Translate

الأحد، 6 مارس 2022

32-مجموع الفتاوى/المجلد الثاني والثلاثون { منن أول كتاب النكاح الي اخر المجلد}


32......مجموع الفتاوى/المجلد الثاني والثلاثون

كتاب النكاح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
سئل عمن أصابه سهم من سهام إبليس المسمومة

سئل الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه عمن أصابه سهم من سهام إبليس المسمومة؟

فأجاب:

من أصابه جرح مسموم فعليه بما يخرج السم ويبرئ الجرح بالترياق والمرهم.

 

 = وذلك بأمور:

منها: أن يتزوج أو يتسري؛ فإن النبي ﷺ قال: (إذا نظر أحدكم إلى محاسن امرأة فليأت أهله؛ فإنما معها مثل ما معها)، 

 وهذا مما ينقص الشهوة، ويضعف العشق.

الثاني: أن يداوم على الصلوات الخمس، والدعاء، والتضرع وقت السحر.

 

  وتكون صلاته بحضور قلب وخشوع، وليكثر من الدعاء بقوله: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك. يا مصرف القلوب، صرف قلبي إلى طاعتك وطاعة رسولك)،

  فإنه متى أدمن الدعاء والتضرع للهصرف قلبه عن ذلك، كما قال تعالى: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [1].

الثالث: أن يبعد عن مسكن هذا الشخص، والاجتماع بمن يجتمع به؛ بحيث لا يسمع له خبر، ولا يقع له على عين ولا أثر؛ فإن البعد جفا، ومتى قل الذكر ضعف الأثر في القلب.

 

  فليفعل هذه الأمور، وليطالع بما تجدد له من الأحوال. والله أعلم.
سئل عن رجل عازب ونفسه تتوق إلى الزواج

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل عازب، ونفسه تتوق إلى الزواج؛ غير أنه يخاف أن يتكلف من المرأة ما لا يقدر عليه، وقد عاهد الله ألا يسأل أحدا شيئا فيه منة لنفسه وهو كثير التطلع إلى الزواج: فهل يأثم بترك الزواج؟ أم لا؟

فأجاب:

قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).

 

  واستطاعة النكاح: هو القدرة على المؤنة؛ ليس هو القدرة على الوطء؛ فإن الحديث إنما هو خطاب للقادر على فعل الوطء؛ ولهذا أمر من لم يستطع أن يصوم؛ فإنه له وجاء. ومن لا مال له: هل يستحب أن يقترض ويتزوج؟ فيه نزاع في مذهب الإمام أحمد وغيره. وقد قال تعالى: { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حتى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [2]. وأما الرجل الصالح فهو القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده.

 

 
سئل عن رجل خطب على خطبته رجل آخر

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل خطب على خطبته رجل آخر: فهل يجوز ذلك؟

فأجاب:

الحمد لله، ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه، ولا يستام على سوم أخيه)؛ ولهذا اتفق الأئمة الأربعة في المنصوص عنهم وغيرهم من الأئمة على تحريم ذلك، وإنما تنازعوا في صحة نكاح الثاني؟ على قولين:

أحدهما: أنه باطل؛ كقول مالك وأحمد في إحدى الروايتين.

والآخر: أنه صحيح؛ كقول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في الرواية الأخري؛ بناء على أن المحرم هو ما تقدم على العقد، وهو الخطبة.

 

 = ومن أبطله قال: إن ذلك تحريم للعقد بطريق الأولى. ولا نزاع بينهم في أن فاعل ذلك عاص لله و رسوله؛ وإن نازع في ذلك بعض أصحابهم. والإصرار على المعصية مع العلم بها يقدح في دين الرجل وعدالته وولايته على المسلمين.
سئل عن امرأة فارقت زوجها وخطبها رجل في عدتها

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن امرأة فارقت زوجها، وخطبها رجل في عدتها، وهو ينفق عليها: فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، لا يجوز التصريح بخطبة المعتدة، ولو كانت في عدة وفاة باتفاق المسلمين. فكيف إذا كانت في عدة الطلاق؟ ومن فعل ذلك يستحق العقوبة التي تردعه وأمثاله عن ذلك، فيعاقب الخاطب والمخطوبة جميعا، ويزجر عن التزويج بها؛ معاقبة له بنقيض قصده. والله أعلم.

 

 
سئل عن رجل طلق زوجته ثلاثا وأوفت العدة عنده

وسئل عن رجل طلق زوجته ثلاثا، وأوفت العدة عنده، وخرجت، وبعد وفاء العدة تزوجت، وطلقت في يومها، ولم يعلم مطلقها إلا ثاني يوم: فهل يجوز له أن يتفق معها إذا أوفت عدتها أن يراجعها؟

فأجاب:

ليس له في زمن العدة من غيره أن يخطبها، ولا ينفق عليها ليتزوجها، وإذا كان الطلاق رجعيا لم يجز له التعريض أيضا، وإن كان بائنا ففي جواز التعريض نزاع. هذا إذا كانت قد تزوجت بنكاح رغبة. وأما إن كانت قد تزوجت بنكاح محلل فقد لعن رسول الله ﷺ المحلل والمحلل له.
سئل عن رجل خطب ابنة رجل من العدول واتفق معه على المهر

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل خطب ابنة رجل من العدول، واتفق معه على المهر؛ منه عاجل ومنه آجل. وأوصل إلى والدها المعجل من مدة أربع سنين، وهو يواصلهم بالنفقة، ولم يكن بينهم مكاتبة. ثم بعد هذا جاء رجل فخطبها، وزاد عليه في المهر، ومنع الزوج الأول؟

فأجاب:

لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه إذا أجيب إلى النكاح وركنوا إليه باتفاق الأئمة، كما ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه). وتجب عقوبة من فعل ذلك وأعان عليه؛ عقوبة تمنعهم وأمثالهم عن ذلك. وهل يكون نكاح الثاني صحيحا، أو فاسدا؟ فيه قولان للعلماء؛ في مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما.
سئل عن رجل يدخل على امرأة أخيه

وسئل رحمه الله عن رجل يدخل على امرأة أخيه، وبنات عمه، وبنات خاله: هل يحل له ذلك؟ أم لا؟

فأجاب:

لا يجوز له أن يخلو بها، ولكن إذا دخل مع غيره من غير خلوة ولا ريبة جاز له ذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل أملك على بنت

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أملك على بنت، وله مدة سنين ينفق عليها، ودفع لها، وعزم على الدخول: فوجد والدها قد زوجها غيره؟

فأجاب:

قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (المسلم أخو المسلم، لا يحل للمسلم أن يخطب على خطبة أخيه؛ ولا يستام على سوم أخيه؛ ولا يبيع على بيع أخيه). فالرجل إذا خطب امرأة، وركن إليه من إليه نكاحها كالأب المجبر فإنه لا يحل لغيره أن يخطبها. فكيف إذا كانوا قد ركنوا إليه، وأشهدوا بالإملاك المتقدم للعقد، وقبضوا منه الهدايا، وطالت المدة؟ فإن هؤلاء فعلوا محرما يستحقون العقوبة عليه بلا ريب، ولكن العقد الثاني هل يقع صحيحا أو باطلا؟ فيه قولان للعلماء:

أحدهما وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد: أن عقد الثاني باطل؛ فتنزع منه وترد إلى الأول.

والثاني: أن النكاح صحيح؛ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، فيعاقب من فعل المحرم، ويرد إلى الأول جميع ما أخذ منه. والقول الأول أشبه بما في الكتاب والسنة.
سئل عن رجل طلق زوجته ثلاثا ولهما ولدان

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل طلق زوجته ثلاثا، ولهما ولدان، وهي مقيمة عند الزوج في بيته مدة سنين، ويبصرها وتبصره: فهل يحل لها الأكل الذي تأكل من عنده؟ أم لا؟ وهل له عليها حكم؟ أم لا؟

فأجاب:

المطلقة ثلاثًا هي أجنبية من الرجل، بمنزلة سائر الأجنبيات، فليس للرجل أن يخلو بها، كما ليس له أن يخلو بالأجنبية. وليس له أن ينظر إليها إلى مالا ينظر إليه من الأجنبية؛ وليس له عليها حكم أصلا.

ولا يجوز له أن يواطئها على أن تزوج غيره ثم تطلقه وترجع إليه، ولا يجوز أن يعطيها ما تنفقه في ذلك؛ فإنها لو تزوجت رجلا غيره بالنكاح المعروف الذي جرت به عادة المسلمين ثم مات زوجها أو طلقها ثلاثا لم يجز لهذا الأول أن يخطبها في العدة صريحا باتفاق المسلمين، كما قال تعالى: { وَلاَ جُنَاحَ عليكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } [3]، ونهاه أن يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، أي حتى تنقضي العدة. فإذا كان قد نهاه عن هذه المواعدة والعزم في العدة فكيف إذا كانت في عصمة زوجها؟ فكيف إذا كان الرجل لم يتزوجها بعد؛ تواعد على أن تتزوجه، ثم تطلقه، وتزوج بها المواعد. فهذا حرام باتفاق المسلمين، سواء قيل: إنه يصح نكاح المحلل، أو قيل: لا. فلم يتنازعوا في أن التصريح بخطبة معتدة من غيره أو متزوجة بغيره أو بخطبة مطلقة ثلاثا أنه لا يجوز. ومن فعل ذلك يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة باتفاق الأئمة.
سئل عن رجل يتكلم شبه كلام النساء

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل يتكلم شبه كلام النساء، وهو طنجير هل يحل دخوله على النساء؟ وما الحكم فيه؟

فأجاب:

بل مثل هذا يجب نفيه، وإخراجه؛ فلا يسكن بين الرجال، ولا بين النساء؛ فإن النبي ﷺ نفي المخنث، وأمر بنفي المخنثين، وقال: (أخرجوهم من بيوتكم)، ومع هذا فلم يكن طنجيرا، فكيف الطنجير؟ وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما.
فصل في الأسباب التي بين الله وعباده وبين العباد

وقال شيخ الإسلام رحمه الله:

فصل في الأسباب التي بين الله وعباده، وبين العباد: الخلقية والكسبية، الشرعية والشرطية، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عليكُمْ رَقِيبًا } [4]، افتتح السورة بذكر خلق الجنس الإنساني من نفس واحدة؛ وأن زوجها مخلوق منها، وأنه بث منهما الرجال والنساء؛ أكمل الأسباب وأجلها، ثم ذكر ما بين الآدميين من الأسباب المخلوقة الشرعية: كالولادة، ومن الكسبية الشرطية: كالنكاح. ثم قال: { وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ }. قال طائفة من المفسرين من السلف: { تَسَاءلُونَ بِهِ }: تتعاهدون به، وتتعاقدون. وهو كما قالوا؛ لأن كل واحد من المتعاقدين عقد البيع أو النكاح أو الهدنة أو غير ذلك يسأل الآخر مطلوبه؛ هذا يطلب تسليم المبيع، وهذا تسليم الثمن. وكل منهما قد أوجب على نفسه مطلوب الآخر، فكل منهما طالب من الآخر موجب لمطلوب الآخر.

ثم قال: { وَالأَرْحَامَ }. والعهود والأرحام: هما جماع الأسباب التي بين بني آدم؛ فإن الأسباب التي بينهم: إما أن تكون بفعل الله أو بفعلهم. فالأول الأرحام، والثاني العهود؛ ولهذا جمع الله بينهما في مواضع، في مثل قوله: { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } [5]، فالإل: القرابة، والرحم، والذمة: العهد، والميثاق. وقال تعالى في أول البقرة: { الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } [6]، وقال: { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } إلى قوله: { وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } [7]. واعلم أن حق الله داخل في الحقين، ومقدم عليهما؛ ولهذا قدمه في قوله: { اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم } [4]، فإن الله خلق العبد وخلق أبويه، وخلقه من أبويه. فالسبب الذي بينه وبين الله هو الخلقي التام؛ بخلاف سبب الأبوين؛ فإن أصل مادته منهما، وله مادة من غيرهما؛ ثم إنهما لم يصوراه في الأرحام. والعبد ليس له مادة إلا من أبويه، والله هو خالقه وبارئه ومصوره ورازقه وناصره وهاديه، وإنما حق الأبوين فيه بعض المناسبة لذلك؛ فلذلك قرن حق الأبوين بحقه في قوله: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [8]، وفي قوله: { وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شيئا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [9]، وفي قوله: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [10].

وجعل النبي ﷺ التبرؤ من الأبوين كفرا؛ لمناسبته للتبرؤ من الرب. وفي الحديث الصحيح: (من ادعي إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر) أخرجاه في الصحيحين، وقوله: (كفر بالله من تبرأ من نسب وإن دق)، وقوله: (لا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم. فحق النسب والقرابة والرحم تقدمه حق الربوبية، وحق القريب المجيب الرحمن؛ فإن غاية تلك أن تتصل بهذا، كما قال الله: (أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)، وقال: (الرحم شُجْنَة من الرحمن)، وقال: (لما خلق الله الرحم تعلقت بحقو الرحمن، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة). وقد قيل في قوله: { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ } [5]، إن "الإل": الرب، كقول الصديق لما سمع قرآن مسيلمة: إن هذا كلام لم يخرج من إلّ. وأما دخول حق الرب في العهود والعقود. فكدخول العبد في الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله؛ فإن هذا عهد الإسلام، وهو أشرف العهود وأوكدها وأعمها وأكملها.
باب أركان النكاح وشروطه

باب أركان النكاح وشروطه

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
فصل في من قال لا يصح النكاح إلا بلفظ الإنكاح والتزويج

عمدة من قال: لا يصح النكاح إلا بلفظ الإنكاح والتزويج وهم أصحاب الشافعي، وابن حامد، ومن وافقهم من أصحابنا كأبي الخطاب والقاضي، وأصحابه، ومن بعده إلا في لفظ: أعتقتك، وجعل عتقك صداقك، أنهم قالوا: ما سوي هذين اللفظين كناية، والكناية لا تقتضي المطلقة ثلاثًا هي أجنبية من الرجل، بمنزلة سائر الأجنبيات، فليس للرجل أن يخلو بها، كما ليس له أن يخلو بالأجنبية. وليس له أن ينظر إليها إلى مالا ينظر إليه من الأجنبية؛ وليس له عليها حكم أصلا.

ولا يجوز له أن يواطئها على أن تزوج غيره ثم تطلقه وترجع إليه، ولا يجوز أن يعطيها ما تنفقه في ذلك؛ فإنها لو تزوجت رجلا غيره بالنكاح المعروف الذي جرت به عادة المسلمين ثم مات زوجها أو طلقها ثلاثا لم يجز لهذا الأول أن يخطبها في العدة صريحا باتفاق المسلمين، كما قال تعالى: { وَلاَ جُنَاحَ عليكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } [3]، ونهاه أن يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، أي حتى تنقضي العدة. فإذا كان قد نهاه عن هذه المواعدة والعزم في العدة فكيف إذا كانت في عصمة زوجها؟ فكيف إذا كان الرجل لم يتزوجها بعد؛ تواعد على أن تتزوجه، ثم تطلقه، وتزوج بها المواعد. فهذا حرام باتفاق المسلمين، سواء قيل: إنه يصح نكاح المحلل، أو قيل: لا. فلم يتنازعوا في أن التصريح بخطبة معتدة من غيره أو متزوجة بغيره أو بخطبة مطلقة ثلاثا أنه لا يجوز. ومن فعل ذلك يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة باتفاق الأئمة.حكم إلا بالنية، والنية في القلب لا تعلم، فلا يصح عقد النكاح بالكناية؛ لأن صحته مفتقرة إلى الشهادة عليه، والنية لا يشهد عليها، بخلاف ما يصح بالكناية؛ من طلاق وعتق وبيع؛ فإن الشهادة لا تشترط في صحة ذلك. ومنهم من يجعل ذلك تعبدا؛ لما فيه من ثبوت العبادات. وهذا قول من لا يصححه إلا بالعربية من أصحابنا وغيرهم. وهذا ضعيف لوجوه:

أحدها: لا نسلم أن ما سوي هذين كناية، بل ثم ألفاظ هي حقائق عرفية في العقد أبلغ من لفظ "أنكحت"، فإن هذا اللفظ مشترك بين الوطء والعقد، ولفظ الإملاك خاص بالعقد، لا يفهم إذا قال القائل: أملك فلان على فلانة، إلا العقد، كما في الصحيحين: (أملكتكها على ما معك من القرآن)، سواء كانت الرواية باللفظ أو بالمعنى.

الثاني: أنا لا نسلم أن الكناية تفتقر إلى النية مطلقا، بل إذا قرن بها لفظ من ألفاظ الصريح، أو حكم من أحكام العقد كانت صريحة، كما قالوا في الوقف: إنه ينعقد بالكناية؛ كتصدقت، وحرمت، وأبدت. إذا قرن بها لفظ أو حكم. فإذا قال: أملكتكها فقال: قبلت هذا التزويج. أو أعطيتكها زوجة فقال: قبلت. أو أملكتكها على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ونحو ذلك؛ فقد قرن بها من الألفاظ والأحكام ما يجعله صريحا.

الثالث: أن إضافة ذلك إلى الحرة يبين المعنى؛ فإنه إذا قال في ابنته: ملكتكها، أو أعطيتكها، أو زوجتكها، ونحو ذلك؛ فالمحل ينفي الإجمال والاشتراك.

الرابع: أن هذا منقوض عليهم بالشهادة في الرجعة؛ فإنها مشروعة إما واجبة، وإما مستحبة. وهي شرط في صحة الرجعة على قول، وبالشهادة على البيع وسائر العقود؛ فإن ذلك مشروع مطلقا، سواء كان العقد بصريح أو كناية مفسرة.

الخامس: أن الشهادة تصح على العقد. ويثبت بها عند الحاكم على أي صورة انعقدت. فعلم أن اعتبار الشهادة فيه لا يمنع ذلك.

السادس: أن العاقدين يمكنهما تفسير مرادهما. ويشهد الشهود على ما فسروه.

السابع: أن الكناية عندنا إذا اقترن بها دلالة الحال كانت صريحة في الظاهر بلا نزاع. ومعلوم أن اجتماع الناس، وتقديم الخطبة، وذكر المهر، والمفاوضة فيه، والتحدث بأمر النكاح، قاطع في إرادة النكاح. وأما التعبد فيحتاج إلى دليل شرعي. ثم العقد جنس لا يشرع فيه التعبد بالألفاظ؛ لأنها لا يشترط فيها الإيمان، بل تصح من الكافر، وما يصح من الكافر لا تعبد فيه. والله أعلم.
سئل عن رجل وكل ذميا في قبول نكاح امرأة مسلمة

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل وكل ذميا في قبول نكاح امرأة مسلمة: هل يصح النكاح؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة فيها نزاع؛ فإن الوكيل في قبول النكاح لابد أن يكون ممن يصح منه قبوله النكاح لنفسه في الجملة. فلو وكل امرأة أو مجنونا أو صبيا غير مميز لم يجز، ولكن إذا كان الوكيل ممن يصح منه قبول النكاح بإذن وليه، ولا يصح منه القبول بدون إذن وليه، فوكل في ذلك؛ مثل أن يوكل عبدا في قبول النكاح بلا إذن سيده، أو يوكل سفيها محجورا عليه بدون إذن وليه، أو يوكل صبيا مميزا بدون إذن وليه فهذا فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد، وغيره. وإن كان يصح منه النكاح بغير إذن، لكن في الصورة المعينة لا يجوز لمانع فيه؛ مثل أن يوكل في نكاح الأمة من لا يجوز له تزوجها صحت الوكالة.

وأما توكل الذمي في قبول النكاح له فهو يشبه تزويج الذمي ابنته الذمية من مسلم، ولو زوجها من ذمي جاز، ولكن إذا زوجها من مسلم ففيها قولان في مذهب أحمد وغيره. قيل: يجوز. وقيل: لا يجوز، بل يوكل مسلما. وقيل: لا يزوجها إلا الحاكم بإذنه. وكونه وليا في تزويج المسلم مثل كونه وكيلا في تزويج المسلمة. ومن قال: إن ذلك كله جائز، قال: إن الملك في النكاح يحصل للزوج؛ لا للوكيل باتفاق العلماء، بخلاف الملك في غيره؛ فإن الفقهاء تنازعوا في ذلك: فمذهب الشافعي وأحمد وغيرهما أن حقوق العقد تتعلق بالموكل، والملك يحصل له: فلو وكل مسلم ذميا في شراء خمر لم يجز. وأبو حنيفة يخالف في ذلك. وإذا كان الملك يحصل للزوج، وهو الموكل للمسلم، فتوكيل الذمي بمنزلة توكله في تزويج المرأة بعض محارمها. كخالها؛ فإنه يجوز توكله في قبول نكاحها للموكل. وإن كان لا يجوز له تزوجها، كذلك الذمي إذا توكل في نكاح مسلم. وإن كان لا يجوز له تزوج المسلمة، لكن الأحوط ألا يفعل ذلك؛ لما فيه من النزاع؛ ولأن النكاح فيه شوب العبادات.

ويستحب عقده في المساجد، وقد جاء في الآثار: (من شهد إملاك مسلم فكأنما شهد فتحًا في سبيل الله). ولهذا وجب في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره أن يعقد بالعربية، كالأذكار المشروعة.

وإذا كان كذلك لم ينبغ أن يكون الكافر متوليا لنكاح مسلم، ولكن لا يظهر مع ذلك أن العقد باطل؛ فإنه ليس على بطلانه دليل شرعي، والكافر يصح منه النكاح، وليس هو من أهل العبادات. والله أعلم.
سئل عن مريض تزوج في مرضه

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن مريض تزوج في مرضه: فهل يصح العقد؟

فأجاب:

نكاح المريض صحيح، ترث المرأة في قول جماهير علماء المسلمين من الصحابة والتابعين، ولا تستحق إلا مهر المثل، لا تستحق الزيادة على ذلك بالاتفاق.
سئل عن رجل له بنت وهي دون البلوغ فزوجوها في غيبة أبيها

وسئل رحمه الله عن رجل له بنت، وهي دون البلوغ، فزوجوها في غيبة أبيها، ولم يكن لها ولي، وجعلوا أن أباها توفي وهو حي، وشهدوا أن خالها أخوها فهل يصح العقد أم لا؟

فأجاب:

إذا شهدوا أن خالها أخوها فهذه شهادة زور، ولا يصير الخال وليا بذلك، بل هذه قد تزوجت بغير ولي، فيكون نكاحها باطلا عند أكثر العلماء والفقهاء، كالشافعي وأحمد وغيرهما. وللأب أن يجدده. ومن شهد أن خالها أخوها وأن أباها مات فهو شاهد زور، يجب تعزيره، ويعزر الخال. وإن كان دخل بها فلها المهر، ويجوز أن يزوجها الأب في عدة النكاح الفاسد عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه. والله أعلم.
سئل عن امرأة ذهبت إلى أجنبي وادعت أنه وكيلها في النكاح

وسئل رحمه الله تعالى عن امرأة لها أب وأخ، ووكيل أبيها في النكاح وغيره حاضر، فذهبت إلى الشهود وغيرت اسمها واسم أبيها، وادعت أن لها مطلقا يريد تجديد النكاح وأحضرت رجلا أجنبيا، وذكرت أنه أخوها، فكتبت الشهود كتابها على ذلك ثم ظهر ما فعلته، وثبت ذلك بمجلس الحكم: فهل تعزر على ذلك؟ وهل يجب تعزير المعرفين، والذي ادعي أنه أخوها، والذي عرف الشهود بما ذكر؟ وهل يختص التعزير بالحاكم؟ أو يعزرهم ولي الأمر من محتسب وغيره؟

فأجاب:

الحمد لله، تعزر تعزيرا بليغا؛ ولو عزرها ولي الأمر مرات كان ذلك حسنا. كما كان عمر بن الخطاب يكرر التعزير في الفعل إذا اشتمل على أنواع من المحرمات، فكان يعزر في اليوم الأول مائة، وفي الثاني مائة، وفي الثالث مائة: يفرق التعزير؛ لئلا يفضي إلى فساد بعض الأعضاء. وذلك أن هذه قد ادعت إلى غير أبيها، واستخلفت أخاها، وهذا من الكبائر، فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (من ادعي إلى غير أبيه أو تولي غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا)، بل قد ثبت في الصحيح عن سعد وأبي بكرة أنهما سمعا النبي ﷺ يقول: (من ادعي إلى غير أبيه فالجنة عليه حرام). وثبت ما هو أبلغ من ذلك في الصحيح عن أبي ذر، عن النبي ﷺ أنه يقول: (ليس منا من ادعي إلى غير أبيه وهو يعلم إلا كَفَر، ومن ادعي ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار، ومن رمى رجلا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه)، وهذا تغليظ عظيم يقتضى أن يعاقب على ذلك عقوبة عظيمة، يستحق فيها مائة سوط، ونحو ذلك.

وأيضا، فإنها لَبَّست على الشهود، وأوقعتهم في العقود الباطلة، ونكحت نكاحا باطلا؛ فإن جمهور العلماء يقولون: النكاح بغير ولي باطل، يعزرون من يفعل ذلك اقتداء بعمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهذا مذهب الشافعي وغيره، بل طائفة منهم يقيمون الحد في ذلك بالرجم وغيره. ومن جوز النكاح بلا ولي مطلقا، أو في المدينة، فلم يجوز على هذا الوجه من دعوى النسب الكاذب، وإقامة الولي الباطل، فكان عقوبة هذه متفقا عليها بين المسلمين.

وتعاقب أيضا على كذبها، وكذلك الدعوي أنه كان زوجها وطلقها، ويعاقب الزوج أيضا. وكذلك الذي ادعي أنه أخوها. يعاقب على هذين الريبتين. وأما المعرفون بهم يعاقبون على شهادة الزور؛ بالنسب لها، والتزويج والتطليق، وعدم ولي حاضر. وينبغي أن يبالغ في عقوبة هؤلاء؛ فإن الفقهاء قد نصوا على أن شاهد الزور يسود وجهه؛ بما نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يسود وجهه. إشارة إلى سواد وجهه بالكذب. وأنه كان يركبه دابة مقلوبا إلى خلف. إشارة إلى أنه قلب الحديث، ويطاف به حتى يشهره بين الناس أنه شاهد زور.

وتعزير هؤلاء ليس يختص بالحاكم، بل يعزره الحاكم والمحتسب وغيرهما من ولاة الأمور القادرين على ذلك، ويتعين ذلك في مثل هذه الحال التي ظهر فيها فساد كثير في النساء، وشهادة الزور كثيرة؛ فإن النبي ﷺ قال: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه). والله أعلم.
سئل عن إجبار الأب لابنته البكر البالغ على النكاح

وسئل رحمه الله تعالى عن إجبار الأب لابنته البكر البالغ على النكاح: هل يجوز أم لا؟

فأجاب:

وأما إجبار الأب لابنته البكر البالغة على النكاح، ففيه قولان مشهوران؛ هما روايتان عن أحمد.

إحداهما: أنه يجبر البكر البالغ؛ كما هو مذهب مالك والشافعي، وهو اختيار الخرقي والقاضي وأصحابه.

والثانية: لا يجبرها؛ كمذهب أبي حنيفة وغيره، وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز بن جعفر. وهذا القول هو الصواب. والناس متنازعون في مناط الإجبار، هل هو البكارة؟ أو الصغر؟ أو مجموعها؟ أو كل منهما؟ على أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره. والصحيح أن مناط الإجبار هو الصغر، وأن البكر البالغ لا يجبرها أحد على النكاح؛ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر) فقيل له: إن البكر تستحي؟ فقال: (إذنها صماتها). وفي لفظ في الصحيح: (البكر يستأذنها أبوها). فهذا نهي النبي ﷺ: لا تنكح حتى تستأذن. وهذا يتناول الأب وغيره، وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى الصحيحة، وأن الأب نفسه يستأذنها.

وأيضا، فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها وبضعها أعظم من مالها، فكيف يجوز أن يتصرف في بضعها مع كراهتها ورشدها؟

وأيضا، فإن الصغر سبب الحجر بالنص والإجماع. وأما جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام؛ فإن الشارع لم يجعل البكارة سببا للحجر في موضع من المواضع المجمع عليها، فتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع.

وأيضا، فإن الذين قالوا بالإجبار اضطربوا فيما إذا عينت كفؤا، وعين الأب كفؤا آخر: هل يؤخذ بتعيينها؟ أو بتعيين الأب؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد. فمن جعل العبرة بتعيينها نقض أصله، ومن جعل العبرة بتعيين الأب كان في قوله من الفساد والضرر والشر مالا يخفي؛ فإنه قد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: (الأيم أحق بنفسها من وليها؛ والبكر تستأذن، وإذنها صماتها). وفي رواية: (الثيب أحق بنفسها من وليها). فلما جعل الثيب أحق بنفسها دل على أن البكر ليست أحق بنفسها، بل الولي أحق، وليس ذلك إلا للأب والجد. هذه عمدة المجبرين وهم تركوا العمل بنص الحديث، وظاهره، وتمسكوا بدليل خطابه، ولم يعلموا مراد الرسول ﷺ. وذلك أن قوله: (الأيم أحق بنفسها من وليها) يعم كل ولي، وهم يخصونه بالأب والجد. والثاني قوله: (والبكر تستأذن) وهم لا يوجبون استئذانها، بل قالوا: هو مستحب، حتى طرد بعضهم قياسه، وقالوا: لما كان مستحبا اكتفي فيه بالسكوت، وادعي أنه حيث يجب استئذان البكر فلابد من النطق. وهذا قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد.

وهذا مخالف لإجماع المسلمين قبلهم، ولنصوص رسول الله ﷺ؛ فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة المستفيضة؛ واتفاق الأئمة قبل هؤلاء أنه إذا زوج البكر أخوها أو عمها فإنه يستأذنها، وإذنها صماتها. وأما المفهوم، فالنبي ﷺ فرق بين البكر والثيب؛ كما قال في الحديث الآخر: (لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر)، فذكر في هذه لفظ: الإذن، وفي هذه لفظ: الأمر، وجعل إذن هذه الصمات؛ كما أن إذن تلك النطق. فهذان هما الفرقان اللذان فرق بهما النبي ﷺ بين البكر والثيب، لم يفرق بينهما في الإجبار وعدم الإجبار؛ وذلك لأن البكر لما كانت تستحي أن تتكلم في أمر نكاحها لم تخطب إلى نفسها، بل تخطب إلى وليها، ووليها يستأذنها، فتأذن له، لا تأمره ابتداء، بل تأذن له إذا استأذنها، وإذنها صماتها. وأما الثيب فقد زال عنها حياء البكر فتتكلم بالنكاح، فتخطب إلى نفسها، وتأمر الولي أن يزوجها. فهي آمرة له، وعليه أن يعطيها فيزوجها من الكفؤ إذا أمرته بذلك. فالولي مأمور من جهة الثيب، ومستأذن للبكر. فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي ﷺ.

وأما تزويجها مع كراهتها للنكاح، فهذا مخالف للأصول والعقول، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده، فكيف يكرهها على مباضعة ومعاشرة من تكره مباضعته، ومعاشرة من تكره معاشرته؟ والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له، ونفورها عنه. فأي مودة ورحمة في ذلك؟

ثم إنه إذا وقع الشقاق بين الزوجين فقد أمر الله ببعث حكم من أهله وحكم من أهلها. والحكمان كما سماهما الله عز وجل: هما حكمان عند أهل المدينة، وهو أحد القولين للشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة. والقول الآخر: هما وكيلان. والأول أصح؛ لأن الوكيل ليس بحكم، ولا يحتاج فيه إلى أمر الأئمة، ولا يشترط أن يكون من الأهل، ولا يختص بحال الشقاق، ولا يحتاج في ذلك إلى نص خاص، ولكن إذا وقع الشقاق فلابد من ولي لهما، يتولي أمرهما؛ لتعذر اختصاص أحدهما بالحكم على الآخر. فأمر الله أن يجعل أمرهما إلى اثنين من أهلهما، فيفعلان ما هو الأصلح من جمع بينهما، وتفريق بعوض أو بغيره. وهنا يملك الحكم الواحد مع الآخر الطلاق بدون إذن الرجل، ويملك الحكم الآخر مع الأول بذل العوض من مالها بدون إذنها؛ لكونهما صارا وليين لهما.

وطرد هذا القول: أن الأب يُطَلِّق على ابنه الصغير، والمجنون؛ إذا رأي المصلحة؛ كما هو إحدى الروايتين عن أحمد، وكذلك يخالع عن ابنته إذا رأى المصلحة لها.

وأبلغ من ذلك أنه إذا طلقها قبل الدخول فللأب أن يعفو عن نصف الصداق إذا قيل: هو الذي بيده عقدة النكاح. كما هو قول مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه. والقرآن يدل على صحة هذا القول، وليس الصداق كسائر مالها؛ فإنه وجب في الأصل نحلة، وبضعها عاد إليها من غير نقص، وكان إلحاق الطلاق بالفسوخ، فوجب ألا يتنصف، لكن الشارع جبرها بتنصيف الصداق؛ لما حصل لها من الانكسار به.

ولهذا جعل ذلك عوضا عن المتعة عند ابن عمر والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه، فأوجبوا المتعة لكل مطلقة؛ إلا لمن طلقت بعد الفرض وقبل الدخول والمسيس، فحسبها ما فرض لها. وأحمد في الرواية الأخرى مع أبي حنيفة وغيره لا يوجبون المتعة إلا لمن طلقت قبل الفرض والدخول، ويجعلون المتعة عوضا عن نصف الصداق، ويقولون: كل مطلقة فإنها تأخذ صداقا، إلا هذه. وأولئك يقولون: الصداق استقر قبل الطلاق بالعقد والدخول، والمتعة سببها الطلاق، فتجب لكل مطلقة، لكن المطلقة بعد الفرض وقبل المسيس متعت بنصف الصداق، فلا تستحق الزيادة. وهذا القول أقوي من ذلك القول: فإن الله جعل الطلاق سبب المتعة، فلا يجعل عوضا عما سببه العقد والدخول، لكن يقال على هذا: فالقول الثالث أصح، وهو الرواية الأخرى عن أحمد: أن كل مطلقة لها متعة؛ كما دل عليه ظاهر القرآن وعمومه، حيث قال: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } [11].

وأيضا، فإنه قد قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } [12]. فأمر بتمتيع المطلقات قبل المسيس، ولم يخص ذلك بمن لم يفرض لها، مع أن غالب النساء يطلقهن بعد الفرض.

وأيضا، فإذا كان سبب المتعة هو الطلاق، فسبب المهر هو العقد. فالمفوضة التي لم يسم لها مهرا يجب لها مهر المثل بالعقد، ويستقر بالموت، على القول الصحيح الذي دل عليه حديث بروع بنت واشق، التي تزوجت ومات عنها زوجها قبل أن يفرض لها مهر، وقضي لها النبي ﷺ بأن لها مهر امرأة من نسائها، لا وَكْسَ ولا شَطَط، لكن هذه لو طلقت قبل المسيس لم يجب لها نصف المهر بنص القرآن؛ لكونها لم تشترط مهرا مسمي، والكسر الذي حصل لها بالطلاق انجبر بالمتعة، وليس هذا موضع بسط هذه المسائل.

ولكن المقصود أن الشارع لا يكره المرأة على النكاح إذا لم ترده، بل إذا كرهت الزوج وحصل بينهما شقاق، فإنه يجعل أمرها إلى غير الزوج لمن ينظر في المصلحة من أهلها، مع من ينظر في المصلحة من أهله، فيخلصها من الزوج بدون أمره، فكيف تؤسر معه أبدا بدون أمرها. والمرأة أسيرة مع الزوج؛ كما قال النبي ﷺ: (اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله).
سئل عن بنت بالغ وقد خطبت لقرابة لها فأبت

وسئل رحمه الله تعالى عن بنت بالغ، وقد خطبت لقرابة لها فأبت، وقال أهلها للعاقد: اعقد وأبوها حاضر: فهل يجوز تزويجها؟

فأجاب:

أما إن كان الزوج ليس كفؤا لها فلا تجبر على نكاحه بلا ريب، وأما إن كان كفؤا فللعلماء فيه قولان مشهوران، لكن الأظهر في الكتاب والسنة والاعتبار أنها لا تجبر؛ كما قال النبي ﷺ: (لا تنكح البكر حتى يستأذنها أبوها، وإذنها صماتها). والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج بكرا ولم يستأذنها أبوها حين العقد

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج بكرا بولاية أبيها، ولم يستأذن حين العقد، وكان قدم العقد عليها لزوج قبله، وطلقت قبل الدخول بغير إصابة، ثم دخل بها الزوج الثاني فوجدها بنتا، فكتم ذلك، وحملت الزوجة منه، واستقر الحال بينهما، فلما علم الزوج أنها لم تستأذن حين العقد عليها سأل عن ذلك، قيل له: إن العقد مفسوخ؛ لكونها بنتا ولم تستأذن: فهل يكون العقد مفسوخا؟ والوطء شبهة؟ ويلزم تجديد العقد أم لا؟

فأجاب:

أما إذا كانت ثيبا من زوج، وهي بالغ فهذه لا تنكح إلا بإذنها باتفاق الأئمة؛ ولكن إذا زوجت بغير إذنها، ثم أجازت العقد جاز ذلك في مذهب أبي حنيفة ومالك، والإمام أحمد في إحدى الروايتين، ولم يجز في مذهب الشافعي وأحمد في رواية أخري. وإن كانت ثيبا من زنا فهي كالثيب من النكاح في مذهب الشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنيفة. وفيه قول آخر: أنها كالبكر، وهو مذهب أبي حنيفة نفسه ومالك. وإن كانت البكارة زالت بوثبة، أو بأصبع، أو نحو ذلك فهي كالبكر عند الأئمة الأربعة.

وإذا كانت بكرا فالبكر يجبرها أبوها على النكاح، وإن كانت بالغة، في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين. وفي الأخرى وهي مذهب أبي حنيفة وغيره أن الأب لا يجبرها إذا كانت بالغا. وهذا أصح ما دل عليه سنة رسول الله ﷺ وشواهد الأصول. فقد تبين في هذه المسألة أن أكثر العلماء يقولون: إذا اختارت هي العقد جاز، وإلا يحتاج إلى استئناف. وقد يقال: هو الأقوي هنا؛ لا سيما والأب إنما عقد معتقدًا أنها بكر، وأنه لا يحتاج إلى استئذانها؛ فإذا كانت في الباطن بخلاف ذلك كان معذورا. فإذا اختارت هي النكاح لم يكن هذا بمنزلة تصرف الفضولي. ووقف العقد على الإجازة فيه نزاع مشهور بين العلماء، والأظهر فيه التفصيل بين بعضها وبعض. كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.

وقال الشيخ رحمه الله:

ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقا، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك، وأولى؛ فإن أكل المكروه مرارة ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك، ولا يمكن فراقه.
سئل عن رجل تحت حجر والده وقد تزوج بغير إذنه

وسئل رحمه الله عن رجل تحت حجر والده، وقد تزوج بغير إذن والده، وشهد المعروفون أن والده مات وهو حي: فهل يصح العقد أم لا؟ وهل يجب على الولد إذا تزوج بغير إذن والده حق أم لا؟

فأجاب:

إن كان سفيها محجورا عليه، لا يصح نكاحه بدون إذن أبيه ويفرق بينهما. وإذا فرق بينهما قبل الدخول فلا شيء عليه. وإن كان رشيدا صح نكاحه، وإن لم يأذن له أبوه. وإذا تنازع الزوجان، هل نكح وهو رشيد أو وهو سفيه، فالقول قول مدعي صحة النكاح.
سئل عن رجل خطب امرأة ولها ولد والعاقد مالكي

وسئل رحمه الله عن رجل خطب امرأة، ولها ولد، والعاقد مالكي، فطلب العاقد الولد فتعذر حضوره، وجيء بغيره، وأجاب العاقد في تزويجها: فهل يصح العقد؟

فأجاب:

لا يصح هذا العقد؛ وذلك لأن الولد وليها، وإذا كان حاضرا غير ممتنع لم تزوج إلا بإذنه. فأما إن غاب غيبة بعيدة انتقلت الولاية إلى الأبعد أو الحاكم. ولو زوجها شافعي معتقدا أن الولد لا ولاية له كان من مسائل الاجتهاد، لكن الذي زوجها مالكي يعتقد ألا يزوجها إلا ولدها، فإذا لبس عليه وزوجها من يعتقده ولدها ولم يكن هذا الحاكم قد زوجها بولايته، ولا زوجت بولاية ولي من نسب أو ولاء، فتكون منكوحة بدون إذن ولي أصلا. وهذا النكاح باطل عند الجمهور، كما وردت به النصوص.
سئل عن امرأة خلاها أخوها في مكان لتوفي عدة زوجها

وسئل رحمه الله عن امرأة خلاها أخوها في مكان لتوفي عدة زوجها، فلما انقضت العدة هربت إلى بلد مسيرة يوم. وتزوجت بغير إذن أخيها، ولم يكن لها ولي غيره: فهل يصح العقد، أم لا؟

فأجاب:

إذا لم يكن أخوها عاضلا لها، وكان أهلا للولاية، لم يصح نكاحها بدون إذنه، والحال هذه. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج بالغة من جدها أبي أبيها

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج بالغة من جدها أبي أبيها، وما رشدها، ولا معه وصية من أبيها، فلما دنت وفاة جدها أوصى على البنت رجلا أجنبيا: فهل للجد المذكور على الزوجة ولاية بعد أن أصابها الزوج، وهل له أن يوصى عليها؟

فأجاب:

أما إذا كانت رشيدة فلا ولاية عليها، لا للجد ولا غيره باتفاق الأئمة، وإن كانت ممن يستحق الحجر عليها ففيه للعلماء قولان: أحدهما: أن الجد له ولاية، وهذا مذهب أبي حنيفة. والثاني: لا ولاية له، وهو مذهب مالك، وأحمد في المشهور عنه. وإذا تزوجت الجارية ومضت عليها سنة وأولدها أمكن أن تكون رشيدة باتفاق العلماء.
سئل عمن برطل ولي امرأة ليزوجها إياه فزوجها

وسئل عمن برطل ولي امرأة ليزوجها إياه، فزوجها ثم صالح صاحب المال عنه: فهل على المرأة من ذلك درك؟

فأجاب:

آثم فيما فعل. وأما النكاح فصحيح، ولا شيء على المرأة من ذلك؟
سئل عن رجل له جارية وقد أعتقها وتزوج بها ومات

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل له جارية، وقد أعتقها، وتزوج بها، ومات. ثم خطبها من يصلح: فهل لأولاد سيدها أن يزوجوها؟

فأجاب:

الحمد لله، إذا خطبها من يصلح لها فعلى أولاد سيدها أن يزوجوها، فإن امتنعوا من ذلك زوجها الحاكم، أو عصبة المعتق إن كان له عصبة غير أولاده؛ لكن من العلماء من يقدم الحاكم إذا عضل الولي الأقرب وهو مذهب الشافعي وأحمد في رواية. ومنهم من يقدم العصبة كأبي حنيفة في المشهور عنه، فإذا لم يكن له عصبة زوج الحاكم باتفاق العلماء، ولو امتنع العصبة كلهم زوج الحاكم بالاتفاق. وإذا أذن العصبة للحاكم جاز باتفاق العلماء.
سئل عن رجل تزوج معتقة رجل وطلقها وتزوجت بآخر وطلقها

وسئل رحمه الله عن رجل تزوج معتقة رجل، وطلقها، وتزوجت بآخر وطلقها، ثم حضرت إلى البلد الذي فيه الزوج الأول، فأراد ردها، ولم يكن معها براءة، فخاف أن يطلب منه براءة: فحضرا عند قاضي البلد، وادعي أنها جاريته وأولدها، وأنه يريد عتقها ويكتب لها كتابا: فهل يصح هذا العقد أم لا؟

فأجاب:

إذا زوجها القاضي بحكم أنه وليها، وكانت خلية من الموانع الشرعية، ولم يكن لها ولي أولى من الحاكم، صح النكاح. وإن ظن القاضي أنها عتيقة وكانت حرة الأصل، فهذا الظن لا يقدح في صحة النكاح. وهذا ظاهر على أصل الشافعي؛ فإن الزوج عنده لا يكون وليا. وأما من يقول: إن المعتقة يكون زوجها المعتق وليها، والقاضي نائبه، فهنا إذا زوج الحاكم بهذه النيابة، ولم يكن قبولها من جهتها، ولكن من كونها حرة الأصل، فهذا فيه نظر. والله أعلم.
سئل عن أعراب نازلين على البحر وأهل بادية وليس عندهم حاكم

وسئل رحمه الله عن أعراب نازلين على البحر وأهل بادية، وليس عندهم ولا قريبا منهم حاكم، ولا لهم عادة أن يعقدوا نكاحا إلا في القري التي حولهم عند أئمتها: فهل يصح عقد أئمة القري لهم مطلقا لمن لها ولي، ولمن ليس لها ولي، وربما كان أئمة ليس لهم إذن من متول: فهل يصح عقدهم في الشرع مع إشهاد من اتفق من المسلمين على العقود، أم لا؟ وهل على الأئمة إثم إذا لم يكن في العقد مانع غير هذا الحال الذي هو عدم إذن الحاكم للإمام بذلك أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، أما من كان لها ولي من النسب، وهو العصبة من النسب أو الولاء: مثل أبيها، وجدها، وأخيها، وعمها، وابن أخيها، وابن عمها، وعم أبيها، وابن عم أبيها، وإن كانت معتقة فمعتقها، أو عصبة معتقها، فهذه يزوجها الولي بإذنها، والابن ولي عند الجمهور، ولا يفتقر ذلك إلى حاكم باتفاق العلماء.

وإذا كان النكاح بحضرة شاهدين من المسلمين صح النكاح. وإن لم يكن هناك أحد من الأئمة. ولو لم يكن الشاهدان معدلين عند القاضي بأن كانا مستورين صح النكاح إذا أعلنوه ولم يكتموه في ظاهر مذهب الأئمة الأربعة. ولو كان بحضرة فاسقين صح النكاح أيضا عند أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين. ولو لم يكن بحضرة شهود، بل زوجها وليها وشاع ذلك بين الناس صح النكاح في مذهب مالك، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه. وهذا أظهر قولي العلماء، فإن المسلمين مازالوا يزوجون النساء على عهد النبي ﷺ، ولم يكن النبي ﷺ يأمرهم بالإشهاد، وليس في اشتراط الشهادة في النكاح حديث ثابت، لا في الصحاح، ولا في السنن، ولا في المساند. وأما من لا ولي لها، فإن كان في القرية أو الحلة نائب حاكم زوجها هو، وأمير الأعراب ورئيس القرية. وإذا كان فيهم إمام مطاع زوجها أيضا بإذنها. والله أعلم.
سئل عن رجل أسلم هل يبقى له ولاية على أولاده الكتابيين

وسئل قدس الله روحه عن رجل أسلم: هل يبقى له ولاية على أولاده الكتابيين؟

فأجاب:

لا ولاية له عليهم في النكاح، كما لا ولاية له عليهم في الميراث، فلا يزوج المسلم الكافرة، سواء كانت بنته أو غيرها، ولا يرث كافر مسلما، ولا مسلم كافرا. وهذا مذهب الأئمة الأربعة وأصحابهم من السلف والخلف، لكن المسلم إذا كان مالكا للأمة زوجها بحكم الملك، وكذلك إذا كان ولي أمر زواجها بحكم الولاية. وأما بالقرابة والعتاقة فلا يزوجها؛ إذ ليس في ذلك إلا خلاف شاذ عن بعض أصحاب مالك في النصراني يزوج ابنته، كما نقل عن بعض السلف أنه يرثها؛ وهما قولان شاذان. وقد اتفق المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم، ولا يتزوج الكافر المسلمة.

والله سبحانه قد قطع الولاية في كتابه بين المؤمنين والكافرين، وأوجب البراءة بينهم من الطرفين، وأثبت الولاية بين المؤمنين، فقد قال تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ٍ } [13]، وقال تعالى: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ } [14]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } إلى قوله: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ } إلى قوله: { فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [15]، والله تعالى إنما أثبت الولاية بين أولى الأرحام بشرط الإيمان، كما قال تعالى: { وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } [16]، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } إلى قوله: { وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } إلى قوله: { وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } [17].
سئل عن رجل له معتوقة وقد طلبها رجل ليتزوجها

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له جارية معتوقة، وقد طلبها منه رجل ليتزوجها، فحلف بالطلاق ما أعطيك إياها: فهل يلزمه الطلاق إذا وكل رجلا في زواجها لذلك الرجل؟

فأجاب:

متى فعل المحلوف عليه بنفسه أو وكيله حنث؛ لكن إذا كان الخاطب كفؤا فله أن يزوجها الولي الأبعد، مثل ابنه، أو أبيه، أو أخيه، أو يزوجها الحاكم بإذنها ودون إذن المعتق؛ فإنه عاضل، ولا يحتاج إلى إذنه، ولا حنث عليه إذا زوجت على هذا الوجه.
سئل عمن يعقد عقود الأنكحة بولي وشاهدي عدل هل للحاكم منعه

وسئل رحمه الله عمن يعقد عقود الأنكحة بولي وشاهدي عدل: هل للحاكم منعه؟

فأجاب:

ليس للحاكم أن يمنع المذكور أن يتوكل للولي فيعقد العقد على الوجه الشرعي، لكن من لا ولي لها لا تزوج إلا بإذن السلطان، وهو الحاكم. والله أعلم.
سئل عن رجل خطب امرأة حرة لها ولي غير الحاكم فجاء بشهود فساق

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل خطب امرأة حرة لها ولي غير الحاكم، فجاء بشهود وهو يعلم فسق الشهود، لكن لو شهدوا عند الحاكم قبلهم: فهل يصح نكاح المرأة بشهادتهم؟ وإذا صح هل يكره؟

فأجاب:

نعم يصح النكاح والحال هذه. والعدالة المشترطة في شاهدي النكاح إنما هي أن يكونا مستورين غير ظاهري الفسق، وإذا كانا في الباطن فاسقين، وذلك غير ظاهر، بل ظاهرهما الستر انعقد النكاح بهما في أصح قولي العلماء؛ في مذهب أحمد، والشافعي، وغيرهما؛ إذ لو اعتبر في شاهدي النكاح أن يكونا معدلين عند الحاكم، لما صح نكاح أكثر الناس إلا بذلك! وقد علم أن الناس على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان وعلى كانوا يعقدون الأنكحة بمحضر من بعضهم، وإن لم يكن الحاضرون معدلين عند أولى الأمر. ومن الفقهاء من قال: يشترط أن يكونا مبرزي العدالة؛ فهؤلاء شهود الحكام معدلون عندهم، وإن كان فيهم من هو فاسق في نفس الأمر. فعلى التقديرين ينعقد النكاح بشهادتهم وإن كانوا في الباطن فساقا. والله أعلم.
سئل عن حديث لا تنكح الأيم حتى تستأمر

وسئل رحمه الله تعالى عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تنكح الأيِّم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن). قالوا: يا رسول الله، كيف إذنها؟ قال: (أن تسكت) متفق عليه، وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها)، وفي رواية: (البكر يستأذنها أبوها في نفسها، وصمتها إقرارها) رواه مسلم في صحيحه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله ﷺ عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا؟ فقال لها رسول الله ﷺ: (نعم، تستأمر) قالت عائشة: فقلت له: فإنها تستحي، فقال رسول الله ﷺ: (فذلك إذنها إذا هي سكتت). وعن خنساء ابنة خدام: أن أباها زوجها وهي بنت فكرهت ذلك، فأتت رسول الله ﷺ فرد نكاحه. رواه البخاري.

فأجاب:

المرأة لا ينبغي لأحد أن يزوجها إلا بإذنها، كما أمر النبي ﷺ، فإن كرهت ذلك لم تجبر على النكاح، إلا الصغيرة البكر، فإن أباها يزوجها ولا إذن لها. وأما البالغ الثيب فلا يجوز تزويجها بغير إذنها، لا للأب ولا لغيره بإجماع المسلمين، وكذلك البكر البالغ ليس لغير الأب والجد تزويجها بدون إذنها بإجماع المسلمين. فأما الأب والجد فينبغي لهما استئذانها. واختلف العلماء في استئذانها: هل هو واجب؟ أو مستحب؟ والصحيح أنه واجب. ويجب على ولي المرأة أن يتقي الله فيمن يزوجها به، وينظر في الزوج: هل هو كفؤ، أو غير كفؤ؟ فإنه إنما يزوجها لمصلحتها، لا لمصلحته، وليس له أن يزوجها بزوج ناقص؛ لغرض له؛ مثل أن يتزوج مولية ذلك الزوج بدلها، فيكون من جنس الشغار الذي نهي عنه النبي ﷺ، أو يزوجها بأقوام يحالفهم على أغراض له فاسدة، أو يزوجها لرجل لمال يبذله له وقد خطبها من هو أصلح لها من ذلك الزوج، فيقدم الخاطب الذي بَرْطَلَه على الخاطب الكفؤ الذي لم يبرطله.

وأصل ذلك: أن تصرف الولي في بضع وليته كتصرفه في مالها، فكما لا يتصرف في مالها إلا بما هو أصلح، كذلك لا يتصرف في بعضها إلا بما هو أصلح لها، إلا أن الأب له من التبسط في مال ولده ما ليس لغيره، كما قال النبي ﷺ: (أنت ومالك لأبيك) بخلاف غير الأب.
سئل عن المرأة التي يعتبر إذنها في الزواج هل يشترط الإشهاد على إذنها

وسئل رحمه الله عن المرأة التي يعتبر إذنها في الزواج شرعا هل يشترط الإشهاد عليها بإذنها لوليها؟ أم لا؟ وإذا قال الولي: إنها أذنت لي في تزويجها من هذا الشخص: فهل للعاقد أن يعقد بمجرد قول الولي؟ أم قولها؟ وكيفية الحكم في هذه المسألة بين العلماء؟

فأجاب:

الحمد لله، الإشهاد على إذنها ليس شرطا في صحة العقد عند جماهير العلماء، وإنما فيه خلاف شاذ في مذهب الشافعي وأحمد، فإن ذلك شرط. والمشهور في المذهبين كقول الجمهور أن ذلك لا يشترط. فلو قال الولي: أذنت لي في العقد، فعقد العقد، وشهد الشهود على العقد، ثم صدقته الزوجة على الإذن كان النكاح ثابتا صحيحا باطنا وظاهرا، وإن أنكرت الإذن كان القول قولها مع يمينها، ولم يثبت النكاح. وداعوه الإذن عليها كما لو ادعي النكاح بعد موت الشهود ونحو ذلك. والذي ينبغي لشهود النكاح أن يشهدوا على إذن الزوجة قبل العقد، لوجوه ثلاثة:

أحدها: أن ذلك عقد متفق على صحته، ومهما أمكن أن يكون العقد متفقا على صحته، فلا ينبغي أن يعدل عنه إلى ما فيه خلاف، وإن كان مرجوحا، إلا لمعارض راجح.

الوجه الثاني: أن ذلك معونة على تحصيل مقصود العقد، وأمان من جحوده، لاسيما في مثل المكان والزمان الذي يكثر فيه جحد النساء وكذبهن، فإن ترك الإشهاد عليها كثيرا ما يفضي إلى خلاف ذلك. ثم إنه يفضي إلى أن تكون زوجة في الباطن، دون الظاهر. وفي ذلك مفاسد متعددة.

والوجه الثالث: أن الولي قد يكون كاذبا في دعوى الاستئذان، وأن يحتال بذلك على أن يشهد أنه قد زوجها، وأن يظن الجهال أن النكاح يصح بدون ذلك، إذا كان عند العامة أنها إذا زوجت عند الحاكم صارت زوجة. فيفضي إلى قهرها وجعلها زوجة بدون رضاها.

وأما العاقد الذي هو نائب الحاكم إذا كان هو المزوج لها بطريق الولاية عليها، لا بطريق الوكالة للولي، فلا يزوجها حتى يعلم أنها قد أذنت. وذلك بخلاف ما إذا كان شاهدا على العقد. وإن زوجها الولي بدون إذنها فهو نكاح الفضولي. وهو موقوف على إذنها عند أبي حنيفة ومالك، وهو باطل مردود عند الشافعي، وأحمد في المشهور عنه.
سئل عن بنت زالت بكارتها بمكروه

وسئل رحمه الله عن بنت زالت بكارتها بمكروه، ولم يعقد عليها عقد قط، وطلبها من يتزوجها، فذكر له ذلك فرضي: فهل يصح العقد بما ذكر إذا شهد المعروفون أنها بنت؛ لتسهيل الأمر في ذلك؟

فأجاب:

إذا شهدوا أنها ما زوجت كانوا صادقين، ولم يكن في ذلك تلبيس على الزوج؛ لعلمه بالحال. وينبغي استنطاقها بالأدب؛ فإن العلماء متنازعون: هل إذنها إذا زالت بكارتها بالزنا: الصمت، أو: النطق. والأول مذهب الشافعي، وأحمد، كصاحبي أبي حنيفة. وعند أبي حنيفة ومالك: إذنها الصمات، كالتي لم تزل عذرتها.
سئل عن بنت يتيمة ليس لها أحد هل يجوز زواجها بإذنها

وسئل رحمه الله عن بنت يتيمة، ولها من العمر عشر سنين، ولم يكن لها أحد، وهي مضطرة إلى من يكفلها: فهل يجوز لأحد أن يتزوجها بإذنها، أم لا؟

فأجاب:

هذه يجوز تزويجها بكفءٍ لها عند أكثر السلف والفقهاء، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه، وغيرهما. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، كقوله تعالى: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء } الآية [18]. وقد أخرجا تفسير هذه الآية في الصحيحين عن عائشة، وهو دليل في اليتيمة؛ وزوجها من يعدل عليها في المهر، لكن تنازع هؤلاء: هل تزوج بإذنها أم لا؟ فذهب أبو حنيفة أنها تزوج بغير إذنها، ولها الخيار إذا بلغت، وهي رواية عن أحمد. وظاهر مذهب أحمد أنها تزوج بغير إذنها إذا بلغت تسع سنين، ولا خيار لها إذا بلغت؛ لما في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (اليتيمة تستأذن في نفسها، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت فلا جواز عليها)، وفي لفظ: (لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت فلا جواز عليها).
سئل عن صغيرة دون البلوغ مات أبوها هل يجوز للحاكم أن يزوجها

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن صغيرة دون البلوغ مات أبوها: هل يجوز للحاكم أو نائبه أن يزوجها أم لا؟ وهل يثبت لها الخيار إذا بلغت أم لا؟

فأجاب:

إذا بلغت تسع سنين فإنه يزوجها الأولياء من العصبات والحاكم ونائبه في ظاهر مذهب أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة وغيرهما، كما دل على ذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عليكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } [18]. وأخرجا في الصحيحين عن عروة بن الزبير، أنه سأل عائشة عن قول الله عز وجل: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [19]. قالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمة في حجر وليها تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها؛ فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها؛ فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن على سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله ﷺ بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله عز وجل: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } الآية [18]. قالت عائشة: والذي ذكر الله أنه { وَمَا يُتْلَى عليكُمْ فِي الْكِتَابِ } الآية [18]، الأولى التي قالها الله عز وجل: { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } [19]، قالت عائشة: وقول الله عز وجل في الآية الأخري: { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } [18]، رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حيث تكون قليلة المال والحال. وفي لفظ آخر: إذا كانت ذات مال وجمال رغبوا في نكاحها في إكمال الصداق، وإذا كانت مرغوبا عنها في قلة المال والجمال رغبوا عنها، وأخذوا غيرها من النساء. قال: فكما يتركونها حتى يرغبوا عنها، فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها، إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها من الصداق. فهذا يبين أن الله أذن لهم أن يزوجوا اليتامي من النساء إذا فرضوا لهن صداق مثلهن، ولم يأذن لهم في تزويجهن بدون صداق المثل؛ لأنها ليست من أهل التبرع؛ ودلائل ذلك متعددة.

ثم الجمهور الذين جوزوا إنكاحها لهم قولان:

أحدهما: وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين: أنها تزوج بدون إذنها؛ ولها الخيار إذا بلغت.

والثاني: وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره: أنها لا تزوج إلا بإذنها؛ ولا خيار لها إذا بلغت. وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة، كما روي أبو هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: (تستأذن اليتيمة في نفسها؛ فإن سكتت فهو إذنها؛ وإن أبت فلا جواز عليها) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وعن أبي موسي الأشعري: أن رسول الله ﷺ قال: (تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فقد أذنت؛ وإن أبت فلا جواز عليها). فهذه السنة نص في القول الثالث الذي هو أعدل الأقوال أنها تزوج؛ خلافا لمن قال: إنها لا تزوج حتى تبلغ فلا تصير يتيمة. والكتاب والسنة صريح في دخول اليتيمة قبل البلوغ في ذلك؛ إذ البالغة التي لها أمر في مالها يجوز لها أن ترضي بدون صداق المثل؛ ولأن ذلك مدلول اللفظ وحقيقته؛ ولأن ما بعد البلوغ وإن سمي صاحبه يتيما مجازًا فغايته أن يكون داخلا في العموم. وإما أن يكون المراد باليتيمة البالغة دون التي لم تبلغ؛ فهذا لا يسوغ حمل اللفظ عليه بحال. والله أعلم.
سئل عن بنت يتيمة ليس لها أب ولا لها ولي إلا أخوها

وسئل رحمه الله تعالى عن بنت يتيمة ليس لها أب، ولا لها ولي إلا أخوها، وسنها اثنا عشر سنة، ولم تبلغ الحلم؛ وقد عقد عليها أخوها بإذنها: فهل يجوز ذلك أم لا؟

فأجاب:

هذا العقد صحيح في مذهب أحمد المنصوص عنه في أكثر أجوبته، الذي عليه عامة أصحابه، ومذهب أبي حنيفة أيضا، لكن أحمد في المشهور عنه يقول: إذا زوجت بإذنها وإذن أخيها لم يكن لها الخيار إذا بلغت. وأبو حنيفة وأحمد في رواية يقول: تزوج بلا إذنها، ولها الخيار إذا بلغت. وهذا أحد القولين في مذهب مالك أيضا. ثم عنه رواية: إن دعت حاجة إلى نكاحها، ومثلها يوطأ جاز. وقيل: تزوج ولها الخيار إذا بلغت. وقال ابن بشير: اتفق المتأخرون أنه يجوز نكاحها إذا خيف عليها الفساد. والقول الثالث: وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية الأخري: أنها لا تزوج حتى تبلغ، إذا لم يكن لها أب وجد. قالوا: لأنه ليس لها ولي يجبر، وهي في نفسها لا إذن لها قبل البلوغ؛ فتعذر تزويجها بإذنها وإذن وليها.

والقول الأول أصح بدلالة الكتاب والسنة والاعتبار؛فإن الله تعالى يقول: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عليكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عليمًا } [18]، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن هذه الآية نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، فإن كان لها مال وجمال تزوجها ولم يقسط في صداقها؛ فإن لم يكن لها مال لم يتزوجها، فنهي أن يتزوجها حتى يقسط في صداقها؛ من أجل رغبته عن نكاحها إذا لم يكن لها مال. وقوله: { قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عليكُمْ فِي الْكِتَابِ } يفتيكم، ونفتيكم في المستضعفين. فقد أخبرت عائشة في هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم: أن هذه الآية نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، وأن الله أذن له في تزويجها إذا أقسط في صداقها، وقد أخبر أنها في حجره. فدل على أنها محجور عليها.

وأيضا، فقد ثبت في السنن من حديث أبي موسي، وأبي هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت فلاجواز عليها)، فيجوز تزويجها بإذنها، ومنعه بدون إذنها. وقد قال ﷺ: (لا يتم بعد احتلام)، ولو أريد باليتيم ما بعد البلوغ، فبطريق المجاز، فلابد أن يعم ما قبل البلوغ وما بعده. أما تخصيص لفظ اليتيم بما بعد البلوغ فلا يحتمله اللفظ بحال؛ ولأن الصغير المميز يصح لفظه مع إذن وليه، كما يصح إحرامه بالحج بإذن الولي، وكما يصح تصرفه في البيع وغيره بإذن وليه عند أكثر العلماء، كما دل على ذلك القرآن بقوله: { وَابْتَلُواْ اليتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } الآية [20]. فأمر بالابتلاء قبل البلوغ؛ وذلك قد لا يأتي إلا بالبيع ولا تصح وصيته وتدبيره عند الجمهور وكذلك إسلامه؛ كما يصح صومه وصلاته وغير ذلك لما له في ذلك من المنفعة. فإذا زوجها الولي بإذنها من كفؤ جاز، وكان هذا تصرفا بإذنها، وهو مصلحة لها، وكل واحد من هذين مصحح لتصرف المميز. والله أعلم.
سئل عن بنت دون البلوغ هل يجوز للحاكم أن يزوجها

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن بنت دون البلوغ، وحضر من يرغب في تزويجها: فهل يجوز للحاكم أن يزوجها أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، إذا كان الخاطب لها كفؤًا جاز تزويجها في أصح قولي العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه. ثم منهم من يقول: تزوج بلا أمرها، ولها الخيار، كمذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد. ومنهم من يقول: إذا بلغت تسع سنين زوجت بإذنها، ولا خيار لها إذا بلغت. وهو ظاهر مذهب أحمد؛ لقول النبي ﷺ: (لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت فلا جواز عليها) رواه أبو داود والنسائي وغيرهما.

وتزويج اليتيمة ثابت بالكتاب والسنة، قال تعالى: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عليكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ }، وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في اليتيمة التي يرغب وليها أن ينكحها إذا كان لها مال، ولا ينكحها إذا لم يكن لها مال، فنهوا عن نكاحهن حتى يقسطوا لهن في الصداق. فقد أذن الله للولي أن ينكح اليتيمة؛ إذا أصدقها صداق المثل. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج يتيمة صغيرة وعقد عقدها الشافعي المذهب

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج يتيمة صغيرة، وعقد عقدها الشافعي المذهب، ولم تدرك إلا بعد العقد بشهرين: فهل هذا العقد جائز أم لا؟

فأجاب:

أما اليتيمة التي لم تبلغ قَبْل لا يجْبرها على تزويجها غير الأب، والجد، والأخ، والعم، والسلطان الذي هو الحاكم أو نواب الحاكم في العقود. للفقهاء في ذلك ثلاثة أقوال:

أحدها: لا يجوز، وهو قول الشافعي، ومالك، والإمام أحمد في رواية.

والثاني: يجوز النكاح بلا إذنها، ولها الخيار إذا بلغت، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد.

