Translate

الأحد، 6 مارس 2022

مجموع الفتاوى/المجلد التاسع عشر/فصل في أن الرسول بين جميع أصول الدين وفروعه فصل في أن الرسول بين جميع أصول الدين وفروعه الي اخر فصل في العلوم الشرعية والعقلية




مجموع الفتاوى/المجلد التاسع عشر/فصل في أن الرسول بين جميع أصول الدين وفروعه
فصل في أن الرسول بين جميع أصول الدين وفروعه
فصل في أن رسول الله ﷺ بَيَّنَ جميع الدين؛ أصوله وفروعه، باطنه وظاهره، علمه وعمله، فإن هذا الأصل هو أصل أصول العلم والإيمان، وكل من كان أعظم اعتصامًا بهذا الأصل كان أولى بالحق علمًا وعملًا، ومن كان أبعد عن الحق علمًا وعملًا: كالقرامطة والمتفلسفة الذين يظنون أن الرسل ما كانوا يعلمون حقائق العلوم الإلهية والكلية، وإنما يعرف ذلك بزعمهم من يعرفه من المتفلسفة، ويقولون: خاصة النبوة هي التخييل، ويجعلون النبوة أفضل من غيرها عند الجمهور لا عند أهل المعرفة، كما يقول هذا ونحوه الفارأبي وأمثاله، مثل مُبَشِّر بن فَاتِك وأمثاله من الإسماعيلية.
وآخرون يعترفون بأن الرسول علم الحقائق، لكن يقولون: لم يبينها، بل خاطب الجمهور بالتخييل، فيجعلون التخييل في خطابه لا في علمه، كما يقول ذلك ابن سينا وأمثاله.
وآخرون يعترفون بأن الرسل علموا الحق وبينوه، لكن يقولون: لا يمكن معرفته من كلامهم، بل يعرف بطريق آخر؛ إما المعقول عند طائفة، وإما المكاشفة عند طائفة، إما قياس فلسفي، وإما خيال صوفي. ثم بعد ذلك ينظر في كلام الرسول فما وافق ذلك قبل، وما خالفه؛ إما أن يفوض، وإما أن يؤول. وهذه طريقة كثير من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة، وهي طريقة خيار الباطنية والفلاسفة الذين يعظمون الرسول وينزهونه عن الجهل والكذب، لكن يدخلون في التأويل.
وأبو حامد الغزالي لما ذكر في كتابه طرق الناس في التأويل، وأن الفلاسفة زادوا فيه حتى انحلوا، وأن الحق بين جمود الحنابلة، وبين انحلال الفلاسفة، وأن ذلك لا يعرف من جهة السمع، بل تعرف الحق بنور يقذف في قلبك، ثم ينظر في السمع، فما وافق ذلك قبلته وإلا فلا. وكان مقصوده بالفلاسفة المتأولين خيار الفلاسفة، وهم الذين يعظمون الرسول عن أن يكذب للمصلحة، ولكن هؤلاء وقعوا في نظير ما فروا منه، نسبوه إلى التلبيس والتعمية وإضلال الخلق، بل إلى أن يظهر الباطل ويكتم الحق.
وابن سينا وأمثاله، لما عرفوا أن كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية، بل قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب سلك مسلك التخييل، وقال: إنه خاطب الجمهور بما يخيل إليهم، ومع علمه أن الحق في نفس الأمر ليس كذلك. فهؤلاء يقولون: إن الرسل كذبوا للمصلحة.
وهذا طريق ابن رشد الحفيد [1] وأمثاله من الباطنية، فالذين عظموا الرسل من هؤلاء عن الكذب نسبوهم إلى التلبيس والإضلال، والذين أقروا بأنهم بينوا الحق قالوا: إنهم كذبوا للمصلحة.
وأما أهل العلم والإيمان فمتفقون على أن الرسل لم يقولوا إلا الحق، وأنهم بينوه، مع علمهم بأنهم أعلم الخلق بالحق، فهم الصادقون المصدوقون علموا الحق وبينوه، فمن قال: إنهم كذبوا للمصلحة فهو من إخوان المكذبين للرسل، لكن هذا لما رأى ما عملوا من الخير والعدل في العالم لم يمكنه أن يقول: كذبوا لطلب العلو والفساد، بل قال: كذبوا لمصلحة الخلق. كما يحكى عن ابن التَّومَرْت وأمثاله.
ولهذا كان هؤلاء لا يفرقون بين النبي والساحر إلا من جهة حُسْنِ القصد، فإن النبي يقصد الخير والساحر يقصد الشر، وإلا فلكل منهما خوارق هي عندهم قوى نفسانية، وكلاهما عندهم يكذب، لكن الساحر يكذب للعلو والفساد والنبي عندهم يكذب للمصلحة؛ إذ لم يمكنه إقامة العدل فيهم إلا بنوع من الكذب.
والذين علموا أن النبوة تناقض الكذب على الله، وأن النبي لا يكون إلا صادقًا من هؤلاء قالوا: إنهم لم يبينوا الحق، ولو أنهم قالوا: سكتوا عن بيانه لكان أقل إلحادًا، لكن قالوا: إنهم أخبروا بما يظهر منه للناس الباطل، ولم يبينوا لهم الحق، فعندهم أنهم جمعوا بين شيئين: بين كتمان حق لم يبينوه، وبين إظهار ما يدل على الباطل، وإن كانوا لم يقصدوا الباطل، فجعلوا كلامهم من جنس المعاريض التي يعني بها المتكلم معنى صحيحًا، لكن لا يفهم المستمع منها إلا الباطل. وإذا قالوا: قصدوا التعريض كان أقل إلحادًا ممن قال: إنهم قصدوا الكذب.
والتعريض نوع من الكذب؛ إذ كان كذبًا في الإفهام؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله»، وهي معاريض، كقوله عن سارة: إنها أختي؛ إذ كان ليس هناك مؤمن إلا هو وهي.
وهؤلاء يقولون: إن كلام إبراهيم وعامة الأنبياء مما أخبروا به عن الغيب كذب من المعاريض!
وأما جمهور المتكلمين فلا يقولون بهذا، بل يقولون: قصدوا البيان دون التعريض، لكن مع هذا يقول الجهمية ونحوهم: إن بيان الحق ليس في خطابهم، بل إنما في خطابهم ما يدل على الباطل. والمتكلمون من الجهمية والمعتزلة والأشعرية، ونحوهم ممن سلك في إثبات الصانع طريق الإعراض يقولون: إن الصحابة لم يبينوا أصول الدين، بل ولا الرسول؛ إما لشغلهم بالجهاد، أو لغير ذلك.
وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع، وبينا أن أصول الدين الحق الذي أنزل الله به كتابه، وأرسل به رسوله، وهي الأدلة والبراهين والآيات الدالة على ذلك قد بينها الرسول أحسن بيان، وأنه دل الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية التي بها يعلمون المطالب الإلهية، وبها يعلمون إثبات ربوبية الله ووحدانيته وصفاته وصدق رسوله والمعاد، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة العقلية، بل وما يمكن بيانه بالأدلة العقلية، وإن كان لا يحتاج إليها؛ فإن كثيرًا من الأمور تعرف بالخبر الصادق، ومع هذا فالرسول بين الأدلة العقلية الدالة عليها، فجمع بين الطرفين: السمعي والعقلي.
وبينا أن دلالة الكتاب والسنة على أصول الدين ليست بمجرد الخبر، كما تظنه طائفة من الغالطين من أهل الكلام والحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم، بل الكتاب والسنة دلا الخلق وَهدَياهم إلى الآيات والبراهين والأدلة المبينة لأصول الدين، وهؤلاء الغالطون الذين أعرضوا عما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية صاروا إذا صنفوا في أصول الدين أحزابًا:
حزب: يقدمون في كتبهم الكلام في النظر والدليل والعلم، وأن النظر يوجب العلم، وأنه واجب، ويتكلمون في جنس النظر وجنس الدليل وجنس العلم بكلام قد اختلط فيه الحق بالباطل، ثم إذا صاروا إلى ما هو الأصل والدليل للذين استدلوا بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام، وهو دليل مبتدع في الشرع وباطل في العقل.
والحزب الثاني: عرفوا أن هذا الكلام مبتدع، وهو مستلزم مخالفة الكتاب والسنة، وعنه ينشأ القول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرَي في الآخرة وليس فوق العرش، ونحو ذلك من بدع الجهمية، فصنفوا كتبًا قدموا فيها ما يدل على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة من القرآن والحديث وكلام السلف، وذكروا أشياء صحيحة لكنهم قد يخلطون الآثار صحيحها بضعيفها، وقد يستدلون بما لا يدل على المطلوب.
وأيضا، فهم إنما يستدلون بالقرآن من جهة أخباره لا من جهة دلالته، فلا يذكرون ما فيه من الأدلة على إثبات الربوبية والوحدانية والنبوة والمعاد، وأنه قد بين الأدلة العقلية الدالة على ذلك؛ ولهذا سموا كتبهم أصول السنة والشريعة، ونحو ذلك، وجعلوا الإيمان بالرسول قد استقر، فلا يحتاج أن يبين الأدلة الدالة عليه، فذمهم أولئك ونسبوهم إلى الجهل؛ إذ لم يذكروا الأصول الدالة على صدق الرسول، وهؤلاء ينسبون أولئك إلى البدعة، بل إلى الكفر؛ لكونهم أصلوا أصولا تخالف ما قاله الرسول.
والطائفتان يلحقهما الملام؛ لكونهما أعرضتا عن الأصول التي بينها الله بكتابه، فإنها أصول الدين وأدلته وآياته، فلما أعرض عنها الطائفتان وقع بينها العداوة؛ كما قال الله تعالى: { فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [2].
وحزب ثالث: قد عرف تفريط هؤلاء، وتعدِّي أولئك وبدعتهم، فذمهم وذم طالب العلم الذكي الذي اشتاقت نفسه إلى معرفة الأدلة، والخروج عن التقليد إذا سلك طريقهم، وقال: إن طريقهم ضارة، وإن السلف لم يسلكوها، ونحو ذلك مما يقتضي ذمها، وهو كلام صحيح، لكنه إنما يدل على أمر مجمل لا تتبين دلالته على المطلوب، بل قد يعتقد طريق المتكلمين مع قوله: إنه بدعة، ولا يفتح أبواب الأدلة التي ذكرها الله في القرآن التي تبين أن ما جاء به الرسول حق، ويخرج الذكي بمعرفتها عن التقليد وعن الضلال والبدعة والجهل.
فهؤلاء أضل بفرقهم؛ لأنهم لم يتدبروا القرآن، وأعرضوا عن آيات الله التي بينها بكتابه، كما يعرض من يعرض عن آيات الله المخلوقة، قال الله تعالى: { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [3]، وقال تعالى: { وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [4]، وقال تعالى: { إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [5]، وقال تعالى: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } [6]، وقال تعالى: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } [7]، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ } الآية [8]، وقال تعالى: { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } [9]، وقال تعالى: { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } [10]، ومثل هذا كثير، لبسطه مواضع أُخر.
والمقصود أن هؤلاء الغالطين الذين أعرضوا عما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية لا يذكرون النظر والدليل والعلم الذي جاء به الرسول، والقرآن مملوء من ذلك. والمتكلمون يعترفون بأن في القرآن من الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين ما فيه، لكنهم يسلكون طرقًا أخر كطريق الأعراض.
ومنهم من يظن أن هذه طريق إبراهيم الخليل، وهو غالط.
والمتفلسفة يقولون: القرآن جاء بالطريق الخطابية والمقدمات الإقناعية التي تقنع الجمهور، ويقولون: إن المتكلمين جاؤوا بالطرق الجدلية، ويدعون أنهم هم أهل البرهان إلىقيني. وهم أبعد عن البرهان في الإلهيات من المتكلمين، والمتكلمون أعلم منهم بالعلميات البرهانية في الإلهيات والكليات، ولكن للمتفلسفة في الطبيعيات خوض وتفصيل تميزوا به، بخلاف الإلهيات فإنهم من أجهل الناس بها، وأبعدهم عن معرفة الحق فيها، وكلام أرسطو معلمهم فيها قليل كثير الخطأ، فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقي. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
والقرآن جاء بالبينات والهدي؛ بالآيات البينات وهي الدلائل إلىقينيات، وقد قال الله تعالى لرسوله: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [11]، والمتفلسفة يفسرون ذلك بطرقهم المنطقية في البرهان والخطابة والجدل، وهو ضلال من وجوه قد بسطت في غير هذا الموضع، بل الحكمة هي معرفة الحق والعمل به، فالقلوب التي لها فهم وقصد تدعي بالحكمة، فيبين لها الحق علمًا وعملا فتقبله وتعمل به.
وآخرون يعترفون بالحق لكن لهم أهواء تصدهم عن اتباعه، فهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل. والوعظ أمر ونهي بترغيب وترهيب، كما قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } [12]، وقال تعالى: { يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا } [13]، فالدعوة بهذين الطريقين لمن قبل الحق، ومن لم يقبله فإنه يجادل بالتي هي أحسن.
