وهو جبل مزدلفة الذي يسمي: المشعر الحرام، وإن كانت مزدلفة كلها هي المشعر الحرام المذكور في القرآن، فلم يزل واقفًا بالمسلمين إلى أن أسفر جدًا.
ثم دفع بهم حتى قدم منى، فاستفتحها برمي جمرة العقبة، ثم رجع إلى منزله بمنى فحلق رأسه، ثم نحر ثلاثا وستين بدنة من الهدي الذي ساقه، وأمر عليًا فنحر الباقي، وكان مائة بدنة، ثم أفاض إلى مكة، فطاف طواف الإفاضة، وكان قد عجل ضعفة أهل بيته من مزدلفة، قبل طلوع الفجر، فرموا الجمرة بليل، ثم أقام بالمسلمين أيام منى الثلاث يصلى بهم الصلوات الخمس مقصورة، غير مجموعة، يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس، يفتتح بالجمرة الأولي وهي الصغري، وهي الدنيا إلى منى، والقصوي من مكة ويختتم بجمرة العقبة، ويقف بين الجمرتين الأولي والثانية، وبين الثانية والثالثة وقوفا طويلا بقدر سورة البقرة يذكر الله ويدعو فإن المواقف ثلاثة: عرفة، ومزدلفة، ومنى.
ثم أفاض آخر أيام التشريق بعد رمي الجمرات، هو والمسلمون فنزل بالْمُحَصَّب عند خيف بني كنانة، فبات هو والمسلمون فيه ليلة الأربعاء. وبعث تلك الليلة عائشة مع أخيها عبد الرحمن لتعتمر من التنعيم، وهو أقرب أطراف الحرم إلى مكة من طريق أهل المدينة. وقد بني بعده هناك مسجدا سماه الناس مسجد عائشة؛ لأنه لم يعتمر بعد الحج مع النبي ﷺ من أصحابه أحد قط إلا عائشة؛ لأجل أنها كانت قد حاضت لما قدمت. وكانت معتمرة فلم تطف قبل الوقوف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، وقال لها النبي ﷺ: (اقضي ما يقضي الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة).
ثم ودع البيت هو والمسلمون ورجعوا إلى المدينة، ولم يقم بعد أيام التشريق، ولا اعتمر أحد قط على عهده عمرة يخرج فيها من الحرم إلى الحل إلا عائشة وحدها.
فأخذ فقهاء الحديث؛ كأحمد وغيره، بسنته في ذلك كله، وإن كان منهم ومن غيرهم من قد يخالف بعض ذلك بتأويل تخفي عليه فيه السنة.
فمن ذلك أنهم استحبوا للمسلمين أن يحجوا كما أمر النبي ﷺ أصحابه، ولما اتفقت جميع الروايات على أنه أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها متعة، استحبوا المتعة لمن جمع بين النسكين في سفرة واحدة، وأحرم في أشهر الحج. كما أمر به النبي ﷺ. وعلموا أن من أفرد الحج، واعتمر عقبه من الحل وإن قالوا: إنه جائز فإنه لم يفعله أحد على عهد رسول الله ﷺ إلا عائشة، على قول من يقول: إنها رفضت العمرة، وأحرمت بالحج، كما يقوله الكوفيون. وأما على قول أكثر الفقهاء: أنها صارت قارنة: فلا عائشة ولا غيرها فعل ذلك.
وكذلك علموا أن من لم يَسُقّ الهدي، وقَرَن بين النسكين لا يفعله. وإن قال أكثرهم كأحمد وغيره: إنه جائز، فإنه لم يفعله أحد على عهد النبي ﷺ إلا عائشة، على قول من قال: إنها كانت قارنة.
ولم يختلف أئمة الحديث فقهاء، وعلماء؛ كأحمد وغيره أن النبي ﷺ نفسه لم يكن مفردا للحج، ولا كان متمتعا تمتعًا حل به من إحرامه. ومن قال من أصحاب أحمد: إنه تمتع، وحل من إحرامه فقد غلط، وكذلك من قال: إنه لم يعتمر في حجته فقد غلط.
وأما من توهم من بعض الفقهاء: أنه اعتمر بعد حجته، كما يفعله المختارون للإفراد إذا جمعوا بين النسكين فهذا لم يروه أحد، ولم يقله أحد أصلا من العالمين بحجته ﷺ. فإنه لا خلاف بينهم: أنه ﷺ لا هو ولا أحد من أصحابه اعتمر بعد الحج إلا عائشة؛ ولهذا لا يعرف موضع الإحرام بالعمرة إلا بمساجد عائشة، حيث لم يخرج أحد من الحرم إلى الحل فيحرم بالعمرة إلا هي ولا كان ﷺ أيضا قارنًا قرانًا طاف فيه طوافين وسعي سعيين. فإن الروايات الصحيحة كلها تصرح بأنه إنما طاف بالبيت، وبين الصفا والمروة قبل التعريف مرة واحدة.
فمن قال من أصحاب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد شيئا من هذه المقالات، فقد غلط.
وسبب غلطه: ألفاظ مشتركة سمعها في ألفاظ الصحابة الناقلين لحجة النبي ﷺ. فإنه قد ثبت في الصحاح عن غير واحد منهم: عائشة، وابن عمر وغيرهما أنه ﷺ تمتع بالعمرة إلى الحج. وثبت أيضا عنهم أنه أفرد الحج. وعامة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج، ثبت عنهم أنهم قالوا: إنه تمتع بالعمرة إلى الحج. وثبت عن أنس بن مالك أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (لبيك عمرة وحجا).وعن عمر: أنه أخبر عن النبي ﷺ أنه قال: (أتاني آت من ربي يعني بوادي العقيق وقال: قل: عمرة في حجة)، ولم يَحْكِ أحد لفظ النبي ﷺ الذي أحرم به إلا عمر وأنس؛ فلهذا قال الإمام أحمد: لا أشك أن النبي ﷺ كان قارنا.
وأما ألفاظ الصحابة، فإن التمتع بالعمرة إلى الحج اسم لكل من اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه، سواء جمع بينهما بإحرام واحد أو تحلل من إحرامه. فهذا التمتع العام يدخل فيه القِران؛ ولذلك وجب عليه الهدي عند عامة الفقهاء، إدخالا له في عموم قوله تعالى: { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [56]، وإن كان اسم التمتع قد يختص بمن اعتمر، ثم أحرم بالحج بعد قضاء عمرته.
فمن قال منهم: { تمتع بالعمرة إلى الحج } لم يرد أنه حل من إحرامه، ولكن أراد: أنه جمع في حجته بين النسكين معتمرا في أشهر الحج، لكن لم يبين: هل أحرم بالعمرة قبل الطواف بالبيت وبالجبلين، أو أحرم بالحج بعد ذلك؟ فإن كان قد أحرم قبل الطوافين، فهو قارن بلا تردد، وإن كان إنما أهل بالحج بعد الطواف بالبيت. وبالجبلين، وهو لم يكن حل من إحرامه، فهذا يسمي متمتعا؛ لأنه اعتمر قبل الإهلال بالحج، ويسمي قارنا، لأنه أحرم بالحج قبل إحلاله من العمرة؛ ولهذا يسميه بعض أصحابنا متمتعا، ويسميه بعضهم قارنا ويسميه بعضهم بالاسمين، وهو الأصوب. وهذا في التمتع الخاص، فأما التمتع العام فيشمله بلا تردد.
ومع هذا، فالصواب ما قطع به أحمد من أنه ﷺ أحرم بالحج قبل الطواف؛ لقوله: (لبيك عمرة وحجا). ولو كان من حين يحرم بالعمرة مع قوله سبحانه: { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } [57] ؛ لأن العمرة دخلت في الحج، كما قاله النبي ﷺ
وإذا كانت عمرة المتمتع جزءا من حجه، فالهدي المسوق لا ينحر حتى يقضي التَّفَث، كما قال تعالى: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } [58]، وذلك إشارة إلى الهدي المسوق، فإنه نذر؛ ولهذا لو عطب دون محله وجب نحره؛ لأن نحره إنما يكون عند بلوغه محله، وإنما يبلغ محله إذا بلغ صاحبه محله؛ لأنه تبع له، وإنما يبلغ صاحبه محله يوم النحر؛ إذ قبل ذلك لا يحل مطلقًا؛ لأنه يجب عليه أن يحج، بخلاف من اعتمر عمرة مفردة، فإنه حل حلا مطلقًا.
وأما ما تضمنته سنة رسول الله ﷺ من المقام بمنى يوم التروية، والمبيت بها الليلة التي قبل يوم عرفة، ثم المقام بعرنة التي بين المشعر الحرام وعرفة إلى الزوال، والذهاب منها إلى عرفة والخطبة، والصلاتين في أثناء الطريق ببطن عرنة فهذا كالمجمع عليه بين الفقهاء، وإن كان كثير من المصنفين لا يميزه، وأكثر الناس لا يعرفه لغلبة العادات المحدثة.
ومن سنة رسول الله ﷺ: أنه جمع بالمسلمين جميعهم بعرفة، بين الظهر والعصر، وبمزدلفة بين المغرب والعشاء، وكان معه خلق كثير ممن منزله دون مسافة القصر من أهل مكة وما حولها. ولم يأمر حاضري المسجد الحرام بتفريق كل صلاة في وقتها، ولا أن يعتزل المكيون ونحوهم فلم يصلوا معه العصر، وأن ينفردوا فيصلوها في أثناء الوقت دون سائر المسلمين. فإن هذا مما يعلم بالاضطرار لمن تتبع الأحاديث أنه لم يكن، وهو قول مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، وعليه يدل كلام أحمد.
وإنما غفل قوم من أصحاب الشافعي، وأحمد عن هذا، فطردوا قياسهم في الجمع، واعتقدوا أنه إنما جمع لأجل السفر، والجمع للسفر لا يكون إلا لمن سافر ستة عشر فرسخًا، وحاضِروا مكة ليسوا عن عرنة بهذا البعد.
وهذا ليس بحق، فإنه لو كان جمعه لأجل السفر لجمع قبل هذا اليوم وبعده، وقد أقام بمنى أيام التشريق ولم يجمع فيها، لا سيما ولم ينقل عنه أنه جمع في السفر وهو نازل إلا مرة واحدة، وإنما كان يجمع في السفر إذا جد به السير، وإنما جمع لنحو الوقوف؛ لأجل ألا ي
فصل بين الوقوف بصلاة ولا غيرها. كما قال أحمد: إنه يجوز الجمع لأجل ذلك من الشغل المانع من تفريق الصلوات.
ومن اشترط في هذا الجمع السفر من أصحاب أحمد، فهو أبعد عن أصوله من أصحاب الشافعي. فإن أحمد يجوز الجمع لأمور كثيرة غير السفر، حتى قال القاضي أبو يعلى وغيره تفسيرا لقول أحمد: إنه يجمع لكل ما يبيح ترك الجماعة: فالجمع ليس من خصائص السفر. وهذا بخلاف القصر، فإنه لا يشرع إلا للمسافر.
ولهذا قال أكثر الفقهاء كالشافعي وأحمد: إن قصر الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى وأيام التشريق لا يجوز إلا للمسافر الذي يباح له القصر عندهم، طردا للقياس، واعتقادا أن القصر لم يكن إلا للسفر بخلاف الجمع، حتى أمر أحمد وغيره: أن الموسم لا يقيمه أمير مكة؛ لأجل قصر الصلاة.
وذهب طوائف من أهل المدينة وغيرهم منهم مالك، وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، كأبي الخطاب في عباداته الخمس إلى أنه يقصر المكيون وغيرهم، وأن القصر هناك لأجل النسك.
والحجة مع هؤلاء: أنه لم يثبت أن النبي ﷺ أمر من صلى خلفه بعرفة ومزدلفة ومنى من المكيين أن يتموا الصلاة، كما أمرهم أن يتموا لما كان يصلي بهم بمكة أيام فتح مكة، حين قال لهم: (أتموا صلاتكم، فإنا قوم سَفْر).
فإنه لو كان المكيون قد قاموا لما صلوا خلفه الظهر فأتموها أربعًا ثم لما صلوا العصر قاموا فأتموها أربعًا، ثم لما صلوا خلفه عشاء الآخرة قاموا فأتموها أربعا، ثم كانوا مدة مقامه بمنى يتمون خلفه لما أهمل الصحابة نقل مثل هذا.
ومما قد يغلط فيه الناس: اعتقاد بعضهم أنه يستحب صلاة العيد بمنى يوم النحر، حتى قد يصليها بعض المنتسبين إلى الفقه، أخذا فيها بالعمومات اللفظية، أو القياسية. وهذه غفلة عن السنة ظاهرة. فإن النبي ﷺ وخلفاءه لم يصلوا بمنى عيدا قط. وإنما صلاة العيد بمنى هي جمرة العقبة. فرمي جمرة العقبة لأهل الموسم بمنزلة صلاة العيد لغيرهم؛ ولهذا استحب أحمد أن تكون صلاة أهل الأمصار وقت النحر بمنى؛ ولهذا خطب النبي ﷺ يوم النحر بعد الجمرة، كما كان يخطب في غير مكة بعد صلاة العيد، ورمي الجمرة تحية منى كما أن الطواف تحية المسجد الحرام.
ومثل هذا ما قاله طائفة منهم ابن عقيل أنه يستحب للمحرم إذا دخل المسجد الحرام أن يصلي تحية المسجد، كسائر المساجد. ثم يطوف طواف القدوم، أو نحوه. وأما الأئمة وجماهير الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم فعلى إنكار هذا.
أما أولا: فلأنه خلاف السنة المتواترة من فعل النبي ﷺ، وخلفائه. فإنهم لما دخلوا المسجد لم يفتتحوا إلا بالطواف، ثم الصلاة عقب الطواف.
وأما ثانيًا: فلأن تحية المسجد الحرام هي الطواف. كما أن تحية المساجد هي الصلاة.
وأشنع من هذا: استحباب بعض أصحاب الشافعي لمن سعي بين الصفا والمروة أن يصلي ركعتين بعد السعي على المروة، قياسًا على الصلاة بعد الطواف. وقد أنكر ذلك سائر العلماء من أصحاب الشافعي وسائر الطوائف، ورأوا أن هذه بدعة ظاهرة القبح. فإن السنة مضت بأن النبي ﷺ وخلفاءه طافوا وصلوا، كما ذكر الله الطواف والصلاة. ثم سعوا ولم يصلوا عقب السعي، فاستحباب الصلاة عقب السعي، كاستحبابها عند الجمرات، أو بالموقف بعرفات، أو جعل الفجر أربعا قياسا على الظهر. والترك الراتب سنة، كما أن الفعل الراتب سنة، بخلاف ما كان تركه لعدم مقتض، أو فوات شرط، أو وجود مانع، وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ؛ كجمع القرآن في المصحف، وجمع الناس في التراويح على إمام واحد. وتعلم العربية، وأسماء النقلة للعلم، وغير ذلك ما يحتاج إليه في الدين، بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه ﷺ لفوات شرطه أو وجود مانع.
فأما ما تركه من جنس العبادات، مع أنه لو كان مشروعا لفعله، أو أذن فيه، ولفعله الخلفاء بعده، والصحابة. فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة، ويمتنع القياس في مثله، وإن جاز القياس في النوع الأول. وهو مثل قياس صلاة العيدين والاستسقاء والكسوف على الصلوات الخمس، في أن يجعل لها أذانًا وإقامة، كما فعله بعض المراونية في العيدين. وقياس حجرته ونحوها من مقابر الأنبياء على بيت الله في الاستلام والتقبيل، ونحو ذلك من الأقيسة التي تشبه قياس الذين حكي الله عنهم أنهم قالوا: { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } [59].
وأخذ فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وغيرهما مع فقهاء الكوفة ما عليه جمهور الصحابة والسلف بتلبية رسول الله ﷺ، فإنه قد ثبت عنه أنه لم يزل يلبي حتى رمي جمرة العقبة.
وذهب طائفة من السلف من الصحابة والتابعين وأهل المدينة كمالك إلى أن التلبية تنقطع بالوصول إلى الموقف بعرفة؛ لأنها إجابة. فتنقطع بالوصول إلى المقصد. وسنة رسول الله ﷺ هي التي يجب اتباعها.
وأما المعني: فإن الواصل إلى عرفة وإن كان قد وصل إلى هذا الموقف فإنه قد دعي بعده إلى موقف آخر، وهو مزدلفة. فإذا قضي الوقوف بمزدلفة، فقد دعي إلى الجمرة، فإذا شرع في الرمي فقد انقضي دعاؤه، ولم يبق مكان يدعي إليه محرما؛ لأن الحلق والذبح يفعله حيث أحب من الحرم، وطواف الإفاضة يكون بعد التحلل الأول.
ولهذا قالوا أيضًا بما ثبت عن النبي ﷺ: إنه يلبي بالعمرة إلى أن يستلم الحجر، وإن كان ابن عمر ومن اتبعه من أهل المدينة كمالك قالوا: يلبي إلى أن يصل إلى الحرم، فإنه وإن وصل إليه فإنه مدعو إلى البيت.
نعم، يستفاد من هذا المعني: أنه إنما يلبي حال سيره، لا حال الوقوف بعرفة ومزدلفة وحال المبيت بها. وهذا مما اختلف فيه أهل الحديث.
فأما التلبية حال السير من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى، فاتفق من جمع الأحاديث الصحيحة عليه.
واختلف الناس في أكل المحرم لحم الصيد الذي صاده الحلال، وذكاه، على ثلاثة أقوال:
فقالت طائفة من السلف: هو حرام، اتباعا لما فهموه من قوله تعالى: { وَحُرِّمَ عليكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } [60]، ولما ثبت عن النبي ﷺ: من أنه رد لحم الصيد لما أهدي إليه.
وقال آخرون منهم أبو حنيفة: بل هو مباح مطلقا، عملا بحديث أبي قتادة لما صاد الحمار الوحشي، وأهدي لحمه للنبي ﷺ، وأخبره بأنه لم يصده له، كما جاء في الأحاديث الصحيحة.
وقالت الطائفة الثالثة التي فيها فقهاء الحديث بل هو مباح للمحرم، إذا لم يصده له المحرم، ولا ذبحه من أجله؛ توفيقا بين الأحاديث، كما روي جابر عن النبي ﷺ أنه قال: (لحم صيد البر لكم حلال وأنتم حرم، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم).قال الشافعي: هذا أحسن حديث في هذا الباب وأقيس. وهذا مذهب مالك، وأحمد، والشافعي، وغيرهم.
وإنما اختلفوا إذا صيد لمحرم بعينه، فهل يباح لغيره من المحرمين؟ على قولين، هما وجهان في مذهب أحمد، رحمه الله تعالى.
سئل عن طواف الحائض والجنب والمحدث
فأجاب:
ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت). وقال لعائشة رضي الله عنها: (اصنعي ما يصنع الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت). ولما قيل له عن صفية: إنها حاضت، فقال: (أحابستنا هي؟)، فقيل له: إنها قد أفاضت، قال: (فلا إذًا). وصح عنه ﷺ أنه بعث أبا بكر عام تسع لما أمره على الموسم، ينادي: (ألا يطوف بالبيت عريان)، ولم ينقل أحد عنه أنه أمر الطائفين بالوضوء، ولا باجتناب النجاسة، كما أمر المصلين بالوضوء.
فنهيه الحائض عن الطواف بالبيت، إما أن يكون لأجل المسجد، لكونها منهية عن اللبث فيه، وفي الطواف لبث، أو عن الدخول إليه مطلقا لمرور أو لبث، وإما أن يكون لكون الطواف نفسه يحرم مع الحيض، كما يحرم على الحائض الصلاة، والصيام بالنص، والإجماع، ومس المصحف عند عامة العلماء، وكذلك قراءة القرآن في أحد قولي العلماء.
والذين حرموا عليها القراءة كأحمد في المشهور عنه، وكذلك الشافعي مع أبي حنيفة، تنازعوا في إباحة قراءة القرآن لها، وللنفساء قبل الغسل، وبعد انقطاع الدم، على ثلاثة أقوال:
أحدها: إباحتها للحائض والنفساء، وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وقال: هو ظاهر كلام أحمد.
والثاني: منع الحائض والنفساء.
والثالث: إباحتها للنفساء دون الحائض. اختاره الخلال من أصحاب أحمد، فإما أن يكون لكل منهما، وإما أن يكون لمجموعهما، بحيث لو انفرد أحدهما لم يحرم، فإن كان تحريمه للأول لم يحرم عليها عند الضرورة، فإن لبثها في المسجد لضرورة جائز، كما لو خافت من يقتلها إذا لم تدخل المسجد، أو كان البرد شديدا، أو ليس لها مأوي إلا المسجد.
وقد ثبت عن النبي ﷺ في صحيح مسلم، وغيره، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال لي رسول الله ﷺ: (ناوليني الخُمْرَة من المسجد).فقلت: إني حائض، قال: (إن حيضتك ليست في يدك). وعن ميمونة زوج النبي ﷺ قالت: كان رسول الله ﷺ يضع رأسه في حجر إحدانا يتلو القرآن وهي حائض، وتقوم إحدانا بخُمْرَته إلى المسجد فتبسطها وهي حائض. رواه النسائي. وقد روي أبو داود من حديث عائشة عنه ﷺ أنه قال: (لا أحل المسجد لجنب، ولا حائض) رواه ابن ماجه من حديث أم سلمة. وقد تُكُلِّم في هذين الحديثين.
ولهذا ذهب أكثر العلماء كالشافعي وأحمد وغيرهما إلى الفرق بين المرور، واللبث، جمعا بين الأحاديث، ومنهم من منعها من اللبث والمرور، كأبي حنيفة، ومالك. ومنهم من لم يحرم المسجد عليها، وقد يستدلون على ذلك بقوله تعالى: { وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } [61].
وأباح أحمد وغيره اللبث لمن يتوضأ؛ لما رواه هو وغيره عن عطاء بن يَسَار قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله ﷺ يجلسون في المسجد، وهم مجنبون، إذا توضؤوا وضوء الصلاة. وذلك والله أعلم أن المسجد بيت الملائكة، والملائكة لا تدخل بيتا فيه جنب، كما جاء ذلك في السنن عن النبي ﷺ. ولهذا نهي النبي ﷺ الجنب أن ينام حتى يتوضأ، وروي يحيي بن سعيد عن هشام بن عُرْوَة قال: أخبرني أبي عن عائشة أنها كانت تقول: إذا أصاب أحدكم المرأة، ثم أراد أن ينام، فلا ينام حتى يتوضأ وضوءه للصلاة، فإنه لا يدري لعل نفسه تصاب في نومه. وفي حديث آخر: فإنه إذا مات لم تشهد الملائكة جنازته. وقد أمر النبي ﷺ الجنب بالوضوء عند الأكل، والشرب، والمعاودة، وهذا دليل أنه إذا توضأ ذهبت الجنابة عن أعضاء الوضوء، فلا تبقي جنابته تامة، وإن كان قد بقي عليه بعض الحدث، كما أن المحدث الحدث الأصغر عليه حدث دون الجنابة، وإن كان حدثه فوق الحدث الأصغر، فهو دون الجنب، فلا تمتنع الملائكة عن شهوده، فلهذا ينام ويلبث في المسجد.
وهذا يدل على أن الجنابة تتبعض، فتزول عن بعض البدن دون بعض، كما عليه جمهور العلماء.
وأما الحائض فحدثها دائم، لا يمكنها طهارة تمنعها عن الدوام، فهي معذورة في مكثها، ونومها، وأكلها، وغير ذلك، فلا تمنع مما يمنع منه الجنب مع حاجتها إليه؛ ولهذا كان أظهر قولي العلماء: أنها لا تمنع من قراءة القرآن إذا احتاجت إليه، كما هو مذهب مالك، وأحد القولين في مذهب الشافعي، ويذكر رواية عن أحمد، فإنها محتاجة إليها، ولا يمكنها الطهارة، كما يمكن الجنب، وإن كان حدثها أغلظ من حدث الجنب من جهة أنها لا تصوم، ما لم ينقطع الدم، والجنب يصوم، ومن جهة أنها ممنوعة من الصلاة طهرت أو لم تطهر، ويمنع الرجل من وطئها أيضا، فهذا يقتضي أن المقتضي للحظر في حقها أقوي، لكن إذا احتاجت إلى الفعل استباحت المحظور، مع قيام سبب الحظر؛ لأجل الضرورة. كما يباح سائر المحرمات مع الضرورة؛ من الدم، والميتة، ولحم الخنزير، وإن كان ما هو دونها في التحريم لا يباح من غير حاجة؛ كلبس الحرير، والشرب في آنية الذهب والفضة ونحو ذلك.
وكذلك الصلاة إلى غير القبلة مع كشف العورة، ومع النجاسة في البدن والثوب، هي محرمة أغلظ من غيرها، وتباح بل تجب مع الحاجة وغيرها، وإن كان دونها في التحريم كقراءة القرآن الكريم مع عدم الحاجة لا تباح.
وإذا قدر جنب استمرت به الجنابة، وهو لا يقدر على غسل، أو تيمم، فهذا كالحائض في الرخصة، وإن كان هذا نادرا، وقد أمر النبي ﷺ الْحُيَّض أن يخرجن في العيد، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين، ويكبرن بتكبير الناس. وكذلك الحائض والنفساء أمرهما النبي ﷺ بالإحرام، والتلبية، وما فيهما من ذكر الله وشهودهما عرفة مع الذكر والدعاء، ورمي الجمار مع ذكر الله، وغير ذلك، ولا يكره لها ذلك، بل يجب عليها، والجنب يكره له ذلك حتى يغتسل لأنه قادر على الطهارة بخلاف الحائض.
فهذا أصل عظيم في هذه المسائل ونوعها، لا ينبغي أن ينظر إلى غلظ المفسدة المقتضية للحظر إلا وينظر مع ذلك إلى الحاجة الموجبة للإذن؛ بل الموجبة للاستحباب، أو الإيجاب.
وكل ما يحرم معه الصلاة يجب معه عند الحاجة إذا لم تمكن الصلاة إلا كذلك، فإن الصلاة مع تلك الأمور أخف من ترك الصلاة، فلو صلى بتيمم مع قدرته على استعمال الماء، لكانت الصلاة محرمة، ومع عجزه عن استعمال الماء كانت الصلاة بالتيمم واجبة بالوقت، وكذلك الصلاة عريانا، وإلى غير القبلة، ومع حصول النجاسة، وبدون القراءة، وصلاة الفرض قاعدا أو بدون إكمال الركوع والسجود، وأمثال ذلك مما يحرم مع القدرة، ويجب مع العجز.