والثالث: أنها تزوج بإذنها، ولا خيار لها إذا بلغت. وهذا هو المشهور من مذهب أحمد. فهذه التي لم تبلغ يجوز نكاحها في مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما. ولو زوجها حاكم يري ذلك: فهل يكون تزويجه حكما لا يمكن نقضه؟ أو يفتقر إلى حاكم غيره يحكم بصحة ذلك؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، أصحهما الأول. لكن الحاكم المزوج هنا شافعي، فإن كان قد قلد قول من يصحح هذا النكاح، وراعي سائر شروطه وكان ممن له ذلك، جاز. وإن كان قد أقدم على ما يعتقد تحريمه، كان فعله غير جائز. وإن كان قد ظنها بالغا فزوجها فكانت غير بالغ، لم يكن في الحقيقة قد زوجها، ولا يكون النكاح صحيحا. والله أعلم.
سئل عن رجل وجد صغيرة فرباها فلما بلغت زوجها الحاكم له

وسئل رحمه الله عن رجل وجد صغيرة فرباها، فلما بلغت زوجها الحاكم له، ورزق منها أولادًا، ثم وجد لها أخ بعد ذلك: فهل هذا النكاح صحيح؟

فأجاب:

إذا كان لها أخ غائب غيبة منقطعة، ولم يكن يعرف حينئذ لها أخ، لكونها ضاعت من أهلها حين صغرها إلى ما بعد النكاح، لم يبطل النكاح المذكور. والله أعلم.
سئل عن بنت يتيمة وقد طلبها رجل وكيل على جهات المدينة

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن بنت يتيمة، وقد طلبها رجل وكيل على جهات المدينة، وزوج أمها كاره في الوكيل. فهل يجوز أن يزوجها عمها وأخوها بلا إذن منها أم لا؟

فأجاب:

الحمد الله، المرأة البالغ لا يزوجها غير الأب والجد بغير إذنها باتفاق الأئمة، بل وكذلك لا يزوجها الأب إلا بإذنها في أحد قولي العلماء، بل في أصحهما وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، كما قال النبي ﷺ: (لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر). قالوا: يا رسول الله، فإن البكر تستحي؟ قال: (إذنها صماتها)، وفي لفظ: (يستأذنها أبوها وإذنها صماتها). وأما العم والأخ فلا يزوجانها بغير إذنها باتفاق العلماء.

وإذا رضيت رجلا وكان كفؤًا لها وجب على وليها - كالأخ ثم العم - أن يزوجها به، فإن عضلها وامتنع من تزويجها زوجها الولي الأبعد منه أو الحاكم بغير إذنه باتفاق العلماء، فليس للولي أن يجبرها على نكاح من لا ترضاه، ولا يعضلها عن نكاح من ترضاه إذا كان كفؤًا باتفاق الأئمة؛ وإنما يجبرها ويعضلها أهل الجاهلية والظلمة الذين يزوجون نساءهم لمن يختارونه لغرض؛ لا لمصلحة المرأة، ويكرهونها على ذلك أو يخجلونها حتى تفعل. ويعضلونها عن نكاح من يكون كفؤًا لها لعداوة أو غرض. وهذا كله من عمل الجاهلية والظلم والعدوان، وهو مما حرمه الله ورسوله، واتفق المسلمون على تحريمه، وأوجب الله على أولياء النساء أن ينظروا في مصلحة المرأة، لا في أهوائهم كسائر الأولياء والوكلاء ممن تصرف لغيره، فإنه يقصد مصلحة من تصرف له، لا يقصد هواه، فإن هذا من الأمانة التي أمر الله أن تؤدي إلى أهلها، فقال: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } [21]، وهذا من النصيحة الواجبة، وقد قال النبي ﷺ: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة). قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم). والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج امرأة وقعدت معه أياما وجاء أناس ادعوا أنها مملوكة

وسئل رحمه الله عن رجل تزوج امرأة، وقعدت معه أياما، وجاء أناس ادعوا أنها في المملكة، وأخذوها من بيته، ونهبوه؛ ولم يكن حاضرًا: فهل يجوز أخذها وهي حامل؟

فأجاب:

الحمد لله، إذا لم يبين للزوج أنها أمة، بل تزوجها نكاحا مطلقًا كما جرت به العادة، وظن أنها حرة، وقيل له: إنها حرة فهو مغرور، وولده منها حر؛ لا رقيق. وأما النكاح فباطل إذا لم يجزه السيد باتفاق المسلمين. وإن أجازه السيد صح في مذهب أبي حنيفة ومالك في إحدى الروايتين، ولم يصح في مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخري، بل يحتاج إلى نكاح جديد. وأما إن ظهرت حاملا من غير الزوج، فالنكاح باطل بلا ريب، ولا صداق عليه إذا لم يدخل بها، وليس لهم أن يأخذوا شيئا من ماله، بل كل ما أخذ من ماله رد إليه.
سئل عن تزويج المماليك بالجوار من غير عتق

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن تزويج المماليك بالجوار من غير عتق إذا كانوا لمالك واحد؟ ومن يعقد طرفي النكاح في الطرفين لهما؟ ولأولادهم؟ وهل للسيد أن يتسري بهن؟

فأجاب:

تزويج المماليك بالإماء جائز، سواء كانوا لمالك واحد، أو لمالكين، مع بقائهم على الرق. وهذا مما اتفق عليه أئمة المسلمين. والذي يزوج الأمة سيدها أو وكيله. وأما المملوك فهو يقبل النكاح لنفسه إذا كان كبيرًا، أو يقبل له وكيله. وإن كان صغيرًا فسيده يقبل له. فإذا كان الزوجان له قال بحضرة شاهدين: زوجت مملوكي فلان بأمتى فلانة، وينعقد النكاح بذلك. وأما العبد البالغ: فهل لسيده أن يزوجه بغير إذنه، ويكرهه على ذلك؟ فيه قولان للعلماء: أحدهما: لا يجوز، وهو مذهب الشافعي وأحمد. والثاني: يجبره، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك. والأمة والمملوك الصغير يزوجهما بغير إذنهما بالاتفاق.

وأما الأولاد فهم تبع لأمهم في الحرية والرق، وهم تبع لأبيهم في النسب والولاء باتفاق المسلمين. فمن كان سيد الأم كان أولادها له، سواء ولدوا من زوج، أو من زنا. كما أن البهائم من الخيل والإبل والحمير إذا نزي ذكرها على أنثاها كان الأولاد لمالك الأم. ولو كانت الأم معتقة أو حرة الأصل والأب مملوكا كان الأولاد أحرارًا. وأما النسب فإنهم ينتسبون إلى أبيهم. وإذا كان الأب عتيقًا والأم عتيقة كانوا منتسبين إلى موإلى الأب، وإن كان الأب مملوكا انتسبوا إلى موإلى الأم، فإن عتق الأب بعد ذلك انجر الولاء من موإلى الأم إلى موإلى الأب. وهذا مذهب الأئمة الأربعة. ومن كان مالكا للأم ملك أولادها، وكان له أن يتسري بالبنات من أولاد إمائه، إذا لم يكن يستمتع بالأم فإنه يستمتع ببناتها؛ فإن استمتع بالأم فلا يجوز أن يستمتع ببناتها. والله أعلم.
سئل عن رجل شريف زوج ابنته وهي بكر بالغ لرجل غير شريف

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل شريف، زوج ابنته وهي بكر بالغ لرجل غير شريف مغربي، معروف بين الناس بالصلاح، برضا ابنته، وإذنها، ولم يشهد عليها الأب بالرضا: فهل يكون ذلك قادحا في العقد أم لا؟ مع استمرار الزوجة بالرضا، وذلك قبل الدخول وبعده، وقدح قادح فأشهدت الزوجة أن الرضا والإذن صدرا منها: فهل يحتاج في ذلك تجديد العقد؟

فأجاب:

لا يفتقر صحة النكاح إلى الإشهاد على إذن المرأة قبل النكاح في المذاهب الأربعة، إلا وجهًا ضعيفًا في مذهب الشافعي وأحمد، بل قال: إذا قال الولي: أذنت لي جاز عقد النكاح. والشهادة على الولي والزوج. ثم المرأة بعد ذلك إن أنكرت: فالنكاح ثابت. هذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه. وأما مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية عنه إذا لم تأذن حتى عقد النكاح جاز، وتسميى مسألة وقف العقود، كذلك العبد إذا تزوج بدون إذن مواليه، فهو على هذا النزاع.

أما الكفاءة في النسب: فالنسب معتبر عند مالك. أما عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، فهي حق للزوجة والأبوين، فإذا رضوا بدون كفءٍ جاز، وعند أحمد هي حق لله فلا يصح النكاح مع فراقها. والله أعلم.
سئل عن رجل زوج ابنة أخيه من ابنه والزوج فاسق لا يصلي

وسئل رحمه الله عن رجل زوج ابنة أخيه من ابنه، والزوج فاسق لا يصلي، وخوفوها حتى أذنت في النكاح. وقالوا: إن لم تأذني وإلا زوجك الشرع بغير اختيارك، وهو الآن يأخذ مالها، ويمنع من يدخل عليها لكشف حالها، كأمها، وغيرها؟

فأجاب:

الحمد لله، ليس للعم ولا غيره من الأولياء أن يزوج موليته بغير كفء إذا لم تكن راضية بذلك باتفاق الأئمة؛ وإذا فعل ذلك استحق العقوبة الشرعية التي تردعه وأمثاله عن مثل ذلك، بل لو رضيت هي بغير كفء كان لولي آخر غير المزوج أن يفسخ النكاح؛ وليس للعم أن يكره المرأة البالغة على النكاح بكفء؛ فكيف إذا أكرهها على التزويج بغير كفء؟ بل لا يزوجها إلا بمن ترضاه باتفاق المسلمين.

وإذا قال لها: إن لم تأذني وإلا زوجك الشرع بغير اختيارك. فأذنت بذلك لم يصح هذا الإذن، ولا النكاح المترتب عليه؛ فإن الشرع لا يمَكِّن غير الأب والجد من إجبار الصغيرة باتفاق الأئمة، وإنما تنازع العلماء في الأب والجد في الكبيرة، وفي الصغيرة مطلقًا. وإذا تزوجها بنكاح صحيح كان عليه أن يقوم بما يجب لها، ولا يتعدي عليها في نفسها، ولا مالها. وما أخذه من ذلك ضمنه، وليس له أن يمنع من يكشف حالها إذا اشتكت، بل إما أن يمكن من يدخل عليها ويكشف حالها، كالأم، وغيرها. وإما أن تسكن بجنب جيران من أهل الصدق والدين يكشفون حالها. والله أعلم.
سئل عن رجل له عبد وقد حبس نفسه وقصد الزواج

وسئل رحمه الله عن رجل له عبد، وقد حبس نفسه، وقصد الزواج: فهل له أن يتزوج أم لا؟

فأجاب:

نعم له التزوج على أصل من يجبر السيد على تزويجه، كمذهب أحمد والشافعي على أحد قوليه؛ فإن تزويجه كالإنفاق عليه إذا كان محتاجًا إلى ذلك، وقد قال تعالى: { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } [22]، فأمر بتزويج العبيد والإماء، كما أمر بتزويج الأيامي. وتزويج الأمة إذا طلبت النكاح من كفء واجب باتفاق العلماء، والذي يأذن له في النكاح مالك نصفه، أو وكيله، وناظر النصيب المحبس.
سئل عن رجل تزوج عتيقة بعض بنات الملوك بغير إذن معتقها

وسئل عن رجل تزوج عتيقة بعض بنات الملوك، الذين يشترون الرقيق من مالهم ومال المسلمين بغير إذن معتقها: فهل يكون العقد صحيحًا، أم لا؟

فأجاب:

أما إذا أعتقها من مالها عتقًا شرعيا فالولاية لها باتفاق العلماء، وهي التي ترثها، ثم أقرب عصباتها من بعدها.

وأما تزويج هذه العتيقة بدون إذن المعتقة؟ فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء، فإن من لا يشترط إذن الولي؛ كأبي حنيفة ومالك في إحدى الروايتين يقول بأن هذا النكاح يصح عنده، لكن من يشترط إذن الولي كالشافعي وأحمد لهم قولان في هذه المسألة، وهما روايتان عن أحمد: إحداهما: أنها لا تزوج إلا بإذن المعتقة، فإنها عصبتها. وعلى هذا، فهل للمرأة نفسها أن تزوجها؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد. والثاني: أن تزوجيها لا يفتقر إلى إذن المعتقة؛ لأنها لا تكون ولية لنفسها، فلا تكون ولية لغيرها؛ ولأنه لا يجوز تزوجها عندهم، فلا يفتقر إلى إذنها، فعلى هذا يزوج هذه المعتقة من يزوج معتقها بإذن العتيقة، مثل أخ المعتقة، ونحوه إن كان من أهل ولاية النكاح؛ وإن لم يكن أهلا وزوجها الحاكم جاز، وإلا فلا. وإن كانوا أهلا عند أبي حنيفة فالولاء لهم، والحاكم يزوجها.
سئل عن رجل خطب امرأة فسأل عن نفقته

وسئل عن رجل خطب امرأة، فسأل عن نفقته؟ فقيل له: من الجهات السلطانية شيء، فأبي الولي تزويجها، فذكر الخاطب أن فقهاء الحنفية جوزوا تناول ذلك: فهل ذكر ذلك أحد في جواز تناوله من الجهات؟ وهل للولي المذكور دفع الخاطب بهذا السبب مع رضاء المخطوبة؟

فأجاب:

أما الفقهاء الأئمة الذين يفتي بقولهم فلم يذكر أحد منهم جواز ذلك؛ ولكن في أوائل الدولة السلجوقية أفتى طائفة من الحنفية والشافعية بجواز ذلك. وحكي أبو محمد بن حزم في كتابه إجماع العلماء على تحريم ذلك. وقد كان نور الدين محمود الشهيد التركي قد أبطل جميع الوظائف المحدثة بالشام، والجزيرة ومصر، والحجاز، وكان أعرف الناس بالجهاد. وهو الذي أقام الإسلام بعد استيلاء الإفرنج، والقرامطة على أكثر من ذلك. ومن فعل ما يعتقد حكمه متأولا تأويلا سائغًا - لا سيما مع حاجته - لم يجعل فاسقا بمجرد ذلك، لكن بكل حال فالولي له أن يمنع موليته ممن يتناول مثل هذا الرزق الذي يعتقده حراما، لا سيما وإن رزقها منه، فإذا كان الزوج يطعمها من غيره، أو تأكل هي من غيره، فله أن يزوجها إذا كان الزوج متأولا فيما يأكله.
سئل عن رجل زوج ابنته لشخص ولم يعلم ما هو عليه

وسئل رحمه الله عن رجل زوج ابنته لشخص، ولم يعلم ما هو عليه، فأقام في صحبة الزوجة سنين، فعلم الولي والزوجة ما الزوج عليه، من النجس والفساد وشرب الخمر والكذب والأيمان الخائنة، فبانت الزوجة منه بالثلاث: فهل يجوز للولي الإقدام على تزويجه أم لا؟ ثم إن الولي استتوب الزوج مرارًا عديدة، ونكث ولم يرجع: فهل يحل تزويجها؟

فأجاب:

إذا كان مُصِرًّا على الفسق فإنه لا ينبغي للولي تزويجها له، كما قال بعض السلف: من زوج كريمته من فاجر فقد قطع رحمها. لكن إن علم أنه تاب فتزوج به إذا كان كفؤًا لها وهي راضية به. وأما نكاح التحليل: فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (لعن الله المحلِّل والمحلَّل له). ولا تجبر المرأة على نكاح التحليل باتفاق العلماء.
سئل عن الرافضة هل تزوج

فأجاب:

الرافضة المحضة هم أهل أهواء وبدع وضلال، ولا ينبغي للمسلم أن يزوج موليته من رافضي، وإن تزوج هو رافضية صح النكاح إن كان يرجو أن تتوب، وإلا فترك نكاحها أفضل لئلا تفسد عليه ولده. والله أعلم.
سئل عن الرافضي

وسئل رحمه الله عن الرافضي، ومن يقول: لا تلزمه الصلوات الخمس: هل يصح نكاحه من الرجال والنساء؟ فإن تاب من الرفض ولزم الصلاة حينا ثم عاد لما كان عليه: هل يقر على ما كان عليه من النكاح؟

فأجاب:

لا يجوز لأحد أن ينكح موليته رافضيًا، ولا من يترك الصلاة. ومتى زوجوه على أنه سني فصلى الخمس ثم ظهر أنه رافضي لا يصلي، أو عاد إلى الرفض وترك الصلاة، فإنهم يفسخون النكاح.
باب المحرمات في النكاح
قاعدة في المحرمات في النكاح نسبا وصهرا

قاعدة في المحرمات في النكاح نسبًا وصهرًا

سئل الشيخ رحمه الله عن بيانها مختصرًا؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، أما المحرمات بالنسب فالضابط فيه: أن جميع أقارب الرجل من النسب حرام عليه، إلا بنات أعمامه، وأخواله، وعماته، وخالاته. وهذه الأصناف الأربعة هن اللاتي أحلهن الله لرسوله ﷺ بقوله: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عليكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ } الآية [23]. فأحل سبحانه لنبيه ﷺ من النساء أجناسا أربعة، ولم يجعل خالصا له من دون المؤمنين إلا الموهوبة؛ التي تهب نفسها للنبي، فجعل هذه من خصائصه؛ له أن يتزوج الموهوبة بلا مهر، وليس هذا لغيره باتفاق المسلمين، بل ليس لغيره أن يستحل بضع امرأة إلا مع وجوب مهر، كما قال تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } [24].

واتفق العلماء على أن من تزوج امرأة ولم يقدر لها مهرًا، صح النكاح، ووجب لها المهر إذا دخل بها، وإن طلقها قبل الدخول فليس لها مهر، بل لها المتعة بنص القرآن، وإن مات عنها ففيها قولان. وهي مسألة بَرْوَع بنت واشق التي استفتي عنها ابن مسعود شهرًا، ثم قال: أقول فيها برأيي؛ فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه: لها مهر نسائها، لاوَكْس، ولا شَطَط، وعليها العدة ولها الميراث. فقام رجال من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله ﷺ قضي في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت به في هذه. قال علقمة: فما رأيت عبد الله فرح بشيء كفرحه بذلك. وهذا الذي أجاب به ابن مسعود هو قول فقهاء الكوفة، كأبي حنيفة وغيره، وفقهاء الحديث كأحمد وغيره، وهو أحد قولي الشافعي. والقول الآخر له، وهو مذهب مالك: أنه لا مهر لها، وهو مروي عن على، وزيد، وغيرهما من الصحابة.

وتنازعوا في النكاح إذا شرط فيه نفي المهر: هل يصح النكاح؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره: أحدهما: يبطل النكاح، كقول مالك. والثاني: يصح، ويجب مهر المثل، كقول أبي حنيفة والشافعي. والأولون يقولون: هو نكاح الشِّغَار الذي أبطله النبي ﷺ؛ لأنه نفي فيه المهر، وجعل البُضْع مهرًا للبُضْع. وهذا تعليل أحمد بن حنبل في غير موضع من كلامه؛ وهذا تعليل أكثر قدماء أصحابه. والآخرون: منهم من يصحح نكاح الشغار، كأبي حنيفة؛ وقوله أقيس على هذا الأصل؛ لكنه مخالف للنص وآثار الصحابة، فإنهم أبطلوا نكاح الشغار. ومنهم من يبطله ويعلل البطلان إما بدعوي التشريك في البُضْع، وإما بغير ذلك من العلل، كما يفعله أصحاب الشافعي، ومن وافقهم من أصحاب أحمد؛ كالقاضي أبي يعلى وأتباعه والقول الأول أشبه بالنص والقياس الصحيح، كما قد بسط في موضعه. وتنازعوا أيضا في انعقاد النكاح مع المهر بلفظ التمليك والهبة وغيرهما: فجوز ذلك الجمهور؛ كمالك وأبي حنيفة، وعليه تدل نصوص أحمد، وكلام قدماء أصحابه. ومنعه الشافعي وأكثر متأخرى أصحاب أحمد، كابن حامد والقاضي ومن تبعهما، ولم أعلم أحدًا قال هذا قبل ابن حامد من أصحاب أحمد.

والمقصود هنا أن الله تعالى لم يخص رسوله ﷺ إلا بنكاح الموهوبة بقوله: { وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [23]، فدل ذلك على أن سائر ما أحله لنبيه ﷺ حلال لأمته، وقد دل على ذلك قوله: { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } [25]، فلما أحل امرأة المتبني، لا سيما للنبي ﷺ ليكون ذلك إحلالا للمؤمنين، دل ذلك على أن الإحلال له إحلال لأمته، وقد أباح له من أقاربه بنات العم والعمات، وبنات الخال والخالات، وتخصيصهن بالذكر يدل على تحريم ما سواهن، لا سيما وقد قال بعد ذلك: { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } [26] أي: من بعد هؤلاء اللاتي أحللناهن لك، وهن المذكورات في قوله تعالى: { حُرِّمَتْ عليكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ } [27]، فدخل في الأمهات أم أبيه، وأم أمه وإن علت بلا نزاع أعلمه بين العلماء. وكذلك دخل في البنات بنت ابنه، وبنت ابن ابنته وإن سفلت بلا نزاع أعلمه. وكذلك دخل في الأخوات الأخت من الأبوين، والأب، والأم. ودخل في العمات والخالات عمات الأبوين، وخالات الأبوين. وفي بنات الأخ، والأخت ولد الأخوة وإن سفلن، فإذا حرم عليه أصوله وفروعه وفروع أصوله البعيدة؛ دون بنات العم والعمات وبنات الخال والخالات.

وأما المحرمات بالصهر فيقول: كل نساء الصهر حلال له، إلا أربعة أصناف، بخلاف الأقارب. فأقارب الإنسان كلهن حرام، إلا أربعة أصناف. وأقارب الزوجين كلهن حلال، إلا أربعة أصناف، وهن حلائل الآباء، والأبناء، وأمهات النساء، وبناتهن، فيحرم على كل من الزوجين أصول الآخر وفروعه. يحرم على الرجل أم امرأته؛ وأم أمها وأبيها وإن علت. وتحرم عليه بنت امرأته، وهي الربيبة. وبنت بنتها وإن سفلت، وبنت الربيب أيضا حرام؛ كما نص عليه الأئمة المشهورون؛ الشافعي وأحمد وغيرهما، ولا أعلم فيه نزاعا. ويحرم عليه أن يتزوج بامرأة أبيه وإن علا؛ وامرأة ابنه وإن سفل. فهؤلاء الأربعة هن المحرمات بالمصاهرة في كتاب الله، وكل من الزوجين يكون أقارب الآخر أصهارًا له، وأقارب الرجل أحماء المرأة، وأقارب المرأة أختان الرجل. وهؤلاء الأصناف الأربعة يحرمن بالعقد، إلا الربيبة. فإنها لا تحرم حتى يدخل بأمها، فإن الله لم يجعل هذا الشرط إلا في الربيبة. والبواقي أطلق فيهن التحريم. فلهذا قال الصحابة: أبهموا ما أبهم الله. وعلى هذا الأئمة الأربعة وجماهير العلماء.

وأما بنات هاتين وأمهاتهما فلا يحرمن، فيجوز له أن يتزوج بنت امرأة أبيه وابنه باتفاق العلماء؛ فإن هذه ليست من حلائل الآباء والأبناء، فإن الحليلة هي الزوجة. وبنت الزوجة وأمها ليست زوجة، بخلاف الربيبة. فإن ولد الربيب ربيب؛ كما أن ولد الولد ولد، وكذلك أم أم الزوجة أم للزوجة وبنت أم الزوجة لم تحرم، فإنها ليست أما. فلهذا قال من قال من الفقهاء: بنات المحرمات محرمات، إلا بنات العمات والخالات، وأمهات النساء، وحلائل الآباء والأبناء. فجعل بنت الربيبة محرمة، دون بنات الثلاثة. وهذا مما لا أعلم فيه نزاعا.

ومن وطئ امرأة بما يعتقده نكاحا فإنه يلحق به النسب، ويثبت فيه حرمة المصاهرة باتفاق العلماء فيما أعلم، وإن كان ذلك النكاح باطلا عند الله ورسوله؛ مثل الكافر إذا تزوج نكاحا محرما في دين الإسلام، فإن هذا يلحقه فيه النسب وتثبت به المصاهرة. فيحرم على كل واحد منهما أصول الآخر وفروعه باتفاق العلماء، وكذلك كل وطء اعتقد أنه ليس حراما وهو حرام؛ مثل من تزوج امرأة نكاحا فاسدًا، وطلقها، وظن أنه لم يقع به الطلاق، لخطئه أو لخطأ من أفتاه، فوطئها بعد ذلك، فجاءه ولد؛ فههنا يلحقه النسب، وتكون هذه مدخولا بها، فتحرم، وإن كانت ربيبة لم يدخل بأمها باتفاق العلماء. فالكفار إذا تزوج أحدهم امرأة نكاحا يراه في دينه وأسلم بعد ذلك ابنه كما جري للعرب الذين أسلم أولادهم، وكما يجري في هذا الزمان كثيرا فهذا ليس له أن يتزوج بامرأة ابنه، وإن كان نكاحها فاسدًا باتفاق العلماء. فالنسب يتبع باعتقاد الوطء للحل؛ وإن كان مخطئا في اعتقاده. والمصاهرة تتبع النسب. فإذا ثبت النسب فالمصاهرة بطريق الأولى.

وكذلك حرية الولد يتبع اعتقاد أبيه؛ فإن الولد يتبع أباه في النسب والحرية، ويتبع أمه في هذا باتفاق العلماء. ويتبع في الدين خيرهما دينا عند جماهير أهل العلم، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وأحد القولين في مذهب مالك. فمن وطئ أمة غيره بنكاح أوزنًا كان ولده مملوكا لسيدها، وإن اشتراها ممن ظن أنه مالك لها أو تزوجها يظنها حرة، فهذا يسمى المغرور وولدها حر باتفاق الأئمة؛ لاعتقاده أنه يطأ من يصير الولد بوطئها حرًا، فالنسب والحرية يتبع اعتقاد الواطئ وإن كان مخطئا، فكذلك تحريم المصاهرة، وإنما تنازع العلماء في الزنا المحض: هل ينشر حرمة المصاهرة؟ فيه نزاع مشهور بين السلف والخلف. التحريم قول أبي حنيفة وأحمد، والجواز مذهب الشافعي، وعن مالك روايتان.
سئل عن رجل كان له سرية بكتاب ثم توفي وله ابن ابن تزوجها

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل كان له سرية بكتاب، ثم توفي إلى رحمة الله، وله ابن ابن، وقد تزوج سرية جده المذكور: فهل يحل ذلك؟

فأجاب:

لا يجوز له تزويج سرية جده التي كان يطؤها باتفاق المسلمين، وإذا تزوجها فرق بينهما؛ ولا يحل إبقاؤه معها، وإن استحل ذلك استتيب ثلاثا، فإن تاب وإلا قتل.
فصل في تحريم الجمع

وقال الشيخ رحمه الله تعالى:

وأما تحريم الجمع فلا يجمع بين الأختين بنص القرآن؛ ولا بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها. لا تنكح الكبري على الصغري، ولا الصغري على الكبري؛ فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ نهي عن ذلك؛فروي أنه قال: (إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم بين أرحامكم). ولو رضيت إحداهما بنكاح الأخرى عليها لم يجز؛ فإن الطبع يتغير؛ ولهذا لما عرضت أم حبيبة على النبي ﷺ أن يتزوج أختها، فقال لها النبي ﷺ: (أو تحبين ذلك؟ ). فقالت: لست لك بمخلية، وأحق من شركني في الخير أختي، فقال: (إنها لا تحل لي). فقيل له: إنا نتحدث أنك ناكح درة بنت أبي سلمة، فقال: (لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي؛ فإنها بنت أخي من الرضاع، أرضعتني وأباها أبا سلمة ثويبة أمة أبي لهب، فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن). وهذا متفق عليه بين العلماء.

والضابط في هذا: أن كل امرأتين بينهما رحم محرم فإنه يحرم الجمع بينهما، بحيث لو كانت إحداهما ذكرًا لم يجز له التزوج بالأخري؛ لأجل النسب. فإن الرحم المرحم لها أربعة أحكام: حكمان متفق عليهما، وحكمان متنازع فيهما، فلا يجوز ملكهما بالنكاح، ولا وطئهما. فلا يتزوج الرجل ذات رحمه المحرم، ولا يتسري بها. وهذا متفق عليه، بل هنا يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فلا تحل له بنكاح، ولا ملك يمين، ولا يجوز له أن يجمع بينهما في ملك النكاح، فلا يجمع بين الأختين، ولا بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها. وهذا أيضا متفق عليه. ويجوز له أن يملكهما، لكن ليس له أن يتسراهما. فمن حرم جمعهما في النكاح حرم جمعهما في التسري، فليس له أن يتسري الأختين ولا الأمة وعمتها، والأمة وخالتها. وهذا هو الذي استقر عليه قول أكثر الصحابة، وهو قول أكثر العلماء.

وهم متفقون على أنه لا يتسري من تحرم عليه بنسب أو رضاع، وإنما تنازعوا في الجمع، فتوقف بعض الصحابة فيها، وقال: أحلتهما آية، وحرمتهما آية، وظن أن تحريم الجمع قد يكون كتحريم العدد؛ فإنه له أن يتسري ما شاء من العدد، ولا يتزوج إلا بأربع. فهذا تحريم عارض، وهذا عارض، بخلاف تحريم النسب والصهر فإنه لازم؛ ولهذا تصير المرأة من ذوات المحارم بهذا أولا تصير من ذوات المحارم بذلك، بل أخت امرأته أجنبية منه لا يخلو بها ولا يسافر بها، كما لا يخلو بما زاد على أربع من النساء؛ لتحريم ما زاد على العدد. وأما الجمهور فقطعوا بالتحريم، وهو المعروف من مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم. قالوا: لأن كل ما حرم الله في الآية بملك النكاح حرم بملك اليمين، وآية التحليل وهي قوله: { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [19]، إنما أبيح فيها جنس المملوكات، ولم يذكر فيها ما يباح ويحرم من التسري، كما لم يذكر ما يباح ويحرم من الممهورات، والمرأة يحرم وطؤها إذا كانت معتدة ومحرمة وإن كانت زوجة أو سرية. وتحريم العدد كان لأجل وجوب العدل بينهن في القسم، كما قال تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } [19] أي: لا تجوروا في القسم، هكذا قال السلف وجمهور العلماء. وظن طائفة من العلماء أن المراد: ألا تكثر عيالكم. وقالوا: هذا يدل على وجوب نفقة الزوجة. وغَلَّط أكثر العلماء من قال ذلك، ولفظا ومعني. أما اللفظ: فلأنه يقال: عال يعول: إذا جار. وعال يعيل: إذا افتقر. وأعال يعيل: إذا كثر عياله. وهو سبحانه قال: { تَعُولُوا } لم يقل: تعيلوا. وأما المعني: فإن كثرة النفقة والعيال يحصل بالتسري كما يحصل بالزوجات، ومع هذا فقد أباح مما ملكت اليمين ما شاء الإنسان بغير عدد؛ لأن المملوكات لا يجب لهن قسم، ولا يستحققن على الرجل وطأ؛ ولهذا يملك من لا يحل له وطؤها كأم امرأته وبنتها وأخته وابنته من الرضاع، ولو كان عنينا أو موليا لم يجب أن يزال ملكه عنها. والزوجات عليه أن يعدل بينهن في القسم، وخير الصحابة أربعة فالعدل الذي يطيقه عامة الناس ينتهي إلى الأربعة. وأما رسول الله ﷺ فإن الله قواه على العدل فيما هو أكثر من ذلك على القول المشهور وهو وجوب القسم عليه، وسقوط القسم عنه على القول الآخر، كما أنه لما كان أحق بالمؤمنين من أنفسهم أحل له التزوج بلا مهر.

قالوا: وإذا كان تحريم جمع العدد إنما حرم لوجوب العدل في القسم، وهذا المعني منتف في المملوكة؛ فلهذا لم يحرم عليه أن يتسري بأكثر من أربع، بخلاف الجمع بين الأختين؛ فإنه إنما كان دفعا لقطيعة الرحم بينهما، وهذا المعني موجود بين المملوكتين، كما يوجد في الزوجتين، فإذا جمع بينهما بالتسري حصل بينهما من التغاير ما يحصل إذا جمع بينهما في النكاح، فيفضي إلى قطيعة الرحم.

ولما كان هذا المعني هو المؤثر في الشرع، جاز له أن يجمع بين المرأتين إذا كان بينهما حرمة بلا نسب أو نسب بلا حرمة. فالأول مثل أن يجمع بين المرأة وابنة زوجها. كما جمع عبد الله بن جعفر لما مات على بن أبي طالب بين امرأة على وابنته.

وهذا يباح عند أكثر العلماء؛ الأئمة الأربعة وغيرهم. فإن هاتين المرأتين وإن كانت إحداهما تحرم على الأخرى فذاك تحريم بالمصاهرة لا بالرحم؛ والمعني إنما كان بتحريم قطيعة الرحم، فلم يدخل في آية التحريم لا لفظا ولا معني. وأما إذا كان بينهما رحم غير محرم؛ مثل بنت العم والخال، فيجوز الجمع بينهما، لكن هل يكره؟ فيه قولان: هما روايتان عن أحمد؛ لأن بينهما رحما غير محرم.

وأما الحكمان المتنازع فيهما فهل له أن يملك ذا الرحم المحرم؟ وهل له أن يفرق بينهما في ملك فيبيع أحدهما دون الآخر؟ هاتان فيهما نزاع، وأقوال ليس هذا موضعها.

وتحريم الجمع يزول بزوال النكاح، فإذا ماتت إحدى الأربع، أو الأختين، أو طلقها، أو انفسخ نكاحها، وانقضت عدتها، كان له أن يتزوج رابعة، ويتزوج الأخت الأخرى باتفاق العلماء، وإن طلقها طلاقًا رجعيًا لم يكن له تزوج الأخرى عند عامة العلماء. الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد روي عبيدة السلماني، قال: لم يتفق أصحاب محمد ﷺ على شيء كاتفاقهم على أن الخامسة لا تنكح في عدة الرابعة، ولا تنكح الأخت في عدة أختها وذلك لأن الرجعية بمنزلة الزوجة، فإن كلا منهما يرث الآخر، لكنها صائرة إلى البينونة، وذلك لا يمنع كونها زوجة، كما لو أحالها إلى أجل مثل أن يقول: إن أعطيتني ألفا في رأس الحول فأنت طالق. فإن هذه صائرة إلى بينونة صغري، ومع هذا فهي زوجة باتفاق العلماء، وإذا قيل: لا يمكن أن تعطيه العوض المعلق به فيدوم النكاح؟ قيل: والرجعية يمكن أن يراجعها فيدوم النكاح. وكذلك لو قال: إن لم تلدي في هذا الشهر فأنت طالق. وكانت قد بقيت على واحدة فههنا هي زوجة لا يزول نكاحها إلا إذا انقضي الشهر ولم تلد، وإن كانت صائرة إلى بينونة. وإنما تنازع العلماء: هل يجوز له وطؤها، كما تنازعوا في وطء الرجعية؟ وأما إذا كان الطلاق بائنا: فهل يتزوج الخامسة في عدة الرابعة؟ والأخت في عدة أختها؟ هذا فيه نزاع مشهور بين السلف والخلف. والجواز مذهب مالك والشافعي. والتحريم مذهب أبي حنيفة وأحمد. والله أعلم.
سئل عن قوم يتزوج هذا أخت هذا وهذا أخت هذا

وسئل رحمه الله عن قوم يتزوج هذا أخت هذا، وهذا أخت هذا أو ابنته، وكلما أنفق هذا أنفق هذا؛ وإذا كسا هذا كسا هذا، وكذلك في جميع الأشياء. وفي الإرضاء والغضب: إذا رضي هذا رضي هذا، وإذا أغضبها هذا أغضبها الآخر: فهل يحل ذلك؟

فأجاب:

يجب على كل من الزوجين أن يمسك زوجته بمعروف أو يسرحها بإحسان، ولا له أن يعلق ذلك على فعل الزوج الآخر؛ فإن المرأة لها حق على زوجها، وحقها لا يسقط بظلم أبيها وأخيها، قال الله تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [28]، فإذا كان أحدهما يظلم زوجته وجب إقامة الحق عليه؛ ولم يحل للآخر أن يظلم زوجته لكونها بنتًا للأول. وإذا كان كل منهما يظلم زوجته لأجل ظلم الآخر فيستحق كل منهما العقوبة، وكان لزوجة كل منهما أن تطلب حقها من زوجها، ولو شرط هذا في النكاح لكان هذا شرطًا باطلا من جنس نكاح الشغار وهو أن يزوج الرجل أخته أو ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته أو أخته، فكيف إذا زوجه على أنه إن أنصفها أنصف الآخر، وإن ظلمها ظلم الآخر زوجته؛ فإن هذا محرم بإجماع المسلمين، ومن فعل ذلك استحق العقوبة التي تزجره عن مثل ذلك.
سئل عن رجل جمع بين خالة الرجل وابنته

وسئل الشيخ رحمه الله عن رجل متزوج بخالة إنسان، وله بنت، فتزوج بها، فجمع بين خالته وابنته: فهل يصح؟

فأجاب:

لا يجوز أن يتزوج خالة رجل وابنته بأن يجمع بينهما؛ فإن النبي ﷺ: نهي أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وهذا متفق عليه بين الأئمة الأربعة، وهم متفقون على أن هذا الحديث يتناول خالة الأب وخالة الأم والجدة، ويتناول عمة كل من الأبوين أيضا، فليس له أن يجمع بين المرأة وخالة أبيها، ولا خالة أمها عند الأئمة الأربعة.
سئل عن رجل جمع بين خالة رجل وابنة أخ له من الأبوين

وسئل عن رجل جمع في نكاح واحد بين خالة رجل وابنة أخ له من الأبوين: فهل يجوز الجمع بينهما أم لا؟

فأجاب:

الجمع بين هذه المرأة وبين الأخرى هو الجمع بين المرأة وبين خالة أبيها؛ فإن أباها إذا كان أخا لهذا الآخر من أمه، أو أمه وأبيه، كانت خالة هذا خالة هذا، بخلاف ما إذا كان أخاه من أبيه فقط؛ فإنه لا تكون خالة أحدهما خالة الآخر، بل تكون عمته. والجمع بين المرأة وخالة أبيها وخالة أمها، أو عمة أبيها، أو عمة أمها، كالجمع بين المرأة وعمتها وخالتها عند أئمة المسلمين، وذلك حرام باتفاقهم.

وإذا تزوج إحداهما بعد الأخرى كان نكاح الثانية باطلا، لا يحتاج إلى طلاق، ولا يجب بعقد مهر ولا ميراث، ولا يحل له الدخول بها، وإن دخل بها فارقها، كما تفارق الأجنبية، فإن أراد نكاح الثانية فارق الأولي، فإذا انقضت عدتها تزوج الثانية، فإن تزوجها في عدة طلاق رجعي لم يصح العقد الثاني باتفاق الأئمة، وإن كان الطلاق بائنا لم يجز في مذهب أبي حنيفة وأحمد، وجاز في مذهب مالك والشافعي. فإذا طلقها طلقة أو طلقتين بلا عوض كان الطلاق رجعيا، ولم يصح نكاح الثانية حتى تنقضي عدة الأولى باتفاق الأئمة فإن تزوجها لم يجز أن يدخل بها، فإن دخل بها في النكاح الفاسد وجب عليه أن يعتزلها، فإنها أجنبية، ولا يعقد عليها حتى تنقضي عدة الأولى المطلقة باتفاق الأئمة. وهل له أن يتزوج هذه الموطوءة بالنكاح الفاسد في عدتها منه؟ فيه قولان للعلماء:

أحدهما: يجوز، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.

والثاني: لا يجوز، وهو مذهب مالك، وفي مذهب أحمد القولان.
سئل عن رجل اشترى جارية ووطئها فهل يجوز لولده وطؤها

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل اشترى جارية، ووطئها، ثم ملكها لولده: فهل يجوز لولده وطؤها؟

فأجاب:

الحمد لله، لا يجوز للابن أن يطأها بعد وطء أبيه والحال هذه باتفاق المسلمين. ومن استحل ذلك فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وفي السنن عن البراء بن عازب، قال: رأيت خالي أبا بردة ومعه رايته، فقلت: إلى أين؟ فقال: بعثني رسول الله ﷺ إلى رجل تزوج امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه، وأخمس ماله. ولا نزاع بين الأئمة أنه لا فرق بين وطئها بالنكاح، وبين وطئها بملك اليمين.
سئل عن رجل تزوج بامرأة وطلقها لم يدخل بها هل له أن يدخل بأمها

وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بامرأة من مدة سنة ولم يدخل بها، وطلقها قبل الإصابة: فهل يجوز له أن يدخل بالأم بعد طلاق البنت؟

فأجاب:

لا يجوز تزويج أم امرأته، وإن لم يدخل بها. والله أعلم.
سئل عن رجل طلق امرأته وهي مرضعة لولده فلبثت مطلقة ثمانية أشهر

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل طلق امرأته وهي مرضعة لولده، فلبثت مطلقة ثمانية أشهر، ثم تزوجت برجل آخر، فلبثت معه دورة شهر، ثم طلقها، فلبثت مطلقة ثلاثة أشهر، ولم تحض، لا في الثمانية الأولي، ولا في مدة عصمتها مع الرجل الثاني، ولا في الثلاثة الأشهر الأخيرة، ثم تزوج بها المطلق الأول أبو الولد: فهل يصح هذان العقدان؟ أو أحدهما؟

فأجاب:

الحمد لله، لا يصح العقد الأول والثاني، بل عليها أن تكمل عدة الأول، ثم تقضي عدة الثاني. ثم بعد انقضاء العدتين تتزوج من شاءت منهما. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج امرأة من مدة ثلاث سنين

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج امرأة من مدة ثلاث سنين، رزق منها ولدا له من العمر سنتان، وذكرت أنها لما تزوجت لم تحض إلا حيضتين، وصدقها الزوج، وكان قد طلقها ثانيا على هذا العقد المذكور: فهل يجوز الطلاق على هذا العقد المفسوخ؟

فأجاب:

إن صدقها الزوج في كونها تزوجت قبل الحيضة الثالثة فالنكاح باطل، وعليه أن يفارقها، وعليها أن تكمل عدة الأول، ثم تعتد من وطء الثاني. فإن كانت حاضت الثالثة قبل أن يطأها الثاني فقد انقضت عدة الأول، ثم إذا فارقها الثاني اعتدت له ثلاث حيض، ثم تزوج من شاءت بنكاح جديد، وولده ولد حلال يلحقه نسبه؛ وإن كان قد ولد بوطء في عقد فاسد لا يعلم فساده.
سئل عن مطلقة ادعت أنها قضت عدتها فتزوجها زوج ثان

وسئل رحمه الله عن مطلقة أدعت وحلفت أنها قضت عدتها، فتزوجها زوج ثان، ثم حضرت امرأة أخرى وزعمت أنها حاضت حيضتين، وصدقها الزوج على ذلك؟

فأجاب:

إذا لم تحض إلا حيضتين فالنكاح الثاني باطل باتفاق الأئمة، وإذا كان الزوج مصدقا لها وجب أن يفرق بينهما؛ فتكمل عدة الأول بحيضة، ثم تعتد من وطء الثاني عدة كاملة، ثم بعد ذلك إن شاء الثاني أن يتزوجها تزوجها.
سئل عن امرأة بانت فتزوجت بعد شهر ونصف بحيضة واحدة

وسئل عن امرأة بانت فتزوجت بعد شهر ونصف بحيضة واحدة؟

فأجاب:

تفارق هذا الثاني، وتتم عدة الأول بحيضتين، ثم بعد ذلك تعتد من وطء الثاني بثلاث حيضات، ثم بعد ذلك يتزوجها بعقد جديد.
سئل عن رجل عقد العقد ولم يدخل بها ثم طلقها ثلاثا

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل عقد العقد على أنها تكون بالغا، ولم يدخل بها، ولم يصبها، ثم طلقها ثلاثا، ثم عقد عليها شخص آخر، ولم يدخل بها ولم يصبها، ثم طلقها ثلاثا: فهل يجوز للذي طلقها أولا أن يتزوج بها؟

فأجاب:

إذا طلقها قبل الدخول فهو كما لو طلقها بعد الدخول عند الأئمة الأربعة، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، ويدخل بها، فإذا طلقها قبل الدخول لم تحل للأول.
سئل عن رجل تزوج بنتا بكرا ثم طلقها ثلاثا ولم يدخل بها

وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بنتا بكرا، ثم طلقها ثلاثا ولم يصيبها: فهل يجوز أن يعقد عليها عقدا ثانيا، أم لا؟

فأجاب:

طلاق البكر ثلاثا كطلاق المدخول بها ثلاثا عند أكثر الأئمة.
سئل عمن يقول إن المرأة إذا وقع بها الطلاق الثلاث تباح بدون نكاح

وسئل رحمه الله تعالى عمن يقول: إن المرأة إذا وقع بها الطلاق الثلاث تباح بدون نكاح ثان للذي طلقها ثلاثا: فهل قال هذا القول أحد من المسلمين، ومن قال هذا القول ماذا يجب عليه؟ ومن استحلها بعد وقوع الثلاث بدون نكاح ثان ماذا يجب عليه؟ وما صفة النكاح الثاني الذي يبيحها للأول؟ أفتونا مأجورين مثابين يرحمكم الله.

فأجاب رضي الله عنه:

الحمد لله رب العالمين، إذا وقع بالمرأة الطلاق الثلاث فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم يقل أحد من علماء المسلمين: إنها تباح بعد وقوع الطلاق الثلاث بدون زوج ثان، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد كذب. ومن قال ذلك أو استحل وطأها بعد وقوع الطلاق الثلاث بدون نكاح زوج ثان، فإن كان جاهلا يعذر بجهله مثل أن يكون نشأ بمكان قوم لا يعرفون فيه شرائع الإسلام، أو يكون حديث عهد بالإسلام، أو نحو ذلك فإنه يعرف دين الإسلام؛ فإن أصر على القول بأنها تباح بعد وقوع الثلاث بدون نكاح ثان أو على استحلال هذا الفعل، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كأمثاله من المرتدين الذين يجحدون وجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، وحل المباحات التي علم أنها من دين الإسلام، وثبت ذلك بنقل الأمة المتواتر عن نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام. وظهر ذلك بين الخاص والعام، كمن يجحد وجوب مباني الإسلام من الشهادتين، والصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت الحرام، أو جحد تحريم الظلم، وأنواعه كالربا والميسر، أو تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما يدخل في ذلك من تحريم نكاح الأقارب سوي بنات العمومة والخؤولة، وتحريم المحرمات بالمصاهرة وهن أمهات النساء وبناتهن وحلائل الآباء والأبناء ونحو ذلك من المحرمات، أو حل الخبز، واللحم، والنكاح واللباس؛ وغير ذلك مما علمت إباحته بالاضطرار من دين الإسلام. فهذه المسائل مما لم يتنازع فيها المسلمون، لاسنيهم ولا بدعيهم.

ولكن تنازعوا في مسائل كثيرة من مسائل الطلاق والنكاح وغير ذلك من الأحكام: كتنازع الصحابة والفقهاء بعدهم في الحرام هل هو طلاق، أو يمين، أو غير ذلك؟ وكتنازعهم في الكنايات الظاهرة كالخلية، والبرية، والبتة: هل يقع بها واحدة رجعية، أو بائن، أو ثلاث؟ أو يفرق بين حال وحال؟ وكتنازعهم في المولي: هل يقع به الطلاق عند انقضاء المدة إذا لم يف فيها؟ أم يوقف بعد انقضائها حتى يفيء أو يطلق؟ وكتنازع العلماء في طلاق السكران، والمكره، وفي الطلاق بالخط، وطلاق الصبي المميز، وطلاق الأب على ابنه. وطلاق الحكم الذي هو من أهل الزوج بدون توكيله. كما تنازعوا في بذل أجر العوض بدون توكيلها. وغير ذلك من المسائل التي يعرفها العلماء. وتنازعوا أيضا في مسائل تعليق الطلاق بالشرط ومسائل الحلف بالطلاق، والعتاق، والظهار، والحرام، والنذر كقوله: إن فعلت كذا فعلى الحج أو صوم شهر أو الصدقة بألف. وتنازعوا أيضًا في كثير من مسائل الأيمان مطلقا في موجب اليمين.

وهذا كتنازعهم في تعليق الطلاق بالنكاح: هل يقع أولا يقع؟ أو يفرق بين العموم والخصوص؟ أو بين ما يكون فيه مقصود شرعي وبين أن يقع في نوع ملك أو غير ملك؟ وتنازعوا في الطلاق المعلق بالشرط بعد النكاح؟ على ثلاثة أقوال: فقيل: يقع مطلقا. وقيل: لا يقع. وقيل: يفرق بين الشرط الذي يقصد وقوع الطلاق عند كونه، وبين الشرط الذي يقصد عدمه. وعدم الطلاق عنده. فالأول كقوله: إن أعطيتني ألفا فأنت طالق. والثاني كقوله: إن فعلت كذا فعبيدي أحرار، ونسائي طوالق، وعلى الحج.

وأما النذر المعلق بالشرط، فاتفقوا على أنه إذا كان مقصوده وجود الشرط كقوله: إن شفي الله مريضي، أو سلم مالي الغائب فعلى صوم شهر، أو الصدقة بمائة، أنه يلزمه. وتنازعوا فيما إذا لم يكن مقصوده وجود الشرط، بل مقصوده عدم الشرط، وهو حالف بالنذر، كما إذا قال: لا أسافر، وإن سافرت فعلى الصوم، أو الحج، أو الصدقة، أو على عتق رقبة. ونحو ذلك؟ على ثلاثة أقوال: فالصحابة وجمهور السلف على أنه يجزيه كفارة يمين، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وهو آخر الروايتين عن أبي حنيفة، وقول طائفة من المالكية؛ كابن وهب، وابن أبي العمر، وغيرهما. وهل يتعين ذلك، أم يجزيه الوفاء؟ على قولين في مذهب الشافعي وأحمد. وقيل: عليه الوفاء، كقول مالك، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وحكاه بعض المتأخرين قولا للشافعي؛ ولا أصل له في كلامه. وقيل: لا شيء عليه بحال، كقول طائفة من التابعين، وهو قول داود، وابن حزم.

وهكذا تنازعوا على هذه الأقوال الثلاثة فيمن حلف بالعتاق أو الطلاق ألا يفعل شيئا كقوله: إن فعلت كذا فعبدي حر، أو امرأتي طالق. هل يقع ذلك إذا حنث، أو يجزيه كفارة يمين، أو لا شيء عليه؟ على ثلاثة أقوال. ومنهم من فرق بين الطلاق والعتاق. واتفقوا على أنه إذا قال: إن فعلت كذا فعلى أن أطلق امرأتي لا يقع به الطلاق، بل ولا يجب عليه إذ لم يكن قربة، ولكن هل عليه كفارة يمين؟ على قولين: أحدهما: يجب عليه كفارة يمين، وهو مذهب أحمد في المشهور عنه، ومذهب أبي حنيفة فيما حكاه ابن المنذر والخطابي وابن عبد البر وغيرهم، وهو الذي وصل إلينا في كتب أصحابه، وحكي القاضي أبو يعلى وغيره. وعنه أنه لا كفارة فيه، والثاني: لا شيء عليه، وهو مذهب الشافعي.

فصل

وأما إذا قال: إن فعلته فعلى إذَن عتق عبدي. فاتفقوا على أنه لا يقع العتق بمجرد الفعل، لكن يجب عليه العتق. وهو مذهب مالك، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة. وقيل: لا يجب عليه شيء، وهو قول طائفة من التابعين، وقول داود، وابن حزم. وقيل: عليه كفارة يمين، وهو قول الصحابة وجمهور التابعين، ومذهب الشافعي وأحمد، وهو مخير بين التكفير والإعتاق على المشهور عنهما. وقيل: يجب التكفير عينًا؛ ولم ينقل عن الصحابة شيء في الحلف بالطلاق فيما بلغنا بعد كثرة البحث، وتتبع كتب المتقدمين والمتأخرين، بل المنقول عنهم إما ضعيف؛ بل كذب من جهة النقل، وإما ألا يكون دليلا على الحلف بالطلاق؛ فإن الناس لم يكونوا يحلفون بالطلاق على عهدهم، ولكن نقل عن طائفة منهم في الحلف بالعتق أن يجزيه كفارة يمين، كما إذا قال: إن فعلت كذا فعبدي حر. وقد نقل عن بعض هؤلاء نقيض هذا القول. وأنه يعتق. وقد تكلمنا على أسانيد ذلك في غير هذا الموضع. ومن قال من الصحابة والتابعين: إنه لا يقع العتق، فإنه لا يقع الطلاق بطريق الأولى، كما صرح بذلك من صرح به من التابعين. وبعض العلماء ظن أن الطلاق لا نزاع فيه فاضطره ذلك إلى أن عكس موجب الدليل فقال: يقع الطلاق، دون العتاق! وقد بسط الكلام على هذه المسائل، وبين ما فيها من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والأئمة الأربعة، وغيرهم من علماء المسلمين، وحجة كل قوم في غير هذا الموضع.

وتنازع العلماء فيما إذا حلف بالله أو الطلاق أو الظهار أو الحرام أو النذر أنه لا يفعل شيئا ففعله ناسيًا ليمينه، أو جاهلا بأنه المحلوف عليه: فهل يحنث، كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد، وأحد القولين للشافعي وإحدى الروايات عن أحمد؟ أو لا يحنث بحال، كقول المكيين، والقول الآخر للشافعي والرواية الثانية عن أحمد؟ أو يفرق بين اليمين بالطلاق والعتاق وغيرهما، كالرواية الثالثة عن أحمد، وهو اختيار القاضي والخرقي وغيرهما من أصحاب أحمد، والقفال من أصحاب الشافعي؟ وكذلك لو اعتقد أن امرأته بانت بفعل المحلوف عليه، ثم تبين له أنها لم تبن؟ ففيه قولان. وكذلك إذا حلف بالطلاق أو غيره على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه؟ ففيه ثلاثة أقوال كما ذكر، ولو حلف على شيء يشك فيه ثم تبين صدقه؟ ففيه قولان. عند مالك يقع، وعند الأكثرين لا يقع، وهو المشهور من مذهب أحمد. والمنصوص عنه في رواية حرب التوقف في المسألة، فيخرج على وجهين، كما إذا حلف ليفعلن اليوم كذا ومضى اليوم، أوشك في فعله هل يحنث؟ على وجهين.

واتفقوا على أنه يرجع في اليمين إلى نية الحالف إذا احتملها لفظه، ولم يخالف الظاهر، أو خالفه وكان مظلومًا. وتنازعوا: هل يرجع إلى سبب اليمين وسياقها وما هيجها؟ على قولين: فمذهب المدنيين كمالك وأحمد وغيره أنه يرجع إلى ذلك، والمعروف في مذهب أبي حنيفة والشافعي أنه لا يرجع، لكن في مسائلهما ما يقتضي خلاف ذلك. وإن كان السبب أعم من اليمين عمل به عند من يري السبب. وإن كان خاصًا: فهل يقصر اليمين عليه؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره. وإن حلف على معين يعتقده على صفة فتبين بخلافها؟ ففيه أيضًا قولان. وكذلك لو طلق امرأته بصفة؛ ثم تبين بخلافها مثل أن يقول: أنت طالق أن دخلت الدار بالفتح أي لأجل دخولك الدار، ولم تكن دخلت. فهل يقع به الطلاق؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره. وكذلك إذا قال: أنت طالق لأنك فعلت كذا ونحو ذلك، ولم تكن فعلته؟ ولو قيل له: امرأتك فعلت كذا، فقال: هي طالق. ثم تبين أنهم كذبوا عليها؟ ففيه قولان وتنازعوا في الطلاق المحرم. كالطلاق في الحيض، وكجمع الثلاث عند الجمهور الذين يقولون: إنه حرام، ولكن الأربعة وجمهور العلماء يقولون: كونه حرامًا لا يمنع وقوعه، كما أن الظهار محرم وإذا ظاهر ثبت حكم الظهار، وكذلك النذر قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه نهي عنه، ومع هذا يجب عليه الوفاء به بالنص والإجماع.

والذين قالوا لا يقع: اعتقدوا أن كل ما نهي الله عنه فإنه يقع فاسدًا لا يترتب عليه حكم، والجمهور فرقوا بين أن يكون الحكم يعمه لا يناسب فعل المحرم: كحل الأموال والإبضاع وإجزاء العبادات وبين أن يكون عبادة تناسب فعل المحرم كالإيجاب والتحريم؛ فإن المنهي عن شيء إذا فعله قد تلزمه بفعله كفارة أو حد، أو غير ذلك من العقوبات، فكذلك قد ينهي عن فعل شيء فإذا فعله لزمه به واجبات ومحرمات، ولكن لا ينهي عن شيء إذا فعله أحلت له بسبب فعل المحرم الطيبات؛ فبرئت ذمته من الواجبات؛ فإن هذا من باب الإكرام والإحسان، والمحرمات لا تكون سببًا محضًا للإكرام والإحسان، بل هي سبب للعقوبات إذا لم يتقوا الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عليهمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [29]، وقال تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } إلى قوله تبارك وتعالى: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ } [30]، وكذلك ما ذكره تعالى في قصة البقرة من كثرة سؤالهم وتوقفهم عن امتثال أمره كان سببًا لزيادة الإيجاب، ومنه قوله تعالى: { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [31]، وحديث النبي ﷺ: (إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته). ولما سألوه عن الحج: أفي كل عام؟ قال: (لا. ولو قلت: نعم لوجب، ولو وجب لم تطيقوه، ذروني ما تركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).

ومن هنا قال طائفة من العلماء: إن الطلاق الثلاث حرمت به المرأة عقوبة للرجل حتى لا يطلق؛ فإن الله يبغض الطلاق، وإنما يأمر به الشياطين والسحرة كما قال تعالى في السحر: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } [32]، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الشيطان ينصب عرشه على البحر، ويبعث جنوده فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة، فيأتي أحدهم فيقول: ما زلت به حتى شرب الخمر. فيقول: الساعة يتوب. ويأتي الآخر فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته. فيقبله بين عينيه. ويقول: أنت! أنت!). وقد روي أهل التفسير والحديث والفقه أنهم كانوا في أول الإسلام يُطلِّقون بغير عدد؛يطلق الرجل المرأة، ثم يدعها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ضرارًا، فقصرهم الله على الطلقات الثلاث؛لأن الثلاث أول حد الكثرة، وآخر حد القلة. ولولا أن الحاجة داعية إلى الطلاق لكان الدليل يقتضي تحريمه، كما دلت عليه الآثار والأصول، ولكن الله تعالى أباحه رحمة منه بعباده لحاجتهم إليه أحيانًا. وحرمه في مواضع باتفاق العلماء. كما إذا طلقها في الحيض ولم تكن سألته الطلاق؛فإن هذا الطلاق حرام باتفاق العلماء.

والله تعالى بعث محمدًا ﷺ بأفضل الشرائع وهي الحنيفية السمحة، كما قال: (أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)، فأباح لعباده المؤمنين الوطء بالنكاح. والوطء بملك اليمين. واليهود والنصارى لا يطؤون الا بالنكاح؛ لا يطؤون بملك اليمين. وأصل ابتداء الرق إنما يقع من السبي. والغنائم لم تحل إلا لأمة محمد ﷺ، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه قال: (فضلنا على الأنبياء بخمس: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصه وبعثت إلى الناس عامة، وأعطيت الشفاعة). فأباح سبحانه للمؤمنين أن ينكحوا وأن يطلقوا، وأن يتزوجوا المرأة المطلقة بعد أن تتزوج بغير زوجها.

والنصارى يحرمون النكاح على بعضهم، ومن أباحوا له النكاح لم يبيحوا له الطلاق. واليهود يبيحون الطلاق، لكن إذا تزوجت المطلقة بغير زوجها حرمت عليه عندهم. والنصارى لا طلاق عندهم. واليهود لا مراجعة بعد أن تتزوج غيره عندهم. والله تعالى أباح للمؤمنين هذا وهذا.

ولو أبيح الطلاق بغير عدد كما كان في أول الأمر لكان الناس يطلقون دائمًا؛ إذا لم يكن أمر يزجرهم عن الطلاق، وفي ذلك من الضرر والفساد ما أوجب حرمة ذلك، ولم يكن فساد الطلاق لمجرد حق المرأة فقط؛ كالطلاق في الحيض حتى يباح دائمًا بسؤالها، بل نفس الطلاق إذا لم تدع إليه حاجة منهي عنه باتفاق العلماء؛ إما نهي تحريم، أو نهي تنزيه. وما كان مباحًا للحاجة قدر بقدر الحاجة. والثلاث هي مقدار ما أبيح للحاجة، كما قال النبي ﷺ: (لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، وكما قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا)، وكما رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا. وهذه الأحاديث في الصحيح. وهذا مما احتج به من لا يري وقوع الطلاق إلا من القصد، ولا يري وقوع طلاق المكره؛ كما لا يكفر من تكلم بالكفر مكرها بالنص والإجماع؛ ولو تكلم بالكفر مستهزئًا بآيات الله وبالله ورسوله كفر؛ كذلك من تكلم بالطلاق هازلا وقع به. ولو حلف بالكفر فقال: إن فعل كذا فهو بريء من الله ورسوله، أو فهو يهودي أو نصراني، لم يكفر بفعل المحلوف عليه، وإن كان هذا حكمًا معلقًا بشرط في اللفظ؛ لأن مقصوده الحلف به بغضا له ونفورًا عنه؛ لا إرادة له، بخلاف من قال: إن أعطيتموني ألفًا كفرت فإن هذا يكفر. وهكذا يقول من يفرق بين الحلف بالطلاق وتعليقه بشرط لا يقصد كونه، وبين الطلاق المقصود عند وقوع الشرط.

ولهذا ذهب كثير من السلف والخلف إلى أن الخُلع فسخ للنكاح، وليس هو من الطلقات الثلاث؛ كقول ابن عباس، والشافعي وأحمد في أحد قوليهما؛ لأن المرأة افتدت نفسها من الزوج كافتداء الأسير، وليس هو من الطلاق المكروه في الأصل؛ ولهذا يباح في الحيض، بخلاف الطلاق. وأما إذا عدل هو عن الخلع وطلقها إحدى الثلاث بعوض فالتفريط منه. وذهب طائفة من السلف؛ كعثمان بن عفان وغيره، ورووا في ذلك حديثًا مرفوعًا. وبعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد جعلوه مع الأجنبي فسخًا؛ كالإقاله. والصواب أنه مع الأجنبي كما هو مع المرأة؛فإنه إذا كان افتداء المرأة كما يفدي الأسير فقد يفتدي الأسير بمال منه ومال من غيره، وكذلك العبد يعتق بمال يبذله هو وما يبذله الأجنبي، وكذلك الصلح يصح مع المدعي عليه ومع أجنبي، فإن هذا جميعه من باب الإسقاط والإزالة.

وإذ كان الخلع رفعًا للنكاح، وليس هو من الطلاق الثلاث، فلا فرق بين أن يكون المال المبذول من المرأة، أو من أجنبي. وتشبيه فسخ النكاح بفسخ البيع، فيه نظر؛ فإن البيع لا يزول إلا برضا المتبايعين، لا يستقل أحدهما بإزالته؛ بخلاف النكاح؛ فإن المرأة ليس إليها إزالته، بل الزوج يستقل بذلك؛ لكن افتداؤها نفسها منه كافتداء الأجنبي لها. ومسائل الطلاق وما فيها من الإجماع والنزاع مبسوط في غير هذا الموضوع.

والمقصود هنا إذا وقع به الثلاث حرمت عليه المرأة بإجماع المسلمين، كما دل عليه الكتاب والسنة، ولا يباح إلا بنكاح ثان، وبوطئه لها عند عامة السلف والخلف؛ فإن النكاح المأمور به يؤمر فيه بالعقد. وبالوطء، بخلاف المنهي عنه؛ فإنه ينهي فيه عن كل من العقد والوطء؛ ولهذا كان النكاح الواجب والمستحب يؤمر فيه بالوطء من العقد، والنكاح المحرم يحرم فيه مجرد العقد، وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال لا مرأة رفاعة القرظي لما أرادت أن ترجع إلى رفاعة بدون الوطء: (لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك). وليس في هذا خلاف إلا عن سعيد بن المسيب، فإنه مع أنه أعلم التابعين لم تبلغه السنة في هذه المسألة. والنكاح المبيح هو النكاح المعروف عند المسلمين، وهو النكاح الذي جعل الله فيه بين الزوجين مودة ورحمة؛ ولهذا قال النبي ﷺ فيه: (حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك)، فأما نكاح المحلل فإنه لا يحلها للأول عند جماهير السلف، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: (لعن الله المحلِّل والمحلَّل له)، وقال عمر بن الخطاب: لا أوتي بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما. وكذلك قال عثمان وعلى وابن عباس وابن عمر وغيرهم: إنه لا يبيحها إلا بنكاح رغبة؛ لا نكاح محلل. ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه رخص في نكاح التحليل.

ولكن تنازعوا في نكاح المتعة فإن نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه كان مباحًا في أول الإسلام، بخلاف التحليل.

الثاني: أنه رخص فيه ابن عباس وطائفة من السلف، بخلاف التحليل، فإنه لم يرخص فيه أحد من الصحابة.

الثالث: أن المتمتع له رغبة في المرأة وللمرأة رغبة فيه إلى أجل، بخلاف المحلل فإن المرأة ليس لها رغبة فيه بحال، وهو ليس له رغبة فيها، بل في أخذ ما يعطاه، وإن كان له رغبة فهي من رغبته في الوطء، لا في اتخاذها زوجة، من جنس رغبة الزاني؛ ولهذا قال ابن عمر: لا يزالان زانيين، وإن مكثا عشرين سنة. إذ الله علم من قلبه أنه يريد أن يحلها له. ولهذا تعدم فيه خصائص النكاح؛ فإن النكاح المعروف كما قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إليهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } [33] والتحليل فيه البغضة والنفرة؛ ولهذا لا يظهره أصحابه، بل يكتمونه كما يكتم السفاح. ومن شعائر النكاح إعلانه، كما قال النبي ﷺ: (أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف)؛ ولهذا يكفي في إعلانه الشهادة عليه عند طائفة من العلماء، وطائفة أخرى توجب الإشهاد والإعلان؛ فإذا تواصوا بكتمانه بطل.

