Translate

الأحد، 6 مارس 2022

صفحة 3. من اول فصل في أقوال الصحابة حتي { وفعل الحق المقصود، وترك المحرم، ونفي الباطل تبع. }

 فصل في أقوال الصحابة

وأما أقوال الصحابة؛ فإن انتشرت ولم تنكر في زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء وإن تنازعوا رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول. ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له باتفاق العلماء وإن قال بعضهم قولا ولم يقل بعضهم بخلافه ولم ينتشر؛ فهذا فيه نزاع وجمهور العلماء يحتجون به كأبي حنيفة. ومالك؛ وأحمد في المشهور عنه؛ والشافعي في أحد قوليه وفي كتبه الجديدة الاحتجاج بمثل ذلك في غير موضع ولكن من الناس من يقول: هذا هو القول القديم.
======
سئل عن الاجتهاد والاستدلال والتقليد والاتباع
وسئل عن الاجتهاد والاستدلال والتقليد والاتباع.
فأجاب: أما التقليد الباطل المذموم فهو: قبول قول الغير بلا حجة قال الله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئا وَلاَ يَهْتَدُونَ } في البقرة [1] وفي المائدة وفي لقمان { أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ } [2] وفي الزخرف: { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ } [3] وفي الصافات: { إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } [4] وقال: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } [5] الآيات. وقال: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } [6] وقال: { فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ } [7] وفي الآية الأخرى: { مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ } [8] وقال: { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ } [9]. فهذا الاتباع والتقليد الذي ذمه الله هو اتباع الهوى إما للعادة والنسب كاتباع الآباء وإما للرئاسة كاتباع الأكابر والسادة والمتكبرين فهذا مثل تقليد الرجل لأبيه أو سيده أو ذي سلطانه وهذا يكون لمن لم يستقل بنفسه وهو الصغير: فإن دينه دين أمه فإن فقدت فدين ملكه وأبيه: فإن فقد كاللقيط فدين المتولي عليه وهو أهل البلد الذي هو فيه فأما إذا بلغ وأعرب لسانه فإما شاكرا وإما كفورا. وقد بين الله أن الواجب الإعراض عن هذا التقليد إلى اتباع ما أنزل الله على رسله؛ فإنهم حجة الله التي أعذر بها إلى خلقه. والكلام في التقليد في شيئين: في كونه حقا؛ أو باطلا من جهة الدلالة. وفي كونه مشروعا؛ أو غير مشروع من جهة الحكم. أما الأول فإن التقليد المذكور لا يفيد علما؟ فإن المقلد يجوز أن يكون مقلده مصيبا: ويجوز أن يكون مخطئا وهو لا يعلم أمصيب هو أم مخطئ؟ فلا تحصل له ثقة ولا طمأنينة فإن علم أن مقلده مصيب كتقليد الرسول أو أهل الإجماع فقد قلده بحجة وهو العلم بأنه عالم وليس هو التقليد المذكور وهذا التقليد واجب؛ للعلم بأن الرسول معصوم؛ وأهل الإجماع معصومون. وأما تقليد العالم حيث يجوز فهو بمنزلة اتباع الأدلة المتغلبة على الظن. كخبر الواحد والقياس؛ لأن المقلد يغلب على ظنه إصابة العالم المجتهد كما يغلب على ظنه صدق المخبر لكن بين اتباع الراوي والرأي فرق يذكر إن شاء الله في موضع آخر. فإن اتباع الراوي واجب لأنه انفرد بعلم ما أخبر به: بخلاف الرأي فإنه يمكن أن يعلم من حيث علم ولأن غلط الرواية بعيد؛ فإن ضبطها سهل؛ ولهذا نقل عن النساء والعامة بخلاف غلط الرأي فإنه كثير؛ لدقة طرقه وكثرتها وهذا هو العرف لمن يجوز قبول الخبر مع إمكان مراجعة المخبر عنه ولا يجوز قبول المعنى مع إمكان معرفة الدليل. وأما العرف الأول فمتفق عليه بين أهل العلم؛ ولهذا يوجبون اتباع الخبر ولا يوجب أحد تقليد العالم على من أمكنه الاستدلال وإنما يختلفون في جوازه؛ لأنه يمكنه أن يعلم من حيث علم فهذه جملة. وأما تفصيلها فنقول: الناس في الاستدلال والتقليد على طرفي نقيض منهم من يوجب الاستدلال حتى في المسائل الدقيقة: أصولها وفروعها على كل أحد. ومنهم من يحرم الاستدلال في الدقيق على كل أحد وهذا في الأصول والفروع وخيار الأمور أوساطها.
هامش
[النحل: 25]
[البقرة: 170]
[لقمان: 21]
[الزخرف: 24]
[الصافات: 69، 70]
[الأحزاب: 66، 67]
[البقرة: 166]
[غافر: 47]
[إبراهيم: 21]
=====
سئل هل كل مجتهد مصيب
وسئل هل كل مجتهد مصيب؟ أو المصيب واحد والباقي مخطئون؟.
فأجاب: قد بسط الكلام في هذه المسألة في غير موضع وذكر نزاع الناس فيها وذكر أن لفظ الخطأ قد يراد به الإثم؛ وقد يراد به عدم العلم. فإن أريد الأول فكل مجتهد اتقى الله ما استطاع فهو مصيب؛ فإنه مطيع لله ليس بآثم ولا مذموم. وإن أريد الثاني فقد يخص بعض المجتهدين بعلم خفي على غيره؛ ويكون ذلك علما بحقيقة الأمر لو اطلع عليه الآخر لوجب عليه اتباعه؛ لكن سقط عنه وجوب اتباعه لعجزه عنه وله أجر على اجتهاده ولكن الواصل إلى الصواب له أجران كما قال النبي ﷺ في الحديث المتفق على صحته: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر». ولفظ الخطا يستعمل في العمد وفي غير العمد قال تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا } [1] والأكثرون يقرءون خطئا على وزن ردءا وعلما. وقرأ ابن عامر خطا على وزن عملا كلفظ الخطأ في قوله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا } [2]. وقرأ ابن كثير خطاء على وزن هجاء. وقرأ ابن رزين خطاء على وزن شرابا. وقرأ الحسن وقتادة خطا على وزن قتلا. وقرأ الزهري خطا بلا همز على وزن عدى. قال الأخفش: خطا يخطأ بمعنى: أذنب وليس معنى أخطأ؛ لأن أخطأ في ما لم يصنعه عمدا يقول فيما أتيته عمدا خطيت؛ وفيما لم يتعمده: أخطأت. وكذلك قال أبو بكر ابن الأنباري الخطأ: الإثم يقال: قد خطا يخطأ إذا أثم وأخطأ يخطئ إذا فارق الصواب. وكذلك قال ابن الأنباري في قوله: { تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } [3] فإن المفسرين كابن عباس وغيره: قالوا لمذنبين آثمين في أمرك وهو كما قالوا فإنهم قالوا: { قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [4] وكذلك قال العزيز لامرأته: { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } [5] قال ابن الأنباري: ولهذا اختير خاطئين على مخطئين وإن كان أخطأ على ألسن الناس أكثر من خطا يخطي؛ لأن معنى خطا يخطي فهو خاطئ: آثم ومعنى أخطأ يخطئ: ترك الصواب ولم يأثم. قال عبادك يخطئون وأنت رب تكفل المنايا والحتوم وقال الفراء: الخطأ: الإثم الخطا والخطا والخطاء ممدود. ثلاث اللغات. قلت: يقال في العمد: خطأ كما يقال في غير العمد على قراءة ابن عامر فيقال لغير المتعمد: أخطأت كما يقال له: خطيت ولفظ الخطيئة من هذا. ومنه قوله تعالى: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا } [6] وقول السحرة: { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } [7]. ومنه قوله في الحديث الصحيح الإلهي: «يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم» وفي الصحيحين عن أبي موسى؛ عن النبي ﷺ أنه كان يقول في دعائه: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي؛ وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي». وفي الصحيحين «عن أبي هريرة؛ عن النبي ﷺ أنه قال: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد». والذين قالوا: كل مجتهد مصيب والمجتهد لا يكون على خطأ وكرهوا أن يقال للمجتهد: إنه أخطأ هم وكثير من العامة يكره أن يقال عن إمام كبير: إنه أخطأ وقوله أخطأ لأن هذا اللفظ يستعمل في الذنب كقراءة ابن عامر: إنه كان خطئا كبيرا ولأنه يقال في العامد: أخطأ يخطئ كما قال: «يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم» فصار لفظ الخطأ وأخطأ قد يتناول النوعين كما يخص غير العامل وأما لفظ الخطيئة فلا يستعمل إلا في الإثم. والمشهور أن لفظ الخطأ يفارق العمد كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا } [8] الآية ثم قال بعد ذلك: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } [9]. وقد بين الفقهاء أن الخطأ ينقسم إلى خطأ في الفعل؛ وإلى خطأ في القصد. فالأول: أن يقصد الرمي إلى ما يجوز رميه من صيد وهدف فيخطئ بها وهذا فيه الكفارة والدية. والثاني: أن يخطئ في قصده لعدم العلم؛ كما أخطأ هناك لضعف القوة وهو أن يرمي من يعتقده مباح الدم ويكون معصوم الدم كمن قتل رجلا في صفوف الكفار ثم تبين أنه كان مسلما والخطأ في العلم هو من هذا النوع؛ ولهذا قيل في أحد القولين: إنه لا دية فيه لأنه مأمور به بخلاف الأول. وأيضا فقد قال تعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } ففرق بين النوعين وقال تعالى: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [10] ؛ وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال: " قد فعلت ". فلفظ الخطأ وأخطأ عند الإطلاق يتناول غير العامد وإذا ذكر مع النسيان أو ذكر في مقابلة العامد كان نصا فيه وقد يراد به مع القرينة العمد أو العمد والخطأ جميعا كما في قراءة ابن عامر؛ وفي الحديث الإلهي - إن كان لفظه كما يرويه عامة المحدثين - تخطئون بالضم. وأما اسم الخاطئ فلم يجئ في القرآن إلا للإثم بمعنى الخطيئة كقوله: { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } [11] وقوله: { تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } [12] وقوله: { يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [13] وقوله: { لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ } [14]. وإذا تبين هذا فكل مجتهد مصيب غير خاطئ وغير مخطئ أيضا إذا أريد بالخطأ الإثم على قراءة ابن عامر ولا يكون من مجتهد خطأ وهذا هو الذي أراده من قال: كل مجتهد مصيب وقالوا: الخطأ والإثم متلازمان فعندهم لفظ الخطأ كلفظ الخطيئة على قراءة ابن عامر وهم يسلمون أنه يخفى عليه بعض العلم الذي عجز عنه لكن لا يسمونه خطأ؛ لأنه لم يؤمر به وقد يسمونه خطأ إضافيا بمعنى: أنه أخطأ شيئا لو علمه لكان عليه أن يتبعه وكان هو حكم الله في حقه؛ ولكن الصحابة والأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - وجمهور السلف يطلقون لفظ الخطأ على غير العمد؛ وإن لم يكن إثما كما نطق بذلك القرآن والسنة في غير موضع كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر». وقال غير واحد من الصحابة كابن مسعود: أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان؛ والله ورسوله بريئان منه. وقال علي في قصة التي أرسل إليها عمر فأسقطت - لما قال له عثمان وعبد الرحمن رضي الله عنهما: أنت مؤدب ولا شيء عليك - إن كانا اجتهدا فقد أخطآ وإن لم يكونا اجتهدا فقد غشاك. وأحمد يفرق في هذا الباب فإذا كان في المسألة حديث صحيح لا معارض له كان من أخذ بحديث ضعيف أو قول بعض الصحابة مخطئا وإذا كان فيها حديثان صحيحان نظر في الراجح فأخذ به؛ ولا يقول لمن أخذ بالآخر إنه مخطئ وإذا لم يكن فيها نص اجتهد فيها برأيه قال: ولا أدري أصبت الحق أم أخطأته؟ ففرق بين أن يكون فيها نص يجب العمل به وبين أن لا يكون كذلك وإذا عمل الرجل بنص وفيها نص آخر خفي عليه لم يسمه مخطئا؛ لأنه فعل ما وجب عليه؛ لكن هذا التفصيل في تعيين الخطأ فإن من الناس من يقول: لا أقطع بخطأ منازعي في مسائل الاجتهاد. ومنهم من يقول: أقطع بخطئه. وأحمد فصل وهو الصواب. وهو إذا قطع بخطئه بمعنى عدم العلم لم يقطع بإثمه هذا لا يكون إلا في من علم أنه لم يجتهد. وحقيقة الأمر أنه إذا كان فيها نص خفي على بعض المجتهدين وتعذر عليه علمه ولو علم به لوجب عليه اتباعه؛ لكنه لما خفي عليه اتبع النص الآخر وهو منسوخ أو مخصوص: فقد فعل ما وجب عليه بحسب قدرته كالذين صلوا إلى بيت المقدس بعد أن نسخت وقبل أن يعلموا بالنسخ وهذا لأن حكم الخطاب لا يثبت في حق المكلفين إلا بعد تمكنهم من معرفته في أصح الأقوال وقيل: يثبت معنى وجوب القضاء لا بمعنى الإثم وقيل يثبت في الخطاب المبتدأ دون الناسخ والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وغيره. وإذا كان كذلك فما لم يسمعه المجتهد من النصوص الناسخة أو المخصوصة فلم تمكنه معرفته فحكمه ساقط عنه وهو مطيع لله في عمله بالنص المنسوخ والعام ولا إثم عليه فيه. وهنا تنازع الناس على ثلاثة أقوال: قيل: عليه اتباع الحكم الباطن؛ وأنه إذا أخطأ كان مخطئا عند الله وفي الحكم تارك لما أمر به مع قولهم: إنه لا إثم عليه وهذا تناقض فإن من ترك ما أمر به فهو آثم؛ فكيف يكون تاركا لمأمور به وهو غير آثم وقيل: بل لم يؤمر قط بالحكم الباطن ولا هو حكم في حقه ولا أخطأ حكم الله ولا لله في الباطن حكم في حقه غير ما حكم به؛ ولا يقال له: أخطأ؛ فإن الخطأ عندهم ملازم للإثم وهم يسلمون أنه لو علمه لوجب عليه العمل به ولكان حكما في حقه فكان النزاع لفظيا وقد خالفوا في منع اللفظ في الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأيضا فقولهم: ليس في الباطن حكم خطأ؛ بل حكم الله في الباطن هو ما جاء به النص الناسخ والخاص ولكن لا يجب عليه أن يعمل به حتى يتمكن من معرفته فسقط عنه لعجزه. وقيل: كان حكم الله في حقه هو الأمر الباطن ولكن لما اجتهد فغلب على ظنه أن هذا هو حكم الله انتقل حكم الله في حقه؛ فصار مأمورا بهذا. والصحيح: ما قاله أحمد وغيره: أن عليه أن يجتهد فالواجب عليه الاجتهاد؛ ولا يجب عليه إصابته في الباطن إذا لم يكن قادرا عليه وإنما عليه أن يجتهد؛ فإن ترك الاجتهاد أثم وإذا اجتهد ولم يكن في قدرته أن يعلم الباطن لم يكن مأمورا به مع العجز ولكن هو مأمور به وهو حكم الله في حقه بشرط أن يتمكن منه. ومن قال: إنه حكم الله في الباطن بهذا الاعتبار فقد صدق وإذا اجتهد فبين الله له الحق في الباطن فله أجران كما قال تعالى: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } [15] ولا نقول: إن حكم الله انتقل في حقه فكان مأمورا قبل الاجتهاد بالحق للباطن ثم صار مأمورا بعد الاجتهاد لما ظنه بل ما زال مأمورا بأن يجتهد ويتقي الله ما استطاع وهو إنما أمر بالحق لكن بشرط أن يقدر عليه. فإذا عجز عنه لم يؤمر به وهو مأمور بالاجتهاد فإذا كان اجتهاده اقتضى قولا آخر فعليه أن يعمل به؛ لا لأنه أمر بذلك القول بل لأن الله أمره أن يعمل بما يقتضيه اجتهاده وبما يمكنه معرفته وهو لم يقدر إلا على ذلك القول فهو مأمور به من جهة أنه مقدوره لا من جهة عينه كالمجتهدين في القبلة إذا صلوا إلى أربع جهات فالمصيب للقبلة واحد والجميع فعلوا ما أمروا به لا إثم عليهم وتعيين القبلة سقط عن العاجزين عن معرفتها وصار الواجب على كل أحد أن يفعل ما يقدر عليه من الاجتهاد وهو ما يعتقد أنه الكعبة بعد اجتهاده فهو مأمور بعين الصواب لكن بشرط القدرة على معرفته ومأمور بما يعتقد أنه الصواب وأنه الذي يقدر عليه وإذا رآه لم يتعين من جهة الشارع - صلوات الله وسلامه عليه - بل من جهة قدرته لكن إذا كان متبعا لنص ولم يبلغه ناسخه فهو مأمور باتباعه إلى أن يعلم الناسخ فإن المنسوخ كان حكم الله في حقه باطنا وظاهرا وذلك لا يقبل إلا بعد بلوغ الناسخ له. وأما اللفظ العام إذا كان مخصوصا فقد يقال: صورة التخصيص لم يردها الشارع لكن هو اعتقد أنه أرادها لكونه لم يعلم التخصيص. وهكذا يقال فيما نسخ من النصوص قبل أن يجب العمل به على المجتهد كالنصوص التي نسخت في حياة النبي ﷺ ولم يعلم بعض الناس بنسخها؛ وقد بلغه المنسوخ بها لا يقال: إن المنسوخ ثبت حكمه في حقه باطنا وظاهرا كما قيل في أهل القبلة الذين وجب عليهم استقبالها باطنا وظاهرا قبل النسخ ولكن يقال: من لم يبلغه النص الناسخ وبلغه النص الآخر فعليه اتباعه والعمل به وعلى هذا فتختلف الأحكام في حق المجتهدين بحسب القدرة على معرفة الدليل فمن كان غير متمكن من معرفة الدليل الراجح كالناسخ والمخصص؛ فهذا حكم الله من جهة العمل بما قدر عليه من الأدلة وإن كان في نفس الأمر دليل معارض راجح لم يتمكن من معرفته فليس عليه اتباعه إلا إذا قدر على ذلك. وعلى هذا فالآية إذا احتملت معنيين وكان ظهور أحدهما غير معلوم لبعض الناس بل لم يعلم إلا ما لا يظهر للآخر؛ كان الواجب عليه العمل بما دله على ذلك المعنى؛ وإن كان غيره عليه العمل بما دله على المعنى الآخر؛ وكل منهما فعل ما وجب عليه لكن حكم الله في نفس الأمر واحد بشرط القدرة. وإذا قيل فما فعله ذاك أمره الله به أيضا قيل: لم يأمر به عينيا بل أمره أن يتقي الله ما استطاع؛ ويعمل بما ظهر له ولم يظهر له إلا هذا؛ فهو مأمور به من جهة جنس المقدور والمعلوم والظاهر بالنسبة إلى المجتهد؛ ليس مأمورا به من جهة عينه نفسه فمن قال: لم يؤمر به فقد أصاب. ومن قال: هو مأمور به من جهة أنه هو الذي قدر عليه وعلمه وظهر له ودل عليه الدليل فقد أصاب كما لو شهد شاهدان عند الحاكم وقد غلطا في الشهادة فهو مأمور أن يحكم بشهادة ما شهدا به مطلقا لم يؤمر بغير ما شهدا به في هذه القضية. ولهذا قال ﷺ: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار» فهو إذا ظهرت له حجة أحدهما فلم يذكر الآخر حجته فقد عمل بما ظهر له ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وهو مطيع لله في حقه من جهة قدرته وعلمه لا من جهة كون ذلك المعين أمر الله به؛ فإن الله لا يأمر بالباطل والظلم والخطأ ولكن لا يكلف نفسا إلا وسعها وهذا يتناول الأحكام النبوية والخبرية. والمجتهد المخطئ له أجر؛ لأن قصده الحق وطلبه بحسب وسعه وهو لا يحكم إلا بدليل كحكم الحاكم بإقرار الخصم بما عليه ويكون قد سقط بعد ذلك بإبراء أو قضاء ولم يقم به حجة وحكمه بالبراءة مع اليمين ويكون قد اشتغلت الذمة باقتراض أو ابتياع أو غير ذلك لكن لم يقم به حجة وحكم لرب اليد مع اليمين ويكون قد انتقل الملك عنه أو يده يد غاصب؛ لكن لم يقم به حجة. وكذلك الأدلة العامة؛ يحكم المجتهد بعمومه وما يخصه ولم يبلغه؛ أو بنص وقد نسخ ولم يبلغه؛ أو يقول بقياس ظهر وفيه التسوية؛ وتكون تلك الصورة امتازت بفرق مؤثر؛ وتعذرت عليه معرفته؛ فإن تأثير الفرق قد يكون بنص لم يبلغه وقد يكون وصفا خفيا. ففي الجملة الأجر هو على اتباعه الحق بحسب اجتهاده؛ ولو كان في الباطن حق يناقضه هو أولى بالاتباع لو قدر على معرفته؛ لكن لم يقدر فهذا كالمجتهدين في جهات الكعبة وكذلك كل من عبد عبادة نهي عنها ولم يعلم بالنهي - لكن هي من جنس المأمور به - مثل من صلى في أوقات النهي وبلغه الأمر العام بالصلاة ولم يبلغه النهي أو تمسك بدليل خاص مرجوح مثل صلاة جماعة من السلف ركعتين بعد العصر؛ لأن النبي ﷺ صلاهما ومثل صلاة رويت فيها أحاديث ضعيفة أو موضوعة كألفية نصف شعبان وأول رجب وصلاة التسبيح كما جوزها ابن المبارك وغير ذلك؛ فإنها إذا دخلت في عموم استحباب الصلاة ولم يبلغه ما يوجب النهي أثيب على ذلك وإن كان فيها نهي من وجه لم يعلم بكونها بدعة تتخذ شعارا ويجتمع عليها كل عام فهو مثل أن يحدث صلاة سادسة؛ ولهذا لو أراد أن يصلي مثل هذه الصلاة بلا حديث لم يكن له ذلك لكن لما روي الحديث اعتقد أنه صحيح فغلط في ذلك فهذا يغفر له خطؤه ويثاب على جنس المشروع. وكذلك من صام يوم العيد ولم يعلم بالنهي. بخلاف ما لم يشرع جنسه مثل الشرك فإن هذا لا ثواب فيه وإن كان الله لا يعاقب صاحبه إلا بعد بلوغ الرسالة كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [16] لكنه وإن كان لا يعذب فإن هذا لا يثاب بل هذا كما قال تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا } [17] قال ابن المبارك: هي الأعمال التي عملت لغير الله. وقال مجاهد: هي الأعمال التي لم تقبل. وقال تعالى: { مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ } [18] الآية فهؤلاء أعمالهم باطلة لا ثواب فيها. وإذا نهاهم الرسول عنها فلم ينتهوا عوقبوا فالعقاب عليها مشروط بتبليغ الرسول وأما بطلانها في نفسها فلأنها غير مأمور بها فكل عبادة غير مأمور بها فلا بد أن ينهى عنها. ثم إن علم أنها منهي عنها وفعلها استحق العقاب فإن لم يعلم لم يستحق العقاب وإن اعتقد أنها مأمور بها وكانت من جنس المشروع فإنه يثاب عليها وإن كانت من جنس الشرك فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به لكن قد يحسب بعض الناس في بعض أنواعه أنه مأمور به. وهذا لا يكون مجتهدا؛ لأن المجتهد لا بد أن يتبع دليلا شرعيا وهذه لا يكون عليها دليل شرعي لكن قد يفعلها باجتهاد مثله: وهو تقليده لمن فعل ذلك من الشيوخ والعلماء والذين فعلوا ذلك قد فعلوه لأنهم رأوه ينفع؛ أو لحديث كذب سمعوه. فهؤلاء إذا لم تقم عليهم الحجة بالنهي لا يعذبون وأما الثواب فإنه قد يكون ثوابهم أنهم أرجح من أهل جنسهم وأما الثواب بالتقرب إلى الله فلا يكون بمثل هذه الأعمال.
هامش
[الإسراء: 31]
[النساء: 92]
[يوسف: 91]
[يوسف: 97]
[يوسف: 29]
[نوح: 25]
[الشعراء: 51]
[النساء: 92]
[النساء: 93]
[البقرة: 286]
[يوسف: 29]
[يوسف: 91]
[يوسف: 97]
[الحاقة: 37]
[الأنبياء: 79]
[الإسراء: 15]
[الفرقان: 23]
[إبراهيم: 18]
=========
فصل في الخطأ المغفور في الاجتهاد
والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية كما قد بسط في غير موضع كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته أو اعتقد أن الله لا يرى؛ لقوله: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } [1] ولقوله: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } [2] كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي ﷺ وإنما يدلان بطريق العموم. وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى وفسروا قوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [3] بأنها تنتظر ثواب ربها كما نقل عن مجاهد وأبي صالح. أو من اعتقد أن الميت لا يعذب ببكاء الحي؛ لاعتقاده أن قوله: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [4] يدل على ذلك؛ وأن ذلك يقدم على رواية الراوي لأن السمع يغلط كما اعتقد ذلك طائفة من السلف والخلف. أو اعتقد أن الميت لا يسمع خطاب الحي؛ لاعتقاده أن قوله: { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } [5] يدل على ذلك. أو اعتقد أن الله لا يعجب كما اعتقد ذلك شريح؛ لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب والله منزه عن الجهل. أو اعتقد أن عليا أفضل الصحابة؛ لاعتقاده صحة حديث الطير؛ وأن النبي ﷺ قال: «اللهم ائتني بأحب الخلق إليك؛ يأكل معي من هذا الطائر». أو اعتقد أن من جس للعدو وأعلمهم بغزو النبي ﷺ فهو منافق، كما اعتقد ذلك عمر في حاطب وقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق. أو اعتقد أن من غضب لبعض المنافقين غضبة فهو منافق؛ كما اعتقد ذلك أسيد بن حضير في سعد بن عبادة وقال: إنك منافق تجادل عن المنافقين. أو اعتقد أن بعض الكلمات أو الآيات أنها ليست من القرآن؛ لأن ذلك لم يثبت عنده بالنقل الثابت كما نقل عن غير واحد من السلف أنهم أنكروا ألفاظا من القرآن كإنكار بعضهم: { وَقَضَى رَبُّكَ } [6] وقال: إنما هي ووصى ربك. وإنكار بعضهم قوله: { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ } [7] وقال: إنما هو ميثاق بني إسرائيل وكذلك هي في قراءة عبد الله. وإنكار بعضهم { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ } [8] إنما هي أولم يتبين الذين آمنوا. وكما أنكر عمر على هشام بن الحكم لما رآه يقرأ سورة الفرقان على غير ما قرأها. وكما أنكر طائفة من السلف على بعض القراء بحروف لم يعرفوها حتى جمعهم عثمان على المصحف الإمام. وكما أنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي؛ لاعتقادهم أن معناه أن الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به. وأنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي؛ لكونهم ظنوا أن الإرادة لا تكون إلا بمعنى المشيئة لخلقها وقد علموا أن الله خالق كل شيء؛ وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والقرآن قد جاء بلفظ الإرادة بهذا المعنى وبهذا المعنى لكن كل طائفة عرفت أحد المعنيين وأنكرت الآخر.
= وكالذي قال لأهله: إذا أنا مت فأحرقوني: ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. وكما قد ذكره طائفة من السلف في قوله: { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } [9] وفي قول الحواريين: { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء } [10] وكالصحابة الذين سألوا النبي ﷺ هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فلم يكونوا يعلمون أنهم يرونه؛ وكثير من الناس لا يعلم ذلك؛ إما لأنه لم تبلغه الأحاديث وإما لأنه ظن أنه كذب وغلط.
