كتاب الوقف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
سئل عن رجل احتكر من رجل قطعة أرض
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى عن رجل احتكر من رجل قطعة أرض بستان، ثم إن المحتكر عمر في أرض البستان صورة مسجد، وبني فيها محرابًا، وقال لمالك الأرض: هذا عمرته مسجدًا فلا تأخذ مني حكره، فأجابه إلى ذلك، ثم إن مالك الأرض باع البستان، ولم يستثن منه شيئا، فهل يصير هذا المكان مسجدًا بذلك أم لا؟ وإذا لم يصر مسجدًا بذلك، فهل يكون عدم أخذ مالك الأرض الحكر يصير مسجدًا؟ وإذا لم يصر بيع البستان جميعه، هل يجوز لباني صورة المسجد أن يضع ما بناه؟
فأجاب:
إذا لم يسبل للناس كما تسبل المساجد، بحيث تصلي فيه الصلوات الخمس التي تصلي في المساجد، لم يصر مسجدًا بمجرد الإذن في العمارة المذكورة، وإذا لم يكن قربة يقتضي خروجه من المبيع دخل في المبيع، فإن الشروع في تصييره مسجدًا لا يجعله مسجدًا.
وكذلك القول في العمارة، لكن ينبغي لمن أخرج ثمن ذلك ألا يعود إلى ملكه، كمن أخرج من ماله مالًا ليتصدق به، فلم يجد السائل ينبغي له أن يمضي ذلك، ويتصدق به على سائل آخر، ولا يعيده إلى ملكه، وإن لم يجب.
وإذا صرف مثل هذا المكان في مصالح مسجد آخر جاز ذلك، بل إذا صار مسجدًا، وكان بحيث لا يصلي فيه أحد جاز أن ينقل إلى مسجد ينتفع به، بل إذا جاز أن يباع ويصرف ثمنه في مسجد آخر، بل يجوز أن يعمر عمارة ينتفع بها لمسجد آخر.
سئل عمن بني مسجدا وأوقف حانوتا على مؤذن وقيم معين
وسئل رحمه الله عمن بني مسجدًا، وأوقف حانوتًا على مؤذن وقيم معين، ولم يتسلم من ريع الحانوت شيئا في حياته، فهل يجوز تناوله بعد وفاته؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا وقف وقفًا، ولم يخرج من يده، ففيه قولان مشهوران لأهل العلم:
أحدهما: يبطلُ، وهو مذهب مالك والإمام أحمد في إحدى الروايتين وقول أبي حنيفة وصاحبه محمد.
والثاني: يلزم، وهو مذهب الشافعي والإمام أحمد في إحدى الروايتين عن أحمد، والقول الثاني في مذهب أبي حنيفة وقول أبي يوسف. والله أعلم.
سئل عن البناء على الزاوية والمسجد
وسئل عن حقوق زاوية وهو بظاهرها، وقد أقيم فيه محراب منذ سنين، فرأي من له النظر على المكان المذكور المصلحة في بناء طبقة على ذلك المحراب، إما لسكن الإمام، أو لمن يخدم المكان من غير ضرورة تعود على المكان المذكور، ولا على أهله، فهل يجوز ذلك؟
فأجاب:
إذا لم يكن ذلك مسجدًا معدًا للصلوات الخمس، بل هو من حقوق المكان؛ جاز أن يبني فيه ما يكون من مصلحة المكان، ومجرد تصوير محراب لا يجعله مسجدًا، لاسيما إذا كان المسجد المعد للصلوات، ففي البناء عليه نزاع بين العلماء.
سئل عمن استأجر أرضا وبني فيها
وسئل رحمه الله عمن استأجر أرضًا، وبني فيها دارًا ودكانًا أو شيئا يستحق له كري عشرين درهمًا كل شهر، إذا يعمر، وعليه حكر في كل شهر درهم ونصف توقف قديمًا، فهل يجوز للمستأجر أن يعمر مع ما قد عمره من الملك مسجدًا لله ويوقف الملك على المسجد؟
فأجاب:
يجوز أن يقف البناء الذي بناه في الأرض المستأجرة، سواء وقفه مسجدًا أو غير مسجد، ولا يسقط ذلك حق أهل الأرض، فإنه متى انتقضت مدة الإجارة وانهدم البناء، زال حكم الوقف، سواء كان مسجدًا أو غير مسجد، وأخذوا أرضهم فانتفعوا بها، وما دام البناء قائما فيها فعليه أجرة المثل، ولو وقف على ربع، أو دار مسجدًا، ثم انهدمت الدار، أو الربع، فإن وقف العلو لا يسقط حق ملاك السفل، كذلك وقف البناء لا يسقط على ملاك الأرض.
سئل عمن وصى أو وقف على جيرانه فما الحكم
وسئل رحمه الله عمن وصى، أو وقف على جيرانه فما الحكم؟
فأجاب:
إذا لم يعرف مقصود الواقف والوصي، لا بقرينة لفظية ولا عرفية، ولا كان له عرف في مسمي الجيران، رجع في ذلك إلى المسمي الشرعي وهو أربعون دارًا من كل جانب؛ لما روي عن النبي ﷺ أنه قال: (الجيران أربعون من هاهنا وهاهنا، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه). والله أعلم.
سئل عن رجل معرف على المراكب وبني مسجدا
وسئل عن رجل معرف على المراكب، وبني مسجدًا، وجعل للإمام في كل المراكب شهر أجرة من عنده، فهل هو حلال أم حرام؟ وهل تجوز الصلاة في المسجد أم لا؟
فأجاب:
إن كان يعطي هذه الدراهم من أجرة المراكب التي له جاز أخذها، وإن كان يعطيها مما يأخذ من الناس بغير حق فلا. والله أعلم.
سئل عن قوم بيدهم وقف من جدهم من أكثر من مائة وخمسين سنة
وسئل رحمه الله عن قوم بيدهم وقف من جدهم من أكثر من مائة وخمسين سنة على مشهد مضاف إلى شيث، وعلى ذرية الواقف والفقراء، ونظره لهم، والوقف معروف بذلك من الزمان القديم. وقد ثبت ذلك في مجلس الحكم الشريف، وبيدهم مراسيم الملوك من زمان نور الدين، وصلاح الدين تشهد بذلك، وتأمر بإعفاء هذا الوقف، ورعاية حرمته، وقد قام نظار هذا الوقف في هذا الوقت طلبوا أن يفرقوا نصف المغل في عمارة المشهد، والنصف الذي يبقي لذريته يأخذونه لا يعطونهم إياه، ولا يصرفونه في مصارف الوقف؟
فأجاب:
لا يجوز هذا للناظر، ولا يجوز تمكينهم من أن يصرفوا الوقف في غير مصارفه الشرعية ولا حرمان ورثة الواقف والفقراء الداخلين في شرط الواقف، بل ذريته والفقراء أحق بأن يصرف إليهم ما شرط لهم من المشهد المذكور، فكيف يحرمون والحال هذه بل لو كان الوقف على المشهد وحده؛ لكان صرف ما يفضل إليهم مع حاجتهم أولى من صرفه إلى غيرهم.
فمن صرف بعض الوقف على المشهد، وأخذ بعضه يصرفه فيما لم يقتضه الشرط، وحرم الذرية الداخلين في الشرط، فقد عصى الله ورسوله، وتعدي حدوده من وجوب أداء الوقف على ذرية الواقف، جائر باتفاق أئمة المسلمين المجوزين للوقف، وهو أمر قديم من زمن الصحابة والتابعين.
وأما بناء المشاهد على القبور والوقف عليها، فبدعة لم يكن على عهد الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم، بل ولا على عهد الأربعة.
وقد اتفق الأئمة على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد على القبور، ولا الإعانة على ذلك بوقف ولا غيره، ولا النذر لها، ولا العكوف عليها، ولا فضيلة للصلاة والدعاء فيها على المساجد الخالية عن القبور، فإنه يعرف أن هذا خلاف دين الإسلام المعلوم بالاضطرار المتفق عليه بين الأئمة، فإنه إن لم يرجع فإنه يستتاب، بل قد نص الأئمة المعتبرون على أن بناء المساجد على القبور مثل هذا المشهد ونحوه حرام؛ لما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا. قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا.
وفي صحيح مسلم عنه ﷺ أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)، وفي السنن عنه ﷺ أنه قال: (لعن الله زوارات القبور؛ والمتخذين عليها المساجد والسرج)، فقد لعن من يبني مسجدًا على قبر، ويوقد فيه سراجًا مثل قنديل وشمعة ونحو ذلك، فكيف يصرف مال أحدهم إلى ما نهي عنه رسول الله ﷺ، ويترك صرف ما شرط لهم مع استحقاقهم ذلك في دين الله؟ نعم، لو كان هذا مسجدًا لله خاليًا عن قبر لكانوا هم وهو في متناول شرط الواقف لهما سواء.
أما ما يصرف لبناء المشهد فمعصية لله، والصرف إليهم واجب، وإن كان المسجد منفصلًا عن القبر، فحكمه حكم سائر مساجد المسلمين، ولكن لا فضيلة له على غيره. والله أعلم.
سئل عن رجل وقف وقفا على مدرسة
وسئل رحمه الله عن رجل وقف وقفا على مدرسة، وشرط في كتاب الوقف أنه لا ينزل بالمدرسة المذكورة إلا من لم يكن له وظيفة بجامكية ولا مرتب، وأنه لا يصرف ريعها لمن له مرتب في جهة أخرى، وشرط لكل طالب جامكية معلومة، فهل يصح هذا الشرط والحالة هذه، وإذا صح فنقص ريع الوقف، ولم يصل كل طالب إلى الجامكية المقررة له، فهل يجوز للطالب أن يتناول جامكية في مكان آخر؟ وإذا نقص ريع الوقف ولم يصل كل طالب إلى تمام حقه، فهل يجوز للناظر أن يبطل الشرط المذكور أم لا؟ وإذا حكم بصحة الوقف المذكور حاكم: هل يبطل الشرط والحالة هذه؟
فأجاب:
أصل هذه المسائل: أن شرط الواقف إن كان قربة وطاعة لله ورسوله كان صحيحًا، وإن لم يكن شرطًا لازمًا، وإن كان مباحًا، كما لم يسوغ النبي ﷺ السبق إلا في خف أو حافر أو نصل، وإن كانت المسابقة بلا عوض قد جوزها بالأقدام وغيرها؛ ولأن الله تعالى قال في مال الفيء: { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ } [1]، فعلم أن الله يكره أن يكون المال دولة بين الأغنياء.
وإن كان الغني وصفًا مباحًا فلا يجوز الوقف على الأغنياء، وعلى قياسه سائر الصفات المباحة؛ ولأن العمل إذا لم يكن قربة لم يكن الواقف مثابًا على بذل المال فيه، فيكون قد صرف المال فيما لا ينفعه، لا في حياته ولا في مماته، ثم إذا لم يكن للعامل فيه منفعة في الدنيا، كان تعذيبًا له بلا فائدة تصل إليه، ولا إلى الواقف، ويشبه ما كانت الجاهلية تفعله من الأحباس المنبه عليها في سورة الأنعام والمائدة.
وإذا خلا العمل المشروط في العقود كلها عن منفعة في الدين أو في الدنيا، كان باطلًا بالاتفاق في أصول كثيرة؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى، فيكون باطلًا، ولو كان مائة شرط.
مثال ذلك: أن يشرط عليه التزام نوع من المطعم أو الملبس أو المسكن الذي لم تستحبه الشريعة، أو ترك بعض الأعمال التي تستحب الشريعة عملها ونحو ذلك.
يبقي الكلام في تحقيق هذا المناط في اعتبار المسائل، فإنه قد يكون متفقًا عليه وقد يكون مختلفًا فيه؛ لاختلاف الاجتهاد في بعض الأعمال، فينظر في شرط ترك من جهة أخرى، فما لم يكن فيه مقصود شرعي خالص أو راجح كان باطلًا، وإن كان صحيحًا، ثم إذا نقص الريع عما شرطه الواقف جاز للطالب أن يرتزق تمام كفايته من جهة أخرى؛ لأن رزق الكفاية لطلبة العلم من الواجبات الشرعية، بل هو من المصالح الكلية التي لا قيام للخلق بدونها، فليس لأحد أن يشرط ما ينافيها، فكيف إذا لم يعلم أنه قصد ذلك؟
ويجوز للناظر مع هذه الحالة أن يوصل إلى المرتزقة بالعلم ما جعل لهم وألا يمنعهم من تناول تمام كفايتهم من جهة أخرى يرتبون فيها، وليس هذا إبطالًا للشرط، لكنه ترك العمل به عند تعذره، وشروط الله حكمها كذلك وحكم الحاكم لا يمنع ما ذكر.
وهذه الأرزاق المأخوذة على الأعمال الدينية إنما هي أرزاق ومعاون على الدين، بمنزلة ما يرتزقه المقاتلة، والعلماء من الفيء، والواجبات الشرعية تسقط بالعذر؛ وليست كالجعالات على عمل دنيوي، ولا بمنزلة الإجارة عليها، فهذه حقيقة حال هذه الأموال. والله أعلم.
سئل عن رجل وقف مدرسة وشرط من يكون له بها وظيفة ألا يشتغل بوظيفة أخرى
وسئل عن رجل وقف مدرسة، وشرط من يكون له بها وظيفة ألا يشتغل بوظيفة أخرى بغير مدرسته، وشرط له فيها مرتبًا معلومًا، وقال في كتاب الوقف: وإذا حصل في ريع هذه المدرسة نقص بسبب محل أو غيره كان ما بقي من ريع هذا الوقف مصروفًا في أرباب الوظائف بها، لكل منهم بالنسبة إلى معلومه بالمحاصصة. وقال في كتاب الوقف: وإذا حصل في السعر غلاء، فللناظر أن يرتب لهم زيادة على ما قرر لهم بحسب كفايتهم في ذلك الوقت، ثم إذا حصل في ريع الوقف نقص من جهة نقص وقفها بحيث إنه إذا ألغي هذا الشرط من عدم الجمع بينها وبين غيرها، يؤدي إلى تعطيل المدرسة، فهل يجوز لمن يكون بها أن يجمع بينها وبين غيرها ليحصل له قدر كفايته والحالة هذه، حيث راعي الواقف الكفاية لمن يكون بها أو كما تقدم في فصل غلاء السعر أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، هذه الشروط المشروطة على من فيها كعدم الجمع إنما يلزم الوفاء بها إذا لم يفض ذلك إلى الإخلال بالمقصود الشرعي الذي هو يكون اسمك، إما واجب، وإما مستحب، فأما المحافظة على بعض الشروط مع فوات المقصود بالشروط فلا يجوز، فاشتراط عدم الجمع باطل مع ذهاب بعض أصل الوقف، وعدم حصول الكفاية للمرتب بها لا يجب التزامه، ولا يجوز الإلزام به لوجهين:
أحدهما: أن ذلك إنما شرط عليهم مع وجود ريع الموقوف عليهم، سواء كان كاملًا أو ناقصًا، فإذا ذهب بعض أصل الوقف لم تكن الشروط مشروطة في هذه الحال، وفرق بين نقص ريع الوقف مع وجود أصله، وبين ذهاب بعض أصله.
الوجه الثاني: أن حصول الكفاية المرتب بها أمر لابد منه، حتى لو قدر أن الواقف صرح بخلاف ذلك كان شرطًا باطلًا، مثل أن يقول: إن المرتب بها لا يرتزق من غيرها ولو لم تحصل له كفايته، فلو صرح بهذا لم يصح؛ لأن هذا شرط يخالف كتاب الله، فإن حصول الكفاية لابد منها، وتحصيلها للمسلم واجب، إما عليه، وإما على المسلمين، فلا يصح شرط يخالف ذلك.
وقد ظهر أن الواقف لم يقصد ذلك؛ لأنه شرط لهم الكفاية، ولكن ذهاب بعض أموال الوقف بمنزلة تلف العين الموقوفة ونحو ذلك.
والوقف سواء شبه بالجعل أو بالأجرة أو بالرزق، فإن ما على العامل أن يعمل إذا وفي له بما شرط له. والله أعلم.
سئل عن رجل وقف وقفا على مسجد وأكفان الموتى وشرط فيه الأرشد
وسئل رحمه الله عن رجل وقف وقفًا على مسجد، وأكفان الموتى، وشرط فيه الأرشد فالأرشد من ورثته، ثم للحاكم، وشرط لإمام المسجد ستة دراهم، والمؤذن والقيم بالتربة ستة دراهم، وشرط لهما دارين لسكناهما، ثم إن ريع الوقف زاد خمسة أمثاله، بحيث لا يحتاج الأكفان إلى زيادة، فجعل لهما الحاكم كل شهر ثلاثين درهمًا، ثم اطلع بعد ذلك على شرط الواقف فتوقف في أن يصرف عليهم ما زاد على شرط الواقف، فهل يجوز له ذلك؟ وهل يجوز لهما تناوله؟
وأيضًا الدار المذكورة انهدمت، فأحكرها ناظر الوقف كل سنة بدرهمين، فعمرها المستأجر، وأجرها في السنة بخمسين درهمًا، فهل يصح هذا الإحكار؟
فأجاب:
نعم يجوز أن يعطى الإمام والمؤذن من مثل هذا الوقف الفائض رزق مثلهما وإن كان زائدًا على ثلثين، بل إذا كانا فقيرين، وليس لما زاد مصرف معروف، جاز أن يصرف إليهما منه تمام كفايتهما؛ وذلك لوجهين:
أحدهما: أن تقدير الواقف دراهم مقدرة في وقف مقدار ريع، قد يراد به النسبة، مثل أن يشرط له عشرة، والمغل مائة، ويراد به العشر، فإن كان هناك قرينة تدل على إرادة هذا عمل به. ومن المعلوم في العرف أن الوقف إذا كان مغله مائة درهم، وشرط له ستة ثم صار خمسمائة، فإن العادة في مثل هذا أن يشرط له أضعاف ذلك، مثل خمسة أمثاله، ولم تجر عادة من شرط ستة من مائة أن يشترط ستة من خمسمائة، فيحمل كلام الناس على ما جرت به عادتهم في خطابهم.
الثاني: أن الواقف لو لم يشترط هذا، فزائد الوقف يصرف في المصالح التي هي نظير مصالحه وما يشبهها، مثل صرفه في مساجد أخر، وفي فقراء الجيران ونحو ذلك؛ لأن الأمر دائر بين أن يصرف في مثل ذلك، أو يرصد لما يحدث من عمارة ونحوه، ورصده دائما مع زيادة الريع لا فائدة فيه، بل فيه مضرة، وهو حبسه لمن يتولي عليهم من الظالمين المباشرين والمتولين الذين يأخذونه بغير حق. وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه حض الناس على مكاتب يجمعون له، ففضلت فضلة، فأمر بصرفها في المكاتبين، والسبب فيه أنه إذا تعذر المعين، صار الصرف إلى نوعه.
ولهذا كان الصحيح في الوقف هو هذا القول، وأن يتصدق بما فضل من كسوته، كما كان عمر بن الخطاب يتصدق كل عام بكسوة الكعبة يقسمها بين الحجاج.
وإذا كان كذلك، فمن المعلوم أن صرف الفاضل إلى إمامه ومؤذنه مع الاستحقاق أولى من الصرف إلى غيرهما، وتقدير الواقف لا يمنع استحقاق الزيادة بسبب آخر، كما لا يمنع استحقاق غير مسجده.
وإذا كان كذلك، وقدر الأكفان التي هي المصروفة ببعض الريع، صرف ما يفضل إلى الإمام والمؤذن ما ذكر. والله أعلم.
سئل عن رجل أوقف وقفا وشرط التنزيل فيه للشيخ
وسئل رحمه الله عن رجل أوقف وقفًا، وشرط التنزيل فيه للشيخ، وشرط ألا ينزل فيه شرير ولا متجوه، وأنه نزل فيه شخص بالجاه، ثم بدا منه أمر يدل على أنه شرير، فرأى الشيخ المصلحة في صرفه اعتمادًا على شرط الواقف، ونزل الشيخ شخصًا آخر بطريق شرط الواقف، ومرسوم ألفاظه، فهل يجوز صرف من نزل بشرط الواقف بغير مستند شرعي، وإعادة المتجوه الشرير المخالف لشرط الواقف؟ وهل يحرم على الناظر والشيخ ذلك، ويقدح ذلك في ولايتهما؟ وهل يحرم على الساعي في ذلك المساعد له؟
فأجاب:
إذا علم شرط الواقف، عدل عنه إلى شرط الله قبل شرط الواقف إذا كان مخالفًا لشرط الله.
فإن الجهات الدينية مثل الخوانك، والمدارس وغيرها لا يجوز أن ينزل فيها فاسق، سواء كان فسقه بظلمه للخلق، وتعديه عليهم بقوله وفعله، أو فسقه بتعديه حقوق الله التي بينه وبين الله، فإن كلًا من هذين الضربين يجب الإنكار عليه وعقوبته، فكيف يجوز أن يقرر في الجهات الدينية ونحوها؟ فكيف إذا شرط الواقف ذلك، فإنه يصير وجوبه مؤكدًا.
ومن نزل من أهل الاستحقاق تنزيلًا شرعيًا لم يجز صرفه لأجل هذا الظلم ولا لغيره، فكيف يجوز أن يستبدل الظالم بالعادل، والفاجر بالبر؟ ومن أعان على ذلك فقد أعان على الإثم والعدوان، سواء علم شرط الواقف، أو لم يعلم.
سئل عن رجل أوقف وقفا على مدرسة وشرط فيها أن ثلث ريع الوقف للعمارة
وسئل رحمه الله عن رجل أوقف وقفًا على مدرسة، وشرط فيها أن ثلث ريع الوقف للعمارة، والثلثين يكون للفقهاء وللمدرسة وأرباب الوظائف، وشرط أن الناظر يري بالمصلحة والحال جاريًا كذلك مدة ثلاثين سنة، وأن حصر المدرسة وملء الصهريج يكون من جامكية الفقهاء؛ لأن لهم غيبة وأماكن غيرها؛ وأن معلوم الإمام في كل شهر من الدراهم عشرون درهما، وكذلك المؤذن، فطلب الفقهاء بعد هذه المسألة أرباب الوظائف أن يشاركوهم فيما يؤخذ من جوامكهم، لأجل الحصر، وملء الصهريج، وأن أرباب الوظائف قائمون بهذه الوظيفة، ولو لم يكن لهم غيرها: هل يجب للناظر موافقة الفقهاء على ما طلبوه، ونقص هؤلاء المساكين عن معلومهم اليسير أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا رأى الناظر تقديم أرباب الوظائف الذين يأخذون على عمل معلوم كالإمام والمؤذن فقد أصاب في ذلك، إذا كان الذي يأخذونه لا يزيد على جعل مثلهم في العادة، كما أنه يجب أن يقدم الجابي والعامل والصانع والبناء ونحوهم ممن يأخذ على عمل يعمله في تحصيل المال، أو عمارة المكان، يقدمون بأخذ الأجرة.
والإمامة والأذان شعائر لا يمكن إبطالها، ولا تنقيصها بحال، فالجاعل جعل مثل ذلك لأصحابها يقدم على ما يأخذه الفقهاء، وهذا بخلاف المدرس والمفيد والفقهاء، فإنهم من جنس واحد.
وإن أمكن صرف ثمن الحصر، وملء الصهريج من ثلث العمارة أو غيره، يجعل ذلك، ويوفر الثلثان على مستحقيه، فإنه إذا شرط أن الثلث للعمارة والثلثين لأرباب الوظائف؛ لم يكن أخذ ثمن الحصر ونحوها من هذا أولى من صرفها من هذا، إلا أن يكون للوقف شرط شرعي بخلاف هذا.
سئل عمن وقف تربة وشرط المقري عزبا فهل يحل التنزل مع التزوج
وسئل عمن وقف تربة وشرط المقري عزبا، فهل يحل التنزل مع التزوج؟
فأجاب:
هذا شرط باطل، والمتأهل أحق بمثل هذا من المتعزب إذا استويا في سائر الصفات؛ إذ ليس في التعزب هنا مقصود شرعي.
سئل عن رجل وقف وقفا وشرط النظر لنفسه في حياته
وسئل رحمه الله عن رجل وقف وقفًا على عدد معلوم من النساء والأرامل والأيتام، وشرط النظر لنفسه في حياته، ثم الصالح من ولده بعد وفاته ذكرًا كان أو أنثي، وللواقف أقارب من أولاد أولاده ممن هو محتاج، وقصد الناظر أن يميزهم على غيرهم في الصرف: هل يجوز أن يميزهم؟
فأجاب:
إذا استووا هم وغيرهم في الحاجة، فأقارب الواقف يقدمون على نظرائهم الأجانب، كما يقدمون لصلته في حياته، كما قال النبي ﷺ: (صَدقتُك على المسلمين صدقة، وعلى ذوي الرحم صدقة وصلة).
ولهذا يؤمر أن يوصى لأقاربه الذين لا يرثون، إما أمر إيجاب على قول بعض العلماء، وإما أمر استحباب كقول الأكثرين، وهما روايتان عن أحمد. والله أعلم.
سئل عن رجل وقف وقفا ومات الواقف ولم يثبت الوقف
وسئل قدس الله روحه عن رجل وقف وقفًا على جهة معينة، وشرط شروطًا، ومات الواقف ولم يثبت الوقف على حاكم، وعدم الكتاب قبل ذلك، ثم عمل محضرًا مجردًا يخالف الشروط والأحكام المذكورة في كتاب الوقف، وأثبت على حاكم بعد تاريخ الوقف المتقدم ذكره سنتين، ثم ظهر كتاب الوقف، وفيه شروط لم يتضمن المحضر شيئا منها، وتوجه الكتاب للثبوت، فهل يجوز منع ثبوته، والعمل المذكور أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يجوز منع ثبوته بحال من الأحوال، بل إذا أمكن ثبوته وجب ثبوته والعمل به، وإن خالفه المحضر المثبت بعده، وإن حكم بذلك المحضر حاكم، فالحاكم به معذور بكونه لم يثبت عنده ما يخالفه، ولكن إذا ظهر ما يقال: إنه كتاب الوقف، وجب التمكن من إثباته بالطريق الشرعي، فإن ثبت وجب العمل به. والله أعلم.