ومن ذلك الوليمة عليه، والنثار، والطيب، والشراب، ونحو ذلك مما جرت به عادات الناس في النكاح. وأما التحليل فإنه لا يفعل فيه شيء من هذا؛ لأن أهله لم يريدوا أن يكون المحلل زوج المرأة، ولا أن تكون المرأة امرأته؛ وإنما المقصود استعارته لينزو عليها، كما جاء في الحديث المرفوع تسميته بالتيس المستعار؛ ولهذا شبه بحمار العشريين الذي يكتري للتقفيز على الإناث؛ ولهذا لا تبقي المرأة مع زوجها بعد التحليل كما كانت قبله، بل يحصل بينهما نوع من النفرة.

ولهذا لما لم يكن في التحليل مقصود صحيح يأمر به الشارع، صار الشيطان يشبه به أشياء مخالفة للإجماع، فصار طائفة من عامة الناس يظنون أن ولادتها لذكر يحلها، أو أن وطئها بالرجل على قدمها أو رأسها أو فوق سقف أو سلم هي تحته يحلها. ومنهم من يظن أنهما إذا التقيا بعرفات، كما التقي آدم وامرأته أحلها ذلك. ومنهن من إذا تزوجت بالمحلل به لم تمكنه من نفسها، بل تمكنه من أمة لها. ومنهن من تعطيه شيئا، وتوصيه بأن يقر بوطئها. ومنهم من يحلل الأم وبنتها. إلى أمور أخر قد بسطت في غير هذا الموضع، بيناها في كتاب بيان الدليل على بطلان التحليل. ولا ريب أن المنسوخ من الشريعة وما تنازع فيه السلف خير من مثل هذا؛ فإنه لو قدر أن الشريعة تأتي بأن الطلاق لا عدد له لكان هذا ممكنا وإن كان هذا منسوخًا. وإما أن يقال: إن من طلق امرأته لا تحل له حتى يستكري من يطأها فهذا لا تأتي به شريعة.

وكثير من أهل التحليل يفعلون أشياء محرمة باتفاق المسلمين؛ فإن المرأة المعتدة لا يحل لغير زوجها أن يصرح بخطبتها، سواء كانت معتدة من عدة طلاق أو عدة وفاة، قال تعالى: { وَلاَ جُنَاحَ عليكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلا مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } [3]، فنهي الله تعالى عن المواعدة سرًا، وعن عزم عقدة النكاح، حتى يبلغ الكتاب أجله. وإذا كان هذا في عدة الموت فهو في عدة الطلاق أشد باتفاق المسلمين؛ فإن المطلقة قد ترجع إلى زوجها، بخلاف من مات عنها. وأما التعريض فإنه يجوز في عدة المتوفي عنها، ولا يجوز في عدة الرجعية وفيما سواهما. فهذه المطلقة ثلاثًا لا يحل لأحد أن يواعدها سرًا، ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله باتفاق المسلمين، وإذا تزوجت بزوج ثان وطلقها ثلاثا لم يحل للأول أن يواعدها سرًا، ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله باتفاق المسلمين. وذلك أشد وأشد. وإذا كانت مع زوجها لم يحل لأحد أن يخطبها، لا تصريحًا، ولا تعريضًا باتفاق المسلمين. فإذا كانت لم تتزوج بعد لم يحل للمطلق ثلاثًا أن يخطبها؛ لا تصريحًا ولا تعريضًا، باتفاق المسلمين. وخطبتها في هذه الحال أعظم من خطبتها بعد أن تتزوج بالثاني.

وهؤلاء أهل التحليل قد يواعد أحدهم المطلقة ثلاثًا، ويعزمان قبل أن تنقضي عدتها وقبل نكاح الثاني على عقدة النكاح بعد النكاح الثاني نكاح المحلل، ويعطيها ما تنفقه على شهود عقد التحليل، وللمحلل، وما ينفقه عليها في عدة التحليل، والزوج المحلل لا يعطها مهرًا، ولا نفقة عدة، ولا نفقة طلاق؛ فإذا كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز في هذه وقت نكاحها بالثاني أن يخطبها الأول لا تصريحًا ولا تعريضًا فكيف إذا خطبها قبل أن تتزوج بالثاني؟ أو إذا كان بعد أن يطلقها الثاني لا يحل للأول أن يواعدها سرًا، ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، فكيف إذا فعل ذلك من قبل أن يطلق؟ بل قبل أن يتزوج! بل قبل أن تنقضي عدتها منه! فهذا كله يحرم باتفاق المسلمين. وكثير من أهل التحليل يفعله، وليس في التحليل صورة اتفق المسلمون على حلها ولا صورة أباحها النص، بل من صور التحليل ما أجمع المسلمون على تحريمه، ومنها ما تنازع فيه العلماء.

وأما الصحابة فلم يثبت عن النبي ﷺ أنه لعن المحلل والمحلل له منهم؛ وهذا وغيره يبين أن من التحليل ما هو شر من نكاح المتعة وغيره من الأنكحة التي تنازع فيها السلف، وبكل حال فالصحابة أفضل هذه الأمة وبعدهم التابعون، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، فنكاح تنازع السلف في جوازه أقرب من نكاح أجمع السلف على تحريمه. وإذا تنازع فيه الخلف فإن أولئك أعظم علمًا ودينًا؛ وما أجمعوا على تعظيم تحريمه كان أمره أحق مما اتفقوا على تحريمه وإن اشتبه تحريمه على من بعدهم. والله تعالى أعلم.
سئل عن رجل تزوج بيتيمة وشهدت أمها ببلوغها

وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بيتيمة، وشهدت أمها ببلوغها، فمكثت في صحبته أربع سنين، ثم بانت منه بالثلاث، ثم شهدت أخواتها ونساء أخر أنها ما بلغت إلا بعد دخول الزوج بها بتسعة أيام، وشهدت أمها بهذه الصورة، والأم ماتت، والزوج يريد المراجعة؟

فأجاب:

الحمد لله، لا يحل للزوج أن يتزوجها إذا طلقها ثلاثًا عند جمهور العلماء، فإن مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه: أن نكاح هذه صحيح، وإن كان قبل البلوغ. ومذهب مالك وأحمد في المشهور أن الطلاق يقع في النكاح الفاسد المختلف فيه. ومثل هذه المسائل يقبح، فإنها من أهل البغي، فإنهم لا يتكلمون في صحة النكاح حين كان يطأها ويستمتع بها، حتى إذا طلقت ثلاثًا أخذوا يسعون فيما يبطل النكاح، حتى لا يقال: إن الطلاق وقع؟ وهذا من المضادة لله في أمره، فإنه حين كان الوطء حرامًا لم يتحر ولم يسأل، فلما حرمه الله أخذ يسأل عما يباح به الوطء.

ومثل هذا يقع في المحرم بإجماع المسلمين، وهو فاسق؛ لأن مثل هذه المرأة إما أن يكون نكاحها الأول صحيحًا، وإما ألا يكون. فإن كان صحيحًا فالطلاق الثلاث واقع، والوطء قبل نكاح زوج غيره حرام. وإن كان النكاح الأول باطلا كان الوطء فيه حرامًا، وهذا الزوج لم يتب من ذلك الوطء. وإنما سأل حين طلق؛ لئلا يقع به الطلاق، فكان سؤالهم عما به يحرم الوطء الأول، لأجل استحلال الوطء الثاني. وهذه المضادة لله ورسوله. والسعي في الأرض بالفساد، فإن كان هذا الرجل طلقها ثلاثًا فليتق الله، وليجتنبها، وليحفظ حدود الله؛ فإن { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [34]. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج امرأة بولاية أجنبي ووليها في مسافة دون القصر

وسئل عن رجل تزوج امرأة بولاية أجنبي، ووليها في مسافة دون القصر، معتقدًا أن الأجنبي حاكم، ودخل بها واستولدها، ثم طلقها ثلاثًا، ثم أراد ردها قبل أن تنكح زوجًا غيره: فهل له ذلك؛ لبطلان النكاح الأول، بغير إسقاط الحد ووجوب المهر، ويلحق النسب، ويحصل به الإحصان.

فأجاب:

لا يجب في هذا النكاح حد إذا اعتقد صحته، بل يلحق به النسب ويجب فيه المهر، ولا يحصل الإحصان بالنكاح الفاسد. ويقع الطلاق في النكاح المختلف فيه إذا اعتقد صحته. وإذا تبين أن المزوج ليس له ولاية بحال ففارقها الزوج حين علم فطلقها ثلاثًا لم يقع طلاق والحال هذه؛ وله أن يتزوجها من غير أن تنكح زوجًا غيره.
سئل عمن تزوج امرأة ثم طلقها ثلاثا وكان والي نكاحها فاسقا

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن تزوج امرأة من سنتين، ثم طلقها ثلاثًا، وكان وإلى نكاحها فاسقًا: فهل يصح عقد الفاسق، بحيث إذا طلقت ثلاثًا لا تحل له إلا بعد نكاح غيره؟ أو لا يصح عقده فله أن يتزوجها بعقد جديد، وولي مرشد من غير أن ينكحها غيره؟

فأجاب:

الحمد لله، إن كان قد طلقها ثلاثًا فقد وقع به الطلاق، وليس لأحد بعد الطلاق الثلاث أن ينظر في الولي: هل كان عدلا أو فاسقًا؛ ليجعل فسق الولي ذريعة إلى عدم وقوع الطلاق؛ فإن أكثر الفقهاء يصححون ولاية الفاسق، وأكثرهم يوقعون الطلاق في مثل هذا النكاح، بل وفي غيره من الأنكحة الفاسدة.

فإذا فرع على أن النكاح فاسد، وأن الطلاق لا يقع فيه، فإنما يجوز أن يستحل الحلال من يحرم الحرام؛ وليس لأحد أن يعتقد الشيء حلالا حرامًا. وهذا الزوج كان وطئها قبل الطلاق، ولو ماتت لورثها، فهو عامل على صحة النكاح، فكيف يعمل بعد الطلاق على فساده؟ فيكون النكاح صحيحًا إذا كان له غرض في صحته، فاسدًا إذا كان له غرض في فساده! وهذا القول يخالف إجماع المسلمين؛ فإنهم متفقون على أن من اعتقد حل الشيء كان عليه أن يعتقد ذلك، سواء وافق غرضه أو خالفه، ومن اعتقد تحريمه كان عليه أن يعتقد ذلك في الحالين. وهؤلاء المطلقون لا يفكرون في فساد النكاح بفسق الولي إلا عند الطلاق الثلاث، لا عند الاستمتاع والتوارث، فيكونون في وقت يقلدون من يفسده، وفي وقت يقلدون من يصححه بحسب الغرض والهوى! ومثل هذا لا يجوز باتفاق الأمة.

ونظير هذا أن يعتقد الرجل ثبوت شفعة الجوار إذا كان طالبًا لها، ويعتقد عدم الثبوت إذا كان مشتريًا؛ فإن هذا لا يجوز بالإجماع، وهذا أمر مبني على صحة ولاية الفاسق في حال نكاحه، وبني على فساد ولايته في حال طلاقه، فلم يجز ذلك بإجماع المسلمين. ولو قال المستفتي المعين: أنا لم أكن أعرف ذلك، وأنا من اليوم ألتزم ذلك، لم يكن من ذلك؛ لأن ذلك يفتح

باب التلاعب بالدين، وفتح للذريعة إلى أن يكون التحليل والتحريم بحسب الأهواء. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج بامرأة وليها فاسق وطلقها ثلاثا

وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بامرأة، وليها فاسق يأكل الحرام ويشرب الخمر؛ والشهود أيضًا كذلك، وقد وقع به الطلاق الثلاث: فهل له بذلك الرخصة في رجعتها؟

فأجاب:

إذا طلقها ثلاثًا وقع به الطلاق. ومن أخذ ينظر بعد الطلاق في صفة العقد، ولم ينظر في صفته قبل ذلك، فهو من المتعدين لحدود الله، فإنه يريد أن يستحل محارم الله قبل الطلاق، وبعده. والطلاق في النكاح الفاسد المختلف فيه عند مالك وأحمد وغيرهما من الأئمة، والنكاح بولاية الفاسق، يصح عند جماهير الأئمة. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج امرأة مصافحة على أقل صداق

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج امرأة مصافحة على أقل صداق خمسة دنانير كل سنة نصف دينار، وقد دخل عليها وأصابها: فهل يصح النكاح أم لا؟ وهل إذا رزق بينهما ولد يرث أم لا؟ وهل عليهما الحد أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، إذا تزوجها بلا ولي ولا شهود، وكتما النكاح، فهذا نكاح باطل باتفاق الأئمة، بل الذي عليه العلماء أنه (لا نكاح إلا بولي)، (وأيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل). وكلا هذين اللفظين مأثور في السنن عن النبي ﷺ. وقال غير واحد من السلف: لا نكاح إلا بشاهدين. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. ومالك يوجب إعلان النكاح.

ونكاح السر هو من جنس نكاح البغايا، وقد قال الله تعالى: { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } [35]، فنكاح السر من جنس ذوات الأخدان، وقال تعالى: { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ } [22]، وقال تعالى: { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [36]، فخاطب الرجال بتزويج النساء؛ ولهذا قال من قال من السلف: إن المرأة لا تنكح نفسها، وإن البغي هي التي تنكح نفسها. ولكن إن اعتقد هذا نكاحًا جائزًا كان الوطء فيه وطء شبهة، يلحق الولد فيه، ويرث أباه. وأما العقوبة فإنهما يستحقان العقوبة على مثل هذا العقد.
سئل عن رجل تزوج مصافحة وقعدت معه أياما فطلع لها زوج آخر

وسئل رحمه الله عن رجل تزوج مصافحة وقعدت معه أيامًا، فطلع لها زوج آخر، فحمل الزوج والزوجة وزوجها الأول، فقال لها: تريدين الأول، أو الثاني؟ فقالت: ما أريد إلا الزوج الثاني، فطلقها الأول، ورسم للزوجة أن توفي عدته، وتم معها الزوج: فهل يصح ذلك لها، أم لا؟

فأجاب:

إذا تزوجت بالثاني قبل أن توفي عدة الأول، وقد فارقها الأول؛ إما لفساد نكاحه، وإما لتطليقه لها، وإما لتفريق الحاكم بينهما، فنكاحها فاسد، تستحق العقوبة، هي، وهو، ومن زوجها، بل عليها أن تتم عدة الأول، ثم إن كان الثاني قد وطئها اعتدت له عدة أخري؛ فإذا انقضت العدتان تزوجت حينئذ بمن شاءت؛ بالأول، أو بالثاني، أو غيرهما.
سئل عن أمة متزوجة وسافر زوجها وباعها سيدها وشرط أن لها زوجا

وسئل رحمه الله عن أمة متزوجة، وسافر زوجها وباعها سيدها، وشرط أن لها زوجًا فقعدت عند الذي اشتراها أيامًا؛ فأدركه الموت فأعتقها، فتزوجت، ولم يعلم أن لها زوجًا، فلما جاء زوجها الأول من السفر أعطي سيدها الذي باعها الكتاب لزوجها الذي جاء من السفر، والكتاب بعقد صحيح شرعي: فهل يصح العقد بكتاب الأول؟ أو الثاني؟

فأجاب:

إن كان تزوجها نكاحًا شرعيًا؛ إما على قول أبي حنيفة بصحة نكاح الحر بالأمة، وإما على قول مالك والشافعي وأحمد بأن يكون عادمًا للطول، خائفًا من العنت، فنكاحه لا يبطل بعتقها، بل هي زوجته بعد العتق، لكن عند أبي حنيفة في رواية لها الفسخ، فلها أن تفسخ النكاح، فإذا قضت عدته تزوجت بغيره إن شاءت، وعند مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه لا خيار لها، بل هي زوجته؛ ومتى تزوجت قبل أن يفسخ النكاح، فنكاحها باطل باتفاق الأئمة. وأما إن كان نكاحها الأول فاسدًا فإنه يفرق بينهما، وتتزوج من شاءت بعد انقضاء العدة.
سئل عن رجل أقر عند عدول أنه طلق امرأته من مدة تزيد على العدة الشرعية

وسئل رحمه الله عن رجل أقر عند عدول أنه طلق امرأته من مدة تزيد على العدة الشرعية فهل يجوز لهم تزويجها له الآن؟

فأجاب:

الحمد لله، أما إن كان المقر فاسقًا أو مجهولا لم يقبل قوله في إسقاط العدة التي فيها حق الله، وليس هذا إقرارًا محضا على نفسه حتى يقبل من الفاسق بل فيه حق لله، إذ في العدة حق الله، وحق للزوج. وأما إذا كان عدلا غير متهم؛ مثل أن يكون غائبًا فلما حضر أخبرها أنه طلق من مدة كذا وكذا: فهل تعتد من حين بلغها الخبر إذا لم تقم بذلك بينة؟ أو من حين الطلاق، كما لو قامت به بينة؟ فيه خلاف مشهور عن أحمد وغيره، والمشهور عنه هو الثاني. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج بامرأة ولم يدخل بها فولدت بعد شهرين

وسئل عن رجل تزوج بامرأة ولم يدخل بها، ولا أصابها، فولدت بعد شهرين: فهل يصح النكاح؟ وهل يلزمه الصداق، أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، لا يلحق به الولد باتفاق المسلمين، وكذلك لا يستقر عليه المهر باتفاق المسلمين، لكن للعلماء في العقد قولان: أصحهما أن العقد باطل؛ كمذهب مالك وأحمد وغيرهما. وحينئذ فيجب التفريق بينهما، ولا مهر عليه، ولا نصف مهر، ولا متعة، كسائر العقود الفاسدة إذا حصلت الفرقة فيها قبل الدخول، لكن ينبغي أن يفرق بينهما حاكم يري فساد العقد؛ لقطع النزاع.

والقول الثاني: أن العقد صحيح، ثم لا يحل له الوطء حتى تضع؛ كقول أبي حنيفة. وقيل: يجوز له الوطء قبل الوضع؛ كقول الشافعي. فعلى هذين القولين إذا طلقها قبل الدخول فعليه نصف المهر، لكن هذا النزاع إذا كانت حاملا من وطء شبهة أو سيد أو زوج؛ فإن النكاح باطل باتفاق المسلمين؛ ولا مهر عليه إذا فارق قبل الدخول. وأما الحامل من الزنا فلا كلام في صحة نكاحها، والنزاع فيما إذا كان نكحها طائعًا، وأما إذا نكحها مكرهًا فالنكاح باطل في مذهب الشافعي، وأحمد، وغيرهما.
سئل عن رجل ركاض فهل له أن يتزوج في مدة إقامته وإذا سافر طلقها

وسئل رحمه الله عن رجل ركاض يسير في البلاد في كل مدينة شهرًا أو شهرين ويعزل عنها، ويخاف أن يقع في المعصية: فهل له أن يتزوج في مدة إقامته في تلك البلدة، وإذا سافر طلقها وأعطاها حقها، أو لا؟ وهل يصح النكاح أم لا؟

فأجاب:

له أن يتزوج، لكن ينكح نكاحًا مطلقًا لا يشترط فيه توقيتًا بحيث يكون إن شاء مسكها وإن شاء طلقها. وإن نوي طلاقها حتمًا عند انقضاء سفره كره في مثل ذلك. وفي صحة النكاح نزاع، ولو نوى أنه إذا سافر وأعجبته أمسكها وإلا طلقها جاز ذلك. فأما أن يشترط التوقيت فهذا نكاح المتعة الذي اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على تحريمه، وإن كان طائفة يرخصون فيه: إما مطلقًا، وإما للمضطر، كما قد كان ذلك في صدر الإسلام، فالصواب أن ذلك منسوخ، كما ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ بعد أن رخص لهم في المتعة عام الفتح قال: (إن الله قد حرم المتعة إلى يوم القيامة)، والقرآن قد حرم أن يطأ الرجل إلا زوجة أو مملوكته بقوله: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } [37]، وهذه المستمتع بها ليست من الأزواج، ولا ما ملكت اليمين؛ فإن الله قد جعل للأزواج أحكامًا: من الميراث، والاعتداد بعد الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وعدة الطلاق ثلاثة قروء، ونحو ذلك من الأحكام التي لا تثبت في حق المستمتع بها، فلو كانت زوجة لثبت في حقها هذه الأحكام؛ ولهذا قال من قال من السلف: إن هذه الأحكام نسخت المتعة. وبسط هذا طويل، وليس هذا موضعه.

وإذا اشترط الأجل قبل العقد فهو كالشرط المقارن في أصح قولي العلماء، وكذلك في نكاح المحلل. وأما إذا نوي الزوج الأجل ولم يظهره للمرأة، فهذا فيه نزاع: يرخص فيه أبو حنيفة والشافعي، ويكرهه مالك وأحمد وغيرهما، كما أنه لو نوي التحليل كان ذلك مما اتفق الصحابة على النهي عنه، وجعلوه من نكاح المحلل، لكن نكاح المحلل شر من نكاح المتعة؛ فإن نكاح المحلل لم يبح قط، إذ ليس مقصود المحلل أن ينكح، وإنما مقصوده أن يعيدها إلى المطلق قبله، فهو يثبت العقد ليزيله، وهذا لا يكون مشروعًا بحال، بخلاف المستمتع فإن له غرضًا في الاستمتاع، لكن التأجيل يخل بمقصود النكاح من المودة والرحمة والسكن، ويجعل الزوجة بمنزلة المستأجرة، فلهذا كانت النية في نكاح المتعة أخف من النية في نكاح المحلل، وهو يتردد بين كراهة التحريم وكراهة التنزيه.

وأما العزل فقد حرمه طائفة من العلماء، لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز بإذن المرأة. والله أعلم.
سئل عمن قال إن المرأة المطلقة إذا وطئها الرجل في الدبر تحل لزوجها

وسئل رحمه الله تعالى عمن قال: إن المرأة المطلقة إذا وطئها الرجل في الدبر تحل لزوجها: هل هو صحيح، أم لا؟

فأجاب:

هذا قول باطل، مخالف لأئمة المسلمين المشهورين وغيرهم من أئمة المسلمين؛ فإن النبي ﷺ قال للمطلقة ثلاثًا: (لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)، وهذا نص في أنه لابد من العسيلة. وهذا لا يكون بالدبر، ولا يعرف في هذا خلاف. وأما ما يذكر عن بعض المالكية وهم يطعنون في أن يكون هذا قولا وما يذكر عن سعيد بن المسيب من عدم اشتراط الوطء، فذاك لم يذكر فيه وطء الدبر، وهو قول شاذ صحت السنة بخلافه، وانعقد الإجماع قبله وبعده.
نكاح الزانية

وقال الشيخ رحمه الله:

نكاح الزانية حرام حتى تتوب، سواء كان زنى بها هو أو غيره. هذا هو الصواب بلا ريب، وهو مذهب طائفة من السلف والخلف منهم أحمد بن حنبل وغيره وذهب كثير من السلف والخلف إلى جوازه، وهو قول الثلاثة، لكن مالك يشترط الاستبراء، وأبو حنيفة يجوز العقد قبل الاستبراء إذا كانت حاملا، لكن إذا كانت حاملا لا يجوز وطؤها حتى تضع، والشافعي يبيح العقد والوطء مطلقًا؛ لأن ماء الزاني غير محترم، وحكمه لا يلحقه نسبه. هذا مأخذه. وأبو حنيفة يفرق بين الحامل وغير الحامل؛ فان الحامل إذا وطئها استلحق ولدا ليس منه قطعًا، بخلاف غير الحامل.

ومالك وأحمد يشترطان الاستبراء وهو الصواب، لكن مالك وأحمد في رواية يشترطان الاستبراء بحيضة، والرواية الأخرى عن أحمد هي التي عليها كثير من أصحابه كالقاضي أبي يعلى وأتباعه أنه لابد من ثلاث حيض، والصحيح أنه لا يجب إلا الاستبراء فقط؛ فإن هذه ليست زوجة يجب عليها عدة، وليست أعظم من المستبرأة التي يلحق ولدها سيدها، وتلك لا يجب عليها إلا الاستبراء، فهذه أولي. وإن قدر أنها حرة كالتي أعتقت بعد وطء سيدها وأريد تزويجها إما من المعتق وإما من غيره فإن هذه عليها استبراء عند الجمهور، ولا عدة عليها. وهذه الزانية ليست كالموطوءة بشبهة التي يلحق ولدها بالواطئ، مع أن في إيجاب العدة على تلك نزاعًا.

وقد ثبت بدلالة الكتاب وصريح السنة وأقوال الصحابة: أن المختلعة ليس عليها إلا الاستبراء بحيضة، لا عدة كعدة المطلقة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقول عثمان بن عفان، وابن عباس، وابن عمر في آخر قوليه. وذكر مكي: أنه إجماع الصحابة، وهو قول قبيصة بن ذؤيب، وإسحاق بن راهويه، وابن المنذر، وغيرهم من فقهاء الحديث. وهذا هو الصحيح كما قد بسطنا الكلام على هذا في موضع آخر. فإذا كانت المختلعة لكونها ليست مطلقة ليس عليها عدة المطلقة بل الاستبراء ويسمى الاستبراء عدة فالموطوءة بشبهة أولي، والزانية أولى.

وأيضًا، فالمهاجرة من دار الكفر كالممتحنة التي أنزل الله فيها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } الآية [38]. قد ذكرنا في غير هذا الموضع الحديث المأثور فيها، وأن ذلك كان يكون بعد استبرائها بحيضة، مع أنها كانت مزوجة، لكن حصلت الفرقة بإسلامها واختيارها فراقه، لا بطلاق منه. وكذلك قوله: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [24]، فكانوا إذا سبوا المرأة أبيحت بعد الاستبراء، والمسبية ليس عليها إلا الاستبراء بالسنة واتفاق الناس، وقد يسمي ذلك عدة. وفي السنن في حديث بريرة لما أعتقت: أن النبي ﷺ أمر أن تعتد؛ فلهذا قال من قال من أهل الظاهر كابن حزم: إن من ليست بمطلقة تستبرأ بحيضة إلا هذه، وهذا ضعيف؛ فإن لفظ تعتد في كلامهم يراد به الاستبراء، كما ذكرنا سو هذه، وقد روي ابن ماجه عن عائشة: أن النبي ﷺ أمرها أن تعتد بثلاث حيض، فقال: كذا، لكن هذا حديث معلول.

أما أولا، فإن عائشة قد ثبت عنها من غير وجه أن العدة عندها ثلاثة أطهار، وأنها إذا طعنت في الحيضة الثالثة حلت، فكيف تروي عن النبي ﷺ أنه أمرها أن تعتد بثلاث حيض؟ والنزاع بين المسلمين من عهد الصحابة إلى اليوم في العدة: هل هي ثلاث حيض، أو ثلاث أطهار؟ وما سمعنا أحدًا من أهل العلم احتج بهذا الحديث على أنها ثلاث حيض، ولو كان لهذا أصل عن عائشة، لم يخف ذلك على أهل العلم قاطبة. ثم هذه سنة عظيمة تتوافر الهمم والدواعي على معرفتها؛ لأن فيها أمرين عظيمين:

أحدهما: أن المعتقة تحت عبد تعتد بثلاث حيض.

والثاني: أن العدة ثلاث حيض.

وأيضًا فلو ثبت ذلك كان يحتج به من يري أن المعتقة إذا اختارت نفسها كان ذلك طلقة بائنة كقول مالك وغيره وعلى هذا، فالعدة لا تكون إلا من طلاق، لكن هذا أيضًا قول ضعيف. والقرآن والسنة والاعتبار يدل على أن الطلاق لا يكون إلا رجعيًا، وأن كل فرقة مباينة، فليست من الطلقات الثلاث حتى الخلع، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا الكلام في نكاح الزانية، وفيه مسألتان:

إحداهما: في استبرائها، وهو عدتها، وقد تقدم قول من قال: لا حرمة لماء الزاني. يقال له: الاستبراء، لم يكن لحرمة ماء الأول، بل لحرمة ماء الثاني؛ فإن الإنسان ليس له أن يستلحق ولدًا ليس منه، وكذلك إذا لم يستبرئها وكانت قد علقت من الزاني. وأيضًا ففي استلحاق الزاني ولده إذا لم تكن المرأة فراشًا قولان لأهل العلم، والنبي ﷺ قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، فجعل الولد للفراش دون العاهر. فإذا لم تكن المرأة فراشًا لم يتناوله الحديث، وعمر ألحق أولادًا ولدوا في الجاهلية بآبائهم. وليس هذا موضع بسط هذه المسألة.

والثانية: أنها لا تحل حتى تتوب؛ وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، والمشهور في ذلك آية النور قوله تعالى: { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [39]، وفي السنن حديث أبي مرثد الغنوي في عناق. والذين لم يعملوا بهذه الآية ذكروا لها تأويلا ونسخًا. أما التأويل: فقالوا: المراد بالنكاح الوطء، وهذا مما يظهر فساده بأدني تأمل.

أما أولا: فليس في القرآن لفظ نكاح إلا ولابد أن يراد به العقد، وإن دخل فيه الوطء أيضًا. فإما أن يراد به مجرد الوطء، فهذا لا يوجد في كتاب الله قط.

وثانيها: أن سبب نزول الآية إنما هو استفتاء النبي ﷺ في التزوج بزانية، فكيف يكون سبب النزول خارجًا من اللفظ؟

الثالث: أن قول القائل: الزاني لا يطأ إلا زانية، أو الزانية لا يطؤها إلا زان، كقوله: الآكل لا يأكل إلا مأكولا، والمأكول لا يأكله إلا آكل، والزوج لا يتزوج إلا بزوجة، والزوجة لا يتزوجها إلا زوج؛ وهذا كلام ينزه عنه كلام الله.

الرابع: أن الزاني قد يستكره امرأة فيطؤها فيكون زانيًا ولا تكون زانية، وكذلك المرأة قد تزني بنائم ومكره على أحد القولين، ولا يكون زانيًا.

الخامس: أن تحريم الزنا قد علمه المسلمون بآيات نزلت بمكة وتحريمه أشهر من أن تنزل هذه الآية بتحريمه.

السادس: قال: { لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } [39]، فلو أريد الوطء لم يكن حاجة إلى ذكر المشرك فإنه زان، وكذلك المشركة إذا زني بها رجل فهي زانية فلا حاجة إلى التقسيم.

السابع: أنه قد قال قبل ذلك: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [40]، فأي حاجة إلى أن يذكر تحريم الزنا بعد ذلك؟

وأما النسخ، فقال سعيد بن المسيب وطائفة: نسخها قوله: { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ } [22]. ولما علم أهل هذا القول أن دعوي النسخ بهذه الآية ضعيف جدًا، ولم يجدوا ما ينسخها، فاعتقدوا أنه لم يقل بها أحد. قالوا: هي منسوخة بالإجماع، كما زعم ذلك أبو على الجبائي وغيره. أما على قول من يري من هؤلاء أن الإجماع ينسخ النصوص كما يذكر ذلك عن عيسي بن أبان وغيره، وهو قول في غاية الفساد مضمونة أن الأمة يجوز لها تبديل دينها بعد نبيها، وأن ذلك جائز لهم، كما تقول النصارى: أبيح لعلمائهم أن ينسخوا من شريعة المسيح ما يرونه؛ وليس هذا من أقوال المسلمين. وممن يظن الإجماع من يقول: الإجماع دل على نص ناسخ لم يبلغنا، ولا حديث إجماع في خلاف هذه الآية وكل من عارض نصا بإجماع وادعي نسخه من غير نص يعارض ذلك النص، فإنه مخطئ في ذلك، كما قد بسط الكلام على هذا في موضع آخر، وبين أن النصوص لم ينسخ منها شيء إلا بنص باق محفوظ عند الأمة. وعلمها بالناسخ الذي العمل به أهم عندها من علمها بالمنسوخ الذي لا يجوز العمل به، وحفظ الله النصوص الناسخة أولى من حفظه المنسوخة.

وقول من قال: هي منسوخة بقوله: { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ } [22]، في غاية الضعف؛ فإن كونها زانية وصف عارض لها، يوجب تحريمًا عارضًا مثل كونها محرمة، ومعتدة، ومنكوحة للغير، ونحو ذلك مما يوجب التحريم إلى غاية، ولو قدر أنها محرمة على التأبيد، لكانت كالوثنية، ومعلوم أن هذه الآية لم تتعرض للصفات التي بها تحرم المرأة مطلقًا أو مؤقتًا؛ وإنما أمر بإنكاح الأيامي من حيث الجملة؛ وهو أمر بإنكاحهن بالشروط التي بينها وكما أنها لا تنكح في العدة والإحرام، لا تنكح حتى تتوب.

وقد احتجوا بالحديث الذي فيه: إن امرأتي لا ترد يد لامس. فقال: (طلقها). فقال: إني أحبها. قال: (فاستمتع بها) الحديث. رواه النسائي، وقد ضعفه أحمد وغيره، فلا تقوم به حجة في معارضة الكتاب والسنة؛ ولو صح لم يكن صريحًا؛ فإن من الناس من يؤول اللامس بطالب المال؛ لكنه ضعيف. لكن لفظ اللامس قد يراد به من مسها بيده، وإن لم يطأها فإن من النساء من يكون فيها تبرج، وإذا نظر إليها رجل أو وضع يده عليها لم تنفر عنه. ولا تمكنه من وطئها. ومثل هذا نكاحها مكروه؛ ولهذا أمره بفراقها، ولم يوجب ذلك عليه؛ لما ذكر أنه يحبها؛ فإن هذه لم تزن، ولكنها مذنبة ببعض المقدمات؛ ولهذا قال: لا ترد يد لامس. فجعل اللمس باليد فقط. ولفظ: اللمس، والملامسة إذا عني بهما الجماع لا يخص باليد، بل إذا قرن باليد فهو كقوله تعالى: { وَلَوْ نَزَّلْنَا عليكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } [41].

وأيضًا، فالتي تزني بعد النكاح ليست كالتي تتزوج وهي زانية؛ فإن دوام النكاح أقوي من ابتدائه. والإحرام والعدة تمنع الابتداء دون الدوام فلو قدر أنه قام دليل شرعي على أن الزانية بعد العقد لا يجب فراقها لكان الزنا كالعدة تمنع الابتداء دون الدوام جمعًا بين الدليلين.

فإن قيل: ما معني قوله: { لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } قيل: المتزوج بها إن كان مسلمًا فهو زان، وإن لم يكن مسلمًا فهو كافر. فإن كان مؤمنًا بما جاء به الرسول من تحريم هذا وفعله فهو زان؛ وإن لم يكن مؤمنًا بما جاء به الرسول فهو مشرك، كما كانوا عليه في الجاهلية كانوا يتزوجون البغايا. يقول: فإن تزوجتم بهن كما كنتم تفعلون من غير اعتقاد تحريم ذلك، فأنتم مشركون، وإن اعتقدتم التحريم فأنتم زناة؛ لأن هذه تمكن من نفسها غير الزوج من وطئها، فيبقي الزوج يطؤها كما يطؤها أولئك، وكل امرأة اشترك في وطئها رجلان فهي زانية؛ فإن الفروج لا تحتمل الاشتراك، بل لا تكون الزوجة إلا محصنة.

ولهذا لما كان المتزوج بالزانية زانيًا كان مذمومًا عند الناس؛ وهو مذموم أعظم مما يذم الذي يزني بنساء الناس؛ ولهذا يقول في الشتمة: سبه بالزاي والقاف. أي قال: يا زوج القحبة، فهذا أعظم ما يتشاتم به الناس؛ لما قد استقر عند المسلمين من قبح ذلك، فكيف يكون مباحًا؟ ولهذا كان قذف المرأة طعنًا في زوجها، فلو كان يجوز له التزوج ببغي لم يكن ذلك طعنًا في الزوج؛ ولهذا قال من قال من السلف: ما بغت امرأة نبي قط. فالله تعالى أباح للأنبياء أن يتزوجوا كافرة، ولم يبح تزوج البغي؛ لأن هذه تفسد مقصود النكاح، بخلاف الكافرة؛ ولهذا أباح الله للرجل أن يلاعن مكان أربعة شهداء إذا زنت امرأته وأسقط عنه الحد بلعانه؛ لما في ذلك من الضرر عليه. وفي الحديث: (لا يدخل الجنة ديوث). والذي يتزوج ببغي هو ديوث، وهذا مما فطر الله على ذمه وعيبه بذلك جميع عباده المؤمنين بل وغير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم، كلهم يذم من تكون امرأته بغيًّا، ويشتم بذلك، ويعير به فكيف ينسب إلى شرع الإسلام إباحة ذلك؟ وهذا لا يجوز أن يأتي به نبي من الأنبياء، فضلا عن أفضل الشرائع؛ بل يجب أن تنزه الشريعة عن مثل هذا القول الذي إذا تصوره المؤمن ولوازمه استعظم أن يضاف مثل هذا إلى الشريعة، ورأي أن تنزيهها عنه أعظم من تنزيه عائشة عما قاله أهل الإفك، وقد أمر الله المؤمنين أن يقولوا: { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [42]، والنبي ﷺ إنما لم يفارق عائشة لأنه لم يصدق ما قيل أولا، ولما حصل له الشك استشار عليا، وزيد بن حارثة، وسأل الجارية؛ لينظر إن كان حقًا فارقها، حتى أنزل الله براءتها من السماء، فذلك الذي ثبت نكاحها. ولم يقل مسلم: إنه يجوز إمساك بغي. وكان المنافقون يقصدون بالكلام فيها الطعن في الرسول، ولو جاز التزوج ببغي لقال: هذا لا حرج على فيه، كما كان النساء أحيانًا يؤذينه حتى يهجرهن، فليس ذنوب المرأة طعنًا، بخلاف بغائها فإنه طعن فيه عند الناس قاطبة، ليس أحد يدفع الذم عمن تزوج بمن يعلم أنها بغية مقيمة على البغاء؛ ولهذا توسل المنافقون إلى الطعن حتى أنزل الله براءتها من السماء، وقد كان سعد بن معاذ لما قال النبي ﷺ: (من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرًا) فقام سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن فقال: أنا أعذرك منه، إن كان من إخواننا من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فأخذت سعد بن عبادة غيرة قالت عائشة: وكان قبل ذلك امرأ صالحًا؛ ولكن أخذته حمية؛ لأن ابن أُبي كان كبير قومه فقال: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير فقال: كذبت، لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. وثار الحيان حتى نزل رسول الله ﷺ. فجعل يسكنهم. فلولا أن ما قيل في عائشة طعن في النبي ﷺ لم يطلب المؤمنون قتل من تكلم بذلك من الأوس والخزرج لقذفه لامرأته؛ ولهذا كان من قذف أم النبي ﷺ يقتل؛ لأنه قدح في نسبه، وكذلك من قذف نساءه يقتل؛ لأنه قدح في دينه وإنما لم يقتلهم النبي ﷺ لأنهم تكلموا بذلك قبل أن يعلم براءتها، وأنها من أمهات المؤمنين اللاتي لم يفارقهن عليه... إذا كان يمكن أن يطلقها فتخرج بذلك من هذه الأمومة في أظهر قولي العلماء؛ فإن فيمن طلقها النبي ﷺ ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره:

أحدها: أنها ليست من أمهات المؤمنين.

والثاني: أنها من أمهات المؤمنين.

والثالث: يفرق بين المدخول بها وغير المدخول بها. والأول أصح؛ لأن النبي ﷺ لما خير نساءه بين الإمساك والفراق وكان المقصود لمن فارقها أن يتزوجها غيره. فلو كان هذا مباحًا لم يكن ذلك قدحًا في دينه.

وبالجملة فهذه المسألة في قلوب المؤمنين أعظم من أن تحتاج إلى كثرة الأدلة؛ فإن الإيمان والقرآن يحرم مثل ذلك، لكن لما كان قد أباح مثل ذلك كثير من علماء المسلمين الذين لا ريب في علمهم ودينهم من التابعين ومن بعدهم وعلو قدرهم بنوع تأويل تأولوه احتيج إلى البسط في ذلك. ولهذا نظائر كثيرة، يكون القول ضعيفًا جدًا، وقد اشتبه أمره على كثير من أهل العلم والإيمان وسادات الناس؛ لأن الله لم يجعل العصمة عند تنازع المسلمين إلا في الرد إلى الكتاب والسنة، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ الذي لا ينطق على الهوى.

فإن قيل: فقد قال: { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ْ } [39]، قيل: هذا يدل على أن الزاني الذي لم يتب لا يجوز أن يتزوج عفيفة، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد؛ فإنه إذا كان يطأ هذه وهذه وهذه كما كان، كان وطؤه لهذه من جنس وطئه لغيرها من الزواني. وقد قال الشعبي: من زوج كريمته من فاجر فقد قطع رحمها.

وأيضًا، فإنه إذا كان يزني بنساء الناس كان هذا مما يدعو المرأة إلى أن تمكن منها غيره، كما هو الواقع كثيرًا، فلم أر من يزني بنساء الناس أو ذكران إلا فيحمل امرأته على أن تزني بغيره مقابلة على ذلك ومغايظة.

وأيضًا، فإذا كان عادته الزنا استغني بالبغايا، فلم يكف امرأته في الإعفاف، فتحتاج إلى الزنا.

وأيضًا، فإذا زني بنساء الناس طلب الناس أن يزنوا بنساءه، كما هو الواقع. فامرأة الزاني تصير زانية من وجوه كثيرة، وإن استحلت ما حرمه الله كانت مشركة؛ وإن لم تزن بفرجها زنت بعينها وغير ذلك، فلا يكاد يعرف في نساء الرجال الزناة المصرين على الزنا الذين لم يتوبوا منه امرأة سليمة سلامة تامة، وطبع المرأة يدعو إلى الرجال الأجانب إذا رأت زوجها يذهب إلى النساء الأجانب، وقد جاء في الحديث: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم). فقوله: { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً } [39]، إما أن يراد أن نفس نكاحه ووطئه لها زنا، أو أن ذلك يفضي إلى زناها. وأما الزانية فنفس وطئها مع إصرارها على الزنا زنا.

وكذلك المحصنات من المؤمنات: الحرائر، وعن ابن عباس هن العفائف. فقد نقل عن ابن عباس تفسير المحصنات بالحرائر. وبالعفائف وهذا حق فنقول: مما يدل على ذلك قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عليكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ عليه وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } [43]. المحصنات قد قال أهل التفسير: هن العفائف، هكذا قال الشعبي، والحسن والنخعي والضحاك، والسدي. وعن ابن عباس: هن الحرائر. ولفظ المحصنات إن أريد به الحرائر، فالعفة داخلة في الإحصان بطريق الأولي؛ فإن أصل المحصنة هي العفيفة التي أحصن فرجها، قال الله تعالى: { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } [44]، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } [45]، وهن العفائف، قال حسان بن ثابت:

حصان رزان ما تزن بريبة ** وتصبح غرثي من لحوم الغوافل

ثم عادة العرب أن الحرة عندهم لا تعرف بالزنا، وإنما تعرف بالزنا الإماء؛ ولهذا لما بايع النبي ﷺ هند امرأة أبي سفيان على ألا تزني قالت: أو تزني الحرة؟ فهذا لم يكن معروفًا عندهم. والحرة خلاف الأمة صارت في عرف العامة أن الحرة هي العفيفة؛ لأن الحرة التي ليست أمة كانت معروفة عندهم بالعفة، وصار لفظ الإحصان يتناول الحرية مع العفة؛ لأن الإماء لم يكن عفائف، وكذلك الإسلام هو ينهي عن الفحشاء والمنكر وكذلك المرأة المتزوجة زوجها يحصنها؛ لأنها تستكفي به، ولأنه يغار عليها، فصار لفظ الإحصان يتناول: الإسلام، والحرية، والنكاح. وأصله إنما هو العفة؛ فإن العفيفة هي التي أحصن فرجها من غير صاحبها، كالمحصن الذي يمتنع من غير أهله، وإذا كان الله إنما أباح من المسلمين وأهل الكتاب نكاح المحصنات، والبغايا لسن محصنات فلم يبح الله نكاحهن.

ومما يدل على ذلك قوله: { آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } [46]، والمسافح الزاني الذي يسفح ماءه مع هذه وهذه وكذلك المسافحة والمتخذة الخدن الذي تكون له صديقة يزني بها دون غيره فشرط في الحل أن يكون الرجل غير مسافح، ولا متخذ خدن. فإذا كانت المرأة بغيًا وتسافح هذا وهذا، لم يكن زوجها محصنا لها عن غيره؛ إذ لو كان محصنًا لها كانت محصنة، وإذا كانت مسافحة لم تكن محصنة. والله إنما أباح النكاح إذا كان الرجال محصنين غير مسافحين، وإذا شرط فيه ألا يزني بغيرها فلا يسفح ماءه مع غيرها كان أبلغ، وأبلغ. وقال أهل اللغة: السفاح: الزنا. قال ابن قتيبة { مٍحًصٌنٌينّ } أي: متزوجين { غَيْرَ مُسَافِحِينَ }. قال: وأصله من سفحت القربة إذا صببتها، فسمي الزنا سفاحًا؛ لأنه يصب النطفة، وتصب المرأة النطفة. وقال ابن فارس: السفاح: صب الماء بلا عقد ولا نكاح، فهي التي تسفح ماءها. وقال الزجاج: { مُحْصِنِينَ }: أي عاقدين التزوج. وقال غيرهما: متعففين غير زانين، وكذلك قال في النساء: { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } [24]، ففي هاتين الآيتين اشترط أن يكون الرجال محصنين غير مسافحين بكسر الصاد. والمحصن هو الذي يحصن غيره؛ ليس هو المحصن بالفتح الذي يشترط في الحد. فلم يبح إلا تزوج من يكون محصنًا للمرأة غير مسافح، ومن تزوج ببغي مع بقائها على البغاء ولم يحصنها من غيره بل هي كما كانت قبل النكاح تبغي مع غيره فهو مسافح بها لا محصن لها. وهذا حرام بدلالة القرآن.

فإن قيل: إنما أراد بذلك أنك تبتغي بمالك النكاح لا تبتغي به السفاح فتعطيها المهر على أن تكون زوجتك ليس لغيرك فيها حق، بخلاف ما إذا أعطيتها على أنها مسافحة لمن تريد، وأنها صديقة لك تزني بك دون غيرك، فهذا حرام؟

قيل: فإذا كان النكاح مقصوده أنها تكون له، لا لغيره، وهي لم تتب من الزنا، لم تكن موفية بمقتضي العقد؟

فإن قيل: فإنه يحصنها بغير اختيارها، فيسكنها حيث لا يمكنها الزنا.

قيل: أما إذا أحصنها بالقهر فليس هو بمثل الذي يمكنها من الخروج إلى الرجال، ودخول الرجال إليها؛ لكن قد عرف بالعادات والتجارب أن المرأة إذا كانت لها إرادة في غير الزوج احتالت إلى ذلك بطرق كثيرة وتخفي على الزوج، وربما افسدت عقل الزوج بما تطعمه، وربما سحرته أيضًا، وهذا كثير موجود: رجال أطعمهم نساؤهم، وسحرتهم نساؤهم، حتى يمكن المرأة أن تفعل ما شاءت. وقد يكون قصدها مع ذلك ألا يذهب هو إلى غيرها، فهي تقصد منعه من الحلال، أو من الحرام والحلال. وقد تقصد أن يمكنها أن تفعل ما شاءت فلا يبقي محصنا لها قوامًا عليها، بل تبقي هي الحاكمة عليه. فإذا كان هذا موجودًا فيمن تزوجت ولم تكن بغيًا، فكيف بمن كانت بغيًا؟ والحكايات في هذا الباب كثيرة. وياليتها مع التوبة يلزم معه دوام التوبة، فهذا إذا أبيح له نكاحها، وقيل له: أحصنها، واحتفظ أمكن ذلك. أما بدون التوبة، فهذا متعذر أو متعسر.

ولهذا تكلموا في توبتها فقال ابن عمر وأحمد بن حنبل: يراودها على نفسها. فإن أجابته كما كانت تجيبه لم تتب. وقالت طائفة منهم أبو محمد: لا يراودها؛ لأنها قد تكون تابت فإذا راودها نقضت التوبة؛ ولأنه يخاف عليه إذا راودها أن يقع في ذنب معها. والذين اشترطوا امتحانها قالوا: لا يعرف صدق توبتها بمجرد القول، فصار كقوله: { إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } [38]، والمهاجر قد يتناول التائب، قال النبي ﷺ: (المهاجر من هجر ما نهي الله عنه، والمهاجر من هجر السوء) فهذه إذا ادعت أنها هجرت السوء امتحنت على ذلك، وبالجملة لابد أن يغلب على قلبه صدق توبتها.

وقوله تعالى: { وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ }، حرم به أن يتخذ صديقة في السر تزني معه لا مع غيره، وقد قال سبحانه في آية الإماء: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعليهنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } [35]، فذكر في الإماء، محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان، وأما الحرائر، فاشترط فيهن أن يكون الرجال محصنين غير مسافحين، وذكر في المائدة: { وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } [46]، لما ذكر نساء أهل الكتاب، وفي النساء لم يذكر إلا غير مسافحين؛ وذلك أن الإماء كن معروفات بالزنا دون الحرائر، فاشترط في نكاحهن أن يكن محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان، فدل ذلك أيضًا على أن الأمة التي تبغي لا يجوز تزوجها إلا إذا تزوجها على أنها محصنة يحصنها زوجها، فلا تسافح الرجال ولا تتخذ صديقًا. وهذا من أبين الأمور في تحريم نكاح الأمة الفاجرة مع ما تقدم.

وقد روي عن ابن عباس: { الْمُحْصَنَاتِ } عفائف غير زوان. { وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } يعني أخلاء: كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي. وعنه رواية أخري: المسافحات. المعلنات بالزنا، والمتخذات أخدان: ذوات الخليل الواحد. قال بعض المفسرين: كانت المرأة تتخذ صديقًا تزني معه ولا تزني مع غيره. فقد فسر ابن عباس هو وغيره من السلف المحصنات بالعفائف وهو كما قالوا وذكروا أن الزنا في الجاهلية كان نوعين: نوعًا مشتركًا، ونوعًا مختصًا. والمشترك ما يظهر في العادة؛ بخلاف المختص فإنه مستتر في العادة. ولما حرم الله المختص وهو شبيه بالنكاح؛ فإن النكاح تختص فيه المرأة بالرجل، وجب الفرق بين النكاح الحلال والحرام من اتخاذ الأخدان؛ فإن هذه إذا كان يزني بها وحدها لم يعرف أنها لم يطأها غيره، ولم يعرف أن الولد الذي تلده منه، ولا يثبت لها خصائص النكاح.

فلهذا كان عمر بن الخطاب يضرب على نكاح السر، فإن نكاح السر من جنس اتخاذ الأخدان شبيه به، لا سيما إذا زوجت نفسها بلا ولي ولا شهود وكتما ذلك، فهذا مثل الذي يتخذ صديقة ليس بينهما فرق ظاهر معروف عند الناس يتميز به عن هذا، فلا يشاء من يزني بامرأة صديقة له إلا قال: تزوجتها. ولا يشاء أحد أن يقول لمن تزوج في السر: إنه يزني بها إلا قال ذلك، فلابد أن يكون بين الحلال والحرام فرق مبين. قال الله تعالى: { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } [47]، وقال تعالى: { وَقَدْ فصل لَكُم مَّا حَرَّمَ عليكُمْ } [48]، فإذا ظهر للناس أن هذه المرأة قد أحصنها تميزت عن المسافحات والمتخذات أخدانا، وإذا كان يمكنها أن تذهب إلى الأجانب لم تتميز المحصنات، كما أنه إذا كتم نكاحها فلم يعلم به أحد لم تتميز من المتخذات أخدانا. وقد اختلف العلماء فيما يتميز به هذا عن هذا، فقيل: الواجب الإعلان فقط سواء أشهد أو لم يشهد، كقول مالك وكثير من فقهاء الحديث وأهل الظاهر وأحمد في رواية. وقيل: الواجب الإشهاد سواء أعلن أو لم يعلن، كقول أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد. وقيل: يجب الأمران وهو الرواية الثالثة عن أحمد. وقيل: يجب أحدهما وهو الرواية الرابعة عن أحمد.

واشتراط الإشهاد وحده ضعيف، ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، فإنه لم يثبت عن النبي ﷺ فيه حديث. ومن الممتنع أن يكون الذي يفعله المسلمون دائمًا له شروط لم يبينها رسول الله ﷺ، وهذا مما تعم به البلوي، فجميع المسلمين يحتاجون إلى معرفة هذا. وإذا كان هذا شرطًا كان ذكره أولى من ذكر المهر وغيره مما لم يكن له ذكر في كتاب الله ولا حديث ثابت عن رسول الله ﷺ، فتبين أنه ليس مما أوجبه الله على المسلمين في مناكحهم. قال أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الحديث: لم يثبت عن النبي ﷺ في الإشهاد على النكاح شيء، ولو أوجبه لكان الإيجاب إنما يعرف من جهة النبي ﷺ، وكان هذا من الأحكام التي يجب إظهارها وإعلانها، فاشتراط المهر أولي؛ فإن المهر لا يجب تقديره في العقد بالكتاب والسنة والإجماع، ولو كان قد أظهر ذلك لنقل ذلك عن الصحابة، ولم يضيعوا حفظ ما لابد للمسلمين عامة من معرفته، فإن الهمم والدواعي تتوافر على نقل ذلك، والذي يأمر بحفظ ذلك وهم قد حفظوا نهيه عن نكاح الشغار، ونكاح المحرم، ونحو ذلك من الأمور التي تقع قليلا فكيف النكاح بلا إشهاد إذا كان الله ورسوله قد حرمه وأبطله كيف لا يحفظ في ذلك نص عن رسول الله ﷺ؟ بل لو نقل في ذلك شيء من أخبار الآحاد، لكان مردودًا عند من يري مثل ذلك؛ فإن هذا من أعظم ما تعم به البلوى أعظم من البلوى بكثير من الأحكام، فيمتنع أن يكون كل نكاح للمسلمين لا يصح إلا بإشهاد، وقد عقد المسلمون من عقود الأنكحة ما لا يحصيه إلا رب السموات؛ فعلم أن اشتراط الإشهاد دون غيره باطل قطعًا؛ ولهذا كان المشترطون للإشهاد مضطربين اضطرابًا يدل على فساد الأصل، فليس لهم قول يثبت على معيار الشرع، إذا كان فيهم من يجوزه بشهادة فاسقين، والشهادة التي لا تجب عندهم قد أمر الله فيها بإشهاد ذوي العدل، فكيف بالإشهاد الواجب؟ !.

ثم من العجب أن الله أمر بالإشهاد في الرجعة ولم يأمر به في النكاح، ثم يأمرون به في النكاح ولا يوجبه أكثرهم في الرجعة. والله أمر بالإشهاد في الرجعة؛ لئلا ينكر الزوج ويدوم مع امرأته، فيفضي إلى إقامته معها حراما، ولم يأمر بالإشهاد على طلاق لا رجعة معه. لأنه حنيئذ يسرحها بإحسان عقيب العدة فيظهر الطلاق. ولهذا قال يزيد بن هارون مما يعيب به أهل الرأي: أمر الله بالإشهاد في البيع دون النكاح، وهم أمروا به في النكاح دون البيع. وهو كما قال. والإشهاد في البيع إما واجب وإما مستحب، وقد دل القرآن والسنة على أنه مستحب. وأما النكاح فلم يرد الشرع فيه بإشهاد واجب ولا مستحب، وذلك أن النكاح أمر فيه بالإعلان فأغني إعلانه مع دوامه عن الإشهاد، فإن المرأة تكون عند الرجل والناس يعلمون أنها امرأته، فكان هذا الإظهار الدائم مغنيا عن الإشهاد كالنسب؛ فإن النسب لا يحتاج إلى أن يشهد فيه أحدا على ولادة امرأته، بل هذا يظهر ويعرف أن امرأته ولدت هذا فأغني هذا عن الإشهاد، بخلاف البيع، فإنه قد يجحد ويتعذر إقامة البينة عليه؛ ولهذا إذا كان النكاح في موضع لا يظهر فيه كان إعلانه بالإشهاد، فالإشهاد قد يجب في النكاح؛ لأنه به يعلن ويظهر؛ لا لأن كل نكاح لا ينعقد إلا بشاهدين، بل إذا زوجه وليته ثم خرجا فتحدثا بذلك وسمع الناس، أو جاء الشهود والناس بعد العقد فأخبروهم بأنه تزوجها، كان هذا كافيا. وهكذا كانت عادة السلف، لم يكونوا يكلفون إحضار شاهدين، ولا كتابة صداق.

ومن القائلين بالإيجاب من اشتراط شاهدين مستورين، وهو لا يقبل عند الأداء إلا من تعرف عدالته، فهذا أيضا لا يحصل به المقصود. وقد شذ بعضهم فأوجب من يكون معلوم العدالة، وهذا مما يعلم فساده قطعا، فإن أنكحة المسلمين لم يكونوا يلتزمون فيها هذا. وهذه الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد على قوله باشتراط الشهادة. فقيل: يجزئ فاسقان، كقول أبي حنيفة. وقيل: يجزئ مستوران، وهذا المشهور عن مذهبه، ومذهب الشافعي. وقيل: في المذهب لابد من معروف العدالة. وقيل: بل إن عقد حاكم فلا يعقده إلا بمعروف العدالة، بخلاف غيره؛ فإن الحكام هم الذين يميزون بين المبرور والمستور. ثم المعروف العدالة عند حاكم البلد، فهو خلاف ما أجمع المسلمون عليه قديما وحديثا، حيث يعقدون الأنكحة فيما بينهم، والحاكم بينهم والحاكم لا يعرفهم. وإن اشترطوا من يكون مشهورا عندهم بالخير فليس من شرط العدل المقبول الشهادة أن يكون كذلك. ثم الشهود يموتون وتتغير أحوالهم، وهم يقولون: مقصود الشهادة إثبات الفراش عند التجاحد، حفظا لنسب الولد. فيقال: هذا حاصل بإعلان النكاح، ولا يحصل بالإشهاد مع الكتمان مطلقا. فالذي لا ريب فيه أن النكاح مع الإعلان يصح، وإن لم يشهد شاهدان. وأما مع الكتمان والإشهاد فهذا مما ينظر فيه. وإذا اجتمع الإشهاد والإعلان، فهذا الذي لا نزاع في صحته. وإن خلا عن الإشهاد والإعلان، فهو باطل عند العامة؛فإن قدر فيه خلاف فهو قليل. وقد يظن أن في ذلك خلافا في مذهب أحمد، ثم يقال: بما يميز هذا عن المتخذات أخدانا. وفي المشترطين للشهادة من أصحاب أبي حنيفة من لا يعلل ذلك بإثبات الفراش، لكن كان المقصود حضور اثنين تعظيما للنكاح. وهذا يعود إلى مقصود الإعلان. وإذا كان الناس ممن يجهل بعضهم حال بعض، ولا يعرف من عنده هل هي امرأته أو خدينه، مثل الأماكن التي يكثر فيها الناس المجاهيل، فهذا قد يقال: يجب الإشهاد هنا.

ولم يكن الصحابة يكتبون صداقات؛ لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر، بل يعجلون المهر، وإن أخروه فهو معروف، فلما صار الناس يتزوجون على المؤخر والمدة تطول وينسي، صاروا يكتبون المؤخر، وصار ذلك حجة في إثبات الصداق، وفي أنها زوجة له، لكن هذا الإشهاد يحصل به المقصود، سواء حضر الشهود العقد أو جاؤوا بعد العقد فشهدوا على إقرار الزوج والزوجة والولي وقد علموا أن ذلك نكاح قد أعلن، وإشهادهم عليه من غير تواص بكتمانه إعلان.

وهذا بخلاف الولي، فإنه قد دل عليه القرآن في غير موضع والسنة في غير موضع، وهو عادة الصحابة، إنما كان يزوج النساء الرجال، لا يعرف أن امرأة تزوج نفسها. وهذا مما يفرق فيه بين النكاح ومتخذات أخدان؛ ولهذا قالت عائشة: لا تزوج المرأة نفسها؛ فإن البغي هي التي تزوج نفسها. لكن لا يكتفي بالولي حتىيعلن، فإن من الأولياء من يكون مستحسنا على قرابته قال الله تعالى: { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } [22]، وقال تعالى: { وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ } [36]، فخاطب الرجال بإنكاح الأيامي، كما خاطبهم بتزويج الرقيق. وفرق بين قوله تعالى: { وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ }، وقوله: { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ } [36]. وهذا الفرق مما احتج به بعض السلف من أهل البيت.

وأيضًا، فإن الله أوجب الصداق في غير هذا الموضع، ولم يوجب الإشهاد. فمن قال: إن النكاح يصح مع نفي المهر، ولا يصح إلا مع الإشهاد، فقد أسقط ما أوجبه الله، وأوجب ما لم يوجبه الله.

وهذا مما يبين أن قول المدنيين وأهل الحديث أصح من قول الكوفيين في تحريمهم نكاح الشغار وأن علة ذلك إنما هو نفي المهر، فحيث يكون المهر، فالنكاح صحيح، كما هو قول المدنيين، وهو نص الروايتين، وأصحهما عن أحمد بن حنبل، واختيار قدماء أصحابه.

وهذا وأمثاله مما يبين رجحان أقوال أهل الحديث والأثر وأهل الحجاز كأهل المدينة على ما خالفها من الأقوال التي قيلت برأي يخالف النصوص، لكن الفقهاء الذين قالوا برأي يخالف النصوص بعد اجتهادهم واستفراغ وسعهم رضي الله عنهم قد فعلوا ما قدروا عليه من طلب العلم واجتهدوا، والله يثيبهم، وهم مطيعون للّه سبحانه في ذلك، والله يثيبهم على اجتهادهم، فآجرهم الله على ذلك. وإن كان الذين علموا ما جاءت به النصوص أفضل ممن خفيت عليه النصوص، وهؤلاء لهم أجران، وأولئك لهم أجر، كما قال تعالى: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } [49]

ومن تدبر نصوص الكتاب والسنة وجدها مفسرة لأمر النكاح، لا تشترط فيه ما يشترطه طائفة من الفقهاء، كما اشترط بعضهم: ألا يكون إلا بلفظ الإنكاح والتزويج. واشترط بعضهم أن يكون بالعربية، واشترط هؤلاء وطائفة ألا يكون إلا بحضرة شاهدين. ثم إنهم مع هذا صححوا النكاح مع نفي المهر. ثم صاروا طائفتين: طائفة تصحح نكاح الشغار؛ لأنه لا مفسد له إلا نفي المهر، وذلك ليس بمفسد عندهم. وطائفة تبطله، وتعلل ذلك بعلل فاسدة؛ كما قد بسطناه في مواضع. وصححوا نكاح المحلل الذي يقصد التحليل، فكان قول أهل الحديث وأهل المدينة الذين لم يشترطوا لفظا معينا في النكاح ولا إشهاد شاهدين مع إعلانه وإظهاره، وأبطلوا نكاح الشغار، وكل نكاح نفي فيه المهر، وأبطلوا نكاح المحلل... أشبه بالكتاب والسنة وآثار الصحابة.

ثم إن كثيرا من أهل الرأي الحجازي والعراقي وسعوا باب الطلاق فأوقعوا طلاق السكران، والطلاق المحلوف به، وأوقع هؤلاء طلاق المكره، وهؤلاء الطلاق المشكوك فيه فيما حلف به، وجعلوا الفرقة البائنة طلاقا محسوبا من الثلاث، فجعلوا الخلع طلاقا بائنا محسوبا من الثلاث. إلى أمور أخرى وسعوا به الطلاق الذي يحرم الحلال، وضيقوا النكاح الحلال. ثم لما وسعوا الطلاق صار هؤلاء يوسعون في الاحتيال في عود المرأة إلى زوجها، وهؤلاء لا سبيل عندهم إلى ردها، فكان هؤلاء في آصار وأغلال، وهؤلاء في خداع واحتيال. ومن تأمل الكتاب والسنة وآثار الصحابة تبين له أن الله أغني عن هذا، وأن الله بعث محمدا بالحنيفية السمحة التي أمر فيها بالمعروف ونهي عن المنكر، وأحل الطيبات وحرم الخبائث والله سبحانه أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
سئل عن بنت الزنا هل تزوج بأبيها

وسئل شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله عن بنت الزنا: هل تزوج بأبيها؟

فأجاب:

الحمد للّه، مذهب الجمهور من العلماء أنه لا يجوز التزويج بها، وهو الصواب المقطوع به؛ حتى تنازع الجمهور: هل يقتل من فعل ذلك؟ على قولين. والمنقول عن أحمد: أنه يقتل من فعل ذلك. فقد يقال: هذا إذا لم يكن متأولا. وأما المتأول فلا يقتل، وإن كان مخطئا. وقد يقال: هذا مطلقا، كما قاله الجمهور: إنه يجلد من شرب النبيذ المختلف فيه متأولا، وإن كان مع ذلك لا يفسق عند الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وفسقه مالك وأحمد في الرواية الأخري. والصحيح: أن المتأول المعذور لا يفسق، بل ولا يأثم. وأحمد لم يبلغه أن في هذه المسألة خلافا؛ فإن الخلاف فيها إنما ظهر في زمنه، لم يظهر في زمن السلف، فلهذا لم يعرفه.

والذين سوغوا نكاح البنت من الزنا، حجتهم في ذلك أن قالوا: ليست هذه بنتا في الشرع، بدليل أنهما لا يتوارثان، ولا يجب نفقتها، ولا يلي نكاحها، ولا تعتق عليه بالملك، ونحو ذلك من أحكام النسب، وإذا لم تكن بنتا في الشرع لم تدخل في آية التحريم، فتبقي داخلة في قوله: { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } [24].

وأما حجة الجمهور فهو أن يقال: قول الله تعالى: { حُرِّمَتْ عليكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الآية [27]، هو متناول لكل من شمله هذا اللفظ، سواء كان حقيقة أو مجازا، وسواء ثبت في حقه التوارث وغيره من الأحكام، أم لم يثبت إلا التحريم خاصة، ليس العموم في آية التحريم كالعموم في آية الفرائض ونحوها؛ كقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } [50] وبيان ذلك من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن آية التحريم تتناول البنت وبنت الابن وبنت البنت، كما يتناول لفظ العمة عمة الأب؛ والأم، والجد وكذلك بنت الأخت، وبنت ابن الأخت، وبنت بنت الأخت، ومثل هذا العموم لا يثبت، لا في آية الفرائض، ولا نحوها من الآيات، والنصوص التي علق فيها الأحكام بالأنساب.