هامش
[الأنعام: 103]
[الشورى: 51]
[الحاقة: 22، 23]
[الإسراء: 15]
[النمل: 80]
[الإسراء: 23]
[آل عمران: 81]
[الرعد: 31]
[البلد: 5]
[المائدة: 112]
=========
فصل في التفريق في الأحكام قبل الرسالة وبعدها
وقد فرق الله بين ما قبل الرسالة وما بعدها في أسماء وأحكام وجمع بينهما في أسماء وأحكام وذلك حجة على الطائفتين: على من قال: إن الأفعال ليس فيها حسن وقبيح. ومن قال: إنهم يستحقون العذاب على القولين. أما الأول فإنه سماهم ظالمين وطاغين ومفسدين؛ لقوله: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } [1] وقوله: { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ } [2] وقوله: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [3] فأخبر أنه ظالم وطاغ ومفسد هو وقومه وهذه أسماء ذم الأفعال؛ والذم إنما. يكون في الأفعال السيئة القبيحة فدل ذلك على أن الأفعال تكون قبيحة مذمومة قبل مجيء الرسول إليهم لا يستحقون العذاب إلا بعد إتيان الرسول إليهم؛ لقوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [4]. وكذلك أخبر عن هود أنه قال لقومه: { اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } [5] فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه؛ لكونهم جعلوا مع الله إلها آخر فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة؛ فإنه يشرك بربه ويعدل به ويجعل معه آلهة أخرى ويجعل له أندادا قبل الرسول ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها وكذلك اسم الجهل والجاهلية يقال: جاهلية وجاهلا قبل مجيء الرسول وأما التعذيب فلا. والتولي عن الطاعة كقوله: { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [6] فهذا لا يكون إلا بعد الرسول مثل قوله عن فرعون. { فَكَذَّبَ وَعَصَى } [7] كان هذا بعد مجيء الرسول إليه كما قال تعالى: { فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى } [8] وقال: { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } [9].
هذا آخر ما وجد.
هامش
[النازعات: 17]
[الشعراء: 10، 11]
[القصص: 4]
[الإسراء: 15]
[هود: 50]
[القيامة: 31، 32]
[النازعات: 21]
[النازعات: 21، 22]
[المزمل: 16]
=====
سئل هل كان البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم مجتهدين أم مقلدين
وسئل أيضا رضي الله عنه:
هل البخاري؛ ومسلم؛ وأبو داود؛ والترمذي؛ والنسائي؛ وابن ماجه؛ وأبو داود الطيالسي؛ والدارمي؛ والبزار؛ والدارقطني؛ والبيهقي؛ وابن خزيمة؛ وأبو يعلى الموصلي هل كان هؤلاء مجتهدين لم يقلدوا أحدا من الأئمة؛ أم كانوا مقلدين؟ وهل كان من هؤلاء أحد ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة؟ وهل إذا وجد في موطأ مالك: عن يحيى بن سعيد؛ عن إبراهيم بن محمد بن الحارث التيمي؛ عن عائشة. ووجد في البخاري: حدثني معاذ بن فضالة؛ قال: حدثنا هشام عن يحيى هو ابن أبي كثير؛ عن أبي سلمة؛ عن أبي هريرة. فهل يقال أن هذا أصح من الذي في الموطأ؟ وهل إذا كان الحديث في البخاري بسند وفي الموطأ بسند فهل يقال: إن الذي في البخاري أصح؟ وإذا روينا عن رجال البخاري حديثا ولم يروه البخاري في صحيحه فهل يقال. هو مثل الذي في الصحيح؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين. أما البخاري؛ وأبو داود فإمامان في الفقه من أهل الاجتهاد. وأما مسلم؛ والترمذي؛ والنسائي؛ وابن ماجه؛ وابن خزيمة؛ وأبو يعلى؛ والبزار؛ ونحوهم؛ فهم على مذهب أهل الحديث ليسوا مقلدين لواحد بعينه من العلماء ولا هم من الأئمة المجتهدين على الإطلاق بل هم يميلون إلى قول أئمة الحديث كالشافعي؛ وأحمد؛ وإسحاق وأبي عبيد؛ وأمثالهم. ومنهم من له اختصاص ببعض الأئمة كاختصاص أبي داود ونحوه بأحمد بن حنبل وهم إلى مذاهب أهل الحجاز - كمالك وأمثاله - أميل منهم إلى مذاهب أهل العراق - كأبي حنيفة والثوري -. وأما أبو داود الطيالسي فأقدم من هؤلاء كلهم من طبقة يحيى بن سعيد القطان؛ ويزيد بن هارون الواسطي؛ وعبد الله بن داود. ووكيع بن الجراح؛ وعبد الله بن إدريس؛ ومعاذ بن معاذ؛ وحفص بن غياث؛ وعبد الرحمن بن مهدي؛ وأمثال هؤلاء من طبقة شيوخ الإمام أحمد. وهؤلاء كلهم يعظمون السنة والحديث ومنهم من يميل إلى مذهب العراقيين كأبي حنيفة والثوري ونحوهما كوكيع ويحيى بن سعيد، ومنهم من يميل إلى مذهب المدنيين: مالك ونحوه كعبد الرحمن بن مهدي. وأما البيهقي فكان على مذهب الشافعي؛ منتصرا له في عامة أقواله. والدارقطني هو أيضا يميل إلى مذهب الشافعي وأئمة السند والحديث لكن ليس هو في تقليد الشافعي كالبيهقي مع أن البيهقي له اجتهاد في كثير من المسائل واجتهاد الدارقطني أقوى منه؛ فإنه كان أعلم وأفقه منه.
=======
القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي
وقال شيخ الإسلام
القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي قال: فمتى ما وقع عنده وحصل في قلبه ما بطن معه إن هذا الأمر أو هذا الكلام أرضى لله ورسوله كان هذا ترجيحا بدليل شرعي والذين أنكروا كون الإلهام ليس طريقا إلى الحقائق مطلقا أخطئوا فإذا اجتهد العبد في طاعة الله وتقواه كان ترجيحه لما رجح أقوى من أدلة كثيرة ضعيفة فإلهام مثل هذا دليل في حقه وهو أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والموهومة والظواهر والاستصحابات الكثيرة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذاهب والخلاف؛ وأصول الفقه. وقد قال عمر بن الخطاب: اقربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون؛ فإنهم تتجلى لهم أمور صادقة. وحديث مكحول المرفوع «ما أخلص عبد العبادة لله تعالى أربعين يوما إلا أجرى الله الحكمة على قلبه؛ وأنطق بها لسانه وفي رواية إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه». وقال أبو سليمان الداراني: إن القلوب إذا اجتمعت على التقوى جالت في الملكوت؛ ورجعت إلى أصحابها بطرف الفوائد؛ من غير أن يؤدي إليها عالم علما. وقد قال النبي ﷺ: «الصلاة نور؛ والصدقة برهان؛ والصبر ضياء» ومن معه نور وبرهان وضياء كيف لا يعرف حقائق الأشياء من فحوى كلام أصحابها؟ ولا سيما الأحاديث النبوية؛ فإنه يعرف ذلك معرفة تامة؛ لأنه قاصد العمل بها؛ فتتساعد في حقه هذه الأشياء مع الامتثال ومحبة الله ورسوله حتى أن المحب يعرف من فحوى كلام محبوبه مراده منه تلويحا لا تصريحا.
والعين تعرف من عيني محدثها ** إن كان من حزبها أو من أعاديها
إنارة العقل مكسوف بطوع هوى ** وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا
وفي الحديث الصحيح: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها» ومن كان توفيق الله له كذلك فكيف لا يكون ذا بصيرة نافذة ونفس فعالة؟ وإذا كان الإثم والبر في صدور الخلق له تردد وجولان؛ فكيف حال من الله سمعه وبصره وهو في قلبه. وقد قال ابن مسعود: الإثم حواز القلوب وقد قدمنا أن الكذب ريبة والصدق طمأنينة فالحديث الصدق تطمئن إليه النفس ويطمئن إليه القلب. وأيضا فإن الله فطر عباده على الحق؛ فإذا لم تستحل الفطرة: شاهدت الأشياء على ما هي عليه؛ فأنكرت منكرها وعرفت معروفها. قال عمر: الحق أبلج لا يخفى على فطن. فإذا كانت الفطرة مستقيمة على الحقيقة منورة بنور القرآن. تجلت لها الأشياء على ما هي عليه في تلك المزايا وانتفت عنها ظلمات الجهالات فرأت الأمور عيانا مع غيبها عن غيرها. وفي السنن والمسند وغيره عن النواس بن سمعان عن النبي ﷺ قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما؛ وعلى جنبتي الصراط سوران؛ وفي السورين أبواب مفتحة؛ وعلى الأبواب ستور مرخاة؛ وداع يدعو على رأس الصراط. وداع يدعو من فوق الصراط؛ والصراط المستقيم هو الإسلام؛ والستور المرخاة حدود الله؛ والأبواب المفتحة محارم الله فإذا أراد العبد أن يفتح بابا من تلك الأبواب ناداه المنادي: يا عبد الله لا تفتحه؛ فإنك إن فتحته تلجه. والداعي على رأس الصراط كتاب الله؛ والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن» فقد بين في هذا الحديث العظيم - الذي من عرفه انتفع به انتفاعا بالغا إن ساعده التوفيق؛ واستغنى به عن علوم كثيرة - أن في قلب كل مؤمن واعظا والوعظ هو الأمر والنهي؛ والترغيب والترهيب. وإذا كان القلب معمورا بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت؛ بخلاف القلب الخراب المظلم؛ قال حذيفة بن اليمان: إن في قلب المؤمن سراجا يزهر. وفي الحديث الصحيح: «إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ» فدل على أن المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره؛ ولا سيما في الفتن وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله؛ فإن الدجال أكذب خلق الله مع أن الله يجري على يديه أمورا هائلة ومخاريق مزلزلة حتى إن من رآه افتتن به فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذبها وبطلانها. وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له؛ وعرف حقائقها من بواطلها وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم؛ ولهذا قال بعض السلف في قوله: { نُّورٌ عَلَى نُور } [1] قال: هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق وإن لم يسمع فيها بالأثر فإذا سمع فيها بالأثر كان نورا على نور. فالإيمان الذي في قلب المؤمن يطابق نور القرآن؛ فالإلهام القلبي تارة يكون من جنس القول والعلم؛ والظن أن هذا القول كذب. وأن هذا العمل باطل؛ وهذا أرجح من هذا؛ أو هذا أصوب. وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر».
والمحدث: هو الملهم المخاطب في سره. وما قال عمر لشيء: إني لأظنه كذا وكذا إلا كان كما ظن وكانوا يرون أن السكينة تنطق على قلبه ولسانه. وأيضا فإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن لقوة إيمانه يقينا وظنا؛ فالأمور الدينية كشفها له أيسر بطريق الأولى؛ فإنه إلى كشفها أحوج فالمؤمن تقع في قلبه أدلة على الأشياء لا يمكنه التعبير عنها في الغالب فإن كل أحد لا يمكنه إبانة المعاني القائمة بقلبه فإذا تكلم الكاذب بين يدي الصادق عرف كذبه من فحوى كلامه فتدخل عليه نخوة الحياء الإيماني فتمنعه البيان ولكن هو في نفسه قد أخذ حذره منه وربما لوح أو صرح به خوفا من الله وشفقة على خلق الله ليحذروا من روايته أو العمل به. وكثير من أهل الإيمان والكشف يلقي الله في قلبه أن هذا الطعام حرام؛ وأن هذا الرجل كافر؛ أو فاسق؛ أو ديوث؛ أو لوطي؛ أو خمار؛ أو مغن؛ أو كاذب؛ من غير دليل ظاهر بل بما يلقي الله في قلبه. وكذلك بالعكس يلقي في قلبه محبة لشخص وأنه من أولياء الله؛ وأن هذا الرجل صالح؛ وهذا الطعام حلال وهذا القول صدق؛ فهذا وأمثاله لا يجوز أن يستبعد في حق أولياء الله المؤمنين المتقين. وقصة الخضر مع موسى هي من هذا الباب وأن الخضر علم هذه الأحوال المعينة بما أطلعه الله عليه. وهذا باب واسع يطول بسطه قد نبهنا فيه على نكت شريفة تطلعك على ما وراءها.
هامش
[النور: 35]
========
فصل في تعارض الحسنات والسيئات
فصل جامع في تعارض الحسنات، أو السيئات، أو هما جميعا. إذا اجتمعا ولم يمكن التفريق بينهما، بل الممكن إما فعلهما جميعا وإما تركهما جميعا. وقد كتبت ما يشبه هذا في قاعدة الإمارة والخلافة وفي أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما فنقول: قد أمر الله ورسوله بأفعال واجبة ومستحبة، وإن كان الواجب مستحبا وزيادة. ونهى عن أفعال محرمة أو مكروهة والدين هو طاعته وطاعة رسوله وهو الدين والتقوى، والبر والعمل الصالح، والشرعة والمنهاج وإن كان بين هذه الأسماء فروق. وكذلك حمد أفعالا هي الحسنات ووعد عليها وذم أفعالا هي السيئات وأوعد عليها وقيد الأمور بالقدرة والاستطاعة والوسع والطاقة فقال تعالى: { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [1] وقال تعالى: { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [2] وقال تعالى: { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا } [3] وكل من الآيتين وإن كانت عامة فسبب الأولى المحاسبة على ما في النفوس وهو من جنس أعمال القلوب وسبب الثانية الإعطاء الواجب. وقال: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } [4] وقال: { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [5] وقال: { يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ } [6] وقال: { مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } [7] وقال: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [8] وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } [9] الآية وقال: { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } [10] وقال: { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } [11] وقال: { لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ } [12]. وقد ذكر في الصيام والإحرام والطهارة والصلاة والجهاد من هذا أنواعا. وقال في المنهيات: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [13] وقال: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [14] { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [15] { لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا } [16] { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ } [17] { وَلَوْ شَاء اللهُ لأعْنَتَكُمْ } [18] وقال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } [19] الآية. وقال في المتعارض: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [20] وقال: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [21] وقال: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [22] وقال: { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } [23] وقال: { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا } [24] { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ } إلى قوله: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ } [25] وقال: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ } إلى قوله: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ } [26]. ونقول: إذا ثبت أن الحسنات لها منافع وإن كانت واجبة: كان في تركها مضار والسيئات فيها مضار وفي المكروه بعض حسنات. فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما، فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما، فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما. وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما، بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة، وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة، فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة. فالأول كالواجب والمستحب، وكفرض العين وفرض الكفاية، مثل تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع. والثاني كتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين، وتقديم نفقة الوالدين عليه كما في الحديث الصحيح: { أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على مواقيتها قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين قلت. ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة متعين على متعين ومستحب على مستحب وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب وإلا فقد يترجح الذكر بالفهم والوجل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر وهذا باب واسع. والثالث كتقديم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب كما فعلت أم كلثوم التي أنزل الله فيها آية الامتحان { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } [27] وكتقديم قتل النفس على الكفر كما قال تعالى: { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } [28] فتقتل النفوس التي تحصل بها الفتنة عن الإيمان لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس وكتقديم قطع السارق ورجم الزاني وجلد الشارب على مضرة السرقة والزنا والشرب وكذلك سائر العقوبات المأمور بها فإنما أمر بها مع أنها في الأصل سيئة وفيها ضرر، لدفع ما هو أعظم ضررا منها، وهي جرائمها، إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير. وكذلك في " باب الجهاد " وإن كان قتل من لم يقاتل من النساء والصبيان وغيرهم حراما فمتى احتيج إلى قتال قد يعمهم مثل: الرمي بالمنجنيق والتبييت بالليل جاز ذلك كما جاءت فيها السنة في حصار الطائف ورميهم بالمنجنيق وفي أهل الدار من المشركين يبيتون وهو دفع لفساد الفتنة أيضا بقتل من لا يجوز قصد قتله. وكذلك مسألة التترس التي ذكرها الفقهاء، فإن الجهاد هو دفع فتنة الكفر فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها، ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يفضي إلى قتل أولئك المتترس بهم جاز ذلك، وإن لم يخف الضرر لكن لم يمكن الجهاد إلا بما يفضي إلى قتلهم ففيه قولان. ومن يسوغ ذلك يقول: قتلهم لأجل مصلحة الجلاد مثل قتل المسلمين المقاتلين يكونون شهداء ومثل ذلك إقامة الحد على المباذل، وقتال البغاة وغير ذلك ومن ذلك إباحة نكاح الأمة خشية العنت. وهذا باب واسع أيضا. وأما الرابع: فمثل أكل الميتة عند المخمصة، فإن الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة ومصلحتها راجحة وعكسه الدواء الخبيث، فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج لقيام غيره مقامه، ولأن البرء لا يتيقن به وكذلك شرب الخمر للدواء. فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها والحسنة تترك في موضعين إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة. هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية. وأما سقوط الواجب لمضرة في الدنيا، وإباحة المحرم لحاجة في الدنيا، كسقوط الصيام لأجل السفر، وسقوط محظورات الإحرام وأركان الصلاة لأجل المرض فهذا باب آخر يدخل في سعة الدين ورفع الحرج الذي قد تختلف فيه الشرائع، بخلاف الباب الأول، فإن جنسه مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه وإن اختلفت في أعيانه بل ذلك ثابت في العقل كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين وينشد:
إن اللبيب إذا بدا من جسمه ** مرضان مختلفان داوى الأخطرا
وهذا ثابت في سائر الأمور، فإن الطبيب مثلا يحتاج إلى تقوية القوة ودفع المرض، والفساد أداة تزيدهما معا، فإنه يرجح عند وفور القوة تركه إضعافا للمرض وعند ضعف القوة فعله لأن منفعة إبقاء القوة والمرض أولى من إذهابهما جميعا، فإن ذهاب القوة مستلزم للهلاك ولهذا استقر في عقول الناس أنه عند الجدب يكون نزول المطر لهم رحمة وإن كان يتقوى بما ينبته أقوام على ظلمهم لكن عدمه أشد ضررا عليهم ويرجحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان كما قال بعض العقلاء ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان. ثم السلطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان ويفرط فيه من الحقوق مع التمكن لكن أقول هنا، إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض فروعه كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصدا وقدرة: جازت له الولاية وربما وجبت وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها من جهاد العدو وقسم الفيء وإقامة الحدود وأمن السبيل: كان فعلها واجبا فإذا كان ذلك مستلزما لتولية بعض من لا يستحق وأخذ بعض ما لا يحل وإعطاء بعض من لا ينبغي، ولا يمكنه ترك ذلك: صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به فيكون واجبا أو مستحبا إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم، ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها. ودفع أكثره باحتمال أيسره: كان ذلك حسنا مع هذه النية وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيدا. وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه مالا فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره أن لا يظلم ودفعه ذلك لو أمكن: كان محسنا ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئا. وإنما الغالب في هذه الأشياء فساد النية والعمل أما النية فبقصده. السلطان والمال وأما العمل فبفعل المحرمات وبترك الواجبات لا لأجل التعارض ولا لقصد الأنفع والأصلح. ثم الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها أوجب. أو أحب فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا تارة واستحبابا أخرى. ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض وكان هو وقومه كفارا كما قال تعالى: { وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ } [29] الآية وقال تعالى عنه: { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم } [30] الآية ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فإن القوم لم يستجيبوا له لكن فعل الممكن من العدل والإحسان ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك وهذا كله داخل في قوله: { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [31]. فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة وإن سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر. ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها: إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء. هذا وقد قال النبي ﷺ: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك». وهذا باب التعارض باب واسع جدا لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة فإن هذه المسائل تكثر فيها وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة أو يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء ولهذا جاء في الحديث: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات». فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل وقد يكون الواجب في بعضها - كما بينته فيما تقدم -: العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء، لا التحليل والإسقاط. مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبر منها فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر. فالعالم تارة يأمر وتارة ينهى وتارة يبيح وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح وعند التعارض يرجح الراجح - كما تقدم - بحسب الإمكان فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله وإما لظلمه ولا يمكن إزالة جهله وظلمه فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله ﷺ تسليما إلى بيانها. يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [32] والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله والقدرة على العمل به. فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالجنون مثلا وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به ولم تأت الشريعة جملة كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبالغ إلا ما أمكن علمه والعمل به كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها. وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فإنه لا يطيق ذلك وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل والله أعلم. ومما يدخل في هذه الأمور الاجتهادية علما وعملا أن ما قاله العالم أو الأمير أو فعله باجتهاد أو تقليد فإذا لم ير العالم الآخر والأمير الآخر مثل رأي الأول فإنه لا يأمر به أو لا يأمر إلا بما يراه مصلحة ولا ينهى عنه إذ ليس له أن ينهى غيره عن اتباع اجتهاده ولا أن يوجب عليه اتباعه فهذه الأمور في حقه من الأعمال المعفوة لا يأمر بها ولا ينهى عنها بل هي بين الإباحة والعفو. وهذا باب واسع جدا فتدبره.
هامش
[التغابن: 16]
[البقرة: 286]
[الطلاق: 7]
[النساء: 84]
[البقرة: 185]
[النساء: 28]
[المائدة: 6]
[الحج: 78]
[المائدة: 105]
[البقرة: 280]
[آل عمران: 97]
[التوبة: 91]
[الأنعام: 119]
[البقرة: 173]
[الأنعام: 145]
[البقرة: 286]
[الأحزاب: 5]
[البقرة: 220]
[البقرة: 217]
[البقرة: 219]
[البقرة: 216]
[النساء: 101]
[البقرة: 217]
[البقرة: 239]
[النساء: 102]
[لقمان: 14، 15]
[الممتحنة: 10]
[البقرة: 217]
[غافر: 34]
[يوسف: 39، 40]
[التغابن: 16]
[الإسراء: 15]
========
فصل في الحسنات والعبادات ثلاثة أقسام
وقال:
قد كتبت في كراس قبل هذا: أن الحسنات والعبادات ثلاثة أقسام: عقلية: وهو ما يشترك فيه العقلاء، مؤمنهم وكافرهم. وملي: وهو ما يختص به أهل الملل كعبادة الله وحده لا شريك له. وشرعي: وهو ما اختص به شرع الإسلام مثلا وأن الثلاثة واجبة، فالشرعي باعتبار الثلاثة المشروعة وباعتبار يختص بالقدر المميز. وهكذا العلوم والأقوال عقلي وملي وشرعي، فالعقل المحض مثل ما ينظر فيه الفلاسفة من عموم المنطق والطبيعي والإلهي، ولهذا كان فيهم المشرك والمؤمن والملي مثل ما ينظر فيه المتكلم من إثبات الصانع وإثبات النبوات والشرائع. فإن المتكلمين متفقون على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولكنهم في رسائلهم ومسائلهم لا يلتزمون حكم الكتاب والسنة ففيهم السني والبدعي ويجتمعون هم والفلاسفة في النظر في الأمور الكلية من العلم والدليل والنظر والوجود والعدم والمعلومات لكنهم أخص بالنظر في العلم الإلهي من الفلاسفة وأبسط علما ولسانا فيه، وإن شركهم الفلاسفة في بعضه كما أن الفلاسفة أخص بالنظر في الأمور الطبيعية، وإن شركهم المتكلمون في بعضه. والشرعي ما ينظر فيه أهل الكتاب والسنة. ثم هم إما قائمون بظاهر أسرع فقط كعموم أهل الحديث والمؤمنين الذين في العلم بمنزلة العباد الظاهرين في العبادة. وإما عالمون بمعاني ذلك وعارفون به فهم في العلوم كالعارفين من الصوفية الشرعية. فهؤلاء هم علماء أمة محمد المحضة وهم أفضل الخلق وأكملهم وأقومهم طريقة والله أعلم. ويدخل في العبادات السماع فإنه ثلاثة أقسام: سماع عقلي وملي. وشرعي. فالأول ما فيه تحريك محبة أو مخافة أو حزن أو رجاء مطلقا. والثاني ما في غيرهم كمحبة الله ومخافته ورجائه وخشيته والتوكل عليه ونحو ذلك. والثالث السماع الشرعي وهو سماع القرآن كما أن الصلاة أيضا ثلاثة أقسام. وهذه الأقسام الثلاثة أصولها صحيحة دل عليها قوله: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحا } [1] الآية. فالذين آمنوا هم أهل شريعة القرآن؟ وهو الدين الشرعي بما فيه من الملي والعقلي. والذين هادوا والنصارى أهل دين ملي بشريعة التوراة والإنجيل بما فيه من ملي وعقلي والصابئون أهل الدين العقلي بما فيه من ملي أو ملي وشرعيات.