والقرآن مشتمل على هذا وهذا؛ ولهذا إذا جادل يسأل ويستفهم عن المقدمات البينة البرهانية التي لا يمكن أحد أن يجحدها؛ لتقرير المخاطب بالحق ولاعترافه بإنكار الباطل، كما في مثل قوله: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } [14]، وقوله: { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [15]، وقوله: { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم } [16]، وقوله: { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى } [17]، وقوله: { أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } [18]، وقوله: { وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } [19]، وقوله: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } [20]، وقوله: { أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ } [21]، وقوله: { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [22]، إلى أمثال ذلك مما يخاطبهم باستفهام التقرير، المتضمن إقرارهم واعترافهم بالمقدمات البرهانية التي تدل على المطلوب، فهو من أحسن جدل بالبرهان؛ فإن الجدل إنما يشترط فيه أن يسلم الخصم المقدمات وإن لم تكن بَيِّنَةٌ معروفة، فإذا كانت بينة معروفة كانت برهانية.
والقرآن لا يحتج في مجادلته بمقدمة لمجرد تسليم الخصم بها، كما هي الطريقة الجدلية عند أهل المنطق وغيرهم، بل بالقضايا والمقدمات التي تسلمها الناس، وهي برهانية، وإن كان بعضهم يسلمها، وبعضهم ينازع فيها ذكر الدليل على صحتها، كقوله: { وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ } [23]، فإن الخطاب لما كان مع من يقر بنبوة موسى من أهل الكتاب، ومع من ينكرها من المشركين ذكر ذلك بقوله: }قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى }، وقد بين البراهين الدالة على صدق موسى في غير موضع.
وعلى قراءة من قرأ: { يبدونها }؛ كابن كثير وأبي عمرو جعلوا الخطاب مع المشركين وجعلوا قوله: { وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ } احتجاجًا على المشركين بما جاء به محمد؛ فالحجة على أولئك نبوة موسى، وعلى هؤلاء نبوة محمد، ولكل منهما من البراهين ما قد بين بعضه في غير موضع.
وعلى قراءة الأكثرين بالتاء هو خطاب لأهل الكتاب، وقوله: { وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ } بيان لما جاءت به الأنبياء مما أنكروه، فعلمهم الأنبياء ما لم يقبلوه ولم يعلموه، فاستدل بما عرفوه من أخبار الأنبياء، وما لم يعرفوه.
وقد قص سبحانه قصة موسى، وأظهر براهين موسى وآياته التي هي من أظهر البراهين والأدلة، حتي اعترف بها السحرة الذين جمعهم فرعون، وناهيك بذلك، فلما أظهر الله حق موسى، وأتي بالآيات التي علم بالاضطرار أنها من الله، وابتلعت عصاه الحبال والعصي التي أتي بها السحرة بعد أن جاؤوا بسحر عظيم، وسحروا أعين الناس واسترهبوا الناس، ثم لما ظهر الحق وانقلبوا صاغرين قالوا: { قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [24]، فقال لهم فرعون: { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ } [25]، من الدلائل البينات اليقينية القطعية، وعلى الذي فطرنا؛ وهو خالقنا وربنا الذي لابد لنا منه، لن نؤثرك على هذه الدلائل اليقينية، وعلى خالق البرية { قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [26].
وقد ذكر الله هذه القصة في عدة مواضع من القرآن، يبين في كل موضع منها من الاعتبار والاستدلال نوعًا غير النوع الآخر، كما يسمي الله ورسوله وكتابه بأسماء متعددة، كل اسم يدل على معني لم يدل عليه الاسم الآخر، وليس في هذا تكرار، بل فيه تنويع الآيات، مثل: أسماء النبي ﷺ إذا قيل: محمد، وأحمد، والحاشِرُ، والعاقب، والمقفي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، في كل اسم دلالة على معني ليس في الاسم الآخر، وإن كانت الذات واحدة فالصفات متنوعة.
وكذلك القرآن إذا قيل فيه: قرآن، وفرقان، وبيان؛ وهدي، وبصائر، وشفاء، ونور، ورحمة، وروح، فكل اسم يدل على معني ليس هو المعني الآخر.
وكذلك أسماء الرب تعالى إذا قيل: الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، فكل اسم يدل على معني ليس هو المعني الذي في الاسم الآخر، فالذات واحدة والصفات متعددة، فهذا في الأسماء المفردة.
وكذلك في الجمل التامة، يعبر عن القصة بجمل تدل على معان فيها، ثم يعبر عنها بجمل أخري تدل على معان أخر، وإن كانت القصة المذكورة ذاتها واحدة فصفاتها متعددة، ففي كل جملة من الجمل معني ليس في الجمل الأخر.
وليس في القرآن تكرار أصلا، وأما ما ذكره بعض الناس من أنه كرر القصص مع إمكان الاكتفاء بالواحدة، وكان الحكمة فيه: أن وفود العرب كانت ترد على رسول الله ﷺ، فيقرئهم المسلمون شيئًا من القرآن، فيكون ذلك كافيا، وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة، فلو لم تكن الآيات والقصص مثناة متكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسي إلى قوم، وقصة نوح إلى قوم، فأراد الله أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض، وأن يلقيها إلى كل سمع. فهذا كلام من لم يقدر القرآن قدره. وأبو الفرج اقتصر على هذا الجواب في قوله: { مَّثَانِيَ } [27] لما قيل: لم ثنيت؟ وبسط هذا له موضع آخر، فإن التثنية هي التنويع والتجنيس، وهي استيفاء الأقسام؛ ولهذا يقول من يقول من السلف: الأقسام والأمثال.
والمقصود هنا التنبيه على أن القرآن اشتمل على أصول الدين التي تستحق هذا الاسم، وعلى البراهين والآيات والأدلة اليقينية، بخلاف ما أحدثه المبتدعون والملحدون، كما قال الرازي مع خبرته بطرق هؤلاء: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما وجدتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [28]، { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [29]، واقرأ في النفي: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [30]، { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [31]، قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
والخير والسعادة والكمال والصلاح منحصر في نوعين: في العلم النافع، والعمل الصالح. وقد بعث الله محمدا بأفضل ذلك وهو الهدي ودين الحق، كما قال: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا } [32]، وقد قال تعالى: }وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } [33]، فذكر النوعين. قال الوَالِبي عن ابن عباس يقول: أولو القوة في العبادة، قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير وعطاء الخراساني والحسن والضحاك والسدي وقتادة وأبي سنان ومبشر بن عبيد نحو ذلك. و { وَالْأَبْصَارِ } قال: الأبصار: الفقه في الدين. وقال مجاهد: { وَالْأَبْصَارِ } الصواب في الحكم. وعن سعيد بن جبير قال: البصيرة بدين الله وكتابه. وعن عطاء الخراساني: { أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } قال: أولو القوة في العبادة والبصر والعلم بأمر الله. وعن مجاهد، وروي عن قتادة قال: أعطوا قوة في العبادة وبصرًا في الدين.
وجميع حكماء الأمم يفضلون هذين النوعين، مثل حكماء إلىونان والهند والعرب، قال ابن قُتَيبة: الحكمة عند العرب العلم والعمل، فالعمل الصالح هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو الدين دين الإسلام، والعلم والهدي هو تصديق الرسول فيما أخبر به عن الله وملائكته وكتبه ورسله وإلىوم الآخر، وغير ذلك، فالعلم النافع هو الإيمان، والعمل الصالح هو الإسلام، العلم النافع من علم الله، والعمل الصالح هو العمل بأمر الله، هذا تصديق الرسول فيما أخبر، وهذا طاعته فيما أمر. وضد الأول أن يقول على الله ما لا يعلم، وضد الثاني أن يشرك بالله ما لم ينزل به سلطانًا، والأول أشرف، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } [34]، وجميع الطوائف تفضل هذين النوعين، لكن الذي جاء به الرسول هو أفضل ما فيهما، كما قال: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [35].
وكان النبي ﷺ يقرأ في ركعتي الفجر تارة سورة الإخلاص وقل يا أيها الكفرون، ففي قل يا أيها الكافرون عبادة الله وحده وهو دين الإسلام، وفي قل هو الله أحد صفة الرحمن، وأن يقال فيه ويخبر عنه بما يستحقه وهو الإيمان، هذا هو التوحيد القولي، وذلك هو التوحيد العملي.
وكان تارة يقرأ فيهما في الأولي بقوله في البقرة: { قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [36]، وفي الثانية: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } إلى قوله: { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [37].
قال أبو العالية في قوله: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [38]، قال: خلتان يسئل عنهما كل أحد: ماذا كنت تعبد؟ وماذا أجبت المرسلين؟ فالأولي تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثانية تحقيق الشهادة بأن محمدا رسول الله.
والصوفية بنوا أمرهم على الإرادة ولابد منها، لكن بشرط أن تكون إرادة عبادة الله وحده بما أمر.
والمتكلمون بنوا أمرهم على النظر المقتضي للعلم ولابد منه، لكن بشرط أن يكون علمًا بما أخبر به الرسول ﷺ، والنظر في الأدلة التي دل بها الرسول وهي آيات الله، ولابد من هذا وهذا.
ومن طلب علمًا بلا إرادة، أو إرادة بلا علم فهو ضال، ومن طلب هذا وهذا بدون اتباع الرسول فيهما فهو ضال، بل كما قال من قال من السلف: الدين والإيمان قول وعمل واتباع السنة. وأهل الفقه في الأعمال الظاهرة يتكلمون في العبادات الظاهرة، وأهل التصوف والزهد يتكلمون في قصد الإنسان وإرادته، وأهل النظر والكلام وأهل العقائد من أهل الحديث وغيرهم يتكلمون في العلم والمعرفة والتصديق الذي هو أصل الإرادة، ويقولون: العبادة لابد فيها من القصد، والقصد لا يصح إلا بعد العلم بالمقصود المعبود، وهذا صحيح، فلابد من معرفة المعبود وما يعبد به، فالضالون من المشركين والنصارى وأشباههم لهم عبادات وزهادات لكن لغير الله أو بغير أمر الله، وإنما القصد والإرادة النافعة هو إرادة عبادة الله وحده، وهو إنما يعبد بما شرع لا بالبدع.
وعلى هذين الأصلين يدور دين الإسلام: على أن يعبد الله وحده، وأن يعبد بما شرع، ولا يعبد بالبدع، وأما العلم والمعرفة والتصوف فمدارها على أن يعرف ما أخبر به الرسول، ويعرف أن ما أخبر به حق؛ إما لعلمنا بأنه لا يقول إلا حقًا، وهذا تصديق عام، وإما لعلمنا بأن ذلك الخبر حق بما أظهر الله من آيات صدقه، فإنه أنزل الكتاب والميزان، وأري الناس آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتي يتبين لهم أن القرآن حق.
هامش
[الحجر: 92، 93]
============================
[هو محمد بن أبي القاسم أحمد ابن شيخ المالكية أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي، ولد سنة عشرين وخمسمائة. ومن تصانيفه: بداية المجتهد. مات محبوسا بمراكش سنة خمس وتسعين وخمسمائة]
[المائدة: 14]
[يوسف: 105]
[يونس: 101]
[يونس: 7، 8]
[ص: 29]
[الروم: 58]
[النحل: 43، 44]
[فاطر: 4]
[فاطر: 25]
[النحل: 125]
[النساء: 66]
[النور: 17]
[الطور: 35]
[ق: 15]
[يس: 81]
[القيامة: 36 40]
[الواقعة: 58، 59]
[طه: 133]
[العنكبوت: 51]
[الشعراء: 197]
[البلد: 8 10]
[الأنعام: 91]
[الأعراف: 121، 122]
[طه: 71، 72]
[طه: 72، 73]
[الزمر: 23]
[فاطر: 10]
[طه: 5]
[الشورى: 11]
[طه: 110]
[الفتح: 28]
[ص: 45]
[الحجرات: 14]
[الإسراء: 9]
[البقرة: 136]
[آل عمران: 64]

=============





مجموع الفتاوى/المجلد التاسع عشر/فصل في العمليات أو الفروع




فصل في العمليات أو الفروع

وأما العمليات وما يسميه ناس: الفروع، والشرع، والفقه، فهذا قد بينه الرسول أحسن بيان، فما شيء مما أمر الله به أو نهي عنه أو حلله أو حرمه إلا بين ذلك، وقد قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [1]، وقال تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حديثا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [2]، وقال تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [3]، وقال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } [4]، وقال تعالى: { تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [5]، فقد بين سبحانه أنه ما أنزل عليه الكتاب إلا ليبين لهم الذي اختلفوا فيه، كما بين أنه أنزل جنس الكتاب مع النبيين ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.