الثاني: إن تحريم النكاح يثبت بمجرد الرضاعة، كما قال النبي ﷺ: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة)، وفي لفظ: (ما يحرم من النسب) وهذا حديث متفق على صحته، وعمل الأئمة به: فقد حرم الله على المرأة أن تتزوج بطفل غذته من لبنها، أو أن تنكح أولاده، وحرم على أمهاتها وعماتها وخالتها، بل حرم على الطفلة المرتضعة من امرأة أن تتزوج بالفحل صاحب اللبن، وهو الذي وطئ المرأة حتى در اللبن بوطئه. فإذا كان يحرم على الرجل أن ينكح بنته من الرضاع، ولا يثبت في حقها شيء من أحكام النسب سوي التحريم وما يتبعها من الحرمة فكيف يباح له نكاح بنت خلقت من مائة؟ وأين المخلوقة من مائة من المتغذية بلبن در بوطئه؟ فهذا يبين التحريم من جهة عموم الخطاب، ومن جهة التنبيه والفحوي، وقياس الأولى.

الثالث: أن الله تعالى قال: { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } [27]، قال العلماء: احتراز عن ابنه الذي تبناه، كما قال: { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } [25]، ومعلوم أنهم في الجاهلية كانوا يستلحقون ولد الزنا أعظم مما يستلحقون ولد المتبني، فإذا كان الله تعالى قيد ذلك بقوله: { مِنْ أَصْلاَبِكُمْ }، علم أن لفظ البنات ونحوها، يشمل كل من كان في لغتهم داخلا في الاسم.

وأما قول القائل: إنه لا يثبت في حقها الميراث، ونحوه. فجوابه أن النسب تتبعض أحكامه، فقد ثبت بعض أحكام النسب دون بعض، كما وافق أكثر المنازعين في ولد الملاعنة على أنه يحرم على الملاعن ولا يرثه. واختلف العلماء في استلحاق ولد الزنا إذا لم يكن فراشا، على قولين. كما ثبت عن النبي ﷺ أنه ألحق ابن وليدة زمعة بن الأسود بن زمعة ابن الأسود، وكان قد أحبلها عتبة بن أبي وقاص، فاختصم فيه سعد وعبد بن زمعة، فقال سعد: ابن أخي، عهد إلى أن ابن وليدة زمعة هذا ابني. فقال عبد: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراش أبي. فقال النبي ﷺ: (هو لك ياعبد بن زمعة. الولد للفراش، وللعاهر الحجر، احتجبي منه ياسودة)؛ لما رأي من شبهه البين بعتبة، فجعله أخاها في الميراث دون الحرمة.

وقد تنازع العلماء في ولد الزنا: هل يعتق بالملك؟ على قولين في مذهب أبي حنيفة وأحمد.

وهذه المسألة لها بسط لا تسعه هذه الورقة. ومثل هذه المسألة الضعيفة ليس لأحد أن يحكيها عن إمام من أئمة المسلمين؛ لا على وجه القدح فيه، ولا على وجه المتابعة له فيها، فإن في ذلك ضربًا من الطعن في الأئمة واتباع الأقوال الضعيفة، وبمثل ذلك صار وزير التتر يلقي الفتنة بين مذاهب أهل السنة حتى يدعوهم إلى الخروج عن السنة والجماعة، ويوقعهم في مذاهب الرافضة وأهل الإلحاد. والله أعلم.
سئل عن رجل زنا بامرأة وقد رأى معها في هذه الأيام بنتا يطلب التزويج بها

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل زنا بامرأة في حال شُبُوبِيَّته، وقد رأي معها في هذه الأيام بنتًا، وهو يطلب التزويج بها، ولم يعلم هل هي منه أو من غيره، وهو متوقف في تزويجها؟

فأجاب:

الحمد لله، لا يحل له التزويج بها عند أكثر العلماء؛ فإن بنت التي زنا بها من غيره لا يحل التزويج بها عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين. وأما بنته من الزنا فأغلظ من ذلك، وإذا اشتبهت عليه بغيرها حرمتا عليه.
سئل عمن زنا بامرأة وحملت منه فأتت بأنثى فهل له أن يتزوج البنت

وسئل رحمه الله تعالى عمن زنا بامرأة؛ وحملت منه فأتت بأنثى: فهل له أن يتزوج البنت؟

فأجاب:

الحمد لله، لا يحل ذلك عند جماهير العلماء، ولم يحل ذلك أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ ولهذا لم يعرف أحمد بن حنبل وغيره من العلماء مع كثرة اطلاعهم في ذلك نزاعًا بين السلف، فأفتي أحمد بن حنبل: إن فعل ذلك قتل. فقيل له: إنه حكي فلان في ذلك خلافًا عن مالك. فقال: يكذب فلان. وذكر أن ولد الزنا يلحق بأبيه الزاني إذا استلحقه عند طائفة من العلماء، وأن عمر بن الخطاب ألاط أي: ألحق أولاد الجاهلية بآبائهم، والنبي ﷺ قال: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر)، هذا إذا كان للمرأة زوج. وأما البغي التي لا زوج لها، ففي استلحاق الزاني ولده منها نزاع.

وبنت الملاعنة لا تباح للملاعن عند عامة العلماء، وليس فيه إلا نزاع شاذ، مع أن نسبها ينقطع من أبيها، ولكن لو استلحقها للحقته، وهما لا يتوارثان باتفاق الأئمة. وهذا لأن النسب تتبعض أحكامه، فقد يكون الرجل ابنًا في بعض الأحكام دون بعض، فابن الملاعنة ليس بابن؛ لا يرث ولا يورث، وهو ابن في باب النكاح تحرم بنت الملاعنة على الأب.

والله سبحانه وتعالى حرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، فلا يحل للرجل أن يتزوج بنته من الرضاعة ولا أخته، مع أنه لا يثبت في حقها من أحكام النسب لا إرث ولا عقل ولا ولاية ولا نفقة ولا غير ذلك، إنما تثبت في حقها حرمة النكاح، والمحرمية. وأمهات المؤمنين أمهات في الحرمة فقط، لا في المحرمية. فإذا كانت البنت التي أرضعتها امرأته بلبن در بوطئه تحرم عليه وإن لم تكن منسوبة إليه في الميراث وغيره، فكيف بما خلقت من نطفته؟ فإن هذه أشد اتصالا به من تلك، وقوله تعالى في القرآن: { حُرِّمَتْ عليكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الآية [27]، يتناول كل ما يسمي بنتًا، حتى يحرم عليه بنت بنته، وبنت ابنه، بخلاف قوله في الفرائض: { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } [50]، فإن هذا إنما يتناول ولده وولد ابنه، لا يتناول ولد بنته؛ولهذا لما كان لفظ الابن والبنت يتناول ما يسمي بذلك مطلقًا قال الله تعالى: { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } [27]، ليحرز عن الابن المتبني كزيد الذي كان يدعي: زيد بن محمد؛ فإن هذا كانوا يسمونه ابنًا. فلو أطلق اللفظ لظن أنه داخل فيه؛ فقال تعالى: { بَّذٌينّ مٌنً أّصًلابٌكٍمً } ليخرج ذلك. وأباح للمسلمين أن يتزوج الرجل امرأة من تبناه بقوله تعالى: { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } [25].

فإذا كان لفظ الابن والبنت يتناول كل من ينتسب إلى الشخص حتى قد حرم الله بنته من الرضاعة، فبنته من الزنا تسمي بنته، فهي أولى بالتحريم شرعًا، وأولى أن يدخلوها في آية التحريم. وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ومالك وأصحابه، وأحمد بن حنبل وأصحابه، وجماهير أئمة المسلمين.

ولكن النزاع المشهور بين الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الزنا: هل ينشر حرمة المصاهرة، فإذا أراد أن يتزوج بأمها وبنتها من غيره، فهذه فيها نزاع قديم بين السلف. وقد ذهب إلى كل قول كثير من أهل العلم كالشافعي، ومالك في إحدى الروايتين عنه يبيحون ذلك. وأبو حنيفة وأحمد ومالك في الرواية الأخرى يحرمون ذلك. فهذه إذا قلد الإنسان فيها أحد القولين جاز ذلك. والله أعلم.
سئل عمن طلع إلى بيته ووجد عند امرأته رجلا أجنبيا

وسئل رحمه الله تعالى عمن طلع إلى بيته ووجد عند امرأته رجلا أجنبيا، فوفاها حقها، وطلقها، ثم رجع وصالحها، وسمع أنها وجدت بجنب أجنبي؟

فأجاب:

في الحديث عنه ﷺ: (إن الله سبحانه وتعالى لما خلق الجنة قال: وعزتي وجلالي لا يدخلك بخيل، ولا كذاب، ولا ديوث)، والديوث: الذي لا غيرة له. وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (إن المؤمن يغار، وإن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه)، وقد قال تعالى: { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [39]؛ ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء: أن الزانية لا يجوز تزويجها إلا بعد التوبة، وكذلك إذا كانت المرأة تزني لم يكن له أن يمسكها على تلك الحال، بل يفارقها وإلا كان ديوثًا.
سئل عن رجل تزوج ابنته من الزنا

وسئل عن رجل تزوج ابنته من الزنا؟

فأجاب:

لا يجوز أن يتزوج بها عند جمهور أئمة المسلمين. حتى إن الإمام أحمد أنكر أن يكون في ذلك نزاع بين السلف، وقال: من فعل ذلك فإنه يقتل. وقيل له عن مالك: إنه أباحه، فكذب النقل عن مالك. وتحريم هذا هو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأحمد وأصحابه، ومالك وجمهور أصحابه وهو قول كثير من أصحاب الشافعي، وأنكر أن يكون الشافعي نص على خلاف ذلك، وقالوا: إنما نص على بنته من الرضاع، دون الزانية التي زني بها. والله أعلم.
سئل عن رجل زنى بامرأة ومات الزاني فهل يجوز للولد أن يتزوج بها

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل زني بامرأة، ومات الزاني: فهل يجوز للولد المذكور أن يتزوج بها، أم لا؟

فأجاب:

هذه حرام في مذهب أبي حنيفة وأحمد وأحد القولين في مذهب مالك، وفي القول الآخر يجوز، وهو مذهب الشافعي.

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عمن كان له أمة يطؤها، وهو يعلم أن غيره يطؤها ولا يحصنها؟

فأجاب:

هو ديوث، ولا يدخل الجنة ديوث. والله أعلم.
سئل عن رجل له جارية تزني فهل يحل له وطؤها

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له جارية تزني: فهل يحل له وطؤها؟

فأجاب:

إذا كانت تزني فليس له أن يطأها حتى تحيض ويستبرئها من الزنا؛ فإن { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ } [39]، عقدًا ووطأ، ومتى وطأها مع كونها زانية كان ديوثًا. والله أعلم.
سئل عن حديث إن امرأتي لا ترد كف لامس

وسئل رحمه الله عن حديث عن النبي ﷺ أنه قال له رجل: يارسول الله، إن امرأتي لا ترد كف لامس، فهل هو ما ترد نفسها عن أحد؟ أو ما ترد يدها في العطاء عن أحد؟ وهل هو الصحيح أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، هذا الحديث قد ضعفه أحمد وغيره، وقد تأوله بعض الناس على أنها لا ترد طالب مال، لكن ظاهر الحديث وسياقه يدل على خلاف ذلك، ومن الناس من اعتقد ثبوته، وأن النبي ﷺ أمره أن يمسكها مع كونها لا تمنع الرجال، وهذا مما أنكره غير واحد من الأئمة، فإن الله قال في كتابه العزيز: { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [39]. وفي سنن أبي داود وغيره: أن رجلا كان له في الجاهلية قرينة من البغايا يقال لها: عناق، وأنه سأل النبي ﷺ عن تزوجها، فأنزل الله هذه الآية. وقد قال سبحانه وتعالى: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } [35]، فإنما أباح الله نكاح الإماء في حال كونهن غير مسافحات ولا متخذات أخدان. والمسافحة التي تسافح مع كل أحد. والمتخذات الخدن التي يكون لها صديق واحد. فإذا كان من هذه حالها، لا تنكح فكيف بمن لا ترد يد لامس؛ بل تسافح من اتفق؟ وإذا كان من هذه حالها في الإماء، فكيف بالحرائر. وقد قال تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } [46]. فاشترط هذه الشروط في الرجال هنا كما اشترطه في النساء هناك. وهذا يوافق ما ذكره في سورة النور من قوله تعالى: { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [39]؛ لأنه من تزوج زانية تزاني مع غيره، لم يكن ماؤه مصونًا محفوظًا، فكان ماؤه مختلطًا بماء غيره. والفرج الذي يطأه مشتركًا وهذا هو الزنا. والمرأة إذا كان زوجها يزني بغيرها لا يميز بين الحلال والحرام كان وطؤه لها من جنس وطئ الزاني للمرأة التي يزني بها وإن لم يطأها غيره. وإن من صور الزنا اتخاذ الأخدان. والعلماء قد تنازعوا في جواز نكاح الزانية قبل توبتها على قولين مشهورين. لكن الكتاب والسنة والاعتبار يدل على أن ذلك لا يجوز. ومن تأول آية النور بالعقد وجعل ذلك منسوخًَا فبطلان قوله ظاهر من وجوه. ثم المسلمون متفقون على ذم الدياثة. ومن تزوج بغيا كان ديوثًا بالاتفاق. وفي الحديث: (لا يدخل الجنة بخيل ولا كذاب ولا ديوث) قال تعالى: { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } [51]، أي الرجال الطيبون للنساء الطيبات، والرجال الخبيثون للنساء الخبيثات، وكذلك في النساء. فإذا كانت المرأة خبيثة كان قرينها خبيثًا، وإذا كان قرينها خبيثًا كانت خبيثة. وبهذا عظم القول فيمن قذف عائشة ونحوها من أمهات المؤمنين، ولولا ما على الزوج في ذلك من العيب ما حصل هذا التغليظ؛ ولهذا قال السلف: ما بغت امرأة نبي قط، ولو كان تزوج البغي جائزًا لوجب تنزيه الأنبياء عما يباح. كيف وفي نساء الأنبياء من هي، كافرة كما في أزواج المؤمنات من هو كافر؟ كما قال تعالى: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شيء ا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [52]. وأما البغايا فليس في الأنبياء ولا الصالحين من تزوج بغيا؛ لأن البغاء يفسد فراشه؛ ولهذا أبيح للمسلم أن يتزوج الكتابية إليهودية والنصرانية، إذا كان محصنًا غير مسافح ولا متخذ خدن، فعلم أن تزوج الكافرة قد يجوز، وتزوج البغي لا يجوز؛ لأن ضرر دينها لا يتعدى إليه. وأما ضرر البغايا فيتعدي إليه. والله أعلم.
فصل في اعتبار النية في النكاح

فصل في اعتبار النية في النكاح، قد بسط الكلام في غير هذا الموضع، وبين أن المقصود في العقود معتبر. وعلى هذا ينبغي إبطال الحيل، وإبطال نكاح المحلل إذا قصد التحليل، والمخالع بخلع اليمين؛ فإن هذا لم يقصد النكاح، وهذا لم يقصد فراق المرأة، بل هذا مقصوده أن تكون امرأته وقصد الخلع مع هذا ممتنع، وذاك مقصوده أن تكون زوجة المطلق ثلاثا، وقصده مع هذا أن تكون زوجة له ممتنع؛ ولهذا لا يعطي مهرًا، بل قد يعطونه من عندهم، ولا يطلب استلحاق ولد ولا مصاهرة في تزويجها، بل قد يحلل الأم وبنتها. إلى غير ذلك مما يبين أنه لم يقصد النكاح.

وأما نكاح المتعة إذا قصد أن يستمتع بها إلى مدة ثم يفارقها مثل المسافر الذي يسافر إلى بلد يقيم به مدة فيتزوج وفي نيته إذا عاد إلى وطنه أن يطلقها، ولكن النكاح عقده عقدًا مطلقًا، فهذا فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد. قيل: هو نكاح جائز وهو اختيار أبي محمد المقدسي، وهو قول الجمهور. وقيل: إنه نكاح تحليل لا يجوز وروي عن الأوزاعي؛ وهو الذي نصره القاضي وأصحابه في الخلاف. وقيل: هو مكروه، وليس بمحرم.

والصحيح أن هذا ليس بنكاح متعة ولا يحرم، وذلك أنه قاصد للنكاح وراغب فيه، بخلاف المحلل، لكن لا يريد دوام المرأة معه. وهذا ليس بشرط؛ فإن دوام المرأة معه ليس بواجب، بل له أن يطلقها. فإذا قصد أن يطلقها بعد مدة فقد قصد أمرًا جائزًا، بخلاف نكاح المتعة فإنه مثل الإجارة تنقضي فيه بانقضاء المدة، ولا ملك له عليها بعد انقضاء الأجل. وأما هذا فملكه ثابت مطلق وقد تتغير نيته فيمسكها دائمًا، وذلك جائز له، كما أنه لو تزوج بنية إمساكها دائمًا ثم بدا له طلاقها، جاز ذلك. ولو تزوجها بنية أنها إذا أعجبته أمسكها وإلا فارقها، جاز، ولكن هذا لا يشترط في العقد لكن لو شرط أن يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان، فهذا موجب العقد شرعًا؛ وهو شرط صحيح عند جمهور العلماء، ولزمه موجب الشرع: كاشتراط النبي ﷺ في عقد البيع بيع المسلم للمسلم، لا داء ولا غائلة ولا خِبْثة، وهذا موجب العقد. وقد كان الحسن بن على كثير الطلاق فلعل غالب من تزوجها كان في نيته أن يطلقها بعد مدة، ولم يقل أحد: إن ذلك متعة.

وهذا أيضًا لا ينوي طلاقها عند أجل مسمي، بل عند انقضاء غرضه منها، ومن البلد الذي أقام به، ولو قدر أنه نواه في وقت بعينه فقد تتغير نيته، فليس في هذا ما يوجب تأجيل النكاح، وجعله كالإجارة المسماة. وعزم الطلاق لو قدر بعد عقد النكاح لم يبطله، ولم يكره مقامه مع المرأة وإن نوي طلاقها من غير نزاع نعلمه في ذلك، مع اختلافهم فيما حدث من تأجيل النكاح: مثل أن يؤجل الطلاق الذي بينهما، فهذا فيه قولان هما روايتان عن أحمد:

أحدهما: تنجز الفرقة، وهو قول مالك؛ لئلا يصير النكاح مؤجلا.

والثاني: لا تنجز؛ لأن هذا التأجيل طرأ على النكاح والدوام أقوى من الابتداء. فالعدة والردة والإحرام تمنع ابتداءه؛ دون دوامه فلا يلزم إذا منع التأجيل في الابتداء أن يمنع في الدوام، لكن يقال: ومن الموانع ما يمنع الدوام والابتداء أيضًا، فهذا محل اجتهاد. كما اختلف في العيوب الحادثة، وزوال الكفاءة: هل تثبت الفسخ؟ فأما حدوث نية الطلاق إذا أراد أن يطلقها بعد شهر فلم نعلم أن أحدًا قال إن ذلك يبطل النكاح فإنه قد يطلق، وقد لا يطلق عند الأجل. كذلك الناوي عند العقد في النكاح. وكل منهما يتزوج الآخر إلى أن يموت فلابد من الفرقة.

والرجل يتزوج الأمة التي يريد سيدها عتقها، ولو أعتقت كان الأمر بيدها، وهو يعلم أنها لا تختاره، وهو نكاح صحيح. ولو كان عتقها مؤجلا أو كانت مدبرة وتزوجها وإن كانت لها عند مدة الأجل اختيار فراقه. والنكاح مبناه على أن الزوج يملك الطلاق من حين العقد، فهو بالنسبة إليه ليس بلازم، وهو بالنسبة إلى المرأة لازم. ثم إذا عرف أنه بعد مدة يزول اللزوم من جهتها ويبقي جائزًا لم يقدح في النكاح؛ ولهذا يصح نكاح المجبوب والعنين، وبشروط يشترطها الزوج، مع أن المرأة لها الخيار إذا لم يوف بتلك الشروط. فعلم أن مصيره جائزًا من جهة المرأة لا يقدح، وإن كان هذا يوجب انتفاء كمال الطمأنينة من الزوجين. فعزمه على الملك ببعض الطمأنينة. مثل هذا إذا كانت المرأة مقدمة على أنه إن شاء طلق، وهذا من لوازم النكاح فلم يعزم إلا على ما يملكه بموجب العقد، وهو كما لو عزم أن يطلقها إن فعلت ذنبًا أو إذا نقص ماله ونحو ذلك، فعزمه على الطلاق إذا سافر إلى أهله، أو قدمت امرأته الغائبة، أو قضي وطره منها، من هذا الباب.

وزيد كان قد عزم على طلاق امرأته، ولم تخرج بذلك عن زوجيته؛بل مازالت زوجته حتى طلقها، وقال له النبي ﷺ: (اتق الله وأمسك عليك زوجك)، وقيل: إن الله قد كان أعلمه أنه سيتزوجها، وكتم هذا الإعلام عن الناس، فعاتبه الله على كتمانه، فقال: { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } [25]، من إعلام الله لك بذلك. وقيل: بل الذي أخفاه أنه إن طلقها تزوجها. وبكل حال لم يكن عزم زيد على الطلاق قادحًا في النكاح في الاستدامة، وهذا مما لا نعرف فيه نزاعًا. وإذا ثبت بالنص والإجماع أنه لا يؤثر العزم على طلاقها في الحال.

وهذا يرد على من قال: إنه إذا نوي الطلاق بقلبه وقع. فإن قلب زيد كان قد خرج عنها، ولم تزل زوجته إلى حين تكلم بطلاقها، وقال النبي ﷺ: (إن الله تجاوز لأمتىعما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به)، وهذا مذهب الجمهور، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وهو إحدى الروايتين عن مالك. ولا يلزم إذا أبطله شرط التوقيت أن تبطله نية التطليق فيما بعد؛ فإن النية المبطلة ما كانت مناقضة لمقصود العقد، والطلاق بعد مدة أمر جائز لا يناقض مقصود العقد إلى حين الطلاق، بخلاف المحلل فإنه لا رغبة له في نكاحها البتة، بل في كونها زوجة الأول، ولو أمكنه ذلك بغير تحليل، لم يحلها هذا. وإن كان مقصوده العوض فلو حصل له بدون نكاحها لم يتزوج، وإن كان مقصوده هنا وطأها ذلك اليوم، فهذا من جنس البغي التي يقصد وطأها يومًا أو يومين، بخلاف المتزوج الذي يقصد المقام والأمر بيده، ولم يشرط عليه أحد أن يطلقها كما شرط على المحلل.

فإن قدر من تزوجها نكاحًا مطلقًا ليس فيه شرط ولا عدة ولكن كانت نيته أن يستمتع بها أيامًا ثم يطلقها، ليس مقصوده أن تعود إلى الأول: فهذا هو محلل الكلام، وإن حصل بذلك تحليلها للأول، فهو لا يكون محللا إلا إذا قصده أو شرط عليه شرطا لفظيا أو عرفيا. سواء كان الشرط قبل العقد أو بعده. وأما إذا لم يكن فيه قصد تحليل ولا شرط أصلا، فهذا نكاح من الأنكحة.
سئل عن نكاح التحليل

وسئل رحمه الله تعالى عن هذا التحليل الذي يفعله الناس اليوم: إذا وقع على الوجه الذي يفعلونه، من الاستحقاق، والإشهاد، وغير ذلك من سائر الحيل المعروفة: هل هو صحيح، أم لا؟ وإذا قلد من قال به، هل يفرق بين اعتقاد واعتقاد؟ وهل الأولى إمساك المرأة، أم لا؟

فأجاب:

التحليل الذي يتواطؤون فيه مع الزوج لفظًا أو عرفًا على أن يطلق المرأة، أو ينوي الزوج ذلك، محرم. لعن النبي ﷺ فاعله في أحاديث متعددة، وسماه التيس المستعار، وقال: (لعن الله المحلِّل والمحلَّل له). وكذلك مثل عمر وعثمان وعلى وابن عمر وغيرهم لهم بذلك آثار مشهورة، يصرحون فيها بأن من قصد التحليل بقلبه فهو محلل، وإن لم يشترطه في العقد، وسموه سفاحًا

ولا تحل لمطلقها الأول بمثل هذا العقد، ولا يحل للزوج المحلل إمساكها بهذا التحليل، بل يجب عليه فراقها، لكن إذا كان قد تبين باجتهاد أو تقليد جواز ذلك، فتحللت، وتزوجها بعد ذلك، ثم تبين له تحريم ذلك، فالأقوي أنه لا يجب عليه فراقها، بل يمنع من ذلك في المستقبل، وقد عفا الله في الماضي عما سلف.
سئل عن إمام عدل طلق امرأته وبقيت عنده في بيته حتى استحلت

وسئل رحمه الله تعالى عن إمام عدل، طلق امرأته، وبقيت عنده في بيته حتى استحلت تحليل أهل مصر، وتزوجها.

فأجاب:

إذا تزوجها الرجل بنية أنه إذا وطئها طلقها لتحلها لزوجها الأول، أو تواطآ على ذلك قبل العقد، أو شرطاه في صلب العقد لفظًا أو عرفًا فهذا وأنواعه نكاح التحليل الذي اتفقت الأمة على بطلانه، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (لعن الله المحلل والمحلل له).
سئل عن رجل طلق زوجته ثلاثا ثم أوفت العدة ثم تزوجت

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل طلق زوجته ثلاثًا، ثم أوفت العدة، ثم تزوجت بزوج ثان، وهو المستحل: فهل الاستحلال يجوز بحكم ما جري لرفاعة مع زوجته في أيام النبي ﷺ، أم لا؟ ثم إنها أتت لبيت الزوج الأول طالبة لبعض حقها، فغلبها على نفسها، ثم إنها قعدت أياما وخافت، وادعت أنها حاضت؛ لكي يردها الزوج الأول، فراجعها إلى عصمته بعقد شرعي وأقام معها أيامًا فظهر عليها الحمل، وعلم أنها كانت كاذبة في الحيض فاعتزلها إلى أن يهتدي بحكم الشرع الشريف.

فأجاب:

أما إذا تزوجها زوج ليحلها لزوجها المطلق، فهذا المحلل، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: (لعن الله المحلل والمحلل له). وأما حديث رفاعة فذاك كان قد تزوجها نكاحًا ثابتًا، لم يكن قد تزوجها ليحلها للمطلق. وإذا تزوجت بالمحلل ثم طلقها فعليها العدة باتفاق العلماء؛ إذ غايتها أن تكون موطوءة في نكاح فاسد فعليها العدة منه.

وما كان يحل للأول وطؤها، وإذا وطئها فهو زان عاهر، ونكاحها الأول قبل أن تحيض ثلاثًا باطل باتفاق الأئمة، وعليه أن يعتزلها، فإذا جاءت بولد ألحق بالمحلل، فإنه هو الذي وطأها في نكاح فاسد، ولا يلحق الولد في النكاح الأول؛ لأن عدته انقضت وتزوجت بعد ذلك لمن وطئها، وهذا يقطع حكم الفراش بلا نزاع بين الأئمة، ولا يلحق بوطئه زنا؛ لأن النبي ﷺ قال: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر). لكن إن علم المحلل أن الولد ليس منه، بل من هذا العاهر فعليه أن ينفيه باللعان، فيلاعنها لعانًا ينقطع فيه نسب الولد. ويلحق نسب الولد بأمه. ولا يلحق بالعاهر.
سئل هل تصح مسألة العبد في التحليل

وسئل رحمه الله تعالى: هل تصح مسألة العبد أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، تزوج المرأة المطلقة بعبد يطؤها ثم تباح الزوجة هي من صور التحليل، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: (لعن الله المحلل والمحلل له).
سئل عن رجل حنث من زوجته فنكحت غيره ليحلها للأول

وسئل عن رجل حنث من زوجته، فنكحت غيره ليحلها للأول: فهل هذا النكاح صحيح، أم لا؟

فأجاب:

قد صح عن النبي ﷺ أنه قال: (لعن الله المحلل والمحلل له)، وعنه أنه قال: (ألا أنبئكم بالتيس المستعار؟ ). قالوا: بلي يارسول الله. قال: (هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له). واتفق على تحريم ذلك أصحاب رسول الله ﷺ والتابعون لهم بإحسان مثل عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر وغيرهم حتى قال بعضهم: لا يزالا زانيين؛ وإن مكثا عشرين سنة إذا علم الله من قلبه أنه يريد أن يحلها له. وقال بعضهم: لا نكاح إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة. وقال بعضهم: من يخادع الله يخدعه. وقال بعضهم: كنا نعدها على عهد رسول الله ﷺ سفاحًا. وقد اتفق أئمة الفتوي كلهم أنه إذا اشترط التحليل في العقد كان باطلا. وبعضهم لم يجعل للشرط المتقدم ولا العرف المطرد تأثيرًا، وجعل العقد مع ذلك كالنكاح المعروف نكاح الرغبة. وأما الصحابة والتابعون وأكثر أئمة الفتيا فلا فرق عندهم بين هذا العرف واللفظ، وهذا مذهب أهل المدينة، وأهل الحديث، وغيرهما. والله أعلم.
سئل عن العبد الصغير إذا استحلت به النساء

وسئل رَحمه الله عن العبد الصغير إذا استحلت به النساء وهو دون البلوغ: هل يكون ذلك زوجًا وهو لا يدري الجماع؟

فأجاب:

ثبت في سنة رسول الله ﷺ أنه لعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه، ولعن الله المحلل، والمحلل له، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وثبت إجماع الصحابة على ذلك كعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس وغيرهم حتى قال عمر: لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. وقال عثمان: لا نكاح إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة.

وسئل ابن عباس عن من طلق امرأته مائة طلقة؟ فقال: بانت منه بثلاث، وسائرها اتخذ بها آيات الله هزوًا. فقال له السائل: أرأيت إن تزوجتها وهو لا يعلم؛ لأحلها ثم أطلقها؟ فقال له ابن عباس: من يخادع الله يخدعه.

وسئل عن ذلك فقال: لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة؛ إذا علم الله من قلبه أنه يريد أن يحلها له. وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة في كتاب: بيان الدليل على بطلان التحليل، وهذا لعمري إذا كان المحلل كبيرًا يطأها ويذوق عسيلتها، وتذوق عسيلته. فأما العبد الذي لا وطئ فيه، أو فيه ولا يعد وطؤه وطأ، كمن لا ينتشر ذكره، فهذا لا نزاع بين الأئمة في أن هذا لا يحلها. ونكاح المحلل مما يعير به النصاري المسلمين، حتى يقولون: إن المسلمين قال لهم نبيهم: إذا طلق أحدكم امرأته لم تحل له حتى تزني. ونبينا ﷺ بريء من ذلك هو وأصحابه والتابعون لهم بإحسان وجمهور أئمة المسلمين. والله أعلم.
باب الشروط في النكاح

وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله:

الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
فصل في الشروط الفاسدة في النكاح

الشروط الفاسدة في النكاح كثيرة كنكاح الشغار والمحلل والمتعة، ومثل أن يتزوجها على أن لا مهر لها، أو على مهر محرم، ونحوذلك من الشروط الفاسدة. وللعلماء فيها أقوال:

أحدها: أنه لا يصح النكاح. ثم هل يصح إذًا إمضاء الشرط الفاسد بعد ذلك؟ فيه نزاع. وهذا أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، وهو اختيار طائفة من أئمة أصحابه كأبي بكر الخلال، وأبي بكر عبد العزيز.

والثاني: يصح النكاح، ويبطل الشرط، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه في الجميع، وخرج ذلك طائفة من أصحاب أحمد كأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهما قولا في مذهبه، حتى في النكاح الباطل، فإن أبا حنيفة وصاحبيه يقولون ببطلانه، وزفر يصحح العقد ويلغي الأصل، وقد خرج كلاهما قولا في مذهب أحمد، وهذا التخريج من نصه في قوله: إن جئتني بالمهر إلى وقت كذا، وإلا فلا نكاح بيننا. فإنه حكي عنه فيه ثلاث روايات: رواية بصحتهما. ورواية بفسادهما. ورواية بصحة العقد دون الشرط. وكذلك فيما إذا تزوجها على أن ترد إليه المهر، فقد نص على صحة العقد، وبطلان الشرط.

والقول الثالث: في الشروط الفاسدة: أنه يبطل نكاح الشغار والمتعة، ونكاح التحليل المشروط في العقد، ويصح النكاح مع المهر المحرم ومع نفي المهر. وهذا مذهب الشافعي وهو الرواية الثانية عن أحمد اختارها كثير من أصحابه: كالحربي، والقاضي أبي يعلى، وأتباعه وهؤلاء يفرقون بين ما صححوه من عقود النكاح مع الشرط الفاسد، وما أبطلوه بأن الشرط إذا انتفي وقع النكاح؛ وإلا كان باطلا كنكاح المتعة وكذلك نكاح التحليل إذا قدره بالفعل مثل أن يقول: زوجتكها إلى أن تحلها. وأما إذا قال: على أنك إذا أحللتها فلا نكاح بينكما، أو على أنك تطلقها إذا أحللتها، فهذا فيه نزاع في مذهب الشافعي. وأبو يوسف يوافق الشافعي على قوله ببطلانه.

وأما نكاح الشغار فلهم في علة إبطاله أقوال: هل العلة التشريك في البضع؟ أو تعليق أحد النكاحين على الآخر؟ أو كون أحد العقدين سلفًا من الآخر؟ إلى غير ذلك مما ذكر بأقلامهم في غير هذا الموضع.

وأما النكاح بالمهر الفاسد وشرط نفي المهر فصححوه موافقة لأبي حنيفة، بناء على أن النكاح يصح بدون تسمية المهر، فيصح مع نفي المهر. وهؤلاء جعلوا نكاح المتعة أصلا لما يبطلونه من الأنكحة، ونكاح المفوضة أصلا لما يصححونه، ونكاح الشغار جعلوه نوعًا آخر، وهذا أصل قول أبي حنيفة في الشروط الفاسدة في النكاح، والفرق بينها وبين الشروط الفاسدة في البيع والإجارة؛ فإنه قال: إنه لا يصح مع عدم تسمية العوض، فلا يصح مع الجهل به، ولا مع الشروط الفاسدة؛ لأن ذلك يتضمن الجهل بالعوض؛ لأنه يجب إسقاط الشرط الفاسد، وإسقاط ما يقابله من الثمن، فيكون باقي الثمن مجهولا.

وقد احتج الأكثرون على هؤلاء بالنصوص الثابتة عن النبي ﷺ بنهيه عن نكاح الشغار، وعن نكاح التحليل، كنهيه عن نكاح المتعة. والنهي عن النكاح يقتضي فساده، كنهيه عن النكاح في العدة، والنكاح بلا ولي، ولا شهود. وبأن الصحابة أبطلوا هذه العقود، ففرقوا بين الزوجين في نكاح الشغار، وجعلوا نكاح التحليل سفاحًا، وتوعدوا المحلل بالرجم، ومنعوا من غير نكاح الرغبة، كما ذكرنا الآثار الكثيرة عنهم بذلك في كتاب إبطال التحليل، فتبين بالنصوص وإجماع الصحابة فساد هذه الأنكحة.

ولأن النكاح إذا قيل بصحته ولزومه: فإما أن يقال بذلك مع الشرط المحرم الفاسد، وهذا خلاف النص والإجماع. وإما أن يقال به مع إبطال الشرط، فيكون ذلك إلزامًا للعاقد بعقد لم يرض به ولا ألزمه الله به. ومعلوم أن موجب العقد: إما أن يلزم بإلزام الشارع؛ أو إلزام العاقد. فالأول كالعقود التي ألزمه الشارع بها، كما ألزم الشارع الكافر الحربي بالإسلام، وكما ألزم من عليه يمين واجبة حنث فيها بواحدة بالإعتاق والصوم، وكما ألزم من احتج إلى سوي ذلك... بالبيع والشراء في صور متعددة. والثاني المقابلة... وكما يلزم الضامن دين المدين مع بقائه في ذمته، وكما يلتزم كل من المتبايعين والمتصالحين والمتآجرين بما يلتزمه للآخر.

وإذا كان كذلك، فالنكاح المشروط فيه شرطًا فاسدًا لم يلزم الشارع صاحبه أن يعقده بدون ذلك الشرط، ولا هو التزم أن يعقده مجردًا عن الشرط. فإلزامه بما لم يلتزمه هو ولا إلزامه به الشارع إلزام للناس بما لم يلزمهم الله به ولا رسوله، وذلك لا يجوز؛ ولأن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع، بدليل قوله في الحديث الصحيح: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج). ثم البيع لا يجوز إلا بالتراضي؛ لقوله تعالى: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } [53]، فالنكاح لا يجوز إلا بالتراضي بطريق الأولى والأحري. والعقد الفاسد لم يرض به العاقد إلا على تلك الصفة فإلزامه بدون تلك الصفة إلزام بعقد لم يرض به، وهو خلاف النصوص والأصول؛ ولهذا لم يجز أن يلزم في البيع بما لم يرض به.

ولهذا قال أصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى وغيره: إذا صححنا البيع دون الشرط الفاسد على إحدى الروايتين عنه فلمشترط الشرط إذا لم يعلم تحريمه الفسخ، أو المطالبة بأرش فواته؛ كما قالوا مثل ذلك في الشرط الصحيح إذا لم يوف به، لكن الشرط الصحيح يلزم الوفاء به كالعقد الصحيح، وإذا لم يوف به فله الفسخ مطلقا؛ لأنه لم يرض بدونه. وأما الشرط الفاسد، فلا يلزم الوفاء به، كما لا يلزم الوفاء بالعقد الفاسد، لكن له أيضا العقد بدونه، وله فسخ العقد، كما لو اشترط صفة في البيع فلم يكن على تلك الصفة، وكما لو ظهر بالبيع عيب. فأحمد رضي الله عنه يقول في البيع مع الشرط الفاسد: إنه يصح البيع في إحدى الروايتين، بل في أنصهما عنه؛ لأن فوات الشرط والصفة لا يبطل البيع، والمشترط ينجبر ضرره بتخليته من الفسخ، كما في فوات الصفات المشروطة، ومن العيوب. وأما النكاح فالشروط فيه ألزم. وإذا شرط صفة في أحد الزوجين كالشرط الأوفي في إحدى الروايتين، وهو أحد الوجهين لمالك والشافعي ملك الفسخ لفواتها، وكذلك له الفسخ عنده بالعيوب المانعة من مقصود النكاح... ويملك الفسخ، وأما التحليل فهو غير مقصود، والمقصود في العقود عنده معتبر، والمتعة نكاح إلى أجل، والنكاح لا يتأجل.

والشغار، علله هو وكثير من أصحابه كالخلال وأبي بكر عبد العزيز بنفي المهر، وكونه جعل أحد البضعين مهرا للآخر، وهذا تعليل أصحاب مالك، وعلله كثير من أصحابه بتعليل أصحاب الشافعي.

يبقي أن يقال: فكان ينبغي مع الشرط الفاسد أن يخير العاقد بين التزام العقد بدونه وبين فسخه، كما في الشروط الفاسدة في البيع. قيل: إن قلنا: إن النكاح لا ينعقد إلا بصيغة الإنكاح والتزويج؛ لأن ذلك هو الصريح فيه، وهو لا ينعقد بالكناية كما يقوله أبو حامد والقاضي أبو يعلى وأتباعهما من أصحاب أحمد موافقة لأصحاب الشافعي وقلنا: إن البيع يصح فيه شرط الخيار دون النكاح، ظهر الفرق؛ لأن البيع يمكن عقده جائزا بخلاف النكاح.

والمصححون لنكاح التحليل والشغار ونحوهما قد يقولون: ما نهي عنه النبي ﷺ لم نصححه؛ فإنا لا نصححه مع كونه شغارا وتحليلا ومتعة، ولكن نبطل شرط أصل العقد في المهر، ونبطل شرط التحليل، كذلك شرط التأجيل عند من يقول بذلك. ويبقي العقد لازما ليس فيه شغار ولا تحليل؛ ولهذا قال أصحاب أبي حنيفة في أحد القولين: إنه يصح نكاح التحليل، ولا تحل به للمطلق ثلاثا؛ عملا بقوله: (لعن الله المحلل والمحلل له)، فإنهم إنما يصححونه مع إبطال شرط التحليل، فيكون نكاحا لازما، ولا يحلونها للأول؛ لأنه إذا أحلت للأول قصد بذلك تحليلها للأول، فإذا لم تحل به للأول لم يقصد به التحليل للأول، فلا يكون نكاح تحليل.

وعلى هذا القول، لا ينكح أحد المرأة إلا نكاح رغبة، لا نكاح تحليل، ولو نكحها بنية التحليل أو شرطه ثم قصد الرغبة هي وهو وأسقطها شرط التحليل، فهل يحتاج إلى استئناف عقد؟ أم يكفي استصحاب العقد الأول؟ فيه نزاع. وهو يشبه إسقاط الشرط الفاسد في البيع: هل يصح معه أم لا وهو قصد؟ ومثله إذا عقد العقد بدون إذن من اشترط إذنه: هل يقع باطلا وموقوفا على الإجازة؟ فيه قولان مشهوران، وهما قولان في مذهب أحمد: أحدهما: أنه يقع باطلا، ولا يوقف، كقول الشافعي. الثاني: أنه يقف على الإجازة، كقول أبي حنيفة ومالك، فإذا عقد العقد بنية فاسدة أو شرط فاسد فقد يقول: إنه على القولين في الوقف؛ فمن قال بالوقف وقفه على إزالة المفسد، ومن لا فلا. فزوال المانع كوجود المقتضي. وإذا كان موقوفا على حصول بعض شروطه، فهو كالوقف على زوال بعض موانعه..

إذ جعلتموه زوجا مطلقا يلزمها نكاحه فقد ألزمتموها بنكاح لم ترض به، وهذا خلاف الأصول والنصوص وأصح الأقوال في هذا الباب: أن الأمر إليها فإن رضيت بدون ذلك الشرط كان زوجا، ولا يحتاج إلى استئناف عقد. وإن لم ترض به لم يكن زوجا: كالنكاح الموقوف على إجازتها، وكذلك في النكاح على مهر لم يسلم لها؛ لتحريمه، أو استحقاقه فإن شاءت أن ترضي به زوجا بمهر آخر كان ذلك، وإن شاءت أن تفارقه فلها ذلك، وليس قبل رضاها نكاح لازم.
سئل عن رجل تزوج بامرأة فشرط عليه عند النكاح أنه لا يتزوج عليها

وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بامرأة فشرط عليه عند النكاح أنه لا يتزوج عليها، ولا ينقلها من منزلها. وكانت لها ابنة فشرط عليه أن تكون عند أمها وعنده ما تزال فدخل على ذلك كله: فهل يلزمه الوفاء؟ وإذا أخلف هذا الشرط: فهل للزوجة الفسخ، أم لا؟

فأجاب:

الحمد للّه، نعم تصح هذه الشروط وما في معناها في مذهب الإمام أحمد، وغيره من الصحابة والتابعين وتابعيهم: كعمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما وشريح القاضي، والأوزاعي، وإسحاق؛ ولهذا يوجد في هذا الوقت صداقات أهل المغرب القديمة لما كانوا على مذهب الأوزاعي فيها هذه الشروط. ومذهب مالك إذا شرط أنه إذا تزوج عليها أو تسري أن يكون أمرها بيدها ونحو ذلك، صح هذا الشرط أيضا وملكت الفرقة به. وهو في المعني نحو مذهب أحمد في ذلك؛ لما أخرجاه في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج). وقال عمر بن الخطاب: مقاطع الحقوق عند الشروط فجعل النبي ﷺ ما يستحل به الفروج من الشروط أحق بالوفاء من غيره، وهذا نص في مثل هذه الشروط؛ إذ ليس هناك شرط يوفي به بالإجماع غير الصداق والكلام، فتعين أن تكون هي هذه الشروط.

وأما شرط مقام ولدها عندها، ونفقته عليه، فهذا مثل الزيادة في الصداق، والصداق يحتمل من الجهالة فيه في المنصوص عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ما لا يحتمل في الثمن والأجرة. وكل جهالة تنقص على جهالة مهر المثل تكون أحق بالجواز؛ لاسيما ومثل هذا يجوز في الإجارة ونحوها في مذهب أحمد وغيره: إن استأجر الأجير بطعامه وكسوته، ويرجع في ذلك إلى العرف، فكذلك اشتراط النفقة على ولدها يرجع فيه إلى العرف بطريق الأولى.

ومتى لم يوف لها بهذه الشروط فتزوج، وتسري، فلها فسخ النكاح. لكن في توقف ذلك على الحاكم نزاع؛ لكونه خيارآً مجتهدا فيه، كخيار العنة والعيوب؛ إذ فيه خلاف. أو يقال: لا يحتاج إلى اجتهاد في ثبوته، وإن وقع نزاع في الفسخ به، كخيار المعتقة: يثبت في مواضع الخلاف عند القائلين به بلا حكم حاكم مثل أن يفسخ على التراخي. وأصل ذلك أن توقف الفسخ على الحكم هل هو الاجتهاد في ثبوت الحكم أيضا؟ أو أن الفرقة يحتاط لها؟ والأقوي: أن الفسخ المختلف فيه كالعنة لا يفتقر إلى حكم حاكم، لكن إذا رفع إلى حاكم يري فيه إمضاءه أمضاه، وإن رأي إبطاله أبطله. والله أعلم.
سئل عمن شرط أنه لا يتزوج على الزوجة ولا يتسرى

وسئل رَحمه الله عمن شرط أنه لا يتزوج على الزوجة ولا يتسري، ولا يخرجها من دارها أو من بلدها، فإذا شرطت على الزوج قبل العقد، واتفقا عليها، وخلا العقد عن ذكرها: هل تكون صحيحة لازمة يجب العمل بها كالمقارنة، أو لا؟

فأجاب:

الحمد للّه، نعم تكون صحيحة لازمة إذا لم يبطلاها، حتى لو قارنت عقد العقد. هذا ظاهر مذهب الإمام أبي حنيفة والإمام مالك وغيرهما في جميع العقود، وهو وجه في مذهب الشافعي: يخرج من مسألة صداق السر والعلانية. وهكذا يطرده مالك وأحمد في العبادات؛ فإن النية المتقدمة عندهما كالمقارنة. وفي مذهب أحمد قول ثان: أن الشروط المتقدمة لا تؤثر. وفيه قول ثالث، وهو الفرق بين الشرط الذي يجعل غير مقصود، كالتوطؤ على أن البيع تلجئة لا حقيقة له، وبين الشرط الذي لا يخرجه عن أن يكون مقصودا، كاشتراط الخيار ونحوه. وأما عامة نصوص أحمد وقدماء أصحابه ومحققي المتأخرين على أن الشروط والمواطأة التي تجري بين المتعاقدين قبل العقد إذا لم يفسخاها حتى عقدا العقد، فإن العقد يقع مقيدا بها، وعلى هذا جواب أحمد في مسائل الحيل في البيع، والإجارة، والرهن، والقرض، وغير ذلك. وهذا كثير موجود في كلامه وكلام أصحابه، تضيق الفتوي عن تعديد أعيان المسائل. وكثير منها مشهور عند من له أدني خبرة بأصول أحمد ونصوصه، لا يخفي عليه ذلك. وقد قررنا دلائل ذلك من الكتاب والسنة وإجماع السلف وأصول الشريعة في مسألة التحليل.

ومن تأمل العقود التي كانت تجري بين النبي ﷺ وغيره مثل عقد البيعة التي كانت بينه وبين الأنصار ليلة العقبة، وعقد الهدنة الذي كان بينه وبين قريش عام الحديبية، وغير ذلك؛ علم أنهم اتفقوا على الشروط ثم عقدوا العقد بلفظ مطلق، وكذلك عامة نصوص الكتاب والسنة في الأمر بالوفاء بالعقود والعهود والشروط والنهي عن الغدر، والثلاث تتناول ذلك تناولا واحدا؛ فإن أهل اللغة والعرف متفقون على التسمية، والمعاني الشرعية توافق ذلك.
سئل عن رجل تزوج بنتا عمرها عشر سنين واشترط عليه أهلها

وسئل شيخ الإسلام رحمهُ الله عن رجل تزوج بنتا عمرها عشر سنين، واشترط عليه أهلها أنه يسكن عندهم ولا ينقلها عنهم، ولا يدخل عليها إلا بعد سنة، فأخذها إليه، وأخلف ذلك، ودخل عليها، وذكر الدايات: أنه نقلها، ثم سكن بها في مكان يضربها فيه الضرب المبرح، ثم بعد ذلك سافر بها، ثم حضر بها ومنع أن يدخل أهلها عليها مع مداومته على ضربها: فهل يحل أن تدوم معه على هذا الحال؟

فأجاب:

إذا كان الأمر على ما ذكر فلا يحل إقرارها معه على هذه الحالة بل إذا تعذر أن يعاشرها بالمعروف فرق بينهما، وليس له أن يطأها وطأ يضر بها، بل إذا لم يمتنع من العدوان عليها فرق بينهما. والله أعلم.
سئل عن رجل شرط على امرأته بالشهود ألا يسكنها في منزل أبيه

وسئل رحمهُ الله عن رجل شرط على امرأته بالشهود ألا يسكنها في منزل أبيه، فكانت مدة السكني منفردة، وهو عاجز عن ذلك: فهل يجب عليه ذلك؟ وهل لها أن تفسخ النكاح إذا أراد إبطال الشرط؟ وهل يجب عليه أن يمكن أمها أو أختها من الدخول عليها والمبيت عندها، أم لا؟

فأجاب:

لا يجب عليه ما هو عاجز عنه، لا سيما إذا شرطت الرضي بذلك بل إذا كان قادرا على مسكن آخر لم يكن لها عند كثير من أهل العلم كمالك وأحد القولين في مذهب أحمد وغيرهما غير ما شرط لها، فكيف إذا كان عاجزا؟ وليس لها أن تفسخ النكاح عند هؤلاء وإن كان قادرآً. فأما إذا كان ذلك للسكن ويصلح لسكني الفقير وهو عاجز عن غيره فليس لها أن تفسخ بلا نزاع بين الفقهاء. وليس عليه أن يمكن من الدخول إلى منزله لا أمها ولا أختها إذا كان معاشرا لها بالمعروف. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج وشرطوا عليه أن كل امرأة يتزوج بها تكون طالقا

وسئل شيخ الإسلام رحمهُ الله عن رجل تزوج، وشرطوا عليه في العقد أن كل امرأة يتزوج بها تكون طالقا، وكل جارية يتسري بها تعتق عليه، ثم إنه تزوج وتسري: فما الحكم في المذاهب الأربعة؟

فأجاب:

هذا الشرط غير لازم في مذهب الإمام الشافعي. ولازم له في مذهب أبي حنيفة: متى تزوج وقع به الطلاق، ومتى تسري عتقت عليه الأمة، وكذلك مذهب مالك. وأما مذهب أحمد فلا يقع به الطلاق ولا العتاق، لكن إذا تزوج وتسري كان الأمر بيدها: إن شاءت أقامت معه، وإن شاءت فارقته؛ لقوله ﷺ: (إن أحق الشروط أن يوفي به ما استحللتم به الفروج). ولأن رجلا تزوج امرأة بشرط ألا يتزوج عليها، فرفع ذلك إلى عمر، فقال: مقاطع الحقوق عند الشروط، فالأقوال في هذه المسألة ثلاثة: أحدها: يقع به الطلاق والعتاق. والثاني: لا يقع به، ولا تملك امرأته فراقه. والثالث وهو أعدل الأقوال: أنه لا يقع به طلاق ولا عتاق؛ لكن لامرأته ما شرط له: فإن شاءت أن تقيم معه، وإن شاءت أن تفارقه، وهذا أوسط الأقوال.
سئل عن رجل حلف بالطلاق أنه ما يتزوج فلانة ثم بدا له أن ينكحها

وَقال الشيخ رحمه الله عن رجل حلف بالطلاق: أنه ما يتزوج فلانة، ثم بدا له أن ينكحها: فهل له ذلك؟ وفي رجل تزوج امرأة، وشرط في العقد أنه لا يتزوج عليها ثم تزوج: فهل يثبت لها الخيار، أم لا؟

فأجاب:

الحمد للّه رب العالمين، له أن يتزوجها، ولا يقع بها الطلاق إذا تزوجها عند جمهور السلف، وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. وإذا شرط في العقد أنه لا يتزوج عليها، وإن تزوج عليها كان أمرها بيدها، كان هذا الشرط صحيحا لازما في مذهب مالك وأحمد وغيرهما. ومتى تزوج عليها فأمرها بيدها إن شاءت أقامت، وإن شاءت فارقت. والله أعلم.
باب العيوب في النكاح
سئل عن امرأة تزوجت برجل فلما دخل رأت بجسمه برصا

وسئل رَحمه الله عن امرأة تزوجت برجل، فلما دخل رأت بجسمه برصا: فهل لها أن تفسخ عليه النكاح؟

فأجاب:

إذا ظهر بأحد الزوجين جنون، أو جذام، أو برص، فللآخر فسخ النكاح، لكن إذا رضي بعد ظهور العيب فلا فسخ له. وإذا فسخت فليس لها أن تأخذ شيئا من جهازها، وإن فسخت قبل الدخول سقط مهرها، وإن فسخت بعدها لم يسقط.
سئل عن رجل متزوج بامرأة فظهر مجذوما

وسئل رَحمه الله عن رجل متزوج بامرأة فظهر مجذوما: فهل لها فسخ النكاح؟

فأجاب:

الحمد للّه، إذا ظهر أن الزوج مجذوم. فللمرأة فسخ النكاح بغير اختيار الزوج. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج بكرا فوجدها مستحاضة لا ينقطع دمها

وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بكرًا فوجدها مستحاضة لا ينقطع دمها من بيت أمها، وأنهم غروه: فهل له فسخ النكاح، ويرجع على من غره بالصداق؟ وهل يجب على أمها وأبيها يمين إذا أنكروا أم لا؟ وهل يكون له وطؤها أم لا؟

فأجاب:

هذا عيب يثبت به فسخ النكاح في أظهر الوجهين في مذهب أحمد وغيره؛ لوجهين:

أحدهما: أن هذا مما لا يمكن الوطء معه إلا بضرر يخافه وأذي يحصل له.

والثاني: إن وطء المستحاضة عند أحمد في المشهور عنه لا يجوز، إلا لضرورة. وما يمنع الوطء حسا: كاستداد الفرج. أو طبعا كالجنون، والجذام: يثبت الفسخ عند مالك والشافعي وأحمد، كما جاء عن عمر. وأما ما يمنع كمال الوطء كالنجاسة في الفرج، ففيه نزاع مشهور، والمستحاضة أشد من غيرها.

وإذا فسخ قبل الدخول فلا مهر عليه، وإن فسخ بعده، قيل: إن الصداق يستقر بمثل هذه الخلوة، وإن كان قد وطأها فإنه يرجع بالمهر على من غره. وقيل: لا يستقر، فلا شيء عليه، وله أن يحلف من ادعى الغرور عليه أنه لم يغره. ووطء المستحاضة فيه نزاع مشهور. وقيل: يجوز وطؤها، كقول الشافعي وغيره. وقيل: لا يجوز إلا الضرورة؛ وهو مذهب أحمد في المشهور عنه. وله الخيار ما لم يصدر عنه ما يدل على الرضا بقول أو فعل، فإن وطأها بعد ذلك فلا خيار له، إلا أن يدعي الجهل: فهل له الخيار؟ فيه نزاع مشهور، والأظهر ثبوت الفسخ. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج امرأة على أنها بكر فبانت ثيبا

وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج امرأة على أنها بكر، فبانت ثيبا فهل له فسخ النكاح ويرجع على من غره أم لا؟

فأجاب:

له فسخ النكاح، وله أن يطالب بأرش الصداق وهو تفاوت ما بين مهر البكر والثيب فينقص بنسبته من المسمي وإذا فسخ قبل الدخول سقط المهر. والله أعلم.
باب نكاح الكفار
سئل عن حديث ولدت من نكاح لا من سفاح

وسئل شيخ الإسلام رَحِمهُ الله عن قوله ﷺ: (ولدت من نكاح، لا من سفاح) ما معناه؟

فأجاب:

الحمد للّه، الحديث معروف من مراسيل علي بن الحسين رضي الله عنهما وغيره. ولفظه: (ولدت من نكاح، لا من سفاح، لم يصبني من نكاح الجاهلية شيء) فكانت مناكحهم في الجاهلية على أنحاء متعددة.
سئل عن النكاح قبل بعثة الرسل أهو صحيح

وسئل رَحمه الله عن النكاح قبل بعثة الرسل: أهو صحيح، أم لا؟

فأجاب:

كانت مناكحهم في الجاهلية على أنحاء متعددة: منها نكاح الناس اليوم. وذلك النكاح في الجاهلية صحيح عند جمهور العلماء، وكذلك سائر مناكح أهل الشرك التي لا تحرم في الإسلام، ويلحقها أحكام النكاح الصحيح: من الإرث، والإيلاء، واللعان، والظهار، وغير ذلك. وحكي عن مالك أنه قال: نكاح أهل الشرك ليس بصحيح. ومعني هذا عنده: أنه لو طلق الكافر ثلاثا لم يقع به طلاق، ولو طلق المسلم زوجته الذمية ثلاثا فتزوجها ذمي ووطئها لم يحلها عنده، ولو وطئ ذمي ذمية بنكاح لم يصر بذلك محصنا. وأكثر العلماء يخالفونه في هذا. وأما كونه صحيحا في لحوق النسب، وثبوت الفراش: فلا خلاف فيه بين المسلمين، فليس هو بمنزلة وطء الشبهة، بل لو أسلم الزوجان الكافران أقرا على نكاحهما بالإجماع، وإن كانا لا يقران على وطء شبهة، وقد احتج الناس بهذا الحديث على أن نكاح الجاهلية نكاح صحيح. واحتجوا بقوله: { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } [54]، وقوله: { اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ } [55]، وقالوا: قد سماها الله امرأة والأصل في الإطلاق الحقيقة. والله أعلم.

وقال رَحمه الله تعالى:

في صحيح البخاري قال: قال عطاء عن ابن عباس: كان المشركون على منزلتين من النبي ﷺ والمؤمنين: كانوا مشركين أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركين أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه. وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح؛ فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه. فإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران، ولهما ما للمهاجرين، ثم ذكر في أهل العهد مثل حديث مجاهد، وإن هاجر عبد أو أمة للمشركين أهل العهد لم ترد، وردت أثمانهم. وقال عطاء عن ابن عباس: كانت قريبة بنت أبي أمية عند عمر بن الخطاب؛ وطلقها فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وكانت أم الحكم ابنة أبي سفيان تحت عياض بن غنيم الفهري فطلقها فتزوجها عبد الله بن عثمان.

ثم ذكر في باب بعده: وقال ابن جريج: قلت لعطاء: امرأة من المشركين جاءت إلى المسلمين أيعاض زوجها منها لقوله تعالى: { وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا } [38]، قال: لا، إنما كان ذلك بين النبي ﷺ وبين أهل العهد. قال مجاهد: هذا كله في صلح بين النبي ﷺ وبين قريش.

قلت: حديث ابن عباس فيه فصول:

أحدها: أن المهاجرة من أهل الحرب ليس عليها عدة، إنما عليها استبراء بحيضة، وهذا أحد قولي العلماء في هذه المسألة؛ لأن العدة فيها حق للزوج كما قال الله تعالى: { فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [12]؛ ولهذا قلنا: لا تتداخل. وهذه ملكت نفسها بالإسلام والهجرة كما يملك العبد نفسه بالإسلام والهجرة، فلم يكن للزوج عليها حق، لكن الاستبراء فيها كالأمة المعتقة، وقد يقوي هذا قول من يقول: المختلعة يكفيها حيضة؛ لأن كلاهما متخلصة.

الثاني: أن زوجها إذا هاجر قبل النكاح ردت إليه وإن كانت قد حاضت، ومع هذا فقد روي البخاري بعد هذا عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس: إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه. وما ذكره ابن عباس في المهاجرة يوافق المشهور من أن زينب بنت رسول الله ﷺ ردت على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول. وقد كتبت في الفقه في هذا آثارا ونصوصا عن الإمام أحمد وغيره.

الثالث: قوله: إن المهاجر من عبيدهم يكون حرا له ما للمهاجرين، كما في قصة أبي بكرة ومن هاجر معه من عبيد أهل الطائف، وهذا لا ريب فيه؛ فإنه بالإسلام والهجرة ملك نفسه؛ لأن مال أهل الحرب مال إباحة، فمن غلب على شيء ملكه؛ فإذا غلب على نفسه فهو أولى أن يملكها، والإسلام يعصم ذلك.

الرابع: أن المهاجر من رقيق المعاهدين، يرد عليهم ثمنه دون عينه؛ لأن ما لهم معصوم، فهو كما لو أسلم عبد الذمي يؤمر بإزالة ملكه عنه ببيع أو هبة أو عتق، فإن فعل وإلا بيع عليه، ولا يرد عينه عليهم؛ لأنهم يسترقون المسلم، وذلك لا يجوز، بخلاف رد الحر إليهم فإنهم لا يسترقونه؛ ولهذا لما شرط النبي ﷺ رد النساء مع الرجال فسخ الله ذلك، وأمره ألا يرد النساء المسلمات فقال: { لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [38]؛ لأنه يستباح في دار الكفر من المرأة المسلمة ما لا يستباح من الرجل؛ لأن المرأة الأسيرة كالرجل الأسير، وأمره برد المهر عوضا.
سئل عن قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات

وسئل رَحمه الله تعالى عن قوله تعالى: { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ } [36]، وقد أباح العلماء التزويج بالنصرانية وإليهودية: فهل هما من المشركين أم لا؟

فأجاب:

الحمد الله، نكاح الكتابية جائز بالآية التي في المائدة، قال تعالى: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } [46]، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف من الأئمة الأربعة وغيرهم. وقد روي عن ابن عمر: أنه كره نكاح النصرانية، وقال: لا أعلم شركا أعظم ممن تقول: إن ربها عيسي ابن مريم وهو اليوم مذهب طائفة من أهل البدع وقد احتجوا بالآية التي في سورة البقرة، وبقوله: { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [38]، والجواب عن آية البقرة من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن أهل الكتاب لم يدخلوا في المشركين، فجعل أهل الكتاب غير مشركين بدليل قوله: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } [56].

فإن قيل: فقد وصفهم بالشرك بقوله: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [57]

قيل: إن أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك؛ فإن الله إنما بعث الرسل بالتوحيد، فكل من آمن بالرسل والكتب لم يكن في أصل دينهم شرك ولكن النصاري ابتدعوا الشرك، كما قال: { سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [58]، فحيث وصفهم بأنهم أشركوا فلأجل ما ابتدعوه من الشرك الذي لم يأمر الله به وجب تميزهم عن المشركين؛ لأن أصل دينهم اتباع الكتب المنزلة التي جاءت بالتوحيد، لا بالشرك. فإذا قيل: أهل الكتاب لم يكونوا من هذه الجهة مشركين؛ فإن الكتاب الذي أضيفوا إليه لا شرك فيه، كما إذا قيل: المسلمون، وأمة محمد. لم يكن فيهم من هذه الجهة، لا اتحاد، ولا رفض، ولا تكذيب بالقدر، ولا غير ذلك من البدع. وإن كان بعض الداخلين في الأمة قد ابتدع هذه البدع، لكن أمة محمد ﷺ لا تجتمع على ضلالة، فلا يزال فيها من هو متبع لشريعة التوحيد، بخلاف أهل الكتاب. ولم يخبر الله عز وجل عن أهل الكتاب أنهم مشركون بالاسم، بل قال: { عَمَّا يُشْرِكُونَ } بالفعل، وآية البقرة قال فيها: { الْمُشِرِكِينَ } و { الْمُشْرِكَاتِ } بالاسم. والاسم أوكد من الفعل.

الوجه الثاني: أن يقال: إن شملهم لفظ: { الْمُشِرِكِينَ } من سورة البقرة كما وصفهم بالشرك، فهذا متوجه بأن يفرق بين دلالة اللفظ مفردا ومقرونا؛ فإذا أفردوا دخل فيهم أهل الكتاب، وإذا أقرنوا مع أهل الكتاب لم يدخلوا فيهم، كما قيل مثل هذا في اسم الفقير والمسكين ونحو ذلك. فعلى هذا يقال: آية البقرة عامة، وتلك خاصة. والخاص يقدم على العام.

الوجه الثالث: أن يقال: آية المائدة ناسخة لآية البقرة؛ لأن المائدة نزلت بعد البقرة باتفاق العلماء، وقد جاء في الحديث: (المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها)، والآية المتأخرة تنسخ الآية المتقدمة إذا تعارضتا.

وأما قوله: { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [38]، فإنها نزلت بعد صلح الحديبية لما هاجر من مكة إلى المدينة، وأنزل الله سورة الممتحنة وأمر بامتحان المهاجرين. وهو خطاب لمن كان في عصمته كافرة. واللام لتعريف العهد، والكوافر المعهودات هن المشركات، مع أن الكفار قد يميزوا من أهل الكتاب أيضا في بعض المواضع كقوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلا } [59]، فإن أصل دينهم هو الإيمان، ولكنهم كفروا مبتدعين الكفر كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } [60].
سئل عن الإماء الكتابيات ما الدليل على وطئهن بملك اليمين

وسئل رَحمه الله تعالى عن الإماء الكتابيات: ما الدليل على وطئهن بملك اليمين من الكتاب والسنة والإجماع، والاعتبار؟ وعلى تحريم الإماء المجوسيات؟ أفتونا مأجورين.

فأجاب:

الحمد للّه رب العالمين، وطء الإماء الكتابيات بملك اليمين أقوى من وطئهن بملك النكاح عند عوام أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، ولم يذكر عن أحد من السلف تحريم ذلك كما نقل عن بعضهم المنع من نكاح الكتابيات، وإن كان ابن المنذر قد قال: لم يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم نكاحهن. ولكن التحريم هو قول الشيعة، ولكن في كراهة نكاحهن مع عدم الحاجة نزاع، والكراهة معروفة في مذهب مالك والشافعي وأحمد، وكذلك كراهة وطء الإماء فيه نزاع. روي عن الحسن: أنه كرهه. والكراهة في ذلك مبنية على كراهة التزوج. وأما التحريم فلا يعرف عن أحد، بل قد تنازع العلماء في جواز تزويج الأمة الكتابية: جوزه أبو حنيفة وأصحابه، وحرمه مالك والشافعي والليث والأوزاعي، وعن أحمد روايتان: أشهرهما كالثاني؛ فإن الله سبحانه إنما أباح نكاح المحصنات بقوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } الآية [46]. فأباح المحصنات منهم، وقال في آية الإماء: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } [35]؛ فإنما أباح النساء المؤمنات، وليس هذا موضع بسط هذه المسألة.