وكذلك أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، يحرم أكلها عند الغني عنها، ويجب أكلها عند الضرورة عند الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء. قال مسروق: من اضطر فلم يأكل حتى مات دخل النار. وذلك لأنه أعان على قتل نفسه بترك ما يقدر عليه من الأكل المباح له في هذه الحال، فصار بمنزلة من قتل نفسه، بخلاف المجاهد بالنفس، ومن تكلم بحق عند سلطان جائر، فإن ذلك قتل مجاهدا ففي قتله مصلحة لدين الله تعالى.
وتعليل منع طواف الحائض: بأنه لأجل حرمة المسجد، رأيته يعلل به بعض الحنفية، فإن مذهب أبي حنيفة أن الطهارة واجبة له، لا فرض فيه، ولا شرط له، ولكن هذا التعليل يناسب القول بأن طواف المحدث غير محرم، وهذا مذهب منصور بن المعتمر، وحماد بن أبي سليمان رواه أحمد عنهما. قال عبد الله في مناسكه: حدثني أبي، حدثنا سهل بن يوسف، أنبأنا شعبة عن حماد ومنصور قال: سألتهما عن الرجل يطوف بالبيت وهو غير متوضئ فلم يريا به بأسًا. قال عبد الله: سألت أبي عن ذلك، فقال: أحب إلى أن يطوف بالبيت وهو متوضئ؛ لأن الطواف صلاة. وأحمد عنه روايتان منصوصتان في الطهارة: هل هي شرط في الطواف؟ أم لا ؟ وكذلك وجوب الطهارة في الطواف، كلامه فيها يقتضي روايتين.
وكذلك قال بعض الحنفية: إن الطهارة ليست واجبة في الطواف، بل سنة، مع قوله: إن في تركها دما، فمن قال: إن المحدث يجوز له أن يطوف، بخلاف الحائض والجنب، فإنه يمكنه تعليل المنع بحرمة المسجد، لا بخصوص الطواف لأن الطواف؛ يباح فيه الكلام، والأكل والشرب، فلا يكون كالصلاة، ولأن الصلاة مفتاحها الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، والطواف ليس كذلك. ويقول: إنما منع العراة من ذلك لأجل نظر الناس، ولحرمة المسجد أيضا.
ومن قال هذا، قال: المطاف أشرف المساجد، ولايكاد يخلو من طائف، وقد قال الله تعالى: { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [62]، فأمر بأخذها عند دخول المسجد، وهذا بخلاف الصلاة، فإن المصلي عليه أن يستتر لنفس الصلاة، والصلاة تفعل في جميع البقاع، فلو صلى وحده في بيت مظلم لكان عليه أن يفعل ما أمر به من الستر للصلاة، بخلاف الطواف فإنه يشترط فيه المسجد الحرام، والاعتكاف يشترط فيه جنس المساجد.
وعلى قول هؤلاء، فلا يحرم طواف الجنب والحائض إذا اضطر إلى ذلك، كما لا يحرم عندهم الطواف على المحدث بحال؛لأنه لا يحرم عليهما دخول المسجد حينئذ، وهما إذا كانا مضطرين إلى ذلك أولي بالجواز من المحدث الذي يجوزون له الطواف مع الحدث من غير عذر، ألا تري أن المحدث منع من الصلاة ومس المصحف مع قدرته على الطهارة، وذلك جائز للجنب مع التيمم، وإذا عجز عن التيمم صلى بلا غسل، ولا تيمم في أحد قولي العلماء، وهو المشهور في مذهب الشافعي، وأحمد، كما ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا مع الجنابة قبل أن تنزل آية التيمم.
والحائض نهيت عن الصوم، فإنها ليست محتاجة إلى الصوم في الحيض، فإنه يمكنها أن تصوم شهرًا آخر غير رمضان، فإذا كان المسافر والمريض مع إمكان صومهما جعل لهما أن يصوما شهرا آخر، فالحائض الممنوعة من ذلك أولي أن تصوم شهرا آخر، وإذا أمرت بقضاء الصوم لم تؤمر إلا بشهر واحد، فلم يجب عليها إلا ما يجب على غيرها؛ ولهذا لو استحاضت فإنها تصوم مع الاستحاضة، فإن ذلك لا يمكن الاحتراز عنه؛ إذ قد تستحيض وقت القضاء.
وأما الصلاة، فإنها تتكرر في كل يوم وليلة خمس مرات، والحيض مما يمنع الصلاة، فلو قيل: إنها تصلي مع الحيض لأجل الحاجة، لم يكن الحيض مانعا من الصلاة بحال، وكان يكون الصوم والطواف بالبيت أعظم حرمة من الصلاة، وليس الأمر كذلك، بل كان من حرمة الصلاة أنها لا تصلي وقت الحيض، إذا كان لها في الصلاة أوقات الطهر غنية عن الصلاة وقت الحيض، وإذا كانت إنما منعت من الطواف لأجل المسجد فمعلوم أن إباحة ذلك للعذر أولي من إباحة مس المصحف للعذر، ولو كان لها مصحف ولم يمكنها حفظه إلا بمسه مثل أن يريد أن يأخذه لص، أو كافر، أو ينهبه أحد، أو يتهبه منها، ولم يمكنها منعه إلا بمسه، لكان ذلك جائزا لها مع أن المحدث لا يمس المصحف، ويجوز له الدخول في المسجد.
فعلم أن حرمة المصحف أعظم من حرمة المسجد، وإذا أبيح لها مس المصحف للحاجة، فالمسجد الذي حرمته دون حرمة المصحف أولي بالإباحة.
فصل إذا كان المنع من الطواف لمعني في نفس الطواف
وأما إن كان المنع من الطواف لمعنى في نفس الطواف، كما منع من غيره، أو كان لذلك وللمسجد، كل منهما علة مستقلة. فنقول: إذا اضطرت إلى ذلك بحيث لم يمكنها الحج بدون طوافها وهي حائض لتعذر المقام عليها إلى أن تطهر، فهنا الأمر دائر بين أن تطوف مع الحيض، وبين الضرر الذي ينافي الشريعة، فإن إلزامها بالمقام إذا كان فيه خوف على نفسها ومالها، وفيه عجزها عن الرجوع إلى أهلها، وإلزامها بالمقام بمكة مع عجزها عن ذلك، وتضررها به، لا تأتي به الشريعة، فإن مذهب عامة العلماء أن من أمكنه الحج، ولم يمكنه الرجوع إلى أهله لم يجب عليه الحج، وفيه قول ضعيف أنه يجب إذا أمكنه المقام. أما مع الضرر الذي يخاف منه على النفس، أو مع العجز عن الكسب، فلا يوجب أحد عليه المقام، فهذه لا يجب عليها حج يحتاج معه إلى سكني مكة.
وكثير من النساء إذا لم ترجع مع من حجت معه لم يمكنها بعد ذلك الرجوع، ولو قدر أنه يمكنها بعد ذلك الرجوع، فلا يجب عليها أن يبقي وطؤها محرما مع رجوعها إلى أهلها، ولا تزال كذلك إلى أن تعود، فهذا أيضا من أعظم الحرج الذي لا يوجب الله مثله، إذ هو أعظم من إيجاب حجتين، والله تعالى لم يوجب إلا حجة واحدة.
ومن وجب عليه القضاء كالمفسد، فإنما ذاك لتفريطه بإفساد الحج؛ ولهذا لم يجب القضاء على المحصر في أظهر قولي العلماء لعدم التفريط، ومن أوجب القضاء على من فاته الحج، فإنه يوجبه لأنه مفرط عنده.
وإذا قيل في هذه المرأة: بل تتحلل كما يتحلل المحصر، فهذا لا يفيد سقوط الفرض عنها، فتحتاج مع ذلك إلى حجة ثانية، ثم هي في الثانية تخاف ما خافته في الأولي، مع أن المحصر لا يحل إلا مع العجز الحسي، إما بعدو، أو بمرض، أو فقر، أو حبس. فأما من جهة الشرع فلا يكون أحد محصرا، وكل من قدر على الوصول إلى البيت لم يكن محصرا في الشرع، فهذه هي التقديرات التي يمكن أن تفعل: إما مقامها بمكة، وإما رجوعها محرمة، وإما تحللها، وكل ذلك مما منعه الشرع في حق مثلها.
وإن قيل: إن الحج يسقط عن مثل هذه، كما يسقط عمن لا تحج إلا مع من يفجر بها، لكون الطواف مع الحيض يحرم كالفجور.
قيل: هذا مخالف لأصول الشرع؛ لأن الشرع مبناه على قوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [63]، وعلى قول النبي ﷺ: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم). ومعلوم أن المرأة إذا لم يمكنها فعل شيء من فرائض الصلاة، أو الصيام أو غيرهما، إلا مع الفجور، لم يكن لها أن تفعل ذلك، فإن الله تعالى لم يأمر عباده بأمر لا يمكن إلا مع الفجور، فإن الزنا لا يباح بالضرورة، كما يباح أكل الميتة عند الضرورة، ولكن إذا أكرهت عليه بأن يفعل بها، ولا تستطيع الامتناع منه، فهذه لا فعل لها، وإن كان بالإكراه ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد:
إحداهما: أنه لا يباح بالإكراه، إلا الأقوال دون الأفعال.
والثاني: وهو قول الأكثرين: أن المكرهة على الزنا، وشرب الخمر، معفو عنها؛ لقوله تعالى: { وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [64]
وأما الرجل الزاني، ففيه قولان في مذهب أحمد، وغيره، بناء على أن الإكراه هل يمنع الانتشار، أم لا، فأبو حنيفة وأحمد في المنصوص عنه يقولان: لا يكون الرجل مكرها على الزنا.
وأما إذا أمكن العبد أن يفعل بعض الواجبات دون بعض، فإنه يؤمر بما يقدر عليه، وما عجز عنه يبقي ساقطًا، كما يؤمر بالصلاة عريانا ومع النجاسة، وإلى غير القبلة، إذا لم يطق إلا ذلك، وكما يجوز الطواف راكبًا ومحمولًا للعذر بالنص واتفاق العلماء، وبدون ذلك ففيه نزاع. وكما يجوز أداء الفرض للمريض قاعدًا أو راكبًا، ولا يجوز ذلك في الفرض بدون العذر، مع أن الصلاة إلى غير القبلة، والصلاة عريانًا، وبدون الاستنجاء، وفي الثوب النجس، حرام في الفرض والنفل، ومع هذا فلأن يصلي الفرض مع هذه المحظورات خير من تركها، وكذلك صلاة الخوف مع العمل الكثير، ومع استدبار القبلة، مع مفارقة الإمام في أثناء الصلاة، ومع قضاء ما فاته قبل السلام، وغير ذلك مما لا يجوز في غير العذر.
فإن قيل: الطواف مع الحيض كالصلاة مع الحيض، والصوم مع الحيض، وذلك لا يباح بحال.
قيل: الصوم مع الحيض لا يحتاج إليه بحال، فإن الواجب عليها شهر، وغير رمضان يقوم مقامه، وإذا لم يكن لها أن تؤدي الفرض مع الحيض، فالنفل بطريق الأولي؛ لأن لها مندوحة عن ذلك بالصيام في وقت الطهر، كما كان للمصلي المتطوع في أوقات النهي مندوحة عن ذلك بالتطوع في أوقات أخر، فلم تكن محتاجة إلى الصوم مع الحيض بحال، فلا تباح هذه المفسدة مع الاستغناء عنها، كما لا تباح صلاة التطوع التي لا سبب لها في أوقات النهي، بخلاف ذوات الأسباب، فإن الراجح في الدليل من قولي العلماء: أنها تجوز لحاجته إليها، فإنه إن لم يفعلها تعذر فعلها وفاتت مصلحتها، بخلاف التطوع المحض، فإنه لا يفوت. والصوم من هذا الباب ليس لها صوم إلا ويمكن فعله في أيام الطهر؛ ولهذا جاز للمستحاضة الصوم والصلاة.
وأما الصلاة، فإنها لو أبيحت مع الحيض، لم يكن الحيض مانعًا من الصلاة بحال، فإن الحيض مما يعتاد النساء، كما قال النبي ﷺ لعائشة: (إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم)، فلو أذن لهن النبي ﷺ أن يصلين بالحيض، صارت الصلاة مع الحيض كالصلاة مع الطهر.
ثم إن أبيح سائر العبادات لم يبق الحيض مانعًا، مع أن الجنابة والحدث الأصغر مانع، وهذا تناقض عظيم، وإن حرم ما دون الصلاة وأبيحت الصلاة، كان أيضا تناقضا، ولم تكن محتاجة إلى الصلاة زمن الحيض، فإن لها في الصلاة زمن الطهر وهو أغلب أوقاتها ما يغنيها عن الصلاة أيام الحيض، ولكن رخص لها فيما تحتاج إليه من التلبية والذكر والدعاء. وقد أمرت مع ذلك بالاغتسال، كما أمر النبي ﷺ أسماء أن تغتسل عند الإحرام لما نفست بمحمد بن أبي بكر. وأمر أيضًا بذلك النساء مطلقا، وأمر عائشة حين حاضت بسَرٍف أن تغتسل، وتحرم بالحج، فأمرها بالاغتسال مع الحيض للإهلال بالحج، ورخص للحائض مع ذلك أن تلبي، وتقف بعرفة، وتدعو وتذكر الله ولا تغتسل، ولا تتوضأ، ولا يكره لها ذلك، كما يكره للجنب لو فعل ذلك بدون طهارة؛ لأنها محتاجة إلى ذلك، وغسلها ووضوؤها لا يؤثران في الحدث المستمر، بخلاف غسلها عند الإحرام، فإنه غسل نظافة، كما يغتسل للجمعة.
ولهذا، هل يتيمم لمثل هذه الأغسال إذا عدم الماء؟ على قولين في مذهب أحمد، وكذلك هل ييمم الميت إذا تعذر غسله؟ على قولين. وليس هذا كغسل الجنابة، والوضوء من الحدث. ومع هذا فلم تؤمر بالغسل عند دخول مكة، والوقوف بعرفة، فلما نهيت عن الصلاة مع الحيض دون الأذكار من غير كراهة، علم الفرق بين ما تحتاج إليه، وما لا تحتاج إليه.
فإن قيل: سائر الأذكار تباح للجنب والمحدث فلا حظر في ذلك.
قيل: الجنب ممنوع من قراءة القرآن، ويكره له الأذان مع الجنابة والخطبة، وكذلك النوم بلا وضوء، وكذلك فعل المناسك بلا طهارة مع قدرته عليها، والمحدث أيضًا تستحب له الطهارة لذكر الله تعالى، كما قال النبي ﷺ: (إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر). والحائض لا يستحب لها شيء من ذلك، ولا يكره الذكر بدونه عند أحد من العلماء؛ للسنة المتواترة في ذلك.
وإنما تنازعوا في قراءة القرآن، وليس في منعها من القرآن سنة أصلا، فإن قوله: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن) حديث ضعيف. باتفاق أهل المعرفة بالحديث، رواه إسماعيل بن عياش عن موسي بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر. وأحاديثه عن أهل الحجاز يغلط فيها كثيرا، وليس لهذا أصل عن النبي ﷺ، ولا حدث به عن ابن عمر، ولا عن نافع، ولا عن موسي بن عقبة، أصحابهم المعروفون بنقل السنن عنهم.
وقد كان النساء يحضن على عهد رسول الله ﷺ، فلو كانت القراءة محرمة عليهن كالصلاة لكان هذا مما بينه النبي ﷺ لأمته، وتعلمه أمهات المؤمنين، وكان ذلك مما ينقلونه إلى الناس، فلما لم ينقل أحد عن النبي ﷺ في ذلك نهيا، لم يجز أن تجعل حرامًا، مع العلم أنه لم ينه عن ذلك، وإذا لم ينه عنه مع كثرة الحيض في زمنه علم أنه ليس بمحرم.
وهذا كما استدللنا على أن المنى لو كان نجسًا لكان يأمر الصحابة بإزالته من أبدانهم وثيابهم؛ لأنه لابد أن يصيب أبدان الناس وثيابهم في الاحتلام، فلما لم ينقل أحد عنه أنه أمر بإزالة ذلك لا بغسل، ولا فرك، مع كثرة إصابة ذلك الأبدان والثياب على عهده، وإلى يوم القيامة، علم أنه لم يأمر بذلك، ويمتنع أن تكون إزالته واجبة ولا يأمر به، مع عموم البلوي بذلك. كما أمر بالاستنجاء من الغائط والبول والحائض بإزلة دم الحيض من ثوبها.
وكذلك الوضوء من لمس النساء، ومن النجاسات الخارجة من غير السبيلين، لم يأمر المسلمين بالوضوء من ذلك، مع كثرة ابتلائهم به، ولو كان واجبًا لكان يجب الأمر به، وكان إذا أمر به فلابد أن ينقله المسلمون؛ لأنه مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله. وأمره بالوضوء من مس الذكر، ومما مست النار، أمر استح
باب، فهذا أولي ألا يكون إلا مستحبًا. وإذا كانت سنة رسول الله ﷺ مضت بأنه يرخص للحائض فيما لا يرخص فيه للجنب، لأجل حاجتها إلى ذلك، لعدم إمكان تطهرها، وأنه إنما حرم عليها مالا تحتاج إليه، فمنعت منه كما منعت من الصوم؛ لأجل حدث الحيض، وعدم احتياجها إلى الصوم، ومنعت من الصلاة بطريق الأولي؛ لاعتياضها عن صلاة الحيض بالصلاة بالطهر، فهي التي منعت من الطواف إذا أمكنها أن تطوف مع الطهر؛ لأن الطواف يشبه الصلاة من بعض الوجوه، وليس كالصلاة من كل الوجوه.
والحديث الذي رواه النسائي عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: (الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير) قد قيل: إنه من كلام ابن عباس. وسواء كان من كلام النبي ﷺ، أو كلام ابن عباس. ليس معناه: أنه نوع من الصلاة كصلاة الجمعة، والاستسقاء، والكسوف، فإن الله قد فرق بين الصلاة والطواف بقوله تعالى: { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [65]. وقد تكلم العلماء: أيما أفضل للقادم: الصلاة؟ أو الطواف؟ وأجمع العلماء على أن النبي ﷺ طاف بالبيت، وصلى خلف المقام ركعتين.
والآثار عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين وسائر العلماء بالفرق بين مسمي الصلاة، ومسمي الطواف متواترة، فلا يجوز أن يجعل نوعا من الصلاة، والنبي ﷺ قال: (الصلاة مفتاحها الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، والطواف ليس تحريمه التكبير، وتحليله التسليم، وقد تنازع السلف ومن بعدهم في وجوب الوضوء من الحدث له، والوضوء للصلاة معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن أنكره فهو كافر، ولم ينقل شيء عن النبي ﷺ في وجوب الوضوء له، ومنع الحائض لا يستلزم منع المحدث. وتنازع العلماء في الطهارة من الحيض: هل هي واجبة فيه؟ أو شرط فيه؟ على قولين فيه، ولم يتنازعوا في الطهارة للصلاة أنها شرط فيها. وأيضا، فقد قال النبي ﷺ: (لا صلاة إلا بأم القرآن)، والقراءة فيه ليست واجبة باتفاق العلماء، بل في كراهتها قولان للعلماء.
وأيضا، فإنه قد قال: (إن الله يحدث من أمره ما شاء، ومما أحدث ألا تكلموا في الصلاة) فنهى عن الكلام في الصلاة مطلقًا. والطواف يجوز فيه من الكلام ما لا يجوز في غيره، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين صلاة الجنازة، فإن لها تحريما وتحليلا، ونهى فيها عن الكلام، وتصلي بإمام وصفوف، وهذا كله متفق عليه، والقراءة فيها سنة عن النبي ﷺ، وهذا أصح قولي العلماء.
وأما [66]، فقد تنازع العلماء هل هو من الصلاة التي تشترط لها الطهارة مع أنه سجود، وهو أعظم أركان الصلاة الفعلية، ولا يتكلم في حال سجوده، بل يكبر إذا سجد، وإذا رفع، ويسلم أيضا في أحد قولي العلماء. هذا عند من يسلم أن السجود المجرد كسجود التلاوة تجب له الطهارة، ومن منع ذلك قال: إنه يجوز بدون الوضوء، وقال: إن السجود المجرد لا يدخل في مسمي الصلاة، وإنما مسمي الصلاة ماله تحريم وتحليل. وهذا السجود لم يرو عن النبي ﷺ أنه أمر له بالطهارة، بل ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ لما قرأ سورة النجم سجد معه المسلمون، والمشركون، والجن، والإنس. وسجد سحرة فرعون على غير طهارة، وثبت عن ابن عمر أنه سجد للتلاوة على غير وضوء، ولم يرو عن أحد من الصحابة أنه أوجب فيه الطهارة، وكذلك لم يرو أحد عن النبي ﷺ: أنه سلم فيه، وأكثر السلف على أنه لا يسلم فيه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وذكر أنه لم يسمع في التسليم أثرًا. ومن قال: فيه تسليم، فقد أثبته بالقياس الفاسد، حيث جعله صلاة، وهو موضع المنع.
وصلاة الجنازة قد ذهب بعضهم إلى أنه لا يشترط لها الطهارة لكن هذا قول ضعيف، فإن لها تحريما وتحليلا، فهي صلاة، وليس الطواف مثل شيء من ذلك، ولا الحائض محتاجة إلى ذلك، فإنها إذا لم تُصَلِّ فرض العين، ففرض الكفاية والنفل أولي، ودعاؤها للميت واستغفارها له يحصل المقصود بحسب الإمكان، كما أن شهودها العيد، وذكر الله تعالى مع المسلمين، يحصل المقصود بحسب الإمكان.
والطواف، وإن كان له مزية على سائر المناسك بنفسه، ولكونه في المسجد، وبأن الطواف شرع منفردا بنفسه، وشرع في العمرة، وشرع في الحج، وأما الإحرام والسعي بين الصفا والمروة، والحلق فلا يشرع إلا في حج أو عمرة، وأما سائر المناسك من الوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار فلا يشرع إلا في الحج، فهذا يدل على أن الله عز وجل يسره للناس، وجعل لهم التقرب به مع الإحلال والإحرام في النسكين، وفي غيرهما، فلم يوجب فيه ما أوجبه في الصلاة، ولا حرم فيه ما حرمه في الصلاة. فعلم أن أمر الصلاة أعظم، فلا يجعل مثل الصلاة.
ومن قال من العلماء: إن طواف أهل الآفاق أفضل من الصلاة بالمسجد، فإنما ذلك لأن الصلاة تمكنهم في سائر الأمصار، بخلاف الطواف، فإنه لا يمكن إلا بمكة، والعمل المفضول في مكانه وزمانه يقدم على الفاضل لا لأن جنسه أفضل، كما يقدم الدعاء في آخر الصلاة على الذكر والقراءة ويقدم الذكر في الركوع والسجود على القراءة؛ لأن النبي ﷺ قال: (نهيت أن أقرأ القرآن راكعا وساجدا)، وكما تقدم القراءة والذكر والدعاء في أوقات النهي، وكما تقدم إجابة المؤذن على الصلاة. والقراءة؛ لأن هذا يفوت وذلك لا يفوت، وكما إذا اجتمع صلاة الكسوف وغيرها، قدم ما يخاف فواته، فالطواف قدم لأنه يفوت الآفاقي إذا خرج، فقدم ذلك لا لأن جنسه أفضل من جنس الصلاة بل ولا مثلها، فإن هذا لا يقوله أحد، والحج كله لا يقاس بالصلاة التي هي عمود الدين، فكيف يقاس بها بعض أفعاله، وإنما فرض الله الحج على كل مسلم مرة في العمر، ولم يوجب شيئا من أعماله مرتين، بل إنما فرض طوافا واحدًا، ووقوفًا واحدًا. وكذلك السعي، عن أحمد في أَنَصِّ الروايتين عنه: لا يوجب على المتمتع إلا سعيا واحدا، إما قبل التعريف، وإما بعده بعد الطواف؛ ولهذا قال أكثر العلماء: إن العمرة لا تجب، كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الأظهر في الدليل، فإن الله لم يوجب إلا حج البيت، لم يوجب العمرة، ولكن أوجب إتمام الحج والعمرة على من يشرع فيها؛ لأن العمرة هي الحج الأصغر، فيجب إتمامها كما يجب إتمام الحج التطوع، والله لم يوجب إلا مسمي الحج، لم يوجب حجين أكبر وأصغر، والممسي يحصل بالحج الأكبر، وهو المفهوم من اسم الحج عند الإطلاق، فلا يجب غير ذلك، وليس في أعمال العمرة قدر زائد على أعمال الحج، فلو وجبت لم يجب إلا عمل واحد مرتين، وهذا خلاف ما أوجبه الله في الحج.
والمقصود هنا أن الحج إذا لم يجب إلا مرة واحدة، فكيف يقاس بما يجب في اليوم والليلة خمس مرات.
وهذا مما يفرق بين طواف الحائض، وصلاة الحائض، فإنها تحتاج إلى الطواف الذي هو فرض عليها مرة في العمر، وقد تكلفت السفر الطويل، وحملت الإبل أثقالها إلى بلد لم يكن الناس بالغيه إلا بشق الأنفس. فأين حاجة هذه إلى الطواف من حاجتها إلى الصلاة التي تستغني عنها زمن الحيض بما تفعله زمن الطهر؟! وقد تقدم أن الحائض لم تمنع من القراءة لحاجتها إليها، وحاجتها إلى هذا الطواف أعظم.
وإذا قال القائل: القرآن تقرؤه مع الحدث الأصغر، والطواف تجب له الطهارة. قيل له: هذا فيه نزاع معروف عن السلف، والخلف فلابد لك من حجة على وجوب الطهارة الصغري في الطواف. والاحتجاج بقوله: (الطواف بالبيت صلاة) حجة ضعيفة، فإن غايته أن يشبه بالصلاة في بعض الأحكام، وليس المشبه كالمشبه به من كل وجه، وإنما أراد أنه كالصلاة في اجتناب المحظورات التي تحرم خارج الصلاة، فأما ما يبطل الصلاة، وهو الكلام والأكل والشرب والعمل الكثير فليس شيء من هذا مبطلا للطواف، وإن كره فيه إذا لم يكن به حاجة إليه، فإنه يشغل عن مقصوده، كما يكره مثل ذلك عند القراءة والدعاء والذكر. وهذا كقول النبي ﷺ: (العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة)، وقوله: (إذا خرج أحدكم إلى المسجد فلا يشبك بين أصابعه، فإنه في صلاة).