هامش
[البقرة: 62]
========
قاعدة جامعة في كل واحد من الدين الجامع بين الواجبات وسائر العبادات
وقال:
قاعدة جامعة كل واحد من الدين الجامع بين الواجبات وسائر العبادات ومن التحريمات كما قال تعالى: { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } [1] وكما قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } [2] وكما أخبر عما ذمه من حال المشركين في دينهم وتحريمهم حيث قال: { وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا } [3] إلى آخر الكلام فإنه ذكر فيه ما كانوا عليه من العبادات الباطلة من أنواع الشرك ومن الإباحة الباطلة في قتل الأولاد ومن التحريمات الباطلة من السائبة والبحيرة والوصيلة والحام ونحو ذلك. فذم المشركين في عباداتهم وتحريماتهم وإباحتهم. وذم النصارى فيما تركوه من دين الحق والتحريم كما ذمهم على الدين الباطل في قوله: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } [4] وأصناف ذلك. فكل واحد من العبادات وسائر المأمور به من الواجبات والمستحبات. ومن المكروهات المنهي عنها نهي حظر أو نهي تنزيه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: عقلي وملي وشرعي. والمراد بالعقلي ما اتفق عليه أهل العقل من بني آدم سواء كان لهم صلة كتاب أو لم يكن. والمراد بالملي: ما اتفق عليه أهل الملل والكتب المنزلة ومن اتبعهم والمراد بالشرعي ما اختص به أهل الشريعة القرآنية وهم أمة محمد ﷺ وأخص من ذلك ما اختص به أهل مذهب أو أهل طريقة من الفقهاء والصوفية ونحو ذلك. لكن هذا التخصيص والامتياز لا توجبه شريعة الرسول مطلقا وإنما قد توجبه ما قد توجب بتخصيص بعض العلماء والعباد والأمراء في استفتاء أو طاعة كما يجب على أهل كل غزاة طاعة أميرهم وأهل كل قرية استفتاء عالمهم الذي لا يجدون غيره ونحو ذلك وما من أهل شريعة غير المسلمين إلا وفي شرعهم هذه الأقسام الثلاثة فإن مأموراتهم ومنهياتهم تنقسم إلى ما يتفق عليه العقلاء وما يتفق عليه الأنبياء. وأما السياسات الملكية التي لا تتمسك بملة وكتاب: فلا بد فيها من القسم الأول والثالث فإن القدر المشترك بين الآدميين لا بد من الأمر به في كل سياسة وإمامة. وكذلك لا بد لكل ملك من خصيصة يتميز بها ولو لم تكن إلا رعاية من يواليه ودفع من يعاديه فلا بد لهم من الأمر بما يحفظ الولي ويدفع العدو كما في مملكة جنكيزخان ملك الترك ونحوه من الملوك. ثم قد يكون لهم ملة صحيحة توحيدية وقد يكون لهم ملة كفرية وقد لا يكون لهم ملة بحال. ثم قد يكون دينهم مما يوجبونه وقد يكون مما يستحبونه. ووجه القسمة أن جميع بني آدم العقلاء لا بد لهم من أمور يؤمرون بها وأمور ينهون عنها فإن مصلحتهم لا تتم بدون ذلك ولا يمكن أن يعيشوا في الدنيا بل ولا يعيش الواحد منهم لو انفرد بدون أمور يفعلونها تجلب لهم المنفعة وأمور ينفونها تدفع عنهم المضرة، بل سائر الحيوان لا بد فيه من قوتي الاجتلاب والاجتناب ومبدؤهما الشهوة والنفرة والحب والبغض فالقسم المطلوب هو المأمور به والقسم المرهوب هو المنهي عنه. فإما أن تكون تلك الأمور متفقا عليها بين العقلاء - بحيث لا يلتفت إلى الشواذ منهم الذين خرجوا عند الجمهور عن العقل - وإما أن لا تكون كذلك وما ليس كذلك فإما أن يكون متفقا عليه بين الأنبياء والمرسلين. وإما أن يختص به أهل شريعة الإسلام. فالقسم الأول: الطاعات العقلية - وليس الغرض بتسميتها عقلية إثبات كون العقل يحسن ويقبح على الوجه المتنازع فيه، بل الغرض ما اتفق عليه المسلمون وغيرهم من التحسين والتقبيح العقلي الذي هو جلب المنافع ودفع المضار وإنما الغرض اتفاق العقلاء على مدحها - مثل الصدق والعدل وأداء الأمانة والإحسان إلى الناس بالمال والمنافع ومثل العلم والعبادة المطلقة والورع المطلق والزهد المطلق مثل جنس التأله والعبادة والتسبيح والخشوع والنسك المطبق بحيث لا يمنع القدر المشترك أن يكون لأي معبود كان وبأي عبادة كانت فإن هذا الجنس متفق عليه بين الآدميين ما منهم إلا من يمدح جنس التأله مع كون بعضه فيه ما يكون صالحا حقا وبعضه فيه ما يكون فاسدا باطلا. وكذلك الورع المشترك مثل الكف عن قتل النفس مطلقا وعن الزنا مطلقا وعن ظلم الخلق. وكذلك الزهد المشترك مثل الإمساك عن فضول الطعام واللباس وهذا القسم إنما عبر أهل العقل باعتقاد حسنه ووجوبه، لأن مصلحة دنياهم لا تتم إلا به وكذلك مصلحة دينهم سواء كان دينا صالحا أو فاسدا. ثم هذه الطاعات والعبادات العقلية قسمان: أحدهما: ما هو نوع واحد لا يختلف أصلا كالعلم والصدق وهما تابعان للحق الموجود ومنها ما هو جنس تختلف أنواعه كالعدل وأداء الأمانة والصلاة والصيام والنسك والزهد والورع ونحو ذلك فإنه قد يكون العدل في ملة وسياسة خلاف العدل عند آخرين كقسمة المواريث مثلا وهذه الأمور تابعة للحق المقصود. لكن قد يقال: الناس وإن اتفقوا على أن العلم يجب أن يكون مطابقا للمعلوم وأن الخبر مطابق للمخبر، لكن هم مختلفون في المطابقة اختلافا كثيرا جدا فإن منهم من يعد مطابقا علما وصدقا ما يعده الآخر مخالفا: جهلا وكذبا، لا سيما في الأمور الإلهية فكذلك العدل هم متفقون على أنه يجب فيه التسوية بين المتماثلين، لكن يختلفون في الاستواء والموافقة والتماثل فكل واحد من العلم والصدق والعدل لا بد فيه من موافقة ومماثلة واعتبار ومقايسة. لكن يختلفون في ذلك فيقال: هذا صحيح، لكن الموافقة العلمية والصدقية هي بحسب وجود الشيء في نفسه وهو الحق الموجود فلا يقف على أمر وإرادة وأما الموافقة العدلية فبحسب ما يجب قصده وفعله وهذا يقف على القصد والأمر الذي قد يتنوع بحسب الأحوال. ولهذا لم تختلف الشرائع في جنس العلم والصدق كما اختلفت في جنس العدل وأما جنس العبادات كالصلاة والصيام والنسك والورع عن السيئات وما يتبع ذلك من زهد ونحو ذلك فهذا مختلف اختلافا كثيرا، وإن كان يجمع جنس الصلاة التأله بالقلب والتعبد للمعبود ويجمع جنس الصوم الإمساك عن الشهوات من الطعام والشراب والنكاح على اختلاف أنواع ذلك وكذلك أنواع النسك بحسب الأمكنة التي تقصد وما يفعل فيها وفي طريقها، لكن تجتمع هذه الأنواع في جنس العبادة وهو تأله القلب بالمحبة والتعظيم وجنس الزهادة وهو الإعراض عن الشهوات البدنية وزينة الحياة الدنيا وهما جنس نوعي الصلاة والصيام. القسم الثاني: الطاعات الملية من العبادات وسائر المأمور به والتحريمات مثل عبادة الله وحده لا شريك له بالإخلاص والتوكل والدعاء والخوف والرجاء وما يقترن بذلك من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت. وتحريم الشرك به وعبادة ما سواه وتحريم الإيمان بالجبت وهو السحر والطاغوت وهو الأوثان ونحو ذلك. وهذا القسم: هو الذي حضت عليه الرسل ووكدت أمره وهو أكبر المقاصد بالدعوة فإن القسم الأول: يظهر أمره ومنفعته بظاهر العقل وكأنه في الأعمال مثل العلوم البديهية. والقسم الثالث: تكملة وتتميم لهذا القسم الثاني. فإن الأول كالمقدمات والثالث كالمعقبات وأما الثاني: فهو المقصود بخلق الناس كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [5] وذلك لأن التعبد المطلق والتأله المطلق يدخل فيه الإشراك بجميع أنواعه كما عليه المشركون من سائر الأمم وكان التأله المطلق هو دين الصابئة ودين التتار ونحوهم مثل الترك فإنهم كانوا يعبدون الله وحده تارة ويبنون له هيكلا يسمونه هيكل العلة الأولى ويعبدون ما سواه تارة من الكواكب السبعة والثوابت وغيرها بخلاف المشركة المحضة فإنهم لا يعبدون الله وحده قط فلا يعبدونه إلا بالإشراك بغيره من شركائهم وشفعائهم. والصابئون: منهم من يعبده مخلصا له الدين ومنهم من يشرك به والحنفاء كلهم يخلص له الدين، فلهذا صار الصابئون فيهم من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا، بخلاف المشركين والمجوس ولهذا كان رأس دين الإسلام الذي بعث به خاتم المرسلين كلمتين: شهادة أن لا إله إلا الله تثبت التأله الحق الخالص وتنفي ما سواه من تأله المشركين أو تأله مطلق قد يدخل فيه تأله المشركين فأخرجت هذه الكلمة كل تأله ينافي الملي من التأله المختص بالكفار أو المطلق المشترك. والكلمة الثانية: شهادة أن محمدا رسول الله وهي توجب التأله الشرعي النبوي وتنفي ما كان من العقلي والملي والشرعي خارجا عنه. القسم الثالث: الطاعات الشرعية التي تختص بشريعة القرآن مثل خصائص الصلوات الخمس وخصائص صوم شهر رمضان وحج البيت العتيق. وفرائض الزكوات وأحكام المعاملات والمناكحات ومقادير العقوبات. ونحو ذلك من العبادات الشرعية وسائر ما يؤمر به من الشرعية وسائر ما ينهى عنه.
هامش
[التوبة: 29]
[النحل: 35]
[الأنعام: 136]
[التوبة: 31]
[الذاريات: 56]
========
فصل في كلام الفقهاء في الطاعات الشرعية والعقلية
إذا تبين ذلك فغالب الفقهاء إنما يتكلمون به في الطاعات الشرعية مع العقلية وغالب الصوفية إنما يتبعون الطاعات الملية مع العقلية وغالب المتفلسفة يقفون على الطاعات العقلية. ولهذا كثر في المتفقهة من ينحرف عن طاعات القلب وعباداته: من الإخلاص لله والتوكل عليه والمحبة له. والخشية له ونحو ذلك. وكثر في المتفقرة والمتصوفة من ينحرف عن الطاعات الشرعية فلا يبالون إذا حصل لهم توحيد القلب وتألهه أن يكون ما أوجبه الله من الصلوات وشرعه من أنواع القراءة والذكر والدعوات أن يتناولوا ما حرم الله من المطاعم وأن يتعبدوا بالعبادات البدعية من الرهبانية ونحوها ويعتاضوا بسماع المكاء والتصدية عن سماع القرآن وأن يقفوا مع الحقيقة القدرية معرضين عن الأمر والنهي، فإن كل ما خلقه الله فهو دال على وحدانيته وقائم بكلماته التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر وصادر عن مشيئته النافذة ومدبر بقدرته الكاملة. فقد يحصل للإنسان تأله ملي فقط ولا بد فيه من العقلي والملي وهو ما جاءت به الرسل بحيث ينيب إلى الله ويحبه ويتوكل عليه ويعرض عن الدنيا، لكن لا يقف عند المشروع من الأفعال الظاهرة فعلا وتركا وقد يحصل العكس بحيث يقف عند المشروع من الأفعال الظاهرة من غير أن يحصل لقلبه إنابة وتوكل ومحبة وقد يحصل التمسك بالواجبات العقلية. من الصدق والعدل وأداء الأمانة ونحو ذلك من غير محافظة على الواجبات الملية والشرعية. وهؤلاء الأقسام الثلاثة إذا كانوا مؤمنين مسلمين، فقد شابوا الإسلام إما بيهودية وإما بنصرانية وإما بصابئية، إذا كان ما انحرفوا إليه مبدلا منسوخا وإن كان أصله مشروعا فموسوية أو عيسوية.
======
فصل في أن الصدق أساس الحسنات وجماعها
وقال: الصدق أساس الحسنات وجماعها والكذب أساس السيئات ونظامها ويظهر ذلك من وجوه:
أحدها: أن الإنسان هو حي ناطق فالوصف المقوم له الفاصل له عن غيره من الدواب هو المنطق والمنطق قسمان: خبر وإنشاء والخبر صحته بالصدق وفساده بالكذب فالكاذب أسوأ حالا من البهيمة العجماء والكلام الخبري هو المميز للإنسان وهو أصل الكلام الإنشائي فإنه مظهر العلم والإنشاء مظهر العمل والعلم متقدم على العمل وموجب له فالكاذب لم يكفه أنه سلب حقيقة الإنسان حتى قلبها إلى ضدها ولهذا قيل: لا مروءة لكذوب ولا راحة لحسود ولا إخاء لملوك ولا سؤدد لبخيل فإن المروءة مصدر المرء كما أن الإنسانية مصدر الإنسان.
الثاني: أن الصفة المميزة بين النبي والمتنبئ هو الصدق والكذب فإن محمدا رسول الله الصادق الأمين ومسيلمة الكذاب قال الله تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [1].
الثالث: أن الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق هو الصدق فإن أساس النفاق الذي بني عليه الكذب وعلى كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة والكذب. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال قال رسول الله ﷺ: «ثلاث من كن فيه كان منافقا إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان».
الرابع: أن الصدق هو أصل البر والكذب أصل الفجور كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا».
الخامس: أن الصادق تنزل عليه الملائكة والكاذب تنزل عليه الشياطين كما قال تعالى: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [2].
السادس: أن الفارق بين الصديقين والشهداء والصالحين وبين المتشبه بهم من المرائين والمسمعين والمبلسين هو الصدق والكذب.
السابع: أنه مقرون بالإخلاص الذي هو أصل الدين في الكتاب وكلام العلماء والمشايخ قال الله تعالى { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } [3] ؛ ولهذا قال ﷺ: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله مرتين وقرأ هذه الآية وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت».
الثامن: أنه ركن الشهادة الخاصة عند الحكام التي هي قوام الحكم والقضاء والشهادة العامة في جميع الأمور والشهادة خاصة هذه الأمة التي ميزت بها في قوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } [4] وركن الإقرار الذي هو شهادة المرء على نفسه وركن الأحاديث والأخبار التي بها يقوم الإسلام، بل هي ركن النبوة والرسالة التي هي واسطة بين الله وبين خلقه وركن الفتيا التي هي إخبار المفتي بحكم الله. وركن المعاملات التي تتضمن أخبار كل واحد من المتعاملين للآخر بما في سلعته وركن الرؤيا التي قيل فيها: أصدقهم رؤيا أصدقهم كلاما والتي يؤتمن فيها الرجل على ما رأى.
التاسع: أن الصدق والكذب هو المميز بين المؤمن والمنافق كما جاء في الأثر: أساس النفاق الذي بني عليه الكذب. وفي الصحيحين عن أنس عن النبي ﷺ أنه قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» وفي حديث آخر: «على كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة والكذب» ووصف الله المنافقين في القرآن بالكذب في مواضع متعددة ومعلوم أن المؤمنين هم أهل الجنة وأن المنافقين هم أهل النار في الدرك الأسفل من النار. العاشر: أن المشايخ العارفين اتفقوا على أن أساس الطريق إلى الله هو الصدق والإخلاص كما جمع الله بينهما في قوله: { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } [5] ونصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة دال على ذلك في مواضع كقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } [6] وقوله تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [7] وقال تعالى لما بين الفرق بين النبي والكاهن والساحر: { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } [8] إلى قوله: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [9] وقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللهُ } [10] وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا } [11].
هامش
[النساء: 135]
[الزمر: 32، 33]
[الشعراء: 221: 223]
[الحج: 30، 31]
[البقرة: 143]
[الحج: 30، 31]
[التوبة: 119]
[الزمر: 32، 33]
[الشعراء: 192: 196]
[الشعراء: 221: 223]
[الأنعام: 93]
=====
فصل أن الحسنات كلها عدل والسيئات كلها ظلم
وقال: قد كتبت في غير موضع أن الحسنات كلها عدل والسيئات كلها ظلم وأن الله إنما أنزل الكتب وأرسل الرسل، ليقوم الناس بالقسط. وقد ذكرت أن القسط والظلم نوعان: نوع في حق الله تعالى كالتوحيد فإنه رأس العدل والشرك رأس الظلم ونوع في حق العباد، إما مع حق الله كقتل النفس أو مفردا كالدين الذي ثبت برضا صاحبه. ثم إن الظلم في حق العباد نوعان: نوع يحصل بغير رضا صاحبه كقتل نفسه وأخذ ماله وانتهاك عرضه ونوع يكون برضا صاحبه وهو ظلم كمعاملة الربا والميسر فإن ذلك حرام لما فيه من أكل مال غيره بالباطل وأكل المال بالباطل ظلم، ولو رضي به صاحبه لم يبح ولم يخرج عن أن يكون ظلما فليس كل ما طابت به نفس صاحبه يخرج عن الظلم وليس كل ما كرهه باذله يكون ظلما بل القسمة رباعية:
أحدها: ما نهى عنه الشارع وكرهه المظلوم.
الثاني: ما نهى عنه الشارع وإن لم يكرهه المظلوم كالزنا والميسر. والثالث: ما كرهه صاحبه ولكن الشارع رخص فيه فهذا ليس بظلم. والرابع: ما لم يكرهه صاحبه ولا الشارع، وإنما نهى الشارع عن ما يرضى به صاحبه إذا كان ظلما، لأن الإنسان جاهل بمصلحته فقد يرضى ما لا يعرف أن عليه فيه ضررا ويكون عليه فيه ضرر غير مستحق، ولهذا إذا انكشف له حقيقة الحال لم يرض، ولهذا قال طاوس ما اجتمع رجلان على غير ذات الله إلا تفرقا عن تقال فالزاني بامرأة أو غلام إن كان استكرهها فهذا ظلم وفاحشة وإن كانت طاوعته فهذا فاحشة وفيه ظلم أيضا للآخر، لأنه بموافقته أعان الآخر على مضرة نفسه لا سيما إن كان أحدهما هو الذي دعا الآخر إلى الفاحشة فإنه قد سعى في ظلمه وإضراره بل لو أمره بالمعصية التي لا حظ له فيها لكان ظالما له، ولهذا يحمل من أوزار الذي يضله بغير علم فكيف إذا سعى في أن ينال غرضه منه مع إضراره. ولهذا يكون دعاء الغلام إلى الفجور به أعظم ظلما من دعاء المرأة لأن المرأة لها هوى فيكون من باب المعاوضة كل منهما نال غرضه الذي هو من جنس غرض الآخر فيسقط هذا بهذا ويبقى حق الله عليهما، فلهذا: ليس في الزنا المحض ظلم الغير إلا أن يفسد فراشا أو نسبا أو نحو ذلك. وأما المتلوط فإن الغلام لا غرض له فيه إلا برغبة أو برهبة والرغبة والمال من جنس الحاجات المباحة فإذا طلب منه الفجور قد يبذله له فهذا إذا رضي الآن به من جنس ظلم المؤتي لحاجته إلى المال، لكن هذا الظلم في نفسه وحرمته فهو أشد وكذلك استئجاره على الأفعال المحرمة كالكهانة والسحر وغير ذلك كلها ظلم له، وإن كانت برضاه وإن كان الآخر قد ظلم الآخر أيضا بما أفسد عليه من دينه حيث وافقه على الذنب، لكن أحد نوعي الظلم من غير جنس الآخر وهذا باب ينبغي التفطن له فأكثر الذنوب مشتملة على ظلم الغير وجميعها مشتملة على ظلم النفس.
====
فصل في العدل القولي والصدق
وقال:
ذكرت في مواضع شيئا من الصدق والعدل وموقعهما من الكتاب والسنة ومصالح الدنيا والآخرة وذكرت أيضا في مواضع أن عامة السيئات يدخل في الظلم وأن الحسنات غالبها عدل وأن القسط هو المقصود بإرسال الرسل وإنزال الكتب والقسط والعدل هو التسوية بين الشيئين فإن كان بين متماثلين، كان هو العدل الواجب المحمود وإن كان بين الشيء وخلافه كان من باب قوله: { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ } [1] كما قالوا: { تَاللهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [2] فهذا العدل والتسوية والتمثيل والإشراك هو الظلم العظيم. وإذا عرف أن مادة العدل والتسوية والتمثيل والقياس. والاعتبار والتشريك والتشبيه والتنظير من جنس واحد فيستدل بهذه الأسماء على القياس الصحيح العقلي والشرعي ويؤخذ من ذلك تعبير الرؤيا فإن مداره على القياس والاعتبار والمشابهة التي بين الرؤيا وتأويلها. ويؤخذ من ذلك ما في الأسماء واللغات من الاستعارة والتشبيه إما في وضع اللفظ بحيث يصير حقيقة في الاستعمال وإما في الاستعمال فقط مع القرينة إذا كانت الحقيقة أحرى فإن مسميات الأسماء المتشابهة متشابهة. ويؤخذ من ذلك ضرب الأمثال للتصور تارة وللتصديق أخرى. وهي نافعة جدا وذلك أن إدراك النفس لعين الحقائق قليل وما لم يدركه فإنما يعرفه بالقياس على ما عرفته فإذا كان هذا في المعرفة ففي التعريف ومخاطبة الناس أولى وأحرى. ثم التماثل والتعادل، يكون بين الوجودين الخارجين وبين الوجودين العلميين الذهنيين وبين الوجود الخارجي والذهني. فالأول يقال: هذا مثل هذا والثاني يقال فيه، مثل هذا كمثل هذا والثالث يقال فيه: هذا كمثل هذا. فالمثل إما أن يذكر مرة أو مرتين أو ثلاث مرات إذا كان التمثيل بالحقيقة الخارجية كما في قوله: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا } [3] فهذا باب المثل وأما باب العدل فقد قال تعالى: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } [4] وقال تعالى: { كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ } [5] الآية وقال: { كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ } [6] وقال: { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } [7] { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } [8] فهذا العدل والقسط في هذه المواضع هو الصدق المبين وضده الكذب والكتمان.
وذلك أن العدل هو الذي يخبر بالأمر على ما هو عليه لا يزيد فيكون كاذبا ولا ينقص فيكون كاتما والخبر مطابق للمخبر كما تطابق الصورة العلمية والذهنية للحقيقة الخارجية ويطابق اللفظ للعلم ويطابق الرسم للفظ. فإذا كان العلم يعدل المعلوم لا يزيد ولا ينقص والقول يعدل العلم لا يزيد ولا ينقص والرسم يعدل القول: كان ذلك عدلا والقائم به قائم بالقسط وشاهد بالقسط وصاحبه ذو عدل. ومن زاد فهو كاذب ومن نقص فهو كاتم ثم قد يكون عمدا وقد يكون خطأ فتدبر هذا فإنه عظيم نافع جدا.
هامش
[الطلاق: 2]
[الأنعام: 1]
[الشعراء: 97، 98]
[البقرة: 17]
[الأنعام: 152]
[النساء: 135]
[المائدة: 8]
[المائدة: 106]
========
قاعدة في أن جنس فعل المأمورات أعظم من جنس فعل المنهيات
وقال الشيخ الإمام العالم شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية - قدس الله روحه ونور ضريحه -:
قاعدة في أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه وأن جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه وأن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات. وقد ذكرت بعض ما يتعلق بهذه القاعدة فيما تقدم لما ذكرت أن العلم والقصد يتعلق بالموجود بطريق الأصل ويتعلق بالمعدوم بطريق التبع. وبيان هذه القاعدة من وجوه.
=====
أعظم الحسنات هو الإيمان بالله ورسوله
أحدها
أن أعظم الحسنات هو الإيمان بالله ورسوله، وأعظم السيئات الكفر والإيمان أمر وجودي فلا يكون الرجل مؤمنا ظاهرا حتى يظهر أصل الإيمان وهو: شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ولا يكون مؤمنا باطنا حتى يقر بقلبه بذلك، فينتفي عنه الشك ظاهرا وباطنا، مع وجود العمل الصالح وإلا كان كمن قال الله فيه: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [1] وكمن قال تعالى فيه: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [2] وكمن قال فيه: { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ } [3] الآية.
والكفر: عدم الإيمان، باتفاق المسلمين سواء اعتقد نقيضه وتكلم به أو لم يعتقد شيئا ولم يتكلم ولا فرق في ذلك بين مذهب أهل السنة والجماعة الذين يجعلون الإيمان قولا وعملا بالباطن والظاهر، وقول من يجعله نفس اعتقاد القلب كقول الجهمية وأكثر الأشعرية أو إقرار اللسان كقول الكرامية، أو جميعها كقول فقهاء المرجئة وبعض الأشعرية فإن هؤلاء مع أهل الحديث وجمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنبلية، وعامة الصوفية، وطوائف من أهل الكلام من متكلمي السنة، وغير متكلمي السنة من المعتزلة والخوارج، وغيرهم: متفقون على أن من لم يؤمن بعد قيام الحجة عليه بالرسالة فهو كافر سواء كان مكذبا، أو مرتابا، أو معرضا، أو مستكبرا، أو مترددا، أو غير ذلك. وإذا كان أصل الإيمان الذي هو أعظم القرب والحسنات والطاعات فهو مأمور به والكفر الذي هو أعظم الذنوب والسيئات والمعاصي ترك هذا المأمور به سواء اقترن به فعل منهي عنه من التكذيب أو لم يقترن به شيء بل كان تركا للإيمان فقط: علم أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه. واعلم أن الكفر بعضه أغلظ من بعض فالكافر المكذب أعظم جرما من الكافر غير المكذب فإنه جمع بين ترك الإيمان المأمور به وبين التكذيب المنهي عنه ومن كفر وكذب وحارب الله ورسوله والمؤمنين بيده أو لسانه أعظم جرما ممن اقتصر على مجرد الكفر والتكذيب ومن كفر وقتل وزنى وسرق وصد وحارب كان أعظم جرما. كما أن الإيمان بعضه أفضل من بعض والمؤمنون فيه متفاضلون تفاضلا عظيما وهم عند الله درجات كما أن أولئك دركات فالمقتصدون في الإيمان أفضل من ظالمي أنفسهم والسابقون بالخيرات أفضل من المقتصدين { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } [4] الآيات { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ } [5]. وإنما ذكرنا أن أصل الإيمان مأمور به وأصل الكفر نقيضه وهو ترك هذا الإيمان المأمور به وهذا الوجه قاطع بين.
هامش
[التوبة: 19]
[الحجرات: 14]
[البقرة: 8]
[المنافقون: 1]
[النساء: 95]
======
أول ذنب عصي الله به
الوجه الثاني
أن أول ذنب عصي الله به كان من أبي الجن وأبي الإنس أبوي الثقلين المأمورين وكان ذنب أبي الجن أكبر وأسبق وهو ترك المأمور به وهو السجود إباء واستكبارا وذنب أبي الإنس كان ذنبا صغيرا { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } [1] وهو إنما فعل المنهي عنه وهو الأكل من الشجرة، وإن كان كثير من الناس المتكلمين في العلم يزعم أن هذا ليس بذنب، وأن آدم تأول حيث نهي عن الجنس بقوله: { وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } [2] فظن أنه الشخص فأخطأ، أو نسي والمخطئ والناسي ليسا مذنبين. وهذا القول يقوله طوائف من أهل البدع والكلام والشيعة وكثير من المعتزلة وبعض الأشعرية وغيرهم ممن يوجب عصمة الأنبياء من الصغائر وهؤلاء فروا من شيء ووقعوا فيما هو أعظم منه في تحريف كلام الله عن مواضعه. وأما السلف قاطبة من القرون الثلاثة الذين هم خير قرون الأمة، وأهل الحديث والتفسير، وأهل كتب قصص الأنبياء والمبتدأ وجمهور الفقهاء والصوفية، وكثير من أهل الكلام كجمهور الأشعرية وغيرهم وعموم المؤمنين، فعلى ما دل عليه الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [3] وقوله: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [4] بعد أن قال لهما: { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [5] وقوله تعالى: { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [6] مع أنه عوقب بإخراجه من الجنة. وهذه نصوص لا ترد إلا بنوع من تحريف الكلام عن مواضعه، والمخطئ والناسي إذا كانا مكلفين في تلك الشريعة فلا فرق وإن لم يكونا مكلفين امتنعت العقوبة ووصف العصيان والإخبار بظلم النفس وطلب المغفرة والرحمة وقوله تعالى: { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [7] وإنما ابتلى الله الأنبياء بالذنوب رفعا لدرجاتهم بالتوبة وتبليغا لهم إلى محبته وفرحه بهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويفرح بتوبة التائب أشد فرح فالمقصود كمال الغاية لا نقص البداية، فإن العبد يكون له الدرجة لا ينالها إلا بما قدره الله له من العمل أو البلاء. وليس المقصود هنا هذه المسألة وإنما الغرض أن ينظر تفاوت ما بين الذنبين اللذين أحدهما ترك المأمور به فإنه كبير وكفر ولم يتب منه والآخر صغير تيب منه.