وأما الأمة المجوسية فالكلام فيها ينبني على أصلين:

أحدهما: أن نكاح المجوسيات لا يجوز، كما لا يجوز نكاح الوثنيات. وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وذكره الإمام أحمد عن خمسة من الصحابة في ذبائحهم ونسائهم، وجعل الخلاف في ذلك من جنس خلاف أهل البدع.

والأصل الثاني: أن من لا يجوز نكاحهن لا يجوز وطئهن بملك اليمن كالوثنيات، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وحكي عن أبي ثور: أنه قال: يباح وطء الإماء بملك اليمين على أي دين كن. وأظن هذا يذكر عن بعض المتقدمين. فقد تبين أن في وطء الأمة الوثنية نزاعا. وأما الأمة الكتابية فليس في وطئها مع إباحة التزوج بهن نزاع، بل في التزوج بها خلاف مشهور. وهذا كله مما يبين أن القول بجواز التزوج بهن مع المنع من التسري بهن لم يقله أحد ولا يقوله فقيه. وحينئذ فنقول: الدليل على أنه لا يحرم التسري بهن وجوه:

أحدها: أن الأصل: الحل، ولم يقم على تحريمهن دليل من نص ولا إجماع ولا قياس، فبقي حل وطئهن على الأصل؛ وذلك أن ما يستدل به من ينازع في حل نكاحهن كقوله: { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ } [36]، وقوله: { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [38]، إنما يتناول النكاح، لا يتناول الوطء بملك اليمين. ومعلوم أنه ليس في السنة ولا في القياس ما يوجب تحريمهن، فيبقي الحل على الأصل.

الثاني: أن قوله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [61] يقتضي عموم جواز الوطء بملك اليمين مطلقا، إلا ما استثناه الدليل؛ حتى إن عثمان وغيره من الصحابة جعلوا مثل هذا النص متناولا للجمع بين الأختين حين قالوا: أحلتهما آية، وحرمتهما آية. فإذا كانوا قد جعلوه عاما في صورة حرم فيها النكاح، فلأن يكون عاما في صورة لا يحرم فيها النكاح أولى وأحرى.

الثالث: أن يقال: قد أجمع العلماء على حل ذلك كما ذكرناه، ولم يقل أحد من المسلمين: إنه يجوز نكاحهن، ويحرم التسري بهن، بل قد قيل: يحرم الوطء في ملك اليمين حيث يحرم الوطء في النكاح. وقيل: يجوز التزوج بهن. فعلم أن الأمة مجمع على التسري بها، ولم يكن أرجح من حل النكاح، ولم يكن دونه. فلو حرم التسري دون النكاح كان خلاف الإجماع.

الرابع: أن يقال: إن حل نكاحهن يقتضي حل التسري بهن من طريق الأولى والأحرى؛ وذلك أن كل من جاز وطؤها بالنكاح جاز وطؤها بملك اليمين بلا نزاع. وأما العكس فقد تنازع فيه؛ وذلك لأن ملك اليمين أوسع، لا يقتصر فيه على عدد، والنكاح يقتصر فيه على عدد. وما حرم فيه الجمع بالنكاح قد نوزع في تحريم الجمع فيه بملك اليمين، وله أن يستمتع بملك اليمين مطلقا من غير اعتبار قسم ولا استئذان في عزل، ونحو ذلك مما حجر عليه فيه لحق الزوجة. وملك النكاح نوع رق، وملك اليمين رق تام.

وأباح الله للمسلمين أن يتزوجوا أهل الكتاب، ولا يتزوج أهل الكتاب نساءهم؛ لأن النكاح نوع رق، كما قال عمر: النكاح رق؛ فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته. وقال زيد ابن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله تعالى: { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْباب } [62]. وقد قال النبي ﷺ: (اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم) فجوز للمسلم أن يسترق هذه الكافرة، ولم يجز للكافر أن يسترق هذه المسلمة؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، كما جوز للمسلم أن يملك الكافر، ولم يجوز للكافر أن يملك المسلم. فإذا جواز وطئهن من ملك تام أولى وأحرى.

يوضح ذلك: أن المانع: إما الكفر، وإما الرق. وهذا الكفر ليس بمانع، والرق ليس مانعا من الوطء بالملك؛ وإنما يصلح أن يكون مانعا من التزوج. فإذا كان المقتضي للوطء قائما، والمانع منتفيا، جاز الوطء. فهذا الوجه مشتمل على قياس التمثيل وعلى قياس الأولى ويخرج منه وجه رابع يجعل قياس التعليل. فيقال: الرق مقتض لجواز وطء المملوكة، كما نبه النص على هذه العلة كقوله: { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ً } [19]، وإنما يمتنع الوطء بسبب يوجب التحريم؛ بأن تكون محرمة بالرضاع، أو بالصهر، أو بالشرك، ونحو ذلك. وهذه ليس فيها ما يصلح للمنع إلا كونها كتابية، وهذا ليس بمانع. فإذا كان المقتضي للحل قائما، والمانع المذكور لا يصلح أن يكون معارضا، وجب العمل بالمقتضي السالم عن المعارض المقاوم، وهذه الوجوه بعد تمام تصورها توجب القطع بالحل.

الوجه الخامس: أن من تدبر سير الصحابة والسلف على عهد النبي ﷺ والصحابة وجد آثارا كثيرة تبين أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مانعا، بل هذه كانت سنة النبي ﷺ وسنة خلفائه: مثل الذي كانت له أم ولد، وكانت تسب النبي ﷺ، فقام يقتلها، وقد روي حديثها أبو داود وغيره. وهذه لم تكن مسلمة، لكن هذه القصة قد يقال: إنه لا حجة فيها؛ لأنها كانت في أوائل مقدم النبي ﷺ المدينة، ولم يكن حينئذ يحرم نكاح المشركات، وإنما ثبت التحريم بعد الحديبية لما أنزل الله تعالى: { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [38]، وطلق عمر امرأته التي كانت بمكة، وأما الآية التي في البقرة فلا يعلم تاريخ نزولها وفي البقرة ما نزل متأخرا كآيات الزنا، وفيها ما نزل متقدما كآيات الصيام ومثل ما روي أن النبي ﷺ لما أراد غزوة تبوك قال للجد بن قيس: (هل لك في نساء بني الأصفر؟ ) فقال: { ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي } [63]، ومثل فتحه لخيبر، وقسمه للرقيق، ولم ينه المسلمين عن وطئهن حتى يسلمن كما أمرهم بالاستبراء.

بل من يبيح وطأ الوثنيات بملك اليمين، قد يستدل بما جري يوم أوطاس من قوله: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة) على جواز وطء الوثنيات بملك اليمين. وفي هذا كلام ليس هذا موضعه، والصحابة لما فتحوا البلاد لم يكونوا يمتنعون عن وطء النصرانيات.
فصل في وطء الإماء المجوسيات

وأما المجوسية، فقد ذكرنا أن الكلام فيها مبني على أصلين:

أحدهما: أن المجوس لا تحل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم والدليل على هذا وجوه:

أحدها: أن يقال: ليسوا من أهل الكتاب، ومن لم يكن من أهل الكتاب لم يحل طعامه ولا نساؤه. أما المقدمة الأولي، ففيها نزاع شاذ فالدليل عليها أنه سبحانه قال: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } [64]، فتبين أنه أنزل القرآن كراهة أن يقولوا ذلك ومنعا لأن يقولوا ذلك ودفعا لأن يقولوا ذلك، فلو كان قد أنزل على أكثر من طائفتين لكان هذا القول كذبا فلا يحتاج إلى مانع من قوله.

وأيضا، فإنه قال: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفصل بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [56]، فذكر الملل الست، وذكر أنه يفصل بينهم يوم القيامة، ولما ذكر الملل التي من فيها سعيد في الآخرة قال: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليوم الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحا } [65]، في موضعين، فلم يذكر المجوس ولا المشركين: فلو كان في هاتين الملتين سعيد في الآخرة كما في الصابئين واليهود والنصاري، لذكرهم، فلو كان لهم كتاب لكانوا قبل النسخ والتبديل على هدي، وكانوا يدخلون الجنة إذا عملوا بشريعتهم، كما كان اليهود والنصاري قبل النسخ والتبديل، فلما لم يذكر المجوس في هؤلاء علم أنه ليس لهم كتاب، بل ذكر الصابئين دونهم، مع أن الصابئين ليس لهم كتاب، إلا أن يدخلوا في دين أحد من أهل الكتابين. وهو دليل على أن المجوس أبعد عن الكتاب منهم.

وأيضا، ففي المسند والترمذي وغيرهما من كتب الحديث والتفسير والمغازي الحديث المشهور: لما اقتتلت فارس والروم، وانتصرت الفرس، ففرح بذلك المشركون؛ لأنهم من جنسهم ليس لهم كتاب، واستبشر بذلك أصحاب النبي ﷺ؛ لكون النصاري أقرب إليهم؛ لأن لهم كتابا، وأنزل الله تعالى: { الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } الآية [66]. وهذا يبين أن المجوس لم يكونوا عند النبي ﷺ وأصحابه لهم كتاب.

وأيضا، ففي حديث الحسن بن محمد بن الحنفية وغيره من التابعين: أن النبي ﷺ أخذ الجزية من المجوس، وقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم)، وهذا مرسل. وعن خمسة من الصحابة توافقه، ولم يعرف عنهم خلاف. وأما حذيفة، فذكر أحمد: أنه تزوج بيهودية. وقد عمل بهذا المرسل عوام أهل العلم. والمرسل في أحد قولي العلماء حجة، كمذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وفي الآخر هو حجة إذا عضده قول جمهور أهل العلم وظاهر القرآن، أو أرسل من وجه آخر. وهذا قول الشافعي. فمثل هذا المرسل حجة باتفاق العلماء. وهذا المرسل نص في خصوص المسألة، غير محتاج إلى أن يبني على المتقدمين.

فإن قيل: روي عن على: أنه كان لهم كتاب فرفع. قيل: هذا الحديث قد ضعفه أحمد وغيره، وإن صح فإنه إنما يدل على أنه كان لهم كتاب فرفع، لا أنه الآن بأيديهم كتاب، وحينئذ فلا يصح أن يدخلوا في لفظ أهل الكتاب؛ إذ ليس بأيديهم كتاب، لا مبدل، ولا غير مبدل، ولا منسوخ، ولا غير منسوخ، ولكن إذا كان لهم كتاب ثم رفع، بقي لهم شبهة كتاب، وهذا القدر يؤثر في حقن دمائهم بالجزية إذا قيدت بأهل الكتاب. وأما الفروج والذبائح، فحلها مخصوص بأهل الكتاب. وقول النبي ﷺ: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، دليل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب، وإنما أمر أن يسن بهم سنتهم في أخذ الجزية خاصة، كما فعل ذلك الصحابة، فإنهم لم يفهموا من هذا اللفظ إلا هذا الحكم. وقد روي مقيدا: (غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم) فمن جوز أخذ الجزية من أهل الأوثان قاس عليهم غيرهم في الجزية، ومن خصمهم بذلك قال: إن لهم شبهة كتاب بخلاف غيرهم. والدماء تعصم بالشبهات ولا تحل الفروج والذبائح بالشبهات، ولهذا لما تنازع على وابن عباس في ذبائح بني تغلب قال على: إنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر. وقرأ ابن عباس قوله تعالى: { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [67]، فعلى رضي الله عنه منع من ذبائحهم مع عصمة دمائهم، وهو الذي روي حديث كتاب المجوس، فعلم أن التشبه بأهل الكتاب في بعض الأمور يقتضي حقن الدماء، دون الذبائح والنساء.
سئل عن رجل تكلم بكلمة الكفر ثم بعد ذلك حلف بالطلاق من امرأته ثلاثا

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل تكلم بكلمة الكفر، وحكم بكفره، ثم بعد ذلك حلف بالطلاق من امرأته ثلاثًا: فإذا رجع إلى الإسلام هل يجوز له أن يجدد النكاح من غير تحليل، أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، إذا ارتد ولم يعد إلى الإسلام حتى انقضت عدة امرأته، فإنها تبين منه عند الأئمة الأربعة. وإذا طلقها بعد ذلك، فقد طلق أجنبية فلا يقع بها الطلاق. فإذا عاد إلى الإسلام فله أن يتزوجها. وإن طلقها في زمن العدة قبل أن يعود إلى الإسلام، فهذا فيه قولان للعلماء:

أحدهما: أن البينونة تحصل بنفس الردة، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك في المشهور عنه، وأحمد في إحدى الروايتين عنه. فعلى هذا يكون الطلاق بعد هذا طلاق الأجنبية فلا يقع.

والثاني: أن النكاح لا يزول حتى تنقضي العدة، فإن أسلم قبل انقضاء العدة، فهما على نكاحهما. وهذا مذهب الشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى عنه. فعلى هذا إذا كان الطلاق في العدة، وعاد إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، تبين أنه طلق زوجته، فيقع الطلاق. وإن كان لم يعد إلى الإسلام حتى انقضت العدة، تبين أنه طلق أجنبية، فلا يقع به الطلاق. والله أعلم.
باب الصداق
السنة تخفيف الصداق

وقال شيخ الإسلام رحمه الله:

السنة: تخفيف الصداق، وألا يزيد على نساء النبي ﷺ وبناته فقد روت عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال: (إن أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة) وعن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: (خيرهن أيسرهن صداقًا) وعن الحسن البصري، قال: قال رسول الله ﷺ: (ألزموا النساء الرجال، ولا تغالوا في المهور). وخطب عمر بن الخطاب الناس فقال: ألا لا تغالوا في مهور النساء؛ فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوي عند الله، كان أولاكم النبي ﷺ. ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية. قال الترمذي: حديث صحيح.

ويكره للرجل أن يصدق المرأة صداقًا يضر به إن نقده، ويعجز عن وفائه إن كان دينًا. قال أبو هريرة: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال: (على كم تزوجتها؟ ) قال: على أربع أواق. فقال النبي ﷺ: (على أربع أواق فكأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل! ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسي أن نبعثك في بعث تصيب منه). قال: فبعث بعثًا إلى بني عبس فبعث ذلك الرجل فيهم. رواه مسلم في صحيحه. والأوقية عندهم أربعون درهمًا، وهي مجموع الصداق، ليس فيه مقدم ومؤخر. وعن أبي حدرد السلمي: أنه ذكر أنه تزوج امرأة فأتي النبي ﷺ يستعينه في صداقها، فقال: (كم أصدقت؟ ) قال: فقلت: مائتي درهم. فقال: (لو كنتم تغرفون الدراهم من أوديتكم ما زدتم). رواه الإمام أحمد في مسنده. وإذا أصدقها دينًا كثيرًا في ذمته وهو ينوي ألا يعطيها إياه، كان ذلك حرامًا عليه، فإنه قد روي أبو هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: (من تزوج امرأة بصداق ينوي ألا يؤديه إليها فهو زان، ومن ادان دينًا ينوي أن لا يقضيه فهو سارق).

وما يفعله بعض أهل الجفاء والخيلاء والرياء من تكثير المهر للرياء والفخر، وهم لا يقصدون أخذه من الزوج، وهو ينوي أن لا يعطيهم إياه، فهذا منكر قبيح، مخالف للسنة، خارج عن الشريعة.

وإن قصد الزوج أن يؤديه وهو في الغالب لا يطيقه فقد حمل نفسه، وشغل ذمته، وتعرض لنقص حسناته، وارتهانه بالدين، وأهل المرأة قد آذوا صهرهم وضروه.

والمستحب في الصداق مع القدرة واليسار: أن يكون جميع عاجله وآجله لا يزيد على مهر أزواج النبي ﷺ ولا بناته، وكان ما بين أربعمائة إلى خمسمائة بالدراهم الخالصة، نحوًا من تسعة عشر دينارًا، فهذه سنة رسول الله ﷺ من فعل ذلك فقد استن بسنة رسول الله ﷺ في الصداق، قال أبو هريرة رضي الله عنه: كان صداقنا إذ كان فينا رسول رسول الله ﷺ عشر أواق، وطبق بيديه. وذلك أربعمائة درهم. رواه الإمام أحمد في مسنده، وهذا لفظ أبي داود في سننه، وقال أبو سلمة: قلت لعائشة: كم كان صداق رسول الله ﷺ؟ قالت: كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشًا. قالت: أتدري ما النش؟ قلت: لا. قالت: نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم. رواه مسلم في صحيحه، وقد تقدم عن عمر أن صداق بنات رسول الله ﷺ كان نحوًا من ذلك، فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله ﷺ اللواتي هن خير خلق الله في كل فضيلة، وهن أفضل نساء العالمين في كل صفة، فهو جاهل أحمق. وكذلك صداق أمهات المؤمنين. وهذا مع القدرة واليسار. فأما الفقير ونحوه فلا ينبغي له أن يصدق المرأة إلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة.

والأولى تعجيل الصداق كله للمرأة قبل الدخول إذا أمكن، فإن قدم البعض وأخر البعض، فهو جائز. وقد كان السلف الصالح الطيب يرخصون الصداق، فتزوج عبد الرحمن ابن عوف في عهد رسول الله ﷺ على وزن نواة من ذهب. قالوا: وزنها ثلاثة دراهم وثلث. وزوج سعيد بن المسيب بنته على درهمين، وهي من أفضل أيم من قريش، بعد أن خطبها الخليفة لابنه فأبي أن يزوجها به. والذي نقل عن بعض السلف من تكثير صداق النساء، فإنما كان ذلك لأن المال اتسع عليهم، وكانوا يعجلون الصداق كله قبل الدخول، لم يكونوا يؤخرون منه شيئا. ومن كان له يسار ووجد فأحب أن يعطي امرأته صداقًا كثيرًا فلا بأس بذلك، كما قال تعالى: { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شيئا } [68]. أما من يشغل ذمته بصداق لا يريد أن يؤديه، أو يعجز عن وفائه، فهذا مكروه. كما تقدم. وكذلك من جعل في ذمته صداقًا كثيرًا من غير وفاء له، فهذا ليس بمسنون. والله أعلم.
سئل عن الرجل يتزوج على صداق معين مكتوب

وسئل رحمه الله عن الرجل يتزوج على صداق معين مكتوب، ويتفقا على مقدم فيعطيه ثم يموت: هل يحسب المقدم من جملة الصداق المكتوب؟

فأجاب:

وأما ما يقدمه الزوج للمرأة من النقد الذي اتفقوا عليه غير الصداق الذي يكتب في الكتاب إذا أعطاها الزوج ذلك أو بعضه أو بدله، فإنه لا يحسب عليها من الصداق المكتوب، بل لو لم يعطها ذلك لكان لها أن تطلبه في أظهر قولي العلماء، وكان من الصداق الذي يستقر بالموت تأخذه كله بعد موته؛ فإنها إذا رضيت بأن يكون لها مقدم ومؤخر يسميه السلف عاجلا وآجلا وشارطته على أن يقدم لها كذا ويؤخر كذا وإن لم تذكر حين العقد فالشرط المتقدم على العقد إذا لم يفسخ حين عقد العقد كالمشروط في أظهر قولي العلماء. كما قد بسط الكلام على ذلك في الكتاب الكبير الذي صنفته في مسائل الذرايع والحيل وبيان الدليل على بطلان التحليل إلا أن يكون المراد أنه إذا دخل بها يعطيها قبل الدخول ذلك، فإذا لم يدخل بها لم تستحق ما شرط لها تعجيله قبل الدخول.
سئل عن امرأة عجل لها زوجها نقدا ولم يسمه في كتاب الصداق

وسئل رحمه الله تعالى عن امرأة عجل لها زوجها نقدًا، ولم يسمه في كتاب الصداق، ثم توفي عنها، فطلب الحاكم أن يحسب المعجل من الصداق المسمي في العقد؛ لكون المعجل لم يذكر في الصداق.

فأجاب:

الحمد لله، إن كانا قد اتفقا على العاجل المقدم والآجل المؤخر كما جرت به العادة فللزوجة أن تطلب المؤخر كله إن لم يذكر المعجل في العقد، وكذلك إن كان قد أهدي لها كما جرت به العادة. وأما إن كان أقبضها من الصداق المسمي حسب على الزوجة. والله أعلم.
سئل عن رجل اعتقلته زوجته عند الحاكم على الصداق

وسئل رحمه الله عن رجل اعتقلته زوجته عند الحاكم على الصداق مدة شهرين، ولم يوجد له موجود: فهل يجوز للحاكم أن يبقيه أو يطلقه؟

فأجاب:

إذا لم يعرف له مال حلفه الحاكم على إعساره وأطلقه. ولم يجز حبسه وتكليفه البينة والحالة هذه في المذاهب الأربعة.
سئل عن امرأة بكر تزوجها رجل ودخل بها ثم ادعى أنها كانت ثيبا

وسئل رحمه الله عن امرأة بكر تزوجها رجل ودخل بها، ثم ادعي أنها كانت ثيبًا، وتحاكما إلى الحاكم، فأرسل معها امرأتين فوجدوها كانت بكرًا فأنكر. ونكل عن المهر: ما يجب عليه؟

فأجاب:

ليس له ذلك، بل عليه كمال المهر، كما قال زرارة، وقضي الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون: أن من أغلق الباب وأرخى الستر فقد وجبت عليه العدة والمهر. والله أعلم.
سئل عن رجل خطب امرأة فاتفقوا على النكاح من غير عقد

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل خطب امرأة، فاتفقوا على النكاح من غير عقد، وأعطي أباها لأجل ذلك شيئا، فماتت قبل العقد: هل له أن يرجع بما أعطي؟

فأجاب:

إذا كانوا قد وفوا بما اتفقوا عليه، ولم يمنعوه من نكاحها حتى ماتت فلا شيء عليهم، وليس له أن يسترجع ما أعطاهم، كما أنه لو كان قد تزوجها استحقت جميع الصداق، وذلك لأنه إنما بذل لهم ذلك ليمكنوه من نكاحها وقد فعلوا ذلك، وهذا غاية الممكن.
سئل عن امرأة تزوجت ثم بان أنه كان لها زوج ففرق الحاكم بينهما

وسئل رحمه الله عن امرأة تزوجت، ثم بان أنه كان لها زوج، ففرق الحاكم بينهما: فهل لها مهر؟ وهل هو المسمي، أو مهر المثل؟

فأجاب:

إذا علمت أنها مزوجة ولم تستشعر؛ لا موته، ولا طلاقه، فهذه زانية مطاوعة لا مهر لها. وإذا اعتقدت موته وطلاقه فهو وطء شبهة بنكاح فاسد فلها المهر، وظاهر مذهب أحمد ومالك أن لها المسمي؛ وعن أحمد رواية أخرى كقول الشافعي أن لها مهر المثل. والله أعلم.
سئل عن معسر هل يقسط عليه الصداق

وسئل رحمه الله تعالى عن معسر: هل يقسط عليه الصداق؟

فأجاب:

إذا كان معسرًا قسط عليه الصداق على قدر حاله، ولم يجز حبسه، لكن أكثر العلماء يقبلون قوله في الإعسار مع يمينه، وهو مذهب الشافعي وأحمد. ومنهم من لا يقبل البينة إلا بعد الحبس، كما يقوله من يقوله من أصحاب أبي حنيفة. فإذا كانت الحكومة عند من يحكم بمذهب الشافعي وأحمد لم يحبس.
سئل عن رجل تزوج امرأة وأعطاها المهر وكتب عليه صداقا

وسئل رحمه الله عن رجل تزوج امرأة وأعطاها المهر، وكتب عليه صداقًا ألف دينار وشرطوا عليه أننا ما نأخذ منك شيئا إلا عندنا هذه عادة وسمعة، والآن توفي الزوج، وطلبت المرأة كتابها من الورثة على التمام والكمال.

فأجاب:

إذا كانت الصورة على ما ذكر لم يجز لها أن تطالب إلا ما اتفقا عليه، وأما ما ذكر على الوجه المذكور فلا يحل لها المطالبة به، بل يجب لها ما اتفقا عليه.
سئل عن امرأة تزوجت برجل فهرب وتركها من مدة ست سنين

وسئل رحمه الله تعالى عن امرأة تزوجت برجل، فهرب وتركها من مدة ست سنين، ولم يترك عندها نفقة، ثم بعد ذلك تزوجت رجلا ودخل بها، فلما اطلع الحاكم عليها فسخ العقد بينهما: فهل يلزم الزوج الصداق؟ أم لا؟

فأجاب:

إن كان النكاح الأول فسخ لتعذر النفقة من جهة الزوج، وانقضت عدتها، ثم تزوجت الثاني، فنكاحه صحيح. وإن كانت تزوجت الثاني قبل فسخ نكاح الأول، فنكاحه باطل. وإن كان الزوج والزوجة علما أن نكاح الأول باق، وأنه يحرم عليهما النكاح، فيجب إقامة الحد عليهما. وإن جهل الزوج نكاح الأول، أو نفاه، أو جهل تحريم نكاحه قبل الفسخ، فنكاحه نكاح شبهة، يجب عليه فيه الصداق، ويلحق فيه النسب، ولا حد فيه، وإن كانت غرته المرأة أو وليها فأخبره أنها خلية عن الأزواج، فله أن يرجع بالصداق الذي أداه على من غره في أصح قولي العلماء.
فصل إذا خلا الرجل بالمرأة فمنعته نفسها من الوطء

وقال شيخ الإسلام رحمه الله:

فصل إذا خلا الرجل بالمرأة فمنعته نفسها من الوطء ولم يطأها، لم يستقر مهرها في مذهب الإمام أحمد الذي ذكره أصحابه كالقاضي أبي يعلى، وأبي البركات، وغيرهما وغيره من الأئمة الأربعة: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة. وإذا اعترفت بأنها لم تمكنه من وطئها لم يستقر مهرها باتفاقهم. ولا يجب لها عليه نفقة مادامت كذلك باتفاقهم. وإذا كانت مبغضة له مختارة سواه فإنها تفتدي نفسها منه.
سئل عن مملوك تزوج بامرأة من المسلمين ثم بعد ذلك ظهرت عبوديته

وسئل رحمه الله عن مملوك في الرق والعبودية، تزوج بامرأة من المسلمين، ثم بعد ذلك ظهرت عبوديته، وكان قد اعترف أنه حر، وأن له خيرًا في مصر، وقد ادعوا عليه بالكتاب، وحقوق الزوجية، واقترض من زوجته شيئا: فهل يلزمه شيء أو لا؟

فأجاب:

الحمد لله، تزوج العبد بغير إذن سيده إذا لم يجزه السيد باطل باتفاق المسلمين، وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (أيما عبد تزوج بغير إذن موإليه فهو عاهر)، لكن إذا أجازه السيد بعد العقد صح في مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين، ولم يصح في مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى.

وإذا طلب النكاح فعلى السيد أن يزوجه لقوله تعالى: { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [22]. وإذا غر المرأة وذكر أنه حر، وتزوجها، ودخل بها، وجب المهر لها بلا نزاع، لكن هل يجب المسمي كقول مالك في رواية؟ أو مهر المثل كقول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في رواية؟ أو يجب الخمسان: كأحمد في رواية ثالثة؟ هذا فيه نزاع بين العلماء. وقد يتعلق هذا الواجب برقبته كقول أحمد في المشهور عنه، والشافعي في قول، وأظنه قول أبي حنيفة أو يتعلق ذلك بذمة العبد فيتبع به إذا أعتق، كقول الشافعي في الجديد، وقول أبي يوسف ومحمد وغيرهما؟ والأول أظهر؛ فإن قوله لهم: إنه حر تلبيس عليهم، وكذب عليهم، ثم دخوله عليها بهذا الكذب عدوان منه عليهم. والأئمة متفقون على أن المملوك لو تعدي على أحد فأتلف ماله، أو جرحه أو قتله، كانت جنايته متعلقة برقبته، لا تجب في ذمة السيد، بل يقال للسيد: إن شئت أن تفك مملوكك من هذه الجناية، وإن شئت أن تسلمه حتى تستوفي هذه الجناية من رقبته. وإذا أراد أن يقتله، فعليه أقل الأمرين من قدر الجناية، أو قيمة العبد: في مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما. وعند مالك وأحمد في رواية يفديه بأرش الجناية بالغًا ما بلغ، فهذا العبد ظالم معتد جار على هؤلاء، فتتعلق جنايته برقبته. وكذلك ما اقترضه من مال الزوجة مع قوله إنه حر، فهو عدوان عليهم، فيتعلق برقبته في أصح قولي العلماء. والله أعلم.
سئل عن امرأة اعتاضت عن صداقها بعد موت الزوج

وسئل رحمه الله تعالى عن امرأة اعتاضت عن صداقها بعد موت الزوج، فباعت العوض، وقبضت الثمن، ثم أقرت أنها قبضت الصداق من غير ثمن الملك: فهل يبطل حق المشتري، أو يرجع عليها بالذي اعترفت أنها قبضته من غير الملك؟

فأجاب:

لا يبطل حق بمجرد ذلك، وللورثة أن يطلبوا منها ثمن الملك الذي اعتاضت به، إذا أقرت بأن قبض صداقها قبل ذلك. وكان قد أفتى طائفة بأنه يرجع عليها بالذي اعترفت بقبضه من التركة، وليس بشيء؛ لأن هذا الإقرار تضمن أنها استوفت صداقها، وأنها بعد هذا الاستيفاء له أحدثت ملكًا آخر، فإنما فوتت عليهم العقار، لا على المشتري.
سئل عن رجل تزوج امرأة ودفع لها الحال بكماله وطلبها للدخول فامتنعت

وسئل رحمه الله عن رجل تزوج امرأة، وكتب كتابها، ودفع لها الحال بكماله، وبقي المقسط من ذلك، ولم تستحق عليه شيئا، وطلبها للدخول فامتنعت، ولها خالة تمنعها: فهل تجبر على الدخول، ويلزم خالتها المذكورة تسليمها إليه؟

فأجاب:

ليس لها أن تمتنع من تسليم نفسها والحال هذه باتفاق الأئمة، ولا خالتها ولا غير خالتها أن يمنعها، بل تعزر الخالة على منعها من فعل ما أوجب الله عليها، وتجبر المرأة على تسليم نفسها للزوج.
سئل عن رجل تزوج بامرأة فطلقها ثلاثا ولها كتاب إلى مدة

وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بامرأة فطلقها ثلاثًا، ولها كتاب إلى مدة وهو معسر.

فأجاب:

إذا كان معسرًا لم يجز مطالبتها له حتى يوسر، وإذا شهدت بينة بذلك سمعت، بل القول قوله مع يمينه إذا لم يعرف له مال في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.
سئل عن رجل تزوج بامرأة وفي ظاهر الحال أنه حر

وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بامرأة وفي ظاهر الحال أنه حر، فأقامت في صحبته إحدى عشرة سنة، ثم طلقها ولم يردها، وطالبته بحقوقها، فقال: أنا مملوك يجب الحجر على: فهل يلزمه القيام بحق الزوجة على حكم الشرع الشريف في المذاهب الأربعة؟

فأجاب:

حق الزوجة ثابت لها المطالبة به لوجهين:

أحدهما: أن مجرد دعواه الرق لا يسقط حقها والحال ما ذكر؛ فإن الأصل في الناس الحرية، وإذا ادعي أنه مملوك بلا بينة ولم يعرف خلاف ذلك، ففي قبول قوله ثلاثة أقوال للعلماء في مذهب أحمد وغيره:

أحدها: يقبل فيما عليه دون ماله على غيره، كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في قول لهم.

والثاني: لا يقبل بحال، كقول من قال ذلك من المالكية، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

والثالث: يقبل قوله مطلقًا، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد، فإذا كان مع دعوي المدعي لرقه لا يقبل إقراره بما يسقط حقها عند جمهور أئمة الإسلام: فكيف بمجرد دعواه الرق؟ وكيف وله خير وإقطاع، وهو منتسب، وقد ادعي الحرية حتى زوج بها؟

الوجه الثاني: أنه لو قدر أنه كذب ولبس عليها وادعي الحرية حتى تزوج بها ودخل، فهذا قد جني بكذبه وتلبيسه، والرقيق إذا جني تعلقت جنايته برقبته: فلها أن تطلب حقها من رقبته، إلا أن يختار سيده أن يفديه بأداء حقها، فله ذلك.
باب وليمة العرس
سئل عن طعام الزواج وطعام العزاء وطعام الختان وطعام الولادة

وسئل رحمه الله تعالى عن طعام الزواج وطعام العزاء وطعام الختان وطعام الولادة.

فأجاب:

أما وليمة العرس فهي سنة، والإجابة إليها مأمور بها وأما وليمة الموت فبدعة، مكروه فعلها، والإجابة إليها. وأما وليمة الختان فهي جائزة: من شاء فعلها، ومن شاء تركها. وكذلك وليمة الولادة إلا أن يكون قد عق عن الولد؛ فإن العقيقة عنه سنة. والله أعلم.
سئل هل يكره طعام الطهور وهل فرق بينه وبين وليمة العرس

وسئل رحمه الله: هل يكره طعام الطهور، أم لا؟ وهل فرق بينه وبين وليمة العرس، أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، أما وليمة العرس فسنة مأمور بها باتفاق العلماء، حتى إن منهم من أوجبها؛ فإنها تتضمن إعلان النكاح وإظهاره، وذلك يتضمن الفرق بينه وبين السفاح واتخاذ الأخدان؛ ولهذا كانت الإجابة إليها واجبة عند العلماء عند شروط ذلك وانتفاء موانعه. وأما دعوة الختان فلم تكن الصحابة تفعلها، وهي مباحة ثم من العلماء أصحاب أحمد وغيره من كرهها. ومنهم من رخص فيها، بل يستحبها. وأما الإجابة إليها، فإن كل من فعلها أثم. ومنهم من استحبها. ومنهم من لم يستحبها. ومنهم من كره الإجابة إليها أيضًا. والله أعلم.
سئل عن قول النبي من أكل مع مغفور غفر له

وسئل رحمه الله تعالى عن قول النبي ﷺ: من أكل مع مغفور غفر له: هل صح ذلك أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، لم ينقل هذا أحد عن النبي ﷺ في اليقظة؛ وإنما ذكروا أنه رؤي في المنام يقول ذلك، وليس هذا على الإطلاق صحيح. والله أعلم.
سئل عن معنى قوله من أتى إلى طعام لم يدع إليه فقد دخل سارقا

وسئل عن معنى قوله: (من أتي إلى طعام لم يدع إليه فقد دخل سارقًا، وخرج مغيرًا)

فأجاب:

الحمد لله، معناه: الذي يدخل إلى دعوة بغير إذن أهلها، فإنه يدخل مختفيا كالسارق، ويأكل بغير اختيارهم، فيستحون من نهيه، فيخرج كالمغير الذي يأخذ أموال الناس بالقهر. والله أعلم.
سئل عن شرب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن شرب النبي ﷺ ثلاثًا يعني تنفس ثلاثًا فلو شرب أحد مرة هل يكون حرامًا؟ وهل ورد أنه لم يشرب مرة فقط؟ وقد جاء في بعض الكتب العشرة: أنه شرب مرة واحدة، وقد كتب في هذا فتيا، وقالوا: إذا شرب مرة حرام، ولم يسمع أحد من أهل العلم هذا القول، وقد ورد الحديث أيضًا: أنه شرب ﷺ قائمًا، فهل هذا للتنزيه؟ أو للتحريم؟ وهل إذا شرب من غير عذر قائمًا عليه إثم؟ وهل إذا شرب مرة واحدة هل يكون حرامًا؟

فأجاب:

الحمد لله، الأفضل أن يتنفس في الشرب ثلاثًا، ويكون نفسه في غير الإناء، فإن التنفس في الإناء منهي عنه، وإن لم يتنفس وشرب بنفس واحد جاز، فإن في الصحيح عن أنس أن النبي ﷺ كان يتنفس في الإناء ثلاثًا وفي رواية لمسلم: كان يتنفس في الشراب ثلاثًا، يقول: (إنه أروي وأمري)، فهذا دليل على استحباب التنفس ثلاثًا. وفي الصحيحين عن أبي قتادة قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء)، فهذا فيه النهي عن التنفس في الإناء. وعن أبي سعيد الخدري: أن النبي ﷺ نهي عن التنفس في الشراب، فقال الرجل: القذاة أراها في الإناء، فقال: (أهرقها) قال: فإني لا أروي عن نفس واحد، قال: (فأبن القدح عن فيك). رواه الترمذي وصححه. فلم ينه النبي ﷺ عن الشرب بنفس واحد، ولكن لما قال له الرجل: إني لا أروي من نفس واحد قال: (أبن القدح عن فيك) أي: لتتنفس إذا احتجت إلى النفس خارج الإناء. وفيه دليل على أنه لو روي في نفس واحد ولم يحتج إلى النفس جاز. وما علمت أحدًا من الأئمة أوجب التنفس، وحرم الشرب بنفس واحد.

وفعله ﷺ يدل على الاستحباب، كما كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله ولو بدأ في الطهارة بمياسره قبل ميامنه كان تاركًا للاختيار، وكان وضوؤه صحيحًا من غير نزاع أعلمه بين الأئمة.

وأما الشرب قائمًا فقد جاءت أحاديث صحيحة بالنهي، وأحاديث صحيحة بالرخصة؛ ولهذا تنازع العلماء فيه، وذكر فيه روايتان عن أحمد، ولكن الجمع بين الأحاديث أن تحمل الرخصة على حال العذر. فأحاديث النهي مثلها في الصحيح أن النبي ﷺ نهي عن الشرب قائمًا وفيه عن قتادة عن أنس: أن النبي ﷺ زجر عن الشرب قائمًا. قال قتادة: فقلنا: الأكل؟ فقال ذاك شر وأخبث.

وأحاديث الرخصة مثل حديث ما في الصحيحين عن على وابن عباس قال: شرب النبي ﷺ قائمًا من زمزم وفي البخاري عن علي: أن عليا في رحبة الكوفة شرب، وهو قائم. ثم قال: إن ناسًا يكرهون الشرب قائمًا، وأن رسول الله ﷺ صنع كما صنعت. وحديث على هذا قد روي فيه أثر أنه كان ذلك من زمزم، كما جاء في حديث ابن عباس، هذا كان في الحج، والناس هناك يطوفون ويشربون من زمزم، ويستقون ويسألونه، ولم يكن موضع قعود، مع أن هذا كان قبل موته بقليل، فيكون هذا ونحوه مستثني من ذلك النهي، وهذا جار عن أحوال الشريعة: أن المنهي عنه يباح عند الحاجة، بل ما هو أشد من هذا يباح عند الحاجة، بل المحرمات التي حرم أكلها وشربها كالميتة والدم تباح للضرورة، وأما ما حرم مباشرته طاهرًا كالذهب والحرير فيباح للحاجة، وهذا النهي عن صفة في الأكل والشرب، فهذا دون النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة، وعن لباس الذهب والحرير؛ إذ ذاك قد جاء فيه وعيد، ومع هذا فهو مباح للحاجة، فهذا أولى. والله أعلم.
سئل عن الأكل والشرب قائما هل هو حلال

وسئل رحمه الله تعالى عن الأكل والشرب قائمًا: هل هو حلال؟ أم حرام؟ أم مكروه كراهية تنزيه؟ وهل يجوز الأكل والشرب إذا كان له عذر كالمسافر أو الأكل والشرب في الطريق ماشيًا؟

فأجاب:

أما مع العذر فلا بأس، فقد ثبت أن النبي ﷺ شرب من ماء زمزم وهو قائم. فإن الموضع لم يكن موضع قعود، وأما مع عدم الحاجة فيكره؛ لأنه ثبت أن النبي ﷺ نهي عنه. وبهذا التفصيل يحصل الجمع بين النصوص. والله أعلم.
سئل عن رجل قال إن النبي ما أكل بطيخا أصفر

وسئل رحمه الله عن رجل قال: إن النبي ﷺ ما أكل بطيخًا أصفر عمره، وقال الآخر: إن النبي ﷺ أكل العنب دو، دو؟

فأجاب:

الحمد لله، قوله: أكل العنب: دو، دو كذب؛ لا أصل له، وأما البطيخ فقد كانوا يأكلون البطيخ، لكن المشهور عندهم كان البطيخ الأخضر، وما ينقل عن الإمام أحمد: أنه امتنع عن أكل البطيخ؛ لعدم علمه بكيفية أكل النبي ﷺ، كذب على الإمام أحمد. كان ﷺ يأكل فاكهة بلده ما قدمت له فاكهة، فترك أكلها لا على سبيل الزهد الفاسد، ولا على سبيل الورع الفاسد، بل كان لا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، ويتبع قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [69]. فأمر بالأكل والشكر. فمن حرم الطيبات عليه، وامتنع من أكلها بدون سبب شرعي، فهو مذموم مبتدع، داخل في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [70]. ومن أكلها بدون الشكر الواجب فيها فهو مذموم، قال الله تعالى: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } [71]. أي: شكر النعيم. وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: (الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر)، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الله ليرضي عن العبد بأن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها). وكذلك الإسراف في الأكل مذموم، وهو مجاوزة الحد. ومن أكل بنية الاستعانة على عبادة كان مأجورًا على ذلك وكذلك ما ينفقه على أهل بيته، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: (نفقة المسلم على أهله يحتسبها صدقة)، وقال لسعد: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في في امرأتك).
سئل عن قول النبي إنه مكتوب على قشر البطيخ لا إله إلا الله

وسئل رحمه الله عن قول النبي ﷺ: إنه مكتوب على قشر البطيخ: لا إله إلا الله، موسى كليم الله. لا إله إلا الله، عيسى روح الله. لا إله إلا الله، محمد رسول الله. وأيضا من أكله بقشره، كان له بكل نهشة عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، وإن أكله ببزره فبكل ألف درجة في الجنة؟ وأنه ﷺ قال لأبي هريرة: ألك قميصان؟ بع الواحد، وكل به بطيخا أصفر. وهل صح عنه ﷺ أكل البطيخ بالرطب، وما معنى البطيخ بالرطب إن صح الحديث؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين. الأحاديث المتقدمة في البطيخ كلها مختلقة، لم يرغب النبي ﷺ في أكل البطيخ. وجميع ما يروى من هذا الجنس فهو كذب. وأما أكل البطيخ بالرطب فهو كأكل القثاء بالرطب والحديث بذلك أصح. والمراد به حلاوة هذا ورطوبة هذا. وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، فهذا بيان أكل البطيخ الأخضر بالرطب أو التمر. فأما أكله بالرطب الأصفر فلا أصل له، لا من نص، ولا قياس. والله أعلم.
سئل عن رجل حضر عنده جماعة ليطعمهم شيئا

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل حضر عنده جماعة ليطعمهم شيئا، فلما أحضر المائدة والخبز عليها وغاب ليأتي بالأدم، فقال رجل: إذا حضر الخبز، قال النبي ﷺ: لا تنتظروا شيئا، فأكلوا الخبز، وحضر الإدام، بقي بلا خبز، فقالوا له: كذبت على النبي ﷺ، وغرمت الرجل الخبز: فهل هذا الحديث الذي ذكره صحيح أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، لم يجئ في هذا شيء عن النبي ﷺ ولكن هذا يقوله بعض الناس، ومعناه الأمر بالقناعة، وإنه يكتفي بالخبز إذا حضر، ولا ينتظر غيره، ولا يطلب من المضيف غيره، فإن ذلك من كرامته. فأما إن كانوا منتظرين أدما يحضر، وإذا أكلوا الخبز بقي الأدم وحده، فانتظارهم حتى يأكلوا الأدم مع الخبز هو الذي يصلح. والله أعلم.
سئل عن الرجل إذا كان أكثر ماله حلالا وفيه شبهة قليلة

وسئل رحمه الله عن الرجل إذا كان أكثر ماله حلالا، وفيه شبهة قليلة، فإذا أضاف الرجل أو دعاه هل يجيبه، أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، إذا كان في الترك مفسدة من قطيعة رحم أو فساد ذات البين ونحو ذلك فإنه يجيبه؛ لأن الصلة وصلاح ذات البين واجب فإذا لم يتم إلا بذلك كان واجبا، وليست الإجابة محرمة. أو يقال: إن مصلحة ذلك الفعل راجحة على ما يخاف من الشبهة، وإن لم يكن فيه مفسدة، بل الترك مصلحة توقيه الشبهة، ونهى الداعي عن قليل الإثم. وكان في الإجابة مصلحة الإجابة فقط وفيها مفسدة الشبهة، فأيهما أرجح؟ هذا فيه خلاف فيما أظنه وفروع هذه المسألة كثيرة قد نقل أصحابنا وغيرهم فيها مسائل، قد يرجح بعض العلماء جانب الترك والورع. ويرجح بعضهم جانب الطاعة والمصلحة.
سئل عن رجل معه مال من حلال وحرام

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل معه مال من حلال وحرام: فهل يجوز لأحد أن يأكل من عيشه، أم لا؟

فأجاب:

إن عرف الحرام بعينه لم يأكل حتمًا، وإن لم يعرف عينه لم يحرم الأكل منه، لكن إذا كثر الحرام كان متروكًا ورعًا. والله أعلم.
سئل عن اللعب بالشطرنج

وسئل رحمه الله تعالى عن اللعب بالشطرنج: أحرام هو أم مكروه أم مباح؟ فإن قلتم: حرام، فما الدليل على تحريمه؟ وإن قلتم: مكروه، فما الدليل على كراهته؟ أو مباح، فما الدليل على إباحته؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، اللعب بها منه ما هو محرم متفق على تحريمه، ومنه ما هو محرم عند الجمهور، ومكروه عند بعضهم، وليس من اللعب بها ما هو مباح مستوي الطرفين عند أحد من أئمة المسلمين، فإن اشتمل اللعب بها على العوض كان حراما بالاتفاق. قال أبو عمر ابن عبد البر إمام المغرب: أجمع العلماء على أن اللعب بها على العوض قمار لا يجوز. وكذلك لو اشتمل اللعب بها على ترك واجب أو فعل محرم: مثل أن يتضمن تأخير الصلاة عن وقتها، أو ترك ما يجب فيها من أعمالها الواجبة باطنا أو ظاهرا، فإنها حينئذ تكون حراما باتفاق العلماء. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (تلك صلاة المنافق؛ يرقب الشمس حتى إذا صارت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا)، فجعل النبي ﷺ هذه الصلاة صلاة المنافقين. وقد ذم الله صلاتهم بقوله: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلا } [72]، وقال تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } [73]، وقد فسر السلف السهو عنها بتأخيرها عن وقتها، وبترك ما يؤمر به فيها، كما بين النبي ﷺ إن صلاة المنافق تشتمل على التأخير والتطفيف: قال سلمان الفارسي: إن الصلاة مكيال، فمن وفي وفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين. وكذلك فسروا قوله: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } [74]، قال: إضاعتها تأخيرها عن وقتها، وإضاعة حقوقها، كما جاء في الحديث (إن العبد إذا أكمل الصلاة بطهورها وقراءتها وخشوعها صعدت ولها برهان كبرهان الشمس، وتقول حفظك الله كما حفظتني. وإذا لم يكمل طهورها وقراءتها وخشوعها فإنها تلف كما يلف الثوب، ويضرب بها وجه صاحبها، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني).

والعبد وإن أقام صورة الصلاة الظاهرة فلا ثواب إلا على قدر ما حضر قلبه فيه منها، كما جاء في السنن لأبي داود وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: (إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها إلا عشرها). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها. وإذا غلب عليها الوسواس ففي براءة الذمة منها ووجوب الإعادة قولان معروفان للعلماء: أحدهما: لا تبرأ الذمة، وهو قول أبي عبد الله بن حامد وأبي حامد الغزالي، وغيرهما.

والمقصود أن الشطرنج متى شغل عما يجب باطنا أو ظاهرًا حرام باتفاق العلماء. وشغله عن إكمال الواجبات أوضح من أن يحتاج إلى بسط، وكذلك لو شغل عن واجب من غير الصلاة، من مصلحة النفس، أو الأهل أو الأمر بالمعروف، أو النهي عن المنكر، أو صلة الرحم، أو بر الوالدين، أو ما يجب فعله من نظر في ولاية أو إمامة أو غير ذلك من الأمور. وقل عبد اشتغل بها إلا شغلته عن واجب، فينبغي أن يعرف أن التحريم في مثل هذه الصورة متفق عليه. وكذلك إذا اشتملت على محرم، أو استلزمت محرما، فإنها تحرم بالاتفاق: مثل اشتمالها على الكذب، واليمين الفاجرة، أو الخيانة التي يسمونها المغاضاة، أو على الظلم، أو الإعانة عليه، فإن ذلك حرام باتفاق المسلمين. ولو كان ذلك في المسابقة والمناضلة، فكيف إذا كان بالشطرنج، والنرد، ونحو ذلك؟ وكذلك إذا قدر أنها مستلزمة فسادا غير ذلك مثل اجتماع على مقدمات الفواحش، أو التعاون على العدوان، أو غير ذلك، أو مثل أن يفضي اللعب بها إلى الكثرة والظهور الذي يشتمل معه على ترك واجب أو فعل محرم، فهذه الصورة وأمثالها مما يتفق المسلمون على تحريمها فيها.

وإذا قدر خلوها عن ذلك كله، فالمنقول عن الصحابة المنع من ذلك. وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [75]، شبههم بالعاكفين على الأصنام، كما في المسند عن النبي ﷺ أنه قال: (شارب الخمر كعابد وثن) والخمر والميسر قرينان في كتاب الله تعالى. وكذلك النهي عنها معروف عن ابن عمر، وغيره من الصحابة.

والمنقول عن أبي حنيفة وأصحابه وأحمد وأصحابه تحريمها. وأما الشافعي فإنه قال: أكره اللعب بها، للخبر، واللعب بالشطرنج والحمام بغير قمار وإن كرهناه أخف حالا من النرد، وهكذا نقل عنه غير هذا اللفظ مما مضمونه: أنه يكرهها، ويراها دون النرد، ولا ريب أن كراهته كراهة تحريم، فإنه قال: للخبر. ولفظ الخبر الذي رواه هو عن مالك: (من لعب بالنرد فقد عصي الله ورسوله) فإذا كره الشطرنج... وإن كانت أخف من النرد. وقد نقل عنه أنه توقف في التحريم، وقال: لا يتبين لي أنها حرام، وما بلغنا أن أحدًا نقل عنه لفظًا يقتضي نفي التحريم.

والأئمة الذين لم تختلف أصحابهم في تحريمها أكثر ألفاظهم الكراهة. قال ابن عبدالبر: أجمع مالك وأصحابه على أنه لا يجوز اللعب بالنرد ولا بالشطرنج، وقالوا: لا يجوز شهادة المدمن المواظب على لعب الشطرنج. وقال يحيي: سمعت مالكا يقول: لا خير في الشطرنج وغيرها، وسمعته يكره اللعب بها وبغيرها من الباطل، ويتلو هذه الآية: { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } [76]، وقال أبو حنيفة: أكره اللعب بالشطرنج والنرد. فالأربعة تحرم كل اللهو.

وقد تنازع الجمهور في مسألتين: إحداهما: هل يسلم على اللاعب بالشطرنج؟ فمنصوص أبي حنيفة وأحمد والمعافي بن عمران وغيرهم: أنه لا يسلم عليه. ومذهب مالك وأبي يوسف ومحمد: أنه يسلم عليه. ومع هذا فإن مذهب مالك أن الشطرنج شر من النرد. ومذهب أحمد أن النرد شر من الشطرنج، كما ذكره الشافعي. والتحقيق في ذلك أنهما إذا اشتملا على عوض أو خلوا عن عوض فالشطرنج شر من النرد؛ لأن مفسدة النرد فيها وزيادة مثل صد القلب عن ذكر الله، وعن الصلاة، وغير ذلك؛ ولهذا يقال: إن الشطرنج على مذهب القدر، والنرد على مذهب الجبر. واشتغال القلب بالتفكير في الشطرنج أكثر. وأما إذا اشتمل النرد على عوض، فالنرد شر. وهذا هو السبب في كون أحمد والشافعي وغيرهما جعلوا النرد شرًا، لاستشعارهم أن العوض يكون في النرد دون الشطرنج.

ومن هنا تبين الشبهة التي وقعت في هذا الباب؛ فإن الله تعالى حرم الميسر في كتابه، وأتفق المسلمون على تحريم الميسر، واتفقوا على أن المغالبات المشتملة على القمار من الميسر، سواء كان بالشطرنج أو بالنرد، أو بالجوز، أو بالكعاب، أو البيض. قال غير واحد من التابعين، كعطاء، وطاووس ومجاهد، وإبراهيم النخعي: كل شيء من القمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز. فالذين لم يحرموا الشطرنج كطائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم اعتقدوا أن لفظ الميسر لا يدخل فيه إلا ما كان قمارًا، فيحرم لما فيه من أكل المال بالباطل، كما يحرم مثل ذلك في المسابقة والمناضلة، لو أخرج كل منهما السبق، ولم يكن بينهما محلل، حرموا ذلك لأنه قمار. وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (من أدخل فرسا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار) والنبي ﷺ حرم بيوع الغرر؛ لأنها من نوع القمار: مثل أن يشتري العبد الآبق والبعير الشارد، فإن وجده كان قد قمر البائع، وإن لم يجده كان البائع قد قمره، فلما اعتقدوا أن هذه المغالبات إنما حرمت لما فيها من أكل المال بالباطل لم يحرموها إذا خلت عن العوض.

ولهذا طرد هذا طائفة من أصحاب الشافعي المتقدمين في النرد فلم يحرموها إلا مع العوض، لكن المنصوص عن الشافعي وظاهر مذهبه تحريم النرد مطلقا وإن لم يكن فيها عوض؛ ولهذا قال: أكرهها، للخبر. فبين أن مستنده في ذلك الخبر، لا القياس عنده. وهذا مما احتج به الجمهور عليه، فإنه إذاحرم النرد، ولا عوض فيها فالشطرنج إن لم يكن مثلها فليس دونها. وهذا يعرفه من خبر حقيقة اللعب بها، فإن ما في النرد من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن إيقاع العداوة والبغضاء هو في الشطرنج أكثر بلا ريب، وهي تفعل في النفوس، فعل حميا الكؤوس. فتصد عقولهم وقلوبهم عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر مما يفعله بهم كثير من أنواع الخمور والحشيشة. وقليلها يدعو إلى كثيرها، فتحريم النرد الخالية عن عوض مع إباحة الشطرنج مثل تحريم القطرة من خمر العنب وإباحة الغرفة من نبيذ الحنطة. وكما أن ذلك القول في غاية التناقض من جهة الاعتبار والقياس والعدل، فهكذا القول في الشطرنج.

وتحريم النرد ثابت بالنص، كما في السنن عن أبي موسي، عن النبي ﷺ أنه قال: (من لعب بالنرد فقد عصي الله ورسوله) وقد رواه مالك في الموطأ، وروايته عن عائشة رضي الله عنها: أنه بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا لها عندهم نرد، فأرسلت إليهم: إن لم تخرجوها لأخرجكم من داري، وأنكرت ذلك عليهم. ومالك عن نافع عن عبد الله بن عمر: أنه كان إذا وجد من أهله من يلعب بالنرد ضربه، وكسرها. وفي بعض ألفاظ الحديث عن أبي موسي، قال: سمعت رسول الله ﷺ وذكرت عنده، فقال: (عصي الله ورسوله من ضرب بكعابها يلعب بها) فعلق المعصية بمجرد اللعب بها، ولم يشترط عوضا، بل فسر ذلك بأنه الضرب بكعابها.

وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي بريدة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه). وفي لفظ آخر: (فليشقص الخنازير)، فجعل النبي ﷺ في هذا الحديث الصحيح اللاعب بها كالغامس يده في لحم الخنزير ودمه، وكالذي يشقص الخنازير: يقصبها. ويقطع لحمها، كما يصنع القصاب. وهذا التشبيه متناول اللعب بها باليد، سواء وجد أكل، أو لم يوجد، كما أن غمس اليد في لحم الخنزير ودمه وتشقيص لحمه متناول لمن فعل ذلك، سواء كان معه أكل بالفم أو لم يكن، فكما أن ذلك ينهى عنه وإن لم يكن معه أكل مال بالباطل فكذلك النرد ينهى عنه وإن لم يكن معه أكل مال بالباطل. وهذا يتقرر بوجوه يتبين بها تحريم النرد والشطرنج، ونحوهما.

أحدها: أن يقال: النهي عن هذه الأمور ليس مختصا بصورة المقامرة فقط، فإنه لو بذل العوض أحد المتلاعبين أو أجنبي لكان من صور الجعالة، ومع هذا فقد نهى عن ذلك، إلا فيما ينفع: كالمسابقة، والمناضلة كما في الحديث: (لا سبق إلا في خف، أو حافر، أو نصل)؛ لأن بذل المال فيما لا ينفع في الدين ولا في الدنيا منهي عنه، وإن لم يكن قمارا. وأكل المال بالباطل حرام بنص القرآن، وهذه الملاعب من الباطل لقول النبي ﷺ: (كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل؛ إلا رميه بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته فإنهن من الحق). قوله: من الباطل أي مما لا ينفع، فإن الباطل ضد الحق. والحق يراد به الحق الموجود اعتقاده والخبر عنه. ويراد به الحق المقصود الذي ينبغي أن يقصد، وهو الأمر النافع فما ليس من هذا فهو باطل، ليس بنافع.

وقد يرخص في بعض ذلك إذا لم يكن فيه مضرة راجحة؛ لكن لا يوكل به المال؛ ولهذا جاز السباق بالأقدام، والمصارعة، وغير ذلك، وإن نهى عن أكل المال به. وكذلك رخص في الضرب بالدف في الأفراح، وإن نهى عن أكل المال به. فتبين أن ما نهى عنه من ذلك ليس خصوصا بالمقامرة، فلا يجوز قصر النهي على ذلك. ولو كان النهي عن النرد ونحوه لمجرد المقامرة لكان النرد مثل سباق الخيل، ومثل الرمي بالنشاب، ونحو ذلك؛ فإن المقامرة إذا دخلت في هذا حرموه مع أنه عمل صالح واجب أو مستحب، كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلى من أن تركبوا)، (ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا)، وكان هو وخلفاؤه يسابقون بين الخيل، وقرأ على المنبر: { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ } الآية [77]، ثم قال: (ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي) فكيف يشبه ما أمر الله به ورسوله واتفق المسلمون على الأمر به بما نهى الله ورسوله وأصحابه من بعده؟ وإذا لم يجعل الموجب للتحريم إلا مجرد المقامرة كان النرد والشطرنج كالمناضلة.

الوجه الثاني: أن يقال: هب أن علة التحريم في الأصل هي المقامرة لكن الشارع قرن بين الخمر والميسر في التحريم، فقال تعالى: { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [78]، فوصف الأربعة بأنها رجس من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها، ثم خص الخمر والميسر بأنه يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة. ويهدد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى: { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ }، كما علق الفلاح بالاجتناب في قوله: { فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ولهذا يقال: إن هذه الآية دلت على تحريم الخمر والميسر من عدة أوجه.

ومعلوم أن الخمر لما أمر باجتنابها حرم مقاربتها بوجه، فلا يجوز اقتناؤها، ولا شرب قليلها، بل كان النبي ﷺ قد أمر بإراقتها، وشق ظروفها، وكسر دنانها، ونهى عن تخليلها وإن كانت ليتامي. مع أنها اشترىت لهم قبل التحريم، ولهذا كان الصواب الذي هو المنصوص عن أحمد وابن المبارك وغيرهما: أنه ليس في الخمر شيء محترم، لا خمرة الخلال ولا غيرها، وأنه من اتخذ خلا فعليه أن يفسده قبل أن يتخمر بأن يصب في العصير خلا، وغير ذلك مما يمنع تخميره بل كان النبي ﷺ نهى عن الخليطين؛ لئلا يقوي أحدهما على صاحبه، فيفضي إلى أن يشرب الخمر المسكر من لا يدري. ونهى عن الانتباذ في الأوعية التي يدب السكر فيها ولا يدري ما به، كالدباء، والحنتم، والظرف المزفت، والمنقور من الخشب. وأمر بالانتباذ في السقاء الموكاء؛ لأن السكر ينظر: إذا كان في الشراب انشق الظرف وإن كان في نسخ ذلك أو بعضه نزاع ليس هذا موضع ذكره. فالمقصود سد الذرائع المفضية إلى ذلك بوجه من الوجوه.

وكذلك كان يشرب النبيذ ثلاثا، وبعد الثلاث يسقيه، أو يريقه؛ لأن الثلاث مظنة سكره، بل كان أمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة، فهذا كله... سدا للذريعة؛ لأن النفوس لما كانت تشتهي ذلك، وفي اقتنائها - ولو للتخليل - ما قد يفضي إلى شربها، كما أن شرب قليلها يدعو إلى كثيرها فنهى عن ذلك.

فهذا الميسر المقرون بالخمر إذا قدرأن علة تحريمه أكل المال بالباطل، وما في ذلك من حصول المفسدة، وترك المنفعة. ومن المعلوم أن هذه الملاعب تشتهيها النفوس، وإذا قويت الرغبة فيها أدخل فيها العوض، كما جرت به العادة، وكان من حكم الشارع أن ينهى عما يدعو إلى ذلك لو لم يكن فيه مصلحة راجحة، وهذا بخلاف المغالبات التي قد تنفع: مثل المسابقة والمصارعة، ونحو ذلك، فإن تلك فيها منفعة راجحة لتقوية الأبدان فلم ينه عنها لأجل ذلك، ولم تجر عادة النفوس بالاكتساب بها. وهذا المعني نبه عليه النبي ﷺ بقوله: (من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه)، فإن الغامس يده في ذلك يدعوه إلى أكل الخنزير، وذلك مقدمة أكله وسببه وداعيته، فإذا حرم ذلك فكذلك اللعب الذي هو مقدمة أكل المال بالباطل وسببه وداعيته.

وبهذا يتبين ما ذكر العلماء من أن المغالبات ثلاثة أنواع. فما كان معينا على ما أمر الله به في قوله: { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ } [77]، جاز بجعل وبغير جعل. وما كان مفضيا إلى ما نهى الله عنه كالنرد، والشطرنج، فمنهي عنه بجعل، وبغير جعل. وما قد يكون فيه منفعة بلا مضرة راجحة: كالمسابقة، والمصارعة، جاز بلا جعل.

الوجه الثالث: أن يقال: قول القائل: إن الميسر إنما حرم لمجرد المقامرة دعوي مجردة، وظاهر القرآن والسنة والاعتبار يدل على فسادها. وذلك أن الله تعالى قال: { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ } [79]. فنبه على علة التحريم، وهي ما في ذلك من حصول المفسدة، وزوال المصلحة الواجبة والمستحبة، فإن وقوع العداوة والبغضاء من أعظم الفساد. وصدود القلب عن ذكر الله وعن الصلاة اللذين كل منهما إما واجب وإما مستحب من أعظم الفاسد.

ومن المعلوم أن هذا يحصل في اللعب بالشطرنج والنرد ونحوهما، وإن لم يكن فيه عوض، وهو في الشطرنج أقوى؛ فإن أحدهم يستغرق قلبه وعقله وفكره فيما فعل خصمه، وفيما يريد أن يفعل هو، وفي لوازم ذلك، ولوازم لوازمه، حتى لا يحس بجوعه ولا عطشه، ولا بمن يسلم عليه، ولا بحال أهله، ولا بغير ذلك من ضرورات نفسه وماله، فضلا أن يذكر ربه أو الصلاة وهذا كما يحصل لشارب الخمر، بل كثير من الشرَّاب يكون عقله أصحي من كثير من أهل الشطرنج والنرد. واللاعب بها لا تنقضي نهمته منها إلا بدست بعد دست، كما لا تنقضي نهمة شارب الخمر إلا بقدح بقدح، وتبقي آثارها في النفس بعد انقضائها أكثر من آثار شارب الخمر، حتى تعرض له في الصلاة، والمرض، وعند ركوب الدابة، بل وعند الموت، وأمثال ذلك من الأوقات التي يطلب فيها ذكره لربه وتوجهه إليه. تعرض له تماثيلها، وذكر الشاه، والرخ، والفرزان، ونحو ذلك. فصدها للقلب عن ذكر الله قد يكون أعظم من صد الخمر، وهي إلى الشرب أقرب، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للاعبيها: { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } ؟ [75] وقلب الرقعة، وكذلك العداوة والبغضاء بسبب غلبة أحد الشخصين للآخر، وما يدخل في ذلك من التظالم، والتكاذب، والخيانة التي هي من أقوي أسباب العداوة والبغضاء، وما يكاد لاعبها يسلم عن شيء من ذلك.

والفعل إذا اشتمل كثيرا على ذلك وكانت الطباع تقتضيه ولم يكن فيه مصلحة راجحة حرمه الشارع قطعًا، فكيف إذا اشتمل على ذلك غالبًا؟ وهذا أصل مستمر في أصول الشريعة، كما قد بسطناه في قاعدة سد الذرائع وغيرها، وبينا أن كل فعل أفضي إلى المحرم كثيرا، كان سببا للشر والفساد، فإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة شرعية، وكانت مفسدته راجحة، نهى عنه، بل كل سبب يفضي إلى الفساد نهى عنه، إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، فكيف بما كثر افضاؤه إلى الفساد؛ ولهذا نهى عن الخلوة بالأجنبية. وأما النظر: فلما كانت الحاجة تدعو إلى بعضه رخص منه فيما تدعو له الحاجة؛ لأن الحاجة سبب الإباحة، كما أن الفساد والضرر سبب التحريم، فإذا اجتمعا رجح أعلاهما، كما رجح عند الضرر أكل الميتة؛ لأن مفسدة الموت شر من مفسدة الاغتذاء بالخبيث. والنرد والشطرنج ونحوهما، من المغالبات فيها من المفاسد ما لا يحصي، وليس فيها مصلحة معتبرة، فضلا عن مصلحة مقاومة. غايته أن يلهي النفس ويريحها، كما يقصد شارب الخمر ذلك. وفي راحة النفس بالمباح الذي لا يصد عن المصالح ولا يجتلب المفاسد غنية، والمؤمن قد أغناه الله بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [80]. وفي سنن ابن ماجه وغيره، عن أبي ذر: أن هذه الآية لما نزلت قال النبي ﷺ: (يا أبا ذر، لو أن الناس كلهم عملوا بهذه الآية لوسعتهم) وقد بين سبحانه في هذه الآية أن المتقي يدفع عنه المضرة، وهو أن يجعل له مخرجا مما ضاق على الناس، ويجلب له المنفعة ويرزقه من حيث لا يحتسب وكل ما يتغذي به الحي مما تستريح به النفوس وتحتاج إليه في طيبها وانشراحها فهو من الرزق، والله تعالى يرزق ذلك لمن اتقاه بفعل المأمور وترك المحظور. ومن طلب ذلك بالنرد والشطرنج ونحوهما من الميسر، فهو بمنزلة من طلب ذلك بالخمر، وصاحب الخمر يطلب الراحة ولا يزيده إلا تعبا وغما. وإن كانت تفيده مقدارا من السرور، فما يعقبه من المضار ويفوته من المسار أضعاف ذلك، كما جرب ذلك من جربه، وهكذا سائر المحرمات.