ولهذا قال: (إلا أن الله أباح لكم فيه الكلام)، ومعلوم أنه يباح فيه الأكل والشرب، وهذه محظورات الصلاة التي تبطلها: الأكل، والشرب، والعمل الكثير، ولا يبطل شيء من ذلك الطواف، بل غايته أنه يكره فيه لغير حاجة، كما يكره العبث في الصلاة، ولو قطع الطواف لصلاة مكتوبة، أو جنازة أقيمت بني على طوافه. والصلاة لا تقطع لمثل ذلك، فليست محظورات الصلاة محظورة فيه، ولا واجبات الصلاة واجبات فيه؛ كالتحليل والتحريم، فكيف يقال: إنه مثل الصلاة فيما يجب لها ويحرم فيها؟! فمن أوجب له الطهارة الصغري، فلابد له من دليل شرعي، وما أعلم ما يوجب ذلك.
ثم تدبرت وتبين لي أن طهارة الحدث لا تشترط في الطواف، ولا تجب فيه بلا ريب، ولكن تستحب فيه الطهارة الصغري، فإن الأدلة الشرعية إنما تدل على عدم وجوبها فيه، وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغري فيه، وحينئذ فلا نسلم أن جنس الطواف أفضل من جنس قراءة القرآن، بل جنس القراءة أفضل منه فإنها أفضل ما في الصلاة من الأقوال، والسجود أفضل ما فيها من الأفعال، والطواف ليس فيه ذكر مفروض.
وإذا قيل: الطواف قد فرض بعضه. قيل له: قد فرضت القراءة في كل صلاة، فلا تصح صلاة إلا بقراءة، فكيف يقاس الطواف بالصلاة. وإذا كانت القراءة أفضل. وهي تجوز للحائض مع حاجتها إليها في أظهر قولي العلماء، فالطواف أولي أن يجوز مع الحاجة.
وإذا قيل: أنتم تسلمون أن الطواف في الأصل محظور على الحائض وإنما يباح للضرورة. قيل: من علل بالمسجد فلا يسلم أن نفس فعله محظور لنفسه، ومن سلم ذلك يقول: وكذلك من القرآن ما هو محظور على الحائض، وهو القراءة في الصلاة، وكذلك في غير الصلاة لغير حاجة يحرمها أكثر العلماء، وإنما أبيحت للحاجة، فإذا أبيحت للحاجة فالطواف أولي.
ثم مس المصحف يشترط له الطهارة الكبري والصغري عند جماهير العلماء، وكما دل عليه الكتاب والسنة، وهو ثابت عن سلمان وسعد وغيرهم من الصحابة، وحرمة المصحف أعظم من حرمة المساجد، ومع هذا إذا اضطر الجنب والمحدث والحائض إلى مَسِّه مَسَّه، فإذا اضطر إلى الطواف الذي لم يقم دليل شرعي على وجوب الطهارة فيه مطلقا كان أولي بالجواز.
فإذا قيل: الطواف منه ما هو واجب. قيل: ومس المصحف قد يجب في بعض الأحوال، إذا احتيج إليه لصيانته الواجبة، والقراءة الواجبة، أو الحمل الواجب، إذا لم يمكن أداء الواجب إلا بمسه.
وقوله ﷺ: (الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت) من جنس قوله: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وقوله: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار)، وقوله ﷺ: (لا أحل المسجد لجنب ولا حائض). بل اشتراط الوضوء في الصلاة، وخمارة المرأة في الصلاة، ومنع الصلاة بدون ذلك أعظم من منع الطواف مع الحيض، وإذا كان قد حرم المسجد على الجنب والحائض، ورخص للحائض أن تناوله الخمرة من المسجد، وقال لها: (إن حيضتك ليست في يدك) تبين أن الحيضة في الفرج، والفرج لا ينال المسجد، وهذه العلة تقتضي إباحته للحائض مطلقا، لكن إذا كان قد قال: (لا أحل المسجد لجنب ولا حائض) فلابد من الجمع بين ذلك، والإيمان بكل ما جاء من عند الله، وإذا لم يكن أحدهما ناسخا للآخر، فهذا عام مجمل، وهذا خاص فيه إباحة المرور، وهو مستثني من ذلك التحريم، مع أنه لا ضرورة إليه، فإباحة الطواف للضرورة لا تنافي تحريمه بذلك النص، كإباحة الصلاة للمرأة بلا خمار للضرورة، وإباحة الصلاة بلا وضوء للضرورة بالتيمم؛ بل وبلا وضوء ولا تيمم للضرورة، كما فعل الصحابة لما فقدوا الماء قبل نزول الآية، وكإباحة الصلاة بلا قراءة للضرورة، مع قوله: (لا صلاة إلا بأم القرآن). وكإباحة الصلاة والطواف مع النجاسة للضرورة مع قوله: (حتيه ثم اقرصيه ثم صلى فيه)، وإباحة الصلاة على المكان النجس للضرورة مع قوله: (جعلت لي كل أرض طيبة مسجدًا وطهورًا)، بل تحريم الدم ولحم الخنزير أعظم الأمور، وقد أبيح للضرورة.
والذي جاءت به السنة أن الطواف عبادة متوسطة بين الصلاة، وبين سائر المناسك، فهو أفضل من غيره لنهي الحائض عنه، فالصلاة أكمل منه، وذلك لأنه يشبه الصلاة أكثر من غيره، ولأنه مختص بالمسجد، فلهاتين الحرمتين منعت منه الحائض، ولم تأت سنة تمنع المحدث منه، وما لم يحرم على المحدث فلا يحرم على الحائض مع الضرورة بطريق الأولي والأحري، كقراءة القرآن، وكالاعتكاف في المسجد، ولو حرم عليها مع الحدث فلا يلزم تحريم ذلك مع الضرورة كمس المصحف وغيره. ومن جعل حكم الطواف مثل حكم الصلاة فيما يجب ويحرم، فقد خالف النص والإجماع.
وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة النص والإجماع، ودليل مستنبط من ذلك تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء؛ فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية، لا يحتج بها على الأدلة الشرعية. ومن تربي على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية وتنازع العلماء، لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول بحيث يجب الإيمان به، وبين ما قاله بعض العلماء، ويتعسر أو يتعذر إقامة الحجة عليه، ومن كان لا يفرق بين هذا وهذا لم يحسن أن يتكلم في العلم بكلام العلماء، وإنما هو من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم، مثل المحدث عن غيره. والشاهد على غيره لا يكون حاكما، والناقل المجرد يكون حاكيًا لا مفتيًا. ولا يحتمل حال هذه المرأة إلا تلك الأمور الثلاثة، أو هذا القول، أو أن يقال: طواف الإفاضة قبل الوقوف يجزئ إذا تعذر الطواف بعده، كما يذكر ذلك قولا في مذهب مالك، فيمن نسي طواف الإفاضة حتى عاد إلى بلده أنه يجزئه طواف القدوم، هذا مع أنه ليس لها فيه فرج، فإنها قد يمتد بها الحيض من حين تدخل مكة إلى أن يخرج الحاج.
وفيه أيضا تقديم الطواف قبل وقته الثابت بالكتاب والسنة والإجماع. والمناسك قبل وقتها لا تجزئ. وإذا دار الأمر بين أن تطوف طواف الإفاضة مع الحدث، وبين ألا تطوفه، كان أن تطوفه مع الحدث أولي، فإن في اشتراط الطهارة نزاعا معروفا. وكثير من العلماء كأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه يقولون: إنها في حال القدرة على الطهارة إذا طافت مع الحيض أجزأها، وعليها دم، مع قولهم: إنها تأثم بذلك، ولو طافت قبل التعريف لم يجزئها، وهذا القول مشهور معروف. فتبين لك أن الطواف مع الحيض أولي من الطواف قبل الوقت. وأصحاب هذا القول يقولون: إن الطهارة واجبة فيها لا شرط فيها، والواجبات كلها تسقط بالعجز؛ ولهذا كان قول أبي حنيفة وغيره من العلماء: إن كل ما يجب في حال دون حال فليس بفرض، وإنما الفرض ما يجب على كل أحد في كل حال.
ولهذا قالوا: إن طواف الوداع لما أسقطه النبي ﷺ عن الحائض دل على أنه ليس بركن بل يجبره دم. وكذلك المبيت بمنى لما أسقطه عن أهل السقاية دل على أنه ليس بفرض، بل هو واجب يجبره دم. وكذلك الرمي لما جوز فيه للرعاة وأهل السقاية التأخير من وقت إلى وقت دل ذلك على أن فعله في ذلك الوقت ليس بفرض. وكذلك لما رخص للضعفة أن يفيضوا من جمع بليل دل على أن الوقوف بمزدلفة بعد الفجر ليس بفرض بل هو واجب يجبره الدم. فهذا حجة لهؤلاء العلماء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. وقد ذكرها أصحاب أبي حنيفة كالطحاوي وغيره.
فإذا كان قولهم: إن الطهارة ليست فرضا في الطواف وشرطا فيه، بل هي واجبة تجبر بدم، دل ذلك على أنها لا تجب على كل أحد في كل حال، فإنما أوجب على كل أحد في كل حال إنما هو فرض عندهم لابد من فعله لا يجبر بدم.
وحينئذ، فإذا كانت الطهارة واجبة في حال دون حال سقطت مع العجز، كما سقط سائر الواجبات مع العجز، كطواف الوداع، وكما يباح للمحرم ما يحتاج إليه الناس من حاجة عامة كالسراويل، والخفين، فلا فدية عند أكثر العلماء كالشافعي، وأحمد، وسائر فقهاء الحديث، بخلاف ما يحتاج إليه في بعض الأحوال، فإنه لا يباح إلا مع الفدية، وأبوحنيفة يوجب الفدية في الجميع. وحينئذ فهذه المحتاجة إلى الطواف أكثر ما يقال: إنه يلزمها دم، كما هو قول أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب أحمد. فإن الدم يلزمها بدون العذر، على قول من يجعل الطهارة واجبة، وأما مع العجز، فإذا قيل بوجوب ذلك فهذا غاية ما يقال فيها. والأقيس أنه لا دم عليها عند الضرورة. وأما أن يجعل هذا واجبا يجبره دم، ويقال: إنه لا يسقط للضرورة، فهذا خلاف أصول الشريعة.
وقد تبين بهذا أن المضطرة إلى الطواف مع الحيض لما كان في علماء المسلمين من يفتيها بالإجزاء مع الدم وإن لم تكن مضطرة. لم تكن الأمة مجمعة على أنه لا يجزئها إلا الطواف مع الطهر مطلقا، وحينئذ فليس مع المنازع القائل بذلك لا نص ولا إجماع ولا قياس، وقد بينا أن هذا القول مستلزم لجواز ذلك عند الحاجة، وأن العلماء اختلفوا في طهارة الحدث هل هي واجبة عليها؟ وأن قول النفاة للوجوب أظهر. فلم تجمع الأمة على وجوب الطهارة مطلقا، ولا على أن شيئا من الطهارة شرط في الطواف.
وأما الذي لا أعلم فيه نزاعًا أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض إذا كانت قادرة على الطواف مع الطهر. فما أعلم منازعا أن ذلك يحرم عليها وتأثم به، وتنازعوا في إجزائه: فمذهب أبي حنيفة يجزئها ذلك، وهو قول في مذهب أحمد، فإن أحمد نص في رواية على أن الجنب إذا طاف ناسيا أجزأه ذلك، فمن أصحابه من قصر ذلك على حال النسيان، ومنهم من قال: هذا يدل على أن الطهارة ليست فرضا، إذ لو كانت فرضا لما سقطت بالنسيان؛ لأنها منباب المأمور به لا منباب المنهي عنه كطهارة الحدث في الصلاة؛ بخلاف اجتناب النجاسة في الصلاة، فإن ظاهر مذهب أحمد أنه إذا صلى ناسيا لها أو جاهلا بها لا يعيد؛ لأن ذلك منباب المنهي عنه، فإذا فعله ناسيا أو جاهلا به لم يكن عليه إثم فيكون وجوده كعدمه.
ثم إن من أصحابه من قال: هذا يدل على أن الطهارة في الطواف ليست عنده ركنا على هذه الرواية، بل واجبة تجبر بدم، وحكي هؤلاء في صحة طواف الحائض روايتين:
إحداهما: لا يصح، والثانية: يصح وتجبره بدم. وممن ذكر هذا أبو البركات وغيره، وكذلك صرح غير واحد منهم بأن هذا النزاع في الطهارة من الحيض والجنابة كمذهب أبي حنيفة. فعلى هذا القول تسقط بالعجز كسائر الواجبات.
وذكر آخرون من أصحابه عنه ثلاث روايات: رواية يجزئه الطواف مع الجنابة ناسيًا ولا دم عليه. ورواية أن عليه دمًا. ورواية أنه لا يجزئه ذلك، وبعض الناس يظن أن النزاع في مذهب أحمد إنما هو في الجنب والمحدث، دون الحائض، وليس الأمر كذلك. بل صرح غير واحد من أصحابه بأن النزاع في الحائض وغيرها، وكلام أحمد يدل على ذلك وتبين أنه كان متوقفا في طواف الحائض، وفي طواف الجنب، وكان يذكر أقوال الصحابة والتابعين وغيرهم في ذلك. فذكر أبو بكر عبد العزيز في الشافي عن الميموني قال: قلت لأحمد: من سعي وطاف طواف الواجب على غير طهارة، ثم واقع أهله فقال: هذه مسألة الناس فيها مختلفون، وذكر قول ابن عمر، وما يقول عطاء، وما يسهل فيه، وما يقول الحسن، وأمر عائشة، فقال النبي ﷺ حين حاضت: (افعلي ما يفعل الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت، إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم)، فقد بليت به، نزل بها ليس من قبلها. قال الميموني: قلت: فمن الناس من يقول: عليه الحج، فقال: نعم كذلك أكثر علمي، ومن الناس من يذهب إلى أن عليه دما؟ قال أبو عبد الله: أولا وآخرًا هي مسألة مشتبهة فيها نظر، دعني حتى أنظر فيها. ومن الناس من يقول: وإن رجع إلى بلده يرجع حتى يطوف. قلت: والنسيان. قال: والنسيان أهون حكما بكثير؟ يريد أهون ممن يطوف على غير طهارة متعمدًا.
قال أبو بكر عبد العزيز: قد بينا أمر الطواف بالبيت في أحكام الطواف على قولين، يعني لأحمد. أحد القولين: إذا طاف الرجل وهو غير طاهر أن الطواف يجزئ عنه إذا كان ناسيًا. والقول الآخر: أنه لا يجزئه حتى يكون طاهرًا، فإن وطئ وقد طاف غير طاهر ناسيًا فعلى قولين: مثل قوله في الطواف، فمن أجاز الطواف غير طاهر قال: تم حجه، ومن لم يجزه إلا طاهرًا رده من أي المواضع ذكر حتى يطوف. قال: وبهذا أقول.
فأبو بكر وغيره من أصحاب أحمد يقولون في إحدى الروايتين: يجزئه مع الع ذر، ولا دم عليه، وكلام أحمد بين في هذا. وجواب أحمد المذكور يبين أن النزاع عنده في طواف الحائض وغيره.
وقد ذكر عن ابن عمر وعطاء وغيرهما التسهيل في هذا. ومما نقل عن عطاء في ذلك أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف، فإنها تتم طوافها، وهذا صريح عن عطاء أن الطهارة من الحيض ليست شرطًا، وقوله: مما اعتد به أحمد، وذكر حديث عائشة، وأن قول النبي ﷺ: (إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم) يبين أنه أمر بليت به نزل عليها ليس من قبلها فهي معذورة في ذلك.
ولهذا تعذر إذا حاضت وهي معتكفة فلا يبطل اعتكافها، بل تقيم في رحبة المسجد، وإن اضطرت إلى المقام في المسجد أقامت به، وكذلك إذا حاضت في صوم الشهرين لم ينقطع التتابع باتفاق العلماء. وهذا يقتضي أنها تشهد المناسك بلا كراهة، وتشهد العيد مع المسلمين بلا كراهة، وتدعو وتذكر الله، والجنب يكره له ذلك، لأنه قادر على الطهارة، وهذه عاجزة عنها فهي معذورة، كما عذرها من جوز لها القراءة، بخلاف الجنب الذي يمكنه الطهارة، فالحائض أحق بأن تعذر من الجنب الذي طاف مع الجنابة، فإن ذلك يمكنه الطهارة، وهذه تعجز عن الطهارة، وعذرها بالعجز والضرورة أولي من عذر الجنب بالنسيان، فإن الناسي لما أمر بها في الصلاة يؤمر بها إذا ذكرها، وكذلك من نسي الطهارة للصلاة فعليه أن يتطهر ويصلي إذا ذكر، بخلاف العاجز عن الشرط؛ مثل من يعجز عن الطهارة بالماء فإنها تسقط عنه، وكذلك العاجز عن سائر أركان الصلاة؛ كالعاجز عن القراءة والقيام، وعن تكميل الركوع والسجود، وعن استقبال القبلة، فإن هذا يسقط عنه كل ما عجز عنه، ولم يوجب الله على أحد ما يعجز عنه من واجبات العبادات.
فهذه إذا لم يمكنها الطواف على الطهارة، سقط عنها ما تعجز عنه، ولا يسقط عنها الطواف الذي تقدر عليه بعجزها عما هو ركن فيه أو واجب، كما في الصلاة وغيرها، وقد قال الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [67]، وقال النبي ﷺ: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، وهذه لا تستطيع إلا هذا، وقد اتقت الله ما استطاعت، فليس عليها غير ذلك.
ومعلوم أن الذي طاف على غير طهارة متعمدًا آثم. وقد ذكر أحمد القولين: هل عليه دم؟ أم يرجع فيطوف؟ وذكر النزاع في ذلك، وكلامه يبين في أن توقفه في الطائف على غير طهارة يتناول الحائض والجنب مع التعمد، ويبين أن أمر الناسي أهون بكثير، والعاجز عن الطهارة أعذر من الناسي.
وقال أبو بكر عبد العزيز في "الشافي": باب في الطواف بالبيت غير طاهر: قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب: ولا يطوف بالبيت أحد إلا طاهرًا، والتطوع أيسر، ولا يقف مشاهد الحج إلا طاهرًا. وقال في رواية محمد بن الحكم: إذا طاف طواف الزيارة وهو ناس لطهارته حتى رجع فإنه لا شيء عليه، واختار له أن يطوف وهو طاهر، وإن وطئ فحجه ماض، ولا شيء عليه.
فهذا النص من أحمد صريح بأن الطهارة ليست شرطًا، وأنه لا شيء عليه إذا طاف ناسيًا لطهارته، لا دم ولا غيره، وأنه إذا وطئ بعد ذلك فحجه ماض، ولا شيء عليه، كما أنه لما فرق بين التطوع وغيره في الطهارة، فأمر بالطهارة فيه، وفي سائر المناسك، دل ذلك على أن الطهارة ليست شرطا عنده، فقطع هنا بأنه لا شيء عليه مع النسيان. وقال في رواية أبي طالب أيضا: إذا طاف بالبيت وهو غير طاهر يتوضأ ويعيد الطواف، وإذا طاف وهو جنب فإنه يغتسل ويعيد الطواف. وقال في رواية أبي داود: حدثنا سفيان عن ابن جُرَيْج عن عطاء: إذا طاف على غير وضوء فليعد طوافه. وقال أبو بكر عبد العزيز: باب في الطواف في الثوب النجس قال: أبو عبد الله في رواية أبي طالب: وإذا طاف رجل في ثوب نجس، فإن الحسن كان يكره أن يفعل ذلك، ولا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر.
وهذا الكلام من أحمد يبين أنه ليس الطواف عنده كالصلاة في شروطها، فإن غاية ما ذكر في الطواف في الثوب النجس أن الحسن كره ذلك، وقال: لا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر. ومثل هذه العبارة تقال في المستحب المؤكد، وهذا بخلاف الطهارة في الصلاة. ومذهب أبي حنيفة وغيره أنه إذا طاف وعليه نجاسة صح طوافه، ولا شيء عليه.
وبالجملة، هل يشترط للطواف شروط الصلاة؟ على قولين في مذهب أحمد، وغيره:
أحدهما: يشترط، كقول مالك، والشافعي، وغيرهما.
والثاني: لا يشترط، وهذا قول أكثر السلف، وهو مذهب أبي حنيفة، وغيره، وهذا القول هو الصواب، فإن المشترطين في الطواف كشروط الصلاة ليس معهم حجة إلا قوله ﷺ: (الطواف بالبيت صلاة)، وهذا لو ثبت عن النبي ﷺ لم يكن لهم فيه حجة، كما تقدم. والأدلة الشرعية تدل على خلاف ذلك. فإن النبي ﷺ لم يوجب على الطائفين طهارة ولا اجتناب نجاسة، بل قال: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، والطواف ليس كذلك، والطواف لا يجب فيه ما يجب في الصلاة، ولا يحرم فيه ما يحرم في الصلاة، فبطل أن يكون مثلها.
وقد ذكروا من القياس أنها عبادة متعلقة بالبيت فكانت الطهارة وغيرها شرطا فيها كالصلاة، وهذا القياس فاسد، فإنه يقال: لا نسلم أن العلة في الأصل كونها متعلقة بالبيت، ولم يذكروا دليلا على ذلك. والقياس الصحيح ما بين فيه أن المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم أو دليل العلة.
وأيضا، فالطهارة إنما وجبت لكونها صلاة، سواء تعلقت بالبيت أو لم تتعلق، ألا تري أنهم لما كانوا يصلون إلى الصخرة كانت الطهارة أيضا شرطا فيها، ولم تكن متعلقة بالبيت، وكذلك أيضا إذا صلى إلى غير القبلة كما يصلي المتطوع في السفر، وكصلاة الخوف راكبًا، فإن الطهارة شرط وليست متعلقة بالبيت.
وأيضا، فالنظر إلى البيت عبادة متعلقة بالبيت، ولا يشترط له الطهارة ولا غيرها. ثم هناك عبادة من شرطها المسجد، ولم تكن الطهارة شرطا فيها كالاعتكاف، وقد قال تعالى: { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [68]، فليس إلحاق الطائف بالراكع الساجد بأولي من إلحاقه بالعاكف، بل بالعاكف أشبه؛ لأن المسجد شرط في الطواف والعكوف، وليس شرطا في الصلاة.
فإن قيل: الطائف لابد أن يصلي الركعتين بعد الطواف، والصلاة لا تكون إلا بطهارة. قيل: وجوب ركعتي الطواف فيه نزاع، وإذا قدر وجوبهما لم تجب فيهما الموالاة، وليس اتصالهما بالطواف بأعظم من اتصال الصلاة بالخطبة يوم الجمعة. ومعلوم أنه لو خطب محدثا، ثم توضأ، وصلى الجمعة جاز، فلأن يجوز أن يطوف محدثا ثم يتوضأ ويصلي الركعتين بطريق الأولي، وهذا كثير ما يبتلي به الإنسان إذا نسي الطهارة في الخطبة والطواف، فإنه يجوز له أن يتطهر ويصلي، وقد نص على أنه إذا خطب وهو جنب جاز.
وإذا تبين أن الطهارة ليست شرطا، يبقي الأمر دائرا بين أن تكون واجبة، وبين أن تكون سنة، وهما قولان للسلف، وهما قولان في مذهب أحمد وغيره، وفي مذهب أبي حنيفة، لكن من يقول: هي سنة من أصحاب أبي حنيفة يقول: مع ذلك عليها دم. وأما أحمد فإنه يقول: لا شيء عليها، لا دم ولا غيره، كما صرح به فيمن طاف جنبا وهو ناس، فإذا طافت حائضا مع التعمد توجه القول بوجوب الدم عليها.
وأما مع العجز فهنا غاية ما يقال: إن عليها دمًا، والأشبه أنه لا يجب الدم؛ لأن هذا واجب تؤمر به مع القدرة لا مع العجز، فإن لزوم الدم إنما يجب بترك مأمور، وهي لم تترك مأمورا في هذه الحالة، ولم تفعل محظورًا من محظورات الإحرام، وهذا ليس من محظورات الإحرام؛ فإن الطواف يفعله الحلال والحرام، فصار الحظر هنا من جنس حظر اللبث في المسجد، واعتكاف الحائض في المسجد، أو مس المصحف، أو قراءة القرآن، وهذا يجوز للحاجة بلا دم، وطواف الإفاضة إنما يجوز بعد التحلل الأول، وهي حينئذ يباح لها المحظورات إلا الجماع.
فإن قيل: لو كان طوافها مع الحيض ممكنًا أمرت بطواف القدوم وطواف الوداع، والنبي ﷺ أسقط طواف الوداع عن الحائض، وأمر عائشة لما قدمت وهي متمتعة فحاضت أن تدع أفعال العمرة، وتحرم بالحج، فعلم أنه لا يمكنها الطواف.
قيل: الطواف مع الحيض محظور لحرمة المسجد، أو للطواف، أو لهما. والمحظورات لا تباح إلا حال الضرورة، ولا ضرورة بها إلى طواف الوداع، فإن ذلك ليس من الحج؛ ولهذا لا يودع المقيم بمكة، وإنما يودع المسافر عنها، فيكون آخر عهده بالبيت. وكذلك طواف القدوم ليست مضطرة إليه، بل لو قدم الحاج وقد ضاق الوقت عليه بدأ بعرفة، ولم يطف للقدوم، فهو إن أمر بهما القادر عليهما إما أمر إيجاب فيهما، أو في أحدهما، أو استحباب. فإن للعلماء في ذلك أقوالا. وليس واحد منهما ركنا يجب على كل حاج بالسنة الثابتة باتفاق العلماء، بخلاف طواف الفرض فإنها مضطرة إليه؛ لأنه لا حج إلا به، وهذا كما يباح لها دخول المسجد للضرورة، ولا تدخله لصلاة، ولا اعتكاف وإن كان منذورًا، بل المعتكفة إذا حاضت خرجت من المسجد، ونصبت لها قبة في فنائه.