سئل عن رجل أوقف وقفا وشرط في بعض شروطه أنهم يقرؤون ما تيسر
وسئل عن رجل أوقف وقفًا، وشرط في بعض شروطه أنهم يقرؤون ما تيسر، ويسبحون ويهللون ويكبرون ويصلون على النبي ﷺ بعد الفجر إلى طلوع الشمس، فهل الأفضل السر أو الجهر؟ وإن شرط الواقف فما يكون؟
فأجاب:
الحمد لله، بل الإسرار بالذكر والدعاء كالصلاة على النبي ﷺ وغيرها أفضل، ولا هو الأفضل مطلقا، إلا لعارض راجح، وهو في هذا الوقت أفضل خصوصًا، فإن الله يقول: { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } [2]، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه لما رأى الصحابة رضي الله عنهم يرفعون أصواتهم بالذكر قال: (أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، وإنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)، وفي الحديث: (خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما كفى). والله أعلم.
سئل عن رجل وقف وقفا وشرط فيه شروطا على جماعة يقرؤون عند قبره
وسئل رحمه الله عن رجل وقف وقفًا وشرط فيه شروطًا على جماعة قراء، وألهم يحضرون كل يوم بعد صلاة الصبح يقرؤون ما تيسر من القرآن إلى طلوع الشمس، ثم يتداولون النهار بينهم يومًا، مثنى مثنى، ويجتمعون أيضًا بعد صلاة العصر يقرأ كل منهم حزبين، ويجتمعون أيضًا في كل ليلة جمعة، جملة اجتماعهم في الشهر سبعة وسبعون مرة على هذا النحو عند قبره بالتربة، وشرط عليهم أيضًا أن يبيتوا كل ليلة بالتربة المذكورة، وجعل لكل منهم سكنًا يليق به، وشرط لهم جاريًا من ريع الوقف يتناولون في كل يوم، وفي كل شهر، فهل يلزمهم الحضور على شرطه عليهم؟ أم يلزمهم أن يتصفوا بتلك الصفات في أي مكان أمكن إقامتهم بوظيفة القراءة، أو لا يتعين المكان ولا الزمان؟
وهل يلزمهم أيضًا أن يبيتوا بالمكان المذكور أم لا؟ وإن قيل باللزوم فاستخلف أحدهم من يقرأ عنه وظيفته في الوقف، والمكان، والواقف شرط في كتاب الوقف أن يستنيبوا في أوقات الضرورات، فما هي الضرورة التي تبيح النيابة؟
وأيضًا، إن نقصهم الناظر من معلومهم الشاهد به كتاب الوقف، فهل يجوز أن ينقصوا مما شرط عليهم؟ وسواء كان النقص بسبب ضرورة، أو من اجتهاد الناظر، أو من غير اجتهاده، وليشف سيدنا بالجواب مستوعبًا بالأدلة، ويجلي به عن القلوب كل عسر مثابًا في ذلك.
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، أصل هذه المسألة وهو على أهل الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى، والوصية لأهلها والنذر لهم أن تلك الأعمال لابد أن تكون من الطاعات التي يحبها الله ورسوله، فإذا كانت منهيًا عنها لم يجز الوقف عليها، ولا اشتراطها في الوقف باتفاق المسلمين، وكذلك في النذر ونحوه، وهذا متفق عليه بين المسلمين في الوقف والنذر، ونحو ذلك، ليس فيه نزاع بين العلماء أصلًا.
ومن أصول ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).
ومن أصوله ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة أيضًا، أن رسول الله ﷺ خطب على المنبر لما أراد أهل بريرة أن يشترطوا الولاء لغير المعتق فقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق).
وهذا الحديث الشريف المستفيض الذي اتفق العلماء على تلقيه بالقبول، اتفقوا على أنه عام في الشروط في جميع العقود، ليس ذلك مخصوصًا عند أحد منهم بالشروط في البيع، بل من اشترط في الوقف أو العتق أو الهبة أو البيع أو النكاح أو الإجارة أو النذر أو غير ذلك شروطًا تخالف ما كتبه الله على عباده، بحيث تتضمن تلك الشروط الأمر بما نهى الله عنه، أو النهي عما أمر به، أو تحليل ما حرمه، أو تحريم ما حلله، فهذه الشروط باطلة باتفاق المسلمين في جميع العقود، الوقف وغيره.
وقد روي أهل السنن أبو داود وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: (الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حراما، أو حرم حلالًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا، أو حرم حلالًا).
وحديث عائشة هو من العام الوارد على سبب، وهذا وإن كان أكثر العلماء يقولون: إنه يؤخذ فيه بعموم اللفظ، ولا يقتصر على سببه، فلا نزاع بينهم أن أكثر العمومات الواردة على أسباب لا تختص بأسبابها كالآيات النازلة بسبب معين، مثل آيات المواريث، والجهاد، والظهار، واللعان، والقذف، والمحاربة، والقضاء، والفيء، والربا، والصدقات وغير ذلك، فعامتها نزلت على أسباب معينة مشهورة في كتب الحديث، والتفسير، والفقه، والمغازي، مع اتفاق الأمة على أن حكمها عام في حق غير أولئك المعينين، وغير ذلك مما يماثل قضاياهم من كل وجه.
وكذلك الأحاديث، وحديث عائشة مما اتفقوا على عمومه، وأنه من جوامع الكلم التي أوتيها ﷺ، وبعث بها حيث قال: (من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق).
ولكن تنازعوا في العقود المباحات، كالبيع، والإجارة، والنكاح: هل معني الحديث من اشترط شرطًا لم يثبت أنه خالف فيه شرعًا، أو من اشترط شرطًا يعلم أنه مخالف لما شرعه الله؟ هذا فيه تنازع؛ لأن قوله في آخر الحديث: (كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق) يدل على أن الشرط الباطل ما خالف ذلك، وقوله: (من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل) قد يفهم منه ما ليس بمشروع.
وصاحب القول الأول يقول: ما لم ينه عنه من المباحات، فهو مما أذن فيه فيكون مشروعًا بكتاب الله، وأما ما كان في العقود التي يقصد بها الطاعات كالنذر، فلابد أن يكون المنذور طاعة، فمتى كان مباحًا لم يجب الوفاء به، لكن في وجوب الكفارة به نزاع مشهور بين العلماء، كالنزاع في الكفارة بنذر المعصية، لكن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، ونذر المباح مخير بين الأمرين، وكذلك الوقف أيضًا.
وحكم الشروط فيه يعرف بذكر أصلين: أن الواقف إنما وقف الوقوف بعد موته لينتفع بثوابه، وأجره عند الله لا ينتفع به في الدنيا، فإنه بعد الموت لا ينتفع الميت إلا بالأجر والثواب.
ولهذا فرق بين ما قد يقصد به منفعة الدنيا، وبين ما لا يقصد به إلا الأجر والثواب، فالأول، كالبيع، والإجارة، والنكاح، فهذا يجوز للإنسان أن يبذل ماله فيها ليحصل أغراضًا مباحة دنيوية، ومستحبة، ودينية، بخلاف الأغراض المحرمة. وأما الوقف فليس له أن يبذل ملكه إلا فيما ينفعه في دينه، فإنه إذا بذله فيما لا ينفعه في الدين، والوقف لا ينتفع به بعد موته في الدنيا، صار بذل المال لغير فائدة تعود إليه، لا في دينه، ولا في دنياه وهذا لا يجوز.
ولهذا فرق العلماء بين الوقف على معين وعلى جهة، فلو وقف أو وصى لمعين جاز، وإن كان كافرًا ذميًا؛ لأن صلته مشروعة، كما دل على ذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى: { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } [3]، ومثل حديث أسماء بنت أبي بكر لما قدمت أمها وكانت مشركة، فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: (صلي أمك) والحديث في الصحيحين. وفي ذلك نزل قوله تعالى: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إليهمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [4]، وقوله تعالى: { لَّيْسَ عليكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إليكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [5].
فبين أن عطية مثل هؤلاء إنما يعطونها لوجه الله، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (في كل ذات كبد رطبة أجر). فإذا أوصى أو وقف على معين، وكان كافرًا، أو فاسقًا، لم يكن الكفر والفسق هو سبب الاستحقاق، ولا شرطًا فيه، بل هو يستحق ما أعطاه وإن كان مسلمًا عدلًا، فكانت المعصية عديمة التأثير، بخلاف ما لو جعلها شرطًا في ذلك على جهة الكفار والفساق، أو على الطائفة الفلانية، بشرط أن يكونوا كفارًا أو فساقًا، فهذا الذي لا ريب في بطلانه عند العلماء.
ولكن تنازعوا في الوقف على جهة مباحة، كالوقف على الأغنياء على قولين مشهورين، والصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة والأصول: أنه باطل أيضًا؛ لأن الله سبحانه قال في مال الفيء: { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ ً } [6]، فأخبر سبحانه أنه شرع ما ذكره؛ لئلا يكون الفيء متداولًا بين الأغنياء، دون الفقراء، فعلم أنه سبحانه يكره هذا وينهى عنه ويذمه، فمن جعل الوقف للأغنياء فقط، فقد جعل المال دولة بين الأغنياء، فيتداولونه بطنًا بعد بطن دون الفقراء، وهذا مضاد للّه في أمره ودينه، فلا يجوز ذلك.
وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (لا سبق إلا في خف، أو حافر أو نصل). فإذا كان قد نهى عن بذل السبق إلا فيما يعين على الطاعة والجهاد، مع أنه بذل لذلك في الحياة وهو منقطع غير مؤبد، فكيف يكون الأمر في الوقف؟ وهذا بين في أصول الشريعة من وجهين:
أحدهما: أن بذل المال لا يجوز إلا لمنفعة في الدين أو الدنيا، وهذا أصل متفق عليه بين العلماء، ومن خرج عن ذلك كان سفيهًا، وحجر عليه عند جمهور العلماء الذين يحجرون على السفيه، وكان مبذرًا لماله، وقد نهى الله في كتابه عن تبذير المال: { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } [7] وهو إنفاقه في غير مصلحة وكان مضيعًا لماله، وقد نهى النبي ﷺ عن إضاعة المال في الحديث المتفق عليه عن المغيرة بن شعبة عن النبي ﷺ، أنه كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.
وقد قال الله تعالى في كتابه: { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا } [8].
وقد قال كثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم: هذا مثل توكيل السفيه، وهو أن يدفع الرجل ماله إلى ولده السفيه أو امرأته السفيهة، فينفقان عليه، ويكون تحت أمرهما. وقال آخرون: ذلك أن يسلم إلى السفيه مال نفسه، فإن الله نهى عن تسليم مال نفسه إليه، إلا إذا أونس منه الرشد.
والآية تدل على النوعين كليهما، فقد نهى الله أن يجعل السفيه متصرفًا لنفسه أو لغيره بالوكالة أو الولاية. وصرف المال فيما لا ينفع في الدين ولا الدنيا من أعظم السفه، فيكون ذلك منهيًا عنه في الشرع.
إذا عرف هذا، فمن المعلوم أن الواقف لا ينتفع بوقفه في الدنيا، كما ينتفع بما يبذله في البيع والإجارة والنكاح، وهذا أيضًا لا ينتفع به في الدين إن لم ينفقه في سبيل الله، وسبيل الله طاعته وطاعة رسوله، فإن الله إنما يثيب العباد على ما أنفقوه فيما يحبه، وأما ما لا يحبه فلا ثواب في النفقة عليه. ونفقة الإنسان على نفسه وولده وزوجته واجبة؛ فلهذا كان الثواب عليها أعظم من الثواب على التطوعات على الأجانب.
وإذا كان كذلك، فالمباحات التي لا يثيب الشارع عليها لا يثيب على الإنفاق فيها والوقف عليها، ولا يكون في الوقف عليها منفعة، وثواب في الدين، ولا منفعة في الوقف عليها في الدنيا، فالوقف عليها خال من انتفاع الواقف في الدين والدنيا، فيكون باطلًا، وهذا ظاهر في الأغنياء وإن كان قد يكون مستحبًا، بل واجبًا، فإنما ذاك إذا أعطوا بسبب غير الغني من القرابة والجهاد والدين ونحو ذلك.
فأما إن جعل سبب الاستحقاق هو الغني، وتخصيص الغني بالإعطاء مع مشاركة الفقير له في أسباب الاستحقاق سوي الغني، مع زيادة استحقاق الفقير عليه، فهذا مما يعلم بالاضطرار في كل ملة أن الله لا يحبه ولا يرضاه، فلا يجوز اشتراط ذلك في الوقف.
الوجه الثاني: أن الوقف يكون فيما يؤبد على الكفار ونحوهم، وفيما يمنع منه التوارث، وهذا لو أن فيه منفعة راجحة، وإلا كان يمنع منه الواقف؛ لأنه فيه حبس المال عن أهل المواريث، ومن ينتقل إليهم، وهذا مأخذ من قال: لا حبس عن فرائض الله، لكن هذا القول ترك لقول عمر وغيره، وما في ذلك من المصلحة الراجحة، فأما إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، بل قد حبس المال فمنعه الوارث وسائر الناس أن ينتفع به، وهو لم ينتفع به، فهذا لا يجوز تنفيذه بلا ريب.
ثم هذه المسألة المتنازع فيها هي في الوقف على الصفات المباحة الدنيوية كالغني بالمال، وأما الوقف على الأعمال الدينية كالقرآن، والحديث، والفقه، والصلاة والأذان، والإمامة، والجهاد، ونحو ذلك، والكلام في ذلك هو الأصل الثاني، وذلك لا يمكن أن يكون في ذلك نزاع بين العلماء، في أنه لا يجوز أن يوقف إلا على ما شرعه الله وأحبه من هذه الأعمال.
فأما من ابتدع عملًا لم يشرعه الله وجعله دينًا، فهذا ينهى عن عمل هذا العمل، فكيف يشرع له أن يقف عليه الأموال؟ بل هذا من جنس الوقف على ما يعتقده اليهود والنصارى عبادات، وهذا من الدين المبدل، أو المنسوخ؛ ولهذا جعلنا هذا أحد الأصلين في الوقف.
وذلك أن باب العبادات والديانات والتقربات متلقاة عن الله ورسوله، فليس لأحد أن يجعل شيئًا عبادة أو قربة إلا بدليل شرعي، قال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [9]، وقال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [10]، وقال تعالى: { المص كِتَابٌ أُنزِلَ إليكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَي لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إليكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ } [11]، ونظائر ذلك في الكتاب كثير، يأمر الله فيه بطاعة رسوله، واتباع كتابه، وينهى عن اتباع ما ليس من ذلك.
والبدع جميعها كذلك، فإن البدعة الشرعية - أي: المذمومة في الشرع هي ما لم يشرعه الله في الدين، أي: ما لم يدخل في أمر الله ورسوله وطاعة الله ورسوله، فأما إن دخل في ذلك فإنه من الشرعة لا من البدعة الشرعية، وإن كان قد فعل بعد موت النبي ﷺ بما عرف من أمره، كإخراج اليهود والنصارى بعد موته، وجمع المصحف، وجمع الناس على قارئ واحد في قيام رمضان، ونحو ذلك.
وعمر بن الخطاب الذي أمر بذلك وإن سماه بدعة؛ فإنما ذلك لأنه بدعة في اللغة، إذ كل أمر فعل على غير مثال متقدم يسمي في اللغة بدعة، وليس مما تسميه الشريعة بدعة، وينهى عنه، فلا يدخل فيما رواه مسلم من صحيحه عن جابر قال: كان رسول الله ﷺ يقول في خطبته: (إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) فإن قوله ﷺ: (كل بدعة ضلالة) حق، وليس فيما دلت عليه الأدلة الشرعية على الاستحباب بدعة، كما قال ﷺ في الحديث الذي رواه أهل السنن، وصححه الترمذي عن العرباض بن سارية عن النبي ﷺ قال: وعظنا رسول الله ﷺ موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بتقوى الله، وعليكم بالسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)، وفي رواية: (فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وفي رواية: (وكل ضلالة في النار).
ففي هذا الحديث أمر المسلمين باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين، وبين أن المحدثات التي هي البدع التي نهى عنها ما خالف ذلك، فالتراويح ونحو ذلك لو لم تعلم دلالة نصوصه، وأفعاله عليها؛ لكان أدني أمرها أن تكون من سنة الخلفاء الراشدين، فلا تكون من البدع الشرعية التي سماها النبي ﷺ بدعة، ونهى عنها.
وبالجملة، لا خلاف بين العلماء أن من وقف على صلاة أو صيام أو قراءة أو جهاد غير شرعي ونحو ذلك لم يصح وقفه، بل هو ينهى عن ذلك العمل، وعن البذل فيه، والخلاف الذي بينهم في المباحات لا يخرج مثله هنا؛ لأن اتخاذ الشيء عبادة، واعتقاد كونه عبادة، وعمله؛ لأنه عبادة لا يخلو من أن يكون مأمورًا به، أو منهيًا عنه، فإن كان مأمورًا به واجبًا أو مستحبًا في الشريعة كان اعتقاد كونه عبادة، والرغبة فيه لأجل العبادة، ومحبته وعمله مشروعًا، وإن لم يكن الله يحبه ولا يرضاه فليس بواجب ولا مستحب، لم يجز لأحد أن يعتقد أنه مستحب، ولا أنه قربة وطاعة، ولا يتخذه دينًا، ولا يرغب فيه لأجل كونه عبادة.
وهذا أصل عظيم من أصول الديانات، وهو التفريق بين المباح الذي يفعل لأنه مباح، وبين ما يتخذ دينا وعبادة وطاعة وقربة واعتقادًا ورغبة وعملًا. فمن جعل ما ليس مشروعًا ولا هو دينا ولا طاعة ولا قربة جعله دينًا وطاعة وقربة، كان ذلك حرامًا باتفاق المسلمين.
لكن قد يتنازع العلماء في بعض الأمور: هل هو من باب القرب والعبادات أم لا؟ سواء كان من باب الاعتقادات القولية، أو من باب الإرادات العملية حتى قد يرى أحدهم واجبًا ما يراه الآخر حرامًا، كما يرى بعضهم وجوب قتل المرتد، ويرى آخر تحريم ذلك، ويرى أحدهم وجوب التفريق بين السكران وامرأته إذا طلقها في سكره، ويرى الآخر تحريم التفريق بينهما، وكما يرى أحدهم وجوب قراءة فاتحة الكتاب على المأموم ويرى الآخر كراهة قراءته إما مطلقًا، وإما إذا سمع جهر الإمام، ونحو ذلك من موارد النزاع. كما أن اعتقادها وعملها من موارد النزاع، فبذل المال عليها هو من موارد النزاع أيضًا وهو الاجتهادية.
وأما كل عمل يعلم المسلم أنه بدعة منهي عنها، فإن العالم بذلك لا يجوز الوقف باتفاق المسلمين، وإن كان قد يشرط بعضهم بعض هذه الأعمال من لم يعلم الشريعة، أو من هو يقلد في ذلك لمن لا يجوز تقليده في ذلك، فإن هذا باطل، كما قال عمر بن الخطاب: ردوا الجهالات إلى السنة. ولما في الصحيح عن عائشة عن النبي ﷺ أنه قال: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد).
ولهذا اتفق العلماء: أن حكم الحاكم العادل إذا خالف نصَّا أو إجماعًا لم يعلمه فهو منقوض، فكيف بتصرف من ليس يعلم هذا الباب من واقف لا يعلم حكم الشريعة، ومن يتولي ذلك له من وكلائه؟ وإن قدر أن حاكمًا حكم بصورة ذلك ولزومه فغايته أن يكون عالمًا عادلًا، فلا ينفذ ما خالف فيه نصًا أو إجماعًا باتفاق المسلمين.
والشروط المتضمنة للأمر بما نهى الله عنه، والنهي عن ما أمر الله به مخالفة للنص والإجماع، وكل ما أمر الله به أو نهى عنه، فإن طاعته فيه بحسب الإمكان، كما قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [12]، وكما قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
فهذه القواعد هي الكلمات الجامعة والأصول الكلية التي تبني عليها هذه المسائل ونحوها، وقد ذكرنا منها نكتًا جامعة بحسب ما تحتمله الورقة يعرفها المتدرب في فقه الدين.
وبعد هذا ينظر في تحقيق مناط الحكم في صورة السؤال وغيرها بنظره، فما تبين أنه من الشروط الفاسدة ألغي، وما تبين أنه شرط موافق لكتاب الله عمل به، وما اشتبه أمره أو كان فيه نزاع فله حكم نظائره، ومن هذه الشروط الباطلة ما يحتاج تغييره إلى همة قوية وقدرة نافذة، ويؤيدها الله بالعلم والدين، وإلا فمجرد قيام الشخص في هوي نفسه لجلب دنيا، أو دفع مضرة دنيوية، إذا أخرج ذلك مخرج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يكاد ينجح سعيه. وإن كان متظلمًا طالبًا من يعينه، فإن أعانه الله بمن هو متصف بذلك، أو بما يقدره له من جهة تعينه حصل مقصوده. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وما ذكره السائلون فرض تمام الوجود، والله يسهل لهم ولسائر المسلمين من يعينهم على خير الدين والدنيا، إنه على كل شيء قدير.
فمما لا نزاع فيه بين العلماء: أن مبيت الشخص في مكان معين دائمًا ليس قربة ولا طاعة باتفاق العلماء، ولا يكون ذلك إلا في بعض الأوقات إذا كان في التعيين مصلحة شرعية، مثل المبيت في ليإلى منى، ومثل مبيت الإنسان في الثغر للرباط، أو مبيته في الحرس في سبيل الله، أو عند عالم أو رجل صالح ينتفع به، ونحو ذلك.
فإما أن المسلم يجب عليه أن يرابط دائما ببقعة بالليل لغير مصلحة دينية فهذا ليس من الدين، بل لو كان المبيت عارضًا وكان يشرع فيها ذلك؛ لم يكن أيضًا من الدين، ومن شرط عليه ذلك، ووقف عليه المال لأجل ذلك؛ فلا ريب في بطلان مثل هذا الشرط وسقوطه.
بل تعيين مكان معين للصلوات الخمس، أو قراءة القرآن، أو إهدائه غير ما عينه الشارع ليس أيضًا مشروعًا باتفاق العلماء، حتى لو نذر أن يصلى أو يقرأ، أو يعتكف في مسجد بعينه غير الثلاثة، لم يتعين، وله أن يفعل ذلك في غيره؛ لكن في وجوب الكفارة لفوات التعيين قولان للعلماء.
والعلماء لهم في وصول العبادات البدنية، كالقراءة، والصلاة، والصيام إلى الميت قولان: أصحهما أنه يصل؛ لكن لم يقل أحد من العلماء بالتفاضل في مكان دون مكان، ولا قال أحد قط من علماء الأمة المتبوعين: إن الصلاة أو القراءة عند القبر أفضل منها عند غيره، بل القراءة عند القبر قد اختلفوا في كراهتها، فكرهها أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد في إحدى الروايتين وطوائف من السلف، ورخص فيها طائفة أخري من أصحاب أبي حنيفة والإمام أحمد وغيرهم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد وليس عن الشافعي في ذلك كله نص نعرفه.
ولم يقل أحد من العلماء: إن القراءة عند القبر أفضل، ومن قال: إنه عند القبر ينتفع الميت بسماعها، دون ما إذا بعد القارئ فقوله هذا بدعة باطلة، مخالفة لإجماع العلماء، والميت بعد موته لا ينتفع بأعمال يعملها هو بعد الموت، لا من استماع، ولا قراءة، ولا غير ذلك باتفاق المسلمين، وإنما ينتفع بآثار ما عمله في حياته، كما قال النبي ﷺ: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
وينتفع أيضًا بما يهدي إليه من ثواب العبادات المالية، كالصدقة، والهبة باتفاق الفقهاء، وكذلك العبادات البدنية في أصح قوليهم، وإلزام المسلمين ألا يعملوا ولا يتصدقوا إلا في بقعة معينة، مثل كنائس النصارى باطل.
وبكل حال، فالاستخلاف في مثل هذه الأعمال المشروطة جائز، وكونها عن الواقف إذا كان النائب مثل المستنيب، فقد يكون في ذلك مفسدة راجحة على المصلحة الشرعية، كالأعمال المشروطة في الإجارة على عمل في الذمة؛ لأن التعيين فيه مصلحة شرعية، فشرط باطل، ومتى نقصوا من المشروط لهم كان لهم أن ينقصوا من المشروط عليهم بحسب ذلك. والله أعلم.
قاعدة فيما يشترط الناس في الوقف
وَقَال رحَمهُ الله:
قاعدة: فيما يشترط الناس في الوقف: فإن فيها ما فيه عوض دنيوي وأخروي، وما ليس كذلك، وفي بعضها تشديد على الموقوف عليه.
فنقول: الأعمال المشروطة في الوقف على الأمور الدينية مثل الوقف على الأئمة والمؤذنين، والمشتغلين بالعلم من القرآن، والحديث، والفقه، ونحو ذلك، أو بالعبادات أو بالجهاد في سبيل الله تنقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: عمل يقترب به إلى الله تعالى، وهو الواجبات والمستحبات التي رغب رسول الله ﷺ فيها، وحض على تحصيلها، فمثل هذا الشرط يجب الوفاء به، ويقف استحقاق الوقف على حصوله في الجملة.
والثاني: عمل نهى النبي ﷺ عنه نهى تحريم أو نهى تنزيه، فاشتراط مثل هذا العمل باطل باتفاق العلماء؛ لما قد استفاض عن النبي ﷺ أنه خطب على منبره فقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق). وهذا الحديث وإن خرج بسبب شرط الولاء لغير المعتق، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند عامة العلماء وهو مجمع عليه في هذا الحديث.
وكذا ما كان من الشروط مستلزمًا وجود ما نهى عنه الشارع، فهو بمنزلة ما نهى عنه، وما علم أنه نهى عنه ببعض الأدلة الشرعية، فهو بمنزلة ما علم أنه صرح بالنهي عنه، لكن قد يختلف اجتهاد العلماء في بعض الأعمال: هل هو من باب المنهي عنه؟ فيختلف اجتهادهم في ذلك الشرط؛ بناء على هذا. وهذا أمر لابد منه في الأمة.