وقال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [6]، وقال تعالى: { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } [7]، فقد بين للمسلمين جميع ما يتقونه، كما قال: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [8]، وقال تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } [9]، وهو الرد إلى كتاب الله، أو إلى سنة الرسول بعد موته وقوله: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } شرط، والفعل نكرة في سياق الشرط، فأي شيء تنازعوا فيه ردوه إلى الله والرسول، ولو لم يكن بيان الله والرسول فاصلا للنزاع لم يؤمروا بالرد إليه.

والرسول أنزل الله عليه الكتاب والحكمة، كما ذكر ذلك في غير موضع، وقد علم أمته الكتاب والحكمة كما قال: { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [10]، وكان يذكر في بيته الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيه بذكر ذلك فقال: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ } [11]، فآيات الله هي القرآن؛ إذ كان نفس القرآن يدل على أنه منزل من الله، فهو علامة ودلالة على منزله، و }وَالْحِكْمَةِ } قال غير واحد من السلف: هي السنة. وقال أيضا طائفة كمالك وغيره: هي معرفة الدين والعمل به. وقيل غير ذلك. وكل ذلك حق، فهي تتضمن التمييز بين المأمور والمحظور، والحق والباطل، وتعلىم الحق دون الباطل، وهذه السنة التي فرق بها بين الحق والباطل، وبين الأعمال الحسنة من القبيحة، والخير من الشر، وقد جاء عنه ﷺ أنه قال: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك».

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلام نحو هذا، وهذا كثير في الحديث والآثار، يذكرونه في الكتب التي تذكر فيها هذه الآثار، كما يذكر مثل ذلك غير واحد فيما يصنفونه في السنة، مثل ابن بَطَّة واللاَّلكائي والطلَّمنِكي، وقبلهم المصنفون في السنة كأصحاب أحمد، مثل عبد الله والأثرم [12] وحرب الكرماني، وغيرهم، ومثل الخلال وغيره.

والمقصود هنا تحقيق ذلك، وأن الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين.

وأما إجماع الأمة فهو في نفسه حق، لا تجتمع الأمة على ضلالة، وكذلك القياس الصحيح حق؛ فإن الله بعث رسله بالعدل وأنزل الميزان مع الكتاب، والميزان يتضمن العدل وما يعرف به العدل، وقد فسروا إنزال ذلك بأن ألهم العباد معرفة ذلك، والله ورسوله يسوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين، وهذا هو القياس الصحيح. وقد ضرب الله في القرآن من كل مثل، وبين القياس الصحيح، وهي الأمثال المضروبة ما بينه من الحق، لكن القياس الصحيح يطابق النص، فإن الميزان يطابق الكتاب، والله أمر نبيه أن يحكم بما أنزل وأمره أن يحكم بالعدل، فهو أنزل الكتاب، وإنما أنزل الكتاب بالعدل، قال تعالى: { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ } [13]، { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } [14].

وأما إجماع الأمة فهو حق، لا تجتمع الأمة ولله الحمد على ضلالة، كما وصفها الله بذلك في الكتاب والسنة، فقال تعالى: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } [15]، وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، كما وصف نبيهم بذلك في قوله: { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ } [16]، وبذلك وصف المؤمنين في قوله: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } [17]، فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال؛ لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك ولم تنه عن المنكر فيه، وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [18]، والوسط: العدل الخيار، وقد جعلهم الله شهداء على الناس، وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول.

وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا فقال: «وَجَبَتْ وَجَبَتْ»، ثم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرًا فقال: «وجبت وجبت»، قالوا: يا رسول الله، ما قولك: وجبت وجبت؟ قال: «هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض».

فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل، فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء فقد أمر به، وإذا شهدوا أن الله نهي عن شيء فقد نهي عنه، ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ؛ لم يكونوا شهداء الله في الأرض، بل زكاهم الله في شهادتهم كما زكي الأنبياء فيما يبلغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق، وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلا بحق، وقال تعالى: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [19]، والأمة منيبة إلى الله، فيجب اتباع سبيلها، وقال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [20]، فرضي عمن اتبع السابقين إلى يوم القيامة، فدل على أن متابعهم عامل بما يرضي الله، والله لا يرضي إلا بالحق لا بالباطل، وقال تعالى: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } [21].

وكان عمر بن عبد العزيز يقول كلمات كان مالك يأثرها عنه كثيرًا قال: سَنَّ رسول الله ﷺ وولاة الأمر من بعده سننًا الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، ومعونة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها، فمن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله تعالى ما تولى، وأصلاه جهنم، وساءت مصيرًا.

والشافعي رضي الله عنه لما جرد الكلام في أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع، كما كان هو وغيره ومالك ذكر عن عمر بن عبد العزيز، والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين مستحق للوعيد، كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدي مستحق للوعيد، ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده، فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل في ذلك لكان لا فائدة في ذكره.

وهنا للناس ثلاثة أقوال:

قيل: اتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرد مخالفة الرسول المذكورة في الآية.

وقيل: بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم، فكذلك اتباع غير سبيلهم مستقل بالذم.

وقيل: بل اتباع غير سبيل المؤمنين يوجب الذم، كما دلت عليه الآية، لكن هذا لا يقتضي مفارقة الأول، بل قد يكون مستلزمًا له، فكل متابع غير سبيل المؤمنين هو في نفس الأمر مشاق للرسول، وكذلك مشاق الرسول متبع غير سبيل المؤمنين، وهذا كما في طاعة الله والرسول، فإن طاعة الله واجبة، وطاعة الرسول واجبة، وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم، وهما متلازمان؛ فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله.

وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصي الله، ومن عصي أميري فقد عصاني»، وقال: «إنما الطاعة في المعروف»، يعني: إذا أمر أميري بالمعروف فطاعته من طاعتي، وكل من عصي الله فقد عصي الرسول؛ فإن الرسول يأمر بما أمر الله به، بل من أطاع رسولا واحدًا فقد أطاع جميع الرسل، ومن آمن بواحد منهم فقد آمن بالجميع، ومن عصي واحدًا منهم فقد عصي الجميع، ومن كذب واحدًا منهم فقد كذب الجميع؛ لأن كل رسول يصدق الآخر، ويقول: إنه رسول صادق ويأمر بطاعته، فمن كذب رسولا فقد كذب الذي صدقه، ومن عصاه فقد عصي من أمر بطاعته.

ولهذا كان دين الأنبياء واحدًا، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد». وقال تعالى: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [22]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [23]، وقال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [24].

ودين الأنبياء كلهم الإسلام، كما أخبر الله بذلك في غير موضع، وهو الاستسلام لله وحده. وذلك إنما يكون بطاعته فيما أمر به في ذلك الوقت، فطاعة كل نبي هي من دين الإسلام إذ ذاك، واستقبال بيت المقدس كان من دين الإسلام قبل النسخ، ثم لما أمر باستقبال الكعبة صار استقبالها من دين الإسلام، ولم يبق استقبال الصَّخْرة من دين الإسلام؛ ولهذا خرج اليهود والنصارى عن دين الإسلام؛ فإنهم تركوا طاعة الله وتصديق رسوله واعْتَاضُوا عن ذلك بمبدل أو منسوخ.

وهكذا كل مبتدع دينًا خالف به سنة الرسول لا يتبع إلا دينًا مبدلا أو منسوخًا، فكل من خالف ما جاء به الرسول؛ إما أن يكون ذلك قد كان مشروعًا لنبي ثم نسخ على لسان محمد ﷺ. وإما ألا يكون شرع قط. فهذا كالأديان التي شرعها الشياطين على ألسنة أوليائهم، قال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ } [25]، وقال: { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [26]، وقال: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [27].

ولهذا كان الصحابة إذا قال أحدهم برأيه شيئًا يقول: إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، كما قال ذلك ابن مسعود، وروي عن أبي بكر وعمر. فالأقسام ثلاثة؛ فإنه إما أن يكون هذا القول موافقا لقول الرسول أو لا يكون وإما أن يكون موافقًا لشرع غيره، وإما ألا يكون، فهذا الثالث المبدل كأديان المشركين والمجوس، وما كان شرعًا لغيره وهو لا يوافق شرعه فقد نسخ كالسبت، وتحريم كل ذي ظفر، وشحم الثَّرْب [28] والكليتين؛ فإن اتخاذ السبت عيدًا، وتحريم هذه الطيبات قد كان شرعًا لموسى ثم نسخ؛ بل قد قال المسيح: { وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [29]، فقد نسخ الله على لسان المسيح بعض ما كان حرامًا في شرع موسى.

وأما محمد فقال الله فيه { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [30]، والشرك كله من المبدل، لم يشرع الله الشرك قط، كما قال: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [31]، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [32].

وكذلك ما كان يحرمه أهل الجاهلية مما ذكره الله في القرآن، كالسَّائِبَة والوَصيلة والحام، وغير ذلك، هو من الدين المبدل؛ ولهذا لما ذكر الله ذلك عنهم في سورة المائدة بَيَّنَ أن من حَرَّم ذلك فقد كذب على الله، وذكر تعالى ما حرمه على لسان محمد وعلى لسان موسى في الأنعام فقال: { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [33]، وكذلك قال بعد هذا: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } [34].

فبين أن ما حرمه المشركون لم يحرمه على لسان موسى ولا لسان محمد، وهذان هما اللذان جاءا بكتاب فيه الحلال والحرام، كما قال تعالى: { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ } [35]، وقال تعالى: { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً } [36]، وقال تعالى: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى } إلى قوله: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } [37]، وقالت الجن لما سمعت القرآن: { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } [38]، وقال ورقة بن نوفل: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرجان من مِشْكَاةٍ واحدة، وكذلك قال النجاشي.

فالقرآن والتوراة هما كتابان جاءا من عند الله لم يأت من عنده كتاب أهدي منهما، كل منهما أصل مستقل والذي فيهما دين واحد، وكل منهما يتضمن إثبات صفات الله تعالى والأمر بعبادته وحده لا شريك له، ففيه التوحيد قولا وعملا كما في سورتي الإخلاص: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } و { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ }

وأما الزبور، فإن داود لم يأت بغير شريعة التوراة، وإنما في الزبور ثناء على الله، ودعاء وأمر ونهي بدينه وطاعته وعبادته مطلقًا.

وأما المسيح، فإنه قال: { وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [39]، فأحل لهم بعض المحرمات، وهو في الأكثر متبع لشريعة التوراة؛ ولهذا لم يكن بُدَُّ لمن اتبع المسيح من أن يقرأ التوراة ويتبع ما فيها؛ إذ كان الإنجيل تبعًا لها.

وأما القرآن، فإنه مستقل بنفسه لم يُحْوِج أصحابه إلى كتاب آخر، بل اشتمل على جميع ما في الكتب من المحاسن، وعلى زيادات كثيرة لا توجد في الكتب؛ فلهذا كان مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، يقرر ما فيها من الحق ويبطل ما حرف منها، وينسخ ما نسخه الله، فيقرر الدين الحق وهو جمهور ما فيها، ويبطل الدين المبدل الذي لم يكن فيها، والقليل الذي نسخ فيها؛ فإن المنسوخ قليل جدًا بالنسبة إلى المحكم المقرر.