هامش
[البقرة: 37]
[البقرة: 35]
[طه: 121]
[الأعراف: 23]
[الأعراف: 22]
[البقرة: 37]
[الأعراف: 22]
======
ما يكفر به الشخص عند أهل السنة
الوجه الثالث
أنه قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب ولا يخرجونه من الإسلام بعمل إذا كان فعلا منهيا عنه، مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان وأما إن تضمن ترك ما أمر الله بالإيمان به مثل: الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، فإنه يكفر به وكذلك يكفر بعدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة وعدم تحريم الحرمات الظاهرة المتواترة. فإن قلت فالذنوب تنقسم إلى ترك مأمور به وفعل منهي عنه. قلت: لكن المأمور به إذا تركه العبد: فإما أن يكون مؤمنا بوجوبه، أو لا يكون فإن كان مؤمنا بوجوبه تاركا لأدائه فلم يترك الواجب كله بل أدى بعضه وهو الإيمان به وترك بعضه وهو العمل به. وكذلك المحرم إذا فعله، فإما أن يكون مؤمنا بتحريمه أو لا يكون فإن كان مؤمنا بتحريمه فاعلا له فقد جمع بين أداء واجب وفعل محرم فصار له حسنة وسيئة والكلام إنما هو فيما لا يعذر بترك الإيمان بوجوبه وتحريمه من الأمور المتواترة وأما من لم يعتقد ذلك فيما فعله أو تركه بتأويل أو جهل يعذر به، فالكلام في تركه هذا الاعتقاد كالكلام فيما فعله أو تركه بتأويل أو جهل يعذر به. وأما كون ترك الإيمان بهذه الشرائع كفرا، وفعل المحرم المجرد ليس كفرا: فهذا مقرر في موضعه وقد دل على ذلك كتاب الله في قوله: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [1] إذ الإقرار بها مراد بالاتفاق، وفي ترك الفعل نزاع. وكذلك قوله: { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [2] ؛ فإن عدم الإيمان بوجوبه وتركه كفر والإيمان بوجوبه وفعله يجب أن يكون مرادا من هذا النص كما قال من قال من السلف: هو من لا يرى حجه برا ولا تركه إثما وأما الترك المجرد ففيه نزاع. وأيضا «حديث أبي بردة بن نيار لما بعثه النبي ﷺ إلى من تزوج امرأة أبيه فأمره أن يضرب عنقه ويخمس ماله»، فإن تخميس المال دل على أنه كان كافرا لا فاسقا وكفره بأنه لم يحرم ما حرم الله ورسوله. وكذلك الصحابة مثل عمر وعلي وغيرهما لما شرب الخمر قدامة بن عبد الله وكان بدريا، وتأول أنها تباح للمؤمنين المصلحين وأنه منهم بقوله: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [3] الآية فاتفق الصحابة على أنه إن أصر قتل وإن تاب جلد فتاب فجلد. وأما الذنوب ففي القرآن قطع السارق وجلد الزاني، ولم يحكم بكفرهم وكذلك فيه اقتتال الطائفتين مع بغي إحداهما على الأخرى، والشهادة لهما بالإيمان والأخوة وكذلك فيه قاتل النفس الذي يجب عليه القصاص جعله أخا، وقد قال الله فيه: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [4] فسماه أخا وهو قاتل. وقد ثبت في الصحيحين حديث أبي ذر لما قال له النبي ﷺ عن جبريل: «من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر على رغم أنف أبي ذر» وثبت في الصحاح حديث أبي سعيد وغيره في الشفاعة في أهل الكبائر وقوله: «أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال برة من إيمان، مثقال حبة من إيمان مثقال ذرة من إيمان» فهذه النصوص كما دلت على أن ذا الكبيرة لا يكفر مع الإيمان وأنه يخرج من النار بالشفاعة خلافا للمبتدعة من الخوارج في الأولى ولهم وللمعتزلة في الثانية نزاع: فقد دلت على أن الإيمان الذي خرجوا به من النار هو حسنة مأمور بها وأنه لا يقاومها شيء من الذنوب وهذا هو.
هامش
[التوبة: 11]
[آل عمران: 97]
[المائدة: 93]
[البقرة: 178]
========
لحسنات تذهب بعقوبة الذنوب
الوجه الرابع
وهو: أن الحسنات التي هي فعل المأمور به تذهب بعقوبة الذنوب والسيئات التي هي فعل المنهي عنه فإن فاعل المنهي يذهب إثمه بالتوبة وهي حسنة مأمور بها وبالأعمال الصالحة المقاومة وهي حسنات مأمور بها وبدعاء النبي ﷺ وشفاعته ودعاء المؤمنين وشفاعتهم وبالأعمال الصالحة التي تهدي إليه وكل ذلك من الحسنات المأمور بها. فما من سيئة هي فعل منهي عنه إلا لها حسنة تذهبها هي فعل مأمور به حتى الكفر سواء كان وجوديا أو عدميا فإن حسنة الإيمان تذهبه كما قال تعالى: { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [1] وقال النبي ﷺ: «الإسلام يجب ما كان قبله وفي رواية يهدم ما كان قبله» رواه مسلم. وأما الحسنات فلا تذهب ثوابها السيئات مطلقا فإن حسنة الإيمان لا تذهب إلا بنقيضها وهو الكفر، لأن الكفر ينافي الإيمان فلا يصير الكافر مؤمنا فلو زال الإيمان زال ثوابه لا لوجود سيئة ولهذا كان كل سيئة لا تذهب بعمل لا يزول ثوابه وهذا متفق عليه بين المسلمين حتى المبتدعة من الخوارج والمعتزلة فإن الخوارج يرون الكبيرة موجبة للكفر المنافي للإيمان والمعتزلة يرونها مخرجة له من الإيمان وإن لم يدخل بها في الكفر وأهل السنة والجماعة يرون أصل إيمانه باقيا فقد اتفقت الطوائف على أنه مع وجود إيمانه لا يزول ثوابه بشيء من السيئات والكفر وإن كانوا متفقين على أن مع وجوده لا يزول عقابه بشيء من الحسنات فذلك لأن الكفر يكفي فيه عدم الإيمان ولا يجب أن يكون أمرا موجودا كما تقدم فعقوبة الكفر هي ترك الإيمان وإن انضم إليها عقوبات على ما فعله من الكفر الوجودي أيضا. وكذلك قد روي في بعض ثواب الطاعات المأمور بها ما يدفع ويرفع عقوبة المعاصي المنهي عنها فإذا كان جنس ثواب الحسنات المأمور بها يدفع عقوبة كل معصية وليس جنس عقوبات السيئات المنهي عنها يدفع ثواب كل حسنة: ثبت رجحان الحسنات المأمور بها على ترك السيئات المنهي عنها. وفي هذا المعنى ما ورد في فضل لا إله إلا الله وأنها تطفئ نار السيئات، مثل حديث البطاقة وغيره.
هامش
[الأنفال: 38]
======
تارك المأمور به عليه قضاؤه وإن تركه لعذر
الوجه الخامس
أن تارك المأمور به عليه قضاؤه وإن تركه لعذر مثل ترك الصوم لمرض أو لسفر ومثل النوم عن الصلاة أو نسيانها ومثل من ترك شيئا من نسكه الواجب فعليه دم أو عليه فعل ما ترك إن أمكن وأما فاعل المنهي عنه إذا كان نائما أو ناسيا أو مخطئا فهو معفو عنه ليس عليه جبران إلا إذا اقترن به إتلاف كقتل النفس والمال. والكفارة فيه هل وجبت جبرا أو زجرا أو محوا؟ فيه نزاع بين الفقهاء. فحاصله أن تارك المأمور به وإن عذر في الترك لخطأ أو نسيان فلا بد له من الإتيان بالمثل أو بالجبران من غير الجنس بخلاف فاعل المنهي عنه فإنه تكفي فيه التوبة إلا في مواضع لمعنى آخر فعلم أن اقتضاء الشارع لفعل المأمور به أعظم من اقتضائه لترك المنهي عنه.
========
قتل من ترك أركان الإسلام الخمسة
الوجه السادس
أن مباني الإسلام الخمس المأمور بها وإن كان ضرر تركها لا يتعدى صاحبها فإنه يقتل بتركها في الجملة عند جماهير العلماء ويكفر أيضا عند كثير منهم أو أكثر السلف وأما فعل المنهي عنه الذي لا يتعدى ضرره صاحبه فإنه لا يقتل به عند أحد من الأئمة ولا يكفر به إلا إذا ناقض الإيمان لفوات الإيمان وكونه مرتدا أو زنديقا. وذلك أن من الأئمة من يقتله ويكفره بترك كل واحدة من الخمس لأن الإسلام بني عليها وهو قول طائفة من السلف ورواية عن أحمد اختارها بعض أصحابه. ومنهم من لا يقتله ولا يكفره إلا بترك الصلاة والزكاة وهي رواية أخرى عن أحمد كما دل عليه ظاهر القرآن في براءة وحديث ابن عمر وغيره ولأنهما منتظمان لحق الحق وحق الخلق كانتظام الشهادتين للربوبية والرسالة ولا بدل لهما من غير جنسهما بخلاف الصيام والحج. ومنهم من يقتله بهما ويكفره بالصلاة وبالزكاة إذا قاتل الإمام عليها كرواية عن أحمد. ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره إلا بالصلاة كرواية عن أحمد. ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره كرواية عن أحمد. ومنهم من لا يقتله إلا بالصلاة ولا يكفره كالمشهور من مذهب الشافعي لإمكان الاستيفاء منه. وتكفير تارك الصلاة هو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين. ومورد النزاع هو فيمن أقر بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها وأما من لم يقر بوجوبها فهو كافر باتفاقهم وليس الأمر كما يفهم من إطلاق بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: أنه إن جحد وجوبها كفر وإن لم يجحد وجوبها فهو مورد النزاع بل هنا ثلاثة أقسام:
أحدها: إن جحد وجوبها فهو كافر بالاتفاق.
والثاني: أن لا يجحد وجوبها لكنه ممتنع من التزام فعلها كبرا أو حسدا أو بغضا لله ورسوله فيقول: اعلم أن الله أوجبها على المسلمين والرسول صادق في تبليغ القرآن ولكنه ممتنع عن التزام الفعل استكبارا أو حسدا للرسول أو عصبية لدينه أو بغضا لما جاء به الرسول فهذا أيضا كافر بالاتفاق فإن إبليس لما ترك السجود المأمور به لم يكن جاحدا للإيجاب فإن الله تعالى باشره بالخطاب وإنما أبى واستكبر وكان من الكافرين. وكذلك أبو طالب كان مصدقا للرسول فيما بلغه لكنه ترك اتباعه حمية لدينه وخوفا من عار الانقياد واستكبارا عن أن تعلو أسته رأسه فهذا ينبغي أن يتفطن له ومن أطلق من الفقهاء أنه لا يكفر إلا من يجحد وجوبها فيكون الجحد عنده متناولا للتكذيب بالإيجاب ومتناولا للامتناع عن الإقرار والالتزام كما قال تعالى: { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ } [1] وقال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [2] وإلا فمتى لم يقر ويلتزم فعلها قتل وكفر بالاتفاق.
والثالث: أن يكون مقرا ملتزما، لكن تركها كسلا وتهاونا، أو اشتغالا بأغراض له عنها فهذا مورد النزاع كمن عليه دين وهو مقر بوجوبه ملتزم لأدائه لكنه يمطل بخلا أو تهاونا. وهنا قسم رابع وهو: أن يتركها ولا يقر بوجوبها، ولا يجحد وجوبها، لكنه مقر بالإسلام من حيث الجملة فهل هذا من موارد النزاع، أو من موارد الإجماع؟ ولعل كلام كثير من السلف متناول لهذا وهو المعرض عنها لا مقرا ولا منكرا.
وإنما هو متكلم بالإسلام فهذا فيه نظر فإن قلنا. يكفر بالاتفاق، فيكون اعتقاد وجوب هذه الواجبات على التعيين من الإيمان لا يكفي فيها الاعتقاد العام، كما في الخبريات من أحوال الجنة والنار والفرق بينهما أن الأفعال المأمور بها المطلوب فيها الفعل لا يكفي فيها الاعتقاد العام بل لا بد من اعتقاد خاص، بخلاف الأمور الخبرية، فإن الإيمان المجمل بما جاء به الرسول من صفات الرب وأمر المعاد يكفي فيه ما لم ينقض الجملة بالتفصيل ولهذا اكتفوا في هذه العقائد بالجمل وكرهوا فيها التفصيل المفضي إلى القتال والفتنة بخلاف الشرائع المأمور بها، فإنه لا يكتفي فيها بالجمل، بل لا بد من تفصيلها علما وعملا. وأما القاتل والزاني والمحارب فهؤلاء إنما يقتلون لعدوانهم على الخلق لما في ذلك من الفساد المتعدي ومن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه حد الله ولا يكفر أحد منهم. وأيضا فالمرتد يقتل لكفره بعد إيمانه: وإن لم يكن محاربا. فثبت أن الكفر والقتل لترك المأمور به أعظم منه لفعل المنهي عنه. وهذا الوجه قوي على مذهب الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد وجمهور السلف ودلائله من الكتاب والسنة متنوعة وأما على مذهب أبي حنيفة فقد يعارض بما قد يقال: إنه لا يوجب قتل أحد على ترك واجب أصلا حتى الإيمان، فإنه لا يقتل إلا المحارب لوجود الحراب منه وهو فعل المنهي عنه ويسوي بين الكفر الأصلي والطارئ فلا يقتل المرتد لعدم الحراب منه ولا يقتل من ترك الصلاة أو الزكاة إلا إذا كان في طائفة ممتنعة فيقاتلهم لوجود الحراب كما يقاتل البغاة وأما المنهي عنه فيقتل القاتل والزاني المحصن والمحارب إذا قتل فيكون الجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الاعتبار عند النزاع بالرد إلى الله وإلى الرسول والكتاب والسنة دال على ما ذكرناه من أن المرتد يقتل بالاتفاق وإن لم يكن من أهل القتال إذا كان أعمى أو زمنا أو راهبا والأسير يجوز قتله بعد أسره وإن كان حرابه قد انقضى.
الثاني: أن ما وجب فيه القتل إنما وجب على سبيل القصاص الذي يعتبر فيه المماثلة، فإن النفس بالنفس، كما تجب المقاصة في الأموال، فجزاء سيئة سيئة مثلها في النفوس والأموال والأعراض والأبشار، لكن إن لم يضر إلا المقتول كان قتله صائرا إلى أولياء المقتول، لأن الحق لهم كحق المظلوم في المال وإن قتله لأخذ المال كان قتله واجبا، لأجل المصلحة العامة التي هي حد الله كما يجب قطع يد السارق لأجل حفظ الأموال، ورد المال المسروق حق لصاحبه إن شاء أخذه وإن شاء تركه فخرجت هذه الصور عن النقض لم يبق ما يوجب القتل عنده بلا مماثلة إلا الزنا وهو من نوع العدوان أيضا ووقوع القتل به نادر، لخفائه وصعوبة الحجة عليه.
الثالث: أن العقوبة في الدنيا لا تدل على كبر الذنب وصغره، فإن الدنيا ليست دار الجزاء وإنما دار الجزاء هي الآخرة ولكن شرع من العقوبات في الدنيا ما يمنع الفساد والعدوان كما قال تعالى: { مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [3] وقالت الملائكة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء } [4]. فهذان السببان اللذان ذكرتهما الملائكة هما اللذان كتب الله على بني إسرائيل القتل بهما، ولهذا يقر كفار أهل الذمة بالجزية مع أن ذنبهم في ترك الإيمان أعظم باتفاق المسلمين من ذنب من نقتله من زان وقاتل. فأبو حنيفة رأى أن الكفر مطلقا إنما يقاتل صاحبه لمحاربته فمن لا حراب فيه لا يقاتل ولهذا يأخذ الجزية من غير أهل الكتاب العرب وإن كانوا وثنيين. وقد وافقه على ذلك مالك وأحمد في أحد قوليه ومع هذا يجوز القتل تعزيرا وسياسة في مواضع. وأما الشافعي فعنده نفس الكفر هو المبيح للدم إلا أن النساء والصبيان تركوا لكونهم مالا للمسلمين فيقتل المرتد لوجود الكفر وامتناع سببها عنده من الكفر بلا منفعة. وأما أحمد فالمبيح عنده أنواع أما الكافر الأصلي فالمبيح عنده هو وجود الضرر منه أو عدم النفع فيه أما الأول فالمحاربة بيد أو لسان فلا يقتل من لا محاربة فيه بحال من النساء والصبيان، والرهبان والعميان، والزمنى ونحوهم كما هو مذهب الجمهور.
وأما المرتد فالمبيح عنده هو الكفر بعد الإيمان وهو نوع خاص من الكفر، فإنه لو لم يقتل ذلك لكان الداخل في الدين يخرج منه فقتله حفظ لأهل الدين وللدين فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه بخلاف من لم يدخل فيه، فإنه إن كان كتابيا أو مشبها له فقد وجد إحدى غايتي القتال في حقه وإن كان وثنيا: فإن أخذت منه الجزية فهو كذلك وإن لم تؤخذ منه ففي جواز استرقاقه نزاع فمتى جاز استرقاقه كان ذلك كأخذ الجزية منه ومتى لم يمكن استرقاقه ولا أخذ الجزية منه بقي كافرا لا منفعة في حياته لنفسه - لأنه يزداد إثما - ولا للمؤمنين، فيكون قتله خيرا من إبقائه. وأما تارك الصلاة والزكاة: فإذا قتل كان عنده من قسم المرتدين لأنه بالإسلام ملتزم لهذه الأفعال فإذا لم يفعلها فقد ترك ما التزمه أو لأنها عنده من الغاية التي يمتد القتال إليها كالشهادتين فإنه لو تكلم بإحداهما وترك الأخرى لقتل لكن قد يفرق بينهما وأما إذا لم ويفرق في المرتد بين الردة المجردة فيقتل إلا أن يتوب وبين الردة المغلظة فيقتل بلا استتابة. فهذه مآخذ فقهية نبهنا بها على بعض أسباب القتل وقد تبين أنهم لا يتنازعون أن ترك المأمور به في الآخرة أعظم وأما في الدنيا فقد ذكرنا ما تقدم.
هامش
[الأنعام: 33]
[النمل: 14]
[المائدة: 32]
[البقرة: 30]
=========
أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية
الوجه السابع
إن أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع فإن النبي ﷺ أمر بقتال الخوارج ونهى عن قتال أئمة الظلم وقال في الذي يشرب الخمر: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» وقال في ذي الخويصرة: «يخرج من ضئضئ هذا أقوام يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين - وفي رواية من الإسلام - كما يمرق السهم من الرمية يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة». وقد قررت هذه القاعدة بالدلائل الكثيرة مما تقدم من القواعد ثم إن أهل المعاصي ذنوبهم فعل بعض ما نهوا عنه: من سرقة أو زنا أو شرب خمر أو أكل مال بالباطل. وأهل البدع ذنوبهم ترك ما أمروا به من اتباع السنة وجماعة المؤمنين فإن الخوارج أصل بدعتهم أنهم لا يرون طاعة الرسول واتباعه فيما خالف ظاهر القرآن عندهم وهذا ترك واجب. وكذلك الرافضة لا يرون عدالة الصحابة ومحبتهم والاستغفار لهم وهذا ترك واجب. وكذلك القدرية لا يؤمنون بعلم الله تعالى القديم ومشيئته الشاملة وقدرته الكاملة وهذا ترك واجب. وكذلك الجبرية لا تثبت قدرة العبد ومشيئته وقد يدفعون الأمر بالقدر وهذا ترك واجب. وكذلك مقتصدة المرجئة مع أن بدعتهم من بدع الفقهاء ليس فيها كفر بلا خلاف عند أحد من الأئمة ومن أدخلهم من أصحابنا في البدع التي حكى فيها التكفير ونصره فقد غلط في ذلك وإنما كان لأنهم لا يرون إدخال الأعمال أو الأقوال في الإيمان وهذا ترك واجب وأما غالية المرجئة الذين يكفرون بالعقاب ويزعمون أن النصوص خوفت بما لا حقيقة له فهذا القول عظيم وهو ترك واجب وكذلك الوعيدية لا يرون اعتقاد خروج أهل الكبائر من النار ولا قبول الشفاعة فيهم وهذا ترك واجب فإن قيل: قد يضمون إلى ذلك اعتقادا محرما: من تكفير وتفسيق وتخليد. قيل: هم في ذلك مع أهل السنة بمنزلة الكفار مع المؤمنين فنفس ترك الإيمان بما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع ضلالة وإن لم يكن معه اعتقاد وجودي فإذا انضم إليه اجتمع الأمران ولو كان معهم أصل من السنة لما وقعوا في البدعة.
=======
أكثر شرك بني آدم من عدم التصديق بالحق
الوجه الثامن
أن ضلال بني آدم وخطأهم في أصول دينهم وفروعه إذا تأملته تجد أكثره من عدم التصديق بالحق، لا من التصديق بالباطل. فما من مسألة تنازع الناس فيها في الغالب إلا وتجد ما أثبته الفريقان صحيحا وإنما تجد الضلال وقع من جهة النفي والتكذيب. مثال ذلك أن الكفار لم يضلوا من جهة ما أثبتوه من وجود الحق وإنما أتوا من جهة ما نفوه من كتابه وسنة رسوله وغير ذلك وحينئذ وقعوا في الشرك وكل أمة مشركة أصل شركها عدم كتاب منزل من السماء وكل أمة مخلصة أصل إخلاصها كتاب منزل من السماء فإن بني آدم محتاجون إلى شرع يكمل فطرهم فافتتح الله الجنس بنبوة آدم كما قال تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا } [1] وهلم جرا. فمن خرج عن النبوات وقع في الشرك وغيره وهذا عام في كل كافر غير كتابي فإنه مشرك وشركه لعدم إيمانه بالرسل الذين قال الله فيهم: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [2]. ولم يكن الشرك أصلا في الآدميين بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله لاتباعهم النبوة قال تعالى: { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ } [3] قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام فبتركهم اتباع شريعة الأنبياء وقعوا في الشرك لا بوقوعهم في الشرك خرجوا عن شريعة الإسلام فإن آدم أمرهم بما أمره الله به حيث قال له: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [4] وقال في الآية الأخرى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [5]. فهذا الكلام الذي خاطب الله به آدم وغيره لما أهبطهم قد تضمن أنه أوجب عليهم اتباع هداه المنزل وهو الوحي الوارد على أنبيائه وتضمن أن من أعرض عنه وإن لم يكذب به فإنه يكون يوم القيامة في العذاب المهين وإن معيشته تكون ضنكا في هذه الحياة وفي البرزخ والآخرة وهي المضنوكة النكدة المحشوة بأنواع الهموم والغموم والأحزان كما أن الحياة الطيبة هي لمن آمن وعمل صالحا. فمن تمسك به فإنه لا يشرك بربه فإن الرسل جميعهم أمروا بالتوحيد وأمروا به قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [6] فبين أنه لا بد أن يوحي بالتوحيد إلى كل رسول وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [7] فبين أنه لم يشرع الشرك قط فهذان النصان قد دلا على أنه أمر بالتوحيد لكل رسول ولم يأمر بالإشراك قط وقد أمر آدم وبنيه من حين أهبط باتباع هداه الذي يوحيه إلى الأنبياء فثبت أن علة الشرك كان من ترك اتباع الأنبياء والمرسلين فيما أمروا به من التوحيد والدين لا أن الشرك كان علة للكفر بالرسل فإن الإشراك والكفر بالرسل متلازمان في الواقع فهذا في الكفار بالنبوات المشركين. وأما أهل الكتاب فإن اليهود لم يؤتوا من جهة ما أقروا به من نبوة موسى والإيمان بالتوراة بل هم في ذلك مهتدون وهو رأس هداهم وإنما أتوا من جهة ما لم يقروا به من رسالة المسيح ومحمد ﷺ كما قال تعالى فيهم: { فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } [8] غضب بكفرهم بالمسيح وغضب بكفرهم بمحمد ﷺ وهذا من باب ترك المأمور به. وكذلك النصارى لم يؤتوا من جهة ما أقروا به من الإيمان بأنبياء بني إسرائيل والمسيح وإنما أتوا من جهة كفرهم بمحمد ﷺ وأما ما وقعوا فيه من التثليث والاتحاد الذي كفروا فيه بالتوحيد والرسالة فهو من جهة عدم اتباعهم لنصوص التوراة والإنجيل المحكمة التي تأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وتبين عبودية المسيح وأنه عبد لله كما أخبر الله عنه بقوله: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [9] فلما تركوا اتباع هذه النصوص إيمانا وعملا وعندهم رغبة في العبادة والتأله ابتدعوا الرهبانية وغلوا في المسيح هوى من عند أنفسهم وتمسكوا بمتشابه من الكلمات لظن ظنوه فيها وهوى اتبعوه خرج بهم عن الحق فهم { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } [10] ولهذا كان سيماهم الضلال كما قال تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } [11]. والضال ضد المهتدي وهو العادل عن طريق الحق بلا علم وعدم العلم المأمور به والهدى بالمأمور ترك واجب فأصل كفرهم ترك الواجب وحينئذ تفرقوا في التثليث والاتحاد ووقعت بينهم العداوة والبغضاء وصاروا ملكية، ويعقوبية، ونسطورية، وغيرهم وهذا المعنى قد بينه القرآن مع أن هذا يصلح أن يكون دليلا مستقلا، لما فيه من بيان أن ترك الواجب سبب لفعل المحرم قال تعالى: { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [12] فهذا نص في أنهم تركوا بعض ما أمروا به فكان تركه سببا لوقوع العداوة والبغضاء المحرمين وكان هذا دليلا على أن ترك الواجب يكون سببا لفعل المحرم كالعداوة والبغضاء والسبب أقوى من المسبب. وكذلك قال في اليهود: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ } [13] فنقض الميثاق ترك ما أمروا به، فإن الميثاق يتضمن واجبات وهي قوله: { وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } [14] الآيات. فقد أخبر تعالى أنه بترك ما أوجبه عليهم من الميثاق وإن كان واجبا بالأمر حصلت لهم هذه العقوبات التي منها فعل هذه المحرمات من قسوة القلوب، وتحريف الكلم عن مواضعه، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به. وأخبر في أثناء السورة أنه ألقى بينهم العداوة والبغضاء في قوله: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } [15] الآية وقد قال المفسرون من السلف مثل قتادة وغيره في فرق النصارى ما أشرنا إليه. وهكذا إذا تأملت أهل الضلال والخطأ من هذه الأمة تجد الأصل ترك الحسنات لا فعل السيئات وأنهم فيما يثبتونه أصل أمرهم صحيح وإنما أتوا من جهة ما نفوه والإثبات فعل حسنة والنفي ترك سيئة فعلم أن ترك الحسنات أضر من فعل السيئات وهو أصله. مثال ذلك: أن الوعيدية من الخوارج وغيرهم فيما يعظمونه من أمر المعاصي والنهي عنها واتباع القرآن وتعظيمه أحسنوا لكن إنما أتوا من جهة عدم اتباعهم للسنة وإيمانهم بما دلت عليه من الرحمة للمؤمن وإن كان ذا كبيرة. وكذلك المرجئة فيما أثبتوه من إيمان أهل الذنوب والرحمة لهم أحسنوا لكن إنما أصل إساءتهم من جهة ما نفوه من دخول الأعمال في الإيمان وعقوبات أهل الكبائر. فالأولون بالغوا في النهي عن المنكر، وقصروا في الأمر بالمعروف. وهؤلاء قصروا في النهي عن المنكر وفي الأمر بكثير من المعروف. وكذلك القدرية هم في تعظيم المعاصي وذم فاعلها وتنزيه الله تعالى عن الظلم وفعل القبيح محسنون وإنما أساءوا في نفيهم مشيئة الله الشاملة وقدرته الكاملة وعلمه القديم أيضا. وكذلك الجهمية، فإن أصل ضلالهم إنما هو التعطيل وجحد ما جاءت به الرسل عن الله عز وجل من أسمائه وصفاته. والأمر فيهم ظاهر جدا. ولهذا قلنا غير مرة أن الرسل جاءوا بالإثبات المفصل والنفي المجمل والكفار من المتفلسفة الصابئين والمشركين جاءوا بالنفي المفصل والإثبات المجمل والإثبات فعل حسنات مأمور بها إيجابا واستحبابا والنفي ترك سيئات أو حسنات مأمور بها فعلم أن ضلالهم من باب ترك الواجب وترك الإثبات. وبالجملة فالأمور نوعان: إخبار، وإنشاء. فالإخبار ينقسم إلى إثبات ونفي: إيجاب وسلب كما يقال في تقسيم القضايا إلى إيجاب وسلب. والإنشاء فيه الأمر والنهي. فأصل الهدى ودين الحق هو: إثبات الحق الموجود، وفعل الحق المقصود، وترك المحرم، ونفي الباطل تبع. وأصل الضلال ودين الباطل: التكذيب بالحق الموجود وترك الحق المقصود ثم فعل المحرم وإثبات الباطل تبع لذلك. فتدبر هذا فإنه أمر عظيم تنفتح لك به أبواب من الهدى.