وهذا أيضا يدل على أن منع الحائض من الطواف كمنعها من الاعتكاف فيه لحرمة المسجد، وإلا فالحيض لا يبطل اعتكافها؛ لأنها مضطرة إليه، بل إنما تمنع من المسجد، لا من الاعتكاف، فإنها ليست مضطرة إلى أن تقيم في المسجد، ولو أبيح لها ذلك مع دوام الحيض لكان في ذلك إباحة المسجد للحيض. وأما الطواف فلا يمكن إلا في المسجد الحرام، فإنه مختص ببقعة معينة. ليس كالاعتكاف، فإن المعتكف يخرج من المسجد لما لابد منه: كقضاء الحاجة، والأكل والشرب، وهو معتكف في حال خروجه من المسجد، ليس له في تلك الحال أن يباشر النساء، وهو كما قال الله تعالى: { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [69]، وقوله: { فِي الْمَسَاجِدِ } يتعلق بقوله: { عَاكِفُونَ }، لا بقوله: { تُبَاشِرُوهُنَّ }، فإن المباشرة في المسجد لا تجوز للمعتكف ولا لغيره، بل المعتكف في المسجد ليس له أن يباشر إذا خرج منه لما لابد منه.
فلما كان هذا يشبه الاعتكاف، والحائض تخرج لما لابد لها منه، فلم يقطع الحيض اعتكافها، وقد جمع سبحانه بين العكوف والطواف والصلاة في الأمر بتطهير بيته، بقوله: { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [70]، فمنعه من الحيض من تمام طهارته، والطواف كالعكوف، لا كالصلاة، فإن الصلاة تباح في جميع الأرض لا تختص بمسجد، ويجب لها ويحرم فيها ما لا يحرم في اعتكاف ولا طواف.
وحقيقة الأمر: أن الطواف عبادة من العبادات التي يفعلها الحلال والحرام، لا تختص بالإحرام، ولهذا كان طواف الفرض إنما يجب بعد التحلل الأول، فيطوف الحاج الطواف المذكور في قوله تعالى: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [71]. فيطوف الحجاج وهم حلال قد قضوا حجهم، ولم يبق عليهم محرم إلا النساء، ولهذا لو جامع أحدهم في هذه الحال لم يفسد نسكه باتفاق الأئمة، وإذا كانت عبادة من العبادات فهي عبادة مختصة بالمسجد الحرام، كما أن الاعتكاف يختص بجميع المساجد، والله تعالى قد أمر بتطهير بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود، وليس هو نوعًا من الصلاة فإذا ترك من واجبه شيئا، فقد يقال: ترك شيئا، ومن ترك شيئا من نسكه فعليه دم. وإذا ترك الواجب الذي هو صفة في الطواف للعجز فهذا محل اجتهاد، هل يلحق بمن ترك شيئا من نسكه؟ أو يقال: هذا فيمن ترك نسكا مستقلا، أو تركه مع القدرة بلا عذر، أو ترك ما يختص بالحج والعمرة.
وأما القول بأن هذه العاجزة عن الطواف مع الحيض ترجع محرمة أو تكون كالمحصر، أو يسقط عنها الحج، أو يسقط عنها طواف الفرض فهذه أقوال كلها مخالفة لأصول الشرع، مع أني لم أعلم إمامًا من الأئمة صرح بشيء منها في هذه الصورة، وإنما كلام من قال: عليها دم، أو ترجع محرمة ونحو ذلك من السلف والأئمة كلام مطلق، يتناول من كان يفعل ذلك في عهدهم، وكان زمنهم يمكنها أن تحتبس حتى تطهر وتطوف، وكانوا يأمرون الأمراء أن يحتبسوا حتى تطهر الحيض، ويطفن؛ ولهذا ألزم مالك وغيره المكاري الذي لها أن يحتبس معها حتى تطهر وتطوف. ثم إن أصحابه قالوا: لا يجب على مكاريها في هذه الأزمان أن يحتبس معها، لما عليه في ذلك من الضرر.
فعلم أن أجوبة الأئمة بكون الطهارة من الحيض شرطا أو واجبا؛ كان مع القدرة على أن تطوف طاهرًا لا مع العجز عن ذلك، اللهم إلا أن يكون منهم من قال بالاشتراط، أو الوجوب في الحالين، فيكون النزاع مع من قال ذلك، والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد.
سئل عن مسائل في الحيض يبتلى بها شطر النسوة في الحج
وسئل شيخ الإسلام عن هذه الضرورة التي في الحيض المبتلي بها شطر النسوة في الحج وكثرة اختلاف الأنواع فيه: منهم من تكون حائضا في ابتداء الإحرام ومنهم من تحيض أيام التشريق.
المسألة الأولى: امرأة تحيض أول الشهر، ولم يمكن أن تطوف إلا حائضا، وعند الوقوف بعرفة ترى شيئا من الصفرة والكدرة التي تراها بعد القصة البيضاء، فما الحكم في ذلك.
المسألة الثانية: فيمن تحيض في خامس إلى تاسع، ويبقي حيضها إلى سابع عشر، أو أكثر، فوقفت وهي حائض، ورمت وهي حائض وطافت للإفاضة وهي حائض ولم يمكنها عمرة.
المسألة الثالثة: امرأة وقفت ورمت الجمار، وتريد طواف الإفاضة فحاضت قبل الطواف، فلم تطف وكتمت، وكانت تريد العمرة فلم تعتمر ورجعت ولم تفعل لا طوافا ولا عمرة، ولا دما.
فأجاب رحمه الله:
الحمد لله رب العالمين.
أما المسألة الأولى: فإن المرأة الحائض تقضي جميع المناسك. وهي حائض غير الطواف، بسنة رسول الله ﷺ الثابتة عنه، واتفاق الأئمة. فإنه ﷺ قال: (الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت)، وأمر أسماء بنت أبي بكر لما نفست بذي الحليفة أن تغتسل، وتحرم، وأمر عائشة لما حاضت بسرف أن تغتسل وتحرم بالحج، ولا تطوف قبل التعريف.
فهذه التي قدمت مكة وهي حائض قبل التعريف، لا تطوف بالبيت لكن تقف بعرفة، ولو كانت حائضا، فكيف إذا كانت تري شيئا من الصفرة والكدرة. و[72] للفقهاء فيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد، وغيره: هل هي حيض مطلقا، أو ليست حيضا مطلقا. والقول الثالث وهو الصحيح: أنها إن كانت في العادة مع الدم الأسود والأحمر فهي حيض، وإلا فلا؛ لأن النساء كن يرسلن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف، فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. وكذلك غيرها، فكن يجعلن ما قبل القصة البيضاء حيضا. وقالت أم عطية: كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا.
وليس في المناسك ما تجب له الطهارة إلا الطواف، فإن الطواف بالبيت تجب له الطهارة باتفاق العلماء. وأما الطواف بين الصفا والمروة ففيه نزاع، والجمهور على أنه لا تجب له الطهارة، وما سوي ذلك لا تجب له الطهارة باتفاق العلماء.
ثم تنازع العلماء في الطهارة: هل هي شرط في صحة الطواف. كما هي شرط في صحة الصلاة، أم هي واجبة إذا تركها جبرها بدم، كمن ترك الإحرام من الميقات، أو ترك رمي الجمار، أو نحو ذلك؟ على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد.
أشهرهما عنه وهي مذهب مالك، والشافعي أن الطهارة شرط فيها، فإذا طاف جنبا أو محدثا أو حائضا ناسيًا أو جاهلا، ثم علم أعاد الطواف.
والثاني: أنه واجب، فإذا فعل ذلك جبره بدم؛ لكن عند أبي حنيفة: الجنب والحائض عليه بدنة، والمحدث عليه شاة.
وأما أحمد فأوجب دما، ولم يعين بدنة، ونص في ذلك على الجنب إذا طاف ناسيا فقال في هذه الرواية: عليه دم. فمن أصحابه من جعل الروايتين في المعذور خاصة، كالناسي. ومنهم من جعل الروايتين مطلقا في الناسي والمتعمد، ونحوهما.
والذين جعلوا ذلك شرطا احتجوا بأن الطواف بالبيت كالصلاة، كما في النسائي وغيره عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله قد أباح لكم فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير)، وهذا قد قيل: إنه موقوف على ابن عباس. وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: (لا يطوف بالبيت عريان)، وقد قال الله تعالى: { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [73]، نزلت لما كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا الحمس، فإنهم كانوا يطوفون في ثيابهم، وغيرهم لا يطوف في ثيابه، يقولون: ثياب عصينا الله فيها، فإن وجد ثوب أحمسي طاف فيه، وإلا طاف عريانا، فإن طاف في ثيابه ألقاها فسميت لقاء.
وكان هذا مما ابتدعه المشركون في الطواف، وابتدعوا أيضا تحريم أشياء من المطاعم في الإحرام، فأنزل الله: { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } [74]، وقوله: { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } كالطواف بالبيت عراة { قَالُواْ وَجَدْنَا عليها آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ على اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [75]
فما ثبت بالنص من إيجاب الطهارة والستارة في الطواف متفق عليه، وأما ما ثبت باللزوم من كون ذلك شرطا فيه كالصلاة، ففيه نزاع. ومن قال: إن ذلك ليس بشرط، قال: إن الحج قد وجب فيه أشياء تجبر بدم، ليست شرطًا في صحة الحج، إذا تركها الحاج عمدًا، أو سهوًا، جبرها بدم، بخلاف الصلاة.
وأما الصلاة، فهل يجب فيها ما لا تبطل بتركه مطلقا، أم لا؟ أم لا تبطل إذا تركه نسيانًا؟ هذا فيه نزاع مشهور. فأبو حنيفة يوجب فيها ما لا تبطل بتركه مطلقا؛ كقراءة الفاتحة، والطمأنينة، وكذلك أحمد في أحد القولين في مذهبه، إذ أوجب الجماعة، ولم يجعلها شرطا في صحة الصلاة، وأحمد في المشهور عنه يوجب فيها ما إذا تركه سهوا جبره بسجدتي السهو، وما لا يحتاج إلى جبر كاجتناب النجاسات في المشهور عنه. وكذلك مالك يوجب فيها من اجتناب النجاسة ونحوها ما إذا تركه أعاد في الوقت، ولم يعد بعده، كما هو مشهور في مذاهبهم.
وأما المسألة الثانية: فإن المرأة إذا حاضت وطهرت قبل يوم النحر، سقط عنها طواف القدوم، وطافت طواف الإفاضة يوم النحر وبعده، وهي طاهر. وكذلك لو طافت طواف الإفاضة وهي طاهر ثم حاضت فلم تطهر قبل الخروج، فإنه يسقط عنها طواف الوداع؛ لسنة رسول الله ﷺ، حيث رخص للمرأة إذا طافت وهي طاهر ثم حاضت أنه يسقط عنها طواف الوداع، وحاضت امرأته صفية أم المؤمنين يوم النحر، فقال: (أحابستنا هي؟) فقالوا: إنها قد أفاضت، قال: (فلا إذا).
وإن حاضت قبل طواف الإفاضة فعليها أن تحتبس حتى تطهر وتطوف إذا أمكن ذلك، وعلى من معها أن يحتبس لأجلها إذا أمكنه ذلك. ولما كانت الطرقات آمنة في زمن السلف، والناس يردون مكة، ويصدرون عنها في أيام العام، كانت المرأة يمكنها أن تحتبس هي وذو محرمها، ومكاريها، حتى تطهر ثم تطوف، فكان العلماء يأمرون بذلك. وربما أمروا الأمير أن يحتبس لأجل الحيض، حتى يطهرن، كما قال النبي ﷺ: (أحابستنا هي؟). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: أمير، وليس بأمير: امرأة مع قوم حاضت قبل الإفاضة فيحتبسون لأجلها حتى تطهر وتطوف، أو كما قال.
وأما هذه الأوقات، فكثير من النساء أو أكثرهن لا يمكنها الاحتباس بعد الوفد، والوفد ينفر بعد التشريق بيوم أو يومين، أو ثلاثة، وتكون هي قد حاضت ليلة النحر، فلا تطهر إلى سبعة أيام، أو أكثر، وهي لا يمكنها أن تقيم بمكة حتى تطهر؛ إما لعدم النفقة، أو لعدم الرفقة التي تقيم معها، وترجع معها، ولا يمكنها المقام بمكة لعدم هذا أو هذا أو لخوف الضرر على نفسها، ومالها في المقام، وفي الرجوع بعد الوفد. والرفقة التي معها: تارة لا يمكنهم الاحتباس لأجلها إما لعدم القدرة على المقام والرجوع وحدهم، وإما لخوف الضرر على أنفسهم وأموالهم. وتارة يمكنهم ذلك لكن لا يفعلونه فتبقي هي معذورة.
فهذه المسألة التي عمت بها البلوي. فهذه إذا طافت وهي حائض وجبرت بدم أو بدنة أجزأها ذلك عند من يقول: الطهارة ليست شرطا، كما تقدم في مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وأولي فإن هذه معذورة؛ لكن هل يباح لها الطواف مع العذر هذا محل النظر. وكذلك قول من يجعلها شرطا؛ هل يسقط هذا الشرط للعجز عنه، ويصح الطواف؟ هذا هو الذي يحتاج الناس إلى معرفته.
فيتوجه أن يقال: إنما تفعل ما تقدر عليه من الواجبات، ويسقط عنها ما تعجز عنه، فتطوف. وينبغي أن تغتسل وإن كانت حائضا كما تغتسل للإحرام، وأولي. وتستثفر كما تستثفر المستحاضة، وأولي وذلك لوجوه:
أحدها: أن هذه لا يمكن فيها إلا أحد أمور خمسة: إما أن يقال: تقيم حتى تطهر وتطوف، وإن لم يكن لها نفقة ولا مكان تأوي إليه بمكة، وإن لم يمكنها الرجوع إلى بلدها، وإن حصل لها بالمقام بمكة من يستكرهها على الفاحشة، فيأخذ مالها إن كان معها مال.
وإما أن يقال: بل ترجع غير طائفة بالبيت وتقيم على ما بقي من إحرامها، إلى أن يمكنها الرجوع، وإن لم يمكنها بقيت محرمة إلى أن تموت.
وإما أن يقال: بل تتحلل كما يتحلل المحصر، ويبقي تمام الحج فرضًا عليها تعود إليه كالمحصر عن البيت مطلقا، لعذر، فإنه يتحلل من إحرامه، ولكن لم يسقط الفرض عنه بل هو باق في ذمته باتفاق العلماء، ولو كان قد أحرم بتطوع من حج أو عمرة، فأحصر، فهل عليه قضاؤه؟ على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد، أشهرهما عنه: أنه لا قضاء عليه، وهو قول مالك والشافعي. والثاني: عليه القضاء، وهو قول أبي حنيفة، وكل من الفريقين احتج بعمرة القضية، هؤلاء قالوا: قضاها النبي ﷺ، وأولئك قالوا: لم يقضها المحصرون معه، فإنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، والذين اعتمروا معه عمرة القضية في العام القابل كانوا دون ذلك بكثير، وقالوا: سميت عمرة القضية؛ لأنه قاضي عليها المشركون، لا لكونه قضاها، وإنما كانت عمرة قائمة بنفسها.
وإما أن يقال: من تخاف أن تحيض فلا يمكنها الطواف طاهرا لا تؤمر بالحج، لا إيجابا ولا استحبابا، ونصف النساء أو قريب من النصف يحضن؛إما في العاشر، وإما قبله بأيام، ويستمر حيضهن إلى ما بعد التشريق بيوم أو يومين، أو ثلاثة، فهؤلاء في هذه الأزمنة في كثير من الأعوام، أو أكثرها لا يمكنهن طواف الإفاضة مع الطهر، فلا يحججن، ثم إذا قدر أن الواحدة حجت فلابد لها من أحد الأمور الثلاثة المتقدمة، إلا أن يسوغ لها الطواف مع الحيض.
ومن المعلوم أن الوجه الأول لا يجوز أن تؤمر به، فإن في ذلك من الفساد في دينها ودنياها ما يعلم بالاضطرار أن الله ينهى عنه، فضلا عن أن يأمر به.
والوجه الثاني: كذلك لثلاثة أوجه:
أحدها: أن الله لم يأمر أحدًا أن يبقي محرمًا إلى أن يموت، فالمحصر بعدو له أن يتحلل باتفاق العلماء، والمحصر بمرض، أو فقر فيه نزاع مشهور، فمن جوز له التحلل فلا كلام فيه، ومن منعه التحلل قال: إن ضرر المرض والفقر لا يزول بالتحلل، بخلاف حبس العدو فإنه يستفيد بالتحلل الرجوع إلى بلده، وأباحوا له أن يفعل ما يحتاج إليه من المحظورات، ثم إذا فاته الحج تحلل بعمرة الفوات، فإذا صح المريض ذهب، والفقير حاجته في إتمام سفر الحج كحاجته في الرجوع إلى وطنه، فهذا مأخذهم في أنه لا يتحلل. قالوا: لأنه لا يستفيد بالتحلل شيئا، فإن كان هذا المأخذ صحيحا، وإلا كان الصحيح هو القول الأول وهو التحلل، وهذا المأخذ يقتضي اتفاق الأئمة على أنه متى كان دوام الإحرام يحصل به ضرر يزول بالتحلل فله التحلل.
ومعلوم أن هذه المرأة إذا دام إحرامها تبقي ممنوعة من الوطء دائما، بل وممنوعة في أحد قوليهم من مقدمات الوطء، بل ومن النكاح، ومن الطيب، ومن الصيد عند من يقول بذلك. وشريعتنا لا تأتي بمثل ذلك.
ولو قدر أن بعض القائلين بأن المحصر بمرض أو نفقة يقول بمثل ذلك فالمريض المأيوس من برئه، والفقير الذي يمكنه المقام دون السفر كان قوله مردودا بأصول الشريعة، فإنه لا يقول فقيه: إن الله أمر المريض المعضوب المأيوس من برئه، أن يبقي محرما حتى يموت، بل أكثر ما يقال: إنه يقيم مقامه من يحج عنه، كما قال ذلك الشافعي وأحمد في أصل الحج. فأوجباه على المعضوب إذا كان له مال يحج به غيره عنه، إذ كان مناط الوجوب عندهما هو ملك الزاد والراحلة، وعند مالك القدرة بالبدن كيفما كان، وعند أبي حنيفة مجموعهما، وعند أحمد في كل من الأمرين مناط للوجوب، فيجب على هذا وهذا، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين: إن المعضوب عليه أن يحج أو يعتمر ببدنه، فكيف يبقي محرما عليه إتمام الحج إلى أن يموت؟!
الثاني: أن هذه إذا أمكنها العود فعادت أصابها في المرة الثانية نظير ما أصابها في الأولي، إذا كان لا يمكنها العود إلا مع الوفد، والحيض قد يصيبها مدة مقامهم بمكة.
الثالث: أن هذا إيجاب سفرين كاملين على الإنسان للحج، من غير تفريط منه، ولا عدوان، وهذا خلاف الأصول، فإن الله لم يوجب على الناس الحج إلا مرة واحدة، وإذا أوجب القضاء على المفسد فذلك بسبب جنايته على إحرامه، وإذا أوجبه على من فاته الحج فذلك بسبب تفريطه؛ لأن الوقوف له وقت محدود، يمكن في العادة ألا يتأخر عنه، فتأخره يكون لجهله بالطريق، أو بما بقي من الوقت، أو لترك السير المعتاد، وكل ذلك تفريط منه، بخلاف الحائض فإنها لم تفرط؛ ولهذا أسقط النبي ﷺ عنها طواف الوداع، وطواف القدوم كما في حديث عائشة وصفية.
وأما التقدير الثالث: وهو أن يقال: إنها تتحلل كما يتحلل المحصر، فهذا أقوي، كما قال ذلك طائفة من العلماء، فإن خوفها منعها من المقام حتى تطوف، كما لو كان بمكة عدو منعها من نفس الطواف، دون المقام على القول بذلك، لكن هذا القدر لا يسقط عنها فرض الإسلام، ولا يؤمر المسلم بحج يحصر فيه، فمن اعتقد أنه إذا حج أحصر عن البيت، لم يكن عليه الحج، بل خلو الطريق وأمنه، وسعة الوقت: شرط في لزوم السفر باتفاق المسلمين.
وإنما تنازعوا: هل هو شرط في الوجوب، بمعني إن ملك الزاد والراحلة مع خوف الطريق، أو ضيق الوقت، هل يجب عليه؟ فيحج عنه إذا مات؟ أو لا يجب عليه بحال؟ على قولين معروفين. فعلى قول من لم يجعل لها رخصة إلا رخصة الحصر يلزمه القول الرابع وهو: أنها لا تؤمر بالحج، بل لا يجب ولا يستحب، فعلى هذا التقدير يبقي الحج غير مشروع لكثير من النساء، أو أكثرهن في أكثر هذه الأوقات، مع إمكان أفعالها كلها لكونهن يعجزن عن بعض الفروض في الطواف.
ومعلوم أن هذا خلاف أصول الشريعة، فإن العبادات المشروعة إيجابا أو استح
بابا، إذا عجز عن بعض ما يجب فيها، لم يسقط عنه المقدور؛ لأجل المعجوز، بل قد قال النبي ﷺ: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، وذلك مطابق لقول الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [76]، ومعلوم أن الصلاة وغيرها من العبادات التي هي أعظم من الطواف لا تسقط بالعجز عن بعض شروطها، وأركانها فكيف يسقط الحج بعجزه عن بعض شروط الطواف وأركانه؟!
ومثل هذا القول أن يقال: يسقط عنها طواف الإفاضة، فإن هذا خلاف الأصول، إذ الحج عبارة عن الوقوف والطواف، والطواف أفضل الركنين وأجلهما؛ ولهذا يشرع في الحج، ويشرع في العمرة، ويشرع منفردا، ويشترط له من الشروط ما لا يشترط للوقوف، فكيف يمكن أن يصح الحج بوقوف بلا طواف.
ولكن أقرب من ذلك أن يقال: يجزيها طواف الإفاضة قبل الوقوف. فيقال: إنها إن أمكنها الطواف بعد التعريف، وإلا طافت قبله، لكن هذا لا نعلم أحدا من الأئمة قال به في صورة من الصور، ولا قال بإجزائه، إلا ما نقله البصريون عن مالك فيمن طاف وسعى قبل التعريف، ثم رجع إلى بلده ناسيا، أو جاهلا، أن هذا يجزيه عن طواف الإفاضة.
وقد قيل: على هذا يمكن أن يقال في الحائض مثل ذلك إذا لم يمكنها الطواف إلا قبل الوقوف، ولكن هذا لا أعرف به قائلا.
والمسألة المنقولة عن مالك قد يقال فيها: إن الناسي والجاهل معذور، ففي تكليفه الرجوع مشقة عظيمة، فسقط الترتيب لهذا العذر، وكما يقال في الطهارة في أحد الوجهين، على إحدى الروايتين في مذهب أحمد: أنه إذا طاف محدثا ناسيا حتى أبعد كان معذورًا، فيجبره بدم.
وأما إذا أمكنه الإتيان بأكثر الواجبات فكيف يسقط بعجزه عن بعضها، وطواف الحائض قد قيل: إنه يجزئ مطلقا، وعليها دم.
وأما تقديم طواف الفرض على الوقوف، فلا يجزي مع العمد بلا نزاع، وترتيب قضاء الفوائت يسقط بالنسيان عند أكثر العلماء، ولا يسقط بالعجز عن بعض شروط الصلاة ولا بضيق الوقت عند أكثرهم.
وأيضا، فالمستحاضة ومن به سَلَس البول، ونحو هؤلاء، لو أمكنه أن يطوف قبل التعريف بطهارة، وبعد التعريف بهذا الحدث لم يطف إلا بعد التعريف، ولهذا لا يجوز للمرأة أن تصوم قبل شهر رمضان؛ لأجل الحيض في رمضان ولكن تصوم بعد وجوب الصوم.
وأيضا، فإن الأصول متفقة على أنه متى دار الأمر بين الإخلال بوقت العبادة، والإخلال ببعض شروطها، وأركانها، كان الإخلال بذلك أولي كالصلاة، فإن المصلى لو أمكنه أن يصلي قبل الوقت بطهارة وستارة، مستقبل القبلة، مجتنب النجاسة، ولم يمكنه ذلك في الوقت، فإنه يفعلها في الوقت على الوجه الممكن، ولا يفعلها قبله بالكتاب والسنة والإجماع.
وكذلك أيضا لا يؤخر العبادة عن الوقت، بل يفعلها فيه بحسب الإمكان، وإنما يرخص للمعذور في الجمع لأن الوقت وقتان: وقت مختص لأهل الرفاهية، ووقت مشترك لأهل الأعذار. والجامع بين الصلاتين صلاهما في الوقت المشروع، لم يفوت واحدة منهما، ولا قدمها على الوقت المجزئ باتفاق العلماء.
وكذلك الوقوف، لو فرضنا أنه أمكنه الوقوف قبل الوقت، أو بعده، إذا لم يمكنه في وقته، لم يكن الوقوف في غير وقته مجزيا باتفاق العلماء والطواف للإفاضة هو مشروع بعد التعريف، ووقته يوم النحر، وما بعده، وهل يجزئ بعد انتصاف الليل ليلة النحر؟ فيه نزاع مشهور.
فإذا تبين فساد هذه الأقسام الأربعة، بقي الخامس: وهو أنها تفعل ما تقدر عليه، ويسقط عنها ما تعجز عنه، وهذا هو الذي تدل عليه النصوص المتناولة لذلك، والأصول المتشابهة له، وليس في ذلك مخالفة الأصول، والنصوص التي تدل على وجوب الطهارة، كقوله ﷺ: (تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت) إنما تدل على الوجوب مطلقًا، كقوله: (إذا أحدث أحكم فلا يصلي حتى يتوضأ)، وقوله: (لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يتوضأ)، وقوله: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار)، وقوله: (حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه، ثم صلى فيه )، وقوله: ( لا يطوف بالبيت عريان )، وأمثال ذلك من النصوص. وقد علم أن وجوب ذلك جميعه مشروط بالقدرة كما قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [77]، وقال ﷺ: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )، وهذا تقسيم حاصر.