ومن هذا الباب أن يكون العمل المشترط ليس محرمًا في نفسه، لكنه مناف لحصول المقصود المأمور به، ومثال هذه الشروط أن يشترط على أهل الرباط ملازمته وهذا مكروه في الشريعة مما أحدثه الناس، أو يشترط على الفقهاء اعتقاد بعض البدع المخالفة للكتاب والسنة، أو بعض الأقوال المحرمة، أو يشترط على الإمام أو المؤذن ترك بعض سنن الصلاة، والأذان، أو فعل بعض بدعهما، مثل أن يشترط على الإمام أن يقرأ في الفجر بقصار المفصل، أو أن يصل الأذان بذكر غير مشروع، أو أن يقيم صلاة العيد في المدرسة أو المسجد، مع إقامة المسلمين لها على سنة نبيهم ﷺ.
ومن هذا الباب: أن يشترط عليهم أن يصلوا وحدانا، ومما يلحق بهذا القسم أن يكون الشرط مستلزمًا ترك ما ندب إليه الشارع، مثل أن يشترط على أهل رباط أو مدرسة إلى جانب المسجد الأعظم أن يصلوا فيها فرضهم، فإن هذا دعاء إلى ترك الفرض على الوجه الذي هو أحب إلى الله ورسوله، فلا يلتفت إلى مثل هذا، بل الصلاة في المسجد الأعظم هو الأفضل، بل الواجب هدم مساجد الضرار مما ليس هذا موضع تفصيله.
ومن هذا الباب اشتراط الإيقاد على القبور إيقاد الشمع، أو الدهن ونحو ذلك فإن النبي ﷺ قال: (لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج) وبناء المسجد، وإسراج المصابيح على القبور، مما لم أعلم فيه خلافًا أنه معصية للّه ورسوله، وتفاصيل هذه الشروط يطول جدًا، وإنما نذكر هاهنا جماع الشروط.
القسم الثالث: عمل ليس بمكروه في الشرع ولا مستحب، بل هو مباح مستوي الطرفين، فهذا قال بعض العلماء بوجوب الوفاء به. والجمهور من العلماء من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أن شرطه باطل، فلا يصح عندهم أن يشرط إلا ما كان قربة إلى الله تعالى؛ وذلك لأن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا لما له فيه منفعة في الدين أو الدنيا، فما دام الإنسان حيًا، فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة؛ لأنه ينتفع بذلك، فأما الميت فما بقي بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء؛ إلا بعمل صالح قد أمر به، أو أعان عليه، أو أهدي إليه، ونحو ذلك. فأما الأعمال التي ليست طاعة للّه ورسوله، فلا ينتفع بها الميت بحال، فإذا اشترط الموصى أو الواقف عملًا أو صفة لا ثواب فيها؛ كان السعي في تحصيلها سعيًا فيما لا ينتفع به في دنياه ولا في آخرته، ومثل هذا لا يجوز، وهذا إنما مقصوده بالوقف التقرب. والله أعلم.
سئل عمن أوقف رباطا وجعل فيه جماعة من أهل القرآن
وسئل رَحمه الله عمن أوقف رباطًا، وجعل فيه جماعة من أهل القرآن، وجعل لهم كل يوم ما يكفيهم، وشرط عليهم شروطًا غير مشروعة، منها أن يجتمعوا في وقتين معينين من النهار، فيقرؤون شيئًا معينًا من القرآن في المكان الذي أوقفه لا في غيره، مجتمعين في ذلك غير متفرقين، وشرط أن يهدوا له ثواب التلاوة، ومن لم يفعل ما شرط في المكان الذي أوقفه لم يأخذ ما جعل له، فهل جميع الشروط لازمة لمن أخذ المعلوم أم بعضها؟ أم لا أثر لجميعها؟ وهل إذا لزمت القراءة، فهل يلزم جميع ما شرطه منها؟ أم يقرؤون ما تيسر عليهم قراءته من غير أن يهدوا شيئًا؟
فأجاب:
الحمد للّه، الأصل في هذا: أن كل ما شرط من العمل من الوقوف التي توقف على الأعمال فلابد أن تكون قربة، إما واجبًا، وإما مستحبًا، وأما اشتراط عمل محرم، فلا يصح باتفاق علماء المسلمين، بل وكذلك المكروه، وكذلك المباح على الصحيح.
وقد اتفق المسلمون على أن شروط الواقف تنقسم إلى صحيح، وفاسد، كالشروط في سائر العقود. ومن قال من الفقهاء: إن شروط الواقف نصوص كألفاظ الشارع، فمراده أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف؛ لا في وجوب العمل بها، أي: أن مراد الواقف يستفاد من ألفاظه المشروطة، كما يستفاد مراد الشارع من ألفاظه، فكما يعرف العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والتشريك والترتيب في الشرع من ألفاظ الشارع، فكذلك تعرف في الوقف من ألفاظ الواقف.
مع أن التحقيق في هذا: أن لفظ الواقف ولفظ الحالف والشافع والموصى وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، سواء وافقت العربية العرباء؛ أو العربية المولدة، أو العربية الملحونة، أو كانت غير عربية، وسواء وافقت لغة الشارع، أو لم توافقها، فإن المقصود من الألفاظ دلالتها على مراد الناطقين بها، فنحن نحتاج إلى معرفة كلام الشارع؛ لأن معرفة لغته وعرفه وعادته تدل على معرفة مراده، وكذلك في خطاب كل أمة وكل قوم، فإذا تخاطبوا بينهم في البيع والإجارة، أو الوقف أو الوصية أو النذر أو غير ذلك بكلام رجع إلى معرفة مرادهم وإلى ما يدل على مرادهم من عادتهم في الخطاب، وما يقترن بذلك من الأسباب.
وإما أن تجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها، فهذا كفر باتفاق المسلمين؛ إذ لا أحد يطاع في كل ما يأمر به من البشر? بعد رسول الله ﷺ والشروط إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة، وإن خالفت كتاب الله كانت باطلة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه خطب على منبره وقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق).
وهذا الكلام حكمه ثابت في البيع والإجارة، والوقف وغير ذلك باتفاق الأئمة، سواء تناوله لفظ الشارع أو لا؛ إذ الأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أو كان متناولًا لغير الشروط في البيع بطريق الاعتبار عمومًا معنويًا.
وإذا كانت شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وباطل بالاتفاق، فإن شرط فعلًا محرمًا ظهر أنه باطل، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإن شرط مباحًا لا قربة فيه، كان أيضًا باطلًا؛ لأنه شرط شرطًا لا منفعة فيه، لا له ولا للموقوف عليه، فإنه في نفسه لا ينتفع إلا بالإعانة على البر والتقوي.
وأما بذل المال في مباح، فهذا إذا بذله في حياته مثل الابتياع والاستئجار. جاز؛ لأنه ينتفع بتناول المباحات في حياته.
وأما الواقف والموصي، فإنهما لا ينتفعان بما يفعل الموصى له والموقوف عليه من المباحات في الدنيا، ولا يثابان على بذل المال في ذلك في الآخرة، فلو بذل المال في ذلك عبثًا وسفهًا لم يكن فيه حجة على تناول المال، فكيف إذا ألزم بمباح لا غرض له فيه، فلا هو ينتفع به في الدنيا، ولا في الآخرة، بل يبقي هذا منفقًا للمال في الباطل، مسخر، معذب، آكل للمال بالباطل.
وإذا كان الشارع قد قال: (لا سبق إلا في خف؛ أو حافر، أو نصل)، فلم يجوز بالجعل شيئًا لا يستعان به على الجهاد، وإن كان مباحًا، وقد يكون فيه منفعة، كما في المصارعة، والمسابقة على الأقدام، فكيف يبذل العوض المؤبد في عمل لا منفعة فيه، لا سيما والوقف محبس مؤبد، فكيف يحبس المال دائما مؤبدًا على عمل لا ينتفع به هو ولا ينتفع به العامل؟ فيكون في ذلك ضرر على حبس الورثة وسائر الآدميين بحبس المال عليهم بلا منفعة حصلت لأحد، وفي ذلك ضرر على المتناولين باستعمالهم في عمل هم فيه مسخرون، يعوقهم عن مصالحهم الدينية والدنيوية، فلا فائدة تحصل له ولا لهم، وقد بسطنا الكلام في هذه القاعدة في غير هذا الموضع.
فإذا عرف هذا، فقراءة القرآن كل واحد على حدته أفضل من قراءة مجتمعين بصوت واحد، فإن هذه تسمي قراءة الإرادة وقد كرهها طوائف من أهل العلم، كمالك، وطائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم. ومن رخص فيها كبعض أصحاب الإمام أحمد لم يقل: إنها أفضل من قراءة الانفراد، يقرأ كل منهم جميع القرآن.
وأما هذه القراءة فلا يحصل لواحد جميع القرآن، بل هذا يتم ما قرأه هذا، وهذا يتم ما قرأه هذا، ومن كان لا يحفظ القرآن يترك قراءة ما لم يحفظه.
وليس في القراءة بعد المغرب فضيلة مستحبة يقدم بها على القراءة في جوف الليل، أو بعد الفجر، ونحو ذلك من الأوقات، فلا قربة في تخصيص مثل ذلك بالوقت.
ولو نذر صلاة أو صيامًا أو قراءة أو اعتكافًا في مكان بعينه، فإن كان للتعيين مزية في الشرع، كالصلاة، والاعتكاف في المساجد الثلاثة؛ لزم الوفاء به، وإن لم يكن له مزية، كالصلاة والاعتكاف في مساجد الأمصار؛ لم يتعين بالنذر الذي أمر الله بالوفاء به، وقال النبي ﷺ: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).
فإذا كان النذر الذي يجب الوفاء به لا يجب أن يوفى به إلا ما كان طاعة باتفاق الأئمة، فلا يجب أن يوفي منه بمباح، كما لا يجب أن يوفي منه بمحرم باتفاق العلماء في الصورتين، وإنما تنازعوا في لزوم الكفارة، كمذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، فكيف بغير النذر من العقود التي ليس في لزومها من الأدلة الشرعية ما في النذر؟
وأما اشتراط إهداء ثواب التلاوة، فهذا ينبني على إهداء ثواب العبادات البدنية، كالصلاة، والصيام، والقراءة، فإن العبادات المالية يجوز إهداء ثوابها بلا نزاع، وأما البدنية ففيها قولان مشهوران.
فمن كان من مذهبه: أنه لا يجوز إهداء ثوابها كأكثر أصحاب مالك، والشافعي كان هذا الشرط عندهم باطلًا، كما لو شرط أن يحمل عن الواقف ديونه، فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
ومن كان من مذهبه: أنه يجوز إهداء ثواب العبادات البدنية كأحمد وأصحاب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب مالك فهذا يعتبر أمرًا آخر، وهو أن هذا إنما يكون من العبادات ما قصد بها وجه الله، فأما ما يقع مستحقًا بعقد إجارة أو جعالة فإنه لا يكون قربة، فإن جاز أخذ الأجر والجعل عليه، فإنه يجوز الاستئجار على الإمامة، والأذان، وتعليم القرآن، نقول:...
سئل عمن وقف مدرسة بيت المقدس
وسئل رَحمه الله عمن وقف مدرسة بيت المقدس، وشرط على أهلها الصلوات الخمس فيها، فهل يصح هذا الشرط؟ وهل يجوز للمنزلين الصلوات الخمس في المسجد الأقصى دونها، ويتناولون ما قرر لهم؟ أم لا يحل التناول إلا بفعل هذا الشرط؟
فأجاب:
ليس هذا شرطًا صحيحًا يقف الاستحقاق عليه، كما كان يفتي بذلك في هذه الصورة بعينها الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وغيره من العلماء؛ لأدلة متعددة، وقد بسطناها في غير هذا الموضع مع ما في ذلك من أقوال العلماء.
ويجوز للمنزلين أن يصلوا في المسجد الأقصى الصلوات الخمس، ولا يصلوها في المدرسة، ويستحقون مع ذلك ما قدر لهم، وذلك أفضل لهم من أن يصلوا في المدرسة، والامتناع من أداء الفرض في المسجد الأقصي، لأجل حل الجاري، ورع فاسد، يمنع صاحبه الثواب العظيم في الصلاة في المسجد. والله أعلم.
سئل عن واقف وقف رباطا على الصوفية
ما تقول السادة العلماء في واقف وقف رباطًا على الصوفية، وكان هذا الرباط قديمًا جاريًا على قاعدة الصوفية في الربط، من الطعام، والاجتماع بعد العصر فقط، فتولي نظره شخص، فاجتهد في تبطيل قاعدته، وشرط على من به شروطًا ليست في الرباط أصلًا، ثم إنهم يصلون الصلوات الخمس في هذا الرباط، ويقرؤون بعد الصبح قريبًا من جزء ونصف، وبعد العصر قريبًا من ثلاثة أجزاء، حتى إن أحدهم إذا غاب عن صلاة أو قراءة كتب عليه غيبة، مع أن هذا الرباط لم يعرف له كتاب وقف، ولا شرط، فهل يجوز إحداث هذه الشروط عليهم أم لا؟ وهل يأثم من أحدثها أم لا؟ وهل يحل للناظر الآن أن يكتب عليهم غيبة أم لا؟ وهل يجب إبطال هذه الشروط أم لا؟ وهل يثاب ولي الأمر إذا أبطلها، أم لا؟ وإذ كانت هذه الشروط قد شرطها الواقف: هل يجب الوفاء بها أم لا؟ وما الصور في الذي يستحق ذلك؟ وهل إذا كان في الجماعة من هو مشتغل بالعلوم الشرعية يكون أولى ممن هو مترسم برسم ظاهر لا علم عنده؟ ومن لم يكن متأدبًا بالآداب الشرعية: هل يجوز له تناول شيء من ذلك أم لا؟ وإذا كان فيهم من هو مشتغل بالعلم الشريف، وله من الدنيا ما لا يقوم ببعض كفايته: هل يكون أولى ممن ليس متأدبا بالآداب الشرعية، ولا عنده شيء من العلم؟ أفتونا مأجورين، وبينوا لنا ذلك بيانًا شافيًا بالدليل من الكتاب والسنة رضي الله عنكم.
فأجاب رحمه الله:
لا يجوز للناظر إحداث هذه الشروط ولا غيرها، فإن الناظر إنما هو منفذ لما شرطه الواقف، ليس له أن يبتدئ شروطًا لم يوجبها الواقف، ولا أوجبها الشارع، ويأثم من أحدثها، فإنه منع المستحقين حقهم حتى يعملوا أعمالًا لا تجب، ولا يحل أن يكتب على من أخل بذلك غيبة؛ بل يجب إبطال هذه الشروط، ويثاب الساعي في إبطالها مبتغيًا بذلك وجه الله تعالى.
وأما الصوفي الذي يدخل في الوقف على الصوفية، فيعتبر له ثلاثة شروط.
أحدها: أن يكون عدلًا في دينه، يؤدي الفرائض، ويجتنب المحارم.
الثاني: أن يكون ملازمًا لغالب الآداب الشرعية في غالب الأوقات وإن لم تكن واجبة، مثل آداب الأكل، والشرب، واللباس، والنوم، والسفر، والركوب والصحبة، والعشرة، والمعاملة مع الخلق، إلى غير ذلك من الآداب الشريفة، قولًا وفعلًا، ولا يلتفت إلى ما أحدثه بعض المتصوفة من الآداب التي لا أصل لها في الدين، من التزام شكل مخصوص في اللبسة، ونحوها مما لا يستحب في الشريعة، فإن مبني الآداب على اتباع السنة، ولا يلتفت أيضًا إلى ما يهدره بعض المتفقهة من الآداب المشروعة، يعتقد لقلة علمه أن ذلك ليس من آداب الشريعة؛ لكونه ليس فيما بلغه من العلم أو طالعه من كتبه، بل العبرة في الآداب بما جاءت به الشريعة قولًا وفعلًا وتركًا، كما أن العبرة في الفرائض والمحارم بذلك أيضًا.
والشرط الثالث في الصوفي: قناعته بالكفاف من الرزق، بحيث لا يمسك من الدنيا ما يفضل عن حاجته، فمن كان جامعًا لفضول المال لم يكن من الصوفية الذين يقصد إجراء الأرزاق عليهم، وإن كان قد يفسح لهم في مجرد السكني في الربط ونحوها، فمن حمل هذه الخصال الثلاث كان من الصوفية المقصودين بالربط، والوقف عليها، وما فوق هؤلاء من أرباب المقامات العلية والأحوال الزكية، وذوي الحقائق الدينية، والمنح الربانية، فيدخلون في العموم؛ لكن لا يختص الوقف بهم لقلة هؤلاء، ولعسر تمييز الأحوال الباطنة على غالب الخلق، فلا يمكن ربط استحقاق الدنيا بذلك؛ ولأن مثل هؤلاء قد لا ينزل الربط إلا نادرًا.
وما دون هذه الصفات من المقتصرين على مجرد رسم في لبسة أو مشية، ونحو ذلك، لا يستحقون الوقف، ولا يدخلون في مسمي الصوفية؛ لا سيما إن كان ذلك محدثًا لا أصل له في السنة، فإن بذل المال على مثل هذه الرسوم فيه نوع من التلاعب بالدين، وأكل لأموال الناس بالباطل، وصدود عن سبيل الله.
ومن كان من الصوفية المذكورين المستحقين فيه قدر زائد، مثل اجتهاد في نوافل العبادات؛ أو سعى في تصحيح أحوال القلب، أو طلب شيء من الأعيان، أو علم الكفاية، فهو أولى من غيره، ومن لم يكن متأدبًا بالآداب الشرعية، فلا يستحق شيئًا البتة، وطالب العلم الذي ليس له تمام الكفاية أولى ممن ليس فيه الآداب الشرعية، ولا علم عنده، بل مثل هذا لا يستحق شيئًا.
سئل عن الشروط التي يشترطها الواقفون على الموقوف عليهم
ما تقول السادة العلماء في الشروط التي قد جرت العوائد في اشتراط أمثالها من الواقفين على الموقوف عليهم، مما بعضه له فائدة ظاهرة، وفيه مصلحة مطلوبة، وبعضها ليس فيها كبير غرض للواقف، وقد يكون فيه مشقة على الموقوف عليه، فإن وفي به شق عليه، وإن أهمله خشي الإثم، وأن يكون متناولًا للحرام، وذلك كشرط واقف الرباط أو المدرسة المبيت والعزوبة، وتأدية الصلوات المفروضات بالرباط، وتخصيص القراءة المعينة بالمكان بعينه، وأن يكونوا من مدينة معينة، أو قبيلة معينة، أو مذهب معين، وما أشبه ذلك من الشروط في الإمامة بالمساجد، والأذان، وسماع الحديث بحلق الحديث بالخوانك، فهل هذه الشروط وما أشبهها مما هو مباح في الجملة، وللواقف فيه يسير غرض لازمة لا يحل لأحد الإخلال بها، ولا بشيء منها؟ أم يلزم البعض منها دون البعض؟ وأي ذلك هو اللازم؟ وأي ذلك الذي لا يلزم؟ وما الضابط فيما يلزم وما لا يلزم؟
فأجاب قدس الله روحه:
الحمد لله رب العالمين، الأعمال المشروطة في الوقف من الأمور الدينية، مثل الوقف على الأئمة والمؤذنين، والمشتغلين بالعلم والقرآن، والحديث، والفقه، ونحو ذلك، أو بالعبادة أو بالجهاد في سبيل الله تنقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: عمل يتقرب به إلى الله تعالى، وهو الواجبات، والمستحبات التي رَغَّب رسول الله ﷺ فيها، وحض على تحصيلها، فمثل هذا الشرط يجب الوفاء به، ويقف استحقاق الوقف على حصوله في الجملة.
والثاني: عمل قد نهى رسول الله ﷺ عنه، نهي تحريم، أو نهي تنزيه، فاشتراط مثل هذا العمل باطل باتفاق العلماء؛ لما قد استفاض عن رسول الله ﷺ أنه خطب على منبره فقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق). وهذا الحديث وإن خرج بسبب شرط الولاء لغير المعتق، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند عامة العلماء وهو مجمع عليه في هذا الحديث، وما كان من الشروط مستلزمًا وجود ما نهي عنه الشارع، فهو بمنزلة ما نهي عنه، وما علم ببعض الأدلة الشرعية أنه نهي عنه، فهو بمنزلة ما علم أنه صرح بالنهي عنه؛ لكن قد يختلف اجتهاد العلماء في بعض الأعمال: هل هو من باب المنهي عنه؟ فيختلف اجتهادهم في ذلك الشرط، بناء على هذا، وهذا أمر لابد منه في الأمة.
ومن هذا الباب أن يكون المشترط ليس محرمًا في نفسه، لكنه مناف لحصول المقصود المأمور به، فمثال هذه الشروط أن يشترط على أهل الرباط ملازمته، هذا مكروه في الشريعة، كما قد أحدثه الناس، أو أن يشترط على الفقهاء اعتقاد بعض البدع المخالفة للكتاب والسنة، أو بعض الأقوال المحرمة، أو يشترط على الإمام والمؤذن ترك بعض سنن الصلاة والأذان، أو فعل بعض بدعها، مثل أن يشترط على الإمام أن يقرأ في الفجر بقصار المفصل، وأن يصل الأذان بذكر غير مشروع، أو أن يقيم صلاة العيد في المدرسة والمسجد، مع إقامة المسلمين لها على سنة نبيهم ﷺ.
ومن هذا الباب لو اشترط عليهم أن يصلوا وحدانًا، ومما يلتحق بهذا القسم أن يكون الشرط مستلزمًا للحض على ترك ما ندب إليه الشارع، مثل أن يشترط على أهل رباط أو مدرسة إلى جانب المسجد الأعظم أن يصلوا فيها فرضهم، فإن هذا دعاء إلى ترك أداء الفرض على الوجه الذي هو أحب إلى الله ورسوله، فلا يلتفت إلى مثل هذا، بل الصلاة في المسجد الأعظم هو الأفضل، بل الواجب هدم مساجد الضرار مما ليس هذا موضع تفصيله.
ومن هذا الباب اشتراط الإيقاد على القبور، وإيقاد شمع أو دهن ونحو ذلك، فإن النبي ﷺ قال: (لعن الله زَوَّارَات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرج). وبناء المسجد وإسراج المصابيح على القبور مما لم أعلم خلافًا أنه معصية لله ورسوله، وتفاصيل هذه الشروط تطول جدًا، وإنما نذكر هنا جماع الشروط.
القسم الثالث: عمل ليس بمكروه في الشرع، ولا مستحب، بل هو مباح مستوي الطرفين، فهذا قال بعض العلماء بوجوب الوفاء به، والجمهور من العلماء من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أنه شرط باطل، ولا يصح عندهم أن يشترط إلا ما كان قربة إلى الله تعالى؛ وذلك أن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا لما فيه منفعة في الدين، أو الدنيا، فما دام الرجل حيًا، فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة؛ لأنه ينتفع بذلك، فأما الميت فما بقى بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء إلا بعمل صالح قد أمر به أو أعان عليه، أو قد أهدى إليه، أو نحو ذلك، فأما الأعمال التي ليست طاعة لله ورسوله، فلا ينتفع بها الميت بحال.
فإذا اشترط الموصي أو الواقف عملًا أو صفة لا ثواب فيها؛ كان السعي فيها بتحصيلها سعيًا فيما لا ينتفع به في دنياه وآخرته، ومثل هذا لا يجوز، وهو إنما مقصوده بالوقف التقرب إلى الله تعالى، والشارع أعلم من الواقفين بما يتقرب به إلى الله تعالى، فالواجب أن يعمل في شروطهم بما شرطه الله ورضيه في شروطهم.
وإن كان النبي ﷺ قد قال: (لا سَبْقَ إلا في نَصْلٍ، أو خُفٍّ، أو حَافرٍ) وعمل بهذا الحديث فقهاء الحديث ومتابعوهم، فنهي عن بذل المال في المسابقة إلا في مسابقة يستعان بها على الجهاد، الذي هو طاعة لله تعالى، فكيف يجوز أن يبذل الجعل المؤبد لمن يعمل دائمًا عملًا ليس طاعة لله تعالى؟
وهذه القاعدة معروفة عند العلماء، لكن قد تختلف آراء الناس وأهواؤهم في بعض ذلك؛ ولا يمكن هنا تفصيل هذه الجملة، ولكن من له هداية من الله تعالى لا يكاد يخفي عليه المقصود في غالب الأمر، وتسمى العلماء مثل هذه الأصول تحقيق المناط وذلك كما أنهم جميعهم يشترطون العدالة في الشهادة، ويوجبون النفقة بالمعروف؛ ونحو ذلك، ثم قد يختلف اجتهادهم في بعض الشروط: هل هو شرط في العدالة؟ ويختلفون في صفة الإنفاق بالمعروف، ونحن نذكر ما ينبه عن مثاله.
أما إذا اشترط على أهل الرباط أو المدرسة أن يصلوا فيها الخمس الصلوات المفروضات، فإن كانت فيما فيه مقصود شرعي، كما لو نذر أن يصلي في مكان بعينه، فإن كان في تعيين ذلك المكان قربة وجب الوفاء به، بأن يصلي فيه إذا لم يصل صلاة تكون مثل تلك، أو أفضل، وإلا وجب الوفاء بالصلاة دون التعيين والمكان، والغالب أنه ليس في التعيين مقصود شرعي.
فإذا كان قد شرط عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس هناك في جماعة اعتبرت الجماعة؛ فإنها مقصود شرعي بحيث من لم يصل في جماعة لم يف بالشرط الصحيح، وأما التعيين فعلى ما تقدم.
وأما اشتراط التعزب والرهبانية، فالأشبه بالكتاب والسنة أنه لا يصح اشتراطه بحال، لا على أهل العلم؛ ولا على أهل العبادة، ولا على أهل الجهاد، فإن غالب الخلق يكون لهم شهوات، والنكاح في حقهم مع القدرة إما واجب أو مستحب، فاشتراط التعزب في حق هؤلاء إن كان فهو مناقضة للشرع.