هامش
[المائدة: 64]
[البقرة: 31]
[النحل: 36]
[يونس: 19]
[البقرة: 38، 39]
[طه: 123: 126]
[الأنبياء: 25]
[الزخرف: 45]
[البقرة: 90]
[المائدة: 117]
[النجم: 23]
[المائدة: 77]
[المائدة: 14]
[المائدة: 13]
[المائدة: 12، 13]
===================================
فصل في أقوال الصحابة
وأما أقوال الصحابة؛ فإن انتشرت ولم تنكر في زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء وإن تنازعوا رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول. ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له باتفاق العلماء وإن قال بعضهم قولا ولم يقل بعضهم بخلافه ولم ينتشر؛ فهذا فيه نزاع وجمهور العلماء يحتجون به كأبي حنيفة. ومالك؛ وأحمد في المشهور عنه؛ والشافعي في أحد قوليه وفي كتبه الجديدة الاحتجاج بمثل ذلك في غير موضع ولكن من الناس من يقول: هذا هو القول القديم.
======
سئل عن الاجتهاد والاستدلال والتقليد والاتباع
وسئل عن الاجتهاد والاستدلال والتقليد والاتباع.
فأجاب: أما التقليد الباطل المذموم فهو: قبول قول الغير بلا حجة قال الله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئا وَلاَ يَهْتَدُونَ } في البقرة [1] وفي المائدة وفي لقمان { أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ } [2] وفي الزخرف: { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ } [3] وفي الصافات: { إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } [4] وقال: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } [5] الآيات. وقال: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } [6] وقال: { فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ } [7] وفي الآية الأخرى: { مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ } [8] وقال: { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ } [9]. فهذا الاتباع والتقليد الذي ذمه الله هو اتباع الهوى إما للعادة والنسب كاتباع الآباء وإما للرئاسة كاتباع الأكابر والسادة والمتكبرين فهذا مثل تقليد الرجل لأبيه أو سيده أو ذي سلطانه وهذا يكون لمن لم يستقل بنفسه وهو الصغير: فإن دينه دين أمه فإن فقدت فدين ملكه وأبيه: فإن فقد كاللقيط فدين المتولي عليه وهو أهل البلد الذي هو فيه فأما إذا بلغ وأعرب لسانه فإما شاكرا وإما كفورا. وقد بين الله أن الواجب الإعراض عن هذا التقليد إلى اتباع ما أنزل الله على رسله؛ فإنهم حجة الله التي أعذر بها إلى خلقه. والكلام في التقليد في شيئين: في كونه حقا؛ أو باطلا من جهة الدلالة. وفي كونه مشروعا؛ أو غير مشروع من جهة الحكم. أما الأول فإن التقليد المذكور لا يفيد علما؟ فإن المقلد يجوز أن يكون مقلده مصيبا: ويجوز أن يكون مخطئا وهو لا يعلم أمصيب هو أم مخطئ؟ فلا تحصل له ثقة ولا طمأنينة فإن علم أن مقلده مصيب كتقليد الرسول أو أهل الإجماع فقد قلده بحجة وهو العلم بأنه عالم وليس هو التقليد المذكور وهذا التقليد واجب؛ للعلم بأن الرسول معصوم؛ وأهل الإجماع معصومون. وأما تقليد العالم حيث يجوز فهو بمنزلة اتباع الأدلة المتغلبة على الظن. كخبر الواحد والقياس؛ لأن المقلد يغلب على ظنه إصابة العالم المجتهد كما يغلب على ظنه صدق المخبر لكن بين اتباع الراوي والرأي فرق يذكر إن شاء الله في موضع آخر. فإن اتباع الراوي واجب لأنه انفرد بعلم ما أخبر به: بخلاف الرأي فإنه يمكن أن يعلم من حيث علم ولأن غلط الرواية بعيد؛ فإن ضبطها سهل؛ ولهذا نقل عن النساء والعامة بخلاف غلط الرأي فإنه كثير؛ لدقة طرقه وكثرتها وهذا هو العرف لمن يجوز قبول الخبر مع إمكان مراجعة المخبر عنه ولا يجوز قبول المعنى مع إمكان معرفة الدليل. وأما العرف الأول فمتفق عليه بين أهل العلم؛ ولهذا يوجبون اتباع الخبر ولا يوجب أحد تقليد العالم على من أمكنه الاستدلال وإنما يختلفون في جوازه؛ لأنه يمكنه أن يعلم من حيث علم فهذه جملة. وأما تفصيلها فنقول: الناس في الاستدلال والتقليد على طرفي نقيض منهم من يوجب الاستدلال حتى في المسائل الدقيقة: أصولها وفروعها على كل أحد. ومنهم من يحرم الاستدلال في الدقيق على كل أحد وهذا في الأصول والفروع وخيار الأمور أوساطها.
هامش
[النحل: 25]
[البقرة: 170]
[لقمان: 21]
[الزخرف: 24]
[الصافات: 69، 70]
[الأحزاب: 66، 67]
[البقرة: 166]
[غافر: 47]
[إبراهيم: 21]
=====
سئل هل كل مجتهد مصيب
وسئل هل كل مجتهد مصيب؟ أو المصيب واحد والباقي مخطئون؟.
فأجاب: قد بسط الكلام في هذه المسألة في غير موضع وذكر نزاع الناس فيها وذكر أن لفظ الخطأ قد يراد به الإثم؛ وقد يراد به عدم العلم. فإن أريد الأول فكل مجتهد اتقى الله ما استطاع فهو مصيب؛ فإنه مطيع لله ليس بآثم ولا مذموم. وإن أريد الثاني فقد يخص بعض المجتهدين بعلم خفي على غيره؛ ويكون ذلك علما بحقيقة الأمر لو اطلع عليه الآخر لوجب عليه اتباعه؛ لكن سقط عنه وجوب اتباعه لعجزه عنه وله أجر على اجتهاده ولكن الواصل إلى الصواب له أجران كما قال النبي ﷺ في الحديث المتفق على صحته: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر». ولفظ الخطا يستعمل في العمد وفي غير العمد قال تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا } [1] والأكثرون يقرءون خطئا على وزن ردءا وعلما. وقرأ ابن عامر خطا على وزن عملا كلفظ الخطأ في قوله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا } [2]. وقرأ ابن كثير خطاء على وزن هجاء. وقرأ ابن رزين خطاء على وزن شرابا. وقرأ الحسن وقتادة خطا على وزن قتلا. وقرأ الزهري خطا بلا همز على وزن عدى. قال الأخفش: خطا يخطأ بمعنى: أذنب وليس معنى أخطأ؛ لأن أخطأ في ما لم يصنعه عمدا يقول فيما أتيته عمدا خطيت؛ وفيما لم يتعمده: أخطأت. وكذلك قال أبو بكر ابن الأنباري الخطأ: الإثم يقال: قد خطا يخطأ إذا أثم وأخطأ يخطئ إذا فارق الصواب. وكذلك قال ابن الأنباري في قوله: { تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } [3] فإن المفسرين كابن عباس وغيره: قالوا لمذنبين آثمين في أمرك وهو كما قالوا فإنهم قالوا: { قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [4] وكذلك قال العزيز لامرأته: { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } [5] قال ابن الأنباري: ولهذا اختير خاطئين على مخطئين وإن كان أخطأ على ألسن الناس أكثر من خطا يخطي؛ لأن معنى خطا يخطي فهو خاطئ: آثم ومعنى أخطأ يخطئ: ترك الصواب ولم يأثم. قال عبادك يخطئون وأنت رب تكفل المنايا والحتوم وقال الفراء: الخطأ: الإثم الخطا والخطا والخطاء ممدود. ثلاث اللغات. قلت: يقال في العمد: خطأ كما يقال في غير العمد على قراءة ابن عامر فيقال لغير المتعمد: أخطأت كما يقال له: خطيت ولفظ الخطيئة من هذا. ومنه قوله تعالى: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا } [6] وقول السحرة: { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } [7]. ومنه قوله في الحديث الصحيح الإلهي: «يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم» وفي الصحيحين عن أبي موسى؛ عن النبي ﷺ أنه كان يقول في دعائه: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي؛ وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي». وفي الصحيحين «عن أبي هريرة؛ عن النبي ﷺ أنه قال: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد». والذين قالوا: كل مجتهد مصيب والمجتهد لا يكون على خطأ وكرهوا أن يقال للمجتهد: إنه أخطأ هم وكثير من العامة يكره أن يقال عن إمام كبير: إنه أخطأ وقوله أخطأ لأن هذا اللفظ يستعمل في الذنب كقراءة ابن عامر: إنه كان خطئا كبيرا ولأنه يقال في العامد: أخطأ يخطئ كما قال: «يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم» فصار لفظ الخطأ وأخطأ قد يتناول النوعين كما يخص غير العامل وأما لفظ الخطيئة فلا يستعمل إلا في الإثم. والمشهور أن لفظ الخطأ يفارق العمد كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا } [8] الآية ثم قال بعد ذلك: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } [9]. وقد بين الفقهاء أن الخطأ ينقسم إلى خطأ في الفعل؛ وإلى خطأ في القصد. فالأول: أن يقصد الرمي إلى ما يجوز رميه من صيد وهدف فيخطئ بها وهذا فيه الكفارة والدية. والثاني: أن يخطئ في قصده لعدم العلم؛ كما أخطأ هناك لضعف القوة وهو أن يرمي من يعتقده مباح الدم ويكون معصوم الدم كمن قتل رجلا في صفوف الكفار ثم تبين أنه كان مسلما والخطأ في العلم هو من هذا النوع؛ ولهذا قيل في أحد القولين: إنه لا دية فيه لأنه مأمور به بخلاف الأول. وأيضا فقد قال تعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } ففرق بين النوعين وقال تعالى: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [10] ؛ وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال: " قد فعلت ". فلفظ الخطأ وأخطأ عند الإطلاق يتناول غير العامد وإذا ذكر مع النسيان أو ذكر في مقابلة العامد كان نصا فيه وقد يراد به مع القرينة العمد أو العمد والخطأ جميعا كما في قراءة ابن عامر؛ وفي الحديث الإلهي - إن كان لفظه كما يرويه عامة المحدثين - تخطئون بالضم. وأما اسم الخاطئ فلم يجئ في القرآن إلا للإثم بمعنى الخطيئة كقوله: { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } [11] وقوله: { تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } [12] وقوله: { يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [13] وقوله: { لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ } [14]. وإذا تبين هذا فكل مجتهد مصيب غير خاطئ وغير مخطئ أيضا إذا أريد بالخطأ الإثم على قراءة ابن عامر ولا يكون من مجتهد خطأ وهذا هو الذي أراده من قال: كل مجتهد مصيب وقالوا: الخطأ والإثم متلازمان فعندهم لفظ الخطأ كلفظ الخطيئة على قراءة ابن عامر وهم يسلمون أنه يخفى عليه بعض العلم الذي عجز عنه لكن لا يسمونه خطأ؛ لأنه لم يؤمر به وقد يسمونه خطأ إضافيا بمعنى: أنه أخطأ شيئا لو علمه لكان عليه أن يتبعه وكان هو حكم الله في حقه؛ ولكن الصحابة والأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - وجمهور السلف يطلقون لفظ الخطأ على غير العمد؛ وإن لم يكن إثما كما نطق بذلك القرآن والسنة في غير موضع كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر». وقال غير واحد من الصحابة كابن مسعود: أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان؛ والله ورسوله بريئان منه. وقال علي في قصة التي أرسل إليها عمر فأسقطت - لما قال له عثمان وعبد الرحمن رضي الله عنهما: أنت مؤدب ولا شيء عليك - إن كانا اجتهدا فقد أخطآ وإن لم يكونا اجتهدا فقد غشاك. وأحمد يفرق في هذا الباب فإذا كان في المسألة حديث صحيح لا معارض له كان من أخذ بحديث ضعيف أو قول بعض الصحابة مخطئا وإذا كان فيها حديثان صحيحان نظر في الراجح فأخذ به؛ ولا يقول لمن أخذ بالآخر إنه مخطئ وإذا لم يكن فيها نص اجتهد فيها برأيه قال: ولا أدري أصبت الحق أم أخطأته؟ ففرق بين أن يكون فيها نص يجب العمل به وبين أن لا يكون كذلك وإذا عمل الرجل بنص وفيها نص آخر خفي عليه لم يسمه مخطئا؛ لأنه فعل ما وجب عليه؛ لكن هذا التفصيل في تعيين الخطأ فإن من الناس من يقول: لا أقطع بخطأ منازعي في مسائل الاجتهاد. ومنهم من يقول: أقطع بخطئه. وأحمد فصل وهو الصواب. وهو إذا قطع بخطئه بمعنى عدم العلم لم يقطع بإثمه هذا لا يكون إلا في من علم أنه لم يجتهد. وحقيقة الأمر أنه إذا كان فيها نص خفي على بعض المجتهدين وتعذر عليه علمه ولو علم به لوجب عليه اتباعه؛ لكنه لما خفي عليه اتبع النص الآخر وهو منسوخ أو مخصوص: فقد فعل ما وجب عليه بحسب قدرته كالذين صلوا إلى بيت المقدس بعد أن نسخت وقبل أن يعلموا بالنسخ وهذا لأن حكم الخطاب لا يثبت في حق المكلفين إلا بعد تمكنهم من معرفته في أصح الأقوال وقيل: يثبت معنى وجوب القضاء لا بمعنى الإثم وقيل يثبت في الخطاب المبتدأ دون الناسخ والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وغيره. وإذا كان كذلك فما لم يسمعه المجتهد من النصوص الناسخة أو المخصوصة فلم تمكنه معرفته فحكمه ساقط عنه وهو مطيع لله في عمله بالنص المنسوخ والعام ولا إثم عليه فيه. وهنا تنازع الناس على ثلاثة أقوال: قيل: عليه اتباع الحكم الباطن؛ وأنه إذا أخطأ كان مخطئا عند الله وفي الحكم تارك لما أمر به مع قولهم: إنه لا إثم عليه وهذا تناقض فإن من ترك ما أمر به فهو آثم؛ فكيف يكون تاركا لمأمور به وهو غير آثم وقيل: بل لم يؤمر قط بالحكم الباطن ولا هو حكم في حقه ولا أخطأ حكم الله ولا لله في الباطن حكم في حقه غير ما حكم به؛ ولا يقال له: أخطأ؛ فإن الخطأ عندهم ملازم للإثم وهم يسلمون أنه لو علمه لوجب عليه العمل به ولكان حكما في حقه فكان النزاع لفظيا وقد خالفوا في منع اللفظ في الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأيضا فقولهم: ليس في الباطن حكم خطأ؛ بل حكم الله في الباطن هو ما جاء به النص الناسخ والخاص ولكن لا يجب عليه أن يعمل به حتى يتمكن من معرفته فسقط عنه لعجزه. وقيل: كان حكم الله في حقه هو الأمر الباطن ولكن لما اجتهد فغلب على ظنه أن هذا هو حكم الله انتقل حكم الله في حقه؛ فصار مأمورا بهذا. والصحيح: ما قاله أحمد وغيره: أن عليه أن يجتهد فالواجب عليه الاجتهاد؛ ولا يجب عليه إصابته في الباطن إذا لم يكن قادرا عليه وإنما عليه أن يجتهد؛ فإن ترك الاجتهاد أثم وإذا اجتهد ولم يكن في قدرته أن يعلم الباطن لم يكن مأمورا به مع العجز ولكن هو مأمور به وهو حكم الله في حقه بشرط أن يتمكن منه. ومن قال: إنه حكم الله في الباطن بهذا الاعتبار فقد صدق وإذا اجتهد فبين الله له الحق في الباطن فله أجران كما قال تعالى: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } [15] ولا نقول: إن حكم الله انتقل في حقه فكان مأمورا قبل الاجتهاد بالحق للباطن ثم صار مأمورا بعد الاجتهاد لما ظنه بل ما زال مأمورا بأن يجتهد ويتقي الله ما استطاع وهو إنما أمر بالحق لكن بشرط أن يقدر عليه. فإذا عجز عنه لم يؤمر به وهو مأمور بالاجتهاد فإذا كان اجتهاده اقتضى قولا آخر فعليه أن يعمل به؛ لا لأنه أمر بذلك القول بل لأن الله أمره أن يعمل بما يقتضيه اجتهاده وبما يمكنه معرفته وهو لم يقدر إلا على ذلك القول فهو مأمور به من جهة أنه مقدوره لا من جهة عينه كالمجتهدين في القبلة إذا صلوا إلى أربع جهات فالمصيب للقبلة واحد والجميع فعلوا ما أمروا به لا إثم عليهم وتعيين القبلة سقط عن العاجزين عن معرفتها وصار الواجب على كل أحد أن يفعل ما يقدر عليه من الاجتهاد وهو ما يعتقد أنه الكعبة بعد اجتهاده فهو مأمور بعين الصواب لكن بشرط القدرة على معرفته ومأمور بما يعتقد أنه الصواب وأنه الذي يقدر عليه وإذا رآه لم يتعين من جهة الشارع - صلوات الله وسلامه عليه - بل من جهة قدرته لكن إذا كان متبعا لنص ولم يبلغه ناسخه فهو مأمور باتباعه إلى أن يعلم الناسخ فإن المنسوخ كان حكم الله في حقه باطنا وظاهرا وذلك لا يقبل إلا بعد بلوغ الناسخ له. وأما اللفظ العام إذا كان مخصوصا فقد يقال: صورة التخصيص لم يردها الشارع لكن هو اعتقد أنه أرادها لكونه لم يعلم التخصيص. وهكذا يقال فيما نسخ من النصوص قبل أن يجب العمل به على المجتهد كالنصوص التي نسخت في حياة النبي ﷺ ولم يعلم بعض الناس بنسخها؛ وقد بلغه المنسوخ بها لا يقال: إن المنسوخ ثبت حكمه في حقه باطنا وظاهرا كما قيل في أهل القبلة الذين وجب عليهم استقبالها باطنا وظاهرا قبل النسخ ولكن يقال: من لم يبلغه النص الناسخ وبلغه النص الآخر فعليه اتباعه والعمل به وعلى هذا فتختلف الأحكام في حق المجتهدين بحسب القدرة على معرفة الدليل فمن كان غير متمكن من معرفة الدليل الراجح كالناسخ والمخصص؛ فهذا حكم الله من جهة العمل بما قدر عليه من الأدلة وإن كان في نفس الأمر دليل معارض راجح لم يتمكن من معرفته فليس عليه اتباعه إلا إذا قدر على ذلك. وعلى هذا فالآية إذا احتملت معنيين وكان ظهور أحدهما غير معلوم لبعض الناس بل لم يعلم إلا ما لا يظهر للآخر؛ كان الواجب عليه العمل بما دله على ذلك المعنى؛ وإن كان غيره عليه العمل بما دله على المعنى الآخر؛ وكل منهما فعل ما وجب عليه لكن حكم الله في نفس الأمر واحد بشرط القدرة. وإذا قيل فما فعله ذاك أمره الله به أيضا قيل: لم يأمر به عينيا بل أمره أن يتقي الله ما استطاع؛ ويعمل بما ظهر له ولم يظهر له إلا هذا؛ فهو مأمور به من جهة جنس المقدور والمعلوم والظاهر بالنسبة إلى المجتهد؛ ليس مأمورا به من جهة عينه نفسه فمن قال: لم يؤمر به فقد أصاب. ومن قال: هو مأمور به من جهة أنه هو الذي قدر عليه وعلمه وظهر له ودل عليه الدليل فقد أصاب كما لو شهد شاهدان عند الحاكم وقد غلطا في الشهادة فهو مأمور أن يحكم بشهادة ما شهدا به مطلقا لم يؤمر بغير ما شهدا به في هذه القضية. ولهذا قال ﷺ: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار» فهو إذا ظهرت له حجة أحدهما فلم يذكر الآخر حجته فقد عمل بما ظهر له ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وهو مطيع لله في حقه من جهة قدرته وعلمه لا من جهة كون ذلك المعين أمر الله به؛ فإن الله لا يأمر بالباطل والظلم والخطأ ولكن لا يكلف نفسا إلا وسعها وهذا يتناول الأحكام النبوية والخبرية. والمجتهد المخطئ له أجر؛ لأن قصده الحق وطلبه بحسب وسعه وهو لا يحكم إلا بدليل كحكم الحاكم بإقرار الخصم بما عليه ويكون قد سقط بعد ذلك بإبراء أو قضاء ولم يقم به حجة وحكمه بالبراءة مع اليمين ويكون قد اشتغلت الذمة باقتراض أو ابتياع أو غير ذلك لكن لم يقم به حجة وحكم لرب اليد مع اليمين ويكون قد انتقل الملك عنه أو يده يد غاصب؛ لكن لم يقم به حجة. وكذلك الأدلة العامة؛ يحكم المجتهد بعمومه وما يخصه ولم يبلغه؛ أو بنص وقد نسخ ولم يبلغه؛ أو يقول بقياس ظهر وفيه التسوية؛ وتكون تلك الصورة امتازت بفرق مؤثر؛ وتعذرت عليه معرفته؛ فإن تأثير الفرق قد يكون بنص لم يبلغه وقد يكون وصفا خفيا. ففي الجملة الأجر هو على اتباعه الحق بحسب اجتهاده؛ ولو كان في الباطن حق يناقضه هو أولى بالاتباع لو قدر على معرفته؛ لكن لم يقدر فهذا كالمجتهدين في جهات الكعبة وكذلك كل من عبد عبادة نهي عنها ولم يعلم بالنهي - لكن هي من جنس المأمور به - مثل من صلى في أوقات النهي وبلغه الأمر العام بالصلاة ولم يبلغه النهي أو تمسك بدليل خاص مرجوح مثل صلاة جماعة من السلف ركعتين بعد العصر؛ لأن النبي ﷺ صلاهما ومثل صلاة رويت فيها أحاديث ضعيفة أو موضوعة كألفية نصف شعبان وأول رجب وصلاة التسبيح كما جوزها ابن المبارك وغير ذلك؛ فإنها إذا دخلت في عموم استحباب الصلاة ولم يبلغه ما يوجب النهي أثيب على ذلك وإن كان فيها نهي من وجه لم يعلم بكونها بدعة تتخذ شعارا ويجتمع عليها كل عام فهو مثل أن يحدث صلاة سادسة؛ ولهذا لو أراد أن يصلي مثل هذه الصلاة بلا حديث لم يكن له ذلك لكن لما روي الحديث اعتقد أنه صحيح فغلط في ذلك فهذا يغفر له خطؤه ويثاب على جنس المشروع. وكذلك من صام يوم العيد ولم يعلم بالنهي. بخلاف ما لم يشرع جنسه مثل الشرك فإن هذا لا ثواب فيه وإن كان الله لا يعاقب صاحبه إلا بعد بلوغ الرسالة كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [16] لكنه وإن كان لا يعذب فإن هذا لا يثاب بل هذا كما قال تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا } [17] قال ابن المبارك: هي الأعمال التي عملت لغير الله. وقال مجاهد: هي الأعمال التي لم تقبل. وقال تعالى: { مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ } [18] الآية فهؤلاء أعمالهم باطلة لا ثواب فيها. وإذا نهاهم الرسول عنها فلم ينتهوا عوقبوا فالعقاب عليها مشروط بتبليغ الرسول وأما بطلانها في نفسها فلأنها غير مأمور بها فكل عبادة غير مأمور بها فلا بد أن ينهى عنها. ثم إن علم أنها منهي عنها وفعلها استحق العقاب فإن لم يعلم لم يستحق العقاب وإن اعتقد أنها مأمور بها وكانت من جنس المشروع فإنه يثاب عليها وإن كانت من جنس الشرك فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به لكن قد يحسب بعض الناس في بعض أنواعه أنه مأمور به. وهذا لا يكون مجتهدا؛ لأن المجتهد لا بد أن يتبع دليلا شرعيا وهذه لا يكون عليها دليل شرعي لكن قد يفعلها باجتهاد مثله: وهو تقليده لمن فعل ذلك من الشيوخ والعلماء والذين فعلوا ذلك قد فعلوه لأنهم رأوه ينفع؛ أو لحديث كذب سمعوه. فهؤلاء إذا لم تقم عليهم الحجة بالنهي لا يعذبون وأما الثواب فإنه قد يكون ثوابهم أنهم أرجح من أهل جنسهم وأما الثواب بالتقرب إلى الله فلا يكون بمثل هذه الأعمال.
هامش
[الإسراء: 31]
[النساء: 92]
[يوسف: 91]
[يوسف: 97]
[يوسف: 29]
[نوح: 25]
[الشعراء: 51]
[النساء: 92]
[النساء: 93]
[البقرة: 286]
[يوسف: 29]
[يوسف: 91]
[يوسف: 97]
[الحاقة: 37]
[الأنبياء: 79]
[الإسراء: 15]
[الفرقان: 23]
[إبراهيم: 18]
=========
فصل في الخطأ المغفور في الاجتهاد
والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية كما قد بسط في غير موضع كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته أو اعتقد أن الله لا يرى؛ لقوله: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } [1] ولقوله: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } [2] كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي ﷺ وإنما يدلان بطريق العموم. وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى وفسروا قوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [3] بأنها تنتظر ثواب ربها كما نقل عن مجاهد وأبي صالح. أو من اعتقد أن الميت لا يعذب ببكاء الحي؛ لاعتقاده أن قوله: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [4] يدل على ذلك؛ وأن ذلك يقدم على رواية الراوي لأن السمع يغلط كما اعتقد ذلك طائفة من السلف والخلف. أو اعتقد أن الميت لا يسمع خطاب الحي؛ لاعتقاده أن قوله: { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } [5] يدل على ذلك. أو اعتقد أن الله لا يعجب كما اعتقد ذلك شريح؛ لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب والله منزه عن الجهل. أو اعتقد أن عليا أفضل الصحابة؛ لاعتقاده صحة حديث الطير؛ وأن النبي ﷺ قال: «اللهم ائتني بأحب الخلق إليك؛ يأكل معي من هذا الطائر». أو اعتقد أن من جس للعدو وأعلمهم بغزو النبي ﷺ فهو منافق، كما اعتقد ذلك عمر في حاطب وقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق. أو اعتقد أن من غضب لبعض المنافقين غضبة فهو منافق؛ كما اعتقد ذلك أسيد بن حضير في سعد بن عبادة وقال: إنك منافق تجادل عن المنافقين. أو اعتقد أن بعض الكلمات أو الآيات أنها ليست من القرآن؛ لأن ذلك لم يثبت عنده بالنقل الثابت كما نقل عن غير واحد من السلف أنهم أنكروا ألفاظا من القرآن كإنكار بعضهم: { وَقَضَى رَبُّكَ } [6] وقال: إنما هي ووصى ربك. وإنكار بعضهم قوله: { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ } [7] وقال: إنما هو ميثاق بني إسرائيل وكذلك هي في قراءة عبد الله. وإنكار بعضهم { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ } [8] إنما هي أولم يتبين الذين آمنوا. وكما أنكر عمر على هشام بن الحكم لما رآه يقرأ سورة الفرقان على غير ما قرأها. وكما أنكر طائفة من السلف على بعض القراء بحروف لم يعرفوها حتى جمعهم عثمان على المصحف الإمام. وكما أنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي؛ لاعتقادهم أن معناه أن الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به. وأنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي؛ لكونهم ظنوا أن الإرادة لا تكون إلا بمعنى المشيئة لخلقها وقد علموا أن الله خالق كل شيء؛ وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والقرآن قد جاء بلفظ الإرادة بهذا المعنى وبهذا المعنى لكن كل طائفة عرفت أحد المعنيين وأنكرت الآخر.
= وكالذي قال لأهله: إذا أنا مت فأحرقوني: ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. وكما قد ذكره طائفة من السلف في قوله: { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } [9] وفي قول الحواريين: { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء } [10] وكالصحابة الذين سألوا النبي ﷺ هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فلم يكونوا يعلمون أنهم يرونه؛ وكثير من الناس لا يعلم ذلك؛ إما لأنه لم تبلغه الأحاديث وإما لأنه ظن أنه كذب وغلط.