ومما يبين أن الميسر لم يحرم لمجرد أكل المال بالباطل وإن كان أكل المال بالباطل محرما، ولو تجرد عن الميسر، فكيف إذا كان في الميسر؟ بل في الميسر علة أخرى غير أكل المال بالباطل، كما في الخمر: أن الله قرن بين الخمر والميسر، وجعل العلة في تحريم هذا هي العلة في تحريم هذا، ومعلوم أن الخمر لم تحرم لمجرد أكل المال بالباطل، وإن كان أكل ثمنها من أكل المال بالباطل، فكذلك الميسر.

يبين ذلك أن الناس أول ما سألوا رسول الله ﷺ عن الخمر والميسر أنزل الله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [81]، والمنافع التي كانت، قيل هي المال وقيل: هي اللذة. ومعلوم أن الخمر كان فيها كلا هذين؛ فإنهم كانوا ينتفعون بثمنها والتجارة فيها، كما كانوا ينتفعون باللذة التي في شربها، ثم إنه ﷺ لما حرم الخمر (لعن الخمر وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومشتريها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وشاربها، وآكل ثمنها). وكذلك الميسر كانت النفوس تنتفع بما تحصله به من المال، وما يحصل به من لذة اللعب. ثم قال تعالى: { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [81]؛ لأن الخسارة في المقامرة أكثر، والألم والمضرة في الملاعبة أكثر. ولعل المقصود الأول لأكثر الناس بالميسر إنما هو الانشراح بالملاعبة والمغالبة، وأن المقصود الأول لأكثر الناس بالخمر إنما هو ما فيها من لذة الشرب، وإنما حرم العوض فيها؛ لأنه أخذ مال بلا منفعة فيه، فهو أكل مال بالباطل، كما حرم ثمن الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فكيف تجعل المفسدة المالية هي حكمة النهي فقط، وهي تابعة، وتترك المفسدة الأصلية التي هي فساد العقل والقلب؟

والمال مادة البدن، والبدن تابع القلب، وقال النبي ﷺ: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد، ألا وهي القلب). والقلب هو محل ذكر الله تعالى وحقيقة الصلاة. فأعظم الفساد في تحريم الخمر والميسر إفساد القلب الذي هو ملك البدن: أن يصد عما خلق له من ذكر الله والصلاة، ويدخل فيما يفسد من التعادي والتباغض. والصلاة حق الحق. والتحاب والموالاة حق الخلق. وأين هذا من أكل مال بالباطل؟ ومعلوم أن مصلحة البدن مقدمة على مصلحة المال، ومصلحة القلب مقدمة على مصلحة البدن. وإنما حرمة المال لأنه مادة البدن؛ ولهذا قدم الفقهاء في كتبهم ربع العبادات على ربع المعاملات، وبهما تتم مصلحة القلب والبدن. ثم ذكروا ربع المناكحات؛ لأن ذلك مصلحة الشخص وهذا مصلحة النوع الذي يبقي بالنكاح. ثم لما ذكروا المصالح ذكروا ما يدفع المفاسد في ربع الجنايات.

وقد قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [82]، وعبادة الله تتضمن معرفته، ومحبته، والخضوع له، بل تتضمن كل ما يحبه ويرضاه. وأصل ذلك وأجله ما في القلوب: الإيمان، والمعرفة، والمحبة لله، والخشية له، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والرضي بحكمه، مما تضمنه الصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن، وكل ذلك داخل في معني ذكر الله والصلاة، وإنما الصلاة وذكر الله من باب عطف الخاص على العام، كقوله تعالى: { وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [83]، وقوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ } [84]، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } [85]، فجعل السعي إلى الصلاة سعيا إلى ذكر الله.

ولما كانت الصلاة متضمنة لذكر الله تعالى الذي هو مطلوب لذاته، والنهي عن الشر الذي هو مطلوب لغيره، قال تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [86]، أي: ذكر الله الذي في الصلاة أكبر من كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وليس المراد أن ذكر الله خارج الصلاة أفضل من الصلاة وما فيها من ذكر الله، فإن هذا خلاف الإجماع، ولما كان ذكر الله هو مقصود الصلاة قال أبو الدرداء: ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة، ولو كنت في السوق. ولما كان ذكر الله يعم هذا كله قالوا: إن مجالس الحلال والحرام ونحو ذلك مما فيه ذكر أمر الله ونهيه ووعده ووعيده ونحو ذلك هي من مجالس الذكر.

والمقصود هنا: أن يعرف مراتب المصالح والمفاسد وما يحبه الله ورسوله وما لا يبغضه مما أمر الله به ورسوله: كان لما يتضمنه من تحصيل المصالح التي يحبها ويرضاها، ودفع المفاسد التي يبغضها ويسخطها، وما نهى عنه كان لتضمنه ما يبغضه ويسخطه، ومنعه مما يحبه ويرضاه.

وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله من مصالح القلوب والنفوس ومفاسدها، وما ينفعها من حقائق الإيمان، وما يضرها من الغفلة والشهوة، كما قال تعالى: { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [87]، وقال تعالى: { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ } [88]، فتجد كثيرًا من هؤلاء في كثير من الأحكام لا يري من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن. وغاية كثير منهم إذا تعدي ذلك أن ينظر إلى سياسة النفس، وتهذيب الأخلاق بمبلغهم من العلم، كما يذكر مثل ذلك المتفلسفة والقرامطة مثل أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم، فإنهم يتكلمون في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق بمبلغهم من علم الفلسفة، وما ضموا إليه مما ظنوه من الشريعة، وهم في غاية ما ينتهون إليه دون اليهود والنصاري بكثير، كما بسط في غير هذا الموضع.

وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة، وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان أخروية، ودنيوية، جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وأحوال القلوب وأعمالها، كمحبة الله، وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجا لرحمته، ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة. وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه، حفظًا للأحوال السنية، وتهذيب الأخلاق. ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح.

فهكذا من جعل تحريم الخمر والميسر لمجرد أكل المال بالباطل، والنفع الذي كان فيهما بمجرد أخذ المال، يشبه هذا.. إن هذه المغالبات تصد عن ذكر الله وعن الصلاة من جهة كونها عملا، لا من جهة أخذ المال، فإنها لا تصد عن ذكر الله وعن الصلاة إلا كما يصد سائر أنواع أخذ المال، ومعلوم أن الأموال التي يكتسب بها المال لا ينهى عنها مطلقا؛ لكونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة. بل ينهى منها عما يصد عن الواجب، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } [85]، وقال تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ } [89]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } [90]، وقال تعالى: { لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ } [91]، فما كان ملهيا وشاغلا عما أمر الله تعالى به من ذكره والصلاة له فهو منهي عنه، وإن لم يكن جنسه محرما: كالبيع، والعمل في التجارة، وغير ذلك.

فلو كان اللعب بالشطرنج والنرد ونحوهما في جنسه مباحا، وإنما حرم إذا اشتمل على أكل المال بالباطل، كان تحريمه من جنس تحريم ما نهى عنه من المبيعات والمؤجرات المشتملة على أكل المال بالباطل، كبيوع الغرر. فإن هذه لا يعلل النهي عنها بأنها تصد عما يجب من ذكر الله وعن الصلاة، فإن البيع الصحيح منه ما كان يصد، وأن المعاملات الفاسدة لا يعلل تحريمها بأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فيمكن أن يقال تلك المعاملات الصحيحة ينهى منها عما يصد عن الواجب فتبين أن تحريم الميسر ليس لكونه من المعاملات الفاسدة، وأن نفس العمل به منهي عنه لأجل هذه المفسدة، كما حرم شرب الخمر. وهذا بين لمن تدبره.

ألا تري أنه لما حرم الربا لما فيه من الظلم وأكل المال بالباطل قرن بذلك ذكر البيع الذي هو عدل، وقدم عليه ذكر الصدقة التي هي إحسان. فذكر في آخر سورة البقرة حكم الأموال المحسن، والعادل، والظالم ذكر الصدقة، والبيع، والربا. والظلم في الربا، وأكل المال بالباطل به أبين منه في الميسر، فإن المرابي يأخذ فضلا محققا من المحتاج؛ ولهذا عاقبه الله بنقيض قصده، فقال: { يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } [92]، وأما المقامر فإنه قد يغلب فيظلم، فقد يكون المظلوم هو الغني، وقد يكون هو الفقير، وظلم الفقير المحتاج أشد من ظلم الغني. وظلم يتعين فيه الظالم القادر أعظم من ظلم لا يتعين فيه الظالم؛ فإن ظلم القادر الغنى للعاجز الضعيف أقبح من تظالم قادرين غنيين لا يدري أيهما هو الذي يظلم. فالربا في ظلم الأموال أعظم من القمار، ومع هذا فتأخر تحريمه، وكان آخر ما حرم الله تعالى في القرآن، فلو لم يكن في الميسر إلا مجرد القمار لكان أخف من الربا، لتأخر تحريمه. وقد أباح الشارع أنواعا من الغرر للحاجة، كما أباح اشتراط ثمر النخل بعد التأبير تبعا للأصل، وجوز بيع المجازفة وغير ذلك. وأما الربا فلم يبح منه، ولكن أباح العدول عن التقدير بالكيل إلى التقدير بالخرص عند الحاجة، كما أباح التيمم عند عدم الماء للحاجة؛ إذا الخرص تقدير بظن، والكيل تقدير بعلم. والعدول عن العلم إلى الظن عند الحاجة جائز. فتبين أن الربا أعظم من القمار الذي ليس فيه إلا مجرد أكل المال بالباطل، لكن الميسر تطلب به الملاعبة والمغالبة نهى عنه الإنسان لفساد عقله مع فساد ماله. مثل ما فيه من الصدود عن ذكر الله وعن الصلاة. وكل من الخمر والميسر فيه إيقاع العداوة والبغضاء، وفيه الصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، أعظم من الربا وغيره من المعاملات الفاسدة.

فتبين أن الميسر اشتمل على مفسدتين: مفسدة في المال، وهي أكله بالباطل، ومفسدة في العمل، وهي ما فيه من مفسدة المال وفساد القلب والعقل وفساد ذات البين وكل من المفسدتين مستقلة بالنهي، فينهي عن أكل المال بالباطل مطلقا ولو كان بغير ميسر كالربا، وينهي عما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء ولو كان بغير أكل مال. فإذا اجتمعا عظم التحريم، فيكون الميسر المشتمل عليهما أعظم من الربا. ولهذا حرم ذلك قبل تحريم الربا، ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر حرمها ولو كان الشارب يتداوى بها، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح. وحرم بيعها لأهل الكتاب وغيرهم، وإن كان أكل ثمنها لا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ولا يوقع العداوة والبغضاء؛ لأن الله تعالى إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه، كل ذلك مبالغة في الاجتناب، فهكذا الميسر منهي عن هذا وعن هذا.

والمعين على الميسر كالمعين على الخمر، فإن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان. وكما أن الخمر تحرم الإعانة عليها ببيع أو عصر أو سقي أو غير ذلك، فكذلك الإعانة على الميسر، كبائع آلاته، والمؤجر لها، والمذبذب الذي يعين أحدهما، بل مجرد الحضور عند أهل الميسر كالحضور عند أهل شرب الخمر، وقد قال النبي ﷺ: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر) وقد رفع إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قوم يشربون الخمر فأمر بضربهم، فقيل له: إن فيهم صائما. فقال: ابدؤوا به! ثم قال: أما سمعت قوله تعالى: { وَقَدْ نَزَّلَ عليكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ } [93]، فاستدل عمر بالآية؛ لأن الله تعالى جعل حاضر المنكر مثل فاعله بل إذا كان من دعا إلى دعوة العرس لا تجاب دعوته إذا اشتملت على منكر حتى يدعه مع أن إجابة الدعوة حق، فكيف بشهود المنكر من غير حق يقتضي ذلك.

فإن قيل: إذا كان هذا من الميسر، فكيف استجازه طائفة من السلف؟ قيل له: المستجيز للشطرنج من السلف بلا عوض كالمستجيز للنرد بلا عوض من السلف، وكلاهما مأثور عن بعض السلف، بل في الشطرنج قد تبين عذر بعضهم، كما كان الشعبي يلعب به لما طلبه الحجاج لتولية القضاء. رأى أن يلعب به ليفسق نفسه، ولا يتولي القضاء للحجاج، ورأي أن يحتمل مثل هذا ليدفع عن نفسه إعانة مثل الحجاج على مظالم المسلمين. وكان هذا أعظم محذورًا عنده، ولم يمكنه الاعتذار إلا بمثل ذلك.

ثم يقال: من المعلوم أن الذين استحلوا النبيذ المتنازع فيه من السلف والذين استحلوا الدرهم بالدرهمين من السلف أكثر وأجل قدرا من هؤلاء، فإن ابن عباس ومعاوية وغيرهما رخصوا في الدرهم بالدرهمين، وكانوا متأولين أن الربا لا يحرم إلا في النساء، لا في اليد باليد. وكذلك من ظن أن الخمر ليست إلا المسكر من عصير العنب، فهؤلاء فهموا من الخمر نوعا منه دون نوع، وظنوا أن التحريم مخصوص به. وشمول الميسر لأنواعه كشمول الخمر والربا لأنواعهما.

وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء، كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل، فإن الله تعالى عفا للمؤمنين عما أخطؤوا كما قال تعالى: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [94]، قال الله: قد فعلت. وأمرنا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نتبع من دونه أولياء، وأمرنا ألا نطيع مخلوقا في معصية الخالق، ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فنقول: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } الآية [95]. وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذا من الأمور. ونعظم أمره تعالى بالطاعة لله ورسوله، ونرعى حقوق المسلمين، لا سيما أهل العلم منهم، كما أمر الله ورسوله. ومن عدل عن هذه الطريق فقد عدل عن اتباع الحجة إلى اتباع الهوي في التقليد، وآذي المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا: فهو من الظالمين. ومن عظم حرمات الله وأحسن إلى عباد الله كان من أولياء الله المتقين. والله سبحانه أعلم.
سئل عن رجلين اختلفا في الشطرنج

وسئل رحمه الله تعالى عن رجلين اختلفا في الشطرنج فقال أحدهما: هي حرام. وقال الآخر: هي ترد عن الغيبة، وعن النظر إلى الناس، مع أنها حلال: فأيهما المصيب؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، أما إذا كان بعوض، أو يتضمن ترك واجب: مثل تأخير الصلاة عن وقتها، أو تضييع واجباتها، أو ترك ما يجب من مصالح العيال، وغير ذلك مما أوجب على المسلمين؛ فإنه حرام بإجماع المسلمين. وكذلك إذا تضمن كذبا، أو ظلما، وغير ذلك من المحرمات، فإنه حرام بالإجماع. وإذا خلا عن ذلك فجمهور العلماء كمالك وأصحابه، وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد بن حنبل وأصحابه، وكثير من أصحاب الشافعي: أنه حرام. وقال هؤلاء: إن الشافعي لم يقطع بأنه حلال، بل كرهه. وقيل: إنه قال: لم يتبين إلى تحريمه. والبيهقي أعلم أصحاب الشافعي بالحديث وأنصرهم للشافعي. ذكر إجماع الصحابة على المنع منه: عن علي بن أبي طالب، وأبي سعيد، وابن عمر، وابن عباس، وأبي موسي، وعائشة رضي الله عنهم ولم يحك عن الصحابة في ذلك نزاعا. ومن نقل عن أحد من الصحابة أنه رخص فيه فهو غالط.

والبيهقي وغيره من أهل الحديث أعلم بأقوال الصحابة ممن ينقل أقوالا بلا إسناد، قال البيهقي: جعل الشافعي اللعب بالشطرنج من المسائل المختلف فيها في أنه لا يوجب رد الشهادة، فأما كراهيته اللعب بها فقد صرح بها فيما قدمنا ذكره، وهو الأشبه والأولى بمذهبه. فالذين كرهوا أكثر، ومعهم من يحتج بقوله. وروي بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول: الشطرنج ميسر العجم. وروي بإسناده عن علي: أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج، وقال: { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [75]، لأن يمس أحدكم جمرًا حتى يطفأ خير له من أن يمسها. وعن على رضي الله عنه أنه مر بمجلس من مجالس تيم الله وهم يلعبون بالشطرنج فقال: أما والله لغير هذا خلقتم! أما والله لولا أن يكون سنة لضربت بها وجوهكم! وعن مالك قال: بلغنا أن ابن عباس ولي مال يتيم فأحرقها. وعن ابن عمر أنه سئل عن الشطرنج فقال: هو شر من النرد. وعن أبي موسي الأشعري قال: لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ. وعن عائشة: أنها كانت تكره الكيل، وإن لم يقامر عليها. وأبو سعيد الخدري كان يكره اللعب بها. فهذه أقوال الصحابة رضي الله عنهم ولم يثبت عن صحابي خلاف ذلك. ثم روي البيهقي أيضًا عن أبي جعفر محمد بن على المعروف بالباقر أنه سئل عن الشطرنج فقال: دعونا من هذه المجوسية.

قال البيهقي: روينا في كراهية اللعب بها، عن يزيد بن أبي حبيب، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم، ومالك بن أنس.

قلت: والكراهية في كلام السلف كثيرًا وغالبًا يراد بها التحريم، وقد صرح هؤلاء بأنها كراهة تحريم، بل صرحوا بأنها شر من النرد، والنرد حرام، وإن لم يكن فيها عوض.

وروى بإسناده عن جامع بن وهب، عن أبي سلمة، قال: قلت للقاسم بن محمد: ما الميسر؟ قال: كل ما ألهي عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو ميسر. قال يحيي بن أيوب: حدثني عبد الله بن عمر؛ أنه سمع عمر بن عبد الله يقول: قلت للقاسم بن محمد: هذا النرد ميسر. أرأيت الشطرنج ميسر هي؟ قال القاسم: كل ما ألهي عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر. وقال ابن وهب: حدثني يحيي بن أيوب، حدثنا أبو قيس، عن عقبة بن عامر، قال: لأن أعبد صنما يعبد في الجاهلية أحب إلى من أن ألعب بهذا الميسر. قال القيسي: وهي عيدان كان يلعب بها في الأرض. وبإسناده عن فضالة بن عبيد، قال ما أبإلى ألعبت بالكيل، أو توضأت بدم خنزير ثم قمت إلى الصلاة. وما ذكر عن علي بن أبي طالب: أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج، فقال: { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } ؟ ثابت عنه، يشبههم بعباد الأصنام، وذلك كقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [96]، و الميسر يدخل فيه النردشير ونحوه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (من لعب بالنردشير فقد صبغ يده في لحم خنزير ودمه). وفي السنن أنه قال: (من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله).

ومذهب الأئمة الأربعة أن اللعب بالنرد حرام، وإن لم يكن بعوض. وقد قال ابن عمر ومالك بن أنس وغيرهما: إن الشطرنج شر من النرد، وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل والشافعي وغيرهم: النردشير من الشطرنج. وكلا القولين صحيح باعتبار؛ فإن النرد إذا كان بعوض، والشطرنج بغير عوض، فالنرد شر منه، وهو حرام حينئذ بالإجماع. وأما إن كان كلاهما بعوض أو كلاهما بلا عوض فالشطرنج شر من النرد؛ لأن الشطرنج يشغل القلب ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر من النرد.

ولهذا قيل: الشطرنج مبني على مذهب القدر، والنرد مبني على مذهب الجبر. فإن صاحب النرد يومي ويحسب بعد ذلك، وأما صاحب الشطرنج فإنه يقدر ويفكر ويحسب حساب النقلات قبل النقل. فإفساد الشطرنج للقلب أعظم من إفساد النرد، ولكن كان معروفا عند العرب، والشطرنج لم يعرف إلا بعد أن فتحت البلاد، فإن أصله من الهند وانتقل منهم إلى الفرس؛ فلهذا جاء ذكر النرد في الحديث، وإلا فالشطرنج شر منه إذا استويا في العوض، أو عدمه. وقد بسط جواب السؤال في موضع آخر. والله أعلم.
سئل عن رجل لعب بالشطرنج وقال هو خير من النرد

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل لعب بالشطرنج، وقال: هو خير من النرد: فهل هذا صحيح؟ وهل اللعب بالشطرنج بعوض أو غير عوض حرام؟ وما قول العلماء فيه؟

فأجاب:

الحمد لله، اللعب بالشطرنج حرام عند جماهير علماء الأمة وأئمتها كالنرد. وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: (من لعب بالنرد فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه) وقال: (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله) وثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج، فقال: { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } ؟ [75]، وروي أنه قلب الرقعة عليهم.

وقالت طائفة من السلف: الشطرنج من الميسر، وهو كما قالوا؛ فإن الله حرم الميسر، وقد أجمع العلماء على أن اللعب بالنرد والشطرنج حرام، إذا كان بعوض، وهو من القمار والميسر الذي حرمه الله. والنرد حرام عند الأئمة الأربعة، سواء كان بعوض أو غير عوض، ولكن بعض أصحاب الشافعي جوزه بغير عوض؛ لاعتقاده أنه لا يكون حينئذ من الميسر. وأما الشافعي وجمهور أصحابه وأحمد وأبو حنيفة وسائر الأئمة فيحرمون ذلك بعوض وبغير عوض؛ وكذلك الشطرنج صرح هؤلاء الأئمة بتحريمها: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وغيرهم.

وتنازعوا أيهما أشد؟ فقال مالك وغيره: الشطرنج شر من النرد. وقال أحمد وغيره: الشطرنج أخف من النرد. ولهذا توقف الشافعي في النرد إذا خلا عن المحرمات؛ إذ سبب الشبهة في ذلك أن أكثر من يلعب فيها بعوض بخلاف الشطرنج فإنها تلعب بغير عوض غالبًا. وأيضًا فظن بعضهم أن اللعب بالشطرنج يعين على القتال؛ لما فيها من صف الطائفتين.

والتحقيق أن النرد والشطرنج إذا لعب بهما بعوض فالشطرنج شر منها؛ لأن الشطرنج حينئذ حرام بإجماع المسلمين، وكذلك يحرم بالإجماع إذا اشتملت على محرم: من كذب، ويمين فاجرة، أو ظلم، أو جناية أو حديث غير واجب، ونحوها، وهي حرام عند الجمهور وإن خلت عن هذه المحرمات فإنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء أعظم من النرد إذا كان بعوض. وإذا كانا بعوض فالشطرنج شر في الحالين. وأما إذا كان العوض من أحدهما ففيه من أكل المال بالباطل ما ليس في الآخر والله تعالى قرن الميسر بالخمر والأنصاب والأزلام، لما فيها من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وفيها إيقاع العداوة والبغضاء؛ فإن الشطرنج إذا استكثر منها تستر القلب وتصده عن ذلك أعظم من تستر الخمر. وقد شبه أمير المؤمنين على رضي الله عنه لاعبيها بعباد الأصنام حيث قال: { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [75]، كما شبه النبي ﷺ شارب الخمر بعابد الوثن في الحديث الذي في المسند عن النبي ﷺ أنه قال: (شارب الخمر كعابد وثن).

وأما ما يروي عن سعيد بن جبير من اللعب بها، فقد بين سبب ذلك: أن الحجاج طلبه للقضاء فلعب بها؛ ليكون ذلك قادحا فيه فلا يولي القضاء. وذلك أنه رأي ولاية الحجاج أشد ضررا عليه في دينه من ذلك، والأعمال بالنيات، وقد يباح ما هو أعظم تحريما من ذلك لأجل الحاجة. وهذا يبين أن اللعب بالشطرنج كان عندهم من المنكرات، كما نقل عن على وابن عمر وغيرهما. ولهذا قال أبو حنيفة وأحمد وغيرهما: إنه لا يسلم على لاعب الشطرنج؛ لأنه مظهر للمعصية، وقال صاحبا أبي حنيفة: يسلم عليه.
سئل عن معنى قوله من لعب بالنردشير فهو كمن غمس يده

وسئل رحمه الله تعالى عن معنى قوله ﷺ: (من لعب بالنردشير فهو كمن غمس يده في لحم خنزير ودمه)

فأجاب:

الحمد لله، أما قوله: (من لعب بالنردشير فهو كمن غمس يده في لحم خنزير ودمه)، فهو حديث صحيح رواه مسلم وغيره. واللعب بالنرد حرام وإن لم يكن بعوض عند جماهير العلماء، وبالعوض حرام بالإجماع.
سئل عن اللعب بالحمام

وسئل رحمه الله عن اللعب بالحمام.

فأجاب:

اللعب بالحمام منهي عنه، وفي السنن عن النبي ﷺ أنه رأى رجلا يتبع حمامة، فقال: (شيطان يتبع شيطانة). ومن لعب بالحمام فأشرف على حريم الناس، أو رماهم بالحجارة فوقعت على الجيران، فإنه يعزر على ذلك تعزيرا يردعه عن ذلك، ويمنع من ذلك، فإن هذا فيه ظلم وعدوان على الجيران، مع ما فيه من اللعب المنهي عنه. والله أعلم.
باب العشرة
سئل عن أقوام يعاشرون المردان ويدعون أنهم يصحبون لله

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن أقوام يعاشرون المردان، وقد يقع من أحدهم قبلة ومضاجعة للصبي ويدعون أنهم يصحبون لله، ولا يعدون ذلك ذنبا ولا عارا، ويقولون: نحن نصحبهم بغير خنا، ويعلم أبو الصبي بذلك وعمه وأخوه فلا ينكرون: فما حكم الله تعالى في هؤلاء؟ وماذا ينبغي للمرء المسلم أن يعاملهم به والحالة هذه؟

فأجاب:

الحمد لله الصبي الأمرد المليح بمنزلة المرأة الأجنبية في كثير من الأمور، ولا يجوز تقبيله على وجه اللذة، بل لا يقبله إلا من يؤمن عليه، كالأب والإخوة. ولا يجوز النظر إليه على هذا الوجه باتفاق الناس، بل يحرم عند جمهورهم النظر إليه عند خوف ذلك، وإنما ينظر إليه لحاجة بلا ريبة مثل معاملته، والشهادة عليه، ونحو ذلك كما ينظر إلى المرأة للحاجة.

وأما مضاجعته، فهذا أفحش من أن يسأل عنه، فإن النبي ﷺ قال: (مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) إذا بلغوا عشر سنين ولم يحتلموا بعد، فكيف بما هو فوق ذلك، وإذا كان النبي ﷺ قد قال: (لا يخلو رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)، قال: (إياكم والدخول على النساء). قالوا: يا رسول الله، أفرأيت الحم؟ قال: (الحمو الموت) فإذا كانت الخلوة محرمة لما يخاف منها فكيف بالمضاجعة؟

وأما قول القائل: إنه يفعل ذلك لله، فهذا أكثره كذب، وقد يكون لله مع هوي النفس، كما يدعي من يدعي مثل ذلك في صحبة النساء الأجانب، فيبقي كما قال تعالى في الخمر: { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [81] وقد روي الشعبي عن النبي ﷺ: (أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي ﷺ وكان فيهم غلام ظاهر الوضاءة أجلسه خلف ظهره، وقال: إنما كانت خطيئة داود عليه السلام النظرة). هذا وهو رسول الله ﷺ، وهو مزوج بتسع نسوة، والوفد قوم صالحون، ولم تكن الفاحشة معروفة في العرب وقد روي عن المشائخ من التحذير عن صحبة الأحداث ما يطول وصفه.

وليس لأحد من الناس أن يفعل ما يفضي إلى هذه المفاسد المحرمة، وإن ضم إلى ذلك مصلحة من تعليم أو تأديب؛ فإن المردان يمكن تعليمهم وتأديبهم بدون هذه المفاسد التي فيها مضرة عليهم، وعلى من يصحبهم، وعلى المسلمين: بسوء الظن تارة، وبالشبهة أخري، بل روي: أن رجلا كان يجلس إليه المردان، فنهى عمر رضي الله عنه عن مجالسته. ولقي عمر بن الخطاب شابا فقطع شعره؛ لميل بعض النساء إليه؛ مع ما في ذلك من إخراجه من وطنه، والتفريق بينه وبين أهله.

ومن أقر صبيا يتولاه مثل ابنه، وأخيه، أو مملوكه، أو يتيم عند من يعاشره على هذا الوجه فهو ديوث ملعون، و(لا يدخل الجنة ديوث)، فإن الفاحشة الباطنة ما يقوم عليها بينة في العادة؛ وإنما تقوم على الظاهرة، وهذه العشرة القبيحة من الظاهرة، وقد قال الله تعالى: { وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [97]، وقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [98]، فلو ذكرنا ما حصل في مثل هذا من الضرر والمفاسد، وما ذكروه العلماء، لطال. سواء كان الرجل تقيا أو فاجرا؛ فإن التقي يعالج مرارة في مجاهدة هواه وخلاف نفسه، وكثيرا ما يغلبه شيطانه ونفسه بمنزلة من يحمل حملا لا يطيقه فيعذبه أو يقتله، والفاجر يكمل فجوره بذلك. والله أعلم.
سئل عن رجلين تراهنا في عمل زجلين وفي ذكرهما التغزل في المردان

وسئل رحمه الله عن رجلين تراهنا في عمل زجلين، وكل منهما له عصبية، وعلى من تعصب لهما، وفي ذكرهما التغزل في المردان وغير ذلك، وما أشبههما أفتونا مأجورين.

فأجاب:

الحمد لله، هؤلاء المتغالبون بهذه الأزجال، وما كان من جنسها هم والمتعصبون من الطرفين، والمراهنة في ذلك وغير المراهنة ظالمون معتدون آثمون، مستحقون العقوبة البليغة الشرعية التي تردعهم وأمثالهم من سفهاء الغواة العصاة الفاسقين عن مثل هذه الأقوال والأعمال، التي لا تنفع في دين ولا دنيا، بل تضر أصحابها في دينهم ودنياهم. وعلى ولاة الأمور، وجميع المسلمين الإنكار على هؤلاء وأعوانهم؛ حتى ينتهوا عن هذه المنكرات ويراجعوا طاعة الله ورسوله، وملازمة الصراط المستقيم الذي يجب على المسلمين ملازمته؛ فإن هذه المغالبات مشتملات على منكرات محرمات، وغير محرمات بل مكروهات. ومن المحرمات التي فيها تحريمه ثابت بالإجماع وبالنصوص الشرعية، وذلك من وجوه.

أحدها: المراهنة على ذلك بإجماع المسلمين، وكذلك لو كان المال مبذولا من أحدهما، أو من غيرها، لم يجز؛ لا على قول من يقول: لا سبق إلا في خف أو حافر، أو نصل. ولا على قول من يقول: السبق في غير هذه الثلاثة. أما على القول الأول فظاهر، وفي ذلك الحديث المعروف في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل). وهذه الثلاثة من أعمال الجهاد في سبيل الله، فإخراج السبق فيها من أنواع إنفاق المال في سبيل الله، بخلاف غيرها من المباحات كالمصارعة، والمسابقة بالأقدام فإن هذه الأعمال ليست من الجهاد؛ فلهذا رخص فيها من غير سبق. فإن النبي ﷺ صارع ابن عبد يزيد، وسابق عائشة رضي الله عنه وأذن في السباق لسلمة بن الأكوع. وأما على القول الثاني فلابد أن تكون المغالبة في عمل مباح، وهذه ليست كذلك. وذلك يظهر بالوجه الثاني:

وهو أن هذه الأقوال فيها من وصف المردان وعشقهم، ومقدمات الفجور بهم ما يقتضي ترغيب النفوس في ذلك، وتهييج ذلك في القلوب. وكل ما فيه إعانة على الفاحشة والترغيب فيها، فهو حرام؛وتحريم هذا أعظم من تحريم الندب والنياحة، وذلك يثير الحزن، وهذا يثير الفسق. والحزن قد يرخص فيه، وأما الفسق فلا يرخص في شيء منه. وهذا من جنس القيادة. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها)، فنهى النبي ﷺ عن وصف المرأة؛ لئلا تتمثل في نفسه صورتها، فكيف بمن يصف المردان بهذه الصفات، ويرغب في الفواحش بمثل هذه الأقوال المنكرات التي تخرج القلب السليم، وتعمي القلب السقيم، وتسوق الإنسان إلى العذاب الإليم؟ وقد أمر عمر رضي الله عنه بضرب نائحة، فضربت حتى بدا شعرها، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنه قد بدا شعرها؟ فقال: لا حرمة لها، إنما تأمر بالجزع وقد نهى الله عنه، وتنهى عن الصبر وقد أمر الله به، وتفتن الحي وتؤذي الميت، وتبيع عبرتها، وتبكي شجو غيرها، إنها لا تبكي على ميتكم، وإنما تبكي على أخذ دراهمكم. وبلغ عمر أن شابا يقال له: نصر ابن حجاج تغنت به امرأة فأخذ شعره، ثم رآه جميلا فنفاه إلى البصرة، وقال: لا يكون عندي من تغني به النساء، فكيف لو رأي عمر من يغني بمثل هذه الأقوال الموزونة في المردان، مع كثرة الفجور، وظهور الفواحش، وقلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فإن هؤلاء من المضادين لله ولرسوله ولدينه. ويدعون إلى ما نهى الله عنه، ويصدون عما أمر الله به، ويصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجًا.

الوجه الثالث: أن هذا الكلام الموزون كلام فاسد مفردًا أو مركبًا؛ لأنهم غيروا فيه كلام العرب، وبدلوه، بقولهم: ماعوا وبدوا وعدوا. وأمثال ذلك مما تمجه القلوب والأسماع، وتنفر عنه العقول والطباع.

وأما مركباته، فإنه ليس من أوزان العرب، ولا هو من جنس الشعر ولا من أبحره الستة عشر، ولا من جنس الأسجاع والرسائل والخطب.

ومعلوم أن تعلم العربية وتعليم العربية فرض على الكفاية، وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، ونصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها. فلو ترك الناس على لحنهم كان نقصا وعيبا فكيف إذا جاء قوم إلى الألسنة العربية المستقيمة، والأوزان القويمة، فأفسدوها بمثل هذه المفردات والأوزان المفسدة للسان، الناقلة عن العربية العرباء إلى أنواع الهذيان، الذي لا يهذي به الأقوم من الأعاجم الطِّماطِم الصميان؟

الوجه الرابع: أن المغالبة بمثل هذا توقع العداوة والبغضاء وتصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا من جنس النقار بين الديوك، والنطاح بين الكباش، ومن جنس مغالبات العامة التي تضرهم ولا تنفعهم، والله سبحانه حرم الخمر والميسر. والميسر هو القمار؛ لأنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء. والميسر المحرم ليس من شرطه أن يكون فيه عوض، بل اللعب بالنرد حرام باتفاق العلماء وإن لم يكن فيه عوض، وإن كان فيه خلاف شاذ لا يلتفت إليه. وقد قال ﷺ: (من لعب بالنرد فقد عصي الله ورسوله)؛ لأن النرد يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء، وهذه المغالبات تصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع بينهم العداوة والبغضاء، أعظم من النرد، فإذا كان أكثر الأئمة قد حرم الشطرنج، وجعله مالك أعظم من النرد، مع أن اللاعبين بالنرد، والشطرنج وإن كانوا فساقًا، فهم أمثل من هؤلاء، وهذا بين الوجه الخامس: وهو أن غالب هؤلاء، إما زنديق منافق، وإما فاجر فاسق، ولا يكاد يوجد فيهم مؤمن بر، بل وجد حاذقهم منسلخًا من دين الإسلام، مضيعًا للصلوات، متبعًا للشهوات، لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرم ما حرم الله ورسوله، ولا يدين دين المسلمين. وإن كان مسلمًا كان فاسقًا مرتكبًا للمحرمات، تاركًا للواجبات. وإن كان الغالب عليهم، إما النفاق، وإما الفسق، كان حكم الله في الزنديق قتله من غير استتابة، وحكمه في الفاسق إقامة الحد عليه؛ إما بالقتل، أو بغيره والمخالط لهم والمعاشر إذا ادعى سلامته من ذلك لم يقبل؛ فإنه إما أن يفعل معهم المحرمات، ويترك الواجبات، وإما أن يقرهم على المنكرات، فلا يأمرهم بمعروف، ولا ينهاهم عن منكر. وعلى كل حال فهو مستحق للعقوبة، وقد رفع إلى عمر بن عبد العزيز أقوام يشربون الخمر فأمر بجلدهم الحد، فقيل: إن فيهم صائمًا؟ فقال: إبدؤوا بالصائم فاجلدوه: ألم يسمع إلى قوله تعالى: { وَقَدْ نَزَّلَ عليكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [93]. وقوله تعالى: { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [99]، فنهى سبحانه عن القعود مع الظالمين، فكيف بمعاشرتهم؟ أم كيف بمخادنتهم؟

وهؤلاء قوم تركوا المقامرة بالأيدي، وعجزوا عنها، ففتحوا القمار بالألسنة، والقمار بالألسنة أفسد للعقل والدين من القمار بالأيدي. والواجب على المسلمين المبالغة في عقوبة هؤلاء، وهجرهم، واستتابتهم، بل لو فرض أن الرجل نظم هذه الأزجال العربية من غير مبالغة لنهي عن ذلك، بل لو نظمها في غير الغزل، فإنهم تارة ينظمونها بالكفر بالله وبكتابه ورسوله، كما نظمها أبو الحسن التستري في وحدة الوجود، وأن الخالق هو المخلوق. وتارة ينظمونها في الفسق، كنظم هؤلاء الغواة، والسفهاء الفساق. ولو قدر أن ناظمًا نظم هذه الأزجال في مكان حانوت، نهى؛ فإنها تفسد اللسان العربى، وتنقله إلى العجمة المنكرة.

وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات، وهو التكلم بغير العربية إلا الحاجة، كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد، بل قال مالك: من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه. مع أن سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها، ولكن سوغوها للحاجة، وكرهوها لغير الحاجة، ولحفظ شعائر الإسلام؛ فإن الله أنزل كتابه باللسان العربى، وبعث به نبيه العربى، وجعل الأمة العربية خير الأمم، فصار حفظ شعارهم من تمام حفظ الإسلام، فكيف بمن تقدم على الكلام العربي مفرده ومنظومه فيغيره ويبدله، ويخرجه عن قانونه ويكلف الانتقال عنه؟ !! إنما هذا نظير ما يفعله بعض أهل الضلال من الشيوخ الجهال، حيث يصمدون إلى الرجل العاقل فيولهونه، ويخنثونه، فإنهم ضادوا الرسول إذ بعث بإصلاح العقول والأديان. وتكميل نوع الإنسان وحرم ما ينير العقل من جميع الألوان، فإذا جاء هؤلاء إلى صحيح العقل فأفسدوا عقله وفهمه، وقد ضادو الله وراغموا حكمه. والذين يبدلون اللسان العربي ويفسدونه، لهم من هذا الذم والعقاب بقدر ما يفتحونه؛ فإن صلاح العقل واللسان، مما يؤمر به الإنسان، ويعين ذلك على تمام الإيمان، وصد ذلك يوجب الشقاق والضلال والخسران. والله أعلم.
سئل عمن يتحدث بين الناس بكلام وحكايات مفتعلة كلها كذب

وسئل رحمه الله عمن يتحدث بين الناس بكلام وحكايات مفتعلة، كلها كذب: هل يجوز ذلك؟

فأجاب:

أما المتحدث بأحاديث مفتعلة ليضحك الناس، أو لغرض آخر، فإنه عاص لله ورسوله، وقد روى بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي ﷺ قال: (إن الذي يحدث فيكذب ليضحك القوم، ويل له، ويل له، ثم ويل له) وقد قال ابن مسعود: إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجزه. وأما إن كان في ذلك ما فيه عدوان على مسلم وضرر في الدين، فهو أشد تحريمًا من ذلك. وبكل حال ففاعل ذلك مستحق للعقوبة الشرعية التي تردعه عن ذلك. والله أعلم.
فصل في التشبه بالبهائم في الأمور المذمومة

وقال شيخ الإسلام رحمه الله:

التشبه بالبهائم في الأمور المذمومة في الشرع مذموم، منهي عنه، في أصواتها، وأفعالها، ونحو ذلك مثل: أن ينبح نبيح الكلاب، أو ينهق نهيق الحمير، ونحو ذلك؛ وذلك لوجوه:

أحدها: أنا قررنا في اقتضاء الصراط المستقيم نهى الشارع عن التشبه بالآدميين الذين جنسهم ناقص كالتشبه، بالأعراب، وبالأعاجم، وبأهل الكتاب ونحو ذلك في أمور من خصائصهم، وبينا أن من أسباب ذلك أن المشابهة تورث مشابهة الأخلاق، وذكرنا أن من أكثر عشرة بعض الدواب اكتسب من أخلاقها، كالكلابين، والجمالين. وذكرنا ما في النصوص من ذم أهل الجفاء وقسوة القلوب أهل الإبل، ومن مدح أهل الغنم، فكيف يكون التشبه بنفس البهائم فيما هي مذمومة؟ بل هذه القاعدة تقتضي بطريق التنبيه النهي عن التشبه بالبهائم مطلقًا فيما هو من خصائصها، وإن لم يكن مذمومًا بعينه؛ لأن ذلك يدعو إلى فعل ما هو مذموم بعينه؛ إذ من المعلوم أن كون الشخص أعرابيًا أو عجميًا خير من كونه كلبًا أو حمارًا أو خنزيرًا، فإذا وقع النهي عن التشبه بهذا الصنف من الآدميين في خصائصه؛ لكون ذلك تشبهًا فيما يستلزم النقص، ويدعو إليه، فالتشبه بالبهائم فيما هو من خصائصها أولى أن يكون مذمومًا ومنهيًا عنه.

الوجه الثاني: أن كون الإنسان مثل البهائم مذموم، قال تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [100].

الوجه الثالث: أن الله سبحانه إنما شبه الإنسان بالكلب والحمار ونحوهما في معرض الذم له كقوله: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عليه يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاء مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } [101]، وقال تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } الآية [102]. وإذا كان التشبه بها إنما كان على وجه الذم من غير أن يقصد المذموم التشبه بها، فالقاصد أن يتشبه بها أولى أن يكون مذمومًا، لكن إن كان تشبه بها في عين ما ذمه الشارع، صار مذمومًا من وجهين. وإن كان فيما لم يذمه بعينه: صار مذمومًا من جهة التشبه المستلزم للوقوع في المذموم بعينه. يؤيد هذا:

الوجه الرابع: وهو قوله ﷺ في الصحيح: (العائد في هبته كالعائد في قيئه، ليس لنا مثل السوء)؛ ولهذا يذكر: أن الشافعي وأحمد تناظرا في هذه المسألة، فقال له الشافعي: الكلب ليس بمكلف. فقال له أحمد: ليس لنا مثل السوء. وهذه الحجة في نفس الحديث؛ فإن النبي ﷺ لم يذكر هذا المثل إلا ليبين أن الإنسان إذا شابه الكلب كان مذمومًا، وإن لم يكن الكلب مذمومًا في ذلك من جهة التكليف؛ ولهذا ليس لنا مثل السوء. والله سبحانه قد بين بقوله: { سَاء مَثَلا } أن التمثيل بالكلب مثل سوء، والمؤمن منزه عن مثل السوء. فإذا كان له مثل سوء من الكلب كان مذمومًا بقدر ذلك المثل السوء.

الوجه الخامس: أن النبي ﷺ قال: (إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب) وقال: (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانًا) فدل ذلك على أن أصواتها مقارنة للشياطين، وإنها منفرة للملائكة. ومعلوم أن المشابه للشيء لابد أن يتناوله من أحكامه بقدر المشابهة، فإذا نبح نباحها كان في ذلك من مقارنة الشياطين وتنفير الملائكة بحسبه. وما يستدعى الشياطين، وينفر الملائكة، لا يباح إلا لضرورة، ولهذا لم يبح اقتناء الكلب إلا لضرورة؛ لجلب منفعة كالصيد أو دفع مضرة عن الماشية والحرث حتى قال ﷺ: (من اقتنى كلبًا إلا كلب ماشية أو حرث أو صيد، نقص من عمله كل يوم قيراط).

وبالجملة فالتشبه بالشىء يقتضى من الحمد والذم بحسب الشبه، لكن كون المشبه به غير مكلف لا ينفي التكليف عن المتشبه، كما لو تشبه بالأطفال والمجانين. والله سبحانه أعلم.

الوجه السادس: أن النبي ﷺ (لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)؛ وذلك لأن الله خلق كل نوع من الحيوان، وجعل صلاحه وكماله في أمر مشترك بينه وبين غيره، وبين أمر مختص به. فأما الأمور المشتركة فليست من خصائص أحد النوعين؛ ولهذا لم يكن من مواقع النهى، وإنما مواقع النهى الأمور المختصة. فإذا كانت الأمور التي هى من خصائص النساء ليس للرجال التشبه بهن فيها، والأمور التي هي من خصائص الرجال ليس للنساء التشبه بهم فيها، فالأمور التي هي من خصائص البهائم لا يجوز للآدمي التشبه بالبهائم فيها بطريق الأولى والأحرى؛ وذلك لأن الإنسان بينه وبين الحيوان قدر جامع مشترك، وقدر فارق مختص ثم الأمر المشترك كالأكل، والشرب، والنكاح، والأصوات، والحركات لما اقترنت بالوصف المختص كان للإنسان فيها أحكام تخصه، ليس له أن يتشبه بما يفعله الحيوان فيها. فالأمور المختصة به أولى، مع أنه في الحقيقة لا مشترك بينه وبينها، ولكن فيه أوصاف تشبه أوصافها من بعض الوجوه. والقدر المشترك إنما وجوده في الذهن، لا في الخارج.

وإذا كان كذلك فالله تعالى قد جعل الإنسان مخالفًا بالحقيقة للحيوان، وجعل كماله وصلاحه في الأمور التي تناسبه، وهي جميعها لا يماثل فيها الحيوان، فإذا تعمد مماثلة الحيوان، وتغيير خلق الله، فقد دخل في فساد الفطرة والشرعة، وذلك محرم. والله أعلم.
فصل قوله فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله

وقال رحمه الله:

قوله: { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ } [103]، يقتضي وجوب طاعتها لزوجها مطلقًا من خدمة، وسفر معه، وتمكين له، وغير ذلك كما دلت عليه سنة رسول الله ﷺ في حديث الجبل الأحمر وفي السجود وغير ذلك، كما تجب طاعة الأبوين. فإن كل طاعة كانت للوالدين انتقلت إلى الزوج، ولم يبق للأبوين عليها طاعة، تلك وجبت بالأرحام، وهذه وجبت بالعهود، كما سنقرر إن شاء الله هذين الأصلين العظيمين.
سئل عن امرأة تزوجت وخرجت عن حكم والديها

وسئل رحمه الله عن امرأة تزوجت، وخرجت عن حكم والديها، فأيهما أفضل: برها لوالديها، أو مطاوعة زوجها؟

فأجاب:

الحمد رب العالمين، المرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك بها من أبويها، وطاعة زوجها عليها أوجب، قال الله تعالى: { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ } [103]، وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة؛ إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك)، وفي صحيح ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)، وفي الترمذي عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله ﷺ: (أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة)، وقال الترمذي: حديث حسن، وعن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: (لو كنت آمرًا لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها). أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن، وأخرجه أبو داود، ولفظه: (لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل الله لهم عليهن من الحقوق). وفي المسند عن أنس: أن النبي ﷺ قال: (لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تجري بالقيح والصديد، ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه)! وفي المسند وسنن ابن ماجه، عن عائشة عن النبي ﷺ قال: (لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أن رجلا أمر امرأته أن تنقل من جبل أحمر إلى جبل أسود، ومن جبل أسود إلى جبل أحمر، لكان لها أن تفعل)، أي لكان حقها أن تفعل.

وكذلك في المسند، وسنن ابن ماجه، وصحيح ابن حبان، عن عبد الله بن أبي أوفي، قال: لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي ﷺ، فقال: (ما هذا يا معاذ؟ ) قال: أتيت الشام فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: (لا تفعلوا ذلك، فإني لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه)، وعن طلق بن على قال: قال رسول الله ﷺ: (أيما رجل دعا زوجته لحاجته فلتأته ولو كانت على التنور) رواه أبو حاتم في صحيحه والترمذي، وقال: حديث حسن، وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجىء، فبات غضبانا عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح). والأحاديث في ذلك كثيرة عن النبي ﷺ، وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله تعالى: { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْباب } [62]. وقال عمر بن الخطاب: النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته. وفي الترمذي وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: (استوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هن عندكم عوان)، فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق والأسير، فليس لها أن تخرج من منزله إلا بإذنه سواء أمرها أبوها أو أمها أو غير أبويها باتفاق الأئمة.

وإذا أراد الرجل أن ينتقل بها إلى مكان آخر مع قيامه بما يجب عليه وحفظ حدود الله فيها ونهاها أبوها عن طاعته في ذلك، فعليها أن تطيع زوجها دون أبويها؛ فإن الأبوين هما ظالمان، ليس لهما أن ينهاياها عن طاعة مثل هذا الزوج، وليس لها أن تطيع أمها فيما تأمرها به من الاختلاع منه أو مضاجرته حتى يطلقها، مثل أن تطالبه من النفقة والكسوة والصداق بما تطلبه ليطلقها، فلا يحل لها أن تطيع واحدًا من أبويها في طلاقه إذا كان متقيًا لله فيها. ففي السنن الأربعة وصحيح ابن أبي حاتم عن ثوبان قال: قال رسول الله ﷺ: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة). وفي حديث آخر: (المختلعات والمنتزعات هن المنافقات). وأما إذا أمرها أبواها أو أحدهما بما في طاعة الله مثل المحافظة على الصلوات، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، ونهوها عن تبذير مالها وإضاعته، ونحو ذلك مما أمر الله ورسوله أو نهاها الله ورسوله عنه، فعليها أن تطيعهما في ذلك، ولو كان الأمر من غير أبويها، فكيف إذا كان من أبويها؟

وإذا نهاها الزوج عما أمر الله، أو أمرها بما نهى الله عنه، لم يكن لها أن تطيعه في ذلك، فإن النبي ﷺ قال: (إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، بل المالك لو أمر مملوكه بما فيه معصية لله لم يجز له أن يطيعه في معصية، فكيف يجوز أن تطيع المرأة زوجها أو أحد أبويها في معصية؟ فإن الخير كله في طاعة الله ورسوله، والشر كله في معصية الله ورسوله.
سئل عن رجل له زوجة أسكنها بين ناس مناجيس

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له زوجة أسكنها بين ناس مناجيس، وهو يخرج بها إلى الفرج، وإلى أماكن الفساد، ويعاشر مفسدين. فإذا قيل له: انتقل من هذا المسكن السوء، فيقول: أنا زوجها، ولي الحكم في امرأتي، ولي السكنى. فهل له ذلك؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، ليس له أن يسكنها حيث شاء، ولا يخرجها إلى حيث شاء، بل يسكن بها في مسكن يصلح لمثلها، ولا يخرج بها عند أهل الفجور، بل ليس له أن يعاشر الفجار على فجورهم، ومتى فعل ذلك وجب أن يعاقب عقوبتين عقوبة على فجوره بحسب ما فعل، وعقوبة على ترك صيانة زوجته وإخراجها إلى أماكن الفجور، فيعاقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل ذلك. والله أعلم.
فصل في إتيان النساء في أدبارهن

وقال رحمه الله تعالى:

وأما (إتيان النساء في أدبارهن)، فهذا محرم عند جمهور السلف والخلف كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة، وهو المشهور في مذهب مالك. وأما القول الآخر بالرخصة فيه: فمن الناس من يحكيه رواية عن مالك، ومنهم من ينكر ذلك. ونافع نقل عن ابن عمر أنه لما قرأ عليه: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } [104]، قال له ابن عمر: إنها نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. فمن الناس من يقول غلط نافع على ابن عمر، أو لم يفهم مراده، وكان مراده: أنها نزلت في إتيان النساء من جهة الدبر في القبل؛ فإن الآية نزلت في ذلك باتفاق العلماء، وكانت اليهود تنهى عن ذلك، وتقول: إذا أتى الرجل المرأة في قبلها من دبرها جاء الولد أحول فأنزل الله هذه الآية. والحرث موضع الولد، وهو القبل. فرخص الله للرجل أن يطأ المرأة في قبلها من أي الجهات شاء.

وكان سالم بن عبد الله بن عمر يقول: كذب العبد على أبي، وهذا مما يقوي غلط نافع على ابن عمر، فإن الكذب كانوا يطلقونه بإزاء الخطأ، كقول عبادة: كذب أبو محمد. لما قال: الوتر واجب. وكقول ابن عباس: كذب نوف: قال: لما قال صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل.

ومن الناس من يقول: ابن عمر هو الذي غلط في فهم الآية. والله أعلم أي ذلك كان، لكن نقل عن ابن عمر أنه قال. أو يفعل هذا مسلم؟ لكن بكل حال معنى الآية هو ما فسرها به الصحابة والتابعون، وسبب النزول يدل على ذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل ينكح زوجته في دبرها

وسئل رحمه الله عن رجل ينكح زوجته في دبرها: أحلال هو، أم حرام؟

فأجاب:

وطء المرأة في دبرها حرام بالكتاب والسنة، وهو قول جماهير السلف والخلف، بل هو اللوطية الصغرى، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن). وقد قال تعالى: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } [104] والحرث هو موضع الولد؛ فإن الحرث هو محل الغرس والزرع. وكانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها جاء الولد أحول، فأنزل الله هذه الآية، وأباح للرجل أن يأتي امرأته من جميع جهاتها، لكن في الفرج خاصة. ومتى وطئها في الدبر وطاوعته عزرا جميعًا، فإن لم ينتهيا وإلا فرق بينهما، كما يفرق بين الرجل الفاجر ومن يفجر به. والله أعلم.
سئل عما يجب على من وطئ زوجته في دبرها

وسئل رحمه الله تعالى عما يجب على من وطئ زوجته في دبرها؟ وهل أباحه أحد من العلماء؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين. الوطء في الدبر حرام في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وعلى ذلك عامة أئمة المسلمين، من الصحابة، والتابعين، وغيرهم فإن الله قال في كتابه: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }، وقد ثبت في الصحيح: إن اليهود كانوا يقولون: إذا أتى الرجل امرأته في قبلها من دبرها جاء الولد أحول، فسأل المسلمون عن ذلك النبي ﷺ، فأنزل الله هذه الآية: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }. والحرث: موضع الزرع، والولد إنما يزرع في الفرج؛ لا في الدبر { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } وهو موضع الولد { أَنَّى شِئْتُمْ } أي: من أين شئتم: من قبلها، ومن دبرها، وعن يمينها، وعن شمالها. فالله تعالى سمى النساء حرثًا، وإنما رخص في إتيان الحروث، والحرث إنما يكون في الفرج. وقد جاء في غير أثر: أن الوطء في الدبر هو اللوطية الصغرى، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في حشوشهن) والحش هو الدبر، وهو موضع القذر والله سبحانه حرم إتيان الحائض، مع أن النجاسة عارضة في فرجها، فكيف بالموضع الذي تكون فيه النجاسة المغلظة؟

وأيضًا، فهذا من جنس اللواط، ومذهب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأحمد وأصحابه أن ذلك حرام لا نزاع بينهم، وهذا هو الظاهر من مذهب مالك وأصحابه، لكن حكى بعض الناس عنهم رواية أخرى بخلاف ذلك، ومنهم من أنكر هذه الرواية وطعن فيها.

وأصل ذلك ما نقل عن نافع أنه نقله عن ابن عمر، وقد كان سالم بن عبد الله يكذب نافعًا في ذلك. فأما أن يكون نافع غلط، أو غلط من هو فوقه. فإذا غلط بعض الناس غلطة لم يكن هذا مما يسوغ خلاف الكتاب والسنة كما أن طائفة غلطوا في إباحة الدرهم بالدرهمين، واتفق الأئمة على تحريم ذلك لما جاء في ذلك من الأحاديث الصحيحة، وكذلك طائفة غلطوا في أنواع من الأشربة. ولما ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، وأنه

سئل عن أنواع من الأنبذة، فقال: (كل مسكر حرام)، (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، وجب اتباع هذه السنن الثابتة، ولهذا نظائر في الشريعة. ومن وطئ امرأته في دبرها وجب أن يعاقبا على ذلك عقوبة تزجرهما، فإن علم أنهما لا ينزجران، فإنه يجب التفريق بينهما. والله أعلم.
باب القسم بين الزوجات
سئل عن رجل متزوج بامرأتين وإحداهما يحبها أكثر من صاحبتها

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل متزوج بامرأتين، وإحداهما يحبها، ويكسوها، ويعطيها ويجتمع بها أكثر من صاحبتها.

فأجاب:

الحمد لله، يجب عليه العدل بين الزوجتين باتفاق المسلمين. وفي السنن الأربعة عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل). فعليه أن يعدل في القسم. فإذا بات عندها ليلة أو ليلتين أو ثلاثًا بات عند الأخرى بقدر ذلك، ولا يفضل إحداهما في القسم، لكن إن كان يحبها أكثر، ويطأها أكثر، فهذا لا حرج عليه فيه، وفيه أنزل الله تعالى: { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } [105]، أي: في الحب والجماع، وفي السنن الأربعة عن عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ يقسم ويعدل، فيقول: (هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك)، يعني: القلب.

وأما العدل في النفقة، والكسوة، فهو السنة أيضا، اقتداء بالنبي ﷺ، فإنه كان يعدل بين أزواجه في النفقة، كما كان يعدل في القسمة، مع تنازع الناس في القسم: هل كان واجبا عليه أو مستحبا له؟ وتنازعوا في العدل في النفقة: هل هو واجب أو مستحب؟ ووجوبه أقوى، وأشبه بالكتاب والسنة.

وهذا العدل مأمور به ما دامت زوجة، فإن أراد أن يطلق إحداهما فله ذلك، فإن اصطلح هو والتي يريد طلاقها على أن تقيم عنده بلا قسم وهي راضية بذلك جاز، كما قال تعالى: { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عليهمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } [106]، وفي الصحيح عن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية في المرأة تكون عند الرجل، فتطول صحبتها، فيريد طلاقها، فتقول: لا تطلقني، وأمسكني، وأنت في حل من يومي، فنزلت هذه الآية. وقد كان النبي ﷺ أراد أن يطلق سودة، فوهبت يومها لعائشة، فأمسكها بلا قسمة، وكذلك رافع بن خديج جرى له نحو ذلك، ويقال إن الآية أنزلت فيه.
سئل عن رجل له امرأتان ويفضل إحداهما على الأخرى في الحقوق

وسئل رحمه الله عن رجل له امرأتان، ويفضل إحداهما على الأخرى في النفقة وسائر الحقوق، حتى إنه هجرها: فما يجب عليه؟

فأجاب:

يجب عليه أن يعدل بين المرأتين، وليس له أن يفضل إحداهما في القسم، فإن النبي ﷺ قال: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما أكثر من الأخرى، جاء يوم القيامة وشقه مائل). وإن لم يعدل بينهما، فإما أن يمسك بمعروف، وإما أن يسرح بإحسان. والله أعلم.
سئل عن الرجل إذا صبر على زوجته الشهر والشهرين لا يطؤها فهل عليه إثم

وسئل رحمه الله عن الرجل إذا صبر على زوجته الشهر والشهرين لا يطؤها: فهل عليه إثم أم لا؟ وهل يطالب الزوج بذلك؟

فأجاب:

يجب على الرجل أن يطأ زوجته بالمعروف، وهو من أوكد حقها عليه، أعظم من إطعامها.

والوطء الواجب قيل: إنه واجب في كل أربعة أشهر مرة. وقيل: بقدر حاجتها وقدرته. كما يطعمها بقدر حاجتها وقدرته. وهذا أصح القولين. والله أعلم.
سئل عن امرأة تضع معها دواء تمنع بذلك نفوذ المني

وسئل رحمه الله عن امرأة تضع معها دواء عند المجامعة، تمنع بذلك نفوذ المني في مجاري الحبل: فهل ذلك جائز حلال أم لا؟

وهل إذا بقي ذلك الدواء معها بعد الجماع ولم يخرج. يجوز لها الصلاة والصوم بعد الغسل أم لا؟

فأجاب:

أما صومها وصلاتها فصحيحة وإن كان ذلك الدواء في جوفها. وأما جواز ذلك ففيه نزاع بين العلماء، والأحوط أنه لا يفعل. والله أعلم.
سئل عما إذا نظر الرجل إلى جميع بدن امرأته ولمسه

وسئل رحمه الله عما إذا نظر الرجل إلى جميع بدن امرأته، ولمسه، حتى الفرج: عليه شيء، أم لا؟

فأجاب:

لا يحرم على الرجل النظر إلى شيء من بدن امرأته، ولا لمسه، لكن يكره النظر إلى الفرج. وقيل: لا يكره. وقيل: لا يكره إلا عند الوطء.
سئل عن امرأة مطلقة وهي ترضع

وسئل رحمه الله عن امرأة مطلقة وهي ترضع، وقد آجرت لبنها، ثم انقضت عدتها وتزوجت: فهل للمستأجر أن يمنعها أن تدخل على زوجها خشية أن تحمل منه فيقل اللبن على الولد؟

فأجاب:

أما مجرد الشك فلا يمنع الزوج ما يستحقه من الوطء، لا سيما وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (لقد هممت أن أنهى عن ذلك، ثم ذكرت أن فارس والروم يفعلون ذلك فلا يضر أولادهم)، فقد أخبر ﷺ: أنهم يفعلون ذلك فلا يضر الأولاد، ولم ينه عنه. وإذا كان كذلك لم يجز منع الزوج حقه إذا لم يكن فيه منع الحق السابق المستحق بعقد الإجارة.
سئل عن الأب إذا كان عاجزا عن أجرة الرضاع

وسئل رحمه الله تعالى عن الأب إذا كان عاجزا عن أجرة الرضاع: فهل له إذا امتنعت الأم عن الإرضاع إلا بأجرة أن يسترضع غيرها؟

فأجاب:

نعم، لأنه لا يجب عليه ما لا يقدر عليه.
سئل عمن تسلط عليه ثلاثة الزوجة والقط والنمل

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن تسلط عليه ثلاثة: الزوجة، والقط، والنمل: الزوجة ترضع من ليس ولدها، وتنكد عليه حاله وفراشه بذلك، والقط يأكل الفراريج، والنمل يدب في الطعام: فهل لهم حرق بيوتهم بالنار أم لا؟ وهل يجوز لهم قتل القط؟ وهل لهم منع الزوجة من إرضاعها؟

فأجاب:

ليس للزوجة أن ترضع غير ولدها إلا بإذن الزوج. والقط إذا صال على ماله، فله دفعه عن الصول ولو بالقتل، وله أن يرميه بمكان بعيد؛ فإن لم يمكن دفع ضرره إلا بالقتل قتل. وأما النمل: فيدفع ضرره بغير التحريق. والله أعلم.
باب النشوز
سئل عن رجل له زوجة تصوم وتقوم وكلما دعاها الرجل إلى فراشه تأبى عليه

سئل شيخ الإسلام رَحِمهُ الله عن رجل له زوجة، تصوم النهار وتقوم الليل، وكلما دعاها الرجل إلى فراشه تأبى عليه، وتقدم صلاة الليل وصيام النهار على طاعة الزوج: فهل يجوز ذلك؟

فأجاب:

لا يحل لها ذلك باتفاق المسلمين، بل يجب عليها أن تطيعه إذا طلبها إلى الفراش، وذلك فرض واجب عليها. وأما قيام الليل وصيام النهار فتطوع، فكيف تقدم مؤمنة للنافلة على الفريضة؟ حتى قال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه). ورواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما، ولفظهم: (لا تصوم امرأة وزوجها شاهد يوما من غير رمضان إلا بإذنه). فإذا كان النبي ﷺ قد حرم على المرأة أن تصوم تطوعا إذا كان زوجها شاهدا إلا بإذنه، فتمنع بالصوم بعض ما يجب له عليها: فكيف يكون حالها إذ طلبها فامتنعت؟ وفي الصحيحين عن النبي ﷺ: (إذا دعا الرجل المرأة إلى فراشه فأبت، لعنتها الملائكة حتى تصبح). وفي لفظ: (إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى تصبح). وقد قال الله تعالى: { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ } [103]، فالمرأة الصالحة هي التي تكون قانتة أي: مداومة على طاعة زوجها. فمتى امتنعت عن إجابته إلى الفراش كانت عاصية ناشزة، وكان ذلك يبيح له ضربها كما قال تعالى: { وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عليهنَّ سَبِيلا } [103].

وليس على المرأة بعد حق الله ورسوله أوجب من حق الزوج، حتى قال النبي ﷺ: (لو كنت آمرا لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة تسجد لزوجها؛ لعظم حقه عليها). وعنه ﷺ أن النساء قلن له: إن الرجال يجاهدون، ويتصدقون، ويفعلون، ونحن لا نفعل ذلك. فقال: (حسن فعل أحدكن يعدل ذلك) أي: أن المرأة اذا أحسنت معاشرة بعلها كان ذلك موجبا لرضاء الله وإكرامه لها، من غير أن تعمل ما يختص بالرجال. والله أعلم.
سئل عن رجل حلف على زوجته بالهجر إذا امتنعت من الصلاة

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل حلف على زوجته، وقال: لأهجرنك إن كنت ما تصلين فامتنعت من الصلاة ولم تصل، وهجر الرجل فراشها: فهل لها على الزوج نفقة أم لا؟ وماذا يجب عليها إذا تركت الصلاة؟

فأجاب:

الحمد للّه، إذا امتنعت من الصلاة، فإنها تستتاب فإن تابت وإلا قتلت. وهجر الرجل على ترك الصلاة من أعمال البر التي يحبها الله ورسوله، ولا نفقة لها إذا امتنعت من تمكينه إلا مع ترك الصلاة. والله أعلم.
سئل عمن له زوجة لا تصلي

وسئل رحمه الله عمن له زوجة لا تصلي: هل يجب عليه أن يأمرها بالصلاة؟ وإذا لم تفعل: هل يجب عليه أن يفارقها، أم لا؟

فأجاب:

نعم عليه أن يأمرها بالصلاة، ويجب عليه ذلك، بل يجب عليه أن يأمر بذلك كل من يقدر على أمره به إذا لم يقم غيره بذلك، وقد قال تعالى: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عليها } الآية [107]. وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } الآية [108]. وقال عليه الصلاة والسلام: (علموهم وأدبوهم).