والأنبياء كلهم دينهم واحد، وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم، وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم، وكذلك التكذيب والمعصية، لا يجوز أن يكذب نبي نبيًا، بل إن عرفه صدقه وإلا فهو يصدق بكل ما أنزل الله مطلقًا، وهو يأمر بطاعة من أمر الله بطاعته؛ ولهذا كان من صَدَّق محمدا فقد صدق كل نبي، ومن أطاعه فقد أطاع كل نبي، ومن كذبه فقد كذب كل نبي، ومن عصاه فقد عصي كل نبي، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } [40]، وقال تعالى: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [41].

ومن كذب هؤلاء تكذيبًا بجنس الرسالة فقد صرح بأنه يكذب الجميع؛ ولهذا يقول تعالى: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } [42]، ولم يرسل إليهم قبل نوح أحدًا، وقال تعالى: }وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ } [43].

وكذلك من كان من الملاحدة والمتفلسفة طاعنًا في جنس الرسل كما قدمنا، بأن يزعم أنهم لم يعلموا الحق أو لم يبينوه، فهو مكذب لجميع الرسل، كالذين قال فيهم: { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } [44]، وقال تعالى: { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } [45]، وقال تعالى عن الوليد: { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } [46].

وأهل الكتاب منهم من يؤمن بجنس الرسالة، لكن يكذب بعض الرسل؛ كالمسيح ومحمد، فهؤلاء لما آمنوا ببعض وكفروا ببعض كانوا كافرين حقًا، وكثير من الفلاسفة والباطنية، وكثير من أهل الكلام والتصوف لا يكذب الرسل تكذيبًا صريحًا، ولا يؤمن بحقيقة النبوة والرسالة، بل يقر بفضلهم في الجملة مع كونه يقول: إن غيرهم أعلم منهم، أو أنهم لم يبينوا الحق أو لبسوه، أو أن النبوة هي فَيْضٌ يفيض على النفوس من العقل الفعال من جنس ما يراه النائم، ولا يقر بملائكة مفضلين ولا بالجن، ونحو ذلك، فهؤلاء يقرون ببعض صفات الأنبياء دون بعض، وبما أوتوه دون بعض، ولا يقرون بجميع ما أوتيه الأنبياء، وهؤلاء قد يكون أحدهم شرًا من اليهود والنصارى الذين أقروا بجميع صفات النبوة لكن كذبوا ببعض الأنبياء؛ فإن الذي أقر به هؤلاء مما جاءت به الأنبياء أعظم وأكثر؛ إذ كان هؤلاء يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ويقرون بقيام القيامة، ويقرون بأنه تجب عبادته وحده لا شريك له، ويقرون بالشرائع المتفق عليها، وأولئك يكذبون بهذا، وإنما يقرون ببعض شرع محمد ﷺ.

ولهذا كان اليهود والنصارى أقل كفرًا من الملاحدة الباطنية والمتفلسفة، ونحوهم، لكن من كان من اليهود والنصارى قد دخل مع هؤلاء فقد جمع نَوْعَي الكفر؛ إذ لم يؤمن بجميع صفاتهم ولا بجميع أعيانهم، وهؤلاء موجودون في دول الكفار كثيرًا، كما يوجد أيضا في المنتسبين إلى الإسلام من هؤلاء وهؤلاء؛ إذ كانوا في دولة المسلمين.

وأهل الكتاب كانوا منافقين، فيهم من النفاق بحسب ما فيهم من الكفر، والنفاق يتبعض، والكفر يتبعض، ويزيد وينقص، كما أن الإيمان يتبعض، ويزيد وينقص، قال الله تعالى: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } [47]، وقال: { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [48]، وقال: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } [49]، وقال: { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا } [50]، وقال: { وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } [51]، وقال: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضا } [52]، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا } [53]

وكثير من المصنفين في الكلام لا يردون على أهل الكتاب إلا ما يقولون أنه يعلم بالعقل، مثل تثليث النصارى، ومثل تكذيب محمد، ولا يناظرونهم في غير هذا من أصول الدين، وهذا تقصير منهم ومخالفة لطريقة القرآن؛ فإن الله يبين في القرآن ما خالفوا به الأنبياء ويذمهم على ذلك، والقرآن مملوء من ذلك؛ إذ كان الكفر والإيمان يتعلق بالرسالة والنبوة، فإذا تبين ما خالفوا فيه الأنبياء ظهر كفرهم.

وأولئك المتكلمون لما أَصَّلُوا لهم دينًا بما أحدثوه من الكلام، كالاستدلال بالأعراض على حدوث الأجسام ظنوا أن هذا هو أصول الدين، ولو كان ما قالوه حقًا لكان ذلك جزء من الدين، فكيف إذا كان باطلا؟

وقد ذكرت في الرد على النصارى من مخالفتهم للأنبياء كلهم مع مخالفتهم لصريح العقل ما يظهر به من كفرهم ما يظهر؛ ولهذا قيل فيه: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح وخطابهم في مقامين:

أحدهما: تبديلهم لدين المسيح.

والثاني: تكذيبهم لمحمد ﷺ، واليهود خطابهم في تكذيب من بعد موسى إلى المسيح، ثم في تكذيب محمد ﷺ، كما ذكر الله ذلك في سورة البقرة في قوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقا تَقْتُلُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } [54]، ثم قال: { وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ } [55]، إلى أن ذكر أنهم أعرضوا عن كتاب الله مطلقًا واتبعوا السحر، فقال: { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [56].

والنصارى نَذُمُّهُم على الغلو والشرك الذي ابتدعوه، وعلى تكذيب الرسول والرهبانية التي ابتدعوها، ولا نحمدهم عليها؛ إذ كانوا قد ابتدعوها وكل بدعة ضلالة، لكن إذا كان صاحبها قاصدًا للحق فقد يعفي عنه، فيبقي عمله ضائعًا لا فائدة فيه، وهذا هو الضلال الذي يعذر صاحبه، فلا يعاقب ولا يثاب؛ ولهذا قال: { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } ؛ فإن المغضوب عليه يعاقب بنفس الغضب، والضال فَاتَهُ المقصود وهو الرحمة والثواب، ولكن قد لا يعاقب كما عوقب ذلك، بل يكون ملعونا مطرودا؛ ولهذا جاء في حديث زيد بن عمرو بن نُفَيْل: أن اليهود قالوا له: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله. وقال له النصارى: حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله.

وقال الضَّحَّاك وطائفة: إن جهنم طبقات، فالعليا لعصاة هذه الأمة، والتي تليها للنصارى، والتي تليها لليهود. فجعلوا اليهود تحت النصارى، والقرآن قد شهد بأن المشركين واليهود يوجدون أشد عداوة للذين آمنوا من الذين قالوا: إنا نصارى، وشدة العداوة زيادة في الكفر. فاليهود أقوى كفرًا من النصارى، وإن كان النصارى أجهل وأضل، لكن أولئك يعاقبون على عملهم؛ إذ كانوا عرفوا الحق وتركوه عنادًا، فكانوا مغضوبًا عليهم، وهؤلاء بالضلال حرموا أجر المهتدين، ولعنوا وطردوا عما يستحقه المهتدون، ثم إذا قامت عليهم الحجة فلم يؤمنوا استحقوا العقاب؛ إذ كان اسم الضلال عامًا. وقد كان النبي ﷺ يقول في الحديث الصحيح في خطبة يوم الجمعة: «خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هَدْي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»، ولم يقل: وكل ضلالة في النار، بل يضل عن الحق من قصد الحق وقد اجتهد في طلبه فعجز عنه فلا يعاقب، وقد يفعل بعض ما أمر به فيكون له أجر على اجتهاده، وخطؤه الذي ضل فيه عن حقيقة الأمر مغفور له.

وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة؛ إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم.

وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [57]، وفي الصحيح أن الله قال: «قد فعلت» وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود هنا أن الرسول بين جميع الدين بالكتاب والسنة، وأن الإجماع إجماع الأمة حق؛ فإنها لا تجتمع على ضلالة، وكذلك القياس الصحيح حق يوافق الكتاب والسنة.

والآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } [58]، ومن الناس من يقول: إنها لا تدل على مورد النزاع؛ فإن الذم فيها لمن جمع الأمرين، وهذا لا نزاع فيه، أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التي بها كانوا مؤمنين وهي متابعة الرسول، وهذا لا نزاع فيه، أو أن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة، وهذا لا نزاع فيه؛ فهذا ونحوه قول من يقول: لا تدل على محل النزاع.

وآخرون يقولون: بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقًا، وتكلفوا لذلك ما تكلفوه كما قد عرف من كلامهم، ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية.

والقول الثالث الوسط: أنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم، ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدي، وهو يدل على ذم كل من هذا وهذا كما تقدم، لكن لا ينفي تلازمهما كما ذكر في طاعة الله والرسول. وحينئذ نقول: الذم إما أن يكون لاحقًا لمشاقة الرسول فقط، أو باتباع غير سبيلهم فقط، أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما بل بهما إذا اجتمعا؛ أو يلحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر، أو بكل منهما لكونه مستلزمًا للآخر. والأولان باطلان؛ لأنه لو كان المؤثر أحدهما فقط كان ذكر الآخر ضائعًا لا فائدة فيه، وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعًا، فإن مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه، ولحوق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر لا تدل عليه الآية؛ فإن الوعيد فيها إنما هو على المجموع.

بَقِي القسم الآخر، وهو أن كلاًّ من الوصفين يقتضي الوعيد؛ لأنه مستلزم للآخر، كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام، فيقال: من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار، ومثله قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلا بَعِيدًا } [59]، فإن الكفر بكل من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره، فمن كفر بالله كفر بالجميع، ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل فكان كافرًا بالله؛ إذ كذب رسله وكتبه، وكذلك إذا كفر بإلىوم الآخر كذب الكتب والرسل فكان كافرًا.

وكذلك قوله: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [60]، ذمهم على الوصفين، وكل منهما مُقْتَضٍ للذم، وهما متلازمان؛ ولهذا نهي عنهما جميعًا في قوله: { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [61]، فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به؛ لزم أن يكتم الحق الذي تبين أنه باطل؛ إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق.

فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم، فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعًا، والآية توجب ذم ذلك. وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول. قلنا: لأنهما متلازمان؛ وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصًا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول. وهذا هو الصواب.

فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفي ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثان مع النص، كالأمثال المضروبة في القرآن، وكذلك الإجماع دليل آخر، كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها؛ فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة، وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص.

وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص، كالمضاربة وليس كذلك، بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لا سيما قريش؛ فإن الأغلب كان عليهم التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال، ورسول الله ﷺ قد سافر بمال غيره قبل النبوة، كما سافر بمال خديجة، والعِيرُ التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره، فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله ﷺ، وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ولم يَنْهَ عن ذلك، والسنة: قوله وفعله وإقراره. فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة.

والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ ويعتمد عليه الفقهاء، لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه واتجرا فيه وربحا، وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين؛ لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش، فقال له أحدهما: لو خسر المال كان علىنا، فكيف يكون لك الربح وعلىنا الضمان؟ فقال له بعض الصحابة: اجعله مضاربًا فجعله مضاربة، وإنما قال ذلك؛ لأن المضاربة كانت معروفة بينهم والعهد بالرسول قريب لم يحدث بعده، فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول، كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات؛ كالخياطة والجزارة.

وعلى هذا، فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصًا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص، لكن كان النص عند غيرهم. وابن جرير وطائفة يقولون: لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول، مع قولهم بصحة القياس.

ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص، فنقلوه بالمعني، كما تنقل الأخبار، لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة، وكثير من العلماء لم يعلم النص، وقد وافق الجماعة، كما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع، وكما يكون في المسألة نص خاص وقد استدل فيها بعضهم بعموم، كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله: { وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [62]، وقال ابن مسعود: سورة النساء القُصْرَي نزلت بعد الطُّولَي، أي: بعد البقرة، وقوله: { أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }، يقتضي انحصار الأجل في ذلك، فلو أوجب عليها أن تَعْتَدَّ بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها، وعلى وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين، وجاء النص الخاص في قصة سُبَيْعَة الأسْلَمِية بما يوافق قول ابن مسعود.