وإن قيل: المقصود بالتعزب الذي لا يستحب له النكاح عند بعض أهل العلم؛ خرج عامة الشباب عن هذا الشرط، وهم الذين ترجى المنفعة بتعليمهم في الغالب، فيكون كأنه قال: وقفت على المتعلمين الذين لا ترجى منفعتهم في الغالب، وقد كان النبي ﷺ إذا أتاه مال قسم للآهل قسمين؛ وللعزب قسمًا؛ فكيف يكون الآهل محرومًا؟ وقد قال لأصحابه المتعلمين المتعبدين: (يا مَعْشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضُّ للبصر، وأحْصَنُ للفرْج).
فكيف يقال للمتعلمين والمتعبدين: لا تتزوجوا، والشارع ندب إلى ذلك العمل؛ وحض عليه، وقد قال: (لارَهْبَانِيَّةَ في الإسلام)، فكيف يصح اشتراط رهبانية؟
وما يتوهم من أن التعزب أعون على كيد الشيطان والتعلم والتعبد، غلط مخالف للشرع وللواقع، بل عدم التعزب أعون على كيد الشيطان، والإعانة للمتعبدين والمتعلمين أحب إلى الله ورسوله من إعانة المترهبين منهم، وليس هذا موضع استقصاء ذلك.
وكذلك اشتراط أهل بلد، أو قبيلة من الأئمة، والمؤذنين مما لا يصح، فإن النبي ﷺ قال: (يَؤمُ القومَ أقْرَؤُهُم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنًا) رواه مسلم.
والمساجد لله، تبنى لله على الوجه الذي شرعه الله، فإذا قيد إمام المسجد ببلد، فقد يوجد في غير أهل ذلك البلد من هو أولى منه بالإمامة في شرط الله ورسوله، فإن وفينا بشرط الواقف في هذه الحال لزم ترك ما أمر الله به ورسوله، وشرط الله أحق وأوثق.
وأما بقية الشروط المسؤول عنها، فيحتاج كل شرط منها إلى كلام خاص فيه، لا تتسع له هذه الورقة، وقد ذكرنا الأصل، فعلى المؤمن بالله أن ينظر دائمًا في كل ما يحبه الله ورسوله من الخلق، فيسعى في تحصيله بالوقف وغيره، وما يكرهه الله ورسوله يسعى في إعدامه؛ وما لا يكرهه الله ولا يحبه يعرض عنه ولا يعلق به استحقاق وقف ولا عدمه ولا غيره. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
سئل عن زاوية فيها فقراء مقيمون وبتلك الزاوية مطلع به امرأة عزباء
وسئل رحمه الله عن زاوية فيها عشرة فقراء مقيمون، وبتلك الزاوية مطلع به امرأة عزباء، وهي من أوسط النساء، ولم يكن شرط الواقف لها مسكنها في تلك الزاوية، ولم تكن من أقارب الواقف، ولم يكن ساكن في المطلع سوى المرأة المذكورة، وباب المطلع المذكور يغلق عليه
باب الزاوية، فهل يجوز لها السكنى بين هؤلاء الفقراء المقيمين أم لا؟ أفتونا.
فأجاب:
إن كان شرط الواقف لا يسكنه إلا الرجال، سواء كانوا عزبًا أو متأهلين؛ منعت لمقتضى الشرط، وكذلك سكنى المرأة بين الرجال والرجال بين النساء يمنع منه لحق الله. والله أعلم.
سئل عن ناظر وقف وبالوقف شخص يتصرف بغير ولاية الناظر
وسئل رحمه الله عن ناظر وقف له عليه ولاية شرعية، وبالوقف شخص يتصرف بغير ولاية الناظر، يتصرف بولاية أحد الحكام؛ لأن له النظر العام، وأن الناظر عزل هذا المباشر، فباشر بعد عزله، وسأل الناظر الحاكم أن يدفع هذا عن المباشرة، فادعى الحاكم على الناظر دعوى فأنكرها، فهل له أن يولي بدون أمر الناظر الشرعي؟ وهل له أن يكون هو الحاكم بينه وبين هذا الناظر الذي هو خصمه دون سائر الحكام؟ وإذا اعتدى على الناظر فماذا يستحق على عدوانه عليه؟
فأجاب:
ليس للحاكم أن يولى ولا يتصرف في الوقف بدون أمر الناظر الشرعي الخاص، إلا أن يكون الناظر الشرعي قد تعدى فيما يفعله، وللحاكم أن يعترض عليه إذا خرج عما يجب عليه.
وإذا كان بين الناظر والحاكم منازعة حكم بينهما غيرهما بحكم الله ورسوله، ومن اعتدى على غيره، فإنه يقابل على عدوانه، إما أن يعاقب بمثل ذلك إن أمكنت المماثلة، وإلا عوقب بحسب ما يمكن شرعًا. والله أعلم.
سئل عن ناظرين هل لهما أن يقتسما المنظور عليه
وسئل رحمه الله عن ناظرين: هل لهما أن يقتسما المنظور عليه بحيث ينظر كل منهما في نصفه فقط؟
فأجاب:
لا يتصرفان إلا جميعًا في جميع المنظور فيه، فإن أحدهما لو انفرد بالتصرف لم يجز، فكيف إذا وزع المفرد، فإن الشرعَ شَرع جمع المتفرق بالقسمة والشفعة، فكيف يفرق المجتمع؟
سئل عمن وقف وقفا وشرط للناظر جراية وجامكية
وسئل عمن وقف وقفًا، وشرط للناظر جراية وجامكية، كما شرط للمعين والفقهاء، فهل يقدم الناظر بمعلومه أم لا؟
فأجاب:
ليس في اللفظ المذكور ما يقتضي تقدمه بشيء من معلومه، بل هو مذكور بالواو التي مقتضاها الاشتراك والجمع المطلق، فإن كان ثم دليل منفصل يقتضي جواز الاختصاص والتقدم غير الشرط المذكور، مثل كونه حائزًا أجرة عمله مع فقره، كوصى اليتيم؛ عمل بذلك الدليل المنفصل الشرعي وإلا فشرط الواقف لا يقتضي التقديم، ولا فرق بين الجامكية والجراية، فهو بمنزلة العمارة من مال الوقف، لا من عمالة الناظر. والله أعلم.
سئل عمن وقف وقفا على جماعة معينين وجعل للناظر عزل وولاية
وسئل رضي الله عنه عمن وقف وقفًا على جماعة معينين، وفيهم من قرر الواقف لوظيفته شيئا معلومًا، وجعل للناظر على هذا الوقف صرف من شاء منهم، يخرج بغير خراج، وإخراج من شاء منهم، والتعوض عنه، وزيادة من أراد زيادته ونقصانه على ما يراه ويختاره، ويرى المصلحة فيه، فعزل أحد المعينين واستبدل به غيره من هو أهل للقيام بها ببعض ذلك المعلوم المقدر للوظيفة، ووفي باقى ذلك لمصلحة الوقف، فهل للناظر فعل ذلك أم لا؟ وإذا عزل أحد المعينين للمصلحة واستمر على تناول المعلوم بعد علمه بالعزل: يفسق بذلك، ويجب عليه إعادة ما أخذه أم لا؟ وهل يلزم الناظر بيان المصلحة أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، الناظر ليس له أن يفعل شيئا في أمر الوقف إلا بمقتضى المصلحة الشرعية، وعليه أن يفعل الأصلح فالأصلح. وإذا جعل الواقف للناظر صرف من شاء، وزيادة من أراد زيادته ونقصانه، فليس للذي يستحقه بهذا الشرط أن يفعل ما يشتهيه، أو ما يكون فيه اتباع الظن، وما تهوى الأنفس، بل الذي يستحقه بهذا الشرط أن يفعل من الأمور الذي هو خير ما يكون إرضاء لله ورسوله، وهذا في كل من تصرف لغيره بحكم الولاية، كالإمام، والحاكم، والواقف، وناظر الوقف، وغيرهم. إذا قيل: هو مخير بين كذا وكذا، أو يفعل ما شاء وما رأي، فإنما ذاك تخيير مصلحة، لا تخيير شهوة.
والمقصود بذلك أنه لا يتعين عليه فعل معين، بل له أن يعدل عنه إلى ما هو أصلح وأرضى لله ورسوله، وقد قال الواقف: على ما يراه ويختاره ويرى المصلحة فيه، وموجب هذا كله أن يتصرف برأيه واختياره الشرعي، الذي يتبع فيه المصلحة الشرعية، وقد يرى هو مصلحة والله ورسوله يأمر بخلاف ذلك، ولا يكون هذا مصلحة كما يراه مصلحة، وقد يختار ما يهواه لا ما فيه رضي الله، فلا يلتفت إلى اختياره، حتى لو صرح الواقف بأن للناظر أن يفعل ما يهواه وما يراه مطلقًا لم يكن هذا الشرط صحيحًا، بل كان باطلًا؛ لأنه شرط مخالف لكتاب الله: (ومن اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق).
وإذا كان كذلك، وكان عزل الناظر واستبداله موافقًا لأمر الله ورسوله لم يكن للمعزول ولا غيره رد ذلك، ولا يتناول شيئا من الوقف والحال هذه، وإن لم يكن موافقًا لأمر الله ورسوله كان مردودًا بحسب الإمكان، فإن النبي ﷺ قال: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَد)، وقال: (لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق).
وإن تنازعوا: هل الذي فعله هو المأمور به أم لا؟ رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، فإن كان الذي فعل الناظر أرضى لله ورسوله نفذ، وإن كان الأول هو الأرضى ألزم الناظر بإقراره، وإن كان هناك أمر ثالث هو الأرضى لزم اتباعه، وعلى الناظر بيان المصلحة، فإن ظهرت وجب اتباعها، وإن ظهر أنها مفسدة ردت، وإن اشتبه الأمر وكان الناظر عالمًا عادلًا سوغ له اجتهاده. والله أْعلم.
سئل عن رجل له مزرعة وبها شجر وقف
وسئل رحمه الله عن رجل له مزرعة، وبها شجر وقف للفقراء تباع كل سنة وتصرف في مصارفها، ثم إن الناظر أجر الوقف لمن يضر بالوقف، وكان هناك حوض للسبيل، ومطهرة للمسلمين، فهدمها هذا المستأجر، وهدم الحيطان، فهل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب:
لا يجوز إكراء الوقف لمن يضر به باتفاق المسلمين، بل ولا يجوز إكراء الشجر بحال، وإن سوقى عليها بجزء حيلة لم يجز بالوقف باتفاق العلماء، ولا يجوز إزالة ما كان ينتفع به المسلمون للشرب والطهارة، بل يعزر هذا المستأجر الظالم الذي فعل ذلك، ويلزم بضمان ما أتلفه من البناء، وأما القيمة والشجر فيستغل، كما جرت عادتها، وتصرف الغلة في مصارفها الشرعية.
سئل عن مساجد وجوامع لهم أوقاف وفيها قوام
وسئل عن مساجد وجوامع لهم أوقاف، وفيها قوام وأئمة ومؤذنون، فهل لقاضي المكان أن يصرف منه إلى نفسه؟
فأجاب:
بل الواجب صرف هذه الأموال في مصارفها الشرعية، فيصرف من الجوامع والمساجد إلى الأئمة والمؤذنين والقوام ما يستحقه أمثالهم، وكذلك يصرف في فرش المساجد وتنويرها كفايتها بالمعروف، وما فضل عن ذلك إما أن يصرف في مصالح مساجد أخر، ويصرف في المصالح، كأرزاق القضاة في أحد قولي العلماء، وأما صرفها للقضاة ومنع مصالح المساجد فلا يجوز. والله أعلم.
سئل عن رجل بنى مدرسة وأوقف عليها وقفا
وسئل رحمه الله عن رجل بنى مدرسة، وأوقف عليها وقفًا على فقهاء وأرباب وظائف، ثم إن السلطنة أخذت أكثر الوقف، وأن الواقف اشترط المحاصصة بينهم، فهل يجوز للناظر أن يعطي أصحاب الوظائف بالكامل وما بقى للفقهاء؟
فأجاب:
الحمد لله، إن كان الذي يحصل بالمحاصصة لأرباب الأعمال التي يستأجر عليها كالبواب والقيم والسواق ونحوهم أجرة مثلهم يعطوه زيادة على ذلك، وإن كان ما يحصل دون أجرة المثل وأمكن من يعمل بذلك لم يحتج إلى الزيادة، وإن كان الحاصل لهم أقل من أجرة المثل ولا يحصل من يعمل بأقل من أجرة المثل، فلابد من تكميل المثل لهم إذا لم تقم مصلحة المكان إلا بهم، وإن أمكن أن يجعل شخص واحد قيمًا وبوابًا أو قيمًا ومؤذنًا أو يجمع له بين تلك الوظائف ويقوم بها، فإنه يفعل ذلك، ولا يكثر العدد الذي لا يحتاج إليه مع كون الوقف قد عاد إلى ريعه، بل إذا أمكن سد أربع وظائف بواحد فعل ذلك. والله أعلم.
سئل عن دار حديث شرط واقفها
وسئل عن دار حديث شرط واقفها في كتاب وقفها ما صورته بحروفه قال: والنظر في أمر أهل الدار على اختلاف أصنافهم إثباتًا وصرفًا، وإعطاء ومنعًا، وزيادة ونقصًا، ونحو ذلك إلى شيخ المكان، وكذلك النظر إليه في خزانة كتبها، وسائر ما يشبه ذلك أو يلحق به، وله إذا كان عنده الوقف في أمر من الأمور أن يفوض ذلك إلى من يتولاه، ثم قال: والنظر في أمر الأوقاف وأمورها المالية إلى الواقف ضاعف الله ثوابه يفوض ذلك إلى من يشاء ومتى فوض ذلك إليه تلقاه بحكم الشرط المقارن لإنشاء الوقف وينتقل بعد ذلك إلى حاكم المسلمين بدمشق، وله أن يصرف إلى من سوى ذلك من عامل وغيره من مغل الوقف على حسب ما تقتضيه الحال.
فهل إذا لم يكن في شرط النظر في كتاب الوقف شيء آخر يكون النظر المشروط للحاكم مختصًا بحاكم مذهب معين بمقتضى لفظ الشرط المذكور؟ أم لا يختص بحاكم معين، بل يكون النظر المذكور لمن كان حاكمًا بدمشق على أي مذهب كان من المذاهب الأربعة؟ وإذا لم يكن مختصًا وفوض بعض الحكام قضاة القضاة أعزهم الله بدمشق المحروسة لأهل كان النظر المذكور بمقتضى ما رآه من عدم الاختصاص يجوز لحاكم آخر منعه من ذلك أو بعض ما فعله بغير قادح؟
فأجاب:
ليس في اللفظ المذكور في شرط الواقف ما يقتضي اختصاصه بمذهب معين على الإطلاق، فإن ذلك يقتضي أنه لو لم يكن في البلد إلا حاكم على غير المذهب الذي كان عليه حاكم البلد ومن الواقف ألا يكون له النظر، وهذا باطل باتفاق المسلمين، فما زال المسلمون يقفون الأوقاف، ويشرطون أن يكون النظر للحاكم، أو لا يشترطون ذلك في كتاب الوقف، فإن ذلك يقتضي بطلان الشرع في الوقوف العامة التي لم يعين ولي الأمر لها ناظرًا خاصًا، وفي الوقوف الخاصة نزاع معروف.
ثم قد يكون الحاكم وقت الوقف له مذهب، وبعد ذلك يكون للحاكم مذهب آخر، كما يكون في العراق وغيرها من بلاد الإسلام، فإنهم كانوا يولون قضاة القضاة تارة لحنفي، وتارة لمالكي، وتارة لشافعي، وتارة لحنبلي، وهذا القاضي يولي في الأطراف من يوافقه على مذهبه تارة، ومن يخالفه أخرى، ولو شرط الإمام على الحاكم أو شرط الحاكم على خليفته أن يحكم بمذهب معين بطل الشرط، وفي فساد العقد وجهان.
ولا ريب أن هذا إذا أمكن القضاة أن يحكموا بالعلم والعدل من غير هذا الشرط فعلوا، فأما إذا قدر أن في الخروج عن ذلك من الفساد جهلًا وظلمًا أعظم مما في التقدير؛ كان ذلك من
باب دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولكن هذا لا يسوغ لواقف ألا يجعل النظر في الوقف إلا لذي مذهب معين دائمًا مع إمكان إلا أن يتولى في ذلك المذهب، فكيف إذا لم يشرط ذلك؟
ولهذا كان في بعض بلاد الإسلام يُشْرَط على الحاكم ألا يحكم إلا بمذهب معين، كما صار أيضًا في بعضها بولاية قضاة مستقلين، ثم عموم النظر في عموم العمل، وإن كان في كل من هذا نزاع معروف، وفيمن يعين إذا تنازع الخصمان: هل يعين الأقرب أو بالقرعة؟ فيه نزاع معروف، وهذه الأمور التي فيها اجتهاد إذا فعلها ولي الأمر نفذت.
وإذا كان كذلك، فالحاكم على أي مذهب كان إذا كانت ولايته تتناول النظر في هذا الوقف كان تفويضه سائغًا ولم يجز لحاكم آخر نقض مثل هذا، لا سيما إذا كان في التفويض إليه من المصلحة في المال ومستحقه ما ليس في غيره.
ولو قدر أن حاكمين ولي أحدهما شخصًا، وولي آخر شخصًا؛ كان الواجب على ولي الأمر أن يقدم أحقهما بالولاية، فإن من عرفت قوته وأمانته يقدم على من ليس كذلك باتفاق المسلمين.
سئل عن الناظر متى يستحق معلومه
وسئل عن الناظر: متى يستحق معلومه، من حين فوض إليه؟ أو من حين مكنه السلطان؟ أو من حين المباشرة؟
فأجاب:
الحمد لله، المال المشروط للناظر مستحق على العمل المشروط عليه، فمن عمل ما عليه يستحق ماله. والله أعلم.
سئل عمن استأجر أرض وقف من الناظر
وسئل عمن استأجر أرض وقف من الناظر على الوقف النظر الشرعي ثلاثين سنة بأجرة المثل، وأثبت الإجارة عند حاكم من الحكام، وأنشأ عمارة، وغرس في المكان مدة أربع سنين، ثم سافر والمكان في إجارته، وغاب إحدى عشرة سنة، فلما حضر وجد بعض الناس قد وضع يده على الأرض، وادعى أنه استأجرها، وذلك بطريق شرعي، فهل له نزع هذا الثاني وطلبه بتفاوت الأجرة؟
فأجاب:
إن كان الثاني قد استأجر المكان من غير من له ولاية الإيجار واستأجره مع بقاء إجارة صحيحة عليه، فالإجارة باطلة، ويده يد عادية مستحقة للرفع والإزالة، وإذا كان الثاني استأجرها وتسلمها وهي في إجارة الأول، فالأول مخير بين أن يفسخ الإجارة وتسقط عنه الإجارة من حين الفسخ، ويطالب أهل المكان بالإجارة لهذا الثاني المتولي عليه، يطلبون منه أجرة المثل إن كانت الإجارة فاسدة، وإن كانت صحيحة طالبوه بالفسخ وبين إمضاء الإجارة، ويعطي أهل المكان أجرتهم، ويطالب الغاصب بأجرة المثل من حين استيلائه على ما استأجره.
سئل عن قوم وقف عليهم حصة من حوانيت
وسئل رحمه الله عن قوم وقف عليهم حصة من حوانيت، وبعضها وقف على جهة أخرى، وتلك ملكًا لغيرهم، وشرط الواقف المذكور النظر في ذلك للأسَنِّ، فإذا استووا في ذلك فهم شركاء في النظر، فتداعى الوقف المذكور إلى الخراب، فأجروه لمالكي باقي الحصة مدة ثلاثين سنة بأجرة حالة وأجرة مؤجلة، وعينوا شهود الإجارة جميع ما في الحوانيت المذكورة، من خشب، وقَصَب، وجريد، وجُدر، وطولها، وعرضها، وغير ذلك. وذكر شهود الإجارة فيها: اعترف فلان وفلان الآخران المذكوران بقبض الأجرة الحالة بتمامها، ومن في درجتها، ومات المستأجر، وانتقل ما كان ملكًا له من ذلك لغيره، وانقضت مدة الإجارة، وانتقل الوقف المذكور إلى البطن الثاني، فهل للبطن الثاني أن يتسلموا الحوانيت المذكورة على ما هي عليه الآن، وقد اعترف الآخران بقبض الأجرة الحالة ليصرفاها في عمارة الوقف وإعادته إلى ما كان عليه، أو يلزمهم إقامة البينة على أن الآخران المذكوران لما قبضا الأجرة صرفاها في العمارة، أو المستأجرين، أو من انتقل إليهم ما كان ملكًا للمستأجر المنع من تسليم الحصة المذكورة من الحوانيت إلا على صورتها الأولى والحالة هذه؟
فأجاب:
الحمد لله، بل ما كان في العَرْصَة المشتركة من البناء بيد أهل العرصة ثابتة عليه بحكم الاشتراك أيضًا، حتى يقيم أحدهم حجة شرعية باختصاصه بالبناء، ولا يقبل مجرد دعوى أحد الشركاء في العرصة الاختصاص بالبناء، سواء كانت العرصة المشتركة بين وقف وطَلْقٍ، أو بين طلقين، أو وقفين، ويد المستأجر إنما هي على المنفعة، وليس بمجرد الإجارة تثبت دعوى استحقاق البناء إلا أن يقيم بذلك حجة. والله أْعلم.
سئل عن رجل أقر قبل موته أن جميع الحانوت والأعيان وقف
وسئل رحمه الله عن رجل أقر قبل موته بعشرة أيام أن جميع الحانوت والأعيان التي بها وقف على وجوه البر والقربات، وتصرف الأجرة والثواب من مدة تتقدم على إقراره هذا بعشرين سنة، ففعل بمقتضى شرط إقراره، وعين الناظر الإمام بعد موته، ثم عين ناظرًا آخر من غير عزل الإمام الناظر الأول، فصرف أحد الناظرين على ثبوت الوقف ما جرت العادة بصرفه على ثبوت مثله من ريع الوقف من غير أن يصرف إلى مستحقي الريع شيئا، فهل تجب الأجرة من الريع؟ أم من تركة الميت المقر بالوقف المذكور؟ وإذا تعذر إيجار العين الموقوفة بسبب اشتغالها بمال الورثة، فهل تجب الأجرة على الورثة تلك المدة؟ وهل تفوت الأجرة السابقة في ذمة الميت بمقتضى إقراره بالمدة الأولى ويرجع بها في تركته؟ وهل إذا عين ناظرًا ثم عين ناظرًا آخر يكون عزلًا للأول من غير أن يتلفظ بعزله؟ أم يشتركان في النظر؟ وهل إذا علم الشهود ثبوت المال في تركة الميت يحل كتمه أم لا؟
فأجاب:
ليست أجرة إثبات الوقف والسعي في مصالحه من تركة الميت، فإن ما زاد على المقر به كله مستحق للورثة، وإنما عليهم رفع أيديهم عن ذلك وتمكين الناظر منه، وليس عليه السعي ولا أجرة ذلك، وأما العين المقر بها إذا انتفع بها الورثة أو وضعوا أيديهم عليها، بحيث يمنع الانتفاع المستحق بها، فعليهم أجرة المنفعة في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما ممن يقول بأن منافع الغصب مضمونة، والنزاع في المسألة مشهور، وإقرار الميت بأنها وقف من المدة المتقدمة ليس بصريح في أنه كان مستوليًا عليها بطريق الغصب، والضمان لا يجب بالاحتمال.
وأما تعيين ناظر بعد آخر، فيرجع في ذلك إلى عرف مثل هذا الوقف وعادة أمثاله، فإن كان هذا في العادة رجوعًا كان رجوعًا، وكذلك إن كان في لفظه ما يقتضي انفراد الثاني بالتصرف، وإلا فقد عرفت المسألة وهي ما إذا وصى بالعين لشخص، ثم وصى بها لآخر: هل يكون رجوعًا أم لا؟ وما علمه الشهود من حق مستحق يصل الحق إلى مستحقه بشهادتهم لم يكتموها، وإن كان يوجد من لا يستحقه ولا يصل إلى من يستحقه، فليس عليهم أن يعينوا واحدًا منهما، وإن كان أخذه بتأويل واجتهاد لم يكن عليهم أيضًا نزعه من يده، بل يعان المتأول المجتهد على من لا تأويل له ولا اجتهاد.
سئل عمن وقف على أولاده أنه من توفي منهم رجع وقفه على ولده
وسئل رحمه الله عن صورة كتاب وقف نصه: هذا ما وقفه عامر بن يوسف بن عامر على أولاده: على، وطريفة؛ وزبيدة، بينهم على الفريضة الشرعية، ثم على أولادهم من بعدهم، ثم على أولاد أولادهم، ثم على أولاد أولاد أولادهم، ثم على نسلهم وعقبهم من بعدهم وإن سفلوا، كل ذلك على الفريضة الشرعية، على أنه من توفي من أولادهم المذكورين؛ وأولاد أولادهم ونسلهم، وعقبهم من بعدهم، عن ولد أو ولد ولد، ونسل أو عقب وإن سفل، كان ما كان موقوفًا عليه راجعًا إلى ولده، وولد ولده، ونسله وعقبه من بعده وإن سفل، كل ذلك على الفريضة الشرعية، ومن توفي منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب وإن بعد كان ما كان موقوفًا عليه راجعًا إلى من هو في طبقته وأهل درجته من أهل الوقف على الفريضة الشرعية، ثم على جهات ذكرها في كتاب الوقف والمسؤول من السادة العلماء أن يتأملوا شرط الواقف المذكور ثم توفي عن بنتين فتناولتا ما انتقل إليهما عنه، ثم توفيت إحداهما عن ابن وابنة ابن. فهل يشتركان في نصيبها؟ أم يختص به الابن دون ابنة الابن؟ ثم إن الابن المذكور توفي عن ابن: هل يختص بما كان جاريًا على أبيه دون ابنة الابن؟ وهل يقتضي شرط الواقف المذكور ترتيب الجملة على الجملة؟ أو الأفراد على الأفراد؟
فأجاب:
هذه المسألة فيها قولان عند الإطلاق معروفان للفقهاء في مذهب الإمام أحمد وغيره، ولكن الأقوى أنها لترتيب الأفراد على الأفراد، وأن ولد الولد يقوم مقام أبيه لو كان الابن موجودًا مستحقًا قد عاش بعد موت الجد واستحق، أو عاش ولم يستحق لمانع فيه، أو لعدم قبوله للوقف، أو لغير ذلك، أو لم يعش، بل مات في حياة الجد، ويكون على هذا التقدير مقابلة الجمع بالجمع، وهي تقتضي توزيع الأفراد على الأفراد كما في قوله: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } [13] أي: لكل واحد نصف ما تركت زوجته، وقوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [14]، أي: حرم على كل واحد أمه، ونحو ذلك، كذلك قوله: على أولادهم، ثم على أولاد أولادهم، أي: على كل واحد بعد موت أبيه، وأما في هذه فقد صرح الواقف بأنه من مات عن ولد انتقل نصيبه إلى ولده، وهذا صريح في أنه لترتيب الأفراد على الأفراد، فلم يبق في هذه المسألة نزاع.