إذا تبين أنه لا يمكن أن تؤمر بالمقام مع العجز والضرر على نفسها ودينها ومالها، ولا تؤمر بدوام الإحرام، وبالعود مع العجز، وتكرير السفر، وبقاء الضرر، من غير تفريط منها، ولا يكفي التحلل، ولا يسقط به الفرض، وكذلك سائر الشروط؛ كالستارة، واجتناب النجاسة، وهي في الصلاة أوكد - فإن غاية الطواف أن يشبه بالصلاة، وليس في الطواف نص ينفي قبول الطواف مع عدم الطهارة، والستارة، كما في الصلاة، ولكن فيه ما يقتضي وجوب ذلك.
ولهذا تنازع العلماء: هل ذلك شرط؟ أو واجب ليس بشرط؟ ولم يتنازعوا أن ذلك شرط في صحة الصلاة، وأنه يستلزم أن تؤمر بترك الحج، ولا تؤمر بترك الحج بغير ما ذكرناه، وهو المطلوب.
الدليل الثاني: أن يقال: غاية ما في الطهارة أنها شرط في الطواف، ومعلوم أن كونها شرطًا في الصلاة أوكد منها في الطواف، ومعلوم أن الطهارة كالستارة، واجتناب النجاسة، بل الستارة في الطواف أوكد من الطواف؛ لأن ستر العورة يجب في الطواف، وخارج الطواف؛ ولأن ذلك من أفعال المشركين التي نهي الله ورسوله ﷺ عنها نهيا عامًا؛ ولأن المستحاضة ومن به سَلَس البول ونحوهما، يطوف ويصلي باتفاق المسلمين، والحدث في حقهم من جنس الحدث في حق غيرهم، لم يفرق بينهما إلا العذر.
وإذا كان كذلك، وشروط الصلاة تسقط بالعجز، فسقوط شروط الطواف بالعجز أولي وأحري، والمصلي يصلي عريانًا، ومع الحدث، والنجاسة في صورة المستحاضة، وغيرهما، ويصلي مع الجنابة وحدث الحيض مع التيمم، وبدون التيمم عند الأكثرين إذا عجز عن الماء، والتراب، لكن الحائض لا تصلي؛ لأنها ليست محتاجة إلى الصلاة مع الحيض، فإنها تسقط عنها إلى غير بدل؛ لأن الصلاة تتكرر بتكرر الأيام، فكانت صلاتها في سائر الأيام تغنيها عن القضاء؛ ولهذا أمرت بقضاء الصيام دون الصلاة؛ لأن الصوم شهر واحد في الحول، فإذا لم يمكنها أن تصوم طاهرًا في رمضان، صامت في غير شهر رمضان، فلم يتعدد الواجب عليها، بل نقلت من وقت إلى وقت، ولو قدر أنها عجزت عن الصوم عجزًا مستمرًا، كعجز الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، والمريض المأيوس من برئه، سقط عنها إما إلى بدل، وهو الفدية بإطعام مسكين عن كل يوم عند الأكثرين، كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. وإما إلى غير بدل كقول مالك.
وأما الصلاة، فلا يمكن العجز عن جميع أركانها، بل يفعل منها ما يقدر عليه، فلو قدر أنه عجز عن جميع الحركات الظاهرة برأسه وبدنه سقطت عنه في أحد قولي العلماء، كقول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وأحد القولين في مذهب مالك، وفي القول الآخر يومئ بطرفه ويستحضر الأفعال بقلبه، كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين. والقول الأول أشبه بالأثر والنظر.
وأما الحج، فالتقدير أنه لا يمكنها أن تحج إلا على هذا الوجه، وإذا لم يمكنها ذلك كان هذا غاية المقدور، كما لو لم يمكنه أن يطوف إلا راكبًا، أو حامل النجاسة.
فإن قيل: هنا سؤالان:
أحدهما: أنه هلا جعلت الحائض كالمعضوب، فإن كانت ترجو أن تحج، ويمكنها الطواف وإلا استنابت؟
والثاني: أنه إذا لم يسوغ لها الشارع الصلاة زمن الحيض، كما سوغها للجنب بالتيمم، وللمستحاضة، علم أن الحيض لا تصح معه العبادة بحال.
فيقال: أما الأول فلأن المعضوب هو الذي يعجز عن الوصول إلى مكة، فأما من أمكنه الوصول إلى مكة وعجز عن بعض الواجبات فليس بمعضوب، كما لو أمكنه الوصول وعجز عن اجتناب النجاسة، مثل المستحاضة، ومن به سَلَس البول، ونحوهما، فإن عليه الحج بالإجماع، ويسقط عنه ما يعجز عنه من الطهارة، وكذلك من لم يمكنه الطواف إلا راكبًا أو محمولًا، أو من لم يمكنه رمي الجمار ونحو ذلك فإنه يستنيب فيه ويحج ببدنه.
وأما صلاة الحائض، فليست محتاجة إليها؛ لأن في صلاة بقية الأيام غني عنها، ولهذا إذا استحيضت أمرت بالصلاة، مع الاستحاضة، ومع احتمال الصلاة مع الحيض، وإن كان خروج ذلك الدم وتنجيسها به يفسد الصلاة، لولا العذر. فقد فرق الشارع بين المعذور وغيره في ذلك؛ ولهذا لو أمكن المستحاضة أن تطهر وتصلي حال انقطاع الدم وجب عليها ذلك، وإنما أباح الصلاة مع خروجه للضرورة.
فإن قيل: فقد كان الجنب والمستحاضة ونحوهما يمكن إسقاط الصلاة عنه، كما أسقطت عن الحائض، ويكون صلاة بقية الأيام مغنية، فلما أمرها الشارع بالصلاة دون الحائض، علم أن الحيض ينافي الصلاة مطلقًا، وكذلك ينافي الطواف الذي هو كالصلاة.
فيقال: الجنب ونحوه لا يدوم به موجب الطهارة، بل هو بمنزلة الحائض التي انقطع دمها، وهو متمكن من إحدى الطهارتين. وأما المستحاضة فلو أسقط عنها الصلاة للزم سقوطها أبدًا،، فلما كان حدثها دائمًا لم تمكن الصلاة إلا معه، فسقط وجوب الطهارة عنها. فهذا دليل على أن العبادة إذا لم يمكن فعلها إلا مع المحظور، كان ذلك أولي من تركها، والأصول كلها توافق ذلك، والجنب إذا عدم الماء والتراب صلى أيضًا في أشهر قولي العلماء لعجزه عن الطهارة، فالحيض ينافي الصلاة مطلقًا لعدم الحاجة إلى الصلاة مع الحيض، استغناء بتكرر أمثالها. وأما الحج والطواف فيه فلا يتكرر وجوبه، فإن لم يصح مع العذر لزم ألا يصح مطلقًا. والأصول قد دلت على أن العبادة إذا لم تمكن إلا مع العذر كانت صحيحة مجزية معه بدون ما إذا فعلت بدون العذر، وقد تبين أنه لا عذر للحائض في الصلاة مع الحيض، لاستغنائها بها عن ذلك بتكرر أمثالها في غير أيام الحيض، بخلاف الطواف فإنه إذا لم يمكنها فعله إلا مع الحيض، لم تكن مستغنية عنه بنظيره، فجاز لها ذلك، كسائر ما تعجز عنه من شروط العبادات.
الدليل الثالث: أن يقال: هذا نوع من أنواع الطهارة، فسقط بالعجز كغيره من أنواع الطهارة، فإنها لو كانت مستحاضة ولم يمكنها أن تطوف إلا مع الحدث الدائم، طافت باتفاق العلماء. وفي وجوب الوضوء عليها خلاف مشهور بين العلماء وفي هذا صلاة مع الحدث، ومع حمل النجاسة، وكذلك لو عجز الجنب أو المحدث عن الماء والتراب صلى وطاف في أظهر قولي العلماء.
الدليل الرابع: أن يقال: شرط من شرائط الطواف، فسقط بالعجز كغيره من الشرائط، فإنه لو لم يمكنه أن يطوف إلا عريانًا لكان طوافه عريانًا أهون من صلاته عريانًا، وهذا واجب بالاتفاق، فالطواف مع العربي إذا لم يمكن إلا ذلك أولي وأحري.
وإنما قل تكلم العلماء في ذلك لأن هذا نادر، فلا يكاد بمكة يعجز عن سترة يطوف بها، لكن لو قدر أنه سلب ثيابه، والقافلة خارجون لا يمكنه أن يتخلف عنهم، كان الواجب عليه فعل ما يقدر عليه من الطواف مع العري، كما تطوف المستحاضة، ومن به سَلَس البول مع أن النهي عن الطواف عريانًا أظهر وأشهر في الكتاب والسنة، من طواف الحائض.
وهذا الذي ذكرته هو مقتضي الأصول المنصوصة. العامة المتناولة لهذه الصورة لفظًا ومعني، ومقتضي الاعتبار والقياس على الأصول التي تشابهها، والمعارض لها إنما لم يجد للعلماء المتبوعين كلامًا في هذه الحادثة المعينة، كما لم يجد لهم كلامًا فيما إذا لم يمكنه الطواف إلا عريانًا، وذلك لأن الصور التي لم تقع في أزمنتهم لا يجب أن تخطر بقلوبهم، ليجب أن يتكلموا فيها. ووقوع هذا وهذا في أزمنتهم إما معدوم، وإما نادر جدًا، وكلامهم في هذا الباب مطلق عام، وذلك يفيد العموم، لو لم تختص الصورة المعينة بمعان توجب الفرق والاختصاص، وهذه الصورة قد لا يستحضرها المتكلم باللفظ العام من الأئمة لعدم وجودها في زمنهم والمقلدون لهم ذكروا ما وجدوه من كلامهم.
ولهذا أوجب مالك وغيره على مكاريها أن يحتبس لأجلها إذا كانت الطرقات آمنة، ولا ضرر عليه في التخلف معها، وكانوا في زمن الصحابة وغيرهم يحتبس الأمير؛ لأجل الحيض، والمتأخرون من أصحاب مالك أسقطوا عن المكاري الوداع، وأسقط المبيت عن أهل السقاية، والرعاية، لعجزهم. وعجزهم يوجب الاحتباس معها في هذه الأزمان، ولا ريب أن من قال: الطهارة واجبة في الطواف وليست شرطًا، فإنه يلزمه أن يقول: إن الطهارة في مثل هذه الصورة ليست واجبة لعدم القدرة عليها، فإنه يقول: إذا طاف محدثًا وأبعد عن مكة لم يجب عليه العود للمشقة، فكيف يجب على هذه ما لا يمكنها إلا بمشقة أعظم من ذلك، لكن هناك من يقول: عليه دم، وهنا يتوجه ألا يجب عليها دم؛ لأن الواجب إذا تركه من غير تفريط فلا دم عليه، بخلاف ما إذا تركه ناسيا أو جاهلًا، وقد يقال: عليها دم لندور هذه الصورة، ونظير ذلك أن يمنعه عدو عن رمي الجمرة، فلا يقدر على ذلك حتى يعود إلى مكة، أو يمنعه العدو عن الوقوف بعرفة إلى الليل، أو يمنعه العدو عن طواف الوداع، بحيث لا يمكنه المقام حتى يودع.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه أسقط عن الحائض طواف الوداع ومن قال: إن الطهارة فرض في الطواف وشرط فيه، فليس كونها شرطًا فيه أعظم من كونها شرطًا في الصلاة. ومعلوم أن شروط الصلاة تسقط بالعجز، فسقوط شروط الطواف بالعجز أولي وأحري.
هذا هو الذي توجه عندي في هذه المسألة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولولا ضرورة الناس واحتياجهم إليها علمًا وعملًا لما تجشمت الكلام، حيث لم أجد فيها كلامًا لغيري، فإن الاجتهاد عند الضرورة مما أمرنا الله به، فإن يكن ما قلته صوابًا فهو حكم الله ورسوله، والحمد لله، وإن يكن ما قلته خطأ فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان من الخطأ، وإن كان المخطئ معفوًا عنه. والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله وحده، وصلي الله على محمد وآله وسلم تسليمًا.
سئل عن امرأة حاضت قبل طواف الإفاضة
وَسُئِلَ قدسَ الله روحه عن امرأة حاضت قبل طواف الإفاضة، ولم تطهر حتى ارتحل الحاج، ولم يمكنها المقام بعدهم حتى تطهر. فهل لها أن تطوف والحالة هذه للضرورة أم لا؟ وإذا جاز لها ذلك فهل يجب عليها دم أم لا؟ وهل يستحب لها الاغتسال مع ذلك؟ وإذا علمت المرأة من عادتها أنها لا تطهر حتى يرتحل الحاج؟ ولا يمكنها المقام بعدهم. فهل يجب عليها الحج مع هذا. أم لا؟ وإن لم يجب. فهل يستحب لها أن تتقدم فتطوف أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله، العلماء لهم في الطهارة: هل هي شرط في صحة الطواف؟ قولان مشهوران:
أحدهما: أنها شرط، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين.
والثاني: ليست بشرط، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في الرواية الأخري.
فعند هؤلاء لو طاف جنبًا أو محدثًا أو حاملًا للنجاسة أجزأه الطواف، وعليه دم؛ لكن اختلف أصحاب أحمد: هل هذا مطلق في حق المعذور الذي نسي الجنابة؟ وأبو حنيفة يجعل الدم بدنة، إذا كانت حائضًا أو جنبًا: فهذه التي لم يمكنها أن تطوف إلا حائضًا أولي بالعذر، فإن الحج واجب عليها، ولم يقل أحد من العلماء: إن الحائض يسقط عنها الحج، وليس من أقوال الشريعة أن تسقط الفرائض للعجز عن بعض ما يجب فيها، كما لو عجز عن الطهارة في الصلاة.
فلو أمكنها أن تقيم بمكة حتى تطهر وتطوف وجب ذلك بلا ريب فأما إذا لم يمكن ذلك، فإن أوجب عليها الرجوع مرة ثانية كان قد أوجب عليها سفران للحج بلا ذنب لها، وهذا بخلاف الشريعة.
ثم هي أيضًا لا يمكنها أن تذهب إلامع الركب، وحيضها في الشهر كالعادة، فهذه لا يمكنها أن تطوف طاهرًا البتة.
وأصول الشريعة مبنية على أن ما عجز عنه العبد من شروط العبادات يسقط عنه، كما لو عجز المصلي عن ستر العورة، واستقبال القبلة، أو تجنب النجاسة، وكما لو عجز الطائف أن يطوف بنفسه راكبًا، وراجلًا، فإنه يحمل ويطاف به.
ومن قال: إنه يجزئها الطواف بلا طهارة، إن كانت غير معذورة مع الدم، كما يقوله من يقوله من أصحاب أبي حنيفة، وأحمد. فقولهم لذلك مع العذر أولي وأحري وأما الاغتسال فإن فعلته فحسن، كما تغتسل الحائض، والنفساء للإحرام، والله أعلم.
سئل عن المرأة إذا جاءها الحيض في وقت الطواف ما الذي تصنع
فأجاب:
الحمد لله، الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، فإنها تجتهد ألا تطوف بالبيت إلا طاهرة، فإن عجزت عن ذلك ولم يمكنها التخلف عن الركب حتى تطهر وتطوف، فإنها إذا طافت طواف الزيارة وهي حائض، أجزأها في أحد قولي العلماء، ثم قال أبو حنيفة وغيره: يجزئها لو لم يكن لها عذر لكن أوجب عليها بدنة. وأما أحمد فأوجب على من ترك الطهارة ناسيا دمًا، وهي شاة.
وأما هذه العاجزة عن الطواف وهي طاهرة، فإن أخرجت دمًا فهو أحوط، وإلا فلا يتبين أن عليها شيئًا، فإن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
وقال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [78]، وقال النبي ﷺ: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، وهذه لا تستطيع إلا هذا.
والصلاة أعظم من الطواف، ولو عجز المصلي عن شرائطها. من الطهارة، أو ستر العورة، أو استقبال القبلة، صلى على حسب حاله، فالطواف أولي بذلك. كما لو كانت مستحاضة ولا يمكنها أن تطوف إلا مع النجاسة، نجاسة الدم. فإنها تصلي وتطوف على هذه الحالة باتفاق المسلمين، إذا توضأت وتطهرت، وفعلت ما تقدر عليه.
وينبغي للحائض إذا طافت أن تغتسل وتستثفر، أي تستحفظ، كما تفعله عند الإحرام. وقد أسقط النبي ﷺ عن الحائض طواف الوداع. وأسقط عن أهل السقاية والرعاة المبيت بمنى؛ لأجل الحاجة. ولم يوجب عليهم دمًا. فإنهم معذورون في ذلك، بخلاف غيره. وكذلك من عجز عن الرمي بنفسه لمرض أو نحوه، فإنه يستنيب من يرمي عنه، ولا شيء عليه، وليس من ترك الواجب للعجز كمن تركه لغير ذلك، والله أعلم.
سئل عن امرأة حجت وأحرمت لعمرة وحجة قارنة ودخلت إلى مكة وطافت وسعت
وَسُئِلَ عن امرأة حجت، وأحرمت لعمرة وحجة قارنة، ودخلت إلى مكة وطافت وسعت، وتوجهت إلى منى، ثم إلى عرفة ووقفت، ثم عادت إلى منى، ونحر عنها ما وجب عليها من دم، ورمت الجمار يومًا واحدًا، ودخلت إلى مكة وطافت، وعندما حضرت الحرم حاضت، ورجعت إلى منى، وكتمت وهي محققة أن حجها قد كمل، وعادت إلى بلدها وبعد سنتين اعترفت بما وقع لها، قيل لها: يلزمك العود، ولم يمكنها زوجها والحالة هذه.
فأجاب:
إن كانت قد طافت طواف الإفاضة وهي حائض، والحالة هذه ناوية أجزأها الحج في أحد قولي العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين، وغاية ما يجب عليها عند أبي حنيفة بدنة، وعند أحمد دم، وهي شاة.
وأما إن كانت لم تطف تحللت التحلل الأول، وجاز لها الطيب وتغطية الوجه، وغير ذلك، لكن لا يطؤها زوجها حتى تطوف طواف الإفاضة، فإن لم يمكنها العود فغاية ما يمكن أن يرخص لها فيه أنها تكون كالمحصرة تحلل من إحرامها بهدي، ولكن الأحوط أن تبعث به إلى مكة ليذبح، مثل أن يذبح يوم النحر فإذا ذبح هناك حلت هنا، وجاز لزوجها أن يطأها والحالة هذه.
فإذا واعدت من يذبحه هناك في يوم معين حلت إلى ذلك اليوم، ثم إذا أمكنها بعد ذلك أن تذهب إلى مكة فإنها تدخل مهلة بعمرة، وتطوف هذا الطواف الباقي عليها، ثم إن شاءت حجت من هناك، وإن عجزت عن ذلك حتى تموت فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وإن أمكن أن تبعث عنها بعد موتها من يفعل ذلك عنها فعل.
وإن كان وطؤها قبل هذا الطواف لم يفسد الحج بذلك، لكن يفسد ما بقي، وعليها طواف الإفاضة باتفاق الأئمة، كما ذكر، لكن عند مالك وأحمد عليها أن تحرم بعمرة، كما نقل عن ابن عباس، وعند أبي حنيفة والشافعي في المشهور عنها يجزئها بلا إحرام جديد، هذا إذا كانت هناك.
فأما إن كانت رجعت إلى بلدها، ووطأها زوجها، فلابد لها إذا رجعت أن تحرم بعمرة من الميقات؛ لأنه لا يدخل أحد مكة إلا محرمًا بحج أو عمرة، إما وجوبًا، أو استحبابًا، إلا من له حاجة متكررة ونحو ذلك.
سئل أيما أفضل لمن كان بمكة الطواف بالبيت أو الخروج إلى الحل
وَسئل أبو العباس:
أيما أفضل لمن كان بمكة: الطواف بالبيت؟ أو الخروج إلى الحل ليعتمر منه ويعود؟ وهل يستحب لمن كان بمكة كثرة الاعتمار في رمضان أو في غيره، أو الطواف بدل ذلك؟ وكذلك كثرة الاعتمار لغير المكي: هل هو مستحب؟ وهل في اعتمار النبي ﷺ من الجِعْرَانة. وفي عمرة الحديبية مستند لمن يعتمر من مكة، كما في أمره لعائشة أن تعتمر من التنعيم؟ وقول النبي ﷺ: (عمرة في رمضان تعدل حجة): هل هي عمرة الأفُقِي؟ أو تتناول المكي الذي يخرج إلى الحل ليعتمر في رمضان؟
فأجاب:
أما من كان بمكة من مستوطن، ومجاور، وقادم، وغيرهم، فإن طوافه بالبيت أفضل له من العمرة، وسواء خرج في ذلك إلى أدني الحل، وهو التنعيم الذي أحدث فيه المساجد، التي تسمي مساجد عائشة أو أقصي الحل من أي جوانب الحرم، سواء كان من جهة الجِعْرَانة أو الحديبية، أو غير ذلك، وهذا المتفق عليه بين سلف الأمة، وما أعلم فيه مخالفًا من أئمة الإسلام في العمرة المكية.
وأما العمرة من الميقات: بأن يذهب إلى الميقات فيحرم منه، أو يرجع إلى بلده، ثم ينشئ السفر منه للعمرة، فهذه ليست عمرة مكية بل هذه عمرة تامة، وليس الكلام هنا فيه.
وهذه فيها نزاع: هل المقام بمكة أفضل منها؟ أم الرجوع إلى بلده أو الميقات أفضل؟ وسيأتي كلام بعض من رجح المقام بمكة للطواف على الرجوع للعمرة من الميقات.
وإنما النزاع في أنه هل يكره للمكي الخروج للاعتمار من الحل، أم لا؟ وهل يكره أن يعتمر من تشرع له العمرة كالأُفقِي في العام أكثر من عمرة أم لا؟ وهل يستحب كثرة الاعتمار أم لا؟
فأما كون الطواف بالبيت أفضل من العمرة لمن كان بمكة، فهذا مما لا يستريب فيه من كان عالمًا بسنة رسول الله ﷺ، وسنة خلفائه وآثار الصحابة، وسلف الأمة وأئمتها، وذلك أن الطواف بالبيت أفضل من العبادات والقربات التي شرعها الله تعالى في كتابه، وعلى لسان نبيه ﷺ، وهو من أعظم عبادة أهل مكة، أعني من كان بمكة مستوطنًا أو غير مستوطن، ومن عباداتهم الدائمة الراتبة التي امتازوا بها على سائر أهل الأمصار، ومازال أهل مكة على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه وأصحابه رضي الله عنهم يطوفون بالبيت في كل وقت، ويكثرون ذلك.
وكذلك أمر النبي ﷺ ولاة البيت ألا يمنعوا أحدًا من ذلك في عموم الأوقات، فروي جبير بن مطعم أن النبي ﷺ قال: (يابني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلي فيه أية ساعة شاء، من ليل أو نهار) رواه مسلم في صحيحه. وسائر أهل السنن كأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وغيرهم.
وقد قال تعالى لخليله إمام الحنفاء الذي أمره ببناء البيت، ودعا الناس إلى حجه: { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [79]، وفي الآية الأخري: { وَالْقَائِمِينَ } [80]، فذكر ثلاثة أنواع: الطواف والعكوف، والركوع مع السجود، وقدم الأخص فالأخص، فإن الطواف لا يشرع إلا بالبيت العتيق باتفاق المسلمين. ولهذا اتفقوا على تضليل من يطوف بغير ذلك، مثل من يطوف بالصخرة، أو بحجرة النبي ﷺ، أو بالمساجد المبنية بعرفة، أو منى، أو غير ذلك، أو بقبر بعض المشائخ، أو بعض أهل البيت، كما يفعله كثير من جهال المسلمين، فإن الطواف بغير البيت العتيق لا يجوز باتفاق المسلمين، بل من اعتقد ذلك دينًا وقربة عرف أن ذلك ليس بدين باتفاق المسلمين، وأن ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام، فإن أصر على اتخاذه دينًا قتل.
وأما الاعتكاف فهو مشروع في المساجد، دون غيرها، وأما الركوع مع السجود فهو مشروع في عموم الأرض، كما قال النبي ﷺ: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره)، وهذا كله متفق عليه بين المسلمين. وإن كان بعض البقاع تمنع الصلاة فيها لوصف عارض كنجاسة، أو مقبرة، أو حُش ّ، أو غير ذلك.
فالمقصود هنا: أنه سبحانه وتعالى قدم الأخص بالبقاع، فالأخص، فقدم الطواف؛ لأنه يختص بالمسجد الحرام، ثم العكوف، لأنه يكون فيه، وفي المساجد التي يصلي المسلمون فيها الصلاة المشروعة، وهي الصلوات الخمس جماعة، ثم الصلاة لأن مكانها أعم.
ومن خصائص الطواف أنه مشروع بنفسه منفردًا، أو في ضمن العمرة، وفي ضمن الحج، وليس في أعمال المناسك ما يشرع منفردًا عن حج وعمرة، إلا الطواف، فإن أعمال المناسك على ثلاث درجات:
منها: ما لا يكون إلا في حج؛ وهو الوقوف بعرفة، وتوابعه من المناسك التي بمزدلفة.
ومنها: ما لا يكون إلا في حج أو عمرة؛ وهو الإحرام والإحلال، والسعي بين الجبلين، كما قال تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عليه أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [81].
ومنها: ما يكون في الحج وفي العمرة ويكون منفردًا؛ وهو الطواف، والطواف أيضًا هو أكثر المناسك عملًا في الحج، فإنه يشرع للقادم طواف القدوم، ويشرع للحاج طواف الوداع، وذلك غير الطواف المفروض طواف الإفاضة الذي يكون بعد التعريف.
ويستحب أيضًا الطواف في أثناء المقام بمنى، ويستحب في جميع الحول عمومًا.
وأما الاعتمار للمكي بخروجه إلى الحل، فهذا لم يفعله أحد على عهد رسول الله ﷺ قط إلا عائشة في حجة الوداع، مع أن النبي ﷺ لم يأمرها به، بل أذن فيه بعد مراجعتها إياه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. فأما أصحابه الذين حجوا معه حجة الوداع كلهم من أولهم إلى آخرهم، فلم يخرج أحد منهم لا قبل الحجة، ولا بعدها، لا إلى التنعيم، ولا إلى الحديبية، ولا إلى الجِعْرَانة، ولا غير ذلك؛ لأجل العمرة. وكذلك أهل مكة المستوطنين لم يخرج أحد منهم إلى الحل لعمرة، وهذا متفق عليه، معلوم لجميع العلماء الذين يعلمون سنته وشريعته.