وكذلك لما تنازعوا في المفوضة إذا مات زوجها: هل لها مهر المثل؟ أفتي ابن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل، ثم حديث بِرْوَع بنت وَاشِقٍ بما يوافق ذلك، وقد خالفه على وزيد وغيرهما فقالوا: لا مهر لها. فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه، ولا يعلم مسألة واحدة اتفقوا على أنه لا نص فيها، بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص؛ أولئك احتجوا بنص كالمتوفي عنها الحامل، وهؤلاء احتجوا بشمول الآيتين لها، والآخرين قالوا: إنما يدخل في آية الحمل فقط، وإن آية الشهور في غير الحامل، كما أن آية القروء في غير الحامل.

وكذلك لما تنازعوا في الحرام احتج من جعله يمينا بقوله: { أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [63].

وكذلك لما تنازعوا في المَبْتُوتَة: هل لها نفقة أو سكني؟ احتج هؤلاء بحديث فاطمة، وبأن السكني التي في القرآن للرجعية، وأولئك قالوا: بل هي لهما.

ودلالات النصوص قد تكون خفية، فخص الله بفهمهن بعض الناس، كما قال على: إلا فهما يؤتيه الله عبدًا في كتابه.

وقد يكون النص بينا، ويذهل المجتهد عنه، كتيمم الجنب فإنه بين في القرآن في آيتين. ولما احتج أبو موسى على ابن مسعود بذلك قال: الحاضر: ما دري عبد الله ما يقول إلا أنه قال: لو أرخصنا لهم في هذا لأوشك أحدهم إذا وجد المرء البرد أن يتيمم، وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر: إن المطلقة في القرآن هي الرجعية بدليل قوله: { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } [64]، وأي أمر يحدثه بعد الثلاثة؟

وقد احتج طائفة على وجوب العمرة بقوله: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } [65]، واحتج بهذه الآية من منع الفسخ، وآخرون يقولون: إنما أمر بالإتمام فقط، وكذلك أمر الشارع أن يتم، وكذلك في الفسخ قالوا: من فسخ العمرة إلى غير حج فلم يتمها. أما إذا فسخها ليحج من عامه فهذا قد أتي بما تم مما شرع فيه؛ فإنه شرع في حج مجرد فأتي بعمرة في الحج، ولو لم يكن هذا إتمامًا لما أمر به النبي ﷺ أصحابه عام حجة الوداع.

وتنازعوا في الذي بيده عقدة النكاح وفي قوله: { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء } [66]، ونحو ذلك مما ليس هذا موضع استقصائه.

وأما مسألة مجردة اتفقوا على أنه لا يستدل فيها بنص جَلِي ولا خفي فهذا ما لا أعرفه.

والجد لما قال أكثرهم: إنه أب، استدلوا على ذلك بالقرآن بقوله: { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ } [67]، وقال ابن عباس: لو كانت الجن تظن أن الإنس تسمي أبا الأب جدًا لما قالت: { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا } [68]، ويقول: إنما هو أب لكن أب أبعد من أب.

وقد روي عن على وزيد أنهما احتجا بقياس، فمن ادعي إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقًا فقد غلط، ومن ادعي أن من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط، بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم، فمن رأي دلالة الكتاب ذكرها، ومن رأي دلالة الميزان ذكرها، والدلائل الصحيحة لا تتناقض لكن قد يخفي وجه اتفاقها أو ضعف أحدها على بعض العلماء.

وللصحابة فهم في القرآن يخفي على أكثر المتأخرين، كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين، فإنهم شهدوا الرسول والتنزيل وعاينوا الرسول، وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله مما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس.

ومن قال من المتأخرين: إن الإجماع مستند معظم الشريعة فقد أخبر عن حاله؛ فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك، وهذا كقولهم: إن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها، فإنما هذا قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الأحكام، وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه: إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة، أو في نظيرها، فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام حدثت جميع أجناس الأعمال فتكلموا فيها بالكتاب والسنة، وإنما تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة، والإجماع لم يكن يَحْتَجُّ به عامتهم، ولا يحتاجون إليه؛ إذ هم أهل الإجماع، فلا إجماع قبلهم، لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شُرَيْح: اقْضِ بما في كتاب الله، فإن لم تجد فبما في سنة رسول الله، فإن لم تجد فبما به قضي الصالحون قبلك. وفي رواية: فبما أجمع عليه الناس.

وعمر قدم الكتاب ثم السنة وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال عمر، قدم الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع. وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في الكتاب، ثم بما في السنة، ثم بسنة أبي بكر وعمر؛ لقوله: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»، وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس، وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء، وهذا هو الصواب.

ولكن طائفة من المتأخرين قالوا: يبدأ المجتهد بأن ينظر أولا في الإجماع، فإن وجده لم يلتفت إلى غيره، وإن وجد نصًا خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه، وقال بعضهم: الإجماع نسخه والصواب طريقة السلف.

وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلابد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذلك منسوخ، فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة وحفظت النص المنسوخ فهذا لا يوجد قط، وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه وإضاعة ما أمرت باتباعه وهي معصومة عن ذلك، ومعرفة الإجماع قد تتعذر كثيرًا أو غالبًا، فمن ذا الذي يحيط بأقوال المجتهدين؟ بخلاف النصوص فإن معرفتها ممكنة متيسرة.

وهم إنما كانوا يقضون بالكتاب أولا؛ لأن السنة لا تنسخ الكتاب فلا يكون في القرآن شيء منسوخ بالسنة، بل إن كان فيه منسوخ كان في القرآن ناسخه، فلا يقدم غير القرآن عليه، ثم إذا لم يجد ذلك طلبه في السنة، ولا يكون في السنة شيء منسوخ إلا والسنة نسخته، لا ينسخ السنة إجماع ولا غيره، ولا تُعَارض السنة بإجماع وأكثر ألفاظ الآثار، فإن لم يجد فالطالب قد لا يجد مطلوبه في السنة، مع أنه فيها، وكذلك في القرآن، فيجوز له إذا لم يجده في القرآن أن يطلبه في السنة، وإذا كان في السنة لم يكن ما في السنة معارضًا لما في القرآن، وكذلك الإجماع الصحيح لا يعارض كتابًا ولا سنة.

تم بحمد الله وعونه وصلواته على خير بريته محمد وآله وسلم.

هامش


[المائدة: 3]

[الجن: 3]
==============


[يوسف: 111]


[النحل: 89]


[البقرة: 213]


[النحل: 63، 64]


[الشورى: 10]


[التوبة: 115]


[الأنعام: 119]


[النساء: 59]


[البقرة: 129]


[الأحزاب: 34]


[هو أحمد بن محمد بن هانئ الإسكافي الأثرم الطائي، الإمام الحافظ، مصنف السنن، وتلميذ الإمام أحمد، له مصنف في علم الحديث، مات بمدينة إسكاف في حدود الستين ومائتين]

============

==============


[المائدة: 49]


[المائدة: 42]


[آل عمران: 110]


[الأعراف: 157]


[التوبة: 17]


[البقرة: 143]


[لقمان: 15]


[التوبة: 100]


[النساء: 115]


[الشورى: 13]


[المؤمنون: 51 - 53]


[الروم: 30 - 32]


[الشورى: 12]


[الأنعام: 121]


[الأنعام: 112]


[شحم الثَّرْب: شحم رقيق يُغَشِّي الكرش والأمعاء، جمعها ثروب وأثراب]


[آل عمران: 50]


[الأعراف: 157]


[الزخرف: 45]


[الأنبياء: 25]


[الأنعام: 145، 146]


[النحل: 118]


[القصص: 49]


[الأحقاف: 12]


[الأنعام: 91، 92]


[الأحقاف: 30]


[آل عمران: 50]


[النساء: 150، 151]


[البقرة: 58]


[الشعراء: 105]


[الفرقان: 37]


[غافر: 70 72]


[غافر: 83 - 85]


[المدثر: 18 25]


[التوبة: 37]


[التوبة: 124، 125]


[الإسراء: 82]


[المائدة: 64]


[مريم: 76]


[البقرة: 10]


[النساء: 137]


[البقرة: 87، 88]


[البقرة: 89]


[البقرة: 101 103]


[البقرة: 286]


[النساء: 115]


[النساء: 136]


[آل عمران: 71]


[البقرة: 42]


[الطلاق: 4]


[التحريم: 1، 2]


[الطلاق: 1]


[البقرة: 196]


[النساء: 43]


[الأعراف: 27]



==========

مجموع الفتاوى/المجلد التاسع عشر/قاعدة في تصويب المجتهدين وتخطئتهم









قاعدة في تصويب المجتهدين وتخطئتهم

وقال رَحِمهُ الله بَعد كلام له:

ونحن نذكر قاعدة جامعة في هذا الباب لسائر الأمة فنقول:

لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؟ وإلا فيبقي في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم.

فنقول: إن الناس قد تكلموا في تصويب المجتهدين وتخطئتهم وتأثيمهم وعدم تأثيمهم في مسائل الفروع والأصول، ونحن نذكر أصولا جامعة نافعة:

الأصل الأول: أنه هل يمكن كل واحد أن يعرف باجتهاده الحق في كل مسألة فيها نزاع؟ وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وُسْعَه فلم يصل إلى الحق، بل قال ما اعتقد أنه هو الحق في نفس الأمر، ولم يكن هو الحق في نفس الأمر، هل يستحق أن يعاقب أم لا؟ هذا أصل هذه المسألة.

وللناس في هذا الأصل ثلاثة أقوال، كل قول عليه طائفة من النظار:

الأول: قول من يقول: إن الله قد نصب على الحق في كل مسألة دليلا يعرف به، يتمكن كل من اجتهد واستفرغ وسعه أن يعرف الحق، وكل من لم يعرف الحق في مسألة أصولية أو فروعية فإنما هو لتفريطه فيما يجب عليه، لا لعجزه. وهذا القول هو المشهور عن القدرية والمعتزلة، وهو قول طائفة من أهل الكلام غير هؤلاء، ثم قال هؤلاء: أما المسائل العلمية فعليها أدلة قطعية تعرف بها، فكل من لم يعرفها فإنه لم يستفرغ وسعه في طلب الحق فيأثم. وأما المسائل العملية الشرعية فلهم مذهبان:

أحدهما: أنها كالعملية، وأنه على كل مسألة دليل قطعي من خالفه فهو آثم، وهؤلاء الذين يقولون: المصيب واحد في كل مسألة أصلية وفرعية، وكل من سوي المصيب فهو آثم؛ لأنه مخطئ والخطأ والإثم عندهم متلازمان، وهذا قول بِشْر المريسي وكثير من المعتزلة البغداديين.

الثاني: أن المسائل العملية إن كان عليها دليل قطعي فإن من خالفه آثم مخطئ كالعلمية، وإن لم يكن عليها دليل قطعي فليس لله فيها حكم في الباطن، وحكم الله في حق كل مجتهد ما أداه اجتهاده إليه.

وهؤلاء وافقوا الأولين في أن الخطأ والإثم متلازمان، وإن كان مخطئ آثم، لكن خالفوهم في المسائل الاجتهادية، فقالوا: ليس فيها قاطع، والظن ليس عليه دليل عند هؤلاء، وإنما هو من جنس ميل النفوس إلى شيء دون شيء، فجعلوا الاعتقادات الظنية من جنس الإرادات، وادعوا أنه ليس في نفس الأمر حكم مطلوب بالاجتهاد، والإثم في نفس الأمر أمارة أرجح من أمارة، وهذا القول قول أبي الهُذَيْل العَلاَّف ومن اتبعه كالجِبَائي وابنه، وهو أحد قولي الأشعري وأشهرهما، وهو اختيار القاضي الباقلاني وأبي حامد الغزالي، وأبي بكر بن العربي؛ ومن اتبعهم. وقد بسطنا القول في ذلك بسطًا كثيرًا في غير هذا الموضع.

والمخالفون لهم كأبي إسحاق الإسفرائيني وغيره من الأشعرية، وغيرهم يقولون: هذا القول أوله سفسطة وآخره زندقة، وهذا قول من يقول: إن كل مجتهد في المسائل الاجتهادية العملية فهو مصيب باطنًا وظاهرًا؛ إذ لا يتصور عندهم أن يكون مجتهدًا مخطئًا إلا بمعنى أنه خفي عليه بعض الأمور، وذلك الذي خفي عليه ليس هو حكم الله، لا في حقه ولا في حق أمثاله، وأما من كان مخطئًا وهو المخطئ في المسائل القطعية فهو آثم عندهم.