وإنما الشبهة في أن الولد إذا مات في حياة أبيه وله ولد، ثم مات الأب عن ولد آخر، وعن ولد الولد الأول: هل يشتركان؟ أو ينفرد به الأول؟ الأظهر في هذه المسألة: أنهما يشتركان؛ لأنه إذا كان المراد أن كل ولد مستحق بعد موت أبيه سواء كان عمه حيًا أو ميتًا فمثل هذا الكلام إذًا يشترط فيه عدم استحقاق الأب كما قال الفقهاء في ترتيب العصبة: إنهم الابن، ثم ابنه، ثم الأب، ثم أبوه، ثم العم، ثم بنو العم، ونحو ذلك، فإنه لا يشترط في الطبقة الثانية إلا عدم استحقاق الأولى، فمتى كانت الثانية موجودة والأولى لا استحقاق لها استحقت الثانية، سواء كانت الأولى استحقت أو لم تستحق، ولا يشترط لاستحقاق الثانية استحقاق الأولى؛ وذلك لأن الطبقة الثانية تتلقى الوقف من الواقف، لا من الثانية، فليس هو كالميراث الذي يرثه الابن، ثم ينتقل إلى ابنه، وإنما هو كالولاء الذي يورث به، فإذا كان ابن المعتق قد مات في حياة المعتق، ورث الولاء ابن ابنه.
وإنما يغلط من يغلط في مثل هذه المسألة حين يظن أن الطبقة الثانية تتلقى من التي قبلها، فإن لم تستحق الأولى شيئا لم تستحق الثانية، ثم يظنون أن الوالد إذا مات قبل الاستحقاق لم يستحق ابنه، وليس كذلك، بل هم يتلقون من الواقف، حتى لو كانت الأولى محجوبة بمانع من الموانع، مثل أن يشترط الواقف في المستحقين أن يكونوا فقراء أو علماء، أو عدولًا، أو غير ذلك، ويكون الأب مخالفًا للشرط المذكور، وابنه متصفًا به فإنه يستحق الابن، وإن لم يستحق أبوه، كذلك إذا مات الأب قبل الاستحقاق فإنه يستحق ابنه، وهكذا جميع الترتيب في الحضانة، وولاية النكاح والمال، وترتيب عصبة النسب والولاء في الميراث، وسائر ما جعل المستحقون فيه طبقات ودرجات، فإن الأمر فيه على ما ذكر.
وهذا المعنى هو الذي يقصده الواقفون إذا سئلوا عن مرادهم، ومن صرح منهم بمراده، فإنه يصرح بأن ولد الولد ينتقل إليه ما ينتقل إلى ولده لو كان حيًا؛ لا سيما والناس يرحمون من مات والده ولم يرث؛ حتى إن الجد قد يوصى لولد ولده؛ ومعلوم أن نسبة هذا الولد ونسبة ولد ذلك الولد إلى الجد سواء، فكيف يحرم ولد ولده اليتيم ويعطي ولد ولده الذي ليس بيتيم؟ فإن هذا لا يقصده عاقل، ومتى لم نقل بالتشريك بقى الوقف في هذا الولد وولده، دون ذرية الولد الذي مات في حياة أبيه. والله أعلم.
سئل عن امرأة أوقفت وقفا على تربتها بعد موتها
وسئل عن امرأة أوقفت وقفًا على تربتها بعد موتها، وأرصدت للمقرئين شيئا معلومًا، وما يفضل عن ذلك للفقراء، أو وجوه البر، وأن لها قرابة خالها قد افتقر واحتاج، وانقطع عن الخدم، وأن الناظر لم يصرف له ما يقوم بأوده، فهل يجب إلزام الناظر بما يقوم بأود القرابة ودفع حاجته دون غيره؟
فأجاب:
إذا كان للموقفة قرابة محتاج كالخال ونحوه، فهو أحق من الفقير المساوي له في الحاجة، وينبغي تقديمه، وإذا اتسع الوقف لسد حاجته سدت حاجته منه.
سئل عن أوقاف ببلد على أماكن مختلفة
وسئل رحمه الله عن أوقاف ببلد على أماكن مختلفة، من مدارس، ومساجد، وخوانك، وجوامع، ومارستانات، وربط، وصدقات، وفكاك أسرى من أيدى الكفار، وبعضها له ناظر خاص، وبعضها له ناظر من جهة ولي الأمر، وقد أقام ولي الأمر على كل صنف من هذه الأصناف ديوانًا يحفظون أوقافه؛ ويصرفون ريعه في مصارفه، ورأي الناظر أن يفرز لهذه المعاملات مستوفيًا يستوفي حساب هذه المعاملات يعني الأوقاف كلها وينظر في تصرفات النظار والمباشرين، ويحقق عليهم ما يجب تحقيقه من الأموال المصروفة والباقي، وضبط ذلك عنده؛ ليحفظ أموال الأوقاف عند اختلاف الأيدي، وتغيير المباشرين، ويظهر بمباشرته محافظة بعض العمال على فائدة، فهل لولي الأمر أن يفعل ذلك إذا رأى فيه المصلحة أم لا؟ وإذا صار الآن يفعل ذلك إذا رأي فيه المصلحة، وقرر المذكور، وقرر له معلومًا يسير على كل من هذه لا يصل إلى ريع معلوم أحد المباشرين لها، ودون ذلك بكثير، لما يظهر له من المصلحة فيه، فهل يكون ذلك سائغًا؟ وهل يستحق المستوفي المذكور تناول ما قرر له أم لا إذا قام بوظيفته؟ وإذا كانت وظيفته استرجاع الحساب عن كل سنة على حكم أوضاع الكتاب، ووجد ارتفاع حساب سنين أو أكثر، فتصرف وعمل فيه وظيفته: هل يستحق معلوم المدة التي استرجع حسابهم فيها وقام بوظيفته بذلك الحساب؟
فأجاب:
نعم، لولي الأمر أن ينصب ديوانًا مستوفيًا لحساب الأموال الموقوفة عند المصلحة، كما له أن ينصب الدواوين مستوفيًا لحساب الأموال السلطانية، كالفيء وغيره، وله أن يفرض له على عمله ما يستحقه مثله، من كل مال يعمل فيه بقدر ذلك المال، واستيفاء الحساب، وضبط مقبوض المال، ومصروفه من العمل الذي له أصل؛ لقوله تعالى: { وَالْعَامِلِينَ عليها } [15]، وفي الصحيح: أن النبي ﷺ استعمل رجلا على الصدقة، فلما رجع حاسبه. وهذا أصل في محاسبة العمال المتفرقين، والمستوفي الجامع نائب الإمام في محاسبتهم، ولابد عند كثرة الأموال ومحاسبتهم من ديوان جامع.
ولهذا لما كثرت الأموال على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وضع الدواوين ديوان الخراج، وهو ديوان المستخدمين على الارتزاق، استعمل عليه عثمان بن حُنيف. وديوان النفقات، وهو ديوان المصروف على المقاتلة والذرية الذي يشبه في هذه الأوقات ديوان الحبس والثبوتات ونحو ذلك، واستعمل عليه زيد بن ثابت.
وكذلك الأموال الموقوفة على ولاة الأمر من الإمام والحاكم ونحوه إجراؤها على الشروط الصحيحة الموافقة لكتاب الله، وإقامة العمال على ما ليس عليه عامل من جهة الناظر. والعامل في عرف الشرع يدخل فيه الذي يسمي ناظرًا، ويدخل فيه غير الناظر لقبض المال ممن هو عليه صرفه ودفعه إلى من هو له؛ لقوله: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [16]. ونصب المستوفي الجامع للعمال المتفرقين بحسب الحاجة والمصلحة، وقد يكون واجبًا إذا لم تتم مصلحة قبض المال وصرفه إلا به، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد يستغني عنه عند قلة العمل ومباشرة الإمام للمحاسبة بنفسه، كما في نصب الإمام للحاكم، عليه أن ينصب حاكمًا عند الحاجة والمصلحة، إذا لم تصل الحقوق إلى مستحقها، أو لم يتم فعل الواجب وترك المحرم إلا به، وقد يستغني عنه الإمام إذا أمكنه مباشرة الحكم بنفسه.
ولهذا كان النبي ﷺ يباشر الحكم واستيفاء الحساب بنفسه، وفيما بعد عنه يولي من يقوم بالأمر، ولما كثرت الرعية على عهد أبي بكر وعمر والخلفاء استعملوا القضاة ودونوا الدواوين في أمصارهم وغيرها، فكان عمر يستنيب زيد بن ثابت بالمدينة على القضاء والديوان، وكان بالكوفة قد استعمل عمار بن ياسر على الصلاة والحرب، مثل نائب السلطان، والخطيب، فإن السنة كانت أنه يصلى بالناس أمير حربهم، واستعمل عبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال، واستعمل عثمان بن حُنيف على ديوان الخراج.
وإذا قام المستوفي بما عليه من العمل استحق ما فرض له، والجعل الذي ساغ له فرضه، وإذا عمل هذا ولم يعط جعله، فله أن يطلب على العمل الخاص، فإن ما وجب بطريق المعاملة يجب.
سئل عمن استأجر أرض وقف وغرس فيها غراسا وأثمر
وسئل عن رجل استأجر قطع أرض وقف، وغرس فيها غراسًا وأثمر، ومضت مدة الإيجار؛ فأراد نظار الوقف قلع الغراس، فهل لهم ذلك؟ أو أجرة المثل؟ وهل يثاب ولي الأمر على مساعدته؟
فأجاب:
ليس لأهل الأرض قلع الغراس، بل لهم المطالبة بأجرة المثل أو تملك الغراس بقيمته، أو ضمان نقصه إذا قلع، وما دام باقيًا فعلى صاحبه أجرة مثله، وعلى ولي الأمر منع الظالم من ظلمه. والله أعلم.
سئل عن رجل متولي إمامة مسجد ونظر وقفه من سنين معدودة
وسئل رحمه الله عن رجل متولي إمامة مسجد وخطابته، ونظر وقفه من سنين معدودة، بمرسوم ولي الأمر، وله مستحق بحكم ولايته الشرعية، فهل لنظار وقف آخر أن يضعوا أيديهم على هذا الوقف، أو يتصرفوا فيه بدون هذا الناظر، وأن يصرفوا مال المسجد المذكور في غير جهته، أو يمنعوا ما قدر له على ذلك؟ ولو قدر أن هذا الوقف كان في ديوان أولئك من مدة، ثم أخرجه ولي الأمر، وجعله للإمام الخطيب، فهل لهم ذلك والحالة هذه أن يتصرفوا فيه ويمنعوه التصرف مع بقاء ولايته؟ وهل إذا تصرف فيه متعد وصرف منه شيئا إلى غيره مع حاجة الإمام وقيام المصالح، وأصر على ذلك والحالة هذه يقدح في دينه وعدالته أم لا؟
فأجاب:
ليس لناظر غير الناظر المتولي هذا الوقف أن يضع يده عليه ولا يتصرف فيه بغير إذنه، لا نظار وقف آخر ولا غيرهم، سواء كانوا قبل ذلك متولين نظره أو لم يكونوا متولين نظره، ولا لهم أن يصرفوا مال المسجد في غير جهاته التي وقف عليها والحال ما ذكر بل يجب أن يعطي الإمام وغيره ما يستحقونه كاملا، ولا ينقصون من مستحقهم لأجل أن يصرفوا الفاضل إلى وقف آخر؛ فإن هذا لا نزاع في أنه لا يجوز، وإنما تنازع العلماء في جواز صرف الفاضل، ومن جوزه، فلم يجوز لغير الناظر المتولي أن يستقل بذلك، ومن أصر على صرف مال لغير مستحقه ومنع المستحق قدح في دينه وعدالته.
سئل على واقف وقف على فقراء المسلمين
وسئل رحمه الله على واقف وقف على فقراء المسلمين، فهل يجوز لناظر الوقف أن يصرف جميع ريعه إلى ثلاثة والحالة هذه أم لا؟ وإن جاز له أن يصرف إلى ثلاثة، وكان من أقارب الواقف فقير ثبت فقره واستحقاقه للصرف إليه من ذلك فهل يجوز الصرف إليه عوضًا عن أحد الثلاثة الأجانب من الواقف؟ وإذا جاز الصرف إليه، فهل هو أولى من الأجنبيين المصروف إليهما؟ وإذا كان أولي، فهل يجوز للناظر أن يصرف إلى قريب الواقف المذكور قدر كفايته من الوقف والحالة هذه؟ وإذا جاز له ذلك، فهل يكون فعله ذلك أولى وأفضل من أن ينقص من كفايته ويصرف ذلك القدر إلى الأجنبي والحالة هذه؟
فأجاب:
الحمد لله، يجب على ناظر الوقف أن يجتهد في مصرفه، فيقدم الأحق فالأحق، وإذا قدر أن المصلحة الشرعية اقتضت صرفه إلى ثلاثة مثل ألا يكفيهم أقل من ذلك، فلا يدخل غيرهم من الفقراء، وإذا كفاهم وغيرهم من الفقراء يدخل الفقراء معهم، ويساويهم مما يحصل من ريعه، وهم أحق منه عند التزاحم، ونحو ذلك. وأقارب الواقف الفقراء أولى من الفقراء الأجانب مع التساوي في الحاجة، ويجوز أن يصرف إليه كفايته إذا لم يوجد من هو أحق منه، وإذا قدر وجود فقير مضطر كان دفع ضرورته واجبًا، وإذا لم يندفع إلا بتنقيص كفاية أولئك من هذا الوقف من غير ضرورة تحصل لهم تعين ذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل ولى ذا شوكة على وقف
وسئل رحمه الله عن رجل ولي ذا شوكة على وقف من مساجد وربط وغير ذلك، اعتمادًا على دينه، وعلما بقصده للمصلحة، فعند توليته وجد تلك الوقوف على غير سنن مستقيم، ويتعرض إليها كره مباشرتها؛ لئلا يقع الطمع في مالها، وغير ملتفتين إلى صرفها في استحقاقها، وهم مثل القاضي، والخطيب، وإمام الجامع، وغير ذلك، فإنهم يأخذون من عموم الوقف، وهو مع هذا عاجز عن صد التعرض عنها، ومع اجتهاده فيها ومبالغته، فهل يحل للسائل عزل نفسه عنها، وعن القيام بما يقدر عليه من مصالحها، مع العلم بأنه بأجرة يكثر التعرض فيها، والطمع في مالها؟
وهل يحل له تناول أجرة عمله منها مع كونه ذا عائلة، وعاجز عن تحصيل قوتهم من غيرها؟ وهل يحل للناظر إذا وجد مكانًا خربًا أن يصرف ماله في مصلحة غيره عند تحققه بأن مصلحته ما يتصور أن تقوم بعمارته؟ وهل إذا فضل عن جهته شيء من ملكها صرفه إلى مهم غيره، وعمارة لازمة يمكن أن تحفظه لكثرة التعرض إليه أم لا؟
فأجاب:
أصل هذه إنما أوجبه الله من طاعته وتقواه مشروط بالقدرة، كما قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [17]، وكما قال النبي ﷺ: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)؛ ولهذا جاءت الشريعة عند تعارض المصالح والمفاسد بتحصيل أعظم المصلحتىن بتفويت أدناهما، وباحتمال أدني المفسدتين لدفع أعلاهما، فمتى لم يندفع الفساد الكبير عن هذه الأموال الموقوفة ومصارفها الشرعية إلا بما ذكر من احتمال المفسدة القليلة كان ذلك هو الواجب شرعًا.
وإذا تعين ذلك على هذا الرجل، فليس له ترك ذلك إلا مع ضرر أوجب التزامه، أو مزاحمة ما هو أوجب من ذلك، وله بإجماع المسلمين مع الحاجة تناول أجرة عمله فيها، بل قد جوزه من جوزه مع الغني أيضا، كما جوز الله تعالى للعاملين على الصدقات الأخذ مع الغني عنها.
وإذا خرب مكان موقوف، فتعطل نفعه بيع وصرف ثمنه في نظيره، أو نقلت إلى نظيره، وكذلك إذا خرب بعض الأماكن الموقوف عليها كمسجد ونحوه على وجه يتعذر عمارته، فإنه يصرف ريع الوقف عليه إلى غيره، وما فضل من ريع وقف عن مصلحته صرف في نظيره، أو مصلحة المسلمين من أهل ناحيته، ولم يحبس المال دائمًا بلا فائدة، وقد كان عمر بن الخطاب كل عام يقسم كسوة الكعبة بين الحجيج، ونظير كسوة الكعبة المسجد المستغني عنه من الحصر ونحوها، وأمر بتحويل مسجد الكوفة من مكان إلى مكان، حتى صار موضع الأول سوقًا.
سئل عن الوقف الذي أوقف على الأشراف
وسئل رحمه الله عن الوقف الذي أوقف على الأشراف ويقول: إنهم أقارب: هل الأقارب شرفاء أم غير شرفاء؟ وهل يجوز أن يتناولوا شيئا من الوقف أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إن كان الوقف على أهل بيت النبي ﷺ، أو على بعض أهل البيت، كالعلويين، والفاطميين، أو الطالبيين الذين يدخل فيهم بنو جعفر، وبنو عقيل، أو على العباسيين ونحو ذلك، فإنه لا يستحق من ذلك إلا من كان نسبه صحيحًا ثابتًا، فأما من ادعي أنه منهم ولم يثبت أنه منهم، أو علم أنه ليس منهم، فلا يستحق من هذا الوقف وإن ادعي أنه منهم، كبني عبد الله بن ميمون القداح، فإن أهل العلم بالأنساب وغيرهم يعلمون أنه ليس لهم نسب صحيح، وقد شهد بذلك طوائف أهل العلم من أهل الفقه والحديث والكلام والأنساب، وثبت في ذلك محاضر شرعية، وهذا مذكور في كتب عظيمة من كتب المسلمين، بل ذلك مما تواتر عند أهل العلم.
وكذلك من وقف على الأشراف، فإن هذا اللفظ في العرف لا يدخل فيه إلا من كان صحيح النسب من أهل بيت النبي ﷺ، وأما إن وقف واقف على بني فلان، أو أقارب فلان، ونحو ذلك، ولم يكن في الوقف ما يقتضي أنه لأهل البيت النبوي، وكان الموقوف ملكًا للواقف يصح وقفه على ذرية المعين؛ لم يدخل بنو هاشم في هذا الوقف.
سئل عن رجل بيده مسجد
وسئل قدس الله روحه عن رجل بيده مسجد بتواقيع إحياء سنة شرعية بحكم نزول من كان بيده توقيعًا بالنزول ثابتًا بالحكام، ثم إن ولد من كان بيده المسجد أولا تعرض لمن بيده المسجد الآن، وطلب مشاركته، ولم يكن له مستند شرعي غير أنه كان بيد والده، فهل يجوز أن يلجأ إلى الشركة بغير رضاه؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يجوز إلزام إمام مسجد على المشاركة والحالة هذه ولا التشريك بينهما، أو عزله بمجرد ما ذكر، من كون أبيه كان هو الإمام، فإن المساجد يجب أن يولي فيها الأحق شرعًا، وهو الأقرأ لكتاب الله، والأعلم بسنة رسول الله ﷺ، الأسبق إلى الأعمال الصالحة، مثل أن يكون أسبق هجرة، أو أقدم سنًا، فكيف إذا كان الأحق هو المتولي؟ فإنه لا يجوز عزله باتفاق العلماء. والله أعلم.
سئل عن مدرسة وقفت على الفقهاء والمتفقهة الفلانية
وسئل عن مدرسة وقفت على الفقهاء والمتفقهة الفلانية، برسم سكناهم، واشتغالهم فيها، فهل تكون السكني مختصة بالمرتزقين؟ وهل يجوز إخراج أحد من الساكنين مع كونه من الصنف الموقوف عليه؟
فأجاب:
لا تختص السكني والارتزاق بشخص واحد، وتجوز السكني من غير ارتزاق من المال، كما يجوز الارتزاق من غير سكني، ولا يجوز قطع أحد الصنفين إلا بسبب شرعي - إذا كان الساكن مشتغلا - سواء كان يحضر الدرس أم لا.
سئل عن رجل ملك إنسانا أنشابا قائمة على الأرض الموقوفة
وسئل رحمه الله عن رجل ملك إنسانًا أنشابَا قائمة على الأرض الموقوفة على الملك المذكور وغيره أيام حياته، ثم بعد وفاته على أولاده، وعلى من يحدثه الله من الأولاد من الذكور والإناث بينهم بالسوية، على أن من توفي منهم وترك ولدًا كان نصيبه من الوقف إلى ولده، أو ولد ولده وإن سفل، واحدًا كان أو أكثر، ذكرًا كان أو أنثي، من ولد الظهر والبطن، يستوي في ذلك الذكور والإناث، وإن توفي ولم يكن له ولد ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك؛ كان نصيبه من ذلك مصروفًا إلى من هو في درجته، مضافَا إلى ما يستحقه من ريع هذا الوقف، فإن لم يكن له أخ، ولا أخت، ولا من يساويه في الدرجة؛ كان نصيبه مصروفًا إلى أقرب الناس إليه، الأقرب فالأقرب من ولد الظهر والبطن، تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلي، من ولد الظهر والبطن بالسوية، إلى حين انقراضهم، فإن لم يبق أحد يرجع بنسبه إلى الموقوف عليه، لا من جهة الأب، ولا من جهة البنت؛ كان مغل الوقف مصروفًا إلى الفقراء والمساكين بثغر دمياط المحروسة، والواردين إليه، والمترددين عليه يفرقه الناظر على ما يراه، ثم على أسارى المسلمين.
فمن أهل الوقف الأول أحد البنات توفيت ولم يكن لها ولد أخذ إخوتها نصيبها، ثم ماتت البنت الثانية ولها ابنتان أخذتا نصيبها، ثم بعد ذلك ماتت البنت الثالثة ولم يكن لها ولد أخذت أختها نصيبها، ثم بعد ذلك ماتت الأخت الرابعة فأخذوا لها الثلثين؛ فهل يصح لأولاد خالته نصيب معه أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، البنت الأولى انتقل نصيبها إلى إخوتها الثلاثة، كما شرطه الواقف، لا يشارك أولاد هذه لأولاد هذه في النصيب الأصلى الذي كان لأمها، وأما النصيب العائد وهو الذي كان للثالثة وانتقل إلى الرابعة فهذا يشترك فيه أولاد هذه وأولاد هذه، كما يشترك فيه أمهما، هذا أظهر القولين في هذه المسألة.
وقيل: إن جميع ما حصل للرابعة وهو نصيبها، ونصيب الثالثة ينتقل إلى أولادها خاصة؛ لأن الواقف قال: وإن توفي، ولم يكن له ولد ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك كان نصيبه مصروفًا إلى من في درجته، مضافًا إلى ما يستحقه من ريع الوقف. قالوا: فالمضاف كالمضاف إليه، فإذا كان هذا ينتقل إلى أولاده فكذلك الآخر؛ لأن قول الواقف: من مات منهم وترك ولدًا كان نصيبه من الوقف إلى ولده يتناول الأصلى والعائد.
والأظهر هو القول الأول، فإن قوله: كان نصيبه، يتناول النصيب الذي تقدم ذكره، وأما تناوله لما بعد ذلك فمشكوك فيه، فلا يدخل بالشك، بل قد يقال: هذا هو في الأصل نصيب الميت عنه، كما ذكر الواقف، والظاهر من حال الواقف لفظًا وعرفًا أنه سوي بين الطبقة في نصيب من ولد له ولد، فأخذه المساوي بكونه كان في الطبقة، وأولاده في الطبقة، كأولاد الميت الأول، فكما أن الميتين لو كانا حيين اشتركا في هذا النصيب العائد، فكذلك يشترك فيه ولدهما من بعدهما، فإن نسبتهما إلى صاحب النصيب نسبة واحدة.
وهذا هو الذي يقصده الناس بمثل هذه الشروط، كما يشهد بذلك عرفهم وعادتهم، والمقصود إجراء الوقف على الشروط الذي يقصدها الواقف؛ ولهذا قال الفقهاء، إن نصوصه كنصوص الشارع يعني: في الفهم والدلالة فيفهم مقصود ذلك من وجوه متعددة، كما يفهم مقصود الشارع.