وكذلك أيضًا أصحابه الذين كانوا مقيمين بمكة من حين فتحه مكة من شهر رمضان سنة ثمان، وإلى أن توفي لم يعتمر أحد منهم من مكة ولم يخرج أحد منهم إلى الحل، ويهل منه، ولم يعتمر النبي ﷺ وهو بمكة قط، لا من الحديبية، ولا من الجِعْرَانة، ولا غيرهما، بل قد اعتمر أربع عمر: ثلاث منفردة، وواحدة مع حجته. وجميع عمره كان يكون فيها قادمًا إلى مكة، لا خارجًا منها إلى الحل.
فأما عمرة الحديبية، فإنه اعتمر من ذي الحليفة ميقات أهل المدينة هو وأصحابه الذين بايعوه في تلك العمرة تحت الشجرة، ثم إنهم لما صدهم المشركون عن البيت، وقاضاهم النبي ﷺ على العمرة من العام القابل، وصالحهم الصلح المشهور، حل هو وأصحابه من العمرة بالحديبية، ولم يدخلوا مكة ذلك العام، فأنزل الله تعالى في ذلك سورة الفتح، وأنزل قوله تعالى: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } الآية [82]، وقد ذكر الشافعي وغيره الإجماع على أن هذه الآية نزلت في ذلك العام.
ثم إنه بعد ذلك في العام القابل سنة سبع بعد أن فتح خيبر، وكان فتح خيبر عقيب انصرافه من الحديبية، ثم اعتمر هو ومن معه عمرة القَضِية، وتسمى عمرة القضاء وكانت عمرته هذه في ذي القعدة سنة سبع، والتي قبلها عمرة الحديبية، وكانت أيضًا في ذي القعدة، وعمرة الجعرانة كانت في ذي القعدة، وكانت عمره كلها في ذي القعدة أوسط أشهر الحج، وبين للمسلمين بذلك جواز الاعتمار في أشهر الحج. ولما اعتمر هو ومن معه عمرة القضية أحرموا أيضًا من ذي الحليفة، ودخلوا مكة، وأقاموا بها ثلاثًا، وتزوج في ذلك العام ميمونة بنت الحارث.
ثم إن أهل مكة نقضوا العهد سنة ثمان، فغزاهم النبي ﷺ غزوة الفتح في نحو عشرة آلاف في شهر رمضان، ودخل مكة حلالًا على رأسه المِغْفَر، وطاف بالبيت، وأقام بمكة سبع عشرة ليلة، ولم يعتمر في دخوله هذا، وبلغه أن هوازن قد جمعت له فغزاهم غزوة حنين، وحاصر الطائف بعد ذلك ولم يفتحها، وقسم غنائم حنين بالجعرانة، وأنشأ حينئذ العمرة بالجعرانة، فكان قادمًا إلى مكة في تلك العمرة، لم يخرج من مكة إلى الجعرانة. وحكم كل من أنشأ الحج، أو العمرة من مكان دون المواقيت أن يحرم من ذلك المكان. كما في الصحيحين عن ابن عباس قال: وقت رسول الله ﷺ لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجُحْفَة، ولأهل نجد قَرْن المنازل ولأهل اليمن يلَمْلَم، هن لهن ولمن أتي عليهن من غير أهلهن، ممن كان يريد الحج والعمرة، ومن كان دونهن فمهله من أهله. وكذلك أهل مكة يهلون منها.
فإحرام النبي ﷺ من الجعرانة كان لأنه أنشأ العمرة منها، وبعد أن حصل فيها؛ لأجل الغزو والغنائم، فقد تبين أن الحديبية لم يحرم منها النبي ﷺ لا قادمًا إلى مكة، ولا خارجًا منها، بل كان محله من إحرامه بالعمرة لما صده المشركون. وأما الجعرانة فأحرم منها لعمرة أنشأها منها، وهذا كله متفق عليه، ومعلوم بالتواتر، لا يتنازع فيه اثنان ممن له أدني خبرة بسيرة النبي ﷺ، وسنته.
فمن توهم أن النبي ﷺ خرج من مكة فاعتمر من الحديبية، أو الجعرانة، فقد غلط غلطًا فاحشًا منكرًا، لا يقوله إلا من كان من أبعد الناس عن معرفة سنة النبي ﷺ وسيرته وإن كان قد غلط في الاحتجاج بذلك على العمرة من مكة طوائف من أكابر أعيان العلماء، فقد ظهر أن النبي ﷺ وأصحابه جميعهم لم يعتمر أحد منهم في حياته من مكة، بعد فتح مكة، ومصيرها دار إسلام، إلا عائشة.
وكذلك أيضًا لم يعتمر أحد منها قبل الفتح حين كانت دار كفر، وكان بها من أصحاب النبي ﷺ بعد هجرته إلى المدينة، وقبل هجرته، فإنهم كانوا يطوفون بالبيت، ولم يخرج أحد منهم إلى الحل ليعتمر منه، إذ الطواف بالبيت مازال مشروعًا من أول مبعث النبي ﷺ، بل ولم يزل من زمن إبراهيم، بل ومن قبل إبراهيم أيضًا، فإذا كان المسلمون حين كانوا بمكة من حين بعث النبي ﷺ إلى أن توفي إذا كانوا بمكة لم يكونوا يعتمرون من مكة، بل كانوا يطوفون ويحجون من العام إلى العام، وكانوا يطوفون في كل وقت من غير اعتمار، كان هذا مما يوجب العلم، الضروري، أن المشروع لأهل مكة إنما هو الطواف، وأن ذلك هو الأفضل لهم من الخروج للعمرة؛ إذ من الممتنع أن يتفق النبي ﷺ وجميع أصحابه على عهده على المداومة على المفضول، وترك الأفضل، فلا يفعل أحد منهم الأفضل، ولا يرغبهم فيه النبي ﷺ، فهذا لا يقوله أحد من أهل الإيمان.
ومما يوضح ذلك: أن المسلمين قد تنازعوا في وجوب العمرة، لوجوب الحج، على قولين مشهورين للعلماء، وروي النزاع في ذلك عن الصحابة أيضًا، فروي وجوبها عن عمر وابن عباس، وغيرهما. وروي عدم الوجوب عن ابن مسعود. والأول: هو المشهور عن الشافعي، وأحمد. والثاني: هو أحد قوليهما، وقول أبي حنيفة، ومالك.
ومع هذا فالمنقول الصريح عمن أوجب العمرة من الصحابة والتابعين لم يوجبها على أهل مكة. قال أحمد بن حنبل: كان ابن عباس يري العمرة واجبة، ويقول: يا أهل مكة ليس عليكم عمرة، إنما عمرتكم طوافكم بالبيت، وقال عطاء بن أبي رباح أعلم التابعين بالمناسك، وإمام الناس فيها: ليس أحد من خلق الله إلا عليه حجة وعمرة واجبتان، لابد منهما لمن استطاع إليهما سبيلا، إلا أهل مكة، فإن عليهم حجة، وليس عليهم عمرة من أجل طوافهم بالبيت، وهم يفعلونه فأجزأ عنهم. وقال طاوس: ليس على أهل مكة عمرة رواه ابن أبي شيبة.
وكلام هؤلاء السلف وغيرهم يقتضي أنهم كانوا لم يستحبوها لأهل مكة، فضلًا عن أن يوجبوها، كما رواه أبو بكر بن أبي شيبة في كتابه الكبير المصنف: ثنا ابن إدريس، عن ابن جريج عن عطاء قال: ليس على أهل مكة عمرة. قال ابن عباس: أنتم يا أهل مكة لا عمرة لكم، إنما عمرتكم الطواف بالبت، فمن جعل بينه وبين الحرم بطن واد فلا يدخل مكة إلا بإحرام، قال: فقلت لعطاء: أيريد ابن عباس واد من الحل؟ قال: بطن واد من الحل. وقال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن كَيسَان، سمعت ابن عباس يقول: لا يضركم يا أهل مكة ألا تعتمروا، فإن أبيتم فاجعلوا بينكم وبين الحرم بطن واد. وقال: حدثنا يحيي بن سعيد القطان، عن ابن جريج، عن خلف بن مسلم، عن سالم: قال: لو كنت من أهل مكة ما اعتمرت. وقال: حدثنا عبيد الله بن موسي، عن عثمان، عن عطاء قال: ليس على أهل مكة عمرة إنما يعتمر من زار البيت ليطوف به، وأهل مكة يطوفون متى شاؤوا. وهذا نص أحمد في غير موضع، على أن أهل مكة لا عمرة عليهم، مع قوله بوجوبها على غيرهم.
ولهذا كان تحقيق مذهبه، إذا أوجب العمرة أنها تجب إلا على أهل مكة، وإن كان من أصحابه من جعل هذا التفريق رواية ثالثة عنه، وأن القول بالإيجاب يعم مطلقًا. ومنهم من تأول كلامه على أنه لا عمرة عليهم مع الحجة؛ لأنه يتقدم منهم فعلها في غير وقت الحج، فهذا خلاف نصوص أحمد الصريحة عنه بالتفريق.
ثم من هؤلاء من يقول: مثل ذلك من أصحاب الشافعي في وجوب العمرة على أهل مكة، قول ضعيف جدًا مخالف للسنة الثابتة، وإجماع الصحابة، فإنها لو كانت واجبة عليهم لأمرهم النبي ﷺ بها، ولكانوا يفعلونها، وقد علم أنه لم يكونوا أهل مكة يعتمرون على عهد رسول الله ﷺ أصلًا، بل ولا يمكن أحدًا أن ينقل عن أحد أنه اعتمر من مكة على عهد رسول الله ﷺ إلا عائشة.
ولهذا كان المصنفون للسنن إذا أرادوا ذكر ما جاء من السنة في العمرة من مكة، لم يكن معهم إلا قضية عائشة، ومن المعلوم أن ما دون هذا تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان أهل مكة كلهم بل أو بعضهم على عهد النبي ﷺ يخرجون إلى الحل فيعتمرون فيه لنقل ذلك، كما نقل خروجهم في الحج إلى عرفات، وقد حج النبي ﷺ حجة الوداع، وخرج معه أهل مكة إلى عرفات، ولم يعتمر بعد الحجة، ولا قبلها أحد من أدني الحل، لا أهل مكة، ولا غيرهم، إلا عائشة، ثم كان الأمر على ذلك زمن الخلفاء الراشدين. حتى قال ابن عباس، ثم عطاء وغيرهما لما بعد عهد الناس بالنبوة: يا أهل مكة، ليس علىكم عمرة، إنما عمرتكم الطواف بالبيت. ومن المعلوم أنه لو كان أهل مكة يعتمرون على عهد رسول الله ﷺ، ويؤمرون بذلك لم يكن مثل هذا خافيا على ابن عباس، إمام أهل مكة، وأعلم الأمة في زمنه بالمناسك وغيرها.
وكذلك عطاء بعده إمام أهل مكة، بل إمام الناس كلهم في المناسك، حتى كان يقال في أئمة التابعين الأربعة أئمة أهل الأمصار: سعيد بن المسيب إمام أهل المدينة، وعطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة، وإبراهيم النخعي إمام أهل الكوفة، والحسن البصري إمام أهل البصرة، وأعلمهم بالحلال والحرام سعيد بن المسيب، وأعلمهم بالمناسك عطاء، وأعلمهم بالصلاة إبراهيم، وأجمعهم الحسن.
وأيضًا، فإن كل واحد من الحج والعمرة يتضمن القصد إلى بيت الله، المحيط به حرم الله تعالى، ولهذا لم يكن بد من أن يجمع في نسكه بين الحل والحرم، حتى يكون قاصدًا للحرم من الحل، فيظهر فيه معني القصد إلى الله، والتوجه إلى بيته وحرمه، فمن كان بيته خارج الحرم، فهو قاصد من الحل إلى الحرم، إلى البيت.
وأما من كان بالحرم كأهل مكة فهم في الحج، لابد لهم من الخروج إلى عرفات، وعرفات هي من الحل، فإذا أفاضوا من عرفات قصدوا حينئذ البيت من الحل.
ولهذا كان الطواف المفروض لا يكون إلا بعد التعريف، وهو القصد من الحل إلى الكعبة، الذي هو حقيقة الحج، كما قال النبي ﷺ: (الحج عرفة)، ولهذا كان الحج يدرك بإدراك التعريف ويفوت بفوات وقته بطلوع فجر يوم النحر بعد يوم التعريف، فحقيقة الحج ممكنة في حق أهل مكة، كما هي ممكنة في حق غيرهم، إذ ما قبل التعريف من الأعمال كطواف القدوم ليس من الأمور اللازمة.فإن النبي ﷺ أخبرته عائشة أنها قد حاضت، وكانت متمتعة أمرها النبي ﷺ أن تنقض رأسها، وتمتشط، وتهل بالحج، وتدع العمرة.
فأكثر الفقهاء يقولون: جعلها قارنة، وأسقط عنها طواف القدوم فسقوطه عن المفرد للحج أولي، وهو قول أبي حنيفة.
ومنهم من يقول: جعلها رافضة للعمرة، وهذا قول مالك، والشافعي وأحمد، لكن تنازعوا في سقوطه عن غير المعذور، فعلى القولين، فهو يدل على أنها لو كانت مفردة أو قارنة كان سقوط طواف القدوم عنها إذا كانت حائضًا أولي من العمرة وطوافها.
وهذا بخلاف طواف الإفاضة، فإنه لما قيل: إن صفية بنت حيي قد حاضت قال: (عَقْرَي حَلْقَي، أحابستنا هي؟). فقيل له: إنها قد أفاضت، قال: (فلا إذًا).
وهكذا كما أنه قد أمر النبي ﷺ ألا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت، وهو طواف الوداع. ورخص للحائض أن تنفر قبل الوداع. وما سقط بالعذر علم أنه ليس من أركان الحج الذي لابد منها، ولهذا لم يكن على أهل مكة طواف قدوم، ولا طواف وداع، لانتفاء معني ذلك في حقهم، فإنهم ليسوا بقادمين إليها ولا مودعين لها، ما داموا فيها. فظهر أن الحج الذي أصله التعريف للطواف بعد ذلك مشروع لوجود حقيقته فيهم.
وأما العمرة، فإن جماعها الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وذلك من نفس الحرم، وهو في الحرم دائمًا. والطواف بين الصفا والمروة تابع في العمرة، ولهذا لا يفعل إلا بعد الطواف، ولا يتكرر فعله لا في حج ولا عمرة. فالمقصود الأكبر من العمرة هو الطواف وذلك يمكن أهل مكة بلا خروج من الحرم، فلا حاجة إلى الخروج منه، ولأن الطواف والعكوف هو المقصود بالقادم إلى مكة، وأهل مكة متمكنون من ذلك، ومن كان متمكنًا من المقصود بلا وسيلة لم يؤمر أن يترك المقصود، ويشتغل بالوسيلة.
وأيضًا، فمن المعلوم أن مشي الماشي حول البيت طائفًا، هو العبادة المقصودة، وأن مشيه من الحل هو وسيلة إلى ذلك وطريق، فمن ترك المشي من هذا المقصود الذي هو العبادة، واشتغل بالوسيلة، فهو ضال جاهل بحقيقة الدين، وهو أشر من جهل من كان مجاورًا للمسجد يوم الجمعة يمكنه التبكير إلى المسجد، والصلاة فيه، فذهب إلى مكان بعيد ليقصد المسجد منه، وفوت على نفسه ما يمكنه فعله في المسجد من الصلاة المقصودة.
يبين ذلك أن الاعتمار افتعال، من عمر يعمر، والاسم فيه العمرة، قال تعالى: { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ } [83]، وقال تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [84]. وعمارة المساجد إنما هي بالعبادة فيها، وقصدها لذلك، كما قال النبي ﷺ: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان) لأن الله يقول: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ } [85]. والمقيم بالبيت أحق بمعني العمارة من القاصد له، ولهذا قيل: العمرة هي الزيارة لأن المعتمر لابد أن يدخل من الحل، وذلك هو الزيارة. وأما الأولي فيقال لها: عمارة، ولفظ عمارة أحسن من لفظ عمرة، وزيادة اللفظ يكون لزيادة المعني.
ولهذا ثبت في الصحيح أن بعض أصحاب رسول الله ﷺ قال: (لا أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: لا أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحجيج، فقال على: الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتم. فقال عمر: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ﷺ، فإذا قضيت الجمعة إن شاء الله دخلت عليه، فسألته، فأنزل الله تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } الآية [86].
وإذا كان كذلك فالمقيم في البيت طائفًا فيه، وعامرًا له بالعبادة، قد أتي بما هو أكمل من معني المعتمر، وأتي المقصود بالعمرة، فلا يستحب له ترك ذلك بخروجه عن عمارة المسجد، ليصير بعد ذلك عامرًا له؛ لأنه استبدل الذي هو أدني بالذي هو خير.
فصل الاعتمار من مكة وترك الطواف ليس بمستحب
وهو الذي ذكرناه مما يدل على أن الطواف أفضل، فهو يدل على أن الاعتمار من مكة وترك الطواف ليس بمستحب، بل المستحب هو الطواف دون الاعتمار، بل الاعتمار فيه حينئذ هو بدعة، لم يفعله السلف، ولم يؤمر بها في الكتاب والسنة، ولا قام دليل شرعي على استحبابها وما كان كذلك فهو من البدع المكروهة باتفاق العلماء.
ولهذا كان السلف والأئمة ينهون عن ذلك، فروي سعيد في سننه عن طاوس أجل أصحاب ابن عباس قال: الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري أيؤجرون عليها أم يعذبون؟ قيل: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع الطواف بالبيت، ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء. وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء.
قال أبو طالب: قيل لأحمد بن حنبل: ما تقول في عمرة المحرم؟ فقال: أي شيء فيها؟ العمرة عندي التي تعمد لها من منزلك. قال الله: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } [87]، وقالت عائشة: إنما العمرة على قدره؛ يعني: على قدر النَّصَب والنفقة. وذكر حديث على وعمر: إنما إتمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك.
قال أبو طالب: قلت لأحمد: قال طاوس: الذين يعتمرون من التنعيم لا أدري يؤجرون؟ أو يعذبون؟ قيل له: لم يعذبون؟ قال: لأنه ترك الطواف بالبيت، ويخرج إلى أربعة أميال، ويخرج إلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء. فقد أقر أحمد قول طاوس هذا الذي استشهد به أبو طالب لقوله، رواه أبو بكر في الشافي.
وذكر عبد الرزاق بإسناده عن مجاهد قال: سئل على وعمر وعائشة عن العمرة ليلة الحصبة، فقال عمر: هي خير من لا شيء، وقال: هي خير من مثقال ذرة، وقالت عائشة: العمرة على قدر النفقة؟ وعن عائشة أيضًا قالت: لأن أصوم ثلاثة أيام، أو أتصدق على عشرة مساكين، أحب إلى من أن أعتمر العمرة التي اعتمرت من التنعيم. وقال طاوس: فمن اعتمر بعد الحج ما أدري أيعذبون عليها، أم يؤجرون؟ وقال عطاء بن السائب: اعتمرنا بعد الحج، فعاب ذلك علينا سعيد بن جبير.
وقد أجازها آخرون، لكن لم يفعلوها، وعن أم الدرداء أنه سألها سائل عن العمرة بعد الحج، فأمرته بها. وسئل عطاء عن عمرة التنعيم فقال: هي تامة ومجزئة. وعن القاسم بن محمد قال: عمرة المحرم تامة. وروي عبد الرزاق في مصنفه قال: أخبرني من سمع عطاء يقول: طواف سبع خير لك من سفرك إلى المدينة، قال: فآتي جدة، قال: لا، إنما أمرتم بالطواف، قال: قلت: فأخرج إلى الشجرة، فأعتمر، منها؟ قال: لا.
قال. وقال بعض العلماء: مازالت قدماي منذ قدمت مكة، قال قلت: فالاختلاف أحب إليك من الجواز، قال: لا، بل الاختلاف. قال عبد الرزاق: أخبرني أبي، قال: قلت للمثني: إني أريد أن آتي المدينة، قال: لا تفعل، سمعت عطاء سأله رجل، فقال له: طواف سبع بالبيت خير لك من سفرك إلى المدينة.
وروي أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف: حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أسلم المنقري، قال: قلت لعطاء: أخرج إلى المدينة، أهلّ بعمرة من ميقات النبي ﷺ؟ قال: طوافك بالبيت أحب إلى من سفرك إلى المدينة. وقال: حدثنا وكيع، ثنا عمر بن ذر، عن مجاهد، قال: طوافك بالبيت أحب إلى من سفرك إلى المدينة، وقال: حدثنا إسماعيل ابن عبدالملك، عن عطاء قال: الطواف بالبيت أحب إلى من الخروج إلى العمرة.
فصل في كثرة الاعتمار في رمضان للمكي وغيره
وأما كثرة الاعتمار في رمضان للمكي وغيره، فهنا ثلاث مسائل مرتبة:
أحدها: الاعتمار في العام أكثر من مرة، ثم الاعتمار لغير المكي ثم كثرة الاعتمار للمكي.
فأما كثرة الاعتمار المشروع: كالذي يقدم من دويرة أهله، فيحرم من الميقات بعمرة كما كان النبي ﷺ وأصحابه يفعلون، وهذه من العمرة المشهورة عندهم، فقد تنازع العلماء هل يكره أن يعتمر في السنة أكثر من عمرة واحدة، فكره ذلك طائفة: منهم الحسن، وابن سيرين، وهو مذهب مالك. وقال إبراهيم النَّخَعي: ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة واحدة؛ وذلك لأن النبي ﷺ وأصحابه لم يكونوا يعتمرون إلا عمرة واحدة، لم يعتمروا في عام مرتين، فتكره الزيادة على ما فعلوه، كالإحرام من فوق الميقات، وغير ذلك؛ ولأنه في كتاب النبيﷺ الذي كتبه لعمرو بن حزم: إن العمرة هي الحج الأصغر، وقد دل القرآن على ذلك بقوله تعالى: { يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ } [88]، والحج لا يشرع في العام إلا مرة واحدة، فكذلك العمرة.
ورخص في ذلك آخرون. منهم من أهل مكة: عطاء، وطاوس، وعِكْرِمة وهو مذهب الشافعي، وأحمد. وهو المروي عن الصحابة. كعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وعائشة؛ لأن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي ﷺ، عمرتها التي كانت مع الحجة، والعمرة التي اعتمرتها من التنعيم بأمر النبي ﷺ ليلة الحصبة، التي تلي أيام منى، وهي ليلة أربعة عشر من ذي الحجة، وهذا على قول الجمهور الذين يقولون لم ترفض عمرتها، وإنما كانت قارنة.
وأيضًا، ففي الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) وهذا مع إطلاقه وعمومه، فإنه يقتضي الفرق بين العمرة والحج، إذ لو كانت العمرة لا تفعل في السنة إلا مرة لكانت كالحج، فكان يقال: الحج إلى الحج.
وأيضًا، فإنه أقوال الصحابة. روي الشافعي عن على بن أبي طالب أنه قال: في كل شهر مرة، وعن أنس أنه كان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر، وروي وَكِيع عن إسرائيل عن سُوَيد بن أبي ناجية عن أبي جعفر قال: قال على: اعتمر في الشهر إن أطقت مرارًا. وروي سعيد بن منصور عن سفيان عن ابن أبي حسين عن بعض ولد أنس: أن أنسًا كان إذا كان بمكة فحمم رأسه خرج إلى التنعيم، واعتمر.
وهذه والله أعلم هي عمرة المحرم، فإنهم كانوا يقيمون بمكة إلى المحرم، ثم يعتمرون. وهو يقتضي أن العمرة من مكة مشروعة في الجملة، وهذا مما لا نزاع فيه، والأئمة متفقون على جواز ذلك، وهو معني الحديث المشهور مرسلا: عن ابن سيرين، قال: وقت رسول الله ﷺ لأهل مكة التنعيم. وقال عكرمة: يعتمر إذا أمكن الموسي من رأسه، إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين، وفي رواية عنه: اعتمر في الشهر مرارًا.
وأيضًا، فإن العمرة ليس لها وقت يفوت به كوقت الحج، فإذا كان وقتها مطلقًا في جميع العام، لم تشبه الحج في أنها لا تكون إلا مرة.
فصل في الإكثار من الاعتمار والموالاة بينها
المسألة الثانية: في الإكثار من الاعتمار، والموالاة بينها: مثل أن يعتمر من يكون منزله قريبًا من الحرم كل يوم، أو كل يومين أو يعتمر القريب من المواقيت التي بينها وبين مكة يومان: في الشهر خمس عمر، أو ست عمر، ونحو ذلك. أو يعتمر من يري العمرة من مكة كل يوم عمرة، أو عمرتين، فهذا مكروه باتفاق سلف الأمة، لم يفعله أحد من السلف، بل اتفقوا على كراهيته، وهو وإن كان استحبه طائفة من الفقهاء من أصحاب الشافعي، وأحمد، فليس معهم في ذلك حجة أصلا، إلا مجرد القياس العام. وهو أن هذا تكثير للعبادات، أو التمسك بالعمومات في فضل العمرة، ونحو ذلك.
والذين رخصوا في أكثر من عمرة في الحول، أكثر ما قالوا: يعتمر إذا أمكن الموسي من رأسه، أو في شهر مرتين، ونحو ذلك.
وهذا الذي قاله الإمام أحمد. قال أحمد: إذا اعتمر فلابد من أن يحلق، أو يقصر، وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس.
وهذا الذي قاله الإمام أحمد فِعْلُ أنس بن مالك، الذي رواه الشافعي: أنه كان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر. وهذا لأن تمام النسك الحلق، أو التقصير، وهو إما واجب فيه، أو مستحب. ومن حكي عن أحمد أو نحوه أنه ليس إلا مباحًا لا استحبابا، فقد غلط. فمدة نبات الشعر أقصر مدة يمكن فيها إتمام النسك، ولا ينتقض هذا بالعمرة عقيب الحج من أدني الحل للمفرد، فإن ذلك مشروع لضرورة فعل العمرة، ومع هذا لم يكن يفعله السلف، ولا فعله أحد على عهد رسول الله ﷺ؛ بل الثابت المنقول بالتواتر في حجة النبي ﷺ حجة الوداع، أنه أمر أصحابه جميعهم إذا طافوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي، فإنه لا يحل إلى يوم النحر، حتى يبلغ الهدي محله، وقال: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة).