والقول الثاني في أصل المسألة: أن المجتهد المستدل قد يمكنه أن يعرف الحق، وقد يعجز عن ذلك، لكن إذا عجز من ذلك فقد يعاقبه الله تعالى وقد لا يعاقبه؛ فإن له أن يعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء، بلا سبب أصلا، بل لمحض المشيئة. وهذا قول الجهمية والأشعرية وكثير من الفقهاء وأتباع الأئمة الأربعة، وغيرهم.

ثم قال هؤلاء: قد علم بالسمع أن كل كافر فهو في النار، فنحن نعلم أن كل كافر فإن الله سيعذبه، سواء كان قد اجتهد وعجز عن معرفة دين الإسلام، أو لم يجتهد، وأما المسلمون المختلفون فإن كان اختلافهم في الفروعيات فأكثرهم يقول: لا عذاب فيها، وبعضهم يقول: لأن الشارع عفا عن الخطأ فيها، وعلم ذلك بإجماع السلف على أنه لا إثم على المخطئ فيها، وبعضهم يقول: لأن الخطأ في الظنيات ممتنع، كما تقدم ذكره عن بعض الجهمية والأشعرية.

وأما القطعيات فأكثرهم يُؤَثِّمُ المخطئ فيها، ويقول: إن السمع قد دل على ذلك. ومنهم من لا يؤثمه. والقول المحكي عن عبيد الله بن الحسن العَنْبَرِي هذا معناه: أنه كان لا يؤثم المخطئ من المجتهدين من هذه الأمة، لا في الأصول ولا في الفروع، وأنكر جمهور الطائفتين من أهل الكلام والرأي على عبيد الله هذا القول، وأما غير هؤلاء فيقول: هذا قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي، والثوري وداود بن علي، وغيرهم، لا يؤثمون مجتهدًا مخطئًا في المسائل الأصولية، ولا في الفروعية، كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره؛ ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، ويصححون الصلاة خلفهم.

والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين، ولا يصلى خلفه، وقالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين: أنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤَثِّمُون أحدًا من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية، قالوا: والفرق بين مسائل الفروع والأصول إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام والمعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره.

قالوا: والفرق بين ذلك في مسائل الأصول والفروع، كما أنها محدثة في الإسلام لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة، فهي باطلة عقلا. فإن المفرقين بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين، بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة.

فمنهم من قال: مسائل الأصول هي العلمية الاعتقادية التي يطلب فيها العلم والاعتقاد فقط، ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل. قالوا: وهذا فرق باطل؛ فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده، مثل: وجوب الصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وتحريم الزنا والربا والظلم والفواحش. وفي المسائل العلمية ما لا يأثم المتنازعون فيه، كتنازع الصحابة: هل رأي محمد ربه؟ وكتنازعهم في بعض النصوص: هل قاله النبي ﷺ، أم لا؟ وما أراد بمعناه؟ وكتنازعهم في بعض الكلمات: هل هي من القرآن، أم لا؟ وكتنازعهم في بعض معاني القرآن والسنة: هل أراد الله ورسوله كذا وكذا؟ وكتنازع الناس في دقيق الكلام، كمسألة الجَوْهَر الفَرْد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض، ونحو ذلك، فليس في هذا تكفير ولا تفسيق.

قالوا: والمسائل العملية فيها عمل وعلم، فإذا كان الخطأ مغفورًا فيها، فالتي فيها علم بلا عمل أولي أن يكون الخطأ فيها مغفورًا.

ومنهم من قال: المسائل الأصولية هي ما كان عليها دليل قطعي، والفرعية ما ليس عليها دليل قطعي. قال أولئك: وهذا الفرق خطأ أيضا فإن كثيرًا من المسائل العملية عليها أدلة قطعية عند من عرفها وغيرهم لم يعرفها، وفيها ما هو قطعي بالإجماع، كتحريم المحرمات ووجوب الواجبات الظاهرة، ثم لو أنكرها الرجل بجهل وتأويل لم يكفر حتي تقام عليه الحجة، كما أن جماعة استحلوا شرب الخمر على عهد عمر منهم قُدَامَة، ورأوا أنها حلال لهم، ولم تكفرهم الصحابة حتي بينوا لهم خطأهم فتابوا ورجعوا.

وقد كان على عهد النبي ﷺ طائفة أكلوا بعد طلوع الفجر، حتي تبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولم يؤثمهم النبي ﷺ، فضلا عن تكفيرهم، وخطؤهم قطعي. وكذلك أسامة بن زيد قد قتل الرجل المسلم وكان خطؤه قطعيًا، وكذلك الذين وجدوا رجلا في غَنَمٍ له فقال: إني مسلم، فقتلوه وأخذوا ماله، كان خطؤهم قطعيًا. وكذلك خالد بن الوليد قتل بني جُذَيْمَة وأخذ أموالهم، كان مخطئًا قطعًا.

وكذلك الذين تيمموا إلى الآباط، وعمار الذي تَمَعَّكَ في التراب للجنابة كما تمعك الدابة، بل والذين أصابتهم جنابة فلم يتيمموا ولم يصلوا كانوا مخطئين قطعًا. وفي زماننا لو أسلم قوم في بعض الأطراف ولم يعلموا بوجوب الحج أو لم يعلموا تحريم الخمر لم يحدوا على ذلك، وكذلك لو نشؤوا بمكان جهل.

وقد زنت على عهد عمر امرأة، فلما أقرت به قال عثمان: إنها لتستهل به استهلال من لا يعلم أنه حرام. فلما تبين للصحابة أنها لا تعرف التحريم لم يَحُدُّوها. واستحلال الزنا خطأ قطعًا.

والرجل إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه فهو مخطئ قطعًا، ولا إثم عليه باتفاق، وكذلك لا كفارة عليه عند الأكثرين.

ومن اعتقد بقاء الفجر فأكل فهو مخطئ قطعًا إذا تبين له الأكل بعد الفجر، ولا إثم عليه، وفي القضاء نزاع، وكذلك من اعتقد غروب الشمس فتبين بخلافه. ومثل هذا كثير.

وقول الله تعالى في القرآن: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [1]، قال الله تعالى: قد فعلت. ولم يفرق بين الخطأ القطعي في مسألة قطعية أو ظنية. والظني ما لا يجزم بأنه خطأ إلا إذا كان أخطأ قطعًا، قالوا: فمن قال: إن المخطئ في مسألة قطعية أو ظنية يأثم، فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع القديم.

قالوا: وأيضا فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافي بحسب حال المعتقدين ليس هو وصفًا للقول في نفسه؛ فإن الإنسان قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة، أو بالنقل المعلوم صدقه عنده، وغيره لا يعرف ذلك، لا قطعًا ولا ظنًا. وقد يكون الإنسان ذكيًا، قوي الذهن، سريع الإدراك، فيعرف من الحق، ويقطع به ما لا يتصوره غيره ولا يعرفه، لا علمًا ولا ظنًا.

فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة، وبحسب قدرته على الاستدلال، والناس يختلفون في هذا وهذا، فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه، حتي يقال: كل من خالفه قد خالف القطعي، بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد، وهذا مما يختلف فيه الناس، فعلم أن هذا الفرق لا يطرد ولا ينعكس.

ومنهم من فرق بفرق ثالث وقال: المسائل الأصولية هي المعلومة بالعقل، فكل مسألة علمية استقل العقل بِدَرْكِهَا فهي من مسائل الأصول التي يكفر أو يفسق مخالفها. والمسائل الفروعية هي المعلومة بالشرع، قالوا: فالأول: كمسائل الصفات والقدر، والثاني: كمسائل الشفاعة وخروج أهل الكبائر من النار.

فيقال لهم: ما ذكرتموه بالضد أولي، فإن الكفر والفسق أحكام شرعية ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل.

إلى أن قال: وحينئذ فإن كان الخطأ في المسائل العقلية التي يقال: إنها أصول الدين كفرًا، فهؤلاء السالكون هذه الطرق الباطلة في العقل، المبتدعة في الشرع، هم الكفار لا من خالفهم، وإن لم يكن الخطأ فيها كفرًا فلا يكفر من خالفهم فيها، فثبت أنه ليس كافرًا في حكم الله ورسوله على التقديرين، ولكن من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالا يجعلونها واجبة في الدين، بل يجعلونها من الإيمان الذي لابد منه، ويكفرون من خالفهم فيها، ويستحلون دمه؛ كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة، وغيرهم.

وأهل السنة لا يبتدعون قولا، ولا يكفرون من اجتهد فأخطأ وإن كان مخالفًا لهم مستحلا لدمائهم، كما لم تكفر الصحابة الخوارج، مع تكفيرهم لعثمان وعلى ومن والاهما، واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم.

وكلام هؤلاء المتكلمين في هذه المسائل بالتصويب والتخطئة، والتأثيم ونفيه، والتكفير ونفيه؛ لكونهم بنوا على القولين المتقدمين في قول القدرية، الذين يجعلون كل مستدل قادرًا على معرفة الحق فيعذب كل من لم يعرفه، وقول الجهمية الجبرية الذين يقولون: لا قدرة للعبد على شيء أصلا، بل الله يعذب بمحض المشيئة، فيعذب من لم يعمل ذنبًا قط، ويُنعِّمُ من كفر وفسق، وقد وافقهم على ذلك كثير من المتأخرين.

وهؤلاء يقولون: يجوز أن يعذب الأطفال والمجانين، وإن لم يفعلوا ذنبًا قط، ثم منهم من يجزم بعذاب أطفال الكفار في الآخرة، ومنهم من يجوزه يقول: لا أدري ما يقع؟ وهؤلاء يجوزون أن يغفر لأفسق أهل القبلة بلا سبب أصلا، ويعذب الرجل الصالح على السيئة الصغيرة، وإن كانت له حسنات أمثال الجبال بلا سبب أصلا، بل بمحض المشيئة.

وأصل الطائفتين أن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرح، إلى آخر ما نقل رحمه الله.

ثم قال: وبهذا يظهر القول الثالث في هذا الأصل، وهو أنه ليس كل من اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق، ولا يستحق الوعيد إلا من ترك مأمورًا أو فعل محظورًا، وهذا هو قول الفقهاء والأئمة، وهو القول المعروف عن سلف الأمة وقول جمهور المسلمين، وهذا القول يجمع الصواب من القولين. فالصواب من القول الأول قول الجهمية، الذي وافقوا فيه السلف والجمهور، وهو أنه ليس كل من طلب واجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق فيه، بل استطاعة الناس في ذلك متفاوتة.

والقدرية يقولون: إن الله تعالى سَوَّى بين المكلفين في القدرة ولم يخص المؤمنين بما فضلهم به على الكفار حتي آمنوا، ولا خَصَّ المطيعين بما فضلهم به على العُصَاة حتي أطاعوا. وهذا من أقوال القدرية والمعتزلة وغيرهم، التي خالفوا بها الكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل الصريح، كما بسط في موضعه.

ولهذا قالوا: إن كل مُسْتَدِلٍّ فمعه قدرة تامة يتوصل بها إلى معرفة الحق، ومعلوم أن الناس إذا اشتبهت عليهم القبلة في السفر فكلهم مأمورون بالاجتهاد والاستدلال على جهة القبلة، ثم بعضهم يتمكن من معرفة جهتها، وبعضهم يعجز عن ذلك فيغلط، فيظن في بعض الجهات أنها جهتها ولا يكون مصيبًا في ذلك، لكن هو مطيع لله، ولا إثم عليه في صلاته إليها؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فعجزهم عن العلم بها كعجزه عن التوجه إليها، كالمقيد والخائف والمحبوس والمريض الذي لا يمكنه التوجه إليها.

ولهذ كان الصواب في الأصل الثاني قول من يقول: إن الله لا يعذب في الآخرة إلا من عصاه بِتَرْك المأمور، أو فعل المحظور. والمعتزلة في هذا وافقوا الجماعة، بخلاف الجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم؛ فإنهم قالوا: بل يعذب من لا ذنب له، أو نحو ذلك.