وينبغى مع ذلك الأمر أن يحضها على ذلك بالرغبة، كما يحضها على ما يحتاج إليها، فإن أصرت على ترك الصلاة فعليه أن يطلقها، وذلك واجب في الصحيح. وتارك الصلاة مستحق للعقوبة حتى يصلى باتفاق المسلمين، بل إذا لم يصل قتل. وهل يقتل كافرا مرتدا؟ على قولين مشهورين. والله أعلم.
سئل عن قوله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن

وسئل رَحمه الله تعالى عن قوله تعالى: { وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } [103]، وفي قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا } إلى قوله تعالى: { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [109]، يبين لنا شيخنا هذا النشوز من ذاك؟

فأجاب:

الحمد للّه رب العالمين، النشوز في قوله تعالى: { تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } [103]، هو أن تنشز عن زوجها فتنفر عنه بحيث لا تطيعه إذا دعاها للفراش، أو تخرج من منزله بغير إذنه، ونحو ذلك مما فيه امتناع عما يجب عليها من طاعته.

وأما النشوز في قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا } [109]، فهو النهوض والقيام والارتفاع. وأصل هذه المادة هو الارتفاع والغلظ، ومنه النشز من الأرض، وهو المكان المرتفع الغليظ. ومنه قوله تعالى: { وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا } [110]، أى نرفع بعضها إلى بعض. ومن قرأ ننشرها أراد نحييها. فسمى المرأة العاصية ناشزا لما فيها من الغلظ والارتفاع عن طاعة زوجها، وسمى النهوض نشوزا لأن القاعد يرتفع من الأرض. والله أعلم.
سئل عن رجل له زوجة ناشز تمنعه نفسها فهل تسقط نفقتها

وسئل رَحمه الله عن رجل له زوجة، وهي ناشز تمنعه نفسها: فهل تسقط نفقتها وكسوتها وما يجب عليها؟

فأجاب:

الحمد للّه، تسقط نفقتها وكسوتها إذا لم تمكنه من نفسها، وله أن يضربها إذا أصرت على النشوز، ولا يحل لها أن تمنع من ذلك إذا طالبها به، بل هي عاصية للّه ورسوله، وفي الصحيح: (إذا طلب الرجل المرأة إلى فراشه فأبت عليه كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى تصبح).
سئل عن امرأة نشزت في بيت أبيها من مدة ثمانية شهور

وسئل شيخ الإسلام رَحمِهُ الله عن رجل له امرأة، وقد نشزت عنه في بيت أبيها من مدة ثمانية شهور، ولم ينتفع بها؟

فأجاب:

إذا نشزت عنه فلا نفقة لها، وله أن يضربها إذا نشزت، أو آذته، أو اعتدت عليه.
سئل عما يجب على الزوج إذا منعته من نفسها إذا طلبها

وسئل رَحمه الله عما يجب على الزوج إذا منعته من نفسها إذا طلبها؟

فأجاب:

الحمد لله، لا يحل لها النشوز عنه، ولا تمنع نفسها منه، بل إذا امتنعت منه وأصرت على ذلك فله أن يضربها ضربا غير مبرح، ولا تستحق نفقة ولا قسما.
سئل عمن تزوج بامرأة ودخل بها وهو مستمر في النفقة وهي ناشز

وسئل عمن تزوج بامرأة ودخل بها، وهو مستمر في النفقة، وهي ناشز. ثم إن والدها أخذها وسافر من غير إذن الزوج، فماذا يجب عليهما؟

فأجاب:

الحمد لله، إذا سافر بها بغير إذن الزوج فإنه يعزر على ذلك. وتعزر الزوجة إذا كان التخلف يمكنها، ولا نفقة لها من حين سافرت. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج امرأة من مدة وأحسنت العشرة

وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل تزوج امرأة من مدة إحدى عشرة سنة، وأحسنت العشرة معه، وفي هذا الزمان تأبى العشرة معه، وتناشزه: فما يجب عليها؟

فأجاب:

لا يحل لها أن تنشز عليه ولا تمنع نفسها، فقد قال النبي ﷺ: (ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى تصبح) فإذا أصرت على النشوز فله أن يضربها، وإذا كانت المرأة لا تقوم بما يجب للرجل عليها فليس عليه أن يطلقها ويعطيها الصداق، بل هي التي تفتدى نفسها منه، فتبذل صداقها ليفارقها، كما أمر النبي ﷺ لامرأة ثابت بن قيس بن شماس (أن يعطي صداقها فيفارقها). وإذا كان معسرا بالصداق لم تجز مطالبته بإجماع المسلمين.
سئل عن رجل تزوج بامرأة ما ينتفع بها

وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج بامرأة ما ينتفع بها ولا تطاوعه في أمر، وتطلب منه نفقة وكسوة، وقد ضيقت عليه أموره: فهل تستحق عليه نفقة وكسوة؟

فأجاب:

إذا لم تمكنه من نفسها أو خرجت من داره بغير إذنه فلا نفقة لها ولا كسوة، وكذلك إذا طلب منها أن تسافر معه فلم تفعل فلا نفقة لها ولا كسوة، فحيث كانت ناشزا عاصية له فيما يجب له عليها من طاعته، لم يجب لها نفقة ولا كسوة.
سئل عن امرأة متزوجة ولها أقارب كلما أرادت أن تزورهم أخذت الفراش

وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة متزوجة برجل، ولها أقارب كلما أرادت أن تزورهم أخذت الفراش، وتقعد عندهم عشرة أيام وأكثر، وقد قربت ولادتها، ومتى ولدت عندهم لم يمكن أن تجيء إلى بيتها إلا بعد أيام، ويبقى الزوج بردان: فهل يجوز لهم أن يخلوها تلد عندهم؟

فأجاب:

لا يحل للزوجة أن تخرج من بيتها إلا بإذنه، ولا يحل لأحد أن يأخذها إليه ويحبسها عن زوجها، سواء كان ذلك لكونها مرضعا، أو لكونها قابلة، أو غير ذلك من الصناعات، وإذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه كانت ناشزة عاصية للّه ورسوله، ومستحقة للعقوبة.
باب الخلع
سئل ماهو الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة

وسئل الشّيخ رَحمَه الله تعالى: ماهو الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة؟

فأجاب:

الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة أن تكون المرأة كارهة للزوج تريد فراقه فتعطيه الصداق أو بعضه فداء نفسها، كما يفتدي الأسير، وأما إذا كان كل منهما مريدا لصاحبه، فهذا الخلع محدث في الإسلام.

وَقَالَ رحمهُ الله:

إذا كانت مبغضة له مختارة لفراقه فإنها تفتدي نفسها منه، فترد إليه ما أخذته من الصداق، وتبريه مما في ذمته، ويخلعها، كما في الكتاب والسنة واتفق عليه الأئمة. والله أعلم.
سئل عن امرأة مبغضة لزوجها طلبت الانخلاع منه

وسئل رَحِمَه الله عن امرأة مبغضة لزوجها طلبت الانخلاع منه، وقالت له: إن لم تفارقني وإلا قتلت نفسي، فأكرهه الولي على الفرقة، وتزوجت غيره، وقد طلبها الأول، وقال: إنه فارقها مكرها، وهي لا تريد إلا الثاني؟

فأجاب:

إن كان الزوج الأول أكره على الفرقة بحق مثل أن يكون مقصرا في واجباتها، أو مضرا لها بغير حق من قول أو فعل كانت الفرقة صحيحة، والنكاح الثاني صحيحا، وهي زوجة الثاني. وإن كان أكره بالضرب أو الحبس وهو محسن لعشرتها حتىفارقها لم تقع الفرقة، بل إذا أبغضته وهو محسن إليها فإنه يطلب منه الفرقة من غير أن يلزم بذلك، فإن فعل والا أمرت المرأة بالصبر عليه إذا لم يكن ما يبيح الفسخ.
سئل عن رجل اتهم زوجته بفاحشة

وسئل رَحمَه الله تعالى عن رجل اتهم زوجته بفاحشة، بحيث أنه لم ير عندها ما ينكره الشرع إلا ادعي أنه أرسلها إلى عرس، ثم تجسس عليها فلم يجدها في العرس، فأنكرت ذلك، ثم إنه أتي إلى أوليائها وذكر لهم الواقعة، فاستدعوا بها لتقابل زوجها على ما ذكر، فامتنعت خوفا من الضرب، فخرجت إلى بيت خالها، ثم إن الزوج بعد ذلك جعل ذلك مستندا في إبطال حقها، وادعي أنها خرجت بغير إذنه: فهل يكون ذلك مبطلا لحقها؟ والإنكار الذي أنكرته عليه يستوجب إنكارا في الشرع؟

فأجاب:

قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } [111]، فلا يحل للرجل أن يعضل المرأة، بأن يمنعها ويضيق عليها حتى تعطيه بعض الصداق، ولا أن يضربها لأجل ذلك، لكن إذا أتت بفاحشة مبينة كان له أن يعضلها لتفتدي منه، وله أن يضربها. هذا فيما بين الرجل وبين الله.

وأما أهل المرأة فيكشفون الحق مع من هو فيعينونه عليه، فإن تبين لهم أنها هي التي تعدت حدود الله وآذت الزوج في فراشه، فهي ظالمة متعدية، فلتفتد منه. وإذا قال: إنه أرسلها إلى عرس ولم تذهب إلى العرس فليسأل إلى أين ذهبت؟ فإن ذكر أنها ذهبت إلى قوم لا ريبة عندهم وصدقها أولئك القوم، أو قالوا: لم تأت إلينا، وإلى العرس لم تذهب، كان هذا ريبة وبهذا يقوي قول الزوج.

وأما الجهاز الذي جاءت به من بيت أبيها فعليه أن يرده عليها بكل حال، وإن اصطلحوا فالصلح خير، ومتى تابت المرأة جاز لزوجها أن يمسكها ولا حرج في ذلك، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا لم يتفقا على رجوعها إليه فلتبرئه من الصداق، وليخلعها الزوج، فإن الخلع جائز بكتاب الله وسنة رسوله، كما قال الله تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عليهمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [112]. والله أعلم.
سئل عن ثيب بالغ زوجها الحاكم ثم خالعها الزوج بغير إذن الحاكم

وسئل شيخ الإِسلام رَحمَه الله عن ثيب بالغ لم يكن وليها إلا الحاكم، فزوجها الحاكم لعدم الأولياء ثم خالعها الزوج وبرأته من الصداق بغير إذن الحاكم: فهل تصح المخالعة والإبراء؟

فأجاب:

إذا كانت أهلا للتبرع جاز خلعها وإبراؤها بدون إذن الحاكم.
سئل عن امرأة قال لها زوجها إن أبرأتني فأنت طالق

وسئل رَحمَه الله عن امرأة قال لها زوجها: إن أبرأتِني فأنت طالق. فأبرأته. ولم تكن تحت الحجر، ولا لها أب، ولا أخ. ثم إنها ادعت أنها سفيهة لتسقط بذلك الإبراء.

فأجاب:

لا يبطل الإبراء بمجرد دعواها، ولو قامت بينة بأنها سفيهة ولم تكن تحت الحجر لم يبطل الإبراء بذلك، وإن كانت هي المتصرفة لنفسها. والله أعلم.
سئل عن امرأة أبرأت زوجها من جميع صداقها

وسئل رَحمَه الله عن امرأة أبرأت زوجها من جميع صداقها، ثم بعد ذلك أشهد الزوج على نفسه أنه طلق زوجته المذكورة على البراءة، وكانت البراءة تقدمت على ذلك: فهل يصح الطلاق؟ وإذا وقع يقع رجعيا أم لا؟

فأجاب:

إن كانا قد تواطئا على أن توهبه الصداق وتبريه على أن يطلقها فأبرأته، ثم طلقها، كان ذلك طلاقا بائنا. وكذلك لو قال لها: أبرئيني وأنا أطلقك. أو: إن أبرأتني طلقتك. ونحو ذلك من عبارات الخاصة والعامة التي يفهم منها أنه سأل الإبراء على أن يطلقها. وأما إن كانت أبرأته براءة لا تتعلق بالطلاق، ثم طلقها بعد ذلك، فالطلاق رجعي، ولكن هل لها أن ترجع في الإبراء إذا كان يمكن لكون مثل هذا الإبراء لا يصدر في العادة إلا لأن يمسكها أو خوفا من أن يطلقها أو يتزوج عليها أو نحو ذلك؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد. وأما إذا كانت قد طابت نفسها بالإبراء مطلقا وهو أن يكون ابتداء منها لا بسبب منة ولا عوض، فهنا لا ترجع فيه بلا ريب. والله أعلم.
سئل عن رجل قال لامرأته هذا ابن زوجك لا يدخل لي بيتا

وسئل رَحمَه الله تعالى عن رجل قال لامرأته: هذا ابن زوجك لا يدخل لي بيتا، قالت: فإنه ابني ربيته؛ فلما اشتكاه لأبيه قال للزوج: إن أبرأتك امرأتك تطلقها؟ قال: نعم. فأتي بها، فقال لها الزوج: إن أبرأتني من كتابك، ومن الحجة التي لك على، فأنت طالق؟ قالت: نعم. وانفصلا، وطلع الزوج إلى بيت جيرانه، فقال: هي طالق ثلاثا، ونزل إلى الشهود فسألوه كم طلقت؟ قال: ثلاثا على ما صدر منه: فهل يقع عليه الطلاق الثلاث.

فأجاب:

الحمد للّه، إذا كان إبراؤها على ما دل عليه سياق الكلام ليس مطلقا بل بشرط أن يطلقها بانت منه، ولم يقع بها بعد هذا طلاق، والشرط المتقدم على العقد كالشرط المقارن، والشرط العرفي كاللفظي. وقول هذا الذي من جهتها له: إن جاءت زوجتك وأبرأتك تطلقها؟ وقوله: اشتراط عليه أنه يطلقها إذا أبرأته، ومجيئه بها بعد ذلك، وقوله: أنت إن أبرأتني قالت: نعم. متنزل على ذلك، وهو أنه إذا أبرأته يطلقها، بحيث لو قالت: أبرأته وامتنع لم يصح الإبراء، فإن هذا إيجاب وقبول في العرف، لما تقدم من الشروط ودلالة الحال، والتقدير: أبرأتك بشرط أن تطلقني.
سئل عن رجل طلق زوجته طلقة رجعية

وسئل شيخ الإسلام رَحمَه الله عن رجل طلق زوجته طلقة رجعية، فلما حضر عند الشهود قال له بعضهم: قل: طلقتها على درهم. فقال له ذلك، فلما فعل قالوا له: قد ملكت نفسها فلا ترجع إليك إلا برضاها. فإذا وقع المنع: هل يسقط حقها مع غرره بذلك أم لا؟

فأجاب:

الحمد للّه، إذا كان قد طلقها طلقة رجعية، ثم إن الشاهد قد لقنه أن يقول: طلقها على درهم، فقال ذلك معتقدا أنه يقر بذلك الطلاق الأول لا ينشئ طلاقا آخر، لم يقع به غير الطلاق الأول، ويكون رجعيا لا بائنا وإذا ادعي عليه أنه قال ذلك القول الثاني إنشاءا لطلاق آخر ثان، وقال: إنما قلته إقرارا بالطلاق الأول، وليس ممن يعلم أن الطلاق بالعوض يبينها. فالقول قوله مع يمينه، لا سيما وقرينة الحال تصدقه، فإن العادة جارية بأنه إذا طلقها ثم حضر عند الشهود فإنما حضر ليشهدوا عليه بما وقع من الطلاق.
سئل عن الخلع هل هو طلاق محسوب من الثلاث

وسئل رَحمَه الله تعالى عن الخلع: هل هو طلاق محسوب من الثلاث؟ وهل يشترط كونه بغير لفظ الطلاق ونيته؟

فأجاب رحمه الله تعالى:

هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين السلف والخلف، فظاهر مذهب الإمام أحمد وأصحابه أنه فرقة بائنة وفسخ للنكاح، وليس من الطلاق الثلاث. فلو خلعها عشر مرات كان له أن يتزوجها بعقد جديد قبل أن تنكح زوجا غيره، وهو أحد قولي الشافعي. واختاره طائفة من أصحابه ونصروه، وطائفة نصروه ولم يختاروه، وهذا قول جمهور فقهاء الحديث كإسحاق ابن راهويه، وأبي ثور، وداود، وابن المنذر، وابن خزيمة. وهو ثابت عن ابن عباس وأصحابه كطاووس، وعكرمة.

والقول الثاني: أنه طلاق بائن محسوب من الثلاث وهو قول كثير من السلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، والشافعي في قوله الآخر ويقال: إنه الجديد، وهو الرواية الأخرى عن أحمد. وينقل ذلك عن عمر، وعثمان، وعلى، وابن مسعود، لكن ضعف أحمد وغيره من أئمة العلم بالحديث: كابن المنذر، وابن خزيمة، والبيهقي وغيرهم النقل عن هؤلاء، ولم يصححوا إلا قول ابن عباس، إنه فسخ وليس بطلاق. وأما الشافعي وغيره فقال: لا نعرف حال من روي هذا عن عثمان: هل هو ثقة أم ليس بثقة؟ فما صححوا ما نقل عن الصحابة، بل اعترفوا أنهم لا يعلمون صحته.

وما علمت أحدا من أهل العلم بالنقل صحح ما نقل عن الصحابة من أنه طلاق بائن محسوب من الثلاث، بل أثبت ما في هذا عندهم ما نقل عن عثمان، وقد نقل عن عثمان بالإسناد الصحيح أنه أمر المختلعة أن تستبرأ بحيضة. وقال: لا عليك عدة. وهذا يوجب أنه عنده فرقة بائنة، وليس بطلاق؛ إذ الطلاق بعد الدخول يوجب الاعتداد بثلاث قروء بنص القرآن واتفاق المسلمين، بخلاف الخلع، فإنه قد ثبت بالسنة وآثار الصحابة أن العدة فيها استبراء بحيضة، وهو مذهب إسحق، وابن المنذر، وغيرهما، وإحدى الروايتين عن أحمد.

وقد رد ابن عباس امرأة على زوجها بعد طلقتين وخلع مرة قبل أن تنكح زوجا غيره، وسأله إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص لما ولاه الزبير على اليمن عن هذه المسألة وقال له: إن عامة طلاق أهل اليمن هو الفداء؟ فأجابه ابن عباس بأن الفداء ليس بطلاق، ولكن الناس غلطوا في اسمه. واستدل ابن عباس بأن الله تعالى قال: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عليهمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتىتَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } [113]. قال ابن عباس: فقد ذكر الله تعالى الفدية بعد الطلاق مرتين، ثم قال: { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وهذا يدخل في الفدية خصوصا وغيرها عموما، فلو كانت الفدية طلاقا، لكان الطلاق أربعآً. وأحمد في المشهور عنه هو ومن تقدم اتبعوا ابن عباس.

واختلف هؤلاء في المختلعة: هل عليها عدة ثلاثة قروء أو تستبرأ بحيضة؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد: أحدهما: تستبرئ بحيضة، وهذا قول عثمان، وابن عباس؛ وابن عمر في آخر روايتيه، وهو قول غير واحد من السلف، ومذهب إسحاق، وابن المنذر وغيرهما، وروي ذلك عن النبي ﷺ في السنن من وجوه حسنة، كما قد بينت طرقها في غير هذا الموضع.

وهذا مما احتج به من قال: إنه ليس من الطلاق الثلاث، وقالوا: لو كان منه لوجب فيه تربص ثلاث قروء بنص القرآن، واحتجوا به على ضعف من نقل عن عثمان، أنه جعلها طلقة بائنة؛ فإنه قد ثبت عنه بالإسناد المرضي أنه جعلها تستبرئ بحيضة، ولو كانت مطلقة لوجب عليها تربص ثلاثة قروء. وإن قيل: بل عثمان جعلها مطلقة تستبرئ بحيضة فهذا لم يقل به أحد من العلماء، فاتباع عثمان في الرواية الثابتة عنه التي يوافقه عليها ابن عباس، ويدل عليها الكتاب والسنة: أولى من رواية راويها مجهول وهي رواية جمهان الأسلمي عنه أنه جعلها طلقة بائنة. وأجود ما عند من جعلها طلقة بائنة من النقل عن الصحابة هو هذا النقل عن عثمان، وهو مع ضعفه قد ثبت عنه بالإسناد الصحيح ما يناقضه، فلا يمكن الجمع بينهما؛ لما في ذلك من خلاف النص والإجماع.

وأما النقل عن علي، وابن مسعود فضعيف جدا، والنقل عن عمر مجمل لا دلالة فيه، وأما النقل عن ابن عباس أنه فرقة وليس بطلاق. فمن أصح النقل الثابت باتفاق أهل العلم بالآثار، وهذا مما اعتضد به القائلون بأنه فسخ كأحمد وغيره.

والذين اتبعوا ما نقل عن الصحابة من أنه طلقة بائنة من الفقهاء ظنوا تلك نقولا صحيحة؛ ولم يكن عندهم من نقد الآثار والتمييز بين صحيحها وضعيفها ما عند أحمد وأمثاله من أهل المعرفة بذلك، فصار هؤلاء يرون أن الذين خالفوا ابن عباس وأمثاله من الصحابة أجل منه وأكثر عددا، ولم يعلموا أنه لم يثبت خلافه عن أحد من الصحابة، مع أن النبي ﷺ قال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) وكان ما استنبطه في هذه المسألة من القرآن، واستدل به من السنة عن كمال فقهه في الدين وعلمه بالتأويل، وهو أكثر الصحابة فتيا. قيل للإمام أحمد: أي الصحابة أكثر فتيا؟ قال: ابن عباس. وهو أعلم وأفقه طبقة في الصحابة، وكان عمر بن الخطاب يدخله مع أكابر الصحابة كعثمان، وعلي، وابن مسعود، ونحوهم في الشوري ولم يكن عمر يفعل هذه بغيره من طبقته، وقال ابن مسعود لو أدرك ابن عباس أسناننا لما عشره منا أحد. أي ما بلغ عشره.

والناقلون لهذه المسألة عنه أجل أصحابه، وأعلمهم بأقواله: مثل طاووس، وعكرمة؛ فإن هذين كانا يدخلان عليه مع الخاصة، بخلاف عطاء، وعمرو بن دينار ونحوهما، فقد كانوا يدخلون عليه مع العامة. ومعلوم أن خواص العالم عندهم من علمه ما ليس عند غيرهم، كما عند خواص الصحابة مثل الخلفاء الراشدين الأربعة، وابن مسعود، وعائشة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وغيرهم من العلم ما ليس عند من ليس له مثلهم من الاختصاص بالنبي ﷺ.

والمقصود بهذا: أن كثيرا من الناس يظن أن ابن عباس خالفه في هذه المسألة كثير من الصحابة أو أكثرهم، ولا يعلمون أنه لم يثبت عن الصحابة إلا ما يوافق قوله، لا ما يناقضه. وإن قدر أن بعضهم خالفه فالمرجع فيما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة.

قال هؤلاء: والطلاق الذي جعله الله ثلاثا هو الطلاق الرجعي، وكل طلاق في القرآن في المدخول بها هو الطلاق الرجعي غير الطلقة الثالثة؛ ولذلك قال أحمد في أحد قوليه: تدبرت القرآن، فإذا كل طلاق فيه فهو الرجعي. قال هؤلاء: فمن قسم الطلاق المحسوب من الثلاث إلى رجعي وبائن فقد خالف الكتاب والسنة، بل كل ما فيه بينونة فليس من الطلاق الثلاث، فإذا سمي طلاقا بائنا ولم يجعل من الثلاث، فهذا معني صحيح لا تنازع فيه. قالوا: ولو كان الخلع طلاقا لما جاز في الحيض؛ فإن الله حرم طلاق الحائض، وقد سلم لنا المنازعون أو أكثرهم أنه يجوز في الحيض، ولأن الحاجة داعية إليه في الحيض، قالوا: والله تعالى إنما حرم المرأة بعد الطلقة الثالثة عقوبة للرجل لئلا يطلق لغير حاجة؛ فإن الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قدر الحاجة، والحاجة تندفع بثلاث مرات؛ ولهذا أبيحت الهجرة ثلاثا، والإحداد لغير موت الزوج ثلاثا، ومقام المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا. والأصل في الهجرة ومقام المهاجر بمكة التحريم ثم اختلف هؤلاء: هل من شرط كونه فسخا أن يكون بغير لفظ الطلاق ونيته؟ على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه لا بد أن يكون بغير لفظ الطلاق ونيته. فمن خالع بلفظ الطلاق أو نواه، فهو من الطلاق الثلاث، وهذا قول أكثر المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد، ثم قد يقول هؤلاء: إذا عري عن صريح الطلاق ونيته فهو فسخ. وقد يقولون: إنه لا يكون فسخا إلا إذا كان بلفظ الخلع. والفسخ والمفاداة دون سائر الألفاظ، كلفظ الفراق، والسراح، والإبانة وغير ذلك من الألفاظ التي لا يفارق الرجل امرأته إلا بها، مع أن ابن عباس لم يسمه إلا فدية وفراقا وخلعا، وقال: الخلع فراق، وليس بطلاق. ولم يسمه ابن عباس فسخا، ولا جاء في الكتاب والسنة تسميته فسخا، فكيف يكون لفظ الفسخ صريحآً فيه دون لفظ الفراق؟ وكذلك أحمد بن حنبل أكثر ما يسميه فرقة ليست بطلاق. وقد يسميه فسخا أحيانا؛ لظهور هذا الاسم في عرف المتأخرين.

والثاني أنه إذا كان بغير لفظ الطلاق كلفظ الخلع والمفاداة والفسخ فهو فسخ، سواء نوي به الطلاق أو لم ينو. وهذا الوجه ذكره غير واحد من أصحاب الشافعي وأحمد.

وعلى هذا القول: فهل هو فسخ إذا عري عن صريح الطلاق بأي لفظ وقع من الألفاظ والكنايات؟ أو هو مختص بلفظ الخلع والفسخ والمفاداة؟ على وجهين، كالوجهين على القول الأول.

وهذا القول أشبه بأصولهما من الذي قبله؛ فإن اللفظ إذا كان صريحًا في باب ووجد معادًا فيه لم يكن كناية في غيره، ولهذا لو نوي بلفظ الظهار الطلاق لم يقع عند عامة العلماء، وعلى هذا دل الكتاب والسنة. وكذلك عند أحمد: لو نوي بلفظ الحرام الطلاق لم يقع؛ لأنه صريح في الظهار، لاسيما على أصل أحمد. وألفاظ الخلع والفسخ والفدية مع العوض صريحة في الخلع فلا تكون كناية في الطلاق، فلا يقع بها الطلاق بحال، ولأن لفظ الخلع والمفاداة والفسخ والعوض إما أن تكون صريحة في الخلع، وصريحة في الطلاق، أو كناية فيهما، فإن قيل بالأول وهو الصحيح لم يقع بها الطلاق وإن نواه. وإن قيل بالثاني لزم أن يكون لفظ الخلع والفسخ والمفاداة من صريح الطلاق، فيقع بها الطلاق، كما يقع بلفظ الطلاق عند التجرد، وهذا لم يقله أحد، ولم يعدها أحد من الصرائح. فإن قيل: هي مع العوض صريحة في الطلاق، قيل: هذا باطل على أصل الشافعي؛ فإن ما ليس بصريح عنده لا يصير صريحًا بدخول العوض؛ ولهذا قال الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد: إن النكاح لا ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج؛ لأن ما سوي ذلك كناية والكناية تفتقر إلى النية، والنية لا يمكن إلا بإشهاد عليها، والنكاح لابد فيه من الشهادة، فإذا قال: ملكتكها بألف، وأعطيتكها بألف، ونحو ذلك، أو وهبتكها لم يجعل دخول العوض قرينة في كونه نكاحًا؛ لاحتمال تمليك الرقبة. كذلك لفظ المفاداة يحتمل المفاداة من الأسر. ولفظ الفسخ إن كان طلاقًا مع العوض فهو طلاق بدون العوض، ولم يقل أحد من أصحاب الشافعي: إنه صريح في الطلاق بدون العوض، بل غايته أن يكون كناية. وهذا القول مع كونه أقرب من الأول؛ فهو أيضًا ضعيف.

القول الثالث: أنه فسخ بأي لفظ وقع، وليس من الطلاق الثلاث. وأصحاب هذا القول لم يشترطوا لفظًا معينًا، ولا عدم نية الطلاق؛ وهذا هو المنقول عن ابن عباس وأصحابه، وهو المنقول عن أحمد بن حنبل وقدماء أصحابه في الخلوع بين لفظ ولفط، لا لفظ الطلاق ولا غيره، بل ألفاظهم صريحة في أنه فسخ بأي لفظ كان، أصرح من لفظ الطلاق في معناه الخالص. وأما الشافعي فلم يقل عن أحد من السلف أنه فرق بين لفظ الطلاق وغيره، بل لما ذكر قول ابن عباس وغيره وأصحابه ذكر عن عكرمة أنه قال: كل ما أجازه المال فليس بطلاق. قال: وأحسب من لم يجعله طلاقًا إنما يقول ذلك إذا لم يكن بلفظ الطلاق.

ومن هنا ذكر محمد بن نصر، والطحاوي ونحوهما: أنهم لا يعلمون نزاعًا في الخلع بلفظ الطلاق. ومعلوم أن مثل هذا الظن لا ينقل به مذاهب السلف، ويعدل به عن ألفاظهم وعلمهم وأدلتهم البينة في التسوية بين جميع الألفاظ وأما أحمد فكلامه بين في أنه لا يعتبر لفظًا، ولا يفرق بين لفظ ولفظ، وهو متبع لابن عباس في هذا القول وبه اقتدي. وكان أحمد يقول: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام. وإمامه في هذه المسألة هو ابن عباس، ونقله أحمد وغيره عن ابن عباس وأصحابه. فتبين أن الاعتبار عندهم ببذل المرأة العوض، وطلبها الفرقة. وقد كتبت ألفاظهم في هذا الباب في الكلام المبسوط.

وأيضًا، فقد روي البخاري في صحيحه، عن ابن عباس: أن النبي ﷺ قال لثابت بن قيس بن شماس وهو أول من خالع في عهد النبي ﷺ، لما جاءت امرأته إلى النبي ﷺ، وقالت له: لا أنقم عليه خلقًا ولا دينًا، ولكن أكره الكفر بعد في الإسلام، فذكرت أنها تبغضه. فقال لها النبي ﷺ: (أتردين عليه الحديقة؟ ) فقالت: نعم. قال: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة).

وابن عباس الذي يروي هذا اللفظ عن النبي ﷺ، وروي أيضًا عن النبي ﷺ أنه أمرها بحيضة استبراء. وقال: لا عدة عليك، وأفتي بأن طلاق أهل اليمن الذي يسمونه الفداء ليس من الطلاق الثلاث، مع أن إبراهيم بن سعد قال له: عامة أهل اليمن الفداء، فقال له: ليس الفداء بطلاق، وإنما هو فراق، ولكن الناس غلطوا في اسمه. فأخبره السائل أن طلاقهم هو الفداء، وهذا ظاهر في أن ذلك يكون بلفظ الطلاق، وأدني أحواله أن يعم لفظ الطلاق وغيره، وابن عباس أطلق الجواب وعمم، ولم يستثن الفداء بلفظ الطلاق ولا عين له لفظًا، مع علمه بأن وقوع ذلك بلفظ الطلاق أكثر منه بغيره، بل العامة لا تعرف لفظ الفسخ والخلع ونحو ذلك إن لم يعلمها ذلك معلم، ولا يفرقون بين لفظ ولفظ، بل كثير منهم إذا قيل له: خالع امرأتك، طلقها بلا عوض، وقال: قد خلعتها. فلا يعرفون الفرق بين لفظ ولفظ إن لم يذكر لهم الغرض في أحد اللفظين. وأهل اليمن إلى اليوم تقول المرأة لزوجها: طلقني. فيقول لها: ابذلي لي فتبذل له الصداق أو غيره فيطلقها. فهذا عامة طلاقهم، وقد أفتاهم ابن عباس بأن هذا فدية وفراق وليس بطلاق. ورد امرأة على زوجها بعد طلقتين وفداء مرة. فهذا نقل ابن عباس وفتياه واستدلاله بالقرآن بما يوافق هذا القول.

وهذا كما أنه مقتضي نصوص أحمد وأصوله فهو مقتضي أصول الشرع، ونصوص الشارع؛ فإن الاعتبار في العقود بمقاصدهما ومعانيها، لا بألفاظها. فإذا كان المقصود باللفظين واحدًا لم يجز اختلاف حكمهما. ولو كان المعني الواحد إن شاء العبد جعله طلاقًا وإن شاء لم يجعله طلاقًا كان تلاعبًا وهذا باطل.

وقد أوردوا على هذا أن المعتقة تحته إذا خيرها زوجها فإن لها أن تطلق نفسها، ولها أن تفسخ النكاح لأجل عتقها. قالوا: فهي مخيرة بين الأمرين وكذلك الزوج مع العوض يملك إيقاع فسخ، ويملك إيقاع طلاق. وهذا القياس ضعيف، فإن هذه إذا طلقت نفسها إنما يقع الطلاق رجعيًا، فتكون مخيرة بين إيقاع فرقة بائنة، وبين إيقاع طلاق رجعي. وهذا مستقيم، كما يخير الزوج بين أن يخلعها مفارقة فرقة بائنة، وبين أن يطلقها بلا عوض طلاقًا رجعيًا، وإنما المخالف للأصول أن يملك فرقة بائنة إن شاء جعلها فسخًا، وإن شاء جعلها طلاقًا، والمقصود في الموضعين واحد، وهو الفرقة البائنة، والأمر إليه في جعلها طلاقًا، أو غير طلاق، فهذا هو المنكر الذي يقتضي أن يكون العبد إن شاء جعل العقد الواحد طلاقًا، وإن شاء جعله غير طلاق، مع أن المقصود في الموضعين واحد.

وأيضًا، فالذي يرجع إلى العبد هو قصد الأفعال وغايتها، وأما الأحكام فإلى الشارع. فالشارع يفرق بين حكم هذا الفعل وحكم هذا الفعل، لاختلاف المقصود بالفعلين. فإذا كان مقصود الرجل بها واحدا لم يكن مخيرا في إثبات الحكم ونفيه، ومعلوم أن مقصود الفرقة واحد لا يختلف.

وأيضًا، فمعنى الافتداء ثابت فيما إذا سألته أن يفارقها بعوض، والله علق حكم الخلع بمسمي الفدية، فحيث وجد هذا المعني فهو الخلع المذكور في كتاب الله تعالى.

وأيضًا، فإن الله جعل الرجعة من لوازم الطلاق في القرآن، فلم يذكر الله تعالى طلاق المدخول بها إلا وأثبت فيه الرجعة، فلو كان الافتداء طلاقا لثبت فيه الرجعة وهذا يزيل معني الافتداء؛ إذ هو خلاف الإجماع، فإنا نعلم من قال: إن الخلع المطلق يملك فيه العوض ويستحق فيه الرجعة. لكن قال طائفة: هو غير لازم، فإن شاء رد العوض وراجعها، وتنازع العلماء فيما إذا شرط الرجعة في العوض: هل يصح؟ على قولين: هما روايتان عن مالك. وبطلان الجمع مذهب أبي حنيفة والشافعي، وهو قول متأخرى أصحاب أحمد. ثم من هؤلاء من يوجب العوض ويرد الرجعة. ومنهم من يثبت الرجعة ويبطل العوض. وهما وجهان في مذهب أحمد والشافعي، وليس عن أحمد في ذلك نص. وقياس مذهب أحمد صحته بهذا الشرط، كما لو بذلت مالا على أن تملك أمرها. فإنه نص على جواز ذلك، ولأن الأصل عنده جواز الشرط في العقود، إلا أن يقوم على فسادها دليل شرعي، وليس الشرط الفاسد عنده ما يخالف مقتضي العقد عند الطلاق، بل ما خالف مقصود الشارع وناقض حكمه، كاشتراط الولاء لغير المعتق، واشتراط البائع للوطء مع أن الملك للمشتري، ونحو ذلك.

وأيضًا، فالفرق بين لفظ ولفظ في الخلع قول محدث لم يعرف عن أحد من السلف: لا الصحابة، ولا التابعين، ولا تابعيهم. والشافعي رضي الله عنه لم ينقله عن أحد، بل ذكر: أنه يحسب أن الصحابة يفرقون. ومعلوم أن هذا ليس نقلا لقول أحد من السلف. والشافعي ذكر هذا في أحكام القرآن. ورجح فيه أن الخلع طلاق وليس بفسخ، فلم يجز هذا القول لما ظنه من تناقض أصحابه، وهو أنهم يجعلونه بلفظ طلاقا بائنا من الثلاث، وبلفظ ليس من الثلاث. فلما ظنه من تناقضه عدل عن ترجيحه. ولكن هذا التناقض لم ينقله لا هو، ولا أحد غيره عن أحد من السلف القائلين به ولا من اتبعه. كأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه، وإنما قاله بعض المت أخرىن من أصحاب أحمد، لما وجدو غيرهم قد ذكروا الفرق فيه بين لفظ الطلاق وغيره، وذكر بعضهم كمحمد بن نصر والطحاوي: أنهم لا يعلمون في ذلك نزاعا، وإنما قاله بعض المت أخرىن من أصحاب أحمد، والمنقول عن السلف قاطبة: إما جعل الخلع فرقة بائنة، وليس بطلاق. وإما جعله طلاقا. وما رأيت في كلام أحد منهم أنه فرق بين لفظ ولفظ، ولا اعتبر فيه عدم نية الطلاق، بل قد يقولون كما يقول عكرمة: كل ما أجازه المال فليس بطلاق، ونحو ذلك من العبارات، مما يبين أنهم اعتبروا مقصود العقد، لا لفظا معينا، والتفريق بين لفظ ولفظ مخالف للأصول والنصوص. وببطلان هذا الفرق يستدل من يجعل الجميع طلاقا، فيبطل القول الذي دل عليه الكتاب والسنة. وهذا الفرق إذا قيل به كان من أعظم الحجج على فساد قول من جعله فسخا؛ ولهذا عدل الشافعي رضي الله عنه عن ترجيح هذا القول، لما ظهر له أن أهله يفرقون.

وأيضًا، ففي السنن أن فيروز الديلمي أسلم وتحته أختان، فقال له النبي ﷺ: (طلق أيتهما شئت) قال: فعمدت إلى أسبقهما صحبة ففارقتها. وهو حديث حسن، فقد أمره النبي ﷺ أن يطلق إحداهما، وهذه الفرقة عند الشافعي وأحمد فرقة بائنة، وليست من الطلاق الثلاث، فدل ذلك على أن لفظ الطلاق قد تناول ما هو فسخ ليس من الثلاث. ويدل على أن الذي أسلم وتحته أكثر من أربع إذا قال: قد طلقت هذه، كان ذلك فرقة لها واختيارا لل أخرى، خلاف ما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد: أنه إذا قال لإحداهما طلقها، كان ذلك اختيارا لها. قالوا: لأن الطلاق لا يكون إلا لزوجة فإن هذا القول مخالف للسنة والعقول؛ فإن المطلق للمرأة زاهد فيها، راغب عنها، فكيف يكون مختارا لها، مريدا لبقائها؟ !! وإنما أوقعهم في مثل هذا ظنهم أن لفظ الطلاق لا يستعمل إلا فيما هو من الطلاق الثلاث، وهذا ظن فاسد مخالف للشرع واللغة وإجماع العلماء.

وأيضًا، فإن الطلاق لم يجعل الشارع له لفظا معينا، بل إذا وقع الطلاق بأي لفظ يحتمله وقع عند الصحابة والسلف وعامة العلماء لم ينازع في ذلك إلا بعض متأخرى الشيعة، والظاهرية. ولا يعرف في ذلك خلاف عن السلف. فإذا قال: فارقتك، أو سرحتك، أو سيبتك، ونوى به الطلاق وقع، وكذلك سائر الكنايات. فإذا أتي بهذه الكنايات مع العوض مثل أن تقول له: سرحني، أو سيبني بألف، أو فارقني بألف، أو خلني بألف. فأي فرق بين هذا وبين أن تقول: فادني بألف، أو اخلعني بألف، أو افسخ نكاحي بألف. وكذلك سائر ألفاظ الكنايات. مع أن لفظ الخلع والفسخ إذا كان بغير عوض ونوى بهما الطلاق وقع الطلاق رجعيا، فهما من ألفاظ الكناية في الطلاق. فأي فرق في ألفاظ الكنايات بين لفظ ولفظ؟ !

وقد اختلف العلماء في صحة الخلع بغير عوض على قولين: هما روايتان عن أحمد. أحدهما: كقول أبي حنيفة والشافعي، وهي اختيار أكثر أصحابه. والثانية: يصح، كالمشهور في مذهب مالك، وهي اختيار الخرقي. وعلى هذا القول فلابد أن ينوى بلفظ الخلع الطلاق، ويقع به طلاق بائن لا يكون فسخا على الروايتين، نص على ذلك أحمد - رحمه الله؛ فإنه لو أجاز أن يكون فسخا بلا عوض لكان الرجل يملك فسخ النكاح ابتداءا ولا يحسب ذلك عليه من الثلاث، وهذا لا يقوله أحد؛ فإنه لو جاز ذلك لكان هذا يستلزم جعل الطلاق بغير عدد، كما كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام لم يكن للطلاق عدد. فلو كان لفظ الفسخ أو غيره يقع ولا يحسب من الثلاث لكان ذلك يستعمل بدل لفظ الطلاق، ومعناه معني الطلاق بلا عدد. وهذا باطل.

وإن قيل: هو طلاق بائن، قيل: هذا أشد بطلانا؛ فإنه إن قيل: إنه لا يملك إلا الطلاق الرجعي ولا يملك طلاقا بائنا بطل هذا. وإن قيل: إنه يملك إيقاع طلاق بائن فلو جوز له أن يوقعه بلفظ الفسخ ولا يكون من الثلاث لزم المحذور، وهو أن يطلق المرأة كلما شاء، ولا يحسب عليه من الثلاث. ولهذا لم يتنازع العلماء أن لفظ الخلع بلا عوض ولا سؤال لا يكون فسخا؛ وإنما النزاع فيما إذا طلبت المرأة أن يطلقها طلقة بائنة بلا عوض: هل تملك ذلك؟ على قولين.

فإن العلماء تنازعوا على ثلاثة أقوال في الطلاق البائن. فقيل: إن شاء الزوج طلق طلاقا بائنا، وإن شاء طلق طلاقا رجعيا، بناء على أن الرجعة حق له. وإن شاء أثبتها. وإن شاء نفاها. وهذا مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد. وأظنه رواية عن مالك. وقيل: لا يملك الطلاق البائن ابتداء، بل إذا طلبت منه الإبانة ملك ذلك، وهذا معروف عن مالك، ورواية عن أحمد اختارها الخرقي. وقيل: لا يملك إبانتها بلا عوض، بل سواء طلبت ذلك أو لم تطلبه، ولا يملك إبانتها إلا بعوض. وهذا مذهب أكثر فقهاء الحديث، وهو مذهب الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه، وعليه جمهور أصحابه، وهو قول إسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر، وابن خزيمة، وداود وغيرهم، وعليه أكثر النقول الثابتة عن أكثر الصحابة، وعلى هذا القول يدل الكتاب والسنة، فإن الله لم يجعل الطلاق إلا رجعيا، وليس في كتاب الله طلاق بائن من الثلاث، إلا بعوض، لا بغير عوض، بل كل فرقة تكون بائنة فليست من الثلاث.

وأيضًا، فإن الخلع والطلاق يصح بغير اللفظ العربي باتفاق الأئمة، ومعلوم أنه ليس في لغة العجم لفظ يفرق مع العوض بين ما هو خلع وما هو طلاق ليس بخلع، وإنما يفرق بينهما ما يختص بالخلع من دخول العوض فيه وطلب المرأة الفرقة. فلفظ الطلاق يضاف إلى غير المرأة، كقولهم: طلقت الدنيا، وطلقت ودك. وإذا أضيف إلى المرأة فقد يراد به الطلاق من غير الزوج، كما تقول أنت: طالق من وثاق، أو طالق من الهموم والأحزان ولو وصل لفظ الطلاق بذلك لم يقع به بلا ريب، وإن نواه ولم يصله بلفظ دين، وفي قبوله في الحكم نزاع.

فإذا وصل لفظ الطلاق بقوله: أنت طالق بألف. فقالت: قبلت. أو قالت: طلقني بألف. فقال: طلقتك. كان هذا طلاقا مقيدا بالعوض، ولم يكن هو الطلاق المطلق في كتاب الله، فإن ذلك جعله الله رجعيا، وجعل فيه تربص ثلاثة قروء، وجعله ثلاثا. فأثبت له ثلاثة أحكام. وهذا ليس برجعي بدلالة النص والإجماع، ولا تتربص فيه المرأة ثلاثة قروء بالسنة فلذلك يجب ألا يجعل من الثلاث، وذلك لأن هذا لا يدخل في مسمي الطلاق عند الإطلاق، وإنما يعبر عنه بلفظ الطلاق مع قيد كما يسمي الحلف بالنذر نذر اللجاج والغضب فيسمي نذرا مقيدا؛ لأن لفظه لفظ النذر، وهو في الحقيقة من الأيمان؛ لا من النذور عند الصحابة، وجمهور السلف، والشافعي وأحمد وغيرهما.

وكذلك لفظ الماء عند الإطلاق لا يتناول المني، وإن كان يسمي ماء مع التقييد، كقوله تعالى: { خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } [114].

وكذلك لفظ الخف لا يتناول عند الإطلاق المقطوع، وإن كان يقال خف مقطوع. فلا يدخل المقطوع في لفظ المسح على الخفين، ولا فيما نهى عنه المحرم من لبس الخف على الأصح من أقوال العلماء، فلهذا أمر النبي ﷺ المحرم أولا بقطع الخفين؛ لأن المقطوع ليس بخف، ثم رخص في عرفات في لبس السراويل ولبس الخفاف، ولم يشترط فتق السراويل، ولا قطع الخفاف. والسراويل المفتوق، والخف المقطوع، لا يدخل في مسمي الخف والسراويل عند الإطلاق.

وكذلك لفظ البيع المطلق لا يتناول بيع الخمر والميتة والخنزير، وإن كان يسمي بيعا مع التقييد.

وكذلك الإيمان عند الإطلاق إنما يتناول الإيمان بالله ورسوله، وأما مع التقييد فقد قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } [59]، لا يدخل في مطلق الإيمان.

وكذلك لفظ البشارة عند الإطلاق إنما تناول الإخبار بما يسر، وأما مع التقييد فقد قال تعالى: { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ إليمٍ } [115]. وأمثال ذلك كثيرة.

فالطلاق المطلق في كتاب الله يتناول الطلاق الذي يوقعه الزوج بغير عوض فتثبت له فيه الرجعة، وما كان بعوض فلا رجعة له فيه، وليس من الطلاق المطلق؛ وإنما هو فداء تفتدي به المرأة نفسها من زوجها كما تفتدي الأسيرة نفسها من أسرها، وهذا الفداء ليس من الطلاق الثلاث سواء وقع بلفظ الخلع، أو الفسخ، أو الفداء، والسراح، أو الفراق، أو الطلاق، أو الإبانة، أو غير ذلك من الألفاظ.

ولهذا جاز عند الأئمة الأربعة والجمهور من الأجنبي، فيجوز للأجنبي أن يختلعها، كما يجوز أن يفتدي الأسيرة، كما يجوز أن يبذل الأجنبي لسيد العبد عوضا ليعتقه، ولهذا ينبغي أن يكون ذلك مشرطا بما إذا كان قصده تخليصها من رق الزوج، لمصلحتها في ذلك، كما يفتدي الأسير. وفي مذهب الشافعي وأحمد وجه أنه إذا قيل: إنه فسخ، لم يصح من الأجنبي. قالوا: لأنه حينئذ يكون إقالة، والإقالة لا تصح مع الأجنبي. وهذا الذي ذكره أبو المعالى وغيره من أهل الطريقة الخراسانية. والصحيح في المذهبين أنه على القول بأنه فسخ هو فسح، وإن كان من الأجنبي، كما صرح بذلك من صرح به من فقهاء المذهبين، وإن كان صاحب شرح الوجيز لم يذكر ذلك، فقد ذكره أئمة العراقيين، كأبي إسحق الشيرازي في خلافه وغيره. وهذا لأنهم جعلوه كافتداء الأسير، وكالبذل لإعتاق العبد، لا كالإقالة؛ فإن المقصود به رفع ملك الزوج عن رق المرأة لتعود خالصة من رقه، ليس المقصود منه نقل ملك إليها، فهو شبيه بإعتاق العبد، وفك الأسير، لا بالإقالة في البيع؛ فلهذا يجوز باتفاق الأئمة بدون الصداق المسمي، وجوزه الأكثرون بأكثر من الصدقات، ويجوز أيضًا بغير جنس الصداق، وليست الإقالة كذلك، بل الإقالة المقصود بها تراد العوض. وإذا كرهنا أو حرمنا أخذ زيادة على صداقها فهذا لأن العوض المطلق في خروجها من ملك الزوج هو المسمي في النكاح فإن البضع لا يباع ولا يوهب ولا يورث كما يباع المال ويوهب ويورث، وكما تؤجر المنافع وتعار وتورث والتجارة والإجارة جائزة في الأموال بالنص والإجماع.

وأما التجارة المجردة في المنافع: مثل أن يستأجر دارا ويؤجرها بأكثر من الأجرة من غير عمل يحدثه، ففيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد أشهرهما عنه: يجوز، وهو قول أكثر العلماء، كمالك والشافعي. والثاني: لا يجوز كقول أبي حنيفة. قالوا: لأنه يدخل في ربح مالم يضمن. والأول أصح؛ لأن هذه المنافع مضمونة على المستأجر، بمعني أنه إذا سلم إليه العين المؤجرة ولم ينتفع بالعين تلفت على ملكه، بخلاف ما إذا تلفت العين المؤجرة، فإن هذا بمنزلة تلف الثمر قبل صلاحه.

والمقصود هنا أن المنافع التي تورث قد تنوزع في جواز التجارة فيها، فكيف بالأبضاع التي لا توهب ولا تورث بالنص والإجماع، وإنما كان أهل الجاهلية يرثون الأبضاع، فأبطل الله ذلك. فلو أراد الزوج أن يفارق المرأة ويزوجها بغيره ليأخذ صداقها لم يملك ذلك. ولو وطئت بشبهة لكان المهر لها دونه، فلهذا نهي عن الزيادة. وإذا شبه الخلع بالإقالة، فالإقالة في كل عقد بحسبه. وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.

وهذا القول الذي ذكرناه من أن الخلع فسخ تبين به المرأة بأي لفظ كان هو الصحيح الذي عليه تدل النصوص والأصول. وعلى هذا فإذا فارق المرأة بالعوض عدة مرات كان له أن يتزوجها، سواء كان بلفظ الطلاق أو غيره. وإذا قيل: الطلاق صريح في إحدى الثلاث فلا يكون كناية في الخلع. قيل: إنما الصريح اللفظ المطلق. فأما المقيد بقيد يخرجه عن ذلك، فهو صريح في حكم المقيد، كما إذا قال: أنت طالق من وثاق، أو من الهموم والأحزان، فإن هذا صريح في ذلك، لا في الطلاق من النكاح. وإذا قال: أنت طالق بألف. فقالت: قبلت، فهو مقيد بالعوض. وهو صريح في الخلع، لا يحتمل أن يكون من الثلاث البتة، فإذا نوى أن يكون من الثلاث فقد نوى باللفظ مالا يحتمله، كما لو نوى بالخلع أن تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره. فنيته هذا الحكم باطل، كذلك نيته أن يكون من الثلاث باطل، وكذلك لو نوى بالظهار الطلاق، أو نوى بالإيلاء الطلاق مؤجلا، مع أن أهل الجاهلية كانوا يعدون الظهار طلاقا، والإيلاء طلاقا، فأبطل الله ورسوله ذلك، وحكم في الإيلاء بأن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان، مع تربص أربعة أشهر. وحكم في الظهار بأنه إذا عاد كما قال، كفر قبل المماسة، ولا يقع به الطلاق.

ولهذا كان من جعل الإيلاء طلاقا مؤجلا، أو جعل التحريم الذي في معني الظهار طلاقا، قوله مرجوح، فيه شبه لما كانوا عليه أولا، بخلاف من فرق بين حقيقة الظهار، وحقيقة الإيلاء، وحقيقة الطلاق، فإن هذا علم حدود ما أنزل الله على رسوله، فلم يدخل في الحدود ما ليس منه، ولم يخرج منه ما هو فيه.

وكذلك الافتداء له حقيقة يباين بها معني الطلاق الثلاث: فلا يجوز أن يدخل حقيقة الطلاق في حقيقة الافتداء، ولا حقيقة الافتداء في حقيقة الطلاق، وإن عبر عن أحدهما بلفظ الآخر، أو نوى بأحدهما حكم الآخر، فهو كما إذا نوى بالطلقة الواحدة، أو الخلع: أن تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره. فنية هذا الحكم باطل، وكذلك نيته أن تكون من الثلاث باطل، فإن الله لم يحرمها حتى تنكح زوجا غيره إلا بعد الطلقة الثالثة فمن نوى هذا الحكم بغير هذا الطلاق فقد قصد ما يناقض حكم الله ورسوله، كذلك من نوى بالفرقة البائنة أن الفرقة نقص بعض من الثلاث فقد قصد ما يناقض حكم الله ورسوله، وليس له ذلك. وإذا كان قصد هذا أو هذا لجهله بحكم الله ورسوله كان كما لو قصد بسائر العقود ما يخالف حكم الله ورسوله، فيكون جاهلا بالسنة، فيرد إلى السنة، كما قال عمر بن الخطاب: ردوا الجهالات إلى السنة. وكما قال طائفة من السلف فيمن طلق ثلاثا بكلمة: هو جاهل بالسنة، فيرد إلى السنة.

وقول النبي ﷺ للمخالع: (وطلقها تطليقة) إذن له في الطلقة الواحدة بعوض، ونهى له عن الزيادة.

كما قد بين دلالة الكتاب والسنة على أن الطلاق السنة أن يطلق طلقة واحدة، ثم يراجعها، أو يدعها حتى تنقضي عدتها، وأنه متى طلقها ثنتين أو ثلاثا قبل رجعة أو عقد جديد، فهو طلاق بدعة، محرم عند جمهور السلف والخلف، كما هو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأصحابهما، وأحمد في آخر قوليه، واختيار أكثر أصحابه. وهل يقع الطلاق المحرم؟ فيه نزاع بين السلف والخلف، كما قد بسط في موضعه. وذكر ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ واحدة، وزمان أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر، فلما تتابع الناس على ذلك قال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو نفذناه عليهم، فأنفذه عليهم. وقد تكلمنا على هذا الحديث وعلى كلام الناس فيه بما هو مبسوط في موضعه.

وذكرنا الحديث الآخر الذي يوافقه الذي رواه الإمام أحمد وغيره من حديث محمد بن إسحق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، فلما أتي النبي ﷺ قال له النبي ﷺ: (في مجلس أم مجالس) قال: بل في مجلس واحد، فردها عليه. وقد أثبت هذا الحديث أحمد بن حنبل، وبين أنه أصح من رواية من روي في حديث ركانة. أنه طلقها البتة، وأن النبي ﷺ استحلفه: (ما أردت إلا واحدة) قال: ما أردت إلا واحدة، فردها عليه. فإن رواة هذا مجاهيل الصفات لا يعرف عدلهم وحفظهم، ولهذا ضعف أحمد وأبو عبيد وابن حزم وغيرهم من أئمة الحديث حديثهم، بخلاف حديث الثلاث فإن إسناده جيد، وهو من رواية ابن عباس موافق لحديثه الذي في الصحيح، والذين رواه علماء فقهاء وقد عملوا بموجبه، كما أفتي طاووس، وعكرمة، وابن إسحق: أن الثلاث واحدة. وقد قال من قال منهم: هذا أخطأ السنة، فيرد إلى السنة. وما ذكره أبو داود في سننه من تقديم رواية البتة، فإنما ذاك لأنه لم يذكر حديث داود بن الحصين هذا عن عكرمة عن ابن عباس، وإنما ذكر طريقا آخر عن عكرمة من رواية مجهول. فقدم رواية مجهول على مجهول. وأما رواية داود بن الحصين هذه، فهي مقدمة على تلك باتفاق أهل المعرفة، ولكن هذه الطريق لم تبلغ أكثر العلماء، كما أن حديث طاووس لا يعرفه كثير من الفقهاء، بل أكثرهم. وقد بسط الكلام على هذا في مواضع، وبين الكلام على ما نقل عن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة في الإفتاء بلزوم الثلاث: أن ذلك كان لما أكثر الناس من فعل المحرم وأظهروه، فجعل عقوبة لهم.

وذكر كلام الناس على الإلزام بالثلاث: هل فعله من فعله من الصحابة؛ لأنه شرع لازم من النبي ﷺ أو فعله عقوبة ظهور المنكر وكثرته؟ وإذا قيل: هو عقوبة: فهل موجبها دائم لا يرتفع أو يختلف باختلاف الأحوال؟ وبين أن هذا لا يجوز أن يكون شرعا لازما، ولا عقوبة اجتهادية لازمة، بل غايته أنه اجتهاد سايغ مرجوح، أو عقوبة عارضة شرعية، والعقوبة إنما تكون لمن أقدم عليها عالما بالتحريم. فأما من لم يعلم بالتحريم، ولما علمه تاب منه: فلا يستحق العقوبة، فلا يجوز إلزام هذا بالثلاث المجموعة، بل إنما يلزم واحدة، هذا إذا كان الطلاق بغير عوض.

فأما إذا كان بعوض فهو فدية كما تقدم، فلا يحل له أن يوقع الثلاث أيضًا بالعوض، كما أمر النبي ﷺ أن لا يطلق بالعوض إلا واحدة لا أكثر، كما لا يطلق بغيره إلا واحدة لا أكثر، لكن الطلاق بالعوض طلاق مقيد، هو فدية، وفرقة بائنة، ليس هو الطلاق المطلق في كتاب الله، فإن هذا هو الرجعي. فإذا طلقها ثلاثا مجموعة بعوض، وقيل: إن الثلاث بلا عوض واحدة، وبالعوض فدية لا تحسب من الثلاث، كانت هذه الفرقة بفدية لا تحسب من الثلاث، وكان لهذا المفارق أن يتزوجها عقدا جديدا، ولا يحسب عليه ذلك الفراق بالعوض من الثلاث، فلا يلزمه الطلاق لكونه محرما، والثنتان محرمة، والواحدة مباحة، ولكن تستحب الواحدة بالعوض من الثلاث؛ لأنها فدية، وليست من الطلاق الذي جعلها الله ثلاثا، بل يجوز أن يتزوج المرأة وتكون معه على ثلاث.

وجماع الأمر أن البينونة نوعان: البينونة الكبري وهي إيقاع البينونة الحاصلة بإيقاع الطلاق الثلاث الذي تحرم به المرأة حتى تنكح زوجا غيره. والبينونة الصغري وهي التي تبين بها المرأة وله أن يتزوجها بعقد جديد في العدة وبعدها. فالخلع تحصل به البينونة الصغري، دون الكبري. والبينونة الكبري الحاصلة بالثلاث تحصل إذا أوقع الثلاث على الوجه المباح المشروع، وهو أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يصبها فيه، أو يطلقها واحدة وقد تبين حملها ويدعها حتى تنقضي العدة، ثم يتزوجها بعقد جديد. وله أن يراجعها في العدة. وإذا تزوجها أو ارتجعها فله أن يطلقها الثانية على الوجه المشروع.

فإذا طلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو كلمات قبل رجعة أو عقد فهو محرم عند الجمهور، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة في المشهور عنه، بل وكذلك إذا طلقها الثلاث في أطهار قبل رجعة أو عقد، في مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه. ولو أوقع الثلاث إيقاعا محرما: فهل يقع الثلاث أو واحدة؟ على قولين معروفين للسلف والخلف، كما قد بسط في موضعه. فإذا قيل: إنه لا يقع لم يملك البينونة الكبري بكلمة واحدة، وإذا لم يملكها لم يجز أن تبذل له العوض فيما لا يملكه، فإذا بذلت له العوض على الطلاق الثلاث المحرمة بذلت له العوض فيما يحرم عليه فعله ولا يملكه، فإذا أوقعه لم يقع منه إلا المباح، والمباح بالعوض إنما هو بالبينونة الصغري دون الكبري، بل لو طلقها ثنتين وبذلت له العوض على الفرقة بلفظ الطلاق أو غير الطلاق لم تقع الطلقة الثالثة على قولنا: إن الفرقة بعوض فسخ تحصل به البينونة الصغري؛ فإذا فارقها بلفظ الطلاق أو غيره في هذه الصورة وقعت به البينونة الصغري وهو الفسخ دون الكبري. وجاز له أن يتزوج المرأة بعقد جديد، لكن إن صرحت ببذل العوض في الطلقة الثالثة المحرمة وكان مقصودها أن تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره، فقد بذلت العوض في غير البينونة الصغري، وهو يشبه ما إذا بذلت العوض في الخلع بشرط الرجعة. فإن اشتراطه الرجعة في الخلع يشبه اشتراطها الطلاق المحرم لها فيه، وهو في هذه الحال بملك الطلقة الثالثة المحرمة لها، كما كان يملك قبل ذلك الطلاق الرجعي. والله سبحانه أعلم.
فصل في في الفرقة التي تكون من الطلاق الثلاث

وقال شيخ الإسلام رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.

فصل

في الفرقة التي تكون من الطلاق الثلاث، والتي لا تكون من الثلاث، فإن انقسام الفرقة إلى هذين النوعين متفق عليه بين المسلمين فيما أظن فإنه لو حدث بينهما ما أوجب التحريم المؤبد بدون اختيارهما كالمصاهرة كانت فرقة تعتبر طلاقا، لكن تنازع العلماء في أنواع كثيرة من المفارقات مثل: الخلع، ومثل الفرقة باختلاف الدين، والفرقة لعيب في الرجل مثل جب، أو عنة، ونحو ذلك: هل هو طلاق من الثلاث، أم ليس من ذلك؟

وسبب ذلك تنقيح مناط الفرق بين الطلاق وغيره. ومذهب الشافعي وأحمد في هذا الباب أوسع من مذهب أبي حنيفة ومالك؛ ولهذا اختلف قولهما في الخلع: هل هو طلاق أم ليس بطلاق؟ والمشهور عن أحمد أنه ليس بطلاق، كقول ابن عباس، وطاووس، وغيرهما، وهو أحد قولي الشافعي، لكن فرق من فرق، من أصحاب الشافعي وأحمد بين أن يكون بلفظ الطلاق أو بغيره. فإن كان بلفظه، فهو طلاق منقص. وإن كان بلفظ آخر ونوى به الطلاق فهو طلاق أيضًا. وإن خلا عن لفظ الطلاق ونيته فهو محل النزاع. وهذا موضع يحتاج إلى تحقيق، كما يحتاج مناط الفرق إلى تحرير، فإن هذا يبني على أصلين:

أحدهما: أن لفظ الطلاق لا يمكن أن ينوى به غير الطلاق المعدود.

الثاني: تحرير معني الخلع المخالف لمعني الطلاق المعدود، وإلا فإذا قدر أن لفظ الطلاق يحتمل الطلاق المعدود، ويحتمل معني آخر، ونوى ذلك المعني، لم يقع به الطلاق المعدود. وقد قال الفقهاء: أنه إذا قال: أنت طالق ونوى من وثاق، أو من زوج قبلي، لم يقع به الطلاق فيما بينه وبين الله. وهل يقبل منه في الحكم؟ على قولين معروفين، هما روايتان عن أحمد. فعلم أن الطلاق المضاف إلى المرأة يعني به الطلاق المعدود، ويعني به غير ذلك. وقد يضاف الطلاق إلى غير المرأة، كما يروي عن على رضي الله عنه أنه قال: يا دنيا قد طلقتك ثلاثا، لا رجعة لي فيك. ومثل الشعر المأثور عن الشافعي: اذهب فودك من ودادي طالق.

والمنع من ذلك، لما جاءت به السنة من أن لفظ الطلاق المضاف إلى المرأة يراد به الفرقة، ولا يكون من الطلاق المعدود، كما روي الإمام أحمد، وأهل السنن الثلاثة أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن أبي وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز، عن أبيه قال: قلت يا رسول الله، إني أسلمت وتحتى أختان قال: (طلق ايتهما شئت)، هذا لفظ أبي داود قال: حدثنا يحيي بن معين، حدثنا وهب بن جرير، عن أبيه، قال: سمعت يحيي بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب.

وروي أبو داود من حديث هشيم وعيسي بن المختار، عن ابن أبي ليلي، عن خميصة ابن الشمردل، عن قيس بن الحارث أنه قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة، فذكرت ذلك للنبي ﷺ، فقال: (اختر منهن أربعًا). ورواه ابن ماجه أيضًا. وقد روي أحمد والترمذي وابن ماجه واللفظ له: أن ابن عمر قال: أسلم غيلان وتحته عشر نسوة، فقال له النبي ﷺ: (خذ منهن أربعا)، قال الترمذي سمعت محمد يقول: هذا غير محفوظ، والصحيح ما روي شعيب وغيره عن الزهري قال: حدثت عن محمد بن سويد أن غيلان.... فذكره..... وفي لفظ الإمام أحمد: فلما كان في عهد عمر طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر، فقال: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك، ولعلك لا تملك إلا قليلا، وايم الله لتراجعن نساءك، ولترجعن مالك، أو لأورثهن منك، ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال.

وقد روي هذا الحديث مالك في الموطأ عن الزهري مرسلا، وقد رواه الشافعي وأحمد في مسنديهما في حديث محمد بن جعفر وغيره، عن معمر، عن الزهري مرسلا، لكن بين الإمام أحمد وغيره أن هذا مما غلط فيه معمر لما عدم البصر، فإنه حدثهم به من حفظه، وكان معمر يغلط إذا حدث من حفظه فرواه البصريون عنه كمحمد بن جعفر غندر وغيره، على الغلط، وأما أصحابه الذين سمعوا من كتبه كعبد الرزاق وغيره فرووه على الصواب.