فكانت عمرة النبي ﷺ، وجميع أصحابه بأمره في حجة الوداع داخلة في حجهم، ليس بينهم فرق، إلا أن أكثرهم وهم الذين لا هدي معهم حلوا من إحرامهم، والذين معهم الهدي أقاموا على إحرامهم، وكل ذلك كانوا يسمونه تمتعًا بالعمرة إلى الحج، كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة، التي تبين أن القارن متمتع، كما أن من حل من العمرة ثم حج متمتع.
فمن اعتمر في أشهر الحج، وحج من عامه، فهو متمتع في لغة الصحابة الذين نزل القرآن بلسانهم، والقارن يكون قارنًا إذا أحرم بالعمرة والحج ابتداء، ويكون قارنًا إذا أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف، باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وإذا لم يحل المتمتع من إحرامه لكونه قد ساق الهدي وأحرم بالحج انعقد إحرامه بالحج، ويسميه بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم قارنًا لعدم وجود التحلل، وبعضهم يقول: لا يسمى قارنًا لأن عليه عندهم سعيًا آخر بعد طواف الفرض، بخلاف القارن.
وهذه المسألة فيها عن أحمد روايتان، فقد استحب السعي مرة ثانية على المتمتع، وقد نص في غير موضع على أن المتمتع يكفيه السعي الأول، كما ثبت في الصحيح من حديث عائشة وغيرها: أن الصحابة الذين تمتعوا مع النبي ﷺ لم يطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، إلا مرة واحدة، طوافهم الأولزز؛ ولهذا لما أوجب الله تعالى فيمن تمتع بالعمرة إلى الحج ما استيسر من الهدي، كان واجبًا على من أحرم بالحج بعد تحلله من العمرة التي أحرم بها في أشهر الحج، وعلى من قرن العمرة بالحج من حين إحرامه بالحج، أو في أثناء إحرامه في الحج.
ولهذا كان من ساق الهدي محرمًا بعمرة التمتع، ولم يحرم بالحج إلا بعد الطواف والسعي، قد يسميه من يفرق بين القِران، وبين التمتع الخاص قارنًا، لكونه أحرم بالحج قبل تحلله من العمرة، وقد يسمونه متمتعًا وهو أشهر، لكونه لم يحرم إلا بعد قضاء العمرة، وهو نزاع لفظي لا يختلف به الحكم بحال، إلا ما ذكرنا من وجوب السعي ثانيًا، وفيمن قد يستحب للمتمتع أن يطوف طواف القدوم بعد رجوعه من عرفة، قبل طواف الإفاضة. وهذا وإن كان منقولا عن أحمد واختاره طائفة من أصحابه، فالصواب الذي عليه جماهير العلماء أنه لا يستحب؛ لأن الصحابة لم يفعلوا ذلك مع النبي ﷺ، وهذا هو القول الأخير من مذهب أحمد.
ولهذا كان من روي أن النبي ﷺ تمتع بالعمرة إلى الحج، ومن روي أنه قرن بينهما، كان كلا الحديثين صوابًا، والمعني واحد. وكذلك من روي أنه أفرد الحج،. كابن عمر، وعائشة، وغيرهما؛ لأنهم أرادوا إفراد أعمال الحج؛ ولهذا كان هؤلاء الذين رووا ذلك هم الذين رووا أنه أفرد أعمال الحج، فلم يفصل بينهما بتحلل كما يفعل المتمتع إذا تحلل من عمرته، ولا كان في عمله زيادة على عمل المفرد؛ بخلاف المتمتع الذي تحلل من إحرامه، فإنه فصل بين عمرة تمتعه وحجه بتحلل.
ولم يعتمر النبي ﷺ بعد حجته لا هو، ولا أحد من أصحابه الذين حجوا معه، إلا عائشة. فهذا متفق عليه، بين جميع الناس، متواتر تواترًا يعرفه جميع العلماء بحجته، لا يتنازعون أنه لم يعتمر بعد حجته، لا من أدني الحل الذي هو التنعيم، الذي بنيت به بعد ذلك المساجد التي تسميها العامة مساجد عائشة، ولا من غير التنعيم.
ولهذا اتفقوا على أن الأحاديث الثابتة في الصحاح وغيرها أن النبي ﷺ اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية. وعمرة القَضِيَّة، وعمرة الجِعْرانة، والعمرة التي مع حجته. فإنما معناها: أنه اعتمر عمرة متمتع، ساق الهدي. وهذا أيضًا قارن، فتسميته متمتعًا وقارنًا سواء، إذا كان قد أهل بالعمرة والحج، وهذان متمتع وهو قارن؛ ولهذا كان من غلط من الفقهاء فقال: إنه أحرم بالحج فقط، ولم يقرن به عمرة لا قبله، ولا معه، أوقال: إنه أحرم إحرامًا مطلقًا ثم عقبه الحج، فإنه ينكر أن يكون النبي ﷺ اعتمر مع حجته، ويلزمه رد هذه الأحاديث الصحيحة المبينة أنه اعتمر أربع عمر، لاتفاق المسلمين على أنه لم يعتمر هو ولا أحد من أصحابه غير عائشة عقب الحج.
ولهذا كان هذا حجة قاطعة على ما لم يتنازع فيه الأئمة الأربعة، وعامة الفقهاء في أن المتمتع بالعمرة إلى الحج سقط عنه بذلك الحج والعمرة، سواء قيل بوجوبها، أو بتوكيد استحبابها دون وجوبها، ؛ لأن الصحابة الذين حجوا مع النبي ﷺ بأمره هكذا فعلوا، وأخبرهم النبي ﷺ أن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة. وقالوا له: أعمرتنا هذه لعامنا هذا ؟ أم للأبد ؟ فقال: (بل للأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة).
قال: ومن روي من الصحابة أن النبي ﷺأفرد الحج، أرادوا بذلك بيان أنه لم يحل من إحرامه لعمرة التمتع، كما أمر بذلك جمهور أصحابه، وهم الذين لم يكونوا ساقوا الهدي، فإن الأحاديث الثابتة المتواترة كلها متفقة على أن النبي ﷺأمر أصحابه حين قدموا مكة فطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقي على إحرامه إلى يوم النحر، حتى يبلغ الهدي محله، عملا بمعني قوله: { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّي يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [89]، فهذه الجملة لم يتنازع فيها أحد من العلماء: أن حجة الوداع كانت هكذا.
ثم إن كثيرا من الصحابة روي أن النبي ﷺتمتع بالعمرة إلى الحج، فصار يظن قوم أنهم أرادوا بذلك أنه حل من حرامه بالعمرة ثم أحرم بالحج، كما أمر بذلك أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي، وروي أيضا من روي من هؤلاء الصحابة: أنه أفرد الحج؛ ليزيلوا بذلك ظن من ظن أنه حل من إحرامه، وأخبروا أنه لم يحل من إحرامه، بل فعل كما يفعل من أفرد الحج، من بقائه على إحرامه وعمل ما يعمله المفرد.فروايات الصحابة متفقة على هذا.
وكل من روي عنه من الصحابة أنه روي الإفراد، فقد روي التمتع، وفسروا التمتع بالقران، ورووا عنه صريحا أنه قال: (لبيك عمرة وحجا)، وأنه قال: (أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك، فقال: قل: عمرة في حجة).
ولهذا كان الصواب أن من ساق الهدي فالقِران له أفضل، ومن لم يسق الهدي، وجمع بينهما في سفر، وقدم في أشهر الحج، فالتمتع الخاص أفضل له، وإن قدم في شهر رمضان وقبله بعمرة فهذا أفضل من التمتع، وكذلك لو أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، فهو أفضل من المتعة المجردة؛ بخلاف من أفرد العمرة بسفرة، ثم قدم في أشهر الحج متمتعا، فهذا له عمرتان وحجة، فهو أفضل، كالصحابة الذين اعتمروا مع النبي ﷺ عمرة القضية، ثم تمتعوا معه في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، فهذا أفضل الإتمام. وكذلك فعل النبي ﷺ: اعتمر أولًا، ثم قرن في حجه بين العمرة والحج لما ساق الهدي؛ لكنه لم يزد على عمل المفرد، فلم يطف للعمرة طوافا رابعًا؛ ولهذا قيل: إنه أفرد بالحج.
ثم إن الناس كانوا في عهد أبي بكر وعمر لما رأوا في ذلك من السهولة، صاروا يقتصرون على العمرة في أشهر الحج، ويتركون سائر الأشهر. لا يعتمرون فيها من أمصارهم، فصار البيت يعري عن العمار من أهل الأمصار في سائر الحول، فأمرهم عمر ابن الخطاب بما هو أكمل لهم بأن يعتمروا في غير أشهر الحج، فيصير البيت مقصودًا معمورًا في أشهر الحج، وغير أشهر الحج، وهذا الذي اختاره لهم عمر هو الأفضل، حتى عند القائلين بأن التمتع أفضل من الإفراد، والقِران، كالإمام أحمد وغيره.
فإن الإمام أحمد يقول: إنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج كان أفضل من أن يؤخر العمرة إلى أشهر الحج، سواء قدم مكة قبل أشهر الحج واعتمر وأقام بمكة حتى يحج من عامه ذلك، أو اعتمر ثم رجع إلى مصره، أو ميقات بلده، وأحرم بالحج، وهذا ظاهر. فإن القاصد لمكة إذا قدم مثلا في شهر رمضان فاعتمر فيه، حصل له ما ذكره النبي ﷺ بقوله: (عمرة في رمضان تعدل حجة). وإن قدم قبل ذلك معتمرًا وأقام بمكة، فذلك كله أفضل له، فإنه يطوف بمكة ويعتكف بها تلك المدة إلى حين الإهلال بالحج، وإن رجع إلى مصره ثم قدم وأحرم بالحج فقد أفرد للعمرة سفرًا، وللحج سفرًا، وذلك أتم لهما، كما قال على في قوله تعالى: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } [90]، إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. أي: تنشئ السفر لهما من دويرة أهلك.
وأما من اعتمر قبل أشهر الحج، ثم رجع إلى مصره، ثم قدم ثانيًا في أشهر الحج فتمتع بعمرة إلى الحج، فهذا أفضل ممن اقتصر على مجرد الحج في سفرته الثانية، إذا اعتمر معها عقيب الحج؛ لأن النبي ﷺاعتمر مع الحج تمتع هو قران كما بينوا، ولأن من تحصل له عمرة مفردة، وعمرة مع حجة، أفضل ممن لا يحصل له إلا عمرة وحجة، وعمرة تمتع أفضل من عمرة مكية عقيب الحج.
فهذا الذي اختاره عمر للناس هو الاختيار عند عامة الفقهاء؛ كالإمام أحمد، ومالك، والشافعي، وغيرهم، وكذلك ذكر أصحاب أبي حنيفة عن محمد بن الحسن. ولا يعرف في اختيار ذلك خلاف بين العلماء.
ولما كان ذلك هو الأفضل الأرجح، وكان إن لم يؤمر الناس به زهدوا فيه، وأعرضوا عما هو أنفع لهم في دينهم، كان من اجتهاد عمر، ونظره لرعيته، أنه ألزمهم بذلك، كما يُلْزِم الأب الشفيق ولده ما هو أصلح له، ولما في ذلك من المنفعة لأهل مكة، وهذا كان موضع اجتهاد خالفه فيه على، وعمران بن حصين، وغيرهما من الصحابة، ولم يروا أن يؤمر الناس بذلك أمرا، بل يتركون من أحب اعتمر قبل أشهر الحج، ومن أحب اعتمر فيها، وإن كان الأول أكمل.
وقوي النزاع في ذلك في خلافة عثمان حتى ثبت في الصحيحين: أن عثمان كان ينهي عن المتعة، فلما رآه على أهل بهما، وقال: لم أكن لأدع سنة رسول الله ﷺلقول أحد، ونهي عثمان كان لاختيار الأفضل، لا نهي كراهة.
فلما حصلت الفرقة بعد ذلك بين الأمة بمقتل عثمان، ومصير الناس شيعتين: قوما يميلون إلى عثمان وشيعته، وقوما يميلون إلى على وشيعته، صار قوم من ولاة بني أمية ينهون عن المتعة، ويعاقبون من يتمتع، ولا يمكنون أحدًا من العمرة في أشهر الحج، وكان في ذلك نوع من الجهل والظلم. فلما رأي ذلك علماء الصحابة كعبد الله بن عباس، وعبدالله بن عمر، وغيرهما جعلوا ينكرون ذلك، ويأمرون الناس بالمتعة اتباعا لسنة رسول الله ﷺ. ويخبرون الناس أن النبي ﷺ. أمر بها أصحابه في حجة الوداع فصار بعض الناس يناظرهم بما توهمه على أبي بكر، وعمر، فيقولون لعبد الله بن عمر: إن أباك كان ينهي عنها، فيقول: إن أبي لم يرد ذلك، ولا كان يضرب الناس عليها، ونحو ذلك.
فبين لهم أن عمر قصد أمر الناس بالأفضل، لا تحريم المفضول، وعمر إنما أمرهم بالاعتمار في غير أشهر الحج، فأما أن يكون عمر أو أحد من الصحابة اختار للناس أن يفردوا الحج في أشهره، ويعتمروا فيه عمرة مكية، فهذا لم يأمر به، ولم يختره أحد من الصحابة أصلا، ولم يفعله أحد على عهد النبي ﷺقطعًا، وأكبر ظني أنه لم يفعله أحد من الصحابة بعد النبي ﷺ، ولم يأمر به.
وقد حمل طائفة من العلماء نهي عمر على أنه نهى عن متعة الفسخ، وهؤلاء يقولون: الفسخ إنما كان جائزا لمن كان مع النبي ﷺ. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
وبين أن السلف والعلماء تنازعوا في الفسخ. فمذهب ابن عباس وأصحابه، وكثير من الظاهرية والشيعة: يرون أن الفسخ واجب، وأنه ليس لأحد أن يحج إلا متمتعا. ومذهب كثير من السلف والخلف أنه وإن جاز التمتع، فليس لمن أحرم مفردًا، أو قارنًا، أن يفسخ. وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي. ومذهب كثير من فقهاء الحديث وغيرهم؛ كأحمد بن حنبل، أن الفسخ هو الأفضل، وأنه إن حج مفردًا أو قارنًا، ولم يفسخ جاز. وأما من ساق الهدي فلا يفسخ بلا نزاع والفسخ جائز ما لم يقف بعرفة، وسواء كان قد نوي عند الطواف طواف القدوم، أو غير ذلك، وسواء كان قد نوي عند الإحرام القِران، أو الإفراد، أو أحرم مطلقا.
فالأفضل عند هؤلاء لكل من لم يسق الهدي أن يحل من إحرامه بعمرة تمتع، كما أمر النبي ﷺأصحابه بذلك في حجة الوداع، وليس له أن يتحلل بعمرة إذا كان قصده أن يحج من عامه فيكون متمتعا.
فأما الفسخ بعمرة مجردة، فلا يجوزه أحد من العلماء، ولا للذي يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة أن يحج في أشهر الحج ويعتمر عقيب ذلك من مكة، بل هم متفقون على أن هذا ليس هو المستحب المسنون. فهذا أفضل ممن اقتصر على مجرد الحج في سفرته الثانية، أو اعتمر فيها.
فثبت أن النبي ﷺاعتمر مع الحج عمرة تمتع، هو قران كما تقدم؛ ولأن من يحصل له عمرة مفردة، وعمرة مع حجة أفضل ممن لم يحصل له إلا عمرة وحجة، وعمرة تمتع أفضل من عمرة بمكة عقيب الحج إلى الحج، وإن جوزوه.
فكان عبد الله بن عمر إذا بين لهم معني كلام عمر ينازعونه في ذلك، فيقول لهم: فقدروا أن عمر نهى عن ذلك. أمر رسول الله ﷺأحق أن تتبعوه أم عمر؟! وكذلك كان عبد الله بن عباس إذا بين لهم سنة النبي ﷺفي تمتعه، يعارضونه بما توهموه على أبي بكر وعمر، فيقول لهم: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء. أقول لكم: قال رسول الله ﷺ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر. يبين لهم أنه ليس لأحد أن يعارض سنة رسول الله ﷺبقول أحد من الناس، مع أن أولئك المعارضين كانوا يخطئون على أبي بكر وعمر، وهم سواء كانوا علموا حال أبي بكر وعمر، أم أخطؤوا عليهما، ليس لأحد أن يدفع المعلوم من سنة رسول الله ﷺ، بقول أحد من الخلق، بل كل أحد من الناس فإنه يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله ﷺ. وهذا متفق عليه بين علماء الأمة وأئمتها.
وإنما تنازع فيه أهل الجهالة من الرافضة، وغالية النساك الذين يعتقد أحدهم في بعض أهل البيت، أو بعض المشائخ، أنه معصوم، أو كالمعصوم، وكان ابن عباس يبالغ في المتعة حتى يجعلها واجبة، ويجعل الفسخ واجبا، وهو قول أبي حنيفة وطائفة من أهل الظاهر والشيعة، ويجعل من طاف وسعي فقد حل من إحرامه، وصار متمتعًا، سواء قصد التمتع، أو لم يقصده. وصار إلى إيجاب التمتع طائفة من الشيعة وغيرهم. وهذا مناقضة لمن نهى عنها، وعاقب عليها، من بني أمية وغيرهم.
وأما الذي عليه أئمة الفقه: فإنهم يجوزون هذا وهذا، ولكن النزاع بينهم في الفسخ، وفي استحبابه، فمن حج متمتعا من الميقات أجزأه حجه، باتفاق العلماء، وما سوي ذلك فيه نزاع، سواء أفرد، أو قرن، أو فسخ إذا قدم في أشهر الحج، إلا القارن الذي ساق الهدي، فإن هذا يجزئه أيضا حجه باتفاقهم.
وأمام من قدم بعمرة قبل أشهر الحج، وأقام إلى أن يحج فهذا أيضا ما أعلم فيه نزاعًا، فالتمتع المستحب، والقِران المستحب، والإفراد المستحب هو الذي يجزئه باتفاقهم.
وبسبب ما وقع من اشتراك الألفاظ في الرواية، واختلاف الاجتهاد في العمل، وغير ذلك، صار كثير من الفقهاء يغلطون في معرفة صفة حجة الوداع، فيظن طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم أن النبي ﷺ تمتع، بمعني أنه حل من إحرام العمرة، ثم أحرم بالحج، وهذا غلط بلا ريب. وقد قال الإمام أحمد: لا أشك أن النبي ﷺكان قارنًا، والمتعة أحب إلى، أي لمن كان لم يسق الهدي؛ فإنه لا يختلف قوله: أن من جمع الحج والعمرة في سفرة واحدة، وقدم في أشهر الحج، ولم يسق الهدي، أن هذا التمتع أفضل له. بل هو المسنون؛ لأن النبي ﷺأمر أصحابه بذلك.
وأما من ساق الهدي: فهل القِران أفضل له؟ أم التمتع؟ ذكروا عنه روايتين، والذي صرح به في رواية المروزي أن القران أفضل له؛ لأن النبي ﷺ هكذا حج بلا نزاع بين أهل العلم والحديث، وهذا السائق للهدي تمتعه وقرانه لا يختلفان إلا في تقدم الإحرام وتأخيره. فمتي أحرم بالحج مع العمرة، أو قرن الإحرام بالعمرة. أو بزيادة سعي عند من يقول به، وقبل طوافه وسعيه عند من يقوله كان قارنًا، وهو متمتع تمتع قران بلا نزاع.
وإن لم يحرم بالحج إلا بعد الطواف والسعي، مع بقائه على إحرامه، فهو متمتع، وبقاؤه على إحرامه واجب عليه عند أبي حنيفة وأحمد، إذا كان قد ساق الهدي، وعند مالك والشافعي إنما يتحلل إن لم يسق الهدي، فإنه يتحلل من عمرته باتفاقهم، فإن أحرم بالحج قبل تحلله من العمرة ففيه نزاع.
ومن جوز هذا من أصحاب أحمد فإنهم يسمونه أيضا قارنا، فإنه لم يتحلل من إحرامه حتى أحرم بالحج، وهل على المتمتع بعد طواف الإفاضة سعي غير السعي الذي كان عقيب طواف العمرة؟ فيه قولان في مذهب أحمد، وغيره.
وقد نص أحمد على أن المتمتع يجزئه سعي واحد كما يجزئ القارن في غير موضع، وعلى هذا فلا يختلفان إلا بالتقدم والتأخر، وإذا كان الأمر كذلك فمعلوم أن تقدم الإحرام بالحج أفضل من تأخيره؛ لأنه أكمل، وهذا الذي ثبت صحيحا صريحا عن النبي ﷺ، حيث قال أنس: سمعته يقول: (لبيك عمرة وحجا)، وكذلك في حديث عمر الذي في الصحيح صحيح البخاري عن النبي ﷺأنه قال: (أتاني آت الليلة من ربي وهو بالعقيق فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)، ولم ينقل أحد عن النبي ﷺ نفسه لفظًا يخالف هذين البتة؛ بل لم ينقل أحد عن النبي ﷺلفظًا بإحرامه إلا هذا. وكذلك قالت عائشة في الحديث المتفق عليه: خرجنا مع رسول الله ﷺ في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله ﷺ: (من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة).
وأما قول النبي ﷺ: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة)، فهذا أيضا يبين أنه مع سوق الهدي لم يكن يجعلها عمرة، وأنه إنما كان يجعلها عمرة إذا لم يسق الهدي، وذلك لأن أصحابه الذين أمرهم بالإحلال، وهم الذين لم يسوقوا الهدي، كرهوا أن يحلوا في أشهر الحج؛ لأنهم لم يكونوا يعتادون الحل في وسط الإحرام في أشهر الحج، فكان النبي ﷺ لأجل تطييب قلوبهم يوافقهم في الفعل، فذكر أنه لو استقبل من أمره ما استدبر. أي: لو كنت الساعة مبتدئا الإحرام لم أسق الهدي، ولأحرمت بعمرة أحل منها. وهذا كله من النصوص الثابتة عنه بلا نزاع.
وهو يبين أن المختار لمن قدم في أشهر الحج أحد أمرين: إما أن يسوق الهدي، أو يتمتع تمتع قران، أو لا يسوق الهدي ويتمتع بعمرة ويحل منها.
ثم الذي ينبغي أن يقال: إن الذي اختاره الله لنبيه هو أفضل الأمرين.
وأما قوله ﷺ: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أفعل ذلك)، فهو حكم معلق على شرط، والمعلق على شرط عدم عند عدمه، فما استقبل من أمره ما استدبر، وقد اختار الله تعالى له ما فعل، واختار له أنه لم يستقبل ما استدبر. ولا يلزم إذا كان الشيء أفضل على تقدير أن يكون أفضل مطلقا.
وهذا كقوله: (لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر)، فهو لا يدل على أن عمر أفضلهم لو لم يبعث الرسول، ولا يدل على أنه أفضل مع بعث الرسول؛ بل أبو بكر أفضل منه في هذه الحال، ولكن هذا بين أن الموافقة إذا كان في تنويع الأعمال تفرق وتشتت هو أولي من تنويعها، وتنويعها اختيار القادر المفضول للأفضل، والعاجز عن المفضول كما اختار من قدر على سوق الهدي الأفضل. ومن لم يقدر على سوقه مع السلامة عن التفرق، ومع تفرق يعقبه ائتلاف هو أفضل.
وغلط أيضا في صفة حجه طائفة من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما؛ فظنوا أنه إنما كان مُفْرِدًا: يعني أنه أحرم بحجة مفردة، ولم يعتمر معها أصلا، وهذا خلاف الأحاديث الصحيحة الثابتة أيضا وخلاف ما تواتر في سنته.
ثم قد يغلط طوائف من متأخريهم فيظنون أنه اعتمر مع ذلك من مكة؛ ولهذا لم ينقله أحد ممن له قول معتبر، ولم يتنازعوا في أنه أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي بالتمتع بالعمرة إلى الحج، وأمره في حق أمته أولي بهم من فعله، لا سيما وقد بين أن اختصاصه بعدم الإحلال إنما كان لسوق الهدي، وهذا متواتر عنه. وفي الصحيحين أن حفصة قالت له: ما بال الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: (إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر). فهذا لا ينافي أنه أحرم بالعمرة والحج. كما روي أنس وعمر وغيرهما؛ لأن ذلك يسمي عمرة؛ لأنه وحده عمل المعتمر؛ ولأنه أمرهم بالحل، وأن يجعلوها عمرة فشبهته بهم.
وغلط أيضا في صفة حجته من غلط من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم؛ فاعتقدوا أن النبي ﷺ كان قارنا، بمعني أنه طاف وسعي أولا للعمرة، ثم طاف وسعي ثانيا للحج قبل التعريف، وكل من نظر في الأحاديث الثابتة المتواترة عن النبي ﷺعلم أنه لم يطف طوافين، ولا سعي سعيين، ولا أمر بذلك أصحابه الذين ساقوا الهدي، وأمرهم بالبقاء على إحرامهم، فضلا عن الذين أمرهم بالإحلال.
وما روي أنه يأمر به على ونحوه؛ من فعل الطوافين، والسعيين فقد ضعفه غير واحد من أهل العلم بالحديث، وليس في شيء من كتب الحديث أن النبي ﷺفي حجته طاف طوافين، وسعي سعيين، وإنما يوجد ذلك في بعض كتب الرأي التي يروي أصحابها أحاديث كثيرة، وتكون ضعيفة، وهم لم يتعمدوا الكذب، لكن سمعوا تلك الأحاديث ممن لا يضبط الحديث.
وهكذا الاختيار. فإن الفقهاء وإن جوزوا الأنساك الثلاثة، فقد يغلط كثير منهم في الاختيار، فأعدل الأقوال وهو أتبعها للسنة، وأصحها في الأثر والنظر، ما ذكرناه: أن من قدم في أشهر الحج مريدًا للعمرة والحج في تلك السفرة فالسنة له التمتع بالعمرة إلى الحج، ثم إن ساق الهدي لم يحل من إحرامه، ولكن إحرامه بالحج مع العمرة أولا قبل الطواف والسعي أفضل له من أن يؤخر الإحرام بالحج إلى ما بعد الطواف والسعي، وإن لم يسق الهدي حل، وهذا أفضل له من أن يجيء بعمرة عقب الحج.