ومن كشف أحوال الواقفين علم أنهم يقصدون هذا المعني، فإنه أشبه بالعدل، ونسبة أولاد الأولاد إلى الواقف سواء، فليس له غرض في أن يعطي ابن هذا نصيبان أو ثلاثة لتأخر موت أبيه، وأولئك لا يعطون إلا نصيبًا واحدًا، لا سيما وهذا المتأخر قد استغل الوقف، فقد يكون خلف لأولاده بعض ما استغله، والذي مات أولا لم يستغله إلا قليلا، فأولاده أقرب إلى الحاجة، ونسبتهما إلى الواقف سواء، فكيف يقدم من هو أقرب إلى الحاجة إلى من هو أبعد عنها وهما في القرب إليه وإلى الميت صاحب النصيب بعد انقراض الطبقة سواء؟
وهو كما لو مات صاحبه آخرًا، ولو مات آخرًا اشترك جميع الأولاد فيه، بل هذا يتناوله قول الواقف: إن توفي ولم يكن له ولد ولا ولد ولد كان نصيبه مصروفًا إلى من هو في درجته، فإن لم يكن له أخ ولا أخت ولا من يساويه في الدرجة، فيكون نصيبه مصروفًا إلى أقرب الناس، وكلهم في القرب إليه سواء. والله أعلم.
سئل عن واقف وقف وقفا على أولاده ثم على أولاد أولاده
وسئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى عن واقف وقف وقفًا على أولاده، ثم على أولاد أولاده، ثم على أولاد أولاد أولاده، ونسله، وعقبه دائمًا ما تناسلوا، على أنه من توفي منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب؛ كان ما كان جاريا عليه من ذلك على من في درجته وذوي طبقته، فإذا توفي بعض هؤلاء الموقوف عليهم عن ولد أو ولد ولد، أو نسل أو عقب لمن يكون نصيبه؟ هل يكون لولده؟ أو لمن في درجته من الإخوة وبني العم ونحوهم؟
فأجاب:
نصيبه ينتقل إلى ولده دون إخوته وبني عمه؛ لوجوه متعددة نذكر منها ثلاثة:
أحدها: أن قوله: على أولاده، ثم على أولاد أولاده، مقيد بالصفة المذكورة بعده، وهي قوله: على أنه من توفي منهم عن غير ولد انتقل نصيبه إلى ذوي طبقته، وكل كلام اتصل بما يقيده فإنه يجب اعتبار ذلك المقيد دون إطلاقه أول الكلام.
بيان المقدمة الأولى: أن هذه الجملة وهي قوله: على أنه من توفي منهم، في موضع نصب على الحال، والحال صفة في المعني، والصفة مقيدة للموصوف وإن شئت قلت: لأنه جار ومجرور متصل بالفعل، والجار والمجرور مفعول في النفي، وذلك مقيد للفعل. وإن شئت قلت: لأنه كلام لم يستقل بنفسه، فيجب ضمه إلى ما قبله. وإن شئت قلت: لأن الكلام الأول لم يسكت عليه المتكلم حتى وصله بغيره، وصلة الكلام مقيدة له. وكل هذه القضايا معلومة بالاضطرار في كل لغة.
بيان الثانية: أن الكلام متى اتصل به صفة أو شرط أو غير ذلك من الألفاظ التي تغير موجبه عند الإطلاق وجب العمل بها، ولم يجز قطع ذلك الكلام عن تلك الصفات المتصلة به، وهذا مما لا خلاف فيه أيضًا بين الفقهاء بل ولا بين العقلاء، وعلى هذا تنبني جميع الأحكام المتعلقة بأقوال المكلفين من العبادات والمعاملات، مثل الوقف، والوصية، والإقرار، والبيع، والهبة، والرهن، والإجارة، والشركة، وغير ذلك.
ولهذا قال الفقهاء: يرجع إلى لفظ الواقف في الإطلاق والتقييد؛ ولهذا لو كان أول الكلام مطلقًا أو عامًا ووصله المتكلم بما يخصه أو يقيده؛ كان الاعتبار بذلك التقييد والتخصيص، فإذا قال: وقفت على أولادي، كان عامًا، فلو قال: الفقراء، أو العدول، أو الذكور؛ اختص الوقف بهم، وإن كان أول كلامه عامًا.
وليس لقائل أن يقول: لفظ الأولاد عام، وتخصيص أحد النوعين بالذكر لا ينفي الحكم عن النوع الآخر، بل العقلاء كلهم مجمعون على أنه قصر الحكم على أولئك المخصوصين في آخر الكلام - مثبتوا المفهوم ونفاته، ويسمون هذا التخصيص المتصل. ويقولون: لما وصل اللفظ العام بالصفة الخاصة صار الحكم متعلقًا بذلك الوصف فقط، وصار الخارجون عن ذلك الوصف خارجين عن الحكم، أما عند نفاة المفهوم فلأنهم لم يكونوا يستحقون شيئا إلا إذا دخلوا في اللفظ، فلما وصل اللفظ العام بالصفة الخاصة أخرجهم من اللفظ؛ فلم يصيروا داخلين فيه، فلا يستحقون، فهم ينفون استحقاقهم لعدم موجب الاستحقاق. وأما عند مثبتي المفهوم فيخرجون لهذا المعني ولمعني آخر، وهو أن تخصيص أحد النوعين بالذكر يدل على قصد تخصيصه بالحكم، وقصد تخصيصهم بالحكم ملتزم لنفيه عن غيرهم. فهم يمنعون استحقاقهم لانتفاء موجبه، ولقيام مانعه.
وكذلك لو قيد المطلق مثل أن يقول: وقفت على أولادي على أنهم يعطون إن كانوا فقراء، أو على أنهم يستحقون إذا كانوا فقراء، أو وقفت على أولادي على أنه يصرف من الوقف إلى الموجودين منهم إذا كانوا فقراء، ووقفت على أنه من كان فقيرًا كان من أهل الوقف، فإن هذا مثل قوله: وقفت على أولادي على الفقراء منهم، أو بشرط أن يكونوا فقراء، أو إن كان فقيرًا.
ولو قال: وقفت على بناتي على أنه من كانت أيما أعطيت، ومن تزوجت ثم طلقها زوجها أعطيت، فإن هذا مثل قوله: وقفت على بناتي على الأيامي منهم، فإن صيغة على من صيغ الاشتراط، كما قال: { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } [18].
واتفق الفقهاء أنه لو قال: زوجتك بنتي على ألف، أو على أن تعطيها ألفًا، أو على أن يكون لها في ذمتك ألف؛ كان ذلك شرطًا ثابتًا وتسميته صحيحة، وليس في هذا خلاف، وقد أخطأ من اعتقد أن في مذهب الإمام أحمد أو غيره خلافًا في ذلك؛ من أجل اختلافهم فيما إذا قال لزوجته: أنت طالق على ألف، أو لعبده: أنت حر على ألف، فلم تقبل الزوجة والعبد، فإنه في إحدى الروايتين عن أحمد يقع العتق والطلاق، فإنه ليس مأخذه أن هذه الصيغة ليست للشرط، فإنه لا يختلف مذهبه أنه لو قال: خلعتك على ألف، أو كاتبتك على ألف، أو زوجتك على ألف، أو قال: بعتك هذا العبد على أن ترهنني به كذا، أو على أن يضمنه زيد، أو زوجتك بنتي على أنك حر، أن هذه شروط صحيحة، ولا خلاف في ذلك بين الفقهاء كلهم.
وإنما المأخذ أن العتق والطلاق لا يفتقران إلى عوض، ولم يعلق الطلاق بشرط، وإنما شرط فيه شرطًا، وفَرَّق بين التعليق على الشرط وبين الشرط في الكلام المنجز؛ولهذا لا يصح كثير من التصرفات المعلقة مع صحة الاشتراط فيها، وهذه الصفة قد تعذر وجودها، والطلاق الموصوف إذا فاتت صفته: هل يفوت جميعه؟ أو يثبت هو دون الصفة؟ فيه اختلاف.
إذا تبين أن قوله: على أنه من توفي منهم، شرط حكمي، ووصف معنوي للوقف المذكور، وأنه يجب اعتباره والعمل بموجبه، فمعلوم أنه إذا اعتبر القيد المذكور في الكلام كان انتقال نصيب المتوفي إلى ذوي طبقته مشروطًا بعدم ولده، وأن الواقف لم يصرف إليهم نصيب المتوفي في هذه الحال، ومعلوم حينئذ أنه لا يجوز صرف نصيب المتوفي إليهم في ضد هذه الحال، وهو ما إذا كان له ولد، وهو المطلوب.
وعلم أن هذا ثابت باتفاق الفقهاء، بل والعقلاء القائلين بالمفهوم، والنافين له، فإن صرف الوقف إلى غير من صرفه إليه الواقف حرام، وهو لم يصرفه إليهم، فهذا المنع لانتفاء الموجب متفق عليه، ولأنه قد منع صرفه إليهم وهذا المنع لوجود المانع مختلف فيه، وتقدير الكلام: وقفت على أولادي ثم على أولادهم بشرط أن ينتقل نصيب المتوفي منهم إلى أهل طبقته إذا كان قد توفي عن غير ولد.
وليس يختلف أحد من الفقهاء في أن هذا الباب يقصر على القيود المذكورة، وإنما يغلط هنا من لم يحكم دلالات الألفاظ اللغوية، ولم يميز بين أنواع أصول الفقه السمعية، ولم يتدرب فيما علق بأقوال المكلفين من الأحكام الشرعية، ولا هو جري في فهم هذا الخطاب على الطبيعة العربية، والفطرة السليمة النقية، فارتفع عن شأن العامة بحيث لم يدخل في زمرتهم فيما يفهمونه في عرف خطابهم، وانحط عن أوج الخاصة، فلم يهتد للتمييز بين المشتبهات في الكلام، حتى تقر الفطر على ما فطرها عليه الذي أحسن كل شيء خلقه، والحمق أدي به إلى الخلاص من كناسة بترًا، ومن أحكم العلوم حتى أحاط بغاياتها رده ذلك إلى تقرير الفطر على بداياتها، وإنما بعثت الرسل لتكميل الفطرة؛ لا لتغييرها { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عليها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [19].
ومعلوم أن كل من سمع هذا الكلام من أهل اللسان العربي خاصتهم وعامتهم لم يفهموا منه إلا إعطاء أهل طبقة المتوفي بشرط ألا يكون للمتوفي ولد، ويعقلون أن هذا الكلام واحد متصل بعضه ببعض، وإنما نشأ غلط الغالط من حيث توهم أن الكلام الأول فيه عموم، والكلام الثاني قد خص أحد النوعين بالذكر، فيكون من باب تعارض العموم والمفهوم.
ثم قد يكون ممن نظر في كتب بعض المتكلمين أو بعض الفقهاء الذين لا يقولون بدلالة المفهوم، وإذا قالوا بها رأوا دلالة العموم راجحة عليها؛ لكون الخلافات فيها أضعف منه في دلالة المفهوم، فإنه لم يخالف في العموم إلا شرذمة لا يعتد بهم، وقد خالف في المفهوم طائفة من الفقهاء وطوائف من أهل الكلام، حتى قد يتوهم من وقع له هذا أنه لا ينبغي أن يترك صريح الشرط أو عمومه لمفهوم الصفة مع ضعفه. فنعوذ بالله من العمى في البصيرة، أو حَوَلٍ يرى الواحد اثنين؛ فإن الأعمى أسلم حالا في إدراكه من الأحول إذا كان مقلدًا للبصير، والبصير صحيح الإدراك. ولولا خشية أن يحسب حاسب أن لهذا القول مساغًا، أو أنه قد يصح على أصول بعض الفقهاء لكان الإضراب عن بيانه أولى.
فيقال: هذا الذي تكلم الناس فيه من دلالة المفهوم: هل هي حجة أم لا؟ وإذا كانت حجة، فهل يخص بها العام أم لا؟ إنما هو في كلامين منفصلين من متكلم واحد، أو في حكم الواحد، ليس ذلك في كلام واحد متصل بعضه ببعض، ولا في كلام متكلمين لا يجب اتحاد مقصودهما، فهنا ثلاثة أقسام:
أحدها: كلامان من متكلم واحد أو في حكم الواحد، وإنما ذكرنا ذلك ليدخل فيه إذا كان أحدهما كلام الله والآخر كلام رسوله، فإن حكم ذلك حكم ما لو كانا جميعًا من كلام الله أو كلام رسوله، مثل قوله ﷺ: (الماءُ طهورٌ لا ينجسه شيء) مع قوله: (إذا بلغ الماء قُلتَين لم يحمل الخبث)، فإن المتكلم بهما واحد ﷺ، وهما كلامان. فمن قال: إن المفهوم حجة يخص به العموم خص عموم قوله: (الماء طهور لا ينجسه شيء) بمفهوم (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) مع أن مفهوم العدد أضعف من مفهوم الصفة، وهذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما. ومن امتنع من ذلك قال: قوله: (الماء طهور) عام، وقوله: (إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس) هو بعض ذلك العام، وهو موافق له في حكمه، فلا تترك دلالة العموم لهذا.
وكذلك قوله في كتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر: (في الإبل في خمسٍ منها شاةٌ) إلى آخره، مع قوله في حديث آخر: (في الإبل السائمة في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة)، ونظائره كثيرة، منها ما قد اتفق الناس على ترجيح المفهوم فيه، مثل قوله: (جُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) مع قوله: (جعلت لي كُل أرض طيبة مسجدًا وطهورًا)، فإنه لا خلاف أن الأرض الخبيثة ليست بطهور. ومنها ما قد اختلفوا فيه، كقوله في هذا الحديث: (وَجُعِلت تربتها لي طهورا)، فإن الشافعي وأحمد وغيرهما جعلوا مفهوم هذا الحديث مخصصًا لقوله: (جُعلت لي كل أرض طيبة طهورًًا). ومنها ما قد اتفقوا على تقديم العموم فيه كقوله: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [20]، مع قوله: { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ } [21]، فإن أكلها حرام سواء قصد بدارًا كبر اليتيم أو لا.
وقد اختلف الناس في هاتين الدلالتين إذا تعارضتا، فذهب أهل الرأي وأهل الظاهر، وكثير من المتكلمين، وطائفة من المالكية، والشافعية والحنبلية إلى ترجيح العموم. وذهب الجمهور من المالكية، والشافعية والحنبلية، وطائفة من المتكلمين إلى تقديم المفهوم، وهو المنقول صريحًا عن الشافعي وأحمد وغيرهما. والمسألة محتملة، وليس هذا موضع تفصيلها؛ فإنها ذات شُعَب كثيرة، وهي متصلة بمسألة المطلق، والمقيد وهي غَمرةٌ من غمرات أصول الفقه، وقد اشتبهت أنواعها على كثير من السابحين فيه.
لكن المقصود أن مسألتنا ليست من هذا الباب، مع أنها لو كانت منه؛ لكان الواجب على من يفتي بمذهب الشافعي وأحمد أن يبني هذه المسألة على أصولهما، وأصول أصحابهما، دون ما أصله بعض المتكلمين الذين لم يمعنوا النظر في آيات الله، ودلائله التي بينها في كتابه، وعلى لسان رسوله، ولا أحاطوا علمًا بوجوه الأدلة ودقائقها التي أودعها الله في وحيه الذي أنزله، ولا ضبطوا وجوه دلالات اللسان الذي هو أبين الألسنة، وقد أنزل الله به أشرف الكتب.
وإنما هذه المسألة هي من القسم الثاني، وهو أن يكون كلام واحد متصل بعضه ببعض، آخره مقيد لأوله، مثل ما لو قال: (الماء طهور لا ينجسه شيء إذا بلغ قلتين)، أو يقول: (الماء طهور إذا بلغ قلتين لا ينجسه شيء)، أو يقول: (في كل خمس من الإبل شاةٌ، وفي عشر شاتان، تجب هذه الزكاة في الإبل السائمة)، كما قال: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } [22]، فأطلق وعمم، ثم قال في آخره: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ }، فإنه لا خلاف بين الناس أن هذا الكلام لا يؤخذ بعموم أوله، بل إنما تضمن طهارة القلتين فصاعدًا، ووجوب الزكاة في السائمة.
لكن نفاة المفهوم يقولون: لم يتعرض لما سوي ذلك بنفي ولا إثبات، فنحن ننفيه بالأصل، إلا أن يقوم دليل ناقل عن الأصل، والجمهور يقولون: بل ننفيه بدليل هذا الخطاب الموافق للأصل.
ومما يوضح الفرق بين الكلام المتصل والمنفصل: أن رجلا لو قال: وصيت بهذا المال للعلماء يعطون منه إذا كانوا فقراء. ولو قال مرة: وصيت به للعلماء، ثم قال: أعطوا من مإلى للعلماء إذا كانوا فقراء، فهنا يقال: تعارض العموم والمفهوم؛ لكن مثل هذا لا يجيء في الوقف، فإنه إذا وقف على صفة عامة أو خاصة لم يمكن تغييرها، بخلاف الوصية، ولو فسر الموصى لفظه بما يخالف ظاهره قبل منه، بخلاف الواقف؛ ولهذا قلنا: إن تقييد هذا الكلام بالصفة المتأخرة واجب عند جميع الناس القائلين بالمفهوم ونفاته، فإن هذا ليس من هذا الباب، وإنما هو من باب الكلام المقيد بوصف في آخره.
القسم الثالث: أن يكون في كلام متكلمين لا يجب اتحاد مقصودهما، مثل شاهدين شهدا أن جميع الدار لزيد، وشهد آخران أن الموضع الفلاني منها لعمرو، فإن هاتين البينتين يتعارضان في ذلك الموضع، ولا يقول أحد: إنه يبني العام على الخاص هنا. وقد غلط بعض الناس مرة في مثل هذه المسألة، فرأي أنه يجمع بين البينتين؛ لأنه من باب العام والخاص، كما غلط بعضهم في القسم الثاني فألحقوه بالأول.
ومن نَوَّر الله قلبه فَرَّق بين هذه الأقسام الثلاثة، وعلم أن الفرق بينها ثابت في جميع الفطر، وإنما خاصة العلماء إخراج ما في القوة إلى الفعل، فلو سلم أن الكلام الأول عام أو مطلق فقد وصل بما يقيده ويخصصه، وقد أطبق جميع العقلاء على أن مثل هذا مخصوص مقيد، وليس عامًا ولا مطلقًا. ففرِّق أصلحك الله بين أن يتم الكلام العام المطلق فيسكت عليه، ثم يعارضه مفهوم خاص أو مقيد، وبين أن يوصل بما يقيده ويخصصه. ألست تعلم أن جميع الأحكام مبنية على هذا؟ فإنه لو حلف وسكت سكوتًا طويلا، ثم وصله باستثناء أو عطف أو وصف أو غير ذلك لم يؤثر، فلو قال: والله لا أسافر، ثم سكت سكوتًا طويلا، ثم قال: إن شاء الله. أو قال: إلى المكان الفلاني. أو قال: ولا أتزوج. أو قال: لا أسافر راجلا؛لم تتقيد اليمين بذلك. ولو حلف مرة: لا أسافر، ثم حلف مرة ثانية: لا يسافر راجلا؛ لم تقيد اليمين الأولى بقيد الثانية. ولو قال: لا أسافر راجلا؛ لتقيدت يمينه بذلك الاتفاق.
فلما قال هنا: وقفت على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على أولاد أولادهم، على أنه من توفي منهم عن غير ولد كان نصيبه لذوي طبقته؛ صار المعني وقفت وقفًا مقيدًا بهذا القيد المتضمن انتقال نصيب المتوفي إلى أهل طبقته بشرط عدم ولده، وصار مثل هذا أن يقول: وقفت على ولدي وولد ولدي ونسلي وعقبي، على أن الأولاد يستحقون هذا الوقف بعد موت آبائهم، أفليس كل فقيه يوجب أن استحقاق الأولاد مشروط بموت الآباء؟ وأنه لو اقتصر على قوله: على ولدي وولد ولدي اقتضي التشريك.
ويوضح هذه المسألة التي قد يظن أنها مثل هذه أنه لو وقف على زيد وعمرو وبكر، ثم على المساكين؛ لم ينتقل إلى المساكين شيء حتى يموت الثلاثة، هذا هو المشهور، فلو قال في هذه الصورة: وقفت على زيد وعمرو وبكر، ثم على المساكين، على أنه من مات من الثلاثة انتقل نصيبه إلى الآخرين إذا لم يكن في بلد الوقف مسكين. أو قال: على أنه من من مات من الثلاثة ولم يوجد من المساكين أحد انتقل نصيبه إلى الآخرين. أو يقول: على أنه من مات من الثلاثة انتقل نصيبه إلى الآخرين إن كانا فقيرين. أو إن كانا مقيمين ببلد الوقف، ونحو ذلك، أفليس كل فقيه، بل كل عاقل يقضي بأن استحقاق الباقين لنصيب المتوفي مشروط بهذا الشرط، وإن هذا الشرط الذي تضمنه الكلام يجب الرجوع إليه، فإن الكلام إنما يتم بآخره، ولا يجوز اعتبار الكلام المقيد دون مطلقه، وهذا مما قد اضطر الله العقلاء إلى معرفته، إلا أن يحول بين البصيرة وبين الإدراك مانع، فيفعل الله ما يشاء، ومسألتنا أوضح من هذه الأمثلة.
ومثال ذلك أن يقول: وقف على أولادي، ثم على أولادهم، على أنه من مات منهم وهو عدل انتقل نصيبه إلى ولده، فهل يجوز أن ينتقل الوقف إلى الولد، سواء كان الميت مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان عدلا أو فاسقًا؟ فمن توهم أنه ينتقل إليه لاندراجه في اللفظ العام قيل له: اللفظ العام لم ينقطع ويسكت عليه حتى يعمل به، وإنما هو موصول بما قيده وخصصه، ولا يجوز أن يعتبر بعض الكلام الواحد دون بعض، وهذا أبين من فلق الصبح، ولكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
ومن أراد أن يبهر المتكلم في هذا، فليكثر من النظائر التي يصل فيها الكلام العام أو المطلق بما يخصه ويقيده، مثل أن تقول: وقفت على الفقهاء على أنه من حضر الدرس صبيحة كل يوم استحق. أو وقفت على الفقراء على أنه من جاور بالحرمين منهم استحق. أو تقول: على أن يجاور بأحد الحرمين. أو على أن الفقهاء يشهدون الدرس في كل غداة، ونحو ذلك من النظائر التي تفوت العدد والإحصاء.
ومما يغلط فيه بعض الأذهان في مثل هذا: أن يحسب أن بين أول الكلام وآخره تناقضًا أو تعارضًا، وهذا شبهة من شبهات بعض الطماطم من منكري العموم، فإنهم قالوا: لو كانت هذه الصيغ عامة لكان الاستثناء رجوعًا أو نقضًا. وهذا جهل؛ فإن ألفاظ العدد نصوص مع جواز ورود الاستثناء عليها، كما قال تعالى: { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا } [23]، وكذلك النكرة في الموجب مطلقة مع جواز تقييدها في مثل قوله: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [24].
وإنما أتي هؤلاء من حيث توهموا أن الصيغ إذا قيل: هي عامة. قيل: إنها عامة مطلقًا. وإذا قيل: إنها عامة مطلقًا، ثم رفع بالاستثناء بعض موجبها، فقد اجتمع في ذلك المرفوع العموم المثبت له، والاستثناء النافي له، وذلك تناقض، أو رجوع.
فيقال لهم: إذا قيل: هي عامة، فمن شرط عمومها أن تكون منفصلة عن صلة مخصصة، فهي عامة عند الإطلاق، لا عامة على الإطلاق، واللفظ الواحد تختلف دلالته بحسب إطلاقه وتقييده؛ ولهذا أجمع الفقهاء أن الرجل لو قال: له ألف درهم من النقد الفلاني، أو مكسرة، وسود، أو ناقصة، أو طبرية، أو ألف إلا خمسين، ونحو ذلك؛ كان مقرًًا بتلك الصفة المقيدة، ولو كان الاستثناء رجوعًا لما قبل في الإقرار؛ إذ لا يقبل رجوع المقر في حقوق الآدميين.
وكثيرًا ما قد يغلط بعض المتطرفين من الفقهاء في مثل هذا المقام، فإنه يسأل عن شرط واقف، أو يمين حالف، ونحو ذلك، فيري أول الكلام مطلقًا أو عامًا، وقد قيد في آخره، فتارة يجعل هذا من باب تعارض الدليلين، ويحكم عليهما بالأحكام المعروفة للدلائل المتعارضة من التكافؤ والترجيح، وتارة يري أن هذا الكلام متناقض؛ لاختلاف آخره وأوله، وتارة يتلدد تلدد المتحير، وينسب الشاطر إلى فعل المقصر، وربما قال: هذا غلط من الكاتب. وكل هذا منشؤه من عدم التمييز بين الكلام المتصل والكلام المنفصل. ومن علم أن المتكلم لا يجوز اعتبار أول كلامه حتى يسكت سكوتًا قاطعًا، وأن الكاتب لا يجوز اعتبار كتابه حتى يفرغ فراغًا قاطعًا؛ زالت عنه كل شبهة في هذا الباب، وعلم صحة ما تقوله العلماء في دلالات الخطاب.
ومن أعظم التقصير نسبة الغلط إلى متكلم مع إمكان تصحيح كلامه، وجريانه على أحسن أساليب كلام الناس، ثم يعتبر أحد الموضعين المتعارضين بالغلط دون الآخر، فلو جاز أن يقال: قوله: على أنه من مات منهم عن غير ولد غلط، لم يكن ذلك بأولى من أن يقال: قوله: "ثم" هو الغلط؛ فإن الغلط في تبديل حرف بحرف بالنسبة إلى الكاتب أولى من الغلط بذكر عدة كلمات، فإن قوله: عن غير ولد، ولا ولد ولد، ولا نسل، ولا عقب، مشتمل على أكثر من عشر كلمات.
ثم من العجب أن يتوهم أن هذا توكيد، والمؤكد إنما يزيح الشبهة، فكان قوله: من مات منهم عن ولد. أولى من قوله: من مات منهم عن غير ولد؛ إذا كان الحكم في البابين واحدًا، وقصد التوكيد، فإن نقل نصيب الميت إلى إخوته مع ولده تنبيه على نقله إليهم مع عدمهم. أما أن يكون التوكيد ببيان الحكم الجلي دون الخفي، فهذا خروج عن حدود العقل والكلام، ثم التوكيد لا يكون بالأوصاف المقيدة للموصوف، فإنه لو قال: أكرم الرجال المسلمين، وقال: أردت إكرام جميع الرجال، وخصصت المسلمين بالذكر توكيدًا، وذكرهم لا ينفي غيرهم بعد دخولهم في الاسم الأول؛ لكان هذا القول ساقطًا غير مقبول أصلا؛ فإن المسلمين صفة للرجال، والصفة تخصص الموصوف، فلا يبقي فيه عموم، لكن لو قال: أكرم الرجال والمسلمين بحرف العطف، مع اتفاق الحكم في المعطوف والمعطوف عليه وكونه بعضه لكان توكيدًا؛ لأن المعطوف لا يجب أن يقيد المعطوف عليه ويخصصه؛ لما بينهما من المغايرة الحاصلة بحرف العطف، بخلاف الصفات ونحوها فإنها مقيده؛ وكذلك بعض أنواع العطف، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك؛ ولهذا فَرَّق الفقهاء بين العطف المغير وغير المغير في باب الإقرار، والطلاق، والعقود.