هامش
[الأنعام: 103]
[الشورى: 51]
[الحاقة: 22، 23]
[الإسراء: 15]
[النمل: 80]
[الإسراء: 23]
[آل عمران: 81]
[الرعد: 31]
[البلد: 5]
[المائدة: 112]
=========
فصل في التفريق في الأحكام قبل الرسالة وبعدها
وقد فرق الله بين ما قبل الرسالة وما بعدها في أسماء وأحكام وجمع بينهما في أسماء وأحكام وذلك حجة على الطائفتين: على من قال: إن الأفعال ليس فيها حسن وقبيح. ومن قال: إنهم يستحقون العذاب على القولين. أما الأول فإنه سماهم ظالمين وطاغين ومفسدين؛ لقوله: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } [1] وقوله: { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ } [2] وقوله: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [3] فأخبر أنه ظالم وطاغ ومفسد هو وقومه وهذه أسماء ذم الأفعال؛ والذم إنما. يكون في الأفعال السيئة القبيحة فدل ذلك على أن الأفعال تكون قبيحة مذمومة قبل مجيء الرسول إليهم لا يستحقون العذاب إلا بعد إتيان الرسول إليهم؛ لقوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [4]. وكذلك أخبر عن هود أنه قال لقومه: { اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } [5] فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه؛ لكونهم جعلوا مع الله إلها آخر فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة؛ فإنه يشرك بربه ويعدل به ويجعل معه آلهة أخرى ويجعل له أندادا قبل الرسول ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها وكذلك اسم الجهل والجاهلية يقال: جاهلية وجاهلا قبل مجيء الرسول وأما التعذيب فلا. والتولي عن الطاعة كقوله: { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [6] فهذا لا يكون إلا بعد الرسول مثل قوله عن فرعون. { فَكَذَّبَ وَعَصَى } [7] كان هذا بعد مجيء الرسول إليه كما قال تعالى: { فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى } [8] وقال: { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } [9].
هذا آخر ما وجد.
هامش
[النازعات: 17]
[الشعراء: 10، 11]
[القصص: 4]
[الإسراء: 15]
[هود: 50]
[القيامة: 31، 32]
[النازعات: 21]
[النازعات: 21، 22]
[المزمل: 16]
=====
سئل هل كان البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم مجتهدين أم مقلدين
وسئل أيضا رضي الله عنه:
هل البخاري؛ ومسلم؛ وأبو داود؛ والترمذي؛ والنسائي؛ وابن ماجه؛ وأبو داود الطيالسي؛ والدارمي؛ والبزار؛ والدارقطني؛ والبيهقي؛ وابن خزيمة؛ وأبو يعلى الموصلي هل كان هؤلاء مجتهدين لم يقلدوا أحدا من الأئمة؛ أم كانوا مقلدين؟ وهل كان من هؤلاء أحد ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة؟ وهل إذا وجد في موطأ مالك: عن يحيى بن سعيد؛ عن إبراهيم بن محمد بن الحارث التيمي؛ عن عائشة. ووجد في البخاري: حدثني معاذ بن فضالة؛ قال: حدثنا هشام عن يحيى هو ابن أبي كثير؛ عن أبي سلمة؛ عن أبي هريرة. فهل يقال أن هذا أصح من الذي في الموطأ؟ وهل إذا كان الحديث في البخاري بسند وفي الموطأ بسند فهل يقال: إن الذي في البخاري أصح؟ وإذا روينا عن رجال البخاري حديثا ولم يروه البخاري في صحيحه فهل يقال. هو مثل الذي في الصحيح؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين. أما البخاري؛ وأبو داود فإمامان في الفقه من أهل الاجتهاد. وأما مسلم؛ والترمذي؛ والنسائي؛ وابن ماجه؛ وابن خزيمة؛ وأبو يعلى؛ والبزار؛ ونحوهم؛ فهم على مذهب أهل الحديث ليسوا مقلدين لواحد بعينه من العلماء ولا هم من الأئمة المجتهدين على الإطلاق بل هم يميلون إلى قول أئمة الحديث كالشافعي؛ وأحمد؛ وإسحاق وأبي عبيد؛ وأمثالهم. ومنهم من له اختصاص ببعض الأئمة كاختصاص أبي داود ونحوه بأحمد بن حنبل وهم إلى مذاهب أهل الحجاز - كمالك وأمثاله - أميل منهم إلى مذاهب أهل العراق - كأبي حنيفة والثوري -. وأما أبو داود الطيالسي فأقدم من هؤلاء كلهم من طبقة يحيى بن سعيد القطان؛ ويزيد بن هارون الواسطي؛ وعبد الله بن داود. ووكيع بن الجراح؛ وعبد الله بن إدريس؛ ومعاذ بن معاذ؛ وحفص بن غياث؛ وعبد الرحمن بن مهدي؛ وأمثال هؤلاء من طبقة شيوخ الإمام أحمد. وهؤلاء كلهم يعظمون السنة والحديث ومنهم من يميل إلى مذهب العراقيين كأبي حنيفة والثوري ونحوهما كوكيع ويحيى بن سعيد، ومنهم من يميل إلى مذهب المدنيين: مالك ونحوه كعبد الرحمن بن مهدي. وأما البيهقي فكان على مذهب الشافعي؛ منتصرا له في عامة أقواله. والدارقطني هو أيضا يميل إلى مذهب الشافعي وأئمة السند والحديث لكن ليس هو في تقليد الشافعي كالبيهقي مع أن البيهقي له اجتهاد في كثير من المسائل واجتهاد الدارقطني أقوى منه؛ فإنه كان أعلم وأفقه منه.
=======
القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي
وقال شيخ الإسلام
القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي قال: فمتى ما وقع عنده وحصل في قلبه ما بطن معه إن هذا الأمر أو هذا الكلام أرضى لله ورسوله كان هذا ترجيحا بدليل شرعي والذين أنكروا كون الإلهام ليس طريقا إلى الحقائق مطلقا أخطئوا فإذا اجتهد العبد في طاعة الله وتقواه كان ترجيحه لما رجح أقوى من أدلة كثيرة ضعيفة فإلهام مثل هذا دليل في حقه وهو أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والموهومة والظواهر والاستصحابات الكثيرة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذاهب والخلاف؛ وأصول الفقه. وقد قال عمر بن الخطاب: اقربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون؛ فإنهم تتجلى لهم أمور صادقة. وحديث مكحول المرفوع «ما أخلص عبد العبادة لله تعالى أربعين يوما إلا أجرى الله الحكمة على قلبه؛ وأنطق بها لسانه وفي رواية إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه». وقال أبو سليمان الداراني: إن القلوب إذا اجتمعت على التقوى جالت في الملكوت؛ ورجعت إلى أصحابها بطرف الفوائد؛ من غير أن يؤدي إليها عالم علما. وقد قال النبي ﷺ: «الصلاة نور؛ والصدقة برهان؛ والصبر ضياء» ومن معه نور وبرهان وضياء كيف لا يعرف حقائق الأشياء من فحوى كلام أصحابها؟ ولا سيما الأحاديث النبوية؛ فإنه يعرف ذلك معرفة تامة؛ لأنه قاصد العمل بها؛ فتتساعد في حقه هذه الأشياء مع الامتثال ومحبة الله ورسوله حتى أن المحب يعرف من فحوى كلام محبوبه مراده منه تلويحا لا تصريحا.
والعين تعرف من عيني محدثها ** إن كان من حزبها أو من أعاديها
إنارة العقل مكسوف بطوع هوى ** وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا
وفي الحديث الصحيح: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها» ومن كان توفيق الله له كذلك فكيف لا يكون ذا بصيرة نافذة ونفس فعالة؟ وإذا كان الإثم والبر في صدور الخلق له تردد وجولان؛ فكيف حال من الله سمعه وبصره وهو في قلبه. وقد قال ابن مسعود: الإثم حواز القلوب وقد قدمنا أن الكذب ريبة والصدق طمأنينة فالحديث الصدق تطمئن إليه النفس ويطمئن إليه القلب. وأيضا فإن الله فطر عباده على الحق؛ فإذا لم تستحل الفطرة: شاهدت الأشياء على ما هي عليه؛ فأنكرت منكرها وعرفت معروفها. قال عمر: الحق أبلج لا يخفى على فطن. فإذا كانت الفطرة مستقيمة على الحقيقة منورة بنور القرآن. تجلت لها الأشياء على ما هي عليه في تلك المزايا وانتفت عنها ظلمات الجهالات فرأت الأمور عيانا مع غيبها عن غيرها. وفي السنن والمسند وغيره عن النواس بن سمعان عن النبي ﷺ قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما؛ وعلى جنبتي الصراط سوران؛ وفي السورين أبواب مفتحة؛ وعلى الأبواب ستور مرخاة؛ وداع يدعو على رأس الصراط. وداع يدعو من فوق الصراط؛ والصراط المستقيم هو الإسلام؛ والستور المرخاة حدود الله؛ والأبواب المفتحة محارم الله فإذا أراد العبد أن يفتح بابا من تلك الأبواب ناداه المنادي: يا عبد الله لا تفتحه؛ فإنك إن فتحته تلجه. والداعي على رأس الصراط كتاب الله؛ والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن» فقد بين في هذا الحديث العظيم - الذي من عرفه انتفع به انتفاعا بالغا إن ساعده التوفيق؛ واستغنى به عن علوم كثيرة - أن في قلب كل مؤمن واعظا والوعظ هو الأمر والنهي؛ والترغيب والترهيب. وإذا كان القلب معمورا بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت؛ بخلاف القلب الخراب المظلم؛ قال حذيفة بن اليمان: إن في قلب المؤمن سراجا يزهر. وفي الحديث الصحيح: «إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ» فدل على أن المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره؛ ولا سيما في الفتن وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله؛ فإن الدجال أكذب خلق الله مع أن الله يجري على يديه أمورا هائلة ومخاريق مزلزلة حتى إن من رآه افتتن به فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذبها وبطلانها. وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له؛ وعرف حقائقها من بواطلها وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم؛ ولهذا قال بعض السلف في قوله: { نُّورٌ عَلَى نُور } [1] قال: هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق وإن لم يسمع فيها بالأثر فإذا سمع فيها بالأثر كان نورا على نور. فالإيمان الذي في قلب المؤمن يطابق نور القرآن؛ فالإلهام القلبي تارة يكون من جنس القول والعلم؛ والظن أن هذا القول كذب. وأن هذا العمل باطل؛ وهذا أرجح من هذا؛ أو هذا أصوب. وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر».
والمحدث: هو الملهم المخاطب في سره. وما قال عمر لشيء: إني لأظنه كذا وكذا إلا كان كما ظن وكانوا يرون أن السكينة تنطق على قلبه ولسانه. وأيضا فإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن لقوة إيمانه يقينا وظنا؛ فالأمور الدينية كشفها له أيسر بطريق الأولى؛ فإنه إلى كشفها أحوج فالمؤمن تقع في قلبه أدلة على الأشياء لا يمكنه التعبير عنها في الغالب فإن كل أحد لا يمكنه إبانة المعاني القائمة بقلبه فإذا تكلم الكاذب بين يدي الصادق عرف كذبه من فحوى كلامه فتدخل عليه نخوة الحياء الإيماني فتمنعه البيان ولكن هو في نفسه قد أخذ حذره منه وربما لوح أو صرح به خوفا من الله وشفقة على خلق الله ليحذروا من روايته أو العمل به. وكثير من أهل الإيمان والكشف يلقي الله في قلبه أن هذا الطعام حرام؛ وأن هذا الرجل كافر؛ أو فاسق؛ أو ديوث؛ أو لوطي؛ أو خمار؛ أو مغن؛ أو كاذب؛ من غير دليل ظاهر بل بما يلقي الله في قلبه. وكذلك بالعكس يلقي في قلبه محبة لشخص وأنه من أولياء الله؛ وأن هذا الرجل صالح؛ وهذا الطعام حلال وهذا القول صدق؛ فهذا وأمثاله لا يجوز أن يستبعد في حق أولياء الله المؤمنين المتقين. وقصة الخضر مع موسى هي من هذا الباب وأن الخضر علم هذه الأحوال المعينة بما أطلعه الله عليه. وهذا باب واسع يطول بسطه قد نبهنا فيه على نكت شريفة تطلعك على ما وراءها.
هامش
[النور: 35]
========
فصل في تعارض الحسنات والسيئات
فصل جامع في تعارض الحسنات، أو السيئات، أو هما جميعا. إذا اجتمعا ولم يمكن التفريق بينهما، بل الممكن إما فعلهما جميعا وإما تركهما جميعا. وقد كتبت ما يشبه هذا في قاعدة الإمارة والخلافة وفي أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما فنقول: قد أمر الله ورسوله بأفعال واجبة ومستحبة، وإن كان الواجب مستحبا وزيادة. ونهى عن أفعال محرمة أو مكروهة والدين هو طاعته وطاعة رسوله وهو الدين والتقوى، والبر والعمل الصالح، والشرعة والمنهاج وإن كان بين هذه الأسماء فروق. وكذلك حمد أفعالا هي الحسنات ووعد عليها وذم أفعالا هي السيئات وأوعد عليها وقيد الأمور بالقدرة والاستطاعة والوسع والطاقة فقال تعالى: { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [1] وقال تعالى: { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [2] وقال تعالى: { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا } [3] وكل من الآيتين وإن كانت عامة فسبب الأولى المحاسبة على ما في النفوس وهو من جنس أعمال القلوب وسبب الثانية الإعطاء الواجب. وقال: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } [4] وقال: { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [5] وقال: { يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ } [6] وقال: { مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } [7] وقال: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [8] وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } [9] الآية وقال: { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } [10] وقال: { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } [11] وقال: { لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ } [12]. وقد ذكر في الصيام والإحرام والطهارة والصلاة والجهاد من هذا أنواعا. وقال في المنهيات: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [13] وقال: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [14] { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [15] { لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا } [16] { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ } [17] { وَلَوْ شَاء اللهُ لأعْنَتَكُمْ } [18] وقال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } [19] الآية. وقال في المتعارض: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [20] وقال: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [21] وقال: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [22] وقال: { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } [23] وقال: { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا } [24] { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ } إلى قوله: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ } [25] وقال: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ } إلى قوله: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ } [26]. ونقول: إذا ثبت أن الحسنات لها منافع وإن كانت واجبة: كان في تركها مضار والسيئات فيها مضار وفي المكروه بعض حسنات. فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما، فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما، فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما. وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما، بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة، وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة، فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة. فالأول كالواجب والمستحب، وكفرض العين وفرض الكفاية، مثل تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع. والثاني كتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين، وتقديم نفقة الوالدين عليه كما في الحديث الصحيح: { أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على مواقيتها قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين قلت. ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة متعين على متعين ومستحب على مستحب وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب وإلا فقد يترجح الذكر بالفهم والوجل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر وهذا باب واسع. والثالث كتقديم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب كما فعلت أم كلثوم التي أنزل الله فيها آية الامتحان { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } [27] وكتقديم قتل النفس على الكفر كما قال تعالى: { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } [28] فتقتل النفوس التي تحصل بها الفتنة عن الإيمان لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس وكتقديم قطع السارق ورجم الزاني وجلد الشارب على مضرة السرقة والزنا والشرب وكذلك سائر العقوبات المأمور بها فإنما أمر بها مع أنها في الأصل سيئة وفيها ضرر، لدفع ما هو أعظم ضررا منها، وهي جرائمها، إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير. وكذلك في " باب الجهاد " وإن كان قتل من لم يقاتل من النساء والصبيان وغيرهم حراما فمتى احتيج إلى قتال قد يعمهم مثل: الرمي بالمنجنيق والتبييت بالليل جاز ذلك كما جاءت فيها السنة في حصار الطائف ورميهم بالمنجنيق وفي أهل الدار من المشركين يبيتون وهو دفع لفساد الفتنة أيضا بقتل من لا يجوز قصد قتله. وكذلك مسألة التترس التي ذكرها الفقهاء، فإن الجهاد هو دفع فتنة الكفر فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها، ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يفضي إلى قتل أولئك المتترس بهم جاز ذلك، وإن لم يخف الضرر لكن لم يمكن الجهاد إلا بما يفضي إلى قتلهم ففيه قولان. ومن يسوغ ذلك يقول: قتلهم لأجل مصلحة الجلاد مثل قتل المسلمين المقاتلين يكونون شهداء ومثل ذلك إقامة الحد على المباذل، وقتال البغاة وغير ذلك ومن ذلك إباحة نكاح الأمة خشية العنت. وهذا باب واسع أيضا. وأما الرابع: فمثل أكل الميتة عند المخمصة، فإن الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة ومصلحتها راجحة وعكسه الدواء الخبيث، فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج لقيام غيره مقامه، ولأن البرء لا يتيقن به وكذلك شرب الخمر للدواء. فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها والحسنة تترك في موضعين إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة. هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية. وأما سقوط الواجب لمضرة في الدنيا، وإباحة المحرم لحاجة في الدنيا، كسقوط الصيام لأجل السفر، وسقوط محظورات الإحرام وأركان الصلاة لأجل المرض فهذا باب آخر يدخل في سعة الدين ورفع الحرج الذي قد تختلف فيه الشرائع، بخلاف الباب الأول، فإن جنسه مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه وإن اختلفت في أعيانه بل ذلك ثابت في العقل كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين وينشد:
إن اللبيب إذا بدا من جسمه ** مرضان مختلفان داوى الأخطرا
وهذا ثابت في سائر الأمور، فإن الطبيب مثلا يحتاج إلى تقوية القوة ودفع المرض، والفساد أداة تزيدهما معا، فإنه يرجح عند وفور القوة تركه إضعافا للمرض وعند ضعف القوة فعله لأن منفعة إبقاء القوة والمرض أولى من إذهابهما جميعا، فإن ذهاب القوة مستلزم للهلاك ولهذا استقر في عقول الناس أنه عند الجدب يكون نزول المطر لهم رحمة وإن كان يتقوى بما ينبته أقوام على ظلمهم لكن عدمه أشد ضررا عليهم ويرجحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان كما قال بعض العقلاء ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان. ثم السلطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان ويفرط فيه من الحقوق مع التمكن لكن أقول هنا، إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض فروعه كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصدا وقدرة: جازت له الولاية وربما وجبت وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها من جهاد العدو وقسم الفيء وإقامة الحدود وأمن السبيل: كان فعلها واجبا فإذا كان ذلك مستلزما لتولية بعض من لا يستحق وأخذ بعض ما لا يحل وإعطاء بعض من لا ينبغي، ولا يمكنه ترك ذلك: صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به فيكون واجبا أو مستحبا إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم، ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها. ودفع أكثره باحتمال أيسره: كان ذلك حسنا مع هذه النية وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيدا. وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه مالا فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره أن لا يظلم ودفعه ذلك لو أمكن: كان محسنا ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئا. وإنما الغالب في هذه الأشياء فساد النية والعمل أما النية فبقصده. السلطان والمال وأما العمل فبفعل المحرمات وبترك الواجبات لا لأجل التعارض ولا لقصد الأنفع والأصلح. ثم الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها أوجب. أو أحب فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا تارة واستحبابا أخرى. ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض وكان هو وقومه كفارا كما قال تعالى: { وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ } [29] الآية وقال تعالى عنه: { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم } [30] الآية ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فإن القوم لم يستجيبوا له لكن فعل الممكن من العدل والإحسان ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك وهذا كله داخل في قوله: { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [31]. فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة وإن سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر. ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها: إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء. هذا وقد قال النبي ﷺ: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك». وهذا باب التعارض باب واسع جدا لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة فإن هذه المسائل تكثر فيها وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة أو يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء ولهذا جاء في الحديث: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات». فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل وقد يكون الواجب في بعضها - كما بينته فيما تقدم -: العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء، لا التحليل والإسقاط. مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبر منها فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر. فالعالم تارة يأمر وتارة ينهى وتارة يبيح وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح وعند التعارض يرجح الراجح - كما تقدم - بحسب الإمكان فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله وإما لظلمه ولا يمكن إزالة جهله وظلمه فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله ﷺ تسليما إلى بيانها. يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [32] والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله والقدرة على العمل به. فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالجنون مثلا وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به ولم تأت الشريعة جملة كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبالغ إلا ما أمكن علمه والعمل به كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها. وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فإنه لا يطيق ذلك وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل والله أعلم. ومما يدخل في هذه الأمور الاجتهادية علما وعملا أن ما قاله العالم أو الأمير أو فعله باجتهاد أو تقليد فإذا لم ير العالم الآخر والأمير الآخر مثل رأي الأول فإنه لا يأمر به أو لا يأمر إلا بما يراه مصلحة ولا ينهى عنه إذ ليس له أن ينهى غيره عن اتباع اجتهاده ولا أن يوجب عليه اتباعه فهذه الأمور في حقه من الأعمال المعفوة لا يأمر بها ولا ينهى عنها بل هي بين الإباحة والعفو. وهذا باب واسع جدا فتدبره.
هامش
[التغابن: 16]
[البقرة: 286]
[الطلاق: 7]
[النساء: 84]
[البقرة: 185]
[النساء: 28]
[المائدة: 6]
[الحج: 78]
[المائدة: 105]
[البقرة: 280]
[آل عمران: 97]
[التوبة: 91]
[الأنعام: 119]
[البقرة: 173]
[الأنعام: 145]
[البقرة: 286]
[الأحزاب: 5]
[البقرة: 220]
[البقرة: 217]
[البقرة: 219]
[البقرة: 216]
[النساء: 101]
[البقرة: 217]
[البقرة: 239]
[النساء: 102]
[لقمان: 14، 15]
[الممتحنة: 10]
[البقرة: 217]
[غافر: 34]
[يوسف: 39، 40]
[التغابن: 16]
[الإسراء: 15]
========
فصل في الحسنات والعبادات ثلاثة أقسام
وقال:
قد كتبت في كراس قبل هذا: أن الحسنات والعبادات ثلاثة أقسام: عقلية: وهو ما يشترك فيه العقلاء، مؤمنهم وكافرهم. وملي: وهو ما يختص به أهل الملل كعبادة الله وحده لا شريك له. وشرعي: وهو ما اختص به شرع الإسلام مثلا وأن الثلاثة واجبة، فالشرعي باعتبار الثلاثة المشروعة وباعتبار يختص بالقدر المميز. وهكذا العلوم والأقوال عقلي وملي وشرعي، فالعقل المحض مثل ما ينظر فيه الفلاسفة من عموم المنطق والطبيعي والإلهي، ولهذا كان فيهم المشرك والمؤمن والملي مثل ما ينظر فيه المتكلم من إثبات الصانع وإثبات النبوات والشرائع. فإن المتكلمين متفقون على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولكنهم في رسائلهم ومسائلهم لا يلتزمون حكم الكتاب والسنة ففيهم السني والبدعي ويجتمعون هم والفلاسفة في النظر في الأمور الكلية من العلم والدليل والنظر والوجود والعدم والمعلومات لكنهم أخص بالنظر في العلم الإلهي من الفلاسفة وأبسط علما ولسانا فيه، وإن شركهم الفلاسفة في بعضه كما أن الفلاسفة أخص بالنظر في الأمور الطبيعية، وإن شركهم المتكلمون في بعضه. والشرعي ما ينظر فيه أهل الكتاب والسنة. ثم هم إما قائمون بظاهر أسرع فقط كعموم أهل الحديث والمؤمنين الذين في العلم بمنزلة العباد الظاهرين في العبادة. وإما عالمون بمعاني ذلك وعارفون به فهم في العلوم كالعارفين من الصوفية الشرعية. فهؤلاء هم علماء أمة محمد المحضة وهم أفضل الخلق وأكملهم وأقومهم طريقة والله أعلم. ويدخل في العبادات السماع فإنه ثلاثة أقسام: سماع عقلي وملي. وشرعي. فالأول ما فيه تحريك محبة أو مخافة أو حزن أو رجاء مطلقا. والثاني ما في غيرهم كمحبة الله ومخافته ورجائه وخشيته والتوكل عليه ونحو ذلك. والثالث السماع الشرعي وهو سماع القرآن كما أن الصلاة أيضا ثلاثة أقسام. وهذه الأقسام الثلاثة أصولها صحيحة دل عليها قوله: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحا } [1] الآية. فالذين آمنوا هم أهل شريعة القرآن؟ وهو الدين الشرعي بما فيه من الملي والعقلي. والذين هادوا والنصارى أهل دين ملي بشريعة التوراة والإنجيل بما فيه من ملي وعقلي والصابئون أهل الدين العقلي بما فيه من ملي أو ملي وشرعيات.