وأما من أفردهما في سفرة، واعتمر قبل أشهر الحج، وأقام إلى الحج، فهذا أفضل من التمتع، وهذا قول الخلفاء الراشدين، وهو مذهب الإمام أحمد وغيره، وقول من يقوله من أصحاب مالك والشافعي وغيرهم، واختيار المتعة هو قول أصحاب الحديث، وهو قول فقهاء مكة من الصحابة والتابعين، وقول بني هاشم.
فاتفق على اختياره علماء سنته، وأهل بلدته؛ وأهل بيته.
ومالك، وإن كان يختار الإفراد، فلا يختاره لمن يعتمر عقب الحج بل يعتمر في غير أشهر الحج كالمحرم. والشافعي في أحد أقواله يختار التمتع، وفي الآخر يختار إحراما مطلقا، وفي الآخر يختار الإفراد، ولكن لا أحفظ قوله فيمن يعتمر عقب الحج، فإنه وإن كان من أصحابه من يجعل هذا هو الأفضل، فكثير من أصحاب أحمد يظن أن مذهبه أن المتعة أفضل من الاعتمار في أشهر الحج.
والغلط في هذا الباب كثير على السنة؛ وعلى الأئمة، وإلا فكيف يشك من له أدني معرفة في السنة أن أصحابه لم يعتمر أحد منهم عقيب الحج، وكيف يشك مسلم أن ما فعلوه بأمر النبي ﷺ هو الأفضل لهم، ولمن كان حاله كحالهم.
وقد تبين بما ذكرنا أنه وإن سوغ العمرة من مكة عقب الحج لمن أفرد، فهذا لم يفعله أحد على عهد النبي ﷺ، ولا أمر به هو ولا أحد من خلفائه، ولا أحد من صحابته، والتابعين وأئمتهم أمر اختيار، وهذا كله مما يضعف أمر الاعتمار من مكة غاية الضعف.
فصل في الموالاة بين العمرة
وأما المسألة الثالثة: فنقول: فإذا كان قد تبين بما ذكرناه من السنة واتفاق سلف الأمة أنه لا يستحب، بل تكره الموالاة بين العمرة لمن يحرم من الميقات، فمن المعلوم أن الذي يوالي بين العمر من مكة في شهر رمضان أو غيره أولي بالكراهة، فإنه يتفق في ذلك محذوران.
أحدهما: كون الاعتمار من مكة، وقد اتفقوا على كراهة اختيار ذلك، بدل الطواف.
والثاني: الموالاة بين العمر، وهذا اتفقوا على عدم استح
بابه؛ بل ينبغي كراهته مطلقا فيما أعلم لمن لم يعتض عنه بالطواف، وهو الأقيس، فكيف بمن قدر على أن يعتاض عنه بالطواف؟! بخلاف كثرة الطواف، فإنه مستحب مأمور به، لاسيما للقادمين. فإن جمهور العلماء على أن طوافهم بالبيت أفضل لهم من الصلاة بالمسجد الحرام، مع فضيلة الصلاة بالمسجد الحرام.
فصل في فضل الاعتمار في رمضان
وأما الاعتمار في شهر رمضان: ففي الصحيحين والسنن عن عطاء سمعت ابن عباس يحدثنا قال: قال رسول الله ﷺ لامرأة من الأنصار سماها ابن عباس فنسيت اسمها: (ما منعك أن تحجي معنا) فقالت: لم يكن لنا إلا ناضحان، فحج أبو ولدها على ناضح، وترك لنا ناضحًا ننضح عليه، قال: (فإذا جاء شهر رمضان فاعتمري، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة). وفي الصحيحين، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال: (عمرة في رمضان تعدل حجة). وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال لأم سنان امرأة من الأنصار: (عمرة في رمضان تقضي حجة معي). وروي البخاري هذا الحديث من طريق جابر تعليقًا، وعن أم معقل عن النبي ﷺ قال: (عمرة في رمضان تعدل حجة) رواه ابن ماجة، والترمذي، وقال: حديث حسن.
وعن يوسف بن عبد الله بن سلام عن جدته أم معقل، قالت: لما حج رسول الله ﷺ حجة الوداع، وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض، وهلك أبو معقل، وخرج النبي ﷺ، فلما فرغ من حجته جئته، فقال: (يا أم معقل، ما منعك أن تحجي؟). قالت: لقد تهيأنا فهلك أبو معقل، وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه، فأوصي به أبو معقل في سبيل الله، قال: (فهلا خرجت عليه، فإن الحج من سبيل الله) رواه أبو داود.
وروي أحمد في المسند عن أم معقل الأسدية، أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله، وأنها أرادت العمرة، فسألت زوجها البكر فأبي، فأتت النبي ﷺ فذكرت ذلك له، فأمره أن يعطيها، وقال رسول الله ﷺ: (الحج والعمرة في سبيل الله).
فهذه الأحاديث تبين أنه ﷺأراد بذلك العمرة التي كان المخاطبون يعرفونها، وهي قدوم الرجل إلى مكة معتمرا، فأما أن يخرج المكي فيعتمر من الحل فهذا أمر لم يكونوا يعرفونه، ولا يفعلونه، ولا يأمرون به، فكيف يجوز أن يكون ذلك مرادًا من الحديث؟! مع أن هذه المرأة كانت بالمدينة النبوية، وعمرتها لا تكون إلا من الميقات، ليست عمرتها مكية.
وكيف يكون قد رغبهم في عمرة مكية في رمضان؟! ثم إنهم لا يأتون مافيه هذا الأجر العظيم، مع فرط رغبتهم في الخير، وحرصهم عليه، وهلا أخبر النبي ﷺ بذلك أهل مكة المقيمين بها؛ ليعتمروا كل عام في شهر رمضان، وإنما أخبر بذلك من كان بالمدينة، لما ذكر له مانعًا منعه من السفر للحج، فأخبره أن الحج في سبيل الله، وأن عمرة في رمضان تعدل حجة، وهذا ظاهر؛ لأن المعتمر في رمضان إن عاد إلى بلده، فقد أتي بسفر كامل للعمرة ذهابًا وإيابًا في شهر رمضان المعظم، فاجتمع له حرمة شهر رمضان، وحرمة العمرة وصار ما في ذلك من شرف الزمان والمكان، يناسب أن يعدل بما في الحج في شرف الزمان، وهو أشهر الحج وشرف المكان. وإن كان المشبه ليس كالمشبه به من جميع الوجوه، لاسيما في هذه القصة باتفاق المسلمين، وإن أقام بمكة إلى أن حج في ذلك العام فقد حصل له نسكا مكفرًا أيضا، بخلاف من تمتع في أشهر الحج، فإن هذا هو حاج محض وإن كان متمتعا، ولهذا يكون داخلا في الحج من حين يحرم بالعمرة.
يبين هذا أن بعض طرقه في الصحيح أنه قال للمرأة: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي). ومعلوم أن مراده أن عمرتك في رمضان تعدل حجة معي، فإنها كانت قد أرادت الحج معه فتعذر ذلك عليها، فأخبرها بما يقوم مقام ذلك، وهكذا من كان بمنزلتها من الصحابة ولا يقول عاقل ما يظنه بعض الجهال: إن عمرة الواحد منا من الميقات أو من مكة تعدل حجة معه، فإنه من المعلوم بالاضطرار أن الحج التام أفضل من عمرة رمضان، والواحد منا لو حج الحج المفروض لم يكن كالحج معه فكيف بعمرة؟! وغاية ما يحصله الحديث: أن تكون عمرة أحدنا في رمضان من الميقات بمنزلة حجة، وقد يقال هذا لمن كان أراد الحج فعجز عنه، فيصير بنية الحج مع عمرة رمضان كلاهما تعدل حجة، لا أحدهما مجردًا.
وكذلك الإنسان، إذا فعل ما يقدر عليه من العمل الكامل مع أنه لو قدر لفعله كله، فإنه يكون بمنزلة العامل من الأجر، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل، وهو صحيح مقيم). وفي الصحيح عنه أنه قال: (من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا) وكذلك قال في الضلالة، وشواهد هذا الأصل كثير.
ونظير هذا قوله ﷺ في الحديث الذي رواه ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر، والذنوب، كما ينفي الكِير خَبَث الحديد، والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) رواه النسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. فإن قوله: (تابعوا بين الحج والعمرة) لم يرد به العمرة من مكة، إذ لو أراد ذلك لكان الصحابة يقبلون أمره، سواء كان أمر إيجاب؛ أو استحباب، ولا يظن بالصحابة والتابعين أنهم تركوا اتباع سنته، وما رغبوا فيه كلهم حتى حدث بعدهم من فعل ذلك، وإذا كانوا لا يعتمرون من مكة علم أن هذا ليس مقصود الحديث؛ ولكن المراد به العمرة التي كانوا يعرفونها، ويفعلونها، وهي عمرة القادم.
يبين هذا أن النبي ﷺ لم يأمر عائشة بالعمرة من أدني الحل، مع أنها متابعة بين الحج والعمرة، ولو كانت المكية مرادة حين طلبت ذلك منه، أمرها أن تكتفي بما فعلته، وقال: (طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك، وعمرتك). فلما راجعته وألحت عليه أذن لها في ذلك، فلو كان مثل هذا مما أمر به لم يكن يأمرها ابتداء بترك ذلك، والاكتفاء بما دونه، وهي تطلب ما قد رغب الناس فيه كلهم. ففي الصحيحين، وسنن أبي داود، والنسائي وغيرهما عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله ﷺ: (من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا)، ثم قدمت مكة وأنا حائض، فلم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فشكوت إلى النبي ﷺ فقال: (انقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج، ودعي العمرة)، ففعلت، فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله ﷺ مع عبدالرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت. فقال: (هذه مكان عمرتك)، قالت: وطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا.
وفي الصحيحين والسنن أيضا عن عائشة قالت: لبينا بالحج حتى إذا كنا بسرف حضت، فدخل على رسول الله ﷺ وأنا أبكي، فقال: (وما يبكيك يا عائشة؟). فقلت: حضت، ليتني لم أكن حججت، فقال: (سبحان الله، إنما ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم)، فقال: (انسكي المناسك كلها غير ألا تطوفي بالبيت)، فلما دخلنا مكة، قال رسول الله ﷺ: من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة، إلا من كان معه الهدي، وذبح رسول الله ﷺ عن نسائه البقر يوم النحر، فلما كانت ليلة البطحاء، وطهرت عائشة، قالت: يارسول الله، أيرجع صواحبي بحج وعمرة، وأرجع أنا بالحج؟! فأمر رسول الله ﷺ عبدالرحمن بن أبي بكر، فأعمرها من التنعيم، فأتت بالعمرة.
وفي الصحيحين، وسنن أبي داود، والنسائي، عن جابر قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله ﷺ بالحج مفردًا، فأقبلت عائشة مهلة بعمرة، حتى إذا كانت بسرف عَرَكَت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة، وبالصفا والمروة، فأمرنا رسول الله ﷺ أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: (الحل كله). فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله ﷺ على عائشة فوجدها تبكي، فقال: (ما شأنك؟) قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن! قال: (إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج)، ففعلت ووقفت المواقف، حتى إذا طهرت طافت بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم قال: (قد حللت من حجتك وعمرتك جميعا)، قالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم، وذلك ليلة الحصبة. وفي رواية مسلم: وكان رسول الله ﷺ سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن، فأهلت من التنعيم بعمرة.
وروي مسلم في صحيحه عن طاوس عن عائشة: أنها أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حين حاضت، فنسكت المناسك كلها، وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي ﷺ يوم النفر: (يكفيك طوافك لحجك، وعمرتك)، فأبت، فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج. وروي مسلم أيضا عن مجاهد عن عائشة: أنها حاضت بسرف فتطهرت بعرفة، فقال لها رسول الله ﷺ: (يجزئ عنك طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك). فهذه قصة عائشة.
وللفقهاء في عمرتها التي فعلتها قولان مشهوران:
أحدهما: وهو قول جمهور الفقهاء من أهل الحديث، والحجاز؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم: أنها لما حاضت وهي متمتعة بالعمرة إلى الحج، فمنعها الحيض من طواف العمرة، أمرها النبي ﷺأن تحرم بالحج مع بقائها على الإحرام، فصارت قارنة بين العمرة والحج، إذ القارن اسم لمن أحرم بهما ابتداء، أو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج، قبل طوافها. قالوا: والأحاديث تدل على أن القارن ليس في عمله زيادة على عمل المفرد، إلا الهدي؛ فلهذا قال لها النبي ﷺ لما أحلت: (قد حللت من حجك وعمرتك جميعا).
والقول الثاني: وهو قول أبي حنيفة، ومن وافقه: أنها لما حاضت أمرها أن ترفض العمرة، فتنتقل عنها إلى الحج، لا تفرق بينهما بل تبقي في حج مفرد، قالوا: فلما حلت حلت من الحج فقط، وكان عليها عمرة تقضيها مكان عمرتها التي رفضتها. وعلى قول هؤلاء كانت العمرة التي فعلتها واجبة؛ لأنها قضاء عما تركتها. وعلى قول الأكثرين لم تكن واجبة بل جائزة. وحكم كل امرأة قدمت متمتعة فحاضت قبل الطواف على هذين القولين الأولين: هل تؤمر أن تحرم بالحج فتصير قارنة، أم ترفض العمرة في الحج على القولين.
وفيها قول ثالث، وهو رواية عن أحمد: أنها كانت قارنة، وعمرة القارن لا تجزئ عن عمرة الإسلام، فأمرها النبي ﷺ بعمرة الإسلام.
وفيها قول رابع، ذكره بعض المالكية، فامتنعت من طواف القدوم؛ لأجل الحيض، وأن هذه العمرة هي عمرة الإسلام. وهذا القول أضعف الأقوال من وجوه متعددة، ويليه في الضعف الذي قبله.
ومن أصول هذا النزاع: أن القارن عند الآخرين عليه أن يطوف أولا، ويسعي للعمرة، ثم يطوف ويسعي للحج، ويختص عندهم بمنعها من عمل القران، كما كان يمنعها من عمل التمتع. والأولون ليس عندهم على القارن إلا طواف واحد، وسعي واحد، كما على المفرد، فإذا كانت حائضا سقط عنها طواف القدوم، وأخرت السعي إلى أن تسعي بعد طواف الإفاضة وليس عليها غير ذلك.
وأهل القول الثاني بلغهم ما ثبت في الصحيح، أن النبي ﷺقال لها: (ارفضي عمرتك). واعتقدوا أن رسول الله ﷺ أمرها أن تعتمر من التنعيم، فاعتقدوا أن ذلك صار واجبا للعمرة المرفوضة، وأن رفض العمرة هو تركها بالدخول في الحج المفرد.
وأما أهل القول الأول، فبلغهم من العلم مالم يبلغ هؤلاء، فإن قصة عائشة رويت من وجوه متعددة عنها، وعن غيرها كجابر وغيره، فانظر ما قالت وما قال لها النبي ﷺ حيث قال لها: (قد حللت من حجك وعمرتك جميعا)، وقال لها: (سعيك وطوافك لحجك وعمرتك)، وفي رواية: (يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك). فهذا نص في أنها كانت في حج وعمرة؛ لا في حج مفرد، وفي أن الطواف الواحد أجزأ عنها، لم يحتج إلى طوافين.
وأيضا، قد ثبت في السنن الصحيحة الصريحة أن النبي ﷺ ومن ساق الهدي من أصحابه كانوا قادمين، ولم يطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة حين قدموا إلا مرة واحدة.
وأيضا، فإنها قالت له لما قال لها ذلك: إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، قال: (فاذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم)، وكذلك قولها له: أيرجع صواحبي بحج وعمرة، وأرجع أنا بالحج؟! فأمر عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم. يدل على أنه لم يأمرها بالعمرة ابتداء، وإنما أجاب سؤالها لما كرهت أن ترجع إلا بفعل عمرة، فإن صواحبها كن في عمرة تمتع؛ طفن أولا، وسعين، وهي لم تطف وتسع إلا بعد التعريف، فصار عملهن أزيد من عملها؛ لأنه سقط عنها بالحيض الطواف الأول.
سئل عمن يقف بعرفة ولا يمكنه الذهاب إلى البيت خوفا من القتل
وسئل رضي الله عنه وأرضاه عمن يقف بعرفة، ولا يمكنه الذهاب إلى البيت، خوفًا من القتل، أو ذهاب المال. هل يجزئه الحج؟ أم لا؟ وفيمن يكون ببدنه أو رأسه أذي، فلبس وغطي رأسه: هل تجب عليه الفدية؟ أم لا؟ وما هي الفدية؟ ومن لم يجد إلا بعيرًا حرامًا هل يجزئه الحج عليه، وما هو الإفراد؟ والقران؟ والتمتع، وما الأفضل؟ ومن لم يعلم ذلك هل يصح حجه، أم لا؟
فأجاب:
الحمد الله رب العالمين، لابد بعد الوقوف من طواف الإفاضة، وإن لم يطف بالبيت لم يتم حجة باتفاق الأمة، وإن أحصره عدو عن البيت، وخاف، فلم يمكنه الطواف، تحلل فيذبح هديا، ويحل، وعليه الطواف بعد ذلك، إن كانت تلك حجة الإسلام، فيدخل مكة بعمرة يعتمرها، تكون عوضا عن ذلك.
ولا يجوز له تغطية رأسه من غير حاجة، ولا لبس القميص والجبة ونحو ذلك، إلا لحاجة. فإن خاف من شدة البرد أن يمرض لبس وافتدي أيضا، واستغفر الله من ذنوبه.
والفدية للعذر أن يذبح شاة يقسمها بين الفقراء، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يتصدق على ستة فقراء، كل فقير بنصف صاع تمر. وإن تصدق على كل واحد برطل خبز جاز.
ولا يجوز أن يحج على بعير محرم.
والأفضل لمن ساق الهدي أن يقرن بين العمرة والحج. وإن لم يسق الهدي وأراد أن يجمع بين العمرة والحج فالتمتع أفضل، وإن حج في سفرة واعتمر في سفرة فالإفراد أفضل له.
وإذا أحرم مطلقا، ولم يخطر بباله هذه الأمور صح حجه، إذا حج كما يحج المسلمون. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب الهدي والأضحية والعقيقة
فصل الأضحية والعقيقة والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك
وقال رحمه الله:
والأضحية والعقيقة والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك، فإذا كان معه مال يريد التقرب به إلى الله، كان له أن يضحي به، والأكل من الأضحية أفضل من الصدقة، والهدي بمكة أفضل من الصدقة بها، وإن كان قد نذر أضحية في ذمته فاشتراها في الذمة، وبيعت قبل الذبح كان عليه إبدالها شاة.
وأما إذا اشتري أضحية، فتعيبت قبل الذبح، ذبحها في أحد قولي العلماء، وإن تعيبت عند الذبح أجزأ في الموضعين.
وقال رحمه الله: والأضحية من النفقة بالمعروف، فيضحي عن اليتيم من ماله، وتأخذ المرأة من مال زوجها ما تضحي به عن أهل البيت، وإن لم يأذن في ذلك، ويضحي المدين إذا لم يطالب بالوفاء، ويتدين ويضحي إذا كان له وفاء.
سئل عمن لا يقدر على الأضحية هل يستدين
فأجاب:
الحمد الله رب العالمين، إن كان له وفاء فاستدان ما يضحي به فحسن، ولا يجب عليه أن يفعل ذلك. والله أعلم.
فصل تجوز الأضحية عن الميت
وقال رحمه الله:
وتجوز الأضحية عن الميت، كما يجوز الحج عنه، والصدقة عنه، ويضحي عنه في البيت، ولا يذبح عند القبر أضحية ولا غيرها. فإن في سنن أبي داود عن النبي ﷺ أنه نهى عن العقر عند القبر. حتى كره أحمد الأكل مما يذبح عند القبر؛ لأنه يشبه ما يذبح على النُّصُب. فإن النبي ﷺ قال: (لعن الله إليهود والنصاري، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا. وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)، وقال: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة، والحمام). فنهى عن الصلاة عندها؛ لئلا يشبه من يصلي لها. وكذلك الذبح عندها يشبه من ذبح لها.
وكان المشركون يذبحون للقبور، ويقربون لها القرابين، وكانوا في الجاهلية إذا مات لهم عظيم ذبحوا عند قبره الخيل، والإبل، وغير ذلك، تعظيما للميت. فنهى النبي ﷺ عن ذلك كله.
ولو نذر ذلك ناذر لم يكن له أن يوفي به. ولو شرطه واقف لكان شرطا فاسدا.
وكذلك الصدقة عند القبر كرهها العلماء، وشرط الواقف ذلك شرط فاسد. وأنكر من ذلك أن يوضع على القبر الطعام والشراب ليأخذه الناس، فإن هذا ونحوه من عمل كفار الترك، لا من أفعال المسلمين.
فصل الأضحية بالحامل جائزة
وقال رحمه الله:
والأضحية بالحامل جائزة، فإذا خرج ولدها ميتا فذكاته ذكاة أمه عند الشافعي، وأحمد، وغيرهما. سواء أشعر، أو لم يشعر. وإن خرج حيا ذبح، ومذهب مالك: إن أشعر حل، وإلا فلا. وعند أبي حنيفة: لا يحل حتى يذكي بعد خروجه، والله أعلم.
فصل في الهتماء
وقال رحمه الله:
والهتماء: التي سقط بعض أسنانها، فيها قولان، هما وجهان في مذهب أحمد. أصحهما أنها تجزئ، وأما التي ليس لها أسنان في أعلاها فهذه تجزئ باتفاق.
والعفراء: أفضل من السوداء، وإذا كان السواد حول عينيها، وفمها، وفي رجليها، أشبهت أضحية النبي ﷺ.
سئل عما يقال على الأضحية حال ذبحها وما صفة ذبحها وكيف يقسمها
فأجاب:
الحمد الله، وأما الأضحية فإنه يستقبل بها القبلة، فيضجعها على الأيسر، ويقول: بسم الله، والله أكبر، اللهم تقبل منى كما تقبلت من إبراهيم خليلك. وإذا ذبحها قال: { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [91]، { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [92].
ويتصدق بثلثها، ويهدي ثلثها، وإن أكل أكثرها، أو أهداه أو أكله، أو طبخها، ودعا الناس إليها جاز.
ويعطي أجرة الجزار من عنده، وجلدها إن شاء انتفع به، وإن شاء تصدق به والله أعلم.
فصل صفة ذبح الأضحية
وقال رحمه الله تعالى:
الذبيحة الأضحية وغيرها تضجع على شقها الأيسر، ويضع الذابح رجله اليمين على عنقها، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ: فيسمي، ويكبر، فيقول: (باسم الله، والله أكبر، اللهم منك ولك، اللهم تقبل منى كما تقبلت من إبراهيم خليلك).
ومن أضجعها على شقها الأيمن، وجعل رجله اليسري على عنقها، تكلف مخالفة يديه ليذبحها، فهو جاهل بالسنة، معذب لنفسه، وللحيوان ولكن يحل أكلها؛ فإن الإضجاع على الشق الأيسر أروح للحيوان. وأيسر في إزهاق النفس، وأعون للذبح، وهو السنة التي فعلها رسول الله ﷺ، وعليها عمل المسلمين، وعمل الأمم كلهم.
ويشرع أن يستقبل بها القبلة أيضا.
وإن ضحي بشاة واحدة عنه، وعن أهل بيته أجزأ ذلك في أظهر قولي العلماء. وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما، فإن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺضحي بشاتين، فقال في إحداهما: (اللهم عن محمد وآل محمد).
سئل عن رجل غير اسمه
وسئل عن رجل اسمه أبو بكر صار جنديا، وغير اسمه، وسمي روحه اسم المماليك، فهل عليه إثم؟
فأجاب:
إذا سمى اسمه باسم تركي لمصلحة له في ذلك، فلا إثم عليه، ويكون له اسمان، كما يكون له اسم من سماه به أبواه، ثم يلقبه الناس ببعض الألقاب، كفلان الدين.
سئل عن الألقاب المتواطأ عليها بين الناس
فأجاب:
وأما الألقاب فكانت عادة السلف الأسماء والكنى، فإذا كنوه بابي فلان، تارة يكنون الرجل بولده، كما يكنون من لا ولد له، إما بالإضافة إلى اسمه، أو اسم أبيه أو ابن سميه، أو بأمر له تعلق به، كما كني النبي ﷺعائشة بابن أختها عبد الله، وكما يكنون داود أبا سليمان، لكونه باسم داود عليه السلام، الذي اسم ولده سليمان، وكذلك كنية إبراهيم أبو إسحاق، وكما كنوا عبد الله بن عباس أبا العباس، وكما كني النبي ﷺ أبا هريرة باسم هريرة كانت معه. وكان الأمر على ذلك في القرون الثلاثة، فلما غلبت دولة الأعاجم لبني أمية صاروا...
ثم بعد هذا أحدثوا الإضافة إلى الدين، وتوسعوا في هذا، ولا ريب أن الذي يصلح مع الإمكان، هو ما كان السلف يعتادونه من المخاطبات، والكنايات، فمن أمكنه ذلك فلا يعدل عنه إن اضطر إلى المخاطبة، لاسيما وقد نهى عن الأسماء التي فيها تزكية، كما غير النبي ﷺاسم برة، فسماها زينب؛ لئلا تزكي نفسها، والكناية عنه بهذه الأسماء المحدثة خوفا من تولد شر إذا عدل عنها فليقتصر على مقدار الحاجة، ولقبوا بذلك؛ لأنه علم محض لا تلمح فيه الصفة، بمنزلة الأعلام المنقولة، مثل أسد، وكلب، وثور.
ولا ريب أن هذه المحدثات التي أحدثها الأعاجم، وصاروا يزيدون فيها، فيقولون: عز الملة، والدين، وعز الملة والحق والدين، وأكثر ما يدخل في ذلك من الكذب المبين، بحيث يكون المنعوت بذلك أحق بضد ذلك الوصف، والذين يقصدون هذه الأمور فخرا وخيلاء يعاقبهم الله بنقيض قصدهم، فيذلهم، ويسلط عليهم عدوهم.
 
 
والذين يتقون الله ويقومون بما أمرهم به من عبادته، وطاعته، يعزهم وينصرهم. كما قال تعالى { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [93]، وقال تعالى: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [94]. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
=============


=============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج10. الادب المفرد للبخاري {من1182 الي1322 }

  ج10. الادب المفرد للبخاري {من 1182 الي 1322  }   المحتويات المقدمة باب الاحتباء باب من برك على ركبتيه باب الاستلقاء باب الضجعة...