ومن رام أن يجعل الكلام معني صحيحًا قبل أن يتم لزمه أن يجعل أول كلمة التوحيد كفرًا وآخرها إيمانًا؛ وأن المتكلم بها قد كفر، ثم آمن، فنعوذ بالله من هذا الخبال. وإن كان قد نقل عن بعض الناس أنه قال: ما كلمة أولها كفر وآخرها إيمان؟ فقيل له: ما هي؟ فقال: كلمة الإخلاص. قلت: قصد بذلك أن أولها لو سكت عليه كان كفرًا، ولم يرد أنها كفر مع اتصالها بالاستثناء؛ فإنه لو أراد هذا لكان قد كفر.
ولهذا قال المحققون: الاستثناء تكلم بما عدي المستثني. وغلط بعضهم فظن أنه إذا قال: ألف إلا خمسين، كانت الألف مجازًا؛ لأنه مستعمل في غير ما وضع له؛ لأنه موضوع لجملة العدد، ولم يرد المتكلم ذلك. فيقال له: هو موضوع له إذا كان منفردًا عن صلة؛ وذلك الشرط قد زال، ثم يقال له: إنما فهم المعنى هنا بمجموع قول: ألف إلا خمسين، لا بنفس الألف، فصارت هذه الألفاظ الثلاثة هي الدالة على تسعمائة وخمسين، وهذه شبهة من رأى أن العام المخصوص تخصيصًا متصلا مجاز، كالعام المخصوص تخصيصًا مفصلا عند كثير من الناس.
وسياق هذا القول يوجب أن كل اسم أو فعل وصل بوصف، أو عطف بيان، أو بدل، أو أحد المفعولات المقيدة، أو الحال، أو التمييز، أو نحو ذلك، كان استعماله مجازا. وفساد هذا معلوم بالاضطرار، والفرق بين القرينة اللفظية المتصلة باللفظ الدالة بالوضع وبينما ليس كذلك من القرائن الحالية والقرائن اللفظية التي لا تدل على المقصود بالوضع كقوله: رأيت أسدا يكتب، وبحرا راكبا في البحر وبين الألفاظ المنفصلة معلوم يقينا من لغة العرب والعجم، ومع هذا فلا ريب عند أحد من العقلاء أن الكلام إنما يتم بآخره؛وأن دلالته إنما تستفاد بعد تمامه وكماله، وأنه لا يجوز أن يكون أوله دالا دون آخره، سواء سمي أوله حقيقة، أو مجازا ولا أن يقال: إن أوله يعارض آخره، فإن التعارض إنما يكون بين دليلين مستقلين، والكلام المتصل كله دليل واحد، فالمعارضة بين أبعاضه كالمعارضة بين أبعاض الأسماء المركبة.
وهذا كلام بَيِّنٌ، خصوصا في باب الوقوف فإن الواقف يريد أن يشرط شروطا كثيرة في الموقوف والموقوف عليه، من الجمع، والترتيب، والتسوية، والتفضيل، والإطلاق، والتقيد، يحتمل سجلا كبيرا، ثم إنه لم يخالف مسلم في أنه لا يجوز اعتبار أول كلامه إطلاقا وعموما وإلغاء آخره، أو يجعل ما قيده وفصله وخصصه في آخر كلامه مناقضا أو معارضا لما صدر به كلامه من الأسماء المطلقة أو العامة؛ فإن مثل هذا مثل رجل نظر في وقف قد قال واقفه: وقفت على أولادي، ثم على أولادهم، ثم قال بعد ذلك: ومن شرط الموقوف عليهم أن يكونوا فقراء أو عدولا، ونحو ذلك، فقال: هذا الكلام متعارض؛ لأنه في أول كلامه قد وقف على الجميع، وهذا مناقض لتخصيص البعض، ثم يجعل هذا من باب الخاص والعام ومن باب تعارض الأدلة، فمعلوم أن هذا كله خبط؛ إذ التعارض فرع على استقلال كل منهما بالدلالة، والاستقلال بالدلالة فرع على انقضاء الكلام وانفصاله، فأما مع اتصاله بما يغير حكمه، فلا يجوز جعل بعضه دليلا مخالفا لبعض. والله سبحانه يوفقنا وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه.
فإن قيل: قوله: على أنه من مات منهم. يجوز أن يكون شرطه الواقف ليبين أن الوقف ينتقل إلى من بقى، وأنه لا ينقطع في وسطه؛ فإن من الفقهاء من قد خرج في قوله: على ولدي، ثم على ولد ولدي إذا مات أحدهم ثلاثة أقوال، كالأقوال الثلاثة في قوله: على أولادي الثلاثة، ثم على المساكين:
أحدها وهو المشهور: أنه يكون للباقين من الطبقة العليا.
والثاني: أنه ينتقل إلى الطبقة الثانية، كما لو انقرضت الطبقة العليا.
والثالث: أنه يكون مسكوتا، فيكون منقطع الوسط، كما لو قال: وقفته على زيد، وبعد موته بعشر سنين على المساكين، وإذا كان انقطاعه في وسط عند موت الواحد محتملا، فقد ذكر الواقف هذا الشرط لينفي هذا الاحتمال، وإن كان هذا الشرط مقتضى الوقف على القول الأول، ثم من الشروط ما يكون مطابقا لمقتضى المدلول، فيزيد موجبها توكيدا.
قلنا: سبحان الله العظيم، هذا كلام من قد نأى عن موضع استدلالنا، فإنا لم نستدل بصيغة الشرط المطلقة، وإنما استدللنا بما تضمنه الشرط من التقييد، فإن هذا الكلام جيد لو كان الواقف قال: على أنه من مات منهم انتقل نصيبه إلى ذوي طبقته. ولو قال هذا لم يكن في المسألة شبهة أن نصيب الميت ينتقل إلى ذوي الطبقة مع الولد وعدمه من وجوه متعددة:
منها: أن هذا هو موجب الكلام الأول عند الإطلاق ولم يوصل بما يغيره.
ومنها: أنه وصل بما وكد موجب مطلقه.
ومنها: أنه قد شرط ذلك شرطا نفي به الصرف إلى الطبقة الثانية ونفي به الانقطاع، سواء كان للميت ولد أو لم يكن.
وإنما صورة مسألتنا أنه قال: على أنه من توفى منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب، كان نصيبه لذوي طبقته، فجعل الانتقال إليهم مشروطا بموت الميت عن غير ولد. وهذا الشرط كما أنه قد نفي به الانقطاع فقد قيد به الانتقال إلى ذوي الطبقة، واللفظ دال عليهما دلالة صريحة فإفادته لأحداهما لا تنفي إفادته للأخرى، كما لو قال: وقفت على أولادي الثلاثة، ثم على المساكين على أنه من مات منهم في حياة الواقف صرف نصيبه إلى من في درجته، فهل يجوز أن يصرف نصيبه إلى ذوي الطبقة إذا مات بعد موت الواقف؟ هذا لم يقله أحد في هذه الصورة؛ لكن قد يقال: إنه مسكوت عن موته بعد موت الواقف، فيكون منقطع الوسط.
والصواب الذي عليه الناس قديما وحديثا: أنه يكون للمساكين؛ لأن اللفظ اقتضى جعله للثلاثة، ثم للمساكين، فحيث لم يصرف إلى الثلاثة تعين صرفه إلى المساكين؛ لحصر الواقف الوقف فيها، مع أن بحث مسألتنا أظهر من هذه كما تقدم، بل لو فرض أن قائلا قد قال: إذا مات عن غير ولد يكون منقطعا، وإذا مات عن ولد لم يكن؛ لجاز أن يقال: هذا الشرط لنفي احتمال الانقطاع، ومع هذا فهو دال على التقييد كما ذكرناه فإنه يدل على صرف نصيب الميت عن غير ولد إلى طبقته، وعلى عدم الصرف إليهم مع الولد، فالدلالة الأولى تنفي الانقطاع، والدلالة الثانية توجب الاشتراك ولا منافاة بينهما.
بل الأولى حصلت من وضع هذا اللفظ، والثانية حصلت من مجموع الشرط أو الكلام الأول، فكيف والأمر ليس كذلك؟
فإن قيل: هذا نفي للاحتمال في هذه الصورة، وإن كان لم ينفه في أخرى. قلنا: هذا إنما يستقيم أن لو لم تكن الصورة المذكورة مقيدة للفظ المطلق، فإن قوله: من مات منهم. مطلق، وقد قيده: عن غير ولد. وفي مثل هذا لا يقال: ذكر صورة وترك أخرى، إلا إذا كان الكلام مستقلا بنفسه غير متصل بغيره؛ فأما إذا كان الكلام متصلا بغيره، فإنه يصير قيدا في ذلك الأول، فإن قوله: عن غير ولد. نصب على الحال أيضا، والحال صفة، والصفة مقيدة، فكأنه قال: بشرط أنه من كان موته على هذه الصفة انتقل نصيبه إلى ذوي الطبقة، أو أنه ينتقل نصيب الميت إلى ذوي الطبقة بشرط ألا يكون للميت ولد، ومعلوم بالاضطرار أن الانتقال المشروط بصفة لا يجوز إثباته بدون تلك الصفة.
فقوله: عن غير ولد، صفة لموت الميت، والانتقال إذا مات الميت على هذه الحال صفة للوقف، والوقف الموصوف بصفة، وتلك الصفة موصوفة بأخرى، لا يجوز إثباته إلا مع وجود الصفة وصفة الصفة، فلا يجوز أن يكون وقفا على الأولاد، ثم أولادهم، إلا بشرط انتقال نصيب المتوفي إلى ذوي الطبقة.
ولا يجوز نقل نصيب الميت إلى ذوي الطبقة إلا بشرط موته عن غير ولد أو ولد ولد أو نسل أو عقب، حتى لو كان له ولد وإن بعد كان وجوده مانعا من الانتقال إلى ذوي الطبقة، وموجبا للانتقال إليه بقوله: على أولاده، ثم أولاد أولاده، ثم نسله وعقبه دائما ما تناسلوا.
واعلم أن هذا السؤال لا يكاد ينضبط وجوه فساده مع ما ذكرناه لكثرتها.
منها: أنه لو كان قصده مجرد نفي احتمال الانقطاع؛ لكان التعميم بقوله: من مات منهم انتقل نصيبه. أو التنبيه بقوله: من مات منهم عن ولد انتقل نصيبه إلى ذوي طبقته. هو الواجب؛ فإنه إذا انتقل نصيبه إلى ذوي الطبقة مع الولد فمع عدمه أولى. أما أن ينص على انتقاله إلى الطبقة مع عدم الولد نافيا بذلك احتمال الانقطاع، ثم يريد منا أن نفهم انتقاله إليهم أيضا مع الولد لمجرد قوله: على ولدي، ثم ولد ولدي. مع أن احتمال الانقطاع هنا قائم مع احتمال آخر ينفرد به، وهو الانتقال إلى الولد؛ لأن احتمال انتقاله إلى ولد الولد هنا أظهر من احتمال الانقطاع، ومع أن فهم التخصيص مع التقييد أظهر من فهم الانقطاع، ومع أن دلالة قوله: على ولد ولدي، في الانتقال إلى الطبقة مع عدم الولد أظهر من دلالته في الانتقال إليهم مع وجود الولد، فقد أراد منا أن نفهم الكلام المقلوب، ونخرج عن حدود العقل والبيان؛ فإن تركه لرفع احتمال الانقطاع وغيره فيما هو فيه أظهر، وعدوله عن العبارة المحققة لنفي الانقطاع مطلقا بلا لبس إلى عبارة هي في التقييد أظهر منها في مجرد نفي انقطاع بعض الصور، دليل قاطع على أنه لم يقصد بذلك.
ونظير هذا رجل قال لعبده: أكرم زيدا إن كان رجلا صالحا فأكرمه. وكان غير صالح فلم يكرمه الغلام. فقال له سيده: عصيت أمري، ألم آمرك بإكرامه؟ قال: قد قلت لي: إن كان صالحا فأكرمه. قال: إنما قلت هذا، لئلا تتوهم أني أبغض الصالحين فلا تكرمه مع صلاحه، فنفيت احتمال التخصيص في هذه الصورة، فهل يقبل هذا الكلام من عاقل، أو ينسب الغلام إلى تفريط، أو يقول للسيد: هذه العبارة دالة على التخصيص، ولو كنت مثبتا للتعميم لكان الواجب أن تقول: أكرمه وإن لم يكن صالحا؛ لأن إكرام الصالح يصير من باب التنبيه، أو أكرمه وإن كان صالحا إن كان حبا لك صحيحا؟
وكذا هنا يقول المنازع: هو نقله إلى الطبقة، سواء كان له ولد أو لم يكن. فإذا قيل له: فلم قيد النقل بقوله: على أنه من مات منهم عن غير ولد انتقل نصيبه إلى الطبقة؟ قال: لينفي احتمال الانقطاع في هذه الصورة دون الصورة التي هي أولى بنفي الانقطاع فيها. فيقال له: كان الكلام العربي في مثل هذا: على أنه من توفى منهم وإن كان له ولد انتقل نصيبه إلى من في درجته. أو يقول: على أنه من توفى منهم وإن لم يكن له ولد، فيأتي بحرف العطف. أما إذا قال: على أنه من توفى منهم عن غير ولد. فهذا نص في التقييد لا يقبل غيره. ومن توهم غير هذا أو جوزه ولو على بعد أو جوز لعاقل أن يجوزه فلا ريب أنه خارج عن نعمة الله التي أنعم بها على الإنسان حيث علمه البيان. وما ظني أنه لو ترك وفطرته توهم هذا، ولكن قد يعرض للفطر آفات تصدها عن سلامتها، كما نطقت به الأحاديث.
ومنها: أن العاقل لا ينفي احتمالا بعيدا بإثبات احتمال أظهر منه، ومعلوم أنه لو سكت عن هذا الشرط لكان احتمال الانقطاع في غاية البعد، فإنه إما خلاف الإجماع، أو معدود من الوجوه السود، وإذا ذكر الشرط صار احتمال التقييد وترتيب التوزيع احتمالا قويا، إما ظاهرا عند المنازع، أو قاطعا عند غيره، فكيف يجوز أن يحمل كلام الواقف على المنهج الذميم دون الطريق الحميد مع إمكانه؟
ومنها: أن هذا الاحتمال لا يتفطن له إلا بعض الفقهاء، ولعله لم يخلق في الإسلام إلا من زمن قريب، واحتمال التقييد أمر لغوي موجود قبل الإسلام، فكيف يحمل كلام واقف متقدم على الاحتراز من احتمال لا يخطر إلا بقلب الفرد من الناس بعد الفرد؟ ولعله لم يخطر ببال الواقف، دون أن يحمل على الاحتراز من احتمال قائم بقلب كل متكلم، أو غالب المتكلمين، منذ علم آدم البيان.
ومنها: أن الواقف إذا كان قصده نفي احتمال الانقطاع في هذه الصورة بقوله: عن غير ولد أيضا صالح لأن يكون نفي به احتمال الانقطاع في الصورة الأخرى، ويكون نفي احتمال الانقطاع فيها بانتقال نصيب من مات عن ولد إلى ولده، فإن هذا فيه صون هذا التقييد عن الإلغاء، ورفع للانقطاع في الصورتين، ومعلوم أن حمل كلام الواقف على هذا أحسن من جعله مهدرا مبتورا.
ومنها: أن هذا المقصود كان حاصلا على التمام لو قال: على أنه من مات منهم. فزيادة اللفظ ونقص المعنى خطأ لا يجوز حمل كلام المتكلم عليه إذا أمكن أن يكون له وجه صحيح، وهو هنا كذلك.
ومنها: أن هذا الكلام مبني على أن قوله: على أولادي، ثم على أولادهم. مقتض لترتيب المجموع على المجموع، وهذا الاقتضاء مشروط بعدم وصل اللفظ بما يقيده، فإنه إذا وصل بما يقيده ويقتضي ترتيب الأفراد على الأفراد، مثل قوله: على أنه من مات منهم عن ولد كان نصيبه لولده، ونحو ذلك من العبارات؛ كان ذلك الاقتضاء منتفيا بالاتفاق. وهذا اللفظ وهو قوله: على أنه من توفى منهم عن غير ولد. ظاهر في تقييد الانتقال بعدم الولد، وإنما يصرفه من يصرفه عن هذا الظهور لمعارضة الأول له، وشرط كون الأول دليلا عدم الصلة المغيرة، فيدور الأمر فتبطل الدلالة؛ وذلك أنه لا يثبت كون الأول مقتضيا لترتيب المجموع إلا مع الانقطاع عن المغير، ولا يثبت هنا الانقطاع عن المغير حتى يثبت أن هذا لا يدل على التغيير، بل على معنى آخر. ولا تثبت دلالته على ذلك المعنى حتى يثبت أن المتقدم دليل على ترتيب المجموع، وهذا هو الدور، وهو مصادرة على المطلوب، فإنه جعل المطلوب مقدمة في إثبات نفسه.
ومنها: أن يقال: قوله: عن غير ولد، قيد في الانتقال أم لا؟ فإن قال: ليس بقيد. فهو مكابرة ظاهرة في اللغة. وإن قال: هو قيد. قيل له: فيجوز إثبات الحكم المقيد بدون قيده. فإن قال: نعم بالدليل الأول. قيل: فيجوز الاستدلال بأول الكلام مطلقا عما قيد به في آخره. فإن قال: نعم. علم أنه مكابر. وإن قال: لا. ثبت المطلوب. وهذه مقدمات يقينية لا يقدح فيها كون الكلام له فوائد أخر. ومن وقف عليها مقدمة لم يبق إلا معاندا أو مسلما للحق.
ومنها: أنه إذا قيل: بأن الوقف يكون منقطع الوسط إذا مات الميت عن غير ولد، ولا يكون منقطعا إذا مات عن ولد؛ كان لهذا السؤال وجه، لكن يكون حجة على المنازع، فإنه إذا كان متصلا مع موته عن ولد، فإن كان ينتقل إلى الولد فهو المطلوب، وإن كان ينتقل إلى الطبقة، فمحال أن يقول فقيه: إنه ينتقل إلى الطبقة مع الولد، ويكون منقطعا مع عدم الولد. فثبت أن جعل هذا الكلام رفعا لاحتمال الانقطاع دليل ظاهر على انتقال نصيب المتوفي عن ولد إلى ولده، ودلائل هذا مثل المطر. والله يهدي من يشاء إلى سواء الصراط.
الوجه الثاني في أصل المسألة: أن قوله: على أولاده، ثم على أولادهم. مقتض للترتيب، وهو أن استحقاق أولاد الأولاد بعد الأولاد. وهنا جمعان: أحدهما مرتب على الآخر، والأحكام المرتبة على الأسماء العامة نوعان:
أحدهما: ما يثبت لكل فرد من أفراد ذلك العام، سواء قدر وجود الفرد الآخر أو عدمه.
والثاني: ما يثبت لمجموع تلك الأفراد، فيكون وجود كل منها شرطا في ثبوت الحكم للآخر.
مثال الأول قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [25]، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } [26]، ومثال الثاني قوله تعالى: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [27]، { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [28]، فإن الخلق ثابت لكل واحد من الناس، وكلا منهم مخاطب بالعبادة والطهارة، وليس كل واحد من الأمة أمة وسطا، ولا خير أمة.
ثم العموم المقابل بعموم آخر قد يقابل كل فرد من هذا بكل فرد من هذا، كما في قوله: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [29]، فإن كل واحد من المؤمنين آمن بكل واحد من الملائكة والكتب والرسل. وقد يقابل المجموع بالمجموع بشرط الاجتماع منهما، كما في قوله: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } [30]، فإن الالتقاء ثبت لكل منهما حال اجتماعهما. وقد يقابل شرط الاجتماع من أحدهما كقوله: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [31]، مجموع الأمة خير للناس مجتمعين ومنفردين. وقد يقابل المجموع بالمجموع بتوزيع الأفراد على الأفراد، فيكون لكل واحد من العمومين واحد من العموم الآخر، كما يقال: لبس الناس ثيابهم، وركب الناس دوابهم، فإن كل واحد منهم ركب دابته، ولبس ثوبه. وكذلك إذا قيل: الناس يحبون أولادهم، أي: كل واحد يحب ولده، ومن هذا قوله سبحانه: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } [32]، أي: كل والدة ترضع ولدها، بخلاف ما لو قلت: الناس يعظمون الأنبياء، فإن كل واحد منهم يعظم كل واحد من الأنبياء.
فقول الواقف: على أولاده، ثم على أولادهم. قد اقتضى ترتيب أحد العمومين على الآخر، فيجوز أن يريد أن العموم الثاني بمجموعه مرتب على مجموع العموم الأول وعلى كل فرد من أفرداه، فلا يدخل شيء من هذا العموم الثاني في الوقف، حتى ينقضي جميع أفراد العموم الأول، ويجوز أن يريد ترتيبا يوزع فيه الأفراد على الأفراد، فيكون كل فرد من أولاد الأولاد داخلا عند عدم والده، لا عند عدم والد غيره كما في قوله: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ }، وقولهم: الناس يحبون أولادهم. واللفظ صالح لكلا المعنيين صلاحا قويا؛ لكن قد يترجح أحدهما على الآخر بأسباب أخرى، كما رجح الجمهور ترتيب الكل على الكل في قوله: وقفت على زيد وعمرو وبكر، ثم على المساكين، فإنه ليس بين المساكين وبين أولئك الثلاثة مساواة في العدد حتى يجعل كل واحد مرتبا على الآخر، ولا مناسبة تقتضى أن يعين لزيد هذا المسكين، ولعمرو هذا، ولبكر هذا، بخلاف قولنا: الناس يحبون أولادهم، فإن المراد هنا من له ولد، فصار أحد العمومين مقاوما للآخر. وفي أولادهم من الإضافة ما اقتضى أن يعين لكل إنسان ولده دون ولد غيره.
وكما يترجح المعنى الثاني في قوله سبحانه: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ } إلى آخره [33]، فإنه لم يحرم على كل واحد من المخاطبين جميع أمهات المخاطبين وبناتهم، وإنما حرم على كل واحد أمه وبنته، وكذلك قوله: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } [34]، فإنه ليس لجميع الأزواج نصف ما ترك جميع النساء، وإنما لكل واحد نصف ما تركت زوجته فقط، وكذلك قوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [35]، إنما معناه: اتبع كل واحد ذريته؛ ليس معناه: أن كل واحد من الذرية اتبع كل واحد من الآباء.
وهذا كثير في الكلام، مثل أن يقول: الناس في ديارهم ومع أزواجهم يتصرفون في أموالهم وينفقون على أولادهم، وما أشبه ذلك.
ثم الذي يوضح أن هذا المعنى قوى في الوقف ثلاثة أشياء:
أحدها: أن أكثر الواقفين ينقلون نصيب كل والد إلى ولده، لا يؤخرون الانتقال إلى انقضاء الطبقة، والكثرة دليل القوة، بل والرجحان.
الثاني: أن الوقف على الأولاد يقصد به غالبا أن يكون بمنزلة الموروث الذي لا يمكن بيعه، فإن المقصود الأكبر انتفاع الذرية به على وجه لا يمكنهم إذهاب عينه.
وأيضا، فإن بين الوقف والميراث هنا شبه من جهة أن الانتقال إلى ولد الولد مشروط بعدم الولد فيهما، ثم مثل هذه العبارة لو أطلقت في الميراث كما أطلقها الله تعالى في قوله: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } [36]، { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ }، لما فهم منها إلا مقابلة التوزيع للأفراد على الأفراد، لا مقابلة المجموع بالمجموع، ولا مقابلة كل واحد بكل واحد، ولا مقابلة كل واحد بالمجموع، كما لو قال الفقيه لرجل: مالك ينتقل إلى ورثتك، ثم إلى ورثتهم، فإنه يفهم منه أن مال كل واحد ينتقل إلى وارثه. فليكن قوله: على أولادهم، ثم على أولاد أولادهم كذلك، إما صلاحا، وإما ظهورا.
الثالث: أن قوله: على أولادهم. محال أن يحصل في هذه الإضافة مقابلة كل فرد بكل فرد، فإن كل واحد من الأولاد ليس مضافا إلى كل واحد من الوالدين، وإنما المعنى: ثم على ما لكل واحد من الأولاد. فإذا قال: وقفت على زيد وعمرو وبكر، ثم على أولادهم، فالضمير عائد إلى زيد وعمرو وبكر، وهذه المقابلة مقابلة التوزيع.
وفي الكلام معنيان: إضافة، وترتيب، فإذا كانت مقابلة الإضافة مقابلة توزيع أمكن أن يكون مقابلة الترتيب أيضا مقابلة توزيع، كما أن قوله: { يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } [37]، لما كان معنى إرضاع وإضافة، والإضافة موزعة، كان الإرضاع موزعا، وقوله: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } [38]، لما كان معنى إضافة موزعة، كان الاستحقاق موزعا وهذا يبين لك أن مقابلة التوزيع في هذا الضرب قوية، سواء كانت راجحة، أو مرجوحة، أو مكافية.