هامش
[البقرة: 62]
========
قاعدة جامعة في كل واحد من الدين الجامع بين الواجبات وسائر العبادات
وقال:
قاعدة جامعة كل واحد من الدين الجامع بين الواجبات وسائر العبادات ومن التحريمات كما قال تعالى: { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } [1] وكما قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } [2] وكما أخبر عما ذمه من حال المشركين في دينهم وتحريمهم حيث قال: { وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا } [3] إلى آخر الكلام فإنه ذكر فيه ما كانوا عليه من العبادات الباطلة من أنواع الشرك ومن الإباحة الباطلة في قتل الأولاد ومن التحريمات الباطلة من السائبة والبحيرة والوصيلة والحام ونحو ذلك. فذم المشركين في عباداتهم وتحريماتهم وإباحتهم. وذم النصارى فيما تركوه من دين الحق والتحريم كما ذمهم على الدين الباطل في قوله: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } [4] وأصناف ذلك. فكل واحد من العبادات وسائر المأمور به من الواجبات والمستحبات. ومن المكروهات المنهي عنها نهي حظر أو نهي تنزيه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: عقلي وملي وشرعي. والمراد بالعقلي ما اتفق عليه أهل العقل من بني آدم سواء كان لهم صلة كتاب أو لم يكن. والمراد بالملي: ما اتفق عليه أهل الملل والكتب المنزلة ومن اتبعهم والمراد بالشرعي ما اختص به أهل الشريعة القرآنية وهم أمة محمد ﷺ وأخص من ذلك ما اختص به أهل مذهب أو أهل طريقة من الفقهاء والصوفية ونحو ذلك. لكن هذا التخصيص والامتياز لا توجبه شريعة الرسول مطلقا وإنما قد توجبه ما قد توجب بتخصيص بعض العلماء والعباد والأمراء في استفتاء أو طاعة كما يجب على أهل كل غزاة طاعة أميرهم وأهل كل قرية استفتاء عالمهم الذي لا يجدون غيره ونحو ذلك وما من أهل شريعة غير المسلمين إلا وفي شرعهم هذه الأقسام الثلاثة فإن مأموراتهم ومنهياتهم تنقسم إلى ما يتفق عليه العقلاء وما يتفق عليه الأنبياء. وأما السياسات الملكية التي لا تتمسك بملة وكتاب: فلا بد فيها من القسم الأول والثالث فإن القدر المشترك بين الآدميين لا بد من الأمر به في كل سياسة وإمامة. وكذلك لا بد لكل ملك من خصيصة يتميز بها ولو لم تكن إلا رعاية من يواليه ودفع من يعاديه فلا بد لهم من الأمر بما يحفظ الولي ويدفع العدو كما في مملكة جنكيزخان ملك الترك ونحوه من الملوك. ثم قد يكون لهم ملة صحيحة توحيدية وقد يكون لهم ملة كفرية وقد لا يكون لهم ملة بحال. ثم قد يكون دينهم مما يوجبونه وقد يكون مما يستحبونه. ووجه القسمة أن جميع بني آدم العقلاء لا بد لهم من أمور يؤمرون بها وأمور ينهون عنها فإن مصلحتهم لا تتم بدون ذلك ولا يمكن أن يعيشوا في الدنيا بل ولا يعيش الواحد منهم لو انفرد بدون أمور يفعلونها تجلب لهم المنفعة وأمور ينفونها تدفع عنهم المضرة، بل سائر الحيوان لا بد فيه من قوتي الاجتلاب والاجتناب ومبدؤهما الشهوة والنفرة والحب والبغض فالقسم المطلوب هو المأمور به والقسم المرهوب هو المنهي عنه. فإما أن تكون تلك الأمور متفقا عليها بين العقلاء - بحيث لا يلتفت إلى الشواذ منهم الذين خرجوا عند الجمهور عن العقل - وإما أن لا تكون كذلك وما ليس كذلك فإما أن يكون متفقا عليه بين الأنبياء والمرسلين. وإما أن يختص به أهل شريعة الإسلام. فالقسم الأول: الطاعات العقلية - وليس الغرض بتسميتها عقلية إثبات كون العقل يحسن ويقبح على الوجه المتنازع فيه، بل الغرض ما اتفق عليه المسلمون وغيرهم من التحسين والتقبيح العقلي الذي هو جلب المنافع ودفع المضار وإنما الغرض اتفاق العقلاء على مدحها - مثل الصدق والعدل وأداء الأمانة والإحسان إلى الناس بالمال والمنافع ومثل العلم والعبادة المطلقة والورع المطلق والزهد المطلق مثل جنس التأله والعبادة والتسبيح والخشوع والنسك المطبق بحيث لا يمنع القدر المشترك أن يكون لأي معبود كان وبأي عبادة كانت فإن هذا الجنس متفق عليه بين الآدميين ما منهم إلا من يمدح جنس التأله مع كون بعضه فيه ما يكون صالحا حقا وبعضه فيه ما يكون فاسدا باطلا. وكذلك الورع المشترك مثل الكف عن قتل النفس مطلقا وعن الزنا مطلقا وعن ظلم الخلق. وكذلك الزهد المشترك مثل الإمساك عن فضول الطعام واللباس وهذا القسم إنما عبر أهل العقل باعتقاد حسنه ووجوبه، لأن مصلحة دنياهم لا تتم إلا به وكذلك مصلحة دينهم سواء كان دينا صالحا أو فاسدا. ثم هذه الطاعات والعبادات العقلية قسمان: أحدهما: ما هو نوع واحد لا يختلف أصلا كالعلم والصدق وهما تابعان للحق الموجود ومنها ما هو جنس تختلف أنواعه كالعدل وأداء الأمانة والصلاة والصيام والنسك والزهد والورع ونحو ذلك فإنه قد يكون العدل في ملة وسياسة خلاف العدل عند آخرين كقسمة المواريث مثلا وهذه الأمور تابعة للحق المقصود. لكن قد يقال: الناس وإن اتفقوا على أن العلم يجب أن يكون مطابقا للمعلوم وأن الخبر مطابق للمخبر، لكن هم مختلفون في المطابقة اختلافا كثيرا جدا فإن منهم من يعد مطابقا علما وصدقا ما يعده الآخر مخالفا: جهلا وكذبا، لا سيما في الأمور الإلهية فكذلك العدل هم متفقون على أنه يجب فيه التسوية بين المتماثلين، لكن يختلفون في الاستواء والموافقة والتماثل فكل واحد من العلم والصدق والعدل لا بد فيه من موافقة ومماثلة واعتبار ومقايسة. لكن يختلفون في ذلك فيقال: هذا صحيح، لكن الموافقة العلمية والصدقية هي بحسب وجود الشيء في نفسه وهو الحق الموجود فلا يقف على أمر وإرادة وأما الموافقة العدلية فبحسب ما يجب قصده وفعله وهذا يقف على القصد والأمر الذي قد يتنوع بحسب الأحوال. ولهذا لم تختلف الشرائع في جنس العلم والصدق كما اختلفت في جنس العدل وأما جنس العبادات كالصلاة والصيام والنسك والورع عن السيئات وما يتبع ذلك من زهد ونحو ذلك فهذا مختلف اختلافا كثيرا، وإن كان يجمع جنس الصلاة التأله بالقلب والتعبد للمعبود ويجمع جنس الصوم الإمساك عن الشهوات من الطعام والشراب والنكاح على اختلاف أنواع ذلك وكذلك أنواع النسك بحسب الأمكنة التي تقصد وما يفعل فيها وفي طريقها، لكن تجتمع هذه الأنواع في جنس العبادة وهو تأله القلب بالمحبة والتعظيم وجنس الزهادة وهو الإعراض عن الشهوات البدنية وزينة الحياة الدنيا وهما جنس نوعي الصلاة والصيام. القسم الثاني: الطاعات الملية من العبادات وسائر المأمور به والتحريمات مثل عبادة الله وحده لا شريك له بالإخلاص والتوكل والدعاء والخوف والرجاء وما يقترن بذلك من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت. وتحريم الشرك به وعبادة ما سواه وتحريم الإيمان بالجبت وهو السحر والطاغوت وهو الأوثان ونحو ذلك. وهذا القسم: هو الذي حضت عليه الرسل ووكدت أمره وهو أكبر المقاصد بالدعوة فإن القسم الأول: يظهر أمره ومنفعته بظاهر العقل وكأنه في الأعمال مثل العلوم البديهية. والقسم الثالث: تكملة وتتميم لهذا القسم الثاني. فإن الأول كالمقدمات والثالث كالمعقبات وأما الثاني: فهو المقصود بخلق الناس كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [5] وذلك لأن التعبد المطلق والتأله المطلق يدخل فيه الإشراك بجميع أنواعه كما عليه المشركون من سائر الأمم وكان التأله المطلق هو دين الصابئة ودين التتار ونحوهم مثل الترك فإنهم كانوا يعبدون الله وحده تارة ويبنون له هيكلا يسمونه هيكل العلة الأولى ويعبدون ما سواه تارة من الكواكب السبعة والثوابت وغيرها بخلاف المشركة المحضة فإنهم لا يعبدون الله وحده قط فلا يعبدونه إلا بالإشراك بغيره من شركائهم وشفعائهم. والصابئون: منهم من يعبده مخلصا له الدين ومنهم من يشرك به والحنفاء كلهم يخلص له الدين، فلهذا صار الصابئون فيهم من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا، بخلاف المشركين والمجوس ولهذا كان رأس دين الإسلام الذي بعث به خاتم المرسلين كلمتين: شهادة أن لا إله إلا الله تثبت التأله الحق الخالص وتنفي ما سواه من تأله المشركين أو تأله مطلق قد يدخل فيه تأله المشركين فأخرجت هذه الكلمة كل تأله ينافي الملي من التأله المختص بالكفار أو المطلق المشترك. والكلمة الثانية: شهادة أن محمدا رسول الله وهي توجب التأله الشرعي النبوي وتنفي ما كان من العقلي والملي والشرعي خارجا عنه. القسم الثالث: الطاعات الشرعية التي تختص بشريعة القرآن مثل خصائص الصلوات الخمس وخصائص صوم شهر رمضان وحج البيت العتيق. وفرائض الزكوات وأحكام المعاملات والمناكحات ومقادير العقوبات. ونحو ذلك من العبادات الشرعية وسائر ما يؤمر به من الشرعية وسائر ما ينهى عنه.
هامش
[التوبة: 29]
[النحل: 35]
[الأنعام: 136]
[التوبة: 31]
[الذاريات: 56]
========
فصل في كلام الفقهاء في الطاعات الشرعية والعقلية
إذا تبين ذلك فغالب الفقهاء إنما يتكلمون به في الطاعات الشرعية مع العقلية وغالب الصوفية إنما يتبعون الطاعات الملية مع العقلية وغالب المتفلسفة يقفون على الطاعات العقلية. ولهذا كثر في المتفقهة من ينحرف عن طاعات القلب وعباداته: من الإخلاص لله والتوكل عليه والمحبة له. والخشية له ونحو ذلك. وكثر في المتفقرة والمتصوفة من ينحرف عن الطاعات الشرعية فلا يبالون إذا حصل لهم توحيد القلب وتألهه أن يكون ما أوجبه الله من الصلوات وشرعه من أنواع القراءة والذكر والدعوات أن يتناولوا ما حرم الله من المطاعم وأن يتعبدوا بالعبادات البدعية من الرهبانية ونحوها ويعتاضوا بسماع المكاء والتصدية عن سماع القرآن وأن يقفوا مع الحقيقة القدرية معرضين عن الأمر والنهي، فإن كل ما خلقه الله فهو دال على وحدانيته وقائم بكلماته التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر وصادر عن مشيئته النافذة ومدبر بقدرته الكاملة. فقد يحصل للإنسان تأله ملي فقط ولا بد فيه من العقلي والملي وهو ما جاءت به الرسل بحيث ينيب إلى الله ويحبه ويتوكل عليه ويعرض عن الدنيا، لكن لا يقف عند المشروع من الأفعال الظاهرة فعلا وتركا وقد يحصل العكس بحيث يقف عند المشروع من الأفعال الظاهرة من غير أن يحصل لقلبه إنابة وتوكل ومحبة وقد يحصل التمسك بالواجبات العقلية. من الصدق والعدل وأداء الأمانة ونحو ذلك من غير محافظة على الواجبات الملية والشرعية. وهؤلاء الأقسام الثلاثة إذا كانوا مؤمنين مسلمين، فقد شابوا الإسلام إما بيهودية وإما بنصرانية وإما بصابئية، إذا كان ما انحرفوا إليه مبدلا منسوخا وإن كان أصله مشروعا فموسوية أو عيسوية.
======
فصل في أن الصدق أساس الحسنات وجماعها
وقال: الصدق أساس الحسنات وجماعها والكذب أساس السيئات ونظامها ويظهر ذلك من وجوه:
أحدها: أن الإنسان هو حي ناطق فالوصف المقوم له الفاصل له عن غيره من الدواب هو المنطق والمنطق قسمان: خبر وإنشاء والخبر صحته بالصدق وفساده بالكذب فالكاذب أسوأ حالا من البهيمة العجماء والكلام الخبري هو المميز للإنسان وهو أصل الكلام الإنشائي فإنه مظهر العلم والإنشاء مظهر العمل والعلم متقدم على العمل وموجب له فالكاذب لم يكفه أنه سلب حقيقة الإنسان حتى قلبها إلى ضدها ولهذا قيل: لا مروءة لكذوب ولا راحة لحسود ولا إخاء لملوك ولا سؤدد لبخيل فإن المروءة مصدر المرء كما أن الإنسانية مصدر الإنسان.
الثاني: أن الصفة المميزة بين النبي والمتنبئ هو الصدق والكذب فإن محمدا رسول الله الصادق الأمين ومسيلمة الكذاب قال الله تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [1].
الثالث: أن الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق هو الصدق فإن أساس النفاق الذي بني عليه الكذب وعلى كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة والكذب. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال قال رسول الله ﷺ: «ثلاث من كن فيه كان منافقا إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان».
الرابع: أن الصدق هو أصل البر والكذب أصل الفجور كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا».
الخامس: أن الصادق تنزل عليه الملائكة والكاذب تنزل عليه الشياطين كما قال تعالى: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [2].
السادس: أن الفارق بين الصديقين والشهداء والصالحين وبين المتشبه بهم من المرائين والمسمعين والمبلسين هو الصدق والكذب.
السابع: أنه مقرون بالإخلاص الذي هو أصل الدين في الكتاب وكلام العلماء والمشايخ قال الله تعالى { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } [3] ؛ ولهذا قال ﷺ: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله مرتين وقرأ هذه الآية وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت».
الثامن: أنه ركن الشهادة الخاصة عند الحكام التي هي قوام الحكم والقضاء والشهادة العامة في جميع الأمور والشهادة خاصة هذه الأمة التي ميزت بها في قوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } [4] وركن الإقرار الذي هو شهادة المرء على نفسه وركن الأحاديث والأخبار التي بها يقوم الإسلام، بل هي ركن النبوة والرسالة التي هي واسطة بين الله وبين خلقه وركن الفتيا التي هي إخبار المفتي بحكم الله. وركن المعاملات التي تتضمن أخبار كل واحد من المتعاملين للآخر بما في سلعته وركن الرؤيا التي قيل فيها: أصدقهم رؤيا أصدقهم كلاما والتي يؤتمن فيها الرجل على ما رأى.
التاسع: أن الصدق والكذب هو المميز بين المؤمن والمنافق كما جاء في الأثر: أساس النفاق الذي بني عليه الكذب. وفي الصحيحين عن أنس عن النبي ﷺ أنه قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» وفي حديث آخر: «على كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة والكذب» ووصف الله المنافقين في القرآن بالكذب في مواضع متعددة ومعلوم أن المؤمنين هم أهل الجنة وأن المنافقين هم أهل النار في الدرك الأسفل من النار. العاشر: أن المشايخ العارفين اتفقوا على أن أساس الطريق إلى الله هو الصدق والإخلاص كما جمع الله بينهما في قوله: { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } [5] ونصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة دال على ذلك في مواضع كقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } [6] وقوله تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [7] وقال تعالى لما بين الفرق بين النبي والكاهن والساحر: { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } [8] إلى قوله: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [9] وقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللهُ } [10] وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا } [11].
هامش
[النساء: 135]
[الزمر: 32، 33]
[الشعراء: 221: 223]
[الحج: 30، 31]
[البقرة: 143]
[الحج: 30، 31]
[التوبة: 119]
[الزمر: 32، 33]
[الشعراء: 192: 196]
[الشعراء: 221: 223]
[الأنعام: 93]
=====
فصل أن الحسنات كلها عدل والسيئات كلها ظلم
وقال: قد كتبت في غير موضع أن الحسنات كلها عدل والسيئات كلها ظلم وأن الله إنما أنزل الكتب وأرسل الرسل، ليقوم الناس بالقسط. وقد ذكرت أن القسط والظلم نوعان: نوع في حق الله تعالى كالتوحيد فإنه رأس العدل والشرك رأس الظلم ونوع في حق العباد، إما مع حق الله كقتل النفس أو مفردا كالدين الذي ثبت برضا صاحبه. ثم إن الظلم في حق العباد نوعان: نوع يحصل بغير رضا صاحبه كقتل نفسه وأخذ ماله وانتهاك عرضه ونوع يكون برضا صاحبه وهو ظلم كمعاملة الربا والميسر فإن ذلك حرام لما فيه من أكل مال غيره بالباطل وأكل المال بالباطل ظلم، ولو رضي به صاحبه لم يبح ولم يخرج عن أن يكون ظلما فليس كل ما طابت به نفس صاحبه يخرج عن الظلم وليس كل ما كرهه باذله يكون ظلما بل القسمة رباعية:
أحدها: ما نهى عنه الشارع وكرهه المظلوم.
الثاني: ما نهى عنه الشارع وإن لم يكرهه المظلوم كالزنا والميسر. والثالث: ما كرهه صاحبه ولكن الشارع رخص فيه فهذا ليس بظلم. والرابع: ما لم يكرهه صاحبه ولا الشارع، وإنما نهى الشارع عن ما يرضى به صاحبه إذا كان ظلما، لأن الإنسان جاهل بمصلحته فقد يرضى ما لا يعرف أن عليه فيه ضررا ويكون عليه فيه ضرر غير مستحق، ولهذا إذا انكشف له حقيقة الحال لم يرض، ولهذا قال طاوس ما اجتمع رجلان على غير ذات الله إلا تفرقا عن تقال فالزاني بامرأة أو غلام إن كان استكرهها فهذا ظلم وفاحشة وإن كانت طاوعته فهذا فاحشة وفيه ظلم أيضا للآخر، لأنه بموافقته أعان الآخر على مضرة نفسه لا سيما إن كان أحدهما هو الذي دعا الآخر إلى الفاحشة فإنه قد سعى في ظلمه وإضراره بل لو أمره بالمعصية التي لا حظ له فيها لكان ظالما له، ولهذا يحمل من أوزار الذي يضله بغير علم فكيف إذا سعى في أن ينال غرضه منه مع إضراره. ولهذا يكون دعاء الغلام إلى الفجور به أعظم ظلما من دعاء المرأة لأن المرأة لها هوى فيكون من باب المعاوضة كل منهما نال غرضه الذي هو من جنس غرض الآخر فيسقط هذا بهذا ويبقى حق الله عليهما، فلهذا: ليس في الزنا المحض ظلم الغير إلا أن يفسد فراشا أو نسبا أو نحو ذلك. وأما المتلوط فإن الغلام لا غرض له فيه إلا برغبة أو برهبة والرغبة والمال من جنس الحاجات المباحة فإذا طلب منه الفجور قد يبذله له فهذا إذا رضي الآن به من جنس ظلم المؤتي لحاجته إلى المال، لكن هذا الظلم في نفسه وحرمته فهو أشد وكذلك استئجاره على الأفعال المحرمة كالكهانة والسحر وغير ذلك كلها ظلم له، وإن كانت برضاه وإن كان الآخر قد ظلم الآخر أيضا بما أفسد عليه من دينه حيث وافقه على الذنب، لكن أحد نوعي الظلم من غير جنس الآخر وهذا باب ينبغي التفطن له فأكثر الذنوب مشتملة على ظلم الغير وجميعها مشتملة على ظلم النفس.
====
فصل في العدل القولي والصدق
وقال:
ذكرت في مواضع شيئا من الصدق والعدل وموقعهما من الكتاب والسنة ومصالح الدنيا والآخرة وذكرت أيضا في مواضع أن عامة السيئات يدخل في الظلم وأن الحسنات غالبها عدل وأن القسط هو المقصود بإرسال الرسل وإنزال الكتب والقسط والعدل هو التسوية بين الشيئين فإن كان بين متماثلين، كان هو العدل الواجب المحمود وإن كان بين الشيء وخلافه كان من باب قوله: { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ } [1] كما قالوا: { تَاللهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [2] فهذا العدل والتسوية والتمثيل والإشراك هو الظلم العظيم. وإذا عرف أن مادة العدل والتسوية والتمثيل والقياس. والاعتبار والتشريك والتشبيه والتنظير من جنس واحد فيستدل بهذه الأسماء على القياس الصحيح العقلي والشرعي ويؤخذ من ذلك تعبير الرؤيا فإن مداره على القياس والاعتبار والمشابهة التي بين الرؤيا وتأويلها. ويؤخذ من ذلك ما في الأسماء واللغات من الاستعارة والتشبيه إما في وضع اللفظ بحيث يصير حقيقة في الاستعمال وإما في الاستعمال فقط مع القرينة إذا كانت الحقيقة أحرى فإن مسميات الأسماء المتشابهة متشابهة. ويؤخذ من ذلك ضرب الأمثال للتصور تارة وللتصديق أخرى. وهي نافعة جدا وذلك أن إدراك النفس لعين الحقائق قليل وما لم يدركه فإنما يعرفه بالقياس على ما عرفته فإذا كان هذا في المعرفة ففي التعريف ومخاطبة الناس أولى وأحرى. ثم التماثل والتعادل، يكون بين الوجودين الخارجين وبين الوجودين العلميين الذهنيين وبين الوجود الخارجي والذهني. فالأول يقال: هذا مثل هذا والثاني يقال فيه، مثل هذا كمثل هذا والثالث يقال فيه: هذا كمثل هذا. فالمثل إما أن يذكر مرة أو مرتين أو ثلاث مرات إذا كان التمثيل بالحقيقة الخارجية كما في قوله: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا } [3] فهذا باب المثل وأما باب العدل فقد قال تعالى: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } [4] وقال تعالى: { كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ } [5] الآية وقال: { كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ } [6] وقال: { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } [7] { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } [8] فهذا العدل والقسط في هذه المواضع هو الصدق المبين وضده الكذب والكتمان.
وذلك أن العدل هو الذي يخبر بالأمر على ما هو عليه لا يزيد فيكون كاذبا ولا ينقص فيكون كاتما والخبر مطابق للمخبر كما تطابق الصورة العلمية والذهنية للحقيقة الخارجية ويطابق اللفظ للعلم ويطابق الرسم للفظ. فإذا كان العلم يعدل المعلوم لا يزيد ولا ينقص والقول يعدل العلم لا يزيد ولا ينقص والرسم يعدل القول: كان ذلك عدلا والقائم به قائم بالقسط وشاهد بالقسط وصاحبه ذو عدل. ومن زاد فهو كاذب ومن نقص فهو كاتم ثم قد يكون عمدا وقد يكون خطأ فتدبر هذا فإنه عظيم نافع جدا.
هامش
[الطلاق: 2]
[الأنعام: 1]
[الشعراء: 97، 98]
[البقرة: 17]
[الأنعام: 152]
[النساء: 135]
[المائدة: 8]
[المائدة: 106]
========
قاعدة في أن جنس فعل المأمورات أعظم من جنس فعل المنهيات
وقال الشيخ الإمام العالم شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية - قدس الله روحه ونور ضريحه -:
قاعدة في أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه وأن جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه وأن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات. وقد ذكرت بعض ما يتعلق بهذه القاعدة فيما تقدم لما ذكرت أن العلم والقصد يتعلق بالموجود بطريق الأصل ويتعلق بالمعدوم بطريق التبع. وبيان هذه القاعدة من وجوه.
=====
أعظم الحسنات هو الإيمان بالله ورسوله
أحدها
أن أعظم الحسنات هو الإيمان بالله ورسوله، وأعظم السيئات الكفر والإيمان أمر وجودي فلا يكون الرجل مؤمنا ظاهرا حتى يظهر أصل الإيمان وهو: شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ولا يكون مؤمنا باطنا حتى يقر بقلبه بذلك، فينتفي عنه الشك ظاهرا وباطنا، مع وجود العمل الصالح وإلا كان كمن قال الله فيه: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [1] وكمن قال تعالى فيه: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [2] وكمن قال فيه: { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ } [3] الآية.
والكفر: عدم الإيمان، باتفاق المسلمين سواء اعتقد نقيضه وتكلم به أو لم يعتقد شيئا ولم يتكلم ولا فرق في ذلك بين مذهب أهل السنة والجماعة الذين يجعلون الإيمان قولا وعملا بالباطن والظاهر، وقول من يجعله نفس اعتقاد القلب كقول الجهمية وأكثر الأشعرية أو إقرار اللسان كقول الكرامية، أو جميعها كقول فقهاء المرجئة وبعض الأشعرية فإن هؤلاء مع أهل الحديث وجمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنبلية، وعامة الصوفية، وطوائف من أهل الكلام من متكلمي السنة، وغير متكلمي السنة من المعتزلة والخوارج، وغيرهم: متفقون على أن من لم يؤمن بعد قيام الحجة عليه بالرسالة فهو كافر سواء كان مكذبا، أو مرتابا، أو معرضا، أو مستكبرا، أو مترددا، أو غير ذلك. وإذا كان أصل الإيمان الذي هو أعظم القرب والحسنات والطاعات فهو مأمور به والكفر الذي هو أعظم الذنوب والسيئات والمعاصي ترك هذا المأمور به سواء اقترن به فعل منهي عنه من التكذيب أو لم يقترن به شيء بل كان تركا للإيمان فقط: علم أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه. واعلم أن الكفر بعضه أغلظ من بعض فالكافر المكذب أعظم جرما من الكافر غير المكذب فإنه جمع بين ترك الإيمان المأمور به وبين التكذيب المنهي عنه ومن كفر وكذب وحارب الله ورسوله والمؤمنين بيده أو لسانه أعظم جرما ممن اقتصر على مجرد الكفر والتكذيب ومن كفر وقتل وزنى وسرق وصد وحارب كان أعظم جرما. كما أن الإيمان بعضه أفضل من بعض والمؤمنون فيه متفاضلون تفاضلا عظيما وهم عند الله درجات كما أن أولئك دركات فالمقتصدون في الإيمان أفضل من ظالمي أنفسهم والسابقون بالخيرات أفضل من المقتصدين { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } [4] الآيات { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ } [5]. وإنما ذكرنا أن أصل الإيمان مأمور به وأصل الكفر نقيضه وهو ترك هذا الإيمان المأمور به وهذا الوجه قاطع بين.
هامش
[التوبة: 19]
[الحجرات: 14]
[البقرة: 8]
[المنافقون: 1]
[النساء: 95]
======
أول ذنب عصي الله به
الوجه الثاني
أن أول ذنب عصي الله به كان من أبي الجن وأبي الإنس أبوي الثقلين المأمورين وكان ذنب أبي الجن أكبر وأسبق وهو ترك المأمور به وهو السجود إباء واستكبارا وذنب أبي الإنس كان ذنبا صغيرا { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } [1] وهو إنما فعل المنهي عنه وهو الأكل من الشجرة، وإن كان كثير من الناس المتكلمين في العلم يزعم أن هذا ليس بذنب، وأن آدم تأول حيث نهي عن الجنس بقوله: { وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } [2] فظن أنه الشخص فأخطأ، أو نسي والمخطئ والناسي ليسا مذنبين. وهذا القول يقوله طوائف من أهل البدع والكلام والشيعة وكثير من المعتزلة وبعض الأشعرية وغيرهم ممن يوجب عصمة الأنبياء من الصغائر وهؤلاء فروا من شيء ووقعوا فيما هو أعظم منه في تحريف كلام الله عن مواضعه. وأما السلف قاطبة من القرون الثلاثة الذين هم خير قرون الأمة، وأهل الحديث والتفسير، وأهل كتب قصص الأنبياء والمبتدأ وجمهور الفقهاء والصوفية، وكثير من أهل الكلام كجمهور الأشعرية وغيرهم وعموم المؤمنين، فعلى ما دل عليه الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [3] وقوله: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [4] بعد أن قال لهما: { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [5] وقوله تعالى: { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [6] مع أنه عوقب بإخراجه من الجنة. وهذه نصوص لا ترد إلا بنوع من تحريف الكلام عن مواضعه، والمخطئ والناسي إذا كانا مكلفين في تلك الشريعة فلا فرق وإن لم يكونا مكلفين امتنعت العقوبة ووصف العصيان والإخبار بظلم النفس وطلب المغفرة والرحمة وقوله تعالى: { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [7] وإنما ابتلى الله الأنبياء بالذنوب رفعا لدرجاتهم بالتوبة وتبليغا لهم إلى محبته وفرحه بهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويفرح بتوبة التائب أشد فرح فالمقصود كمال الغاية لا نقص البداية، فإن العبد يكون له الدرجة لا ينالها إلا بما قدره الله له من العمل أو البلاء. وليس المقصود هنا هذه المسألة وإنما الغرض أن ينظر تفاوت ما بين الذنبين اللذين أحدهما ترك المأمور به فإنه كبير وكفر ولم يتب منه والآخر صغير تيب منه.