ثم هؤلاء يحتجون على المعتزلة في نفي الإيجاب والتحريم العقلي بقوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [2]، وهو حجة عليهم أيضا في نفي العذاب مطلقًا إلا بعد إرسال الرسل، وهم يجوزون التعذيب قبل إرسال الرسل. فأولئك يقولون: يعذب من لم يبعث إليه رسولا؛ لأنه فعل القبائح العقلية. وهؤلاء يقولون: بل يعذب من لم يفعل قبيحًا قط كالأطفال. وهذا مخالف للكتاب والسنة والعقل أيضا قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا }، وقال تعالى عن أهل النار: { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } [3]، فقد أخبر سبحانه وتعالى بصيغة العموم أنه كلما ألقي فيها فوج سألهم الخزنة: هل جاءهم نذير؟ فيعترفون بأنهم قد جاءهم نذير، فلم يَبْقَ فَوْجٌ يدخل النار إلا وقد جاءهم نذير، فمن لم يأته نذير لم يدخل النار.

وقال: { ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } [4] أي: هذا بهذا السبب، فعلم أنه لا يعذب من كان غافلا ما لم يأته نذير، وذل أيضا على أن ذلك ظلم تنزه سبحانه عنه.

وأيضا، فإن الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، كقوله: { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [5]، وقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [6]، وقوله: { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } [7]، وقوله: { لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا } [8].

وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة فقال: { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [9]، وقد دعاه المؤمنون بقولهم: { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [10]، فقال: قد فعلت.

فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسًا ما تعجز عنه، خلافًا للجهمية المجبرة، ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطئ والناسي خلافًا للقدرية والمعتزلة.

وهذا فصل الخطاب في هذا الباب. فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومُفْتٍ، وغير ذلك، إذا اجتهد واستدل فاتقي الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إياه، وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه الله البتة خلافًا للجهمية المجبرة وهو مصيب، بمعني: أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه، خلافًا للقدرية والمعتزلة في قولهم: كل من استفرغ وسعه علم الحق، فإن هذا باطل كما تقدم، بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب.

وكذلك الكفار، من بلغه دعوة النبي ﷺ في دار الكفر، وعلم أنه رسول الله فآمن به، وآمن بما أنزل عليه، واتقي الله ما استطاع، كما فعل النجاشي وغيره، ولم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام، ولا التزام جميع شرائع الإسلام؛ لكونه ممنوعًا من الهجرة وممنوعًا من إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام، فهذا مؤمن من أهل الجنة. كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون، وكما كانت امرأة فرعون، بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر؛ فإنهم كانوا كفارًا، ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام؛ فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه، قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: { وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا } [11].

وكذلك النجاشي، هو وإن كان ملك النصاري، فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه نفر منهم؛ ولهذا لما مات لم يكن هناك أحد يصلي عليه، فصلي عليه النبي ﷺ بالمدينة، خرج بالمسلمين إلى المصلي فصفهم صفوفًا، وصلي عليه، وأخبرهم بموته يوم مات وقال: «إن أخًا لكم صالحًا من أهل الحبشة مات». وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر، ولم يجاهد، ولا حج البيت، بل قد روي أنه لم يصل الصلوات الخمس، ولا يصوم شهر رمضان، ولا يؤدي الزكاة الشرعية؛ لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم. ونحن نعلم قطعًا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه، وحَذَّرَه أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه.

وهذا مثل الحكم في الزنا للمُحْصِن بِحَدِّ الرجم، وفي الديات بالعدل، والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع، النفس بالنفس والعين بالعين، وغير ذلك.

والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن؛ فإن قومه لا يُقِرُّونه على ذلك، وكثيرًا ما يتولي الرجل بين المسلمين والتتار قاضيًا بل وإمامًا وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وعمر ابن عبد العزيز عُودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل: إنه سُمَّ على ذلك. فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها.

ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب، قال الله تعالى: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [12]، وهذه الآية قد قال طائفة من السلف: إنها نزلت في النجاشي، ويروي هذا عن جابر وابن عباس وأنس. ومنهم من قال: فيه وفي أصحابه، كما قال الحسن وقتادة. وهذا مراد الصحابة ولكن هو المطاع، فإن لفظ الآية لفظ الجمع لم يرد بها واحد.

وعن عطاء قال: نزلت في أربعين من أهل نجران، وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، وكانوا على دين عيسي فآمنوا بمحمد ﷺ، ولم يذكر هؤلاء من آمن بالنبي ﷺ بالمدينة، مثل: عبد الله بن سَلاَم، وغيره ممن كان يهوديا، وسلمان الفارسي، وغيره ممن كان نصرانيًا، إلا هؤلاء صاروا من المؤمنين فلا يقال فيهم: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } [13]، ولا يقول أحد: إن اليهود والنصارى بعد إسلامهم وهجرتهم ودخولهم في جملة المسلمين المهاجرين المجاهدين يقال: إنهم من أهل الكتاب، أي: من جملتهم وقد آمنوا بالرسول، كما قال تعالى في المقتول خطأ: { عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } إلى قوله: { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } [14]، فهو من العدو ولكن هو كان قد آمن، وما أمكنه الهجرة، وإظهار الإيمان، والتزام شرائعه، فسماه مؤمنًا؛ لأنه فعل من الإيمان ما يقدر عليه.

وهذا كما أنه قد كان بمكة جماعة من المؤمنين يستخفون بإيمانهم، وهم عاجزون عن الهجرة، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا } [15]، فعذر سبحانه المستضعف العاجز عن الهجرة. وقال تعالى: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا } [16]، فأولئك كانوا عاجزين عن إقامة دينهم، فقد سقط عنهم ما عجزوا عنه؛ فإذا كان هذا فيمن كان مشركًا وآمن، فما الظن بمن كان من أهل الكتاب وآمن؟

وقوله: { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ } [17]، قيل: هو الذي يكون عليه لباس أهل الحرب، مثل أن يكون في صفهم، فَيُعْذَر القاتل؛ لأنه مأمور بقتاله، فتسقط عنه الدِّية، وتجب الكفارة، وهو قول الشافعي وأحمد في أحد القولين، وقيل: بل هو من أسلم ولم يهاجر، كما يقوله أبو حنيفة، لكن هذا قد أوجب فيه الكفارة. وقيل: إذا كان من أهل الحرب لم يكن له وارث، فلا يعطي أهل الحرب ديته، بل تجب الكفارة فقط، وسواء عرف أنه مؤمن وقتل خطأ أو ظن أنه كافر، وهذا ظاهر الآية.

وقد قال بعض المفسرين: إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، كما نُقِلَ عن ابن جُرَيْج ومقاتل وابن زيد، يعني: قوله: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } [18]، وبعضهم قال: إنها في مُؤْمِني أهل الكتاب. فهو كالقول الأول، وإن أراد العموم فهو كالثاني. وهذا قول مجاهد، ورواه أبو صالح عن ابن عباس.

وقول من أدخل فيها ابن سلام وأمثاله ضعيف؛ فإن هؤلاء من المؤمنين ظاهرًا وباطنًا من كل وجه، لا يجوز أن يقال فيهم: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [19].

أما أولا: فإن ابن سلام أسلم في أول ما قدم النبي ﷺ المدينة، وقال: فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. وسورة آل عمرن إنما نزل ذكر أهل الكتاب فيها لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر.

وثانيًا: أن ابن سلام وأمثاله هو واحد من جملة الصحابة والمؤمنين، وهو من أفضلهم، وكذلك سلمان الفارسي، فلا يقال فيه: إنه من أهل الكتاب. وهؤلاء لهم أجور مثل أجور سائر المؤمنين بل يُؤْتَوْنَ أجرهم مرتين، وهم ملتزمون جميع شرائع الإسلام، فأجرهم أعظم من أن يقال فيه: { أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ }.

وأيضا، فإن أمر هؤلاء كان ظاهرًا معروفًا ولم يكن أحد يشك فيهم، فأي فائدة في الإخبار بهم؟ وما هذا إلا كما يقال: الإسلام دخل فيه من كان مشركًا، أو كان كتابيًا، وهذا معلوم لكل أحد بأنه دين لم يعرف قبل محمد ﷺ، فكل من دخل فيه كان قبل ذلك؛ إما مشركًا، وإما من أهل الكتاب؛ إما كتابيا، وإما أميا. فأي فائدة في الإخبار بهذا؟ بخلاف أمر النجاشي وأصحابه ممن كانوا متظاهرين بكثير مما عليه النصاري؛ فإن أمرهم قد يشتبه.

ولهذا ذكروا في سبب نزول هذه الآية: أنه لما مات النجاشي صَلي عليه النبي ﷺ، فقال قائل: تصلي على هذا العِلْجِ [20] النصراني وهو في أرضه؟ فنزلت هذه الآية، هذا منقول عن جابر وأنس بن مالكوابن عباس، وهم من الصحابة الذين باشروا الصلاة على النجاشي، وهذا بخلاف ابن سلاموسلمان الفارسي؛ فإنه إذا صلي على واحد من هؤلاء لم ينكر ذلك أحد.

وهذا مما يبين أن المظهرين للإسلام فيهم منافق لا يصلى عليه، كما نزل في حق ابن أُبَي وأمثاله. وأن مَنْ هو في أرض الكفر يكون مؤمنًا يصلى عليه كالنجاشي.

ويشبه هذه الآية أنه لما ذكر تعالى أهل الكتاب فقال: { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } [21]، وهذه الآية قيل: إنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: إن قوله: { مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }. هو عبد الله بن سلام وأصحابه.

وهذا والله أعلم من نمط الذي قبله؛ فإن هؤلاء ما بقوا من أهل الكتاب، وإنما المقصود من هو منهم في الظاهر وهو مؤمن، لكن لا يقدر على ما يقدر عليه المؤمنون المهاجرون المجاهدون، كمؤمن آل فرعون؛ وهو من آل فرعون وهو مؤمن؛ ولهذا قال تعالى: { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } [22]، فهو من آل فرعون وهو مؤمن.

وكذلك هؤلاء منهم المؤمنون؛ ولهذا قال: { وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } وقد قال قبل هذا: { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }، ثم قال: { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى }، وهذا عائد إليهم جميعهم، لا إلى أكثرهم؛ ولهذا قال: { وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ }، وقد يقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه، يشهد القتال معهم ولا يمكنه الهجرة، وهو مكره على القتال، ويبعث يوم القيامة على نيته، كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «يغزو جيش هذا البيت، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خُسِفَ بهم»، فقيل: يا رسول الله، وفيهم المُكْرَه، قال: «يبعثون على نياتهم». وهذا في ظاهر الأمر، وإن قتل وحكم عليه بما يحكم على الكفار فالله يبعثه على نيته، كما أن المنافقين منا يحكم لهم في الظاهر بحكم الإسلام ويبعثون على نياتهم.

والجزاء يوم القيامة على ما في القلوب لا على مجرد الظواهر؛ ولهذا روي أن العباس قال: يا رسول الله، كنت مكرهًا. قال: أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله.

وبالجملة، لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها، بل الوجوب بحسب الإمكان، وكذلك ما لم يعلم حكمه، فلو لم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، وبقي مدة لم يصل، لم يجب عليه القضاء في أظهر قولي العلماء، وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد.

وكذلك سائر الواجبات من صوم شهر رمضان، وأداء الزكاة، وغير ذلك. ولو لم يعلم تحريم الخمر فشربها لم يُحَدّ باتفاق المسلمين، وإنما اختلفوا في قضاء الصلوات. وكذلك لو عامل بما يستحله من ربا، أو مَيْسِر، ثم تبين له تحريم ذلك بعد القبض، هل يفسخ العقد، أم لا؟ كما لا نفسخه لو فعل ذلك قبل الإسلام. وكذلك لو تزوج نكاحًا يعتقد صحته على عادتهم، ثم لما بلغته شرائع الإسلام رأي أنه قد أخل ببعض شروطه، كما لو تزوج في عِدَّةٍ وقد انقضت، فهل يكون هذا فاسدًا، أو يقر عليه؟ كما لو عقده قبل الإسلام ثم أسلم.