ففي حديث فيروز: أن النبي ﷺ قال له: (طلق أيتهما شئت)، ليس المراد بذلك الطلاق المعدود على قول الشافعي وأحمد وغيرهما، بل المراد منه فراقا ليس من الطلاق المعدود؛ فإنه لا يجب عليه أن يطلقها بنص الطلاق المعدود، بل يفارقها عندهم بغير لفظ الطلاق، وأما لفظ الطلاق فلهم فيه كلام سنذكره إن شاء الله. وهكذا ما جاء في حديث غيلان: (أمسك أربعا، وفارق سائرهن). وليس عليه أن يفارقها فرقة تحسب من الطلاق المعدود. وقد تنازع الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد...

والدليل على أن النبي ﷺ لم يرد بذلك أنه يطلقها بنص الطلاق المعدود، بل أراد المفارقة: وجوه:

أحدها: أنه قال في الحديث الآخر: (خذ منهن أربعا)، فدل على أنه إذا اختار منهن أربعا كفي ذلك، ولا يحتاج إلى إنشاء طلاق في البواقي فلو كان فراقهن من الطلاق المعدود لاحتاج إلى إنشاء سببه، كما لو قال: والله لأطلقن إحدى امرأتي. فإنه لابد أن يحدث لها طلاقا، فلو قال: أخذت هذه لم يكن هذا وحده طلاقا لل أخرى. اللهم إلا أن يقال: هذا مما قد يقع به الطلاق بالأخرى مع النية.

الثاني: أن يقال: ما زاد على الأربع حرام عليه بالشرع، وما كانت محرمة بالشرع لم تحتج إلى طلاق، لكن المحرمة لما لم تكن معينة كانت له ولاية التعيين.

الثالث: أن يقال: إن الله قد ذكر في كتابه خصائص الطلاق، وهي منتفية من هذه الفرقة، فقال تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } إلى قوله: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } [116]، فجعل المطلقة زوجها أحق برجعتها في العدة، وما زاد على الأربع لا يمكنه أن يختار واحدة منهن في العدة، إلا أن يقول قائل: له في العدة أن يرتجع واحدة من المفارقات ويطلق غيرها، وهذا لا أعلمه قولا.

الرابع: أن الله قال: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [112]، فجعل له بعد الطلقتين أن يمسك بمعروف، أو يسرح بإحسان، وهذا ليس له في ما زاد على الأربع إذا فارقهن، إلا أن يقال: له الرجعة بشرط البدل.

الخامس: أن الله قال: { إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [34]، وهذا الفراق لا يقضي على العدة، بل عليه إذا أسلم أن يفارق ما زاد على الأربع. وهذا دليل ظاهر.

السادس: أنه قال: { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } [34]، وهذه المفارقة ليست كذلك.

السابع: أنه قال: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ } [117]، وهذه ليست كذلك.

الثامن: أن فراق إحدى الأختين وما زاد على الأربع واجب بالشرع عينا. والله لم يوجب الطلاق عينا قط، بل أوجب إما الإمساك بالمعروف وإما التسريح بإحسان.

التاسع: أن الطلاق مكروه في الأصل؛ ولهذا لم يرخص الله فيه إلا في ثلاث، وحرم الزوجة بعد الطلقة الثالثة؛ عقوبة للرجل لئلا يطلق وهنا الفرقة مما أمر الله بها ورسوله، فكيف يجعل ما يحبه الله ورسوله داخلا في الجنس الذي يكرهه الله ورسوله؟ ! وصار هذا كما أن هجرة المسلمين كانت محظورة في الأصل رخص الشارع منها في الثلاث. فأما الهجرة المأمور بها كهجرة النبي ﷺ وأصحابه للثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة فإنها كانت هجرة يحبها الله ورسوله، فلا تكون من جنس ما هو مكروه أبيح منه الثلاث للحاجة، وكذلك إحداد غير الزوجة لما كان محرما في الأصل أبيح منه الثلاث للحاجة. فأما إحداد الزوجة أربعة أشهر وعشرا، فلما كان مما أمر الله به ورسوله لم يكن من جنس ما كرهه الله ورخص منه في ثلاث للحاجة، فكذلك الفرقة التي يأمر الله بها ورسوله لا تكون من جنس الطلاق الذي يكرهه الله ورسوله ورخص منه في ثلاث للحاجة.

والخلع من هذا الباب، فقد روي البخاري في صحيحه من حديث خالد الحذاء عن عكرمة، عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعيب عليه من خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله ﷺ (أتردين عليه حديقته؟ ) قالت: نعم. قال رسول الله ﷺ: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة)، فهذا فيه من رواية عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة).

وقد ثبت عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما: أنهم لم يكونوا يجعلون الخلع من الطلاقات الثلاث، قال أحمد بن حنبل: حدثنا يحيي بن سعيد القطان، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس قال: الخلع تفريق، وليس بطلاق. وقال عبد الله بن أحمد: رأيت أبي يذهب إلى قول ابن عباس. وهو قول إسحاق، وأبي ثور، وداود وأصحابه، غير ابن حزم. وروي عبد الرزاق، عن ابن عينية، عن عمرو بن دينار، عن طاووس أنه سأله إبراهيم بن سعد عن رجل طلق امرأته تطليقتين، ثم اختلعت منه: أينكحها؟ قال ابن عباس: نعم. ذكر الله الطلاق في الآية وفي آخرها والخلع بين ذلك. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج، عن ابن طاووس، قال: كان أبي لا يري الفداء طلاقا، ويخير له بينهما. وقال ابن جريج: أخبرني عمرو ابن دينار: أنه سمع عكرمة، سمع ابن عباس يقول: ما أجازه المال فليس بطلاق، فهذا عكرمة يقول: إن كل فرقة وقعت بمال فليست من الطلاق الثلاث، وذلك أن هذا هو معني الفدية المذكورة في كتاب الله والفدية ليست من الطلاق الثلاث كما بينه ابن عباس، مع أن ابن عباس وعكرمة هما اللذان روي البخاري من طريقهما حديث امرأة ثابت بن قيس، كما تقدم... قال: وحديثهم يرويه عكرمة مرسلا. قال أبو بكر عبد العزيز: هو ضعيف مرسل، فيقال. هذا في بعض طرقه، وسائر طرقه ليس فيها إرسال. ثم هذه الطريق قد رواها مسندة من هو مثل من أرسلها إن لم يكن أجل منه. وفي مثل هذا يقضي المسند على المرسل. وقد روي هذا الحديث الحاكم في صحيحه المسمى بالمستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد غير أن عبد الرزاق أرسله عن معمر، وخرجه القشيري في أحكامه التي شرط فيها أن لا يروي إلا حديث من وثقة إمام من مزكي رواة الأخبار، وكان صحيحا على طريقة بعض أهل الحديث الحفاظ وأئمة الفقه النظار.

قال: وقول عثمان وابن عباس قد خالفه قول عمر وعلى، فإنهما قالا: عدتها ثلاث حيض. وأما ابن عمر فقد روي مالك عن نافع عنه قال: عدة المختلعة عدة المطلقة، وهو أصح عنه.

فيقال: أما المنقول عن عمر وعلى... وبتقدير ثبوت النزاع بين الصحابة، فالواجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والسنة قد بينت أن الواجب حيضة... ومما بين ذلك أن النبي ﷺ أمر امرأة ثابت بن قيس أن تحيض وتتربص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها. فلو كان قد طلقها إحدى الطلقات الثلاث للزمتها عدة مطلقة بنص القرآن واتفاق المسلمين، بخلاف الخلع فإنه قد ثبت عن غير واحد من السلف والخلف أنه ليس له عدة، وإنما فيه استبراء بحيض. والنزاع في هذه المسألة معروف.

أما الحديث المسند فرواه أهل السنن فقال النسائي: حدثنا محمد بن يحيي المروزي، حدثني شاذان بن عثمان أخو عبدان، حدثنا أبي، حدثنا علي بن (المبارك) عن يحيي بن أبي كثير، أخبرني محمد بن عبد الرحمن، أن الربيع بنت معوذ بن عفراء أخبرته. ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثني عمي، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق. ورواه ابن أبي عاصم، عن محمد بن سعد وعن يعقوب بن مهران، عن الربيع بنت معوذ. ورواه ابن ماجه عن علي بن سلمة النيسابوري، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثني أبي، عن ابن إسحاق، حدثنا عبادة بن الوليد، عن عبادة بن الصامت وكلاهما يزعم أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها فأتت النبي ﷺ بعد الصبح وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي فأتي أخوها يشتكيه إلى النبي ﷺ، فأرسل إليه، فقال له: (خذ الذي لها عليك، وخل سبيلها) قال: نعم. فأمرها رسول الله ﷺ أن تتربص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها. أي بعد حيضة. ورواه أبو داود في سننه، والترمذي في جامعة وأبو بكر بن أبي عاصم في كتاب الطلاق له: ثلاثتهم عن محمد بن عبد الرحمن البغدادي، حدثنا علي بن يحيي القطان أخبرنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي ﷺ عدتها حيضة، وقال الترمذي: حديث حسن غريب. ورواه الحاكم في صحيحه. وقال أبو داود: هذا الحديث رواه عبد الرازق، عن عمرو بن مسلم عن عكرمة، عن النبي ﷺ، وروي الترمذي أيضًا عن الربيع بنت معوذ بن عفراء: أنها اختلعت على عهد رسول الله ﷺ، فأمرها النبي ﷺ أو أمرت أن تعتد بحيضة وقال الترمذي: حديث الربيع الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة، وروي النسائي وابن أبي عاصم وابن ماجه عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: اختلعت من زوجي، ثم جئت عثمان فسألت ماذا على من العدة؟ فقال: لا عدة عليك، إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين حتى تحيضي حيضة. ولفظ ابن ماجه: تمكثين عنده، حتى تحيضي حيضة. وأما النسائي، وابن أبي عاصم، فلم يقولا: عنده. قالت: وإنما تبع في ذلك قضاء رسول الله ﷺ في المعالية، كانت تحت ثابت ابن قيس فاختلعت منه.

فهذه ثلاث طرق لحديث امرأة ثابت بن قيس بن شماس التي خالعها أن النبي ﷺ أمرها أن تعتد بحيضة واحدة، ورواه أبو بكر ابن أبي عاصم في كتاب الطلاق من الحديث المسند عن رسول الله ﷺ أربع طرق، فيكون للحديث خمسة طرق، أو ستة: ذكر حديث الربيع الذي فيه ذكر مريم المعالية، ولم يذكر حديث الربيع المتقدم الذي فيه ضرب ثابت لامرأته جميلة.

وقد صححه ابن حزم وغيره، ذكر: قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عمر حدثنا عمر بن يونس، عن سليمان ابن أبي سليمان، عن يحيي بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن الربيع: أن النبي ﷺ أمر المختلعة أن تعتد بحيضة. وقال أيضًا: حدثنا محمد ابن سليمان حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو الأسود، عن يحيي بن النظر ويزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء: أنها سمعت رسول الله ﷺ يحدث عن امرأة ثابت بن قيس: أنه كان بينها وبين زوجها بعض الشيء، وكان رجلا فيه حدة، فأتت رسول الله ﷺ فكلمته، فأرسل إلى ثابت، ثم إنه قبل منها الفدية فافتدت منه، فأمرها رسول الله ﷺ أن تعتد حيضة.

قال أبو بكر ابن أبي عاصم: مما دل على أن الخلع فسخ، لا طلاق: ما ثبت به الإسناد، حدثنا محمد بن مصفي، حدثنا سويد بن عبد العزيز هو يحيي بن سعيد عن عمرة، عن حبيبة بنت سهيل، قالت: امرأة كان هم أن يتزوجها رسول الله ﷺ؛ فخطبها ثابت بن قيس فتزوجها وكان في خلق ثابت شدة، فضربها، فأصبحت بالغلس على باب رسول الله ﷺ، فخرج رسول الله ﷺ، فقال: (من هذه؟ ) فقالت حبيبة: أنا يا رسول الله، لا أنا ولا ثابت. قال: فلم يكن إلا أن جاء ثابت، فقال له رسول الله ﷺ: (ضربتها؟ ) قال: نعم. ضربتها، فقال له رسول الله ﷺ: (خذ منها) فقالت يا رسول الله: إن عندي كل شيء أعطانيه. فقال: فأخذ منها، وجلست في بيتها. قال ابن أبي عاصم: ولم يذكر طلاقًا. قال: وفي حيضة واحدة دليل على أنها ليست بمطلقة، وكذلك في عدتها في بيتها، ولو كانت مطلقة لكان لها السكني والنفقة.

قلت: هذا على قول من يجعل الخلع طلقة رجعية إذا كان طلاقا، كما هو قول أبي محمد عن جمهور أهل الحديث، وداود. وابن أبي عاصم يوافقهم على ذلك: مذهبه أن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكني، على حديث فاطمة بنت قيس، قال ابن أبي عاصم: وممن قال تعتد بحيضة: عثمان بن عفان، وابن عمر وممن قال: فسخ، وليس بطلاق: ابن عباس، وابن الزبير.

قلت: وقد ذكر ابن المنذر عن أحمد بن حنبل. أنه ضعف كل ما يروي عن الصحابة مخالفا لقول ابن عباس.

وقد ذكر الشيخ أبو محمد في مغنية هذه الرواية التي ذكرها أبو بكر عبد العزيز في الشافي عن أحمد، منه نقلها أبو محمد، وهي موجودة في غير ذلك من الكتب، فقال: وأكثر أهل العلم يقولون: عدة المختلعة عدة المطلقة ومنهم سعيد بن المسيب. ومنهم طائفة من العلماء منهم مالك والشافعي. قال: وروي عن عثمان بن عفان، وابن عمر، وابن عباس وأبان بن عثمان وإسحاق وابن المنذر: أن عدة المختلعة حيضة. وروي ابن القاسم عن أحمد كما روي ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه، فجعل النبي ﷺ عدتها حيضة رواه النسائي، وعن الربيع بنت معوذ مثل ذلك، رواه النسائي وابن ماجه. قال: ولنا قوله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } [116]، ولأنها فرقة بعد الدخول في الحياة فكانت ثلاثة قروء، كالخلع.

فيقال: أما الآية فلا يجوز الاحتجاج بها حتى يبين أن المختلعة مطلقة، وهذا محل النزاع، ولو قدر شمول نص لها فالخاص يقضي على العام، والآية قد استثني منها غير واحدة من المطلقات، كغير المدخول بها، والحامل، والأمة، والتي لم تحض، وإنما تشمل المطلقة التي لزوجها عليها الرجعة.

وأما القياس المذكور، فيقال لا نسلم أن العلة في الأصل مجرد الوصف المذكور، ولا نسلم الحكم في جميع صور الناس، ثم هو منقوض بالمفارقة لزوجها، وقد دلت السنة على أن الواجب فيهما الاستبراء.

وأما الرواية: هل هي جميلة بنت أبي؟ أو سهلة بنت سهيل؟ أو أخرى؟ فهذا مما اختلفت فيه الرواية، فأما أن يكونا قصتين، أو ثلاثاِ، وإما أن أحد الراويين غلط في إسمها، وهذا لا يضر مع ثبوت القصة، فإن الحكم لا يتعلق باسم امرأته. وقصة خلعه لامرأته مما تواترت به النقول، واتفق عليه أهل العلم.

وقد روي مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، عن حبيبة بنت سهل الأنصارية: أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله ﷺ خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال رسول الله ﷺ: (من هذه؟ ) قالت: أنا حبيبة بنت سهل يا رسول الله، قال: (ما شأنك؟ ) قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها فلما جاء ثابت قال رسول الله ﷺ: (هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر)، فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي، فقال رسول الله ﷺ لثابت: (خذ منها)، فأخذ منها وجلست في أهلها.

وقد ذكر ابن حزم هذا الحديث وحديث الاعتداد بحيضة في حجة من يقول إن الخلع فسخ، وقال: قالوا: فهذا يبين أن الخلع ليس طلاقا، لكنه فسخ، ولم يذكر حديث ابن عباس إلا من طريق عبد الرزاق المرسل، وقال: أما حديث عبد الرزاق فساقط؛ لأنه مرسل، وفيه عمرو بن مسلم وليس بشيء، وأما خبر الربيع وحبيبة فلو لم يأت غيرهما لكانا حجة قاطعة، لكن رويا من طريق البخاري. وذكر ما تقدم من قول النبي ﷺ: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة)، قال: فكان هذا الخبر فيه زيادة على الخبرين المذكورين لا يجوز تركها، وإذ هو طلاق فقد ذكر الله عدة الطلاق، فهو زائد على ما في حديث الربيع، والزيادة لا يجوز تركها.

فيقال له: أما قولك عن حديث عبد الرزاق: إنه مرسل، فقد رواه أبو داود، والترمذي: من حديث همام بن يوسف مسندا، كما تقدم، ومن أصلك: أن هذه زيادة من الثقة، فتكون مقبولة، والحديث قد حسنه الترمذي. وأما قولك عن عمرو بن مسلم، فيقال: قد روي له مسلم في صحيحه والبخاري في كتاب أفعال العباد وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يحيي بن معين في رواية إبراهيم ابن المسند: لا بأس به، وقال أبو أحمد بن عدي: وليس له حديث منكر جدا.

وأما الحديث الآخر، الذي اعترفت بصحته، وجعلته حجة قاطعة لولا المعارض، فهو نص في المسألة، حيث أمرها النبي ﷺ أن تعتد بحيضة واحدة، وتلحق بأهلها.

وأما ما ذكرت: أن الطريق الأخرى فيه زيادة، وهو أنه أمره أن يطلقها تطليقة واحدة، والمطلقة تجب عليها العدة، فليس هذا زيادة، بل إن لم يكن المراد بالطلقة هنا الفسخ، كانت هذه الرواية معارضة لتلك، فإن تلك الرواية فيها نص بأنها تلحق بأهلها مع الحيضة الواحدة، ولو لم يكن إلا قوله: أمرها أن تعتد بحيضة واحدة، لكان هذا بينا في أنه أمرها بحيضة واحدة لا بأكثر منها، إذ لو أمرها بثلاث لما جاز أن يقتصر على قوله: أمرها بحيضة واحدة، فكيف وقد قال: (وتلحق بأهلها)؟

وأيضًا، فسائر الروايات من الطرق يعاضد هذا أو يوافق، وقد عضدها عمل عثمان بن عفان، وهو أحد الخلفاء الراشدين بذلك، وقد تقدم بعض طرق حديثه، وأنه اتبع في ذلك السنة في امرأة ثابت بن قيس.

وأيضًا، فلو قدر أنه قال في الرواية الأخري: أمرها أن تعتد بثلاث حيض، لكان هذا تعارضًا في الرواية، ينظر فيه إلى أصح الطريقين. فكيف وليس فيه إلا قوله: (وطلقها تطليقة)؟ والراوي لذلك هو ابن عباس وصاحبه، وهما يرويان أيضا (أنه أمرها أن تعتد بحيضة) وهما أيضا يقولان: الخلع فدية، لا تحسب من الطلقات الثلاث.

وقوله: (وطلقها تطليقة) إن كان هذا محفوظا من كلام النبي ﷺ مع ما قبله، فلابد من أحد أمرين: إما أن يقال: الطلاق بعوض لا تحسب فيه العدة بثلاثة أشهر، ويكون هذا مخصوصًا من لفظ القرآن. وإذا قيل: هذا في الطلاق بعوض، فهو في الخلع بطريق الأولى. وإما أن يقال: مراده بقوله: (طلقها تطليقة) هو الخلع، وأنه لا فرق عند الشارع بين لفظ الخلع والطلاق إذا كان ذلك بعوض، فإن هذا فدية، وليس هو الطلاق المطلق في كتاب الله، كما قال ذلك من قاله من السلف، وهذا يعود إلى المعني الأول. وبكل حال، فإنه إذا لم يجعل الشارع في ذلك عدة علم أنه ليس من الطلاق الثلاث، فإن القرآن صريح بأن ما كان من الطلاق الثلاث ففيه العدة.

وأيضًا، فهذا إجماع فيما نعلمه، لا نعلم أحدًا نازع في هذا وقال: إن الخلع طلقة محسوبة من الثلاث، ومع ذلك لا عدة فيه. وهذا مما يؤيد أن الخلع فسخ، وقد تقدم بعض المنقول عن عثمان وغيره. وروى يحيي بن بكير حدثنا الليث بن سعد، عن نافع مولي ابن عمر: أنه سمع الربيع بنت معوذ بن عفراء، وهي تخبر عبد الله بن عمر: أنها اختلعت من زوجها على عهد عثمان، فجاء عمها إلى عثمان، فقال: إن ابنة معوذ اختلعت من زوجها اليوم، أفتنتقل؟ فقال عثمان: لتنتقل، ولا ميراث بينهما ولا عدة عليها، إلا أنها لا تنكح حتى تحيض حيضة؛ خشية أن يكون بها حبل، فقال عبد الله بن عمر: ولعثمان خيرنا، وأعلمنا. قال ابن حزم: فهذا عثمان، والربيع ولها صحبة، وعمها وهو من كبار الصحابة، وابن عمر: كلهم لا يري في الفسخ عدة.

فإن قيل: فقد نقل عن عثمان وابن عمر: أنه طلاق، كما روي حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن جمهان أن أم بكرة الأسلمية كانت تحت عبد الله بن أسيد، فاختلعت منه، فندما، فارتفعا إلى عثمان بن عفان فأجاز ذلك، وقال: هي واحدة؛ إلا أن تكون سميت شيئا، فهو على ما سميت. وقد روي مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: عدة المختلعة عدة المطلقة. وقد روي أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عفان، حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن زوج بريرة كان عبدًا أسود، فخيرها رسول الله ﷺ، وأمرها أن تعتد، وهكذا رواه ابن أبي عاصم: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قضى رسول الله ﷺ في بريرة بأربع قضايا: أمرها أن تختار، وأمرها أن تعتد. وقال: حدثنا الحلواني، حدثنا عمرو بن...، حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس ذكر النبي ﷺ قال: أحسبه قال فيه: تعتدي عدة الخلع، فهذا فسخ أوجب فيه العدة؛ ولهذا قال ابن حزم: إنه لا عدة في شيء من الفسوخ، إلا في هذا؛ لأنه لا يقول بالقياس، وليس في النص إيجاب العدة في فسخ.

لكن لفظ الاعتداد يستعمل عندهم في الاعتداد بحيضة، كما في حديث المختلعة من غير وجه أمرها أن تعتد بحيضة وقالت عائشة في قوله: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [24]، أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن، والمراد بها: الاستبراء؛ فإن المسبية لا يجب في حقها إلا الاستبراء بحيضة، كما قال ﷺ في سبايا أوطاس: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة)، وقال فيه: فأنزل الله: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }، وهكذا في الحديث المعروف عن أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس من رواية أبي الخليل... (حلال إذا انقضت عدتهن)، وفي هذا قال النبي ﷺ: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ) وأبو سعيد روي هذا وهذا. وعلى الحديثين: أم الولد تعتد بحيضة وقال عمرو بن عاصم: وأحسبه قال: تعتد عدة الحرة. شك لا تقوم به حجة.

وعن أحمد في عدة المختلعة روايتان: ذكرهما أبو بكر في كتاب الشافي قال أبو بكر في الشافي: باب عدة المختلعة والملاعنة وامرأة عصبي، وروي بإسناده عن الأثرم، وإبراهيم بن الحارث؛ أنه قيل لأبي عبد الله: عدة كل مطلقة ثلاث حيض؟ قال: نعم، إلا الأمة. قيل له: المختلعة، والملاعنة وامرأة المرتد؟ قال: نعم. كل فرقة عدتها ثلاث حيض. وعن أبي طالب أن أبا عبد الله قال في المختلعة تعتد مثل المطلقة ثلاث حيض. وروي عن أحمد ابن القاسم قال أبو عبد الله: عدة المختلعة حيضة. قال عبد العزيز: والعمل على رواية الأثرم، والعبادي: أن كل فرقة من الحرائر عدتها ثلاث حيض، وحديث المختلعة أمرت أن تعتد بحيضة ضعيف؛ لأنه مرسل عن رسول الله ﷺ، وبما قلت أذهب، وهو قول عثمان بن عفان.

قلت: ابن القاسم كثيرًا ما يروى عن أحمد الأقوال المتأخرة التي رجع إليها، كما روي عنه أن جمع الثلاث محرم، وذكر أنه رجع عن قوله: إنه مباح، وأنه تدبر القرآن فلم يجد فيه الطلاق إلا رجعيًا. وهكذا قد يكون أحمد ثبتت عنده في المختلعة فرجع إليها، فقوله: عدتها حيضة، لا يكون إلا إذا ثبت عنده الحديث، وإذا ثبت عنده لم يرجع عنه. ولأصحاب أحمد في وطء الشبهة وجهان، وكذلك ابن عمر كان يقول أولا: إن عدتها ثلاث حيض، فلما بلغه قول عثمان بن عفان أنها تستبرأ بحيضة رجع إليه ابن عمر.

وما ذكره أبو بكر عن عثمان رواية مرجوحة، والمشهور عن عثمان أنها تعتد بحيضة، وهو قول ابن عباس، وآخر القولين عن ابن عمر، ولم يثبت عن صحابي خلافه، فإنه روي خلافه عن عمر وعلى بإسناد ضعيف، وهو قول أبان بن عثمان، وعكرمة، وإسحاق ابن راهويه، وغيره من فقهاء الحديث.

وقد روي البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: كان المشركون على منزلتين من النبي ﷺ والمؤمنين، كانوا مشركين أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركين أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه، وإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران، ولهما للمهاجرين، ثم ذكر في أهل العهد مثل حديث مجاهد، وإن هاجر عبد أو أمة للمشركين أهل العهد لم يردوا وردت أثمانهم.

ففي هذا الحديث أن المهاجرة من دار الحرب إذا حاضت ثم طهرت، حل لها النكاح، فلم يكن يجب عليها إلا الاستبراء بحيضة، لا بثلاثة قروء، وهي معتدة من وطء زوج، لكن زال نكاحه عنها بإسلامها. ففي هذا أن الفرقة الحاصلة باختلاف الدين كإسلام امرأة الكافر إنما يوجب استبراءًا بحيضة: وهي فسخ من الفسوخ، ليست طلاقا. وفي هذا نقض لعموم من يقول: كل فرقة في الحياة بعد الدخول توجب ثلاثة قروء. وهذه حرة مسلمة؛ لكنها معتدة من وطء كافر.

وقد تنازع العلماء في امرأة الكافر هل عليها عدة أم استبراء؟ على قولين مشهورين، ومذهب أبي حنيفة ومالك لا عدة عليها.

وما في هذا الحديث من رد إناث عبيد المعاهدين، فهو نظير رد مهور النساء المهاجرات من أهل الهدنة، وهن الممتحنات اللاتي قال الله فيهن: { إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } الآية [38]. ومن أنه كان إذا هاجر زوجها قبل أن تنكح فهو أحق بها، فهذا أحد الأقوال في المسألة، وهو أن الكافر إذا أسلمت امرأته: هل تتعجل الفرقة مطلقا، أو يفرق بين المدخول بها وغيرها، أو الأمر موقوف ما لم تتزوج، فإذا أسلم فهي امرأته؟ والأحاديث إنما تدل على هذا القول، ومنها هذا الحديث، ومنها حديث زينب بنت رسول الله ﷺ، فإن الثابت في الحديث أنه ردها بالنكاح الأول بعد ست سنين، كما رواه أحمد في مسنده، ورواه أهل السنن: أبو داود وغيره، والحاكم في صحيحه عن ابن عباس قال: رد رسول الله ﷺ زينب على أبي العاص بالنكاح الأول لم يحدث شيئًا. وفي رواية: بعد ست سنين، وفي إسناده ابن إسحاق، ورواه الترمذي وقال: ليس بإسناده بأس، وروي أبو داود والحاكم في صحيحه عن ابن عباس قال: أسلمت امرأة على عهد رسول الله ﷺ فتزوجت، فجاء زوجها إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله، إني كنت أسلمت، وعلمت بإسلامي، فانتزعها رسول الله ﷺ من زوجها الآخر، وردها إلى زوجها الأول. وفي إسناده سماك.

فقد ردها لما ذكر أنه أسلم وعلمت بإسلامه. ولم يستفصله: هل أسلما معا؟ أو هل أسلمت قبل أن تنقضي العدة؟ وترك الاستفصال يدل على أن الجواب عام مطلق في كل ما تتناوله صور السؤال؛ وهذا لأنه متي أسلم على شيء فهو له. وإذا أسلم على مواريث لم تقسم قسمت على حكم الإسلام، وكذلك على عقود لم تقبض فإنه يحكم فيها بحكم الإسلام، ولو أسلم رقيق الكافر الذمي لم يزل ملكه عنه، بل يؤمر بإزالة ملكه عنه، ويحال بينه وبين ثبوت يده عليه، واستمتاعه بإمائه: أم ولده، وغيرها والاستخدام، فكذلك إذا أسلمت المرأة حيل بينها وبين زوجها، فإن أسلم قبل أن يتعلق بها حق غيره فهو كما لو أسلم قبل أن يباع رقيقه فهو أحق بهم، والدوام أقوي من الابتداء، ولأن القول بتعجيل الفرقة خلاف المعلوم بالتواتر من سنة رسول الله ﷺ، والقول بالتوقف على انقضاء العدة أيضا كذلك، فإن النبي ﷺ لم يوقت ذلك فيمن أسلم على عهده من النساء والرجال مع كثرة ذلك؛ ولأنه لا مناسبة بين العدة وبين استحقاقها بإسلام أحدهما. وقياس ذلك على الرجعة من أبطل القياس من وجوه كثيرة.

وأيضًا، فالنبي ﷺ قال في السبايا: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض). وهذا الحديث يقتضي أنه لا يجب في الاستبراء إلا الحيض، أو الحمل في الصغيرة التي لا تحيض، والأمة لا يتصور هذا في حقها، فليس في الحديث إيجاب استبراء على من لا تحيض وإيجاب ذلك بعيد عن القياس؛ ولهذا اضطرب القائلون به على أقوال كل منها منقوض.

وأيضًا، فلم ينقل أحد عن النبي ﷺ أنه أمر بالاستبراء في غير هذا؛ لأنهن كن موطؤات لهن أزواج. وأما الإماء اللاتي كن يبعن على عهده فلم يكن يوطئن في العادة، بل كن للاستخدام في الغالب. وهذا يقتضي أن الأمة التي لم يطأها سيدها لا يجب على المستبرئ استبراؤها، كما لا يجب استبراؤها إذا تزوجت، فإذا لم يجب في التزويج، ففي التسري أولى وأحري، وقد قال ابن عمر: لا استبراء على المسلمة؛ وذلك لأنها توطأ، فمن لا يجب عليها عدة ولا استبراء إذا زوجت لم يجب عليها استبراء إذا وطأت بملك اليمين، وكذلك قال الليث بن سعد قال: إن كانت ممن لا يحمل مثلها لم يجب استبراءها لا بحيض، ومن لا تحمل، فهذا موافق للنص. وقال أبو حنيفة: إذا استبرؤها.. استبراء عليه، وقال مالك: إذا كانت في يده كالوديعة ونحوها وعلم أنها لم توطأ، لم يحتج إلى استبراء إذا استبرأها، وكذلك الذي قال: لا يجب الاستبراء إلا على حامل أو موطوءة. وإليه مال الروياني.

والذي يدل عليه النص أن الاستبراء مشروع حيث أمكن أن تكون حاملا، فإنه أمر بالاستبراء الحامل والحائض من المسبيات اللاتي لا تعلم حالهن. فأما مع العلم ببراءة الرحم فلا معنى للاستبراء. وحديث ابن شهاب الذي في الموطأ مرسل.

والقرآن ليس فيه إيجاب العدة بثلاثة قروء إلا على المطلقات، لا على من فارقها زوجها بغير طلاق، ولا على من وطئت بشبهة، ولا على المزني بها. فإذا مضت السنة بأن المختلعة إنما عليها الاعتداد بحيضة الذي هو استبراء، فالموطوءة بشبهة والمزني بها أولى بذلك، كما هو أحد الروايتين عن أحمد في المختلعة، وفي المزني بها. والموطوءة بشبهة، دون المزني بها، ودون المختلعة. فبأيهما ألحقت لم يكن عليها إلا الاعتداد بحيضة، كما هو أحد الوجهين.

والاعتبار يؤيد هذا القول، فإن المطلقة لزوجها عليها رجعة ولها متعة بالطلاق ونفقة، وسكنى في زمن العدة، فإذا أمرت أن تتربص ثلاثة قروء لحق الزوج، ليتمكن من ارتجاعها في تلك المدة، كان هذا مناسبا، وكان له في طول العدة حق، كما قال تعالى: { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [12]، فبين سبحانه أن العدة للرجل على المطلقة إذا وجبت؛ فإذا مسها كان له عليها العدة لأجل مسه لها، وكان له الرجعة عليها، ولها بإزاء ذلك النفقة والسكنى، كما لها متاع لأجل الطلاق. أما غير المطلقة إذا لم يكن لها نفقة ولا سكنى ولا متاع، ولا للزوج الحق برجعتها، فالتأكد من براءة الرحم تحصل بحيضة واحدة، كما يحصل في المملوكات، وكونها حرة لا أثر له، بدليل أن أم الولد تعتد بعد وفاة زوجها بحيضة عند أكثر الفقهاء، كما هو قول ابن عمر وغيره، وهي حرة: فالموطوءة بشبهة ليست خيرًا منها. والتي فورقت بغير طلاق، وليست لها نفقة، ولا سكنى، ولا رجعة عليها، ولا متاع هي بمنزلتها.

فإن قيل: هذا ينتقض بالمطلقة آخر ثلاث تطليقات، فإنه لا نفقة لها ولا سكنى ولا رجعة، ومع هذا تعتد بحيضة؟ قيل: هذه المطلقة لها المتعة عند الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين، وكثير من السلف أو أكثرهم ولها النفقة عند مالك والشافعي، وكثير من فقهاء الحجاز، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ولها السكنى مع ذلك عند كثير من فقهاء العراق كأبي حنيفة وغيره، فلابد لها من متاع، أو سكنى عند عامة العلماء. فإذا وجبت العدة بإزاء ذلك، كان فيه من المناسبة ما ليس في إيجابها على من لا متاع لها ولا نفقة ولا سكنى. وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه أمر فاطمة بنت قيس لما طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات أن تعتد، وأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، ثم أمرها بالانتقال إلى بيت أم شريك.

والحديث وإن لم يكن في لفظه أن تعتد ثلاث حيض، فهذا هو المعروف عند من بلغنا قوله من العلماء؛ فإن كان هذا إجماعا، فهو الحق، والأمة لا تجتمع على ضلالة. وإن كان من العلماء من قال: إن المطلقة ثلاثا إنما عليها إلا الاستبراء لا الاعتداد بثلاث حيض، فهذا له وجه قوي بأن يكون طول العدة في مقابلة استحقاق الرجعة، وهذا هو السبب في كونها جعلت ثلاثة قروء. فمن لا رجعة عليها لا تتربص ثلاثة قروء، وليس في ظاهر القرآن إلا ما يوافق هذا القول، لا يخالفه، وكذلك ليس في ظاهره إلا ما يوافق القول المعروف لا يخالفه. فأي القولين قضت السنة كان حقا موافقا لظاهر القرآن. والمعروف عند العلماء هو الأول، بخلاف المختلعة فإن السنة مضت فيها بما ذكر، وثبت ذلك عن أكابر الصحابة وغير واحد من السلف، وهو مذهب غير واحد من أئمة العلم، وليس في القرآن إلا ما يوافقه لا يخالفه، فلا يقاس هذا بهذا. والمعاني المفرقة بين الاعتداد بثلاثة قروء والاستبراء إن علمناها وإلا فيكفينا اتباع ما دلت عليه الأدلة الشرعية الظاهرة المعروفة.

ومما يوضح هذا أن المسبيات اللاتي يبتدأ الرق عليهن قد تقدم الإشارة إلى حديث أبي سعيد الذي فيه: إن الله أباح وطئهن للمسلمين لما تحرجوا من وطئهن، وأنزل في ذلك: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [24]، وقال فيه: إن أجل وطئهن إذا انقضت عدتهن. وروي أن النبي ﷺ قال في سبي أوطاس: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ)، وروي: (حتى تحيض حيضة).

والعلماء عامة إنما يوجبون في ذلك استبراء بحيضة، وهو اعتداد من وطء زوج يلحقه النسب، ووطؤه محترم وإن كان كافرًا حربيًا، فإن محاربته أباحت قتله، وأخذ ماله، واسترقاق امرأته. على نزاع وتفصيل بين العلماء، لكن لا خلاف أن نسب ولده ثابت منه، وأن مائه ماء محترم لا يحل لأحد أن يطأ زوجته قبل الاستبراء باتفاق المسلمين، بل قد لعن النبي ﷺ من فعل ذلك، كما في الحديث الصحيح في مسلم: أنه أتي على امرأة مجح على باب فسطاط، فقال: (لعل سيدها يلم بها). قالوا: نعم. قال: (لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستعبده وهو لا يحل له؟ !) ونهي أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره.

لكن هذه الزوجة لم يفارقها زوجها باختياره، لا بطلاق؛ ولا غيره، لكن طريان الرق عليها أزال ملكه إلى المسترق، أو اشتباه زوجها بغيره أزال ذلك. فعلم أنه ليس بنكاح زال عن امرأة؛ فإنه يوجب العدة بثلاثة قروء. ولو أن الكافر تحاكم إلينا هو وامرأته في العدة ثم طلق امرأته، لألزمناها بثلاثة قروء، فعلم أن المطلقة عليها ثلاثة قروء مطلقا، وأن هذه لما زال نكاحها بغير طلاق لم يكن عليها ثلاثة قروء. فلا يقال: إن كل معتدة من مفارقة زوج في الحياة عليها ثلاثة قروء، بل هذا منقوض بهذه بالنص والإجماع.
فصل في عدة المختلعة حيضة واحدة

وهذا الذي دل عليه القرآن والسنة وآثار أكابر الصحابة كعثمان وغيره من أن عدة المختلعة حيضة واحدة يزول به الإشكال في مسألة تداخل العدتين، كما إذا تزوجت المرأة في عدتها بمن أصابها؛ فإن المأثور عن الصحابة كعمر وعلى: أنها تكمل عدة الأول، ثم تعتد من وطء الثاني فعليها تمام عدة الأول، وعدة للثاني. وبه أخذ جمهور الفقهاء، كمالك والشافعي، وأحمد. واختلف عمر وعلى: هل تباح للأول بعد قضاء العدتين؟ فقال عمر: لا ينكحها أبدًا. وبه أخذ مالك. وقال على: هو خاطب من الخطاب. وبه أخذ الشافعي. وعن أحمد روايتان. وأما أبوحنيفة فعنده لا يجب عليها إلا عدة واحدة من الثاني، وتدخل فيها بقية عدة الأول، وذكر بعض أصحابه أن هذا القول منقول عن ابن مسعود، لكن لم نعرف لذلك إسنادا. فنقول بتداخل العدتين، فإن العدة حق له؛ إذ لو أراد الزوج إسقاطها لم يمكنه ذلك، فدخل بعضها في بعض كالحدود؛، والكفارات فإنه لو سرق، ثم سرق لم يقطع إلا يد واحدة، وكذلك لو شرب، ثم شرب، لم يكن عليه إلا حد واحد. فالحدود وجبت في جنس الذنب، لا في قدره. ولهذا تجب بسرقة المال الكثير والقليل، وتجب بشرب القليل والكثير؛ لأن الموجب له جنس الذنب، لا قدره. فإذا لم يفترق الحكم بين قليله وكثيره في القدر لم يفترق بين واحده وعده؛ فإن الجميع من جنس القدر، وكذلك كفارة الجماع في رمضان إذا وطأ ثم وطأ قبل أن يكفر. فمن قال بتداخل العدتين قال: عدة المطلقة من هذا الباب، فإن سببها الوطء، ليست مثل عدة الوفاة التي سببها العقد، وهي تجب مع قليل الوطء وكثيره، فإن الموجب لها الجنس الوطء، ولا فرق بين أن يكون الواطئ واحدًا أو اثنين.

وطرده لو اشترى أمة قد اشترك في وطئها جماعة لم يكن عليها إلا استبراء واحد، وإن كان الواطئ جماعة. وقد نوزعوا في هذه الصورة. فقيل: بل تستبرأ لكل من الشريكين استبراءً واحدًا إذا كانت في ملكهما. فأما إذا باعاها لغيرهما، فهنا لا يجب على المشتري إلا استبراءً واحدًا، ولم يقل أحد علمناه: فإن الأمة المملوكة بسبي أو شراء أو إرث ونحو ذلك عليها استبرآت متعددة بعدد الواطئين. وكذلك لو اشترى رجل جارية وباعها قبل أن يستبرأها لم يكن على المشتري الثاني إلا استبراء واحدًا. قال الفقهاء: ولا نقول عليه أن يستبرأها مرتين. واعتذر بعضهم بأن الاستبراء سببه تعدد الملك ولم يتعدد؛ ولهذا لا يوجبون الاستبراء إذا أعتقها وتزوجها إذا لم يكن البائع قد وطأها، ويوجبونه إذا لم يعتقها، بخلاف العدة فإن سببها الرق. والكلام في عدة الاستبراء له موضع آخر.

والمقصود هنا أنه لا يتعدد، وما علمنا أحدًا قال: يتعدد، وإن كان أحد قال هذا فإن السنة تخصمه؛ فإن النبي ﷺ لم يأمر إلا بمجرد الاستبراء حيث قال: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ)، فعلق الحل بمجرد الاستبراء ولم يفرق. وإذا كان الاستبراء من جنس العدة، ولا يتعدد بتعدد الواطئ، فالعدة كذلك. هذا ما يحتج به لأبي حنيفة رحمه الله.

وأما الجمهور فقالوا: العدة فيها حق لآدمي واستدلوا بقوله تعالى: { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ } الآية [12]، وقالوا: فقد نفي الله أن يكون للرجال على النساء عدة في هذا الموضع، وليس هنا عدة لغير الرجال، فعلم أن العدة فيها حق للرجال حيث وجبت، إذ لو لم يكن كذلك لم يكن في نفي أن يكون للرجال عليهن عدة ما ينفي أن يكون لله عدة، فلو كانت العدة حقا محضا لله لم يقل: { فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ }، إذ لا عدة لهم لا في هذا الموضع ولا غيره، ولو كانت العدة نوعين نوعًا لله، ونوعًا فيه حق للأزواج، لم يكن في نفي عدة الأزواج ما ينفي العدة الأخري، فدل القرآن على أن العدة حيث وجبت ففيها حق للأزواج، وحينئذ فإذا كانت العدة فيها حق لرجلين، لم يدخل حق أحدهما في الآخر؛ فإن حقوق الآدميين لا تتداخل، كما لو كان لرجلين دَيْنَان على واحد، أو كان لهما عنده أمانة، أو غصب، فإن عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، فهذا الذي قاله الجمهور من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم.

واحتجوا على أبي حنيفة بأنه يقول: لو تزوج المسلم ذمية وجبت عليها العدة حقا محضا للزوج؛ لأن الذمية لا توآخذ بحق الله؛ ولهذا لا يوجبها إذا كان زوجها ذميا، وهم لا يعتقدون وجوب العدة، وهذا الذي قاله له الأكثرون: حسن، موافق لدلالة القرآن. ولما قضي به الخلفاء الراشدون لا سيما ولم يثبت عن غيرهم خلافه؛ وإن ثبت فإن الخلفاء الراشدين إذا خالفهم غيرهم كان قولهم هو الراجح؛ لأن النبي ﷺ قال: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي: تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة).

لكن من تمام كون العدة حقا للرجل أن يكون له فيها حق على المرأة وهو ثبوت الرجعة، كما قال تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } [116]، { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } [116]، فأمرهن بالتربص، وجعل الرجل أحق بردها في مدة التربص، وليس في القرآن طلاقا إلا طلاق رجعي، إلا الثالثة المذكورة في قوله: { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } [118]، وذلك طلاق أوجب تحريمها فلا تحل له بعقد يكون برضاها ورضا وليها، فكيف تباح بالرجعة؟ أما المرأة التي تباح لزوجها في العدة فإن زوجها أحق برجعتها في العدة بدون عقد، وليس في القرآن طلاق بائن تباح فيه بعقد ولا يكون الزوج أحق بها، بل متي كانت حلالا له كان أحق بها.

وعلى هذا فيظهر كون العدة حقا للرجل، فإنه يستحق بها الرجعة، بخلاف ما إذا أوجبت في الطلاق البائن التي تباح فيه بعقد؛ فإنه هنا لا حق له، إذ النكاح إنما يباح برضاهما جميعا، ولهذا طرد أبو حنيفة أصله، لما كان الطلاق عنده ينقسم إلى بائن، ورجعي، وله أن يوقع البائن بلا رضاها، جعل الرجعة حقا محضا للزوج، له أن يسقطها، وله ألا يسقطها، بخلاف العدة فإنه ليس له إسقاطها، فلا تكون حقا له.

وهذا يؤيد أن الخلع ليس بطلاق، فإنه موجب للتسوية. ويؤيد أنه ليس للرجل فيه عدة على المرأة كما يكون في الطلاق، بل عليها استبراء بحيضة؛ فإن الاستبراء بحيضة حق الله؛ لأجل براءة الرحم فلابد منه في كل موطوءة، سواء وطئت بنكاح صحيح، أو فاسد، أو بملك يمين، فإنه يجب لبراءة رحمها من ماء الواطئ الأول؛ لئلا يختلط ماؤه بماء غيره، وكذلك يجب على أصح قولي العلماء على الموطوءة بالزني؛ لأجل ماء الواطئ الثاني؛ لئلا يختلط ماؤه بماء الزاني. وهذا مذهب مالك وأحمد. وإذا لم يجب على المختلعة إلا عدة بحيضة، فعلى المنكوحة نكاحًا فاسدًا أولى؛ فإنه لا رجعة عليها ولا نفقة لها.

فإن قيل: ففي حديث طليحة أن عمر بن الخطاب قال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن لم يدخل بها الثاني أتمت عدة زوجها، وإن دخل بها أتمت بقية عدتها للأول، ثم اعتدت للثاني. وكذلك عن على: أنه قضي أنها تأتي ببقية عدتها للأول، ثم تأتي للثاني بعدة مستقبلة، فإذا انقضت عدتها فإن شاءت نكحت، وإن شاءت لم تنكح.

قيل: نعم. لكن لفظ العدة في كلام السلف يقال على القروء الثلاثة، وعلى الاستبراء بحيضة، كما تقدم نظائره. وحينئذ فعمر وعلى إن كان قولهما في المختلعة ونحوها أنها تعتد بحيضة فيكونان أراد أنها تعتد بحيضة. وإن كان قولهما أنها تعتد بثلاثة قروء، فيكون هذا فيه قولان للصحابة؛ فإن عثمان قد ثبت عنه أن المختلعة تعتد بحيضة. وإن قيل: بل قد نقول: تعتد المختلعة بحيضة، والمنكوحة نكاحا فاسدًا بثلاثة قروء، فهذا القول إذا قيل به يحتاج إلى بيان الفرق بين المسألتين.

فإن قيل: فقد اختلف عمر وعلى هل تباح للثاني؟ فقال عمر: لا ينكحها أبدًا. وقال علي: إذا انقضت عدتها يعني من الثاني فإن شاءت نكحت، وإن شاءت لم تنكح. ولو كان وطء الثاني كوطء الشبهة لم يمنع الأول أن يتزوجها؛ فإن الرجل لو وطئت امرأته بشبهة لم يزل نكاحه بالإجماع، بل يعتزلها حتى تعتد، ولو وطئت الرجعية بشبهة لم يسقط حق الزوج شيء؟.

قيل: أولا هذا السؤال لا تعلق له بقدر العدة، فسواء كانت العدة استبراء بحيضة، أو كانت بتربص ثلاثة قروء، هذا وارد في الصورتين. ولا ريب أن الزوج المطلق الذي اعتدت من وطئه إن كان طلقها الطلقة الثالثة فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، فلا يمكنه أن يراجعها في عدتها منه، وأما إن فارقها فرقة بائنة كالخلع ونكحت في مدة اعتدادها منه، مثل أن تنكح قبل أن تستبرأ بحيضة، فهنا إذا أراد أن يتزوجها في عدتها فإنما يتزوجها بعقد جديد، وليس له أن يتزوج بعدة من غيره بعقد جديد؛ فإن العدة من الغير تمنع ابتداء النكاح، ولا تمنع دوامه فليس لأحد أن يتزوج بعدة، لا من وطء شبهة، ولا نكاح فاسد، بل ولا زني؛ وإن كانت امرأته إذا وطئت بشبهة أو زني لم يبطل نكاحه، بل يجتنبها حتى يستبرأها، ثم يطأها.

وإذا قيل: فهذه معتدة من الوطء، فكيف يمنع من نكاحها في العدة؟

قيل أولا: هذا لا يتعلق بقدر العدة.

وقيل ثانيا: لا نص ولا إجماع يبيح لكل معتدة أن تنكح في عدتها، لكن الإجماع انعقد على ذلك في مثل المختلعة؛ إذ لا عدة عليها لغير الناكح. فأما إذا وجبت عليها عدة من غيره، فهنا المانع كونها معتدة من غيره، كما يمنع بعد انقضاء عدتها منه؛ فإن الخلية من عدتها له أن ينكحها، وإذا كان بعدة من الغير لم يكن له ذلك. فالعدة ليست مانعة من النكاح ولا موجبة لحله، وانتفاء مانع واحد لا يبيح الغير إذا وجد مانع آخر، ولكن يظن الظان أن العدة منه وجبت لإباحة عقده. وهذا غلط. وأما إن كان الطلاق الأول رجعية، فارتجاعه إياها في بقية عدتها منه كارتجاعه لو وطئت بشبهة في عدتها من الطلاق الرجعي، لا فرق بينهما.

وكذلك الذي قضي به على: أن الثاني لا ينكحها حتى تنقضي عدتها منه وهو ظاهر مذهب أحمد. وأما مذهب الشافعي فيجوز عنده للثاني أن ينكحها في عدتها منه، كما يجوز للواطئ بشبهة أن يتزوج الموطوءة في عدتها منه، وكذلك كل من نكح امرأة نكاحا فاسدا له أن يتزوجها في عدتها منه.

وأحمد له في هذا الأصل روايتان:

إحداهما: لا يجوز، وهو مذهب مالك؛ ليميز بين ماء وطء الشبهة، وماء المباح المحض.

والثانية: يجوز كمذهب الشافعي؛ لأن النسب لاحق في كليهما. وعلى هذه الرواية فمن أصحاب أحمد من جوز للثاني أن ينكحها في عدتها منه، كما هو قول الشافعي، كما يجوز ذلك لكل معتدة من نكاح فاسد على هذه الرواية.

ومنهم من أنكر نصه، وقال هنا: كان يذكر فيها عدة من الواطئ الأول، وهذا الواطئ الثاني لم تعتد منه عقب مفارقته لها، بل تخلل بين مفارقته وعدته عدة الأول، وهي قد وجب عليها عدتان لهما، وتقديم عدة الأول كان لقدم حقه، وإلا فلو وضعت ولدًا ألحق بالثاني لكانت عدة الثاني متقدمة على عدة الأول، فهي في أيام عدة الأول عليها حق للثاني، وفي الاعتداد من الثاني عليها حق الأول؛ بدليل أنها لو وضعت ولدا بعد اعتدادها من الأول وأمكن كونه من الأول والثاني عرض على القافة. فإذا كان للأول حق في مدة عدتها من الثاني لم يكن للثاني أن يتزوجها في مدة العدة.

فهذا أشهر الأقوال في هذه المسألة، وهو المأثور عن الصحابة، وهو نص أحمد، وعليه جمهور أصحابه، وقد تبعه الجد رحمه الله في محرره.

وأما مقدار العدة فقد ذكرنا عن أحمد روايتين في المختلعة فإن لم يكن بينها وبين المنكوحة نكاحا فاسدًا فرق شرعي، وإلا وجب أن يقال في المنكوحة نكاحا فاسدًا: إنما تعتد بحيضة، كما مضت به السنة. والله أعلم.
سئل عن رجل تخاصم مع زوجته وهي معه بطلقة واحدة

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل تخاصم مع زوجته وهي معه بطلقة واحدة، فقالت له: طلقني. فقال: إن أبرأتيني فأنت طالق، فقالت: أبرأك الله مما يدعي النساء على الرجال. فقال لها: أنت طالق، وظن أنه يبرأ من الحقوق، وهو شافعي المذهب.

فأجاب:

نعم هو بريء مما تدعي النساء على الرجال إذا كانت رشيدة.
سئل عن رجل قالت له زوجته طلقني وأنا أبرأتك

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل قالت له زوجته: طلقني وأنا أبرأتك من جميع حقوقي عليك، وآخذ البنت بكفايتها، يكون لها عليك مائة درهم، كل يوم سدس درهم، وشهد العدول بذلك فطلقها على ذلك بحكم الإبراء أو الكفالة: فهل لها أن تطالبه بفرض البنت بعد ذلك، أم لا؟

فأجاب:

إذا خالعها على أن تبرئه من حقوقها، وتأخذ الولد بكفالته. ولا تطالبه بنفقة، صح ذلك عند جماهير العلماء، كمالك، وأحمد في المشهور من مذهبه وغيرهما؛ فإنه عند الجمهور يصح الخلع بالمعدوم الذي ينتظر وجوده كما تحمل أمتها وشجرها. وأما نفقة حملها ورضاع ولدها، ونفقته، فقد انعقد سبب وجوده وجوازه، وكذلك إذا قالت له: طلقني وأنا أبرأتك من حقوقي وأنا آخذ الولد بكفالته. وأنا أبرأتك من نفقته، ونحو ذلك مما يدل على المقصود.

وإذا خالع بينهما على ذلك من يري صحة مثل هذا الخلع كالحاكم المالكي لم يجز لغيره أن ينقضه، وإن رآه فاسدًا، ولا يجوز له أن يفرض له عليه بعد هذا نفقة للولد، فإن فعل الحاكم الأول كذلك حكم في أصح قولي العلماء. والحاكم من متي عقد عقدًا ساغ فيه الاجتهاد، أو فسخ فسخًا جاز فيه الاجتهاد، لم يكن لغيره نقضه.
سئل عن رجل قال لصهره إن جئت لي بكتابي وأبرأتني منه فبنتك طالق ثلاثا

وسئل رحمه الله عن رجل قال لصهره: إن جئت لي بكتابي وأبرأتني منه فبنتك طالق ثلاثا، فجاء له بكتاب غير كتابه، فقطعه الزوج ولم يعلم هل هو كتابه أم لا؟ فقال: أبو الزوجة: اشهدوا عليه أن بنتي تحت حجري، واشهدوا على أني أبرأته من كتابها، ولم يبيّن ما في الكتاب، ثم إنه مكث ساعة وجاء أبو الزوجة بحضور الشهود، وقال له: أي شيء قلت يا زوج؟ فقال الزوج اشهدوا على أن بنت هذا طالق ثلاثا، ثم إن الزوج ادعي أن هذا الطلاق الصريح بناء على أن الإبراء الأول صحيح: فهل يقع؟ أم لا؟

فأجاب:

قوله الأول معلق على الإبراء، فإن لم يبره لم يقع الطلاق. وأما قوله الثاني فهو إقرار منه، بناء على أن الأول قد وقع، فإن كان الأول لم يقع فإنه لم يقع بالثاني شيء.
سئل عن رجل له زوجة فحلف أبوها أنه ما يخليها معه

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له زوجة، فحلف أبوها أنه ما يخليها معه، وضربها، وقال لها أبوها: أبريه، فأبرأته، وطلقها طلقة، ثم ادعت أنها لم تبره إلا خوفا من أبيها: فهل تقع على الزوجة الطلقة أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، إن كانت أبرأته مكرهة بغير حق لم يصح الإبراء، ولم يقع الطلاق المعلق به. وإن كانت تحت حجر الأب وقد رأي الأب أن ذلك مصلحة لها فإن ذلك جائز في أحد قولي العلماء، كما في مذهب مالك وقول في مذهب أحمد.
سئل عن بنت يتيمة تحت الحجر قال لها الزوج إن أبرأتيني من صداقك فأنت طالق

وسئل رحمه الله تعالى عن بنت يتيمة تحت الحجر مزوجة، قال لها الزوج: إن أبرأتيني من صداقك فأنت طالق ثلاثًا، فمن شدة الضرب والفزع أوهبته، ثم رجعت فندمت: هل لها أن ترجع. ولا يحنث أم لا؟

فأجاب:

إذا أكرهها على الهبة، أو كانت تحت الحجر، لم تصح الهبة، ولم يقع الطلاق. والله أعلم.
سئل عن رجل كسا امرأته كسوة مثمنة وطلبت منه المخالعة وطلب حليه فأبت

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له امرأة كساها كسوة مثمنة مثل مصاغ، وحلي، وقلائد، وما أشبه ذلك خارجا عن كسوة القيمة وطلبت منه المخالعة، وعليه مال كثير مستحق لها عليه، وطلب حلية منها ليستعين به على حقها أو على غير حقها، فأنكرته، ويعلم أنها تحلف وتأخذ الذي ذكره عندها، والثمن يلزمه، ولم يكن له بينة عليها؟

فأجاب:

إن كان قد أعطاها ذلك الزائد عن الواجب على وجه التمليك لها فقد ملكته، وليس له إذا طلقها هو ابتداء أن يطالبها بذلك، لكن إن كانت الكارهة لصحبته، وأرادت الاختلاع منه، فلتعطه ما أعطاها من ذلك ومن الصداق الذي ساقه إليها، والباقي في ذمته، ليخلعها، كما مضت سنة رسول الله ﷺ في امرأة ثابت بن قيس بن شماس، حيث أمرها برد ما أعطاها.

وإن كان قد أعطاها لتتجمل به، كما يركبها دابته، ويحذيها غلامه، ونحو ذلك، لا على وجه التمليك للعين، فهو باق على ملكه، فله أن يرجع فيه متي شاء، سواء طلقها أو لم يطلقها، وإن تنازعا هل أعطاها على وجه التمليك، أو على وجه الإباحة؟ ولم يكن هناك عرف يقضي به، فالقول قوله مع يمينه أنه لم يملكها ذلك. وإن تنازعا هل أعطاها شيئا أو لم يعطها، ولم يكن حجة يقضي له بها، لا شاهد واحد، ولا إقرار، ولا غير ذلك، فالقول قولها مع يمينها أنه لم يعطها.
سئل عن رجل باع شيئا من قماشه فخاصمته زوجته

وسئل رحمه الله عن رجل باع شيئا من قماشه، فخاصمته زوجته لأجل أنه باع قماشه، وحصل بينهما شنآن عليه، وهم في الخصام، وجاء ناس من قرابتها، فقال الرجل للناس الذين حضروا: هذه المرأة إن لم تقعد مثل الناس وإلا تخلي وتزوج. ثم قال: إن أعطيتني كتابك لهذا الرجل كنت طالقا ثلاثا وكان نيته أنها تبرئه، فحنقت وأعطت الكتاب للرجل: فهل يقع الطلاق أم لا؟

فأجاب:

إذا كان مقصوده إعطاء الكتاب على وجه الإبراء فأعطته عطاء مجردًا ولم تبرئه منه، لم يقع به الطلاق. وإذا قال: كان مقصودي الإعطاء في ذلك؛ إذ لا غرض له إلا في الإبراء، وتسليم الصداق يمنع من الادعاء به ومجرد إيداعه فلا غرض له. والله أعلم.
سئل عن رجل مالكي قال لوالد الزوجة إن أبرأتني ابنتك أوقعت عليها الطلاق

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل مالكي المذهب حصل له نكد بينه وبين والد زوجته فحضر قدام القاضي، فقال الزوج لوالد الزوجة: إن أبرأتني ابنتك أوقعت عليها الطلاق. فقال والدها أنا أبرأتك. فحضر الزوج ووالد الزوجة قدام بعض الفقهاء، فأبرأه والدها بغير حضورها، وبغير إذنها: فهل يقع الطلاق أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، أصل هذه المسألة فيه نزاع بين العلماء، فمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المنصوص المعروف عنهم: أنه ليس للأب أن يخالع على شيء من مال ابنته، سواء كانت محجورًا عليها أو لم تكن؛ لأن ذلك تبرع بمالها فلا يملكه، كما لا يملك إسقاط سائر ديونها. ومذهب مالك يجوز له أن يخالع عن ابنته الصغيرة بكرًا كانت أو ثيبًا؛ لكونه يلي مالها. وروي عنه: أن له أن يخالع عن ابنته البكر مطلقا؛ لكونه يجبرها على النكاح. وروي عنه: يخالع عن ابنته مطلقا، كما يجوز له أن يزوجها بدون مهر المثل للمصلحة، وقد صرح بعض أصحاب الشافعي وجها في مذهبه أنه يجوز في حق البكر الصغيرة أن يخالعها بالإبراء من نصف مهرها إذا قلنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، وخطأه بعضهم؛ لأنه إنما يملك الإبراء بعد الطلاق؛ لأنه إذا ملك إسقاط حقها بعد الطلاق لغير فائدة فجواز ذلك لمنفعتها وهو يخلعها من الزوج أولي؛ ولهذا يجوز عندهم كلهم أن يختلعها الزوج بشيء من ماله، وكذلك لها أن تخالعه بمالها إذا ضمن ذلك الزوج. فإذا جاز له أن يختلعها ولم يبق عليها ضرر إلا إسقاط نصف صداقها.

ومذهب مالك يخرج على أصول أحمد من وجوه:

منها أن الأب له أن يطلق ويخلع امرأة ابنه الطفل في إحدى الروايتين، كما ذهب إليه طوائف من السلف. ومالك يجوز الخلع دون الطلاق؛ لأن في الخلع معاوضة. وأحمد يقول: له التطليق عليه؛ لأنه قد يكون ذلك مصلحة له لتخليصه من حقوق المرأة وضررها، وكذلك لا فرق في إسقاط حقوقه بين المال وغير المال.

وأيضا، فإنه يجوز في إحدى الروايتين للحكم في الشقاق أن يخلع المرأة بشيء من مالها بدون إذنها، ويطلق على الزوج بدون إذنه، كمذهب مالك وغيره. وكذلك يجوز للأب أن يزوج المرأة بدون مهر المثل، وعنده في إحدى الروايتين أن الأب بيده عقدة النكاح، وله أن يسقط نصف الصداق. ومذهبه أن للأب أن يتملك لنفسه من مال ولده ما لا يضر بالولد، حتى لو زوجها واشترط لنفسه بعض الصداق، جاز له ذلك. وإذا كان له من التصرف في المال والتملك هذا التصرف لم يبق إلا طلبه لفرقتها، وذلك يملكه بإجماع المسلمين. ويجوز عنده للأب أن يعتق بعض رقبة المولي عليه للمصلحة.

فقد يقال: الأظهر أن المرأة إن كانت تحت حجر الأب له أن يخالع معاوضة وافتداء لنفسها من الزوج فيملكه الأب، كما يملك غيره من المعاوضات، وكما يملك افتداءها من الأسر، وليس له أن يفعل ذلك إلا إذا كان مصلحة لها. وقد يقال: قد لا يكون مصلحتها في الطلاق، ولكن الزوج يملك أن يطلقها وهو لا يقدر على منعه، فإذا بذل له العوض من غيرها لم يمكنها منعه من البذل. فأما إسقاط مهرها وحقها الذي تستحقه بالنكاح فقد يكون عليها في ذلك ضرر. والأب قد يكون غرضه باختلاعها حظه لا لمصلحتها، وهو لا يملك إسقاط حقها بمجرد حظه بالاتفاق.

فعلى قول من يصحح الإبراء يقع الإبراء والطلاق. وعلى قول من لا يجوز إبراءه إن ضمنه وقع الطلاق بلا نزاع، وكان على الأب للزوج مثل الصداق عند أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والشافعي في القديم. وعنده في الجديد: إنما عليه مهر المثل. وأما إن لم يضمنه إن علق الطلاق بالإبراء. فقال له: إن أبرأتني فهي طالق، فالمنصوص عن أحمد أنه يقع الطلاق إذا اعتقد الزوج أنه تبرأ، ويرجع على الأب بقدر الصداق؛ لأنه غره، وهو إحدى الروايتين في مذهب أبي حنيفة، وفي الأخرى لا يقع شيء. وهو قول الشافعي. وهو قول في مذهب أحمد؛ لأنه لم يبرأ في نفس الأمر. والأولون قالوا: وجد الإبراء. وأمكن أن يجعل الأب ضامنا بهذا الإبراء. وأما إن طلقها طلاقا لم يعلقه على الإبراء، فإنه يقع، لكن عند أحمد يضمن للزوج الصداق؛ لأنه غره. وعند الشافعي لا يضمن له شيئا؛ لأنه لم يلزم شيئا. والله أعلم.
سئل عن امرأة أبرأت الزوج من حقوق الزوجية قبل علمها بالحمل

وسئل رحمه الله عن امرأة طلقها زوجها ثلاثا وأبرأت الزوج من حقوق الزوجية قبل علمها بالحمل، فلما بان الحمل طالبت الزوج بفرض الحمل: فهل يجوز لها ذلك أم لا؟

فأجاب:

إذا كان الأمر كما ذكر لم تدخل نفقة الحمل في الإبراء، كان لها أن تطلب نفقة الحمل. ولو علمت بالحمل وأبرأته من حقوق الزوجية فقط لم يدخل في ذلك نفقة الحمل؛ لأنها تجب بعد زوال النكاح، وهي واجبة للحمل في أظهر قولي العلماء، كأجرة الرضاع. وفي الآخر هي للزوجة من أجل الحمل فتكون من جنس نفقة الزوجات، والصحيح أنها من جنس نفقة الأقارب كأجرة الرضاع، اللهم إلا أن يكون الإبراء بمقتضى أنه لا تبقى بينهما مطالبة بعد النكاح أبدًا، فإذا كان الأمر كذلك ومقصودهما المبارأة، بحيث لا يبقي للآخرة مطالبة بوجه، فهذا يدخل فيه الإبراء من نفقة الحمل.

آخر المجلد الثاني والثلاثين


===============

==============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج10. الادب المفرد للبخاري {من1182 الي1322 }

  ج10. الادب المفرد للبخاري {من 1182 الي 1322  }   المحتويات المقدمة باب الاحتباء باب من برك على ركبتيه باب الاستلقاء باب الضجعة...