هامش
[البقرة: 37]
[البقرة: 35]
[طه: 121]
[الأعراف: 23]
[الأعراف: 22]
[البقرة: 37]
[الأعراف: 22]
======
ما يكفر به الشخص عند أهل السنة
الوجه الثالث
أنه قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب ولا يخرجونه من الإسلام بعمل إذا كان فعلا منهيا عنه، مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان وأما إن تضمن ترك ما أمر الله بالإيمان به مثل: الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، فإنه يكفر به وكذلك يكفر بعدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة وعدم تحريم الحرمات الظاهرة المتواترة. فإن قلت فالذنوب تنقسم إلى ترك مأمور به وفعل منهي عنه. قلت: لكن المأمور به إذا تركه العبد: فإما أن يكون مؤمنا بوجوبه، أو لا يكون فإن كان مؤمنا بوجوبه تاركا لأدائه فلم يترك الواجب كله بل أدى بعضه وهو الإيمان به وترك بعضه وهو العمل به. وكذلك المحرم إذا فعله، فإما أن يكون مؤمنا بتحريمه أو لا يكون فإن كان مؤمنا بتحريمه فاعلا له فقد جمع بين أداء واجب وفعل محرم فصار له حسنة وسيئة والكلام إنما هو فيما لا يعذر بترك الإيمان بوجوبه وتحريمه من الأمور المتواترة وأما من لم يعتقد ذلك فيما فعله أو تركه بتأويل أو جهل يعذر به، فالكلام في تركه هذا الاعتقاد كالكلام فيما فعله أو تركه بتأويل أو جهل يعذر به. وأما كون ترك الإيمان بهذه الشرائع كفرا، وفعل المحرم المجرد ليس كفرا: فهذا مقرر في موضعه وقد دل على ذلك كتاب الله في قوله: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [1] إذ الإقرار بها مراد بالاتفاق، وفي ترك الفعل نزاع. وكذلك قوله: { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [2] ؛ فإن عدم الإيمان بوجوبه وتركه كفر والإيمان بوجوبه وفعله يجب أن يكون مرادا من هذا النص كما قال من قال من السلف: هو من لا يرى حجه برا ولا تركه إثما وأما الترك المجرد ففيه نزاع. وأيضا «حديث أبي بردة بن نيار لما بعثه النبي ﷺ إلى من تزوج امرأة أبيه فأمره أن يضرب عنقه ويخمس ماله»، فإن تخميس المال دل على أنه كان كافرا لا فاسقا وكفره بأنه لم يحرم ما حرم الله ورسوله. وكذلك الصحابة مثل عمر وعلي وغيرهما لما شرب الخمر قدامة بن عبد الله وكان بدريا، وتأول أنها تباح للمؤمنين المصلحين وأنه منهم بقوله: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [3] الآية فاتفق الصحابة على أنه إن أصر قتل وإن تاب جلد فتاب فجلد. وأما الذنوب ففي القرآن قطع السارق وجلد الزاني، ولم يحكم بكفرهم وكذلك فيه اقتتال الطائفتين مع بغي إحداهما على الأخرى، والشهادة لهما بالإيمان والأخوة وكذلك فيه قاتل النفس الذي يجب عليه القصاص جعله أخا، وقد قال الله فيه: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [4] فسماه أخا وهو قاتل. وقد ثبت في الصحيحين حديث أبي ذر لما قال له النبي ﷺ عن جبريل: «من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر على رغم أنف أبي ذر» وثبت في الصحاح حديث أبي سعيد وغيره في الشفاعة في أهل الكبائر وقوله: «أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال برة من إيمان، مثقال حبة من إيمان مثقال ذرة من إيمان» فهذه النصوص كما دلت على أن ذا الكبيرة لا يكفر مع الإيمان وأنه يخرج من النار بالشفاعة خلافا للمبتدعة من الخوارج في الأولى ولهم وللمعتزلة في الثانية نزاع: فقد دلت على أن الإيمان الذي خرجوا به من النار هو حسنة مأمور بها وأنه لا يقاومها شيء من الذنوب وهذا هو.
هامش
[التوبة: 11]
[آل عمران: 97]
[المائدة: 93]
[البقرة: 178]
========
لحسنات تذهب بعقوبة الذنوب
الوجه الرابع
وهو: أن الحسنات التي هي فعل المأمور به تذهب بعقوبة الذنوب والسيئات التي هي فعل المنهي عنه فإن فاعل المنهي يذهب إثمه بالتوبة وهي حسنة مأمور بها وبالأعمال الصالحة المقاومة وهي حسنات مأمور بها وبدعاء النبي ﷺ وشفاعته ودعاء المؤمنين وشفاعتهم وبالأعمال الصالحة التي تهدي إليه وكل ذلك من الحسنات المأمور بها. فما من سيئة هي فعل منهي عنه إلا لها حسنة تذهبها هي فعل مأمور به حتى الكفر سواء كان وجوديا أو عدميا فإن حسنة الإيمان تذهبه كما قال تعالى: { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [1] وقال النبي ﷺ: «الإسلام يجب ما كان قبله وفي رواية يهدم ما كان قبله» رواه مسلم. وأما الحسنات فلا تذهب ثوابها السيئات مطلقا فإن حسنة الإيمان لا تذهب إلا بنقيضها وهو الكفر، لأن الكفر ينافي الإيمان فلا يصير الكافر مؤمنا فلو زال الإيمان زال ثوابه لا لوجود سيئة ولهذا كان كل سيئة لا تذهب بعمل لا يزول ثوابه وهذا متفق عليه بين المسلمين حتى المبتدعة من الخوارج والمعتزلة فإن الخوارج يرون الكبيرة موجبة للكفر المنافي للإيمان والمعتزلة يرونها مخرجة له من الإيمان وإن لم يدخل بها في الكفر وأهل السنة والجماعة يرون أصل إيمانه باقيا فقد اتفقت الطوائف على أنه مع وجود إيمانه لا يزول ثوابه بشيء من السيئات والكفر وإن كانوا متفقين على أن مع وجوده لا يزول عقابه بشيء من الحسنات فذلك لأن الكفر يكفي فيه عدم الإيمان ولا يجب أن يكون أمرا موجودا كما تقدم فعقوبة الكفر هي ترك الإيمان وإن انضم إليها عقوبات على ما فعله من الكفر الوجودي أيضا. وكذلك قد روي في بعض ثواب الطاعات المأمور بها ما يدفع ويرفع عقوبة المعاصي المنهي عنها فإذا كان جنس ثواب الحسنات المأمور بها يدفع عقوبة كل معصية وليس جنس عقوبات السيئات المنهي عنها يدفع ثواب كل حسنة: ثبت رجحان الحسنات المأمور بها على ترك السيئات المنهي عنها. وفي هذا المعنى ما ورد في فضل لا إله إلا الله وأنها تطفئ نار السيئات، مثل حديث البطاقة وغيره.
هامش
[الأنفال: 38]
======
تارك المأمور به عليه قضاؤه وإن تركه لعذر
الوجه الخامس
أن تارك المأمور به عليه قضاؤه وإن تركه لعذر مثل ترك الصوم لمرض أو لسفر ومثل النوم عن الصلاة أو نسيانها ومثل من ترك شيئا من نسكه الواجب فعليه دم أو عليه فعل ما ترك إن أمكن وأما فاعل المنهي عنه إذا كان نائما أو ناسيا أو مخطئا فهو معفو عنه ليس عليه جبران إلا إذا اقترن به إتلاف كقتل النفس والمال. والكفارة فيه هل وجبت جبرا أو زجرا أو محوا؟ فيه نزاع بين الفقهاء. فحاصله أن تارك المأمور به وإن عذر في الترك لخطأ أو نسيان فلا بد له من الإتيان بالمثل أو بالجبران من غير الجنس بخلاف فاعل المنهي عنه فإنه تكفي فيه التوبة إلا في مواضع لمعنى آخر فعلم أن اقتضاء الشارع لفعل المأمور به أعظم من اقتضائه لترك المنهي عنه.
========
قتل من ترك أركان الإسلام الخمسة
الوجه السادس
أن مباني الإسلام الخمس المأمور بها وإن كان ضرر تركها لا يتعدى صاحبها فإنه يقتل بتركها في الجملة عند جماهير العلماء ويكفر أيضا عند كثير منهم أو أكثر السلف وأما فعل المنهي عنه الذي لا يتعدى ضرره صاحبه فإنه لا يقتل به عند أحد من الأئمة ولا يكفر به إلا إذا ناقض الإيمان لفوات الإيمان وكونه مرتدا أو زنديقا. وذلك أن من الأئمة من يقتله ويكفره بترك كل واحدة من الخمس لأن الإسلام بني عليها وهو قول طائفة من السلف ورواية عن أحمد اختارها بعض أصحابه. ومنهم من لا يقتله ولا يكفره إلا بترك الصلاة والزكاة وهي رواية أخرى عن أحمد كما دل عليه ظاهر القرآن في براءة وحديث ابن عمر وغيره ولأنهما منتظمان لحق الحق وحق الخلق كانتظام الشهادتين للربوبية والرسالة ولا بدل لهما من غير جنسهما بخلاف الصيام والحج. ومنهم من يقتله بهما ويكفره بالصلاة وبالزكاة إذا قاتل الإمام عليها كرواية عن أحمد. ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره إلا بالصلاة كرواية عن أحمد. ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره كرواية عن أحمد. ومنهم من لا يقتله إلا بالصلاة ولا يكفره كالمشهور من مذهب الشافعي لإمكان الاستيفاء منه. وتكفير تارك الصلاة هو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين. ومورد النزاع هو فيمن أقر بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها وأما من لم يقر بوجوبها فهو كافر باتفاقهم وليس الأمر كما يفهم من إطلاق بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: أنه إن جحد وجوبها كفر وإن لم يجحد وجوبها فهو مورد النزاع بل هنا ثلاثة أقسام:
أحدها: إن جحد وجوبها فهو كافر بالاتفاق.
والثاني: أن لا يجحد وجوبها لكنه ممتنع من التزام فعلها كبرا أو حسدا أو بغضا لله ورسوله فيقول: اعلم أن الله أوجبها على المسلمين والرسول صادق في تبليغ القرآن ولكنه ممتنع عن التزام الفعل استكبارا أو حسدا للرسول أو عصبية لدينه أو بغضا لما جاء به الرسول فهذا أيضا كافر بالاتفاق فإن إبليس لما ترك السجود المأمور به لم يكن جاحدا للإيجاب فإن الله تعالى باشره بالخطاب وإنما أبى واستكبر وكان من الكافرين. وكذلك أبو طالب كان مصدقا للرسول فيما بلغه لكنه ترك اتباعه حمية لدينه وخوفا من عار الانقياد واستكبارا عن أن تعلو أسته رأسه فهذا ينبغي أن يتفطن له ومن أطلق من الفقهاء أنه لا يكفر إلا من يجحد وجوبها فيكون الجحد عنده متناولا للتكذيب بالإيجاب ومتناولا للامتناع عن الإقرار والالتزام كما قال تعالى: { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ } [1] وقال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [2] وإلا فمتى لم يقر ويلتزم فعلها قتل وكفر بالاتفاق.
والثالث: أن يكون مقرا ملتزما، لكن تركها كسلا وتهاونا، أو اشتغالا بأغراض له عنها فهذا مورد النزاع كمن عليه دين وهو مقر بوجوبه ملتزم لأدائه لكنه يمطل بخلا أو تهاونا. وهنا قسم رابع وهو: أن يتركها ولا يقر بوجوبها، ولا يجحد وجوبها، لكنه مقر بالإسلام من حيث الجملة فهل هذا من موارد النزاع، أو من موارد الإجماع؟ ولعل كلام كثير من السلف متناول لهذا وهو المعرض عنها لا مقرا ولا منكرا.
وإنما هو متكلم بالإسلام فهذا فيه نظر فإن قلنا. يكفر بالاتفاق، فيكون اعتقاد وجوب هذه الواجبات على التعيين من الإيمان لا يكفي فيها الاعتقاد العام، كما في الخبريات من أحوال الجنة والنار والفرق بينهما أن الأفعال المأمور بها المطلوب فيها الفعل لا يكفي فيها الاعتقاد العام بل لا بد من اعتقاد خاص، بخلاف الأمور الخبرية، فإن الإيمان المجمل بما جاء به الرسول من صفات الرب وأمر المعاد يكفي فيه ما لم ينقض الجملة بالتفصيل ولهذا اكتفوا في هذه العقائد بالجمل وكرهوا فيها التفصيل المفضي إلى القتال والفتنة بخلاف الشرائع المأمور بها، فإنه لا يكتفي فيها بالجمل، بل لا بد من تفصيلها علما وعملا. وأما القاتل والزاني والمحارب فهؤلاء إنما يقتلون لعدوانهم على الخلق لما في ذلك من الفساد المتعدي ومن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه حد الله ولا يكفر أحد منهم. وأيضا فالمرتد يقتل لكفره بعد إيمانه: وإن لم يكن محاربا. فثبت أن الكفر والقتل لترك المأمور به أعظم منه لفعل المنهي عنه. وهذا الوجه قوي على مذهب الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد وجمهور السلف ودلائله من الكتاب والسنة متنوعة وأما على مذهب أبي حنيفة فقد يعارض بما قد يقال: إنه لا يوجب قتل أحد على ترك واجب أصلا حتى الإيمان، فإنه لا يقتل إلا المحارب لوجود الحراب منه وهو فعل المنهي عنه ويسوي بين الكفر الأصلي والطارئ فلا يقتل المرتد لعدم الحراب منه ولا يقتل من ترك الصلاة أو الزكاة إلا إذا كان في طائفة ممتنعة فيقاتلهم لوجود الحراب كما يقاتل البغاة وأما المنهي عنه فيقتل القاتل والزاني المحصن والمحارب إذا قتل فيكون الجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الاعتبار عند النزاع بالرد إلى الله وإلى الرسول والكتاب والسنة دال على ما ذكرناه من أن المرتد يقتل بالاتفاق وإن لم يكن من أهل القتال إذا كان أعمى أو زمنا أو راهبا والأسير يجوز قتله بعد أسره وإن كان حرابه قد انقضى.
الثاني: أن ما وجب فيه القتل إنما وجب على سبيل القصاص الذي يعتبر فيه المماثلة، فإن النفس بالنفس، كما تجب المقاصة في الأموال، فجزاء سيئة سيئة مثلها في النفوس والأموال والأعراض والأبشار، لكن إن لم يضر إلا المقتول كان قتله صائرا إلى أولياء المقتول، لأن الحق لهم كحق المظلوم في المال وإن قتله لأخذ المال كان قتله واجبا، لأجل المصلحة العامة التي هي حد الله كما يجب قطع يد السارق لأجل حفظ الأموال، ورد المال المسروق حق لصاحبه إن شاء أخذه وإن شاء تركه فخرجت هذه الصور عن النقض لم يبق ما يوجب القتل عنده بلا مماثلة إلا الزنا وهو من نوع العدوان أيضا ووقوع القتل به نادر، لخفائه وصعوبة الحجة عليه.
الثالث: أن العقوبة في الدنيا لا تدل على كبر الذنب وصغره، فإن الدنيا ليست دار الجزاء وإنما دار الجزاء هي الآخرة ولكن شرع من العقوبات في الدنيا ما يمنع الفساد والعدوان كما قال تعالى: { مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [3] وقالت الملائكة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء } [4]. فهذان السببان اللذان ذكرتهما الملائكة هما اللذان كتب الله على بني إسرائيل القتل بهما، ولهذا يقر كفار أهل الذمة بالجزية مع أن ذنبهم في ترك الإيمان أعظم باتفاق المسلمين من ذنب من نقتله من زان وقاتل. فأبو حنيفة رأى أن الكفر مطلقا إنما يقاتل صاحبه لمحاربته فمن لا حراب فيه لا يقاتل ولهذا يأخذ الجزية من غير أهل الكتاب العرب وإن كانوا وثنيين. وقد وافقه على ذلك مالك وأحمد في أحد قوليه ومع هذا يجوز القتل تعزيرا وسياسة في مواضع. وأما الشافعي فعنده نفس الكفر هو المبيح للدم إلا أن النساء والصبيان تركوا لكونهم مالا للمسلمين فيقتل المرتد لوجود الكفر وامتناع سببها عنده من الكفر بلا منفعة. وأما أحمد فالمبيح عنده أنواع أما الكافر الأصلي فالمبيح عنده هو وجود الضرر منه أو عدم النفع فيه أما الأول فالمحاربة بيد أو لسان فلا يقتل من لا محاربة فيه بحال من النساء والصبيان، والرهبان والعميان، والزمنى ونحوهم كما هو مذهب الجمهور.
وأما المرتد فالمبيح عنده هو الكفر بعد الإيمان وهو نوع خاص من الكفر، فإنه لو لم يقتل ذلك لكان الداخل في الدين يخرج منه فقتله حفظ لأهل الدين وللدين فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه بخلاف من لم يدخل فيه، فإنه إن كان كتابيا أو مشبها له فقد وجد إحدى غايتي القتال في حقه وإن كان وثنيا: فإن أخذت منه الجزية فهو كذلك وإن لم تؤخذ منه ففي جواز استرقاقه نزاع فمتى جاز استرقاقه كان ذلك كأخذ الجزية منه ومتى لم يمكن استرقاقه ولا أخذ الجزية منه بقي كافرا لا منفعة في حياته لنفسه - لأنه يزداد إثما - ولا للمؤمنين، فيكون قتله خيرا من إبقائه. وأما تارك الصلاة والزكاة: فإذا قتل كان عنده من قسم المرتدين لأنه بالإسلام ملتزم لهذه الأفعال فإذا لم يفعلها فقد ترك ما التزمه أو لأنها عنده من الغاية التي يمتد القتال إليها كالشهادتين فإنه لو تكلم بإحداهما وترك الأخرى لقتل لكن قد يفرق بينهما وأما إذا لم ويفرق في المرتد بين الردة المجردة فيقتل إلا أن يتوب وبين الردة المغلظة فيقتل بلا استتابة. فهذه مآخذ فقهية نبهنا بها على بعض أسباب القتل وقد تبين أنهم لا يتنازعون أن ترك المأمور به في الآخرة أعظم وأما في الدنيا فقد ذكرنا ما تقدم.
هامش
[الأنعام: 33]
[النمل: 14]
[المائدة: 32]
[البقرة: 30]
=========
أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية
الوجه السابع
إن أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع فإن النبي ﷺ أمر بقتال الخوارج ونهى عن قتال أئمة الظلم وقال في الذي يشرب الخمر: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» وقال في ذي الخويصرة: «يخرج من ضئضئ هذا أقوام يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين - وفي رواية من الإسلام - كما يمرق السهم من الرمية يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة». وقد قررت هذه القاعدة بالدلائل الكثيرة مما تقدم من القواعد ثم إن أهل المعاصي ذنوبهم فعل بعض ما نهوا عنه: من سرقة أو زنا أو شرب خمر أو أكل مال بالباطل. وأهل البدع ذنوبهم ترك ما أمروا به من اتباع السنة وجماعة المؤمنين فإن الخوارج أصل بدعتهم أنهم لا يرون طاعة الرسول واتباعه فيما خالف ظاهر القرآن عندهم وهذا ترك واجب. وكذلك الرافضة لا يرون عدالة الصحابة ومحبتهم والاستغفار لهم وهذا ترك واجب. وكذلك القدرية لا يؤمنون بعلم الله تعالى القديم ومشيئته الشاملة وقدرته الكاملة وهذا ترك واجب. وكذلك الجبرية لا تثبت قدرة العبد ومشيئته وقد يدفعون الأمر بالقدر وهذا ترك واجب. وكذلك مقتصدة المرجئة مع أن بدعتهم من بدع الفقهاء ليس فيها كفر بلا خلاف عند أحد من الأئمة ومن أدخلهم من أصحابنا في البدع التي حكى فيها التكفير ونصره فقد غلط في ذلك وإنما كان لأنهم لا يرون إدخال الأعمال أو الأقوال في الإيمان وهذا ترك واجب وأما غالية المرجئة الذين يكفرون بالعقاب ويزعمون أن النصوص خوفت بما لا حقيقة له فهذا القول عظيم وهو ترك واجب وكذلك الوعيدية لا يرون اعتقاد خروج أهل الكبائر من النار ولا قبول الشفاعة فيهم وهذا ترك واجب فإن قيل: قد يضمون إلى ذلك اعتقادا محرما: من تكفير وتفسيق وتخليد. قيل: هم في ذلك مع أهل السنة بمنزلة الكفار مع المؤمنين فنفس ترك الإيمان بما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع ضلالة وإن لم يكن معه اعتقاد وجودي فإذا انضم إليه اجتمع الأمران ولو كان معهم أصل من السنة لما وقعوا في البدعة.
=======
أكثر شرك بني آدم من عدم التصديق بالحق
الوجه الثامن
أن ضلال بني آدم وخطأهم في أصول دينهم وفروعه إذا تأملته تجد أكثره من عدم التصديق بالحق، لا من التصديق بالباطل. فما من مسألة تنازع الناس فيها في الغالب إلا وتجد ما أثبته الفريقان صحيحا وإنما تجد الضلال وقع من جهة النفي والتكذيب. مثال ذلك أن الكفار لم يضلوا من جهة ما أثبتوه من وجود الحق وإنما أتوا من جهة ما نفوه من كتابه وسنة رسوله وغير ذلك وحينئذ وقعوا في الشرك وكل أمة مشركة أصل شركها عدم كتاب منزل من السماء وكل أمة مخلصة أصل إخلاصها كتاب منزل من السماء فإن بني آدم محتاجون إلى شرع يكمل فطرهم فافتتح الله الجنس بنبوة آدم كما قال تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا } [1] وهلم جرا. فمن خرج عن النبوات وقع في الشرك وغيره وهذا عام في كل كافر غير كتابي فإنه مشرك وشركه لعدم إيمانه بالرسل الذين قال الله فيهم: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [2]. ولم يكن الشرك أصلا في الآدميين بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله لاتباعهم النبوة قال تعالى: { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ } [3] قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام فبتركهم اتباع شريعة الأنبياء وقعوا في الشرك لا بوقوعهم في الشرك خرجوا عن شريعة الإسلام فإن آدم أمرهم بما أمره الله به حيث قال له: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [4] وقال في الآية الأخرى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [5]. فهذا الكلام الذي خاطب الله به آدم وغيره لما أهبطهم قد تضمن أنه أوجب عليهم اتباع هداه المنزل وهو الوحي الوارد على أنبيائه وتضمن أن من أعرض عنه وإن لم يكذب به فإنه يكون يوم القيامة في العذاب المهين وإن معيشته تكون ضنكا في هذه الحياة وفي البرزخ والآخرة وهي المضنوكة النكدة المحشوة بأنواع الهموم والغموم والأحزان كما أن الحياة الطيبة هي لمن آمن وعمل صالحا. فمن تمسك به فإنه لا يشرك بربه فإن الرسل جميعهم أمروا بالتوحيد وأمروا به قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [6] فبين أنه لا بد أن يوحي بالتوحيد إلى كل رسول وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [7] فبين أنه لم يشرع الشرك قط فهذان النصان قد دلا على أنه أمر بالتوحيد لكل رسول ولم يأمر بالإشراك قط وقد أمر آدم وبنيه من حين أهبط باتباع هداه الذي يوحيه إلى الأنبياء فثبت أن علة الشرك كان من ترك اتباع الأنبياء والمرسلين فيما أمروا به من التوحيد والدين لا أن الشرك كان علة للكفر بالرسل فإن الإشراك والكفر بالرسل متلازمان في الواقع فهذا في الكفار بالنبوات المشركين. وأما أهل الكتاب فإن اليهود لم يؤتوا من جهة ما أقروا به من نبوة موسى والإيمان بالتوراة بل هم في ذلك مهتدون وهو رأس هداهم وإنما أتوا من جهة ما لم يقروا به من رسالة المسيح ومحمد ﷺ كما قال تعالى فيهم: { فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } [8] غضب بكفرهم بالمسيح وغضب بكفرهم بمحمد ﷺ وهذا من باب ترك المأمور به. وكذلك النصارى لم يؤتوا من جهة ما أقروا به من الإيمان بأنبياء بني إسرائيل والمسيح وإنما أتوا من جهة كفرهم بمحمد ﷺ وأما ما وقعوا فيه من التثليث والاتحاد الذي كفروا فيه بالتوحيد والرسالة فهو من جهة عدم اتباعهم لنصوص التوراة والإنجيل المحكمة التي تأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وتبين عبودية المسيح وأنه عبد لله كما أخبر الله عنه بقوله: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [9] فلما تركوا اتباع هذه النصوص إيمانا وعملا وعندهم رغبة في العبادة والتأله ابتدعوا الرهبانية وغلوا في المسيح هوى من عند أنفسهم وتمسكوا بمتشابه من الكلمات لظن ظنوه فيها وهوى اتبعوه خرج بهم عن الحق فهم { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } [10] ولهذا كان سيماهم الضلال كما قال تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } [11]. والضال ضد المهتدي وهو العادل عن طريق الحق بلا علم وعدم العلم المأمور به والهدى بالمأمور ترك واجب فأصل كفرهم ترك الواجب وحينئذ تفرقوا في التثليث والاتحاد ووقعت بينهم العداوة والبغضاء وصاروا ملكية، ويعقوبية، ونسطورية، وغيرهم وهذا المعنى قد بينه القرآن مع أن هذا يصلح أن يكون دليلا مستقلا، لما فيه من بيان أن ترك الواجب سبب لفعل المحرم قال تعالى: { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [12] فهذا نص في أنهم تركوا بعض ما أمروا به فكان تركه سببا لوقوع العداوة والبغضاء المحرمين وكان هذا دليلا على أن ترك الواجب يكون سببا لفعل المحرم كالعداوة والبغضاء والسبب أقوى من المسبب. وكذلك قال في اليهود: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ } [13] فنقض الميثاق ترك ما أمروا به، فإن الميثاق يتضمن واجبات وهي قوله: { وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } [14] الآيات. فقد أخبر تعالى أنه بترك ما أوجبه عليهم من الميثاق وإن كان واجبا بالأمر حصلت لهم هذه العقوبات التي منها فعل هذه المحرمات من قسوة القلوب، وتحريف الكلم عن مواضعه، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به. وأخبر في أثناء السورة أنه ألقى بينهم العداوة والبغضاء في قوله: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } [15] الآية وقد قال المفسرون من السلف مثل قتادة وغيره في فرق النصارى ما أشرنا إليه. وهكذا إذا تأملت أهل الضلال والخطأ من هذه الأمة تجد الأصل ترك الحسنات لا فعل السيئات وأنهم فيما يثبتونه أصل أمرهم صحيح وإنما أتوا من جهة ما نفوه والإثبات فعل حسنة والنفي ترك سيئة فعلم أن ترك الحسنات أضر من فعل السيئات وهو أصله. مثال ذلك: أن الوعيدية من الخوارج وغيرهم فيما يعظمونه من أمر المعاصي والنهي عنها واتباع القرآن وتعظيمه أحسنوا لكن إنما أتوا من جهة عدم اتباعهم للسنة وإيمانهم بما دلت عليه من الرحمة للمؤمن وإن كان ذا كبيرة. وكذلك المرجئة فيما أثبتوه من إيمان أهل الذنوب والرحمة لهم أحسنوا لكن إنما أصل إساءتهم من جهة ما نفوه من دخول الأعمال في الإيمان وعقوبات أهل الكبائر. فالأولون بالغوا في النهي عن المنكر، وقصروا في الأمر بالمعروف. وهؤلاء قصروا في النهي عن المنكر وفي الأمر بكثير من المعروف. وكذلك القدرية هم في تعظيم المعاصي وذم فاعلها وتنزيه الله تعالى عن الظلم وفعل القبيح محسنون وإنما أساءوا في نفيهم مشيئة الله الشاملة وقدرته الكاملة وعلمه القديم أيضا. وكذلك الجهمية، فإن أصل ضلالهم إنما هو التعطيل وجحد ما جاءت به الرسل عن الله عز وجل من أسمائه وصفاته. والأمر فيهم ظاهر جدا. ولهذا قلنا غير مرة أن الرسل جاءوا بالإثبات المفصل والنفي المجمل والكفار من المتفلسفة الصابئين والمشركين جاءوا بالنفي المفصل والإثبات المجمل والإثبات فعل حسنات مأمور بها إيجابا واستحبابا والنفي ترك سيئات أو حسنات مأمور بها فعلم أن ضلالهم من باب ترك الواجب وترك الإثبات. وبالجملة فالأمور نوعان: إخبار، وإنشاء. فالإخبار ينقسم إلى إثبات ونفي: إيجاب وسلب كما يقال في تقسيم القضايا إلى إيجاب وسلب. والإنشاء فيه الأمر والنهي. فأصل الهدى ودين الحق هو: إثبات الحق الموجود،
 
 
 وفعل الحق المقصود، وترك المحرم، ونفي الباطل تبع. وأصل الضلال ودين الباطل: التكذيب بالحق الموجود وترك الحق المقصود ثم فعل المحرم وإثبات الباطل تبع لذلك. فتدبر هذا فإنه أمر عظيم تنفتح لك به أبواب من الهدى.
هامش
[المائدة: 64]
[البقرة: 31]
[النحل: 36]
[يونس: 19]
[البقرة: 38، 39]
[طه: 123: 126]
[الأنبياء: 25]
[الزخرف: 45]
[البقرة: 90]
[المائدة: 117]
[النجم: 23]
[المائدة: 77]
[المائدة: 14]
[المائدة: 13]
[المائدة: 12، 13]
===================================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج10. الادب المفرد للبخاري {من1182 الي1322 }

  ج10. الادب المفرد للبخاري {من 1182 الي 1322  }   المحتويات المقدمة باب الاحتباء باب من برك على ركبتيه باب الاستلقاء باب الضجعة...