وأصل هذا كله أن الشرائع هل تلزم من لم يعلمها، أم لا تلزم أحدًا إلا بعد العلم؟ أو يفرق بين الشرائع الناسخة والمبتدأة؟ هذا فيه ثلاثة أقوال، هي ثلاثة أوجه في مذهب أحمد، ذكر القاضي أبو يَعلى الوجهين المطلقين في كتاب له، وذكر هو وغيره الوجه المفرق في أصول الفقه، وهو أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتي يبلغه الناسخ. وأخرج أبو الخطاب وجهًا في ثبوته.

ومن هذا الباب من ترك الطهارة الواجبة، ولم يكن علم بوجوبها، أو صلي في الموضع المنهي عنه قبل علمه بالنهي، هل يعيد الصلاة؟ فيه روايتان منصوصتان عن أحمد.

والصواب في هذا الباب كله: أن الحكم لا يثبت إلا مع التمكن من العلم، وأنه لا يقضي ما لم يعلم وجوبه، فقد ثبت في الصحيح أن من الصحابة من أكل بعد طلوع الفجر في رمضان، حتي تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولم يأمرهم النبي ﷺ بالقضاء، ومنهم من كان يمكث جُنُبًا مدة لا يصلي، ولم يكن يعلم جواز الصلاة بالتيمم كأبي ذر وعمر بن الخطاب وعمار لما أجنب، ولم يأمر النبي ﷺ أحدًا منهم بالقضاء، ولا شك أن خَلْقًا من المسلمين بمكة والبوادي صاروا يصلون إلى بيت المقدس، حتي بلغهم النسخ، ولم يؤمروا بالإعادة. ومثل هذا كثير.

وهذا يطابق الأصل الذي عليه السلف والجمهور: أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فالوجوب مشروط بالقدرة، والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور، أو فعل محظور بعد قيام الحجة. وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

هامش
[البقرة: 286]
[غافر: 28]
=========================
[الإسراء: 15]
[الملك: 8، 9]
[الأنعام: 131]
[البقرة: 286]
[الأعراف: 42]
[البقرة: 233]
[الطلاق: 7]
[التغابن: 16]
[البقرة: 286]
[غافر: 34]
[آل عمران: 199]
[آل عمران: 199]
[النساء: 92]
[النساء: 97 99]
[النساء: 75]


[النساء: 92]


[آل عمران: 199]


[آل عمران: 199]


[والعِلْج: الرجل من كفار العَجَم. ]


[آل عمران: 110 - 114]


======
فصل في العلوم الشرعية والعقلية

وقال شيخ الإسلام قدسَ الله روحه:

قول الناس: العلوم الشرعية والعقلية قد يكون بينهما عموم وخصوص، وقد يكون أحدهما قسيم الآخر. ويكون الصواب في مواضع أن يقال: السمعية والعقلية؛ وذلك أن قولنا: العلوم الشرعية قد يراد به ما أمر به الشارع، وقد يراد به ما أخبر به الشارع، وقد يراد به ما شرع أن يعلم، وقد يراد به ما علمه الشارع.

فالأول: هو العلم المشروع كما يقال: العمل المشروع وهو الواجب أو المستحب، وربما دخل فيه المباح بالشرع.

والثاني: هو العلم المستفاد من الشارع، وهو ما علمه الرسول لأمته بما بعث به من الإيمان والقرآن والكتاب والحكمة، وهو ما دل عليه الكتاب والسنة، أو الإجماع، أو توابع ذلك.

فالأول: إضافة له بحسب حكمه في الشرع، والثاني: إضافة إلي طريقه ودليله، فقولنا في الأول: علم شرعي كما يقال: عمل شرعي، والثاني: كما يقال: علم عقلي وسمعي، الأول نظر فيه من جهة المدح والذم، والثواب والعقاب، والأمر والنهي، وهو خطاب التكليف. والثاني نظر فيه من جهة طريقه ودليله، وصحته وفساده، ومطابقته ومخالفته، وهو من جهة خطاب الأخبار.

ثم كل من القسمين على قسمين: فإنه إذا عرف أن الشرعي؛ إما أن يكون ما أخبر به، وإما أن يكون ما أمر به. فما أخبر به؛ إما أن يبين له دليلا عقليًا، أو لا يذكر. وما أمر به؛ إما أن يكون مقصودًا للشارع، أو لازمًا لمقصود الشارع، وهو ما لا يتم مقصوده الواجب أو المستحب إلا به. فهذه أربعة أقسام.

وإن شئت أن تقسم المأمور به إلى ما يعرف بالعقل فقط، وإلى ما يعرف بالشرع أيضا، فيكون شرعيًا خبرًا وأمرًا؛ فإن ما علم بالشرع لا يخلو؛ إما أن يراد به إخبار الشارع، أو دلالة الشارع، فإذا عني به ما دل عليه الشارع مثل دلالته على آيات الربوبية ودلالة الرسالة، ونحو ذلك فإنه يجتمع في هذا أن يكون شرعيًا عقليًا؛ فإن الشارع لما نَبّهَ العقول على الآيات والبراهين والعِبَر اهتدت العقول، فعلمت ما هداها إليه الشارع.

واعلم أن عامة مسائل أصول الدين الكبار، مثل: الإقرار بوجود الخالق وبوحدانيته، وعلمه وقدرته، ومشيئته وعظمته، والإقرار بالثواب، وبرسالة محمد ﷺ، وغير ذلك مما يعلم بالعقل، قد دل الشارع على أدلته العقلية. وهذه الأصول التي يسميها أهل الكلام العقليات وهي ما تعلم بالعقل، فإنها تعلم بالشرع، لا أعني بمجرد أخباره، فإن ذلك لا يفيد العلم إلا بعد العلم بصدق المخبر، فالعلم بها من هذا الوجه موقوف على ما يعلم بالعقل من الإقرار بالربوبية وبالرسالة، وإنما أعني بدلالته وهدايته، كما أن ما يتعلمه المتعلمون ببيان المعلمين وتصنيف المصنفين إنما هو لما بينوه للعقول من الأدلة.

فهذا موضع يجب التَّفَطُّنُ له؛ فإن كثيرًا من الغالطين من متكلم ومحدِّث ومتفقه وعامي وغيرهم يظن أن العلم المستفاد من الشرع إنما هو لمجرد إخباره تصديقًا له فقط، وليس كذلك، بل يستفاد منه بالدلالة والتنبيه والإرشاد جميع ما يمكن ذلك فيه من علم الدين.

والقسم الثاني من الشرعي: ما يعلم بإخبار الشارع. فهذا لا يخلوا؛ إما أن يمكن علمه بالعقل أيضا أو لا يمكن، فإن لم يمكن فهذا يعلم بمجرد إخبار الشارع، وإن أمكن علمه بالعقل فهل يوجد مثل هذا؟ وهو أن يكون أمر أخبر الشارع به وعلمه ممكن بالعقل أيضا ولم يدل الشارع على دليل له عقلي، فهذا ممكن، ولا نقص إذا وقع مثل هذا في الشريعة، فإنه إذا عرف صدق المبلغ جاز أن يعلم بخبره كل ما يحتاج إليه، ولا ريب أن كثيرًا من الناس لا ينالون علم ذلك إلا من جهة خبر الشارع، وقد أحسنوا في ذلك حيث آمنوا به، لكن هل ذلك واقع مطلقًا؟ وقد ذهب خلائق من المتفلسفة والمتكلمة والمتفقهة والمتصوفة والعامة، وغير ذلك إلى وقوع ذلك، وهو أن فيما أخبر به الشارع أمور قد تعلم بالعقل أيضا وإن كان الشارع لم يذكر دلالته العقلية.

وهذا فيه نظر؛ فإن من تأمل وجوه دلالة الكتاب والسنة وما فيها من جَلِي وخفي وظاهر وباطن قد يقول: إن الشارع نَبَّهَ في كل ما يمكن علمه بالعقل على دلالة عقلية، كما قد حصل الاتفاق على أن ذلك واقع في مسائل أصول الدين الكبار، وفي هذا نظر.

فصارت العلوم بهذا الاعتبار؛ إما أن تعلم بالشرع فقط، وهو ما يعلم بمجرد إخبار الشرع مما لا يهتدي العقل إليه بحال، لكن هذه العلوم قد تعلم بخبر آخر غير خبر شارعنا محمد ﷺ. وإما أن تعلم بالعقل فقط؛ كمرويات الطب والحساب والصناعات. وإما أن تعلم بهما، فإما أن يكون الشارع قد هدي إلى دلالتها كما أخبر بها أم لا، فإن كان الأول فهي عقليات الشرعيات، أو عقلي الشارع، أو ما شرع عقله، أو العقل المشروع. وإما أن يكون قد أخبر بها فقط، فهذه عقلية من غير الشارع. فيجب التفطن.

لكن العقلي قد يعقل من الشارع، وهو عامة أصول الدين، وقد يعقل من غيره ولم يعقل منه، فهذا في وجوده نظر.

وبهذا التحرير يتبين لك أن عامة المتفلسفة وجمهور المتكلمة جاهلة بمقدار العلوم الشرعية ودلالة الشارع عليها، ويُوهِمُهُم عُلُوُّ العقلية عليها، فإن جهلهم ابتني على مقدمتين جاهليتين:

إحداهما: أن الشرعية ما أخبر الشارع بها.

والثانية: أن ما يستفاد بخبره فرع للعقليات التي هي الأصول، فلزم من ذلك تشريف العقلية على الشرعية.

وكلا المقدمتين باطلة؛ فإن الشرعيات: ما أخبر الشارع بها، وما دل الشارع عليها. وما دل الشارع عليه ينتظم جميع ما يحتاج إلى علمه بالعقل وجميع الأدلة والبراهين وأصول الدين ومسائل العقائد، بل قد تدبرتُ عامة ما يذكره المتفلسفة والمتكلمة والدلائل العقلية فوجدتُ دلائل الكتاب والسنة تأتي بخلاصته الصافية عن الكَدَرِ، وتأتي بأشياء لم يهتدوا لها، وتحذف ما وقع منهم من الشبهات والأباطيل مع كثرتها واضطرابها، وقد بينت تفصيل هذه الجملة في مواضع.

وأما إذا أريد بالشرعية ما شرع علمه، فهذا يدخل فيه كل علم مستحب أو واجب، وقد يدخل فيه المباح، وأصول الدين على هذا من العلوم الشرعية أيضا، وما علم بالعقل وحده فهو من الشرعية أيضا؛ إذا كان علمه مأمورًا به في الشرع.

وعلى هذا، فتكون الشرعية قسمين: عقلية وسمعية. وتجعل السمعية هنا بدل الشرعية في الطريقة الأولي، وقد تبين بهذا أن كل علم عقلي أمر الشرع به، أو دل الشرع عليه فهو شرعي أيضا، إما باعتبار الأمر، أو الدلالة، أو باعتبارهما جميعًا.

ويتبين بهذا التحرير أن ما خرج من العلوم العقلية عن مسمي الشرعية وهو ما لم يأمر به الشارع ولم يدل عليه فهو يجري مجري الصناعات، كالفلاحة والبناية والنِّساجَة، وهذا لا يكون إلا في العلوم المفضولة المرجوحة، ويتبين أن مسمي الشرعية أشرف وأوسع، وأن بين العقلية والشرعية عمومًا وخصوصًا، ليس أحدهما قَسِيم الآخر، وإنما السمعي قسيم العقلي، وأنه يجتمع في العلم أن يكون عقليًا وهو شرعي بالاعتبارات الثلاثة: إخباره به، أمره به، دلالة عليه. فتدبر أن النسبة إلى الشرع بهذه الوجوه الثلاثة.

ثم ما أمر به الشارع من العلم؛ إما أن يكون أمره به يعود أو لزومًا من جهة ما لا يتأتي المشروع إلا به.

وكذلك الحكم الشرعي يريد به المعتزلة ما أخبر به الشارع فقط. ويريد به الأشعرية ما أثبته الشارع. وقد وافق كُلَّ فريقٍ قومٌ من أصحابنا وغيرهم، والصواب أن الحكم الشرعي يكون تارة ما أخبر به، ويكون تارة ما أثبته، وتارة يجتمع الأمران. والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج10. الادب المفرد للبخاري {من1182 الي1322 }

  ج10. الادب المفرد للبخاري {من 1182 الي 1322  }   المحتويات المقدمة باب الاحتباء باب من برك على ركبتيه باب الاستلقاء باب الضجعة...