وللناس تردد في موجب هذه العبارة عند الإطلاق في الوقف، وإن كان كثير منهم أو أكثرهم يرجحون ترتيب الجمع على الجمع بلا توزيع، كما في قولنا: على هؤلاء، ثم على المساكين. ولأصحابنا في موجب ذلك عند الإطلاق وجهان، مع أنهم لم يذكروا في قوله: وقفت على هذين، ثم على المساكين خلافا. والفرق بينهما على أحد الوجهين ما قدمناه. والمشهور عند أصحاب الشافعي: أنه لترتيب الجمع على الجمع. ولهم وجه: أنه من مات عن ولد أو غير ولد، فنصيبه منقطع الوسط. وخرج بعضهم وجها: أن نصيب الميت ينتقل إلى جميع الطبقة الثانية.
وليس الغرض هنا الكلام في موجب هذا اللفظ لو أطلق، فإنا إنما نتكلم على تقدير التسليم، لكونه يقتضي ترتيب الجمع على الجمع؛ إذ الكلام على التقدير الآخر ظاهر، فأما صلاح اللفظ للمعنيين فلا ينازع فيه من تصور ما قلناه. وإذا ثبت أنه صالح، فمن المعلوم أن اللفظ إذا وصل بما يميز أحد المعنيين الصالحين له وجب العمل به، ولا يستريب عاقل في أن الكلام الثاني يبين أن الواقف قصد أن ينقل نصيب كل والد إلى ولده، وإلا لم يكن فرق بين أن يموت أحد منهم عن ولد أو عن غير ولد، بل لم يكن إلى ذكر الشرط حاجة أصلا، أكثر ما يقال: إنه توكيد لو خلا عن دلالة المفهوم، فيقال: حمله على التأسيس أولى من حمله على التوكيد.
واعلم أن هذه الدلالة مستمدة من أشياء:
أحدها: صلاح اللفظ الأول لترتيب التوزيع.
الثاني: أن المفهوم يشعر بالاختصاص، وهذا لا ينازع فيه عاقل، وإن نازع في كونه دليلا.
الثالث: أن التأسيس أولى من التوكيد، وليس هذا من باب تعارض الدليلين، ولا من باب تقييد الكلام المطلق، وإنما هو من باب تفسير اللفظ الذي فيه احتمال المعنيين، فإن قلتم: اللفظ الأول إن كان ظاهرا في ترتيب الجمع فهذا صرف للظاهر. وإن قلتم: هو محتمل أو ظاهر في التوزيع. منعناكم وإن قلتم: لا يوصف اللفظ بظهور ولا إكمال إلا عند تمامه، والأول لم يتم، فهذا هو الدليل الأول، فما الفرق بينهما؟ قلنا: في الدليل الأول بيان أن اللفظ الأول لو كان نصا لا يقبل التأويل عند الإطلاق، فإن وصله بما يقيده يبطل تلك الدلالة، كما لو قال: وقفت على زيد، ثم قال: إن كان فقيرا فهذا لا يعد تفسيرا للفظ محتمل، وإنما هو تقييد، وفي هذا الدليل بيان أن اللفظ الأول محتمل لمعنيين، ولا يجوز وصفه بظهور في أحدهما إلا أن ينفصل عما بعده، فأما إذا اتصل بما بعده بين ذلك الوصل أحد المعنيين.
فقولكم: اللفظ الأول لا يخلو أن يكون ظاهرا في أحدهما أو محتملا. قلنا: قبل تمامه لا يوصف بواحد من الثلاثة، وإنما قد يوصف بالصلاح للمعاني الثلاثة. ولا يقال فيه: صرف للظاهر أصلا، فإنه لا ظاهر لكلام لم يتم بعد، وإنما ظاهر الكلام ما يظهر منه عند فراغ المتكلم.
وبهذا يتبين منشأ الغلط في عموم اللفظ الأول، فإن قوله: على أولادي ثم على أولادهم. عام في أولاد أولاده بلا تردد، فلا يجوز إخراج أحد منهم. وهو مقتض للترتيب أيضا، فإن الأولاد مرتبون على أولاد الأولاد، لكن ما صفة هذا العموم، أهو عموم التفسير والتوزيع المقتضي لمقابلة كل فرد بفرد؟ أو عموم الشياع المقتضى لمقابلة كل فرد بكل فرد؟ ومن ادعى أن اللفظ صريح في هذا، بمعنى: أنه نص فيه، فهو جاهل بالأدلة السمعية والأحكام الشرعية، خارج عن مناهج العقول الطبيعية، ومن سلم صلاح اللفظ لهما، وادعى رجحان أحدهما عند انقطاع الكلام؛ لم ننازعه، فإنها ليست مسألتنا، وإن نازع في رجحان المعنى الأول بعد تلك الصلة فهو أيضا مخطيء قطعا.
وهذه حجة عند مثبتي المفهوم ونفاته، كالوجه الأول، فإن نافي المفهوم يقول: المسكوت لم يدخل في الثاني، لكن إن دخل في الأول عملت به، ونسلم أنه إذا غلب على الظن أو إذا علم ألا موجب للتخصيص سوى الاختصاص بالحكم؛ كان المفهوم دليلا، فإذا تأمل قوله: على أنه من مات منهم من غير ولد كان نصيبه لأهل طبقته. قال: إن كان مراد الواقف عموم الشياع كان هذا اللفظ مقيدا لبيان مراده، ومتى دار الأمر بين أن تجعل هذه الكلمة مفسرة للفظ الأول، وبين أن تكون لغوا؛ كان حملها على الإفادة والتفسير أولى؛ لوجهين:
أحدهما: أنى أعتبرها، واعتبار كلام الواقف أولى من إهداره.
والثاني: أجعلها بيانا للفظ المحتمل حينئذ؛ فأدفع بها احتمالا كنت أعمل به لولا هي، وإذا كان الكلام محتملا لمعنيين كان المقتضى لتعيين أحدهما قائما، سواء كان ذلك الاقتضاء مانعا من النقيض أو غير مانع. فإذا حملت هذا اللفظ على البيان كنت قد وفيت المقتضى حقه من الاقتضاء، وصنت الكلام الذي يميز بين الحلال والحرام عن الإهدار والإلغاء، فأين هذا ممن يأخذ بما يحتمله أول اللفظ ويهدر آخره؛ وينسب المتكلم به إلى العي واللغو؟
والذي يوضح هذا: أن قوله: على أنه من صيغ الاشتراط، والتقييد والشرط إنما يكون لما يحتمله العقد، مع أن إطلاقه لا يقتضيه. بيان ذلك: أن قوله: بعت، واشترىت. لا يقتضي أجلا، ولا رهنا، ولا ضمينا ولا نقدا غير نقد البلد، ولا صفة زائدة في المبيع، لكن اللفظ يحتمله، بمعنى: أنه صالح لهذا ولهذا، لكن عند الإطلاق ينفي هذه الأشياء، فإن اللفظ لا يوجبها، والأصل عدمها، فمتى قال: على أن ترهنني به كذا كان هذا تفسيرا لقوله: بعتك بألف، بمنزلة قوله: بألف متعلقة برهن.
الوجه الثالث: أن قوله: على أنه من مات منهم من غير ولد كان نصيبه لذوي طبقته. دليل على أن من مات منهم عن ولد لم يكن نصيبه لذوي طبقته، وهذه دلالة المفهوم، وليس هذا موضع تقريرها؛ لكن نذكر هنا نكتا تحصل المقصود.
أحدها: أن القول بهذه الدلالة مذهب جمهور الفقهاء قديما وحديثا من المالكية، والشافعية، والحنبلية؛ بل هو نص هؤلاء الأئمة، وإنما خالف طوائف من المتكلمين مع بعض الفقهاء، فيجب أن يضاف إلى مذاهب الفقهاء ما يوافق أصولهم. فمن نسب خلاف هذا القول إلى مذهب هؤلاء كان مخطئا، وإن كان بما يتكلم به مجتهدا فيجب أن يحتوي على أدوات الاجتهاد.
ومما يقضى منه العجب: ظن بعض الناس أن دلالة المفهوم حجة في كلام الشارع دون كلام الناس، بمنزلة القياس. وهذا خلاف إجماع الناس؛ فإن الناس إما قائل بأن المفهوم من جملة دلالات الألفاظ، أو قائل: إنه ليس من جملتها، أما هذا التفصيل فمحدث.
ثم القائلون بأنه حجة إنما قالوا: هو حجة في الكلام مطلقا، واستدلوا على كونه حجة بكلام الناس، وبما ذكره أهل اللغة، وبأدلة عقلية تبين لكل ذي نظر أن دلالة المفهوم من جنس دلالة العموم والإطلاق والتقييد، وهو دلالة من دلالات اللفظ، وهذا ظاهر في كلام العلماء، والقياس ليس من دلالات الألفاظ المعلومة من جهة اللغة، وإنما يصير دليلا بنص الشارع، بخلاف المفهوم، فإنه دليل في اللغة، والشارع بَيَّنَ الأحكام بلغة العرب.
الثاني: أن هذا المفهوم من باب مفهوم الصفة الخاصة المذكورة بعد الاسم العام، وهذا قد وافق عليه كثير ممن خالف في الصفة المبتدأة حتى إن هذا المفهوم يكون حجة في الاسم غير المشتق، كما احتج به الشافعي وأحمد في قول النبي ﷺ: (جعلت لي الأرض مسجدا)، (وجعلت تربتها طهورا)، وذلك أنه إذا قال: الناس رجلان مسلم وكافر، فأما المسلم فيجب عليك أن تحسن إليه؛ علم بالاضطرار أن المتكلم قصد تخصيص المسلم بهذا الحكم، بخلاف ما لو قال ابتداء: يجب عليك أن تحسن إلى المسلم، فإنه قد يظن أنه إنما ذكره على العادة؛ لأنه هو المحتاج إلى بيان حكمه غالبا، كما في قوله: (كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه) وكذلك: (في الإبل السائمة الزكاة) أقوى من قوله: (في السائمة الزكاة)؛ لأنه إذا قال: (في الإبل السائمة) فلو كان حكمها مع السوم وعدمه سواء؛ لكان قد طول اللفظ ونقص المعنى، أما إذا قال: (في السائمة) فقد يظن أنه خصها بالذكر لكونها أغلب الأموال، أو لكون الحاجة إلى بيانها أمس، وهذا بَيِْنٌ، كذلك هنا إذا كان مقصوده انتقال نصيب الميت إلى طبقته مع الولد وعدمه.
فلو قال: فمن مات منهم كان نصيبه لذوي طبقته. كان قد عمم الحكم الذي أراده واختصر اللفظ. فإذا قال: فمن مات منهم عن غير ولد ولا نسل ولا عقب كان ما كان جاريا عليه من ذلك لمن في درجته وذوي طبقته. كان قد طول الكلام ونقص المعنى، بخلاف ما إذا حمل في ذلك على الاختصاص بالحكم، فإنه يبقى الكلام صحيحا معتبرا، والواجب اعتبار كلام المصنف ما أمكن، ولا يجوز إلغاؤه بحال مع إمكان اعتباره.
الوجه الثالث: أن نفاة المفهوم لإمكان أن يكون للتخصيص بالذكر سبب غير التخصيص بالحكم، أما عدم الشعور بالمسكوت، أو عدم قصد بيان حكمه، أو كون المسكوت أولى بالحكم منه، أو كونه مساويا له في بادئ الرأى، أو كونه سئل عن المنطوق، أو كونه قد جرى بسبب أوجب بيان المنطوق، أو كون الحاجة داعية إلى بيان المنطوق، أو كون الغالب على إفراد ذلك النوع هو المنطوق، فإذا علم أو غلب على الظن ألا موجب للتخصيص بالذكر من هذه الأسباب ونحوها علم أنه إنما خصه بالذكر؛ لأنه مخصوص بالحكم.
ولهذا كان نفاة المفهوم يحتجون في مواضع كثيرة بمفهومات؛لأنهم لا يمنعون أن يظهر قصد التخصيص في بعض المفهومات، وهذا من هذا الباب؛ فإن قوله: من مات منهم عن غير ولد. قد يشعر بالقسمين، وله مقصود في بيان الشرط، وليس هذا من باب التنبيه، فإنه إذا جعل نصيب الميت ينتقل إلى إخوته عند عدم ولده لم يلزم أن ينقله إليهم مع وجود ولده والحاجة داعية إلى بيان النوعين، بل لو كان النوعان عنده سواء وقد خص بالذكر حال عدم الوالد لكان ملبسا معميا؛ لأنه يوهم خلاف ما قصد بخلاف ما إذا حمل على التخصيص.
الرابع: أن الوصف إذا كان مناسبا اقتضى العلية. وكون الميت لم يخلف ولدا مناسبٌ لنقل حقه إلى أهل طبقته، فيدل على أن علة النقل إلى ذوي الطبقة الموت عن غير ولد، فيزول هذا بزوال علته، وهو وجود الولد.
الخامس: أن كل من سمع هذا الخطاب فهم منه التخصيص، وذلك يوجب أن هذا حقيقة عرفية، إما أصلية لغوية، أو طارية منقولة. وعلى التقديرين يجب حمل كلام المتصرفين عليها باتفاق الفقهاء.
واعلم أن إثبات هذا في هذه الصورة الخاصة لا يحتاج إلى بيان كون المفهوم دليلا؛ لأن المخالف في المفهوم إنما يدعى سلب العموم عن المفهومات لا عموم السلب فيها، فقد يكون بعض المفهومات دليلا لظهور المقصود فيها، وهذا المفهوم كذلك؛ بدليل فهم الناس منه ذلك، ومن نازع في فهم ذلك، فإما فاسد العقل أو معاند.
وإذا ثبت أن هذا الكلام يقتضي عدم الانتقال إلى ذوي الطبقة مع وجود الأولاد، فإما ألا يصرف إليهم ولا إلى الأولاد، وهو خلاف قوله: على أولادهم، ثم على أولاد أولادهم أبدا ما تناسلوا، أو يصرف إلى الأولاد فهو المطلوب.
فإن قيل: قد يسلم أن المفهوم دليل، لكن قد عارضه اللفظ الصريح أولا، أو اللفظ العام، فلا يترك ذلك الدليل لأجل المفهوم. قيل: عنه أجوبة:
أحدها: أن اللفظ الأول لا دلالة فيه بحال على شىء؛ لأن اللفظ إنما يصير دليلا إذا تم وقطع عما بعده، أما إذا وصل بما بعده، فإنه يكون جزءا من الدليل لا دليلا، وجزء الدليل ليس هو الدليل. ومن اعتقد أن الكلام المتصل بعضه ببعض يعارض آخره المقيد أوله المطلق، فما درى أي شيء هو تعارض الدليلين؟
الثاني: أن اللفظ الأول لو فرض تمامه ليس بصريح كما تقدم بيانه بل هو محتمل لمعنيين. وأما كونه عاما فمسلم لكنا لا نخصه، بل نبقيه على عمومه، وإنما الكلام في صفة عمومه، بل ما حملناه عليه أبلغ في عمومه؛ لأن أولاد الأولاد يأخذ كل منهم في حياة أعمامه وبعد موتهم، وعلى ذلك التقدير إنما يأخذ في حياتهم فقط، واللفظ المتناول لهم في حالين أعم من المتناول لهم في أحدهما.
الثالث: لو فرض أن هذا من باب تعارض العموم والمفهوم، فالصواب أن مثل هذا المفهوم يقدم على العموم، كما هو قول أكثر المالكية والشافعية والحنبلية، وقد حكاه بعض الناس إجماعا من القائلين بالمفهوم؛ لأن المفهوم دليل خاص، والدليل الخاص مقدم على العام، ولا عبرة بالخلاف في المفهوم، فإن القياس الجلي مقدم على المفهوم، مع أن المخالفين في القياس قريبون من المخالفين في المفهوم، وخبر الواحد يخص به عموم الكتاب، مع أن المخالفين في خبر الواحد أكثر من المخالفين عموم الكتاب.
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه مبني على أن الضمير في قوله: على أنه من مات. عائد إلى جميع من تقدم، وهذا ممنوع، فإن من الفقهاء المعتبرين من قال: إن الاستثناء في شروط الواقف إذا تعقب جملا معطوفة وإذا كان الضمير عائدا إلى الجملة الأخيرة فتبقى الجمل الأولى على ترتيبها.
قيل: هذا باطل من وجوه:
أحدها: أن لازم هذا القول أنه لو قال: على أولادي، ثم أولادهم ثم أولاد أولادهم، ثم أولاد أولاد أولادهم، ونسلهم، وعقبهم، على أنه من مات منهم عن ولد كان نصيبه لولده، ومن مات منهم عن غير ولد كان نصيبه لمن في درجته؛ لكان هذا الشرط في الطبقة الآخرة، وأن الطبقة الأولى والثانية والثالثة إذا مات الميت منهم لم ينتقل نصيبه إلى ولده، بل إلى ذوي الطبقة، عملا بمقتضى مطلق الترتيب، فإن التزم المنازع هذا اللازم وقال: كذلك أقول. كان هذا قولا مخالفا لما عليه عمل المسلمين قديما وحديثا، في كل عصر، وكل مصر، فإن الوقوف المشرطة بهذه الشروط لا يحصي عددها إلا الله تعالى.
وما زال المسلمون من قضاتهم ومفتيهم وخاصتهم وعامتهم يجعلون مثل هذا الشرط ثابتا في جميع الطبقات من غير نكير لذلك ولا منازع فيه، فمن قال خلاف ذلك؛ علم أنه قد ابتدع قولا يخالف ما أجمعت عليه القرون السالفة، والعلم بهذا ضروري.
ثم لو فرض أن في هذا خلافا لكان خلافا شاذا معدودا من الزلات، وبحسب قول من الضعف أن يبنى على مثل هذا. ومن لوازم هذا القول أنه لو قال: وقف على أولادي، ثم أولادهم؛ ثم أولاد أولادهم، على أنه من كان منهم فقيرا صرف إليه، ومن كان منهم غنيا لم يصرف إليه، فإنه يصرف إلى الطبقة الأولى، والثانية، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، أو يختص التفصيل بالطبقة الثالثة. وكذلك لو قال: على أنه من تزوج منهم أعطى، ومن لم يتزوج لم يعط. وكذلك لو قال: ومن شرط الوقف على أنه يصرف إلى الفقراء منهم دون الأغنياء. أو بشرط أن يصرف إلى فقرائهم دون أغنيائهم.
وهكذا صور كثيرة لا يأتى عليها الإحصاء من التزم فيها قياس هذا القول كان قد أتى بداهية ذهيا!! وإن قال: بل يعود الشرط إلى جميع الطبقات، كما هو المعلوم عند الناس، فقد علم بالاضطرار أن مسألتنا واحدة من هذا النوع، ليس بينها وبين هذه الصور من الفرق ما يجوز أن يذهب على مميز.
الوجه الثاني: أن الناس لا يفهمون من هذا الكلام إلا الاشتراط في جميع الطبقات، والدليل عليه: أن الوقوف المشروطة بمثل هذا أكثر من أن تحصى، ثم لم يفهم الناس منها إلا هذا، ولعله لم يخطر الاختصاص بالطبقة الأخيرة ببال واقف، ولا كاتب، ولا شاهد، ولا مستمع، ولا حاكم، ولا موقوف عليه، وإذا كان هذا هو المفهوم من هذا الكلام في عرف الناس، وجب حمل كلام المتكلمين على عرفهم في خطابهم، سواء كان عرفهم موافقا للوضع اللغوي، أو مخالفا له، فإن كان موجب اللغة عود الشرط إلى الطبقات كلها فالعرف مقررٌ له، وإن فرض أن موجب اللغة قصره على الطبقة الأخيرة كان العرف مغيرا لذلك الوضع.
وكلام الواقفين والحالفين والموصين ونحوهم محمول على الحقائق العرفية دون اللغوية، على أنا نقول: هذا هو المفهوم من هذا الكلام في العرف والأصل تقرير اللغة لا تغييرها، فيستدل بذلك على أن هذا هو مفهوم اللفظ في اللغة؛ إذ الأصل عدم النقل، ومن نازع في أن الناس خاصتهم وعامتهم يفهمون من هذا الكلام عند الإطلاق عود الشرط إلى جميع الطبقات، علم أنه مكابر، وإذا سلمه ونازع في حمل كلام المتصرف على المعنى الذي يفهمونه؛ علم أنه خارج عن قوانين الشريعة، فهاتان مقدمتان يقينيتان، والعلم بهما مستلزم لعود الشرط إلى جميع الطبقات.
الوجه الثالث: أنه إذا حمل الكلام على عود الشرط إلى الجملة الأخيرة فقط؛ كانت فائدته على رأي المنازع أنه لولا هذا الشرط لاشترك العقب في جميع الوقف الذي انتقل إليهم من الطبقة التي فوقهم، والذي انتقل إليهم ممن مات منهم عن ولد، أو عن غير ولد. فإذا قال: فمن مات منهم عن غير ولد فنصيبه لذوي طبقته، أفاد ذلك أن يختص ذووا الطبقة بنصيب المتوفي إذا لم يكن له ولد، دون من فوقهم ومن دونهم. وهذا لم يكن مفهوما من اللفظ، وإذا كان له ولد اشترك جميع أهل الوقف في نصيب المتوفي ولده وغير ولده، وإذا حمل الكلام على عود الشرط إلى الطبقات كلها أفاد أن ينتقل نصيب المتوفي إلى طبقته إذا لم يكن له ولد، وإلى ولده إذا كان له ولد.
ومعلوم قطعا من أحوال الخلق أن من شرك بين جميع الطبقات لا ينقل نصيب الميت إلى ذوي طبقته فقط دون من هو فوقه، وإذا كان له ولد لم ينقله إلى ولده، بل يجعله كأحدهم؛ فإنه على هذا التقدير يكون قد جعل ذوي الطبقة أولى من ولد الميت، مع أنه لم يراع ترتيب الطبقات، ومعلوم أن هذا لا يقصده عاقل، فإن العاقل إما أن يراعى ترتيب الطبقات فلا يشرك أو ينقل نصيب المتوفي إلى ولده كالإرث. أما إنه مع التشريك يخص نصيب المتوفي إخوته دون ولده، فهذا خلاف المعلوم من أحوال الناس، ولو فرض أن الضمير متردد بين عوده إلى الجميع وعوده إلى الطبقة الأخيرة؛ كانت هذه الدلالة الحالية العرفية معينة لأحد الاحتمالين.
فإن قيل: هذا يلزمكم إذا أعدتم الضمير إلى الجميع، فإن اللفظ يقتضي الترتيب في أربع طبقات، والتشريك في الباقية، فأنتم تقولون في بقية الطبقات مثلما نقوله؟
قلنا: هذا فيه خلاف، فإن الطبقات الباقية هل يشرك بينها عملا بما تقتضيه الواو من مطلق التشريك، أو يرتب بينها استدلالاً بالترتيب فيما ذكره على الترتيب في الباقي، كما هو مفهوم عامة الناس من مثل هذا الكلام، فإن الواو كما أنها لا تقتضي الترتيب فهي لا تنفيه، فإن كان في الكلام قرينة تدل عليه وجب رعايتها، وقد تنازع الناس في هذا. فإن قلنا بالثاني، فلا كلام. وإن قلنا بالأول قلنا أيضا: إنه يقتضي انتقال نصيب الميت إلى ولده في جميع الطبقات، فإن نقل نصيب الميت إلى ذوي طبقته إذا لم يكن له ولد دون سائر أهل الوقف تنبيه على أنه ينقله إلى ولده إن كان له ولد، والتنبيه دليل أقوى من النص حتى في شروط الواقفين.
ولهذا لو قال: وقفت على ولدي على أنه من كان فاسقا لا يعطي درهما واحدا، فإنه لا يجوز أن يعطي درهمان بلا ريب، فإنه نبه بحرمانه القليل على حرمانه الكثير، كذلك نبه بنقل نصيب الميت إذا لم يكن له ولد إلى إخوته على نقله إلى الولد إذا كانا موجودين، فيكون منع الإخوة مع الولد مستفادا من التقييد، وإعطاء الولد مستفادا من تنبيه الخطاب وفحواه.
وإيضاح ذلك: أن إعطاء نصيب الميت لذوي طبقته دون سائر أهل الوقف ودون تخصيص الأقرب إلى الميت، دليل على أنه جعل سبب الاختصاص القرب إلى الميت، لا القرب إلى الواقف، ولا مطلق الاستحقاق. ومعلوم أن الولد عند وجودهم أقرب إلى الميت، فيكون سبب استحقاقهم أوكد، فيكون ذلك دليلا على أن الواقف قصد إعطاءهم. وسنذكر إن شاء الله ما يرد على هذا.
الوجه الرابع: أن الضمير يجب عوده إلى جميع ما تقدم ذكره، فإن تعذر عوده إلى الجميع أعيد إلى أقرب المذكورين، أو إلى ما يدل دليل على تعيينه، فأما اختصاصه ببعض المذكور من غير موجب، فمن باب التخصيص المخالف للأصل الذي لا يجوز حمل الكلام عليه إلا بدليل؛ وذلك لأن الأسماء المضمرة إضمار الغيبة هي في الأمر العام موضوعة لما تقدم ذكره من غير أن يكون لها في نفسها دلالة على جنس أو قدر. فلو قال: ادخل على بني هاشم ثم بني المطلب، ثم سائر قريش، وأكرمهم، وأجلسهم، ونحو هذا الكلام؛ لكان الضمير عائدا إلى ما تقدم ذكره، وليس هذا من باب اختلاف الناس في الاستثناء المتعقب جملا: هل يعود إلى جميعها أو إلى أقربها؟ لأن الخلاف هناك إنما نشأ؛ لأن الاستثناء يرفع بعض ما دخل في اللفظ، فقال من قصره على الجملة الأخيرة: إن المقتضي للدخول في الجمل السابقة قائم، والمخرج مشكوك فيه، فلا يزال عن المقتضي بالشك، وهذا المعنى غير موجود في الضمير، فإن الضمير اسم موضوع لما تقدم ذكره، وهو صالح للعموم على سبيل الجمع، فإنه يجب حمله على العموم إذا لم يقم مخصص، وعلى هذا فحمل الضمير على العموم حقيقة فيه، وحمله على الخصوص مثل تخصيص اللفظ العام.
الوجه الخامس: أنه إذا قال: وقفت على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على أولاد أولادهم، على أنه من توفى منهم عن ولد أو عن غير ولد، فإن إعادة الضمير إلى الطبقة الثالثة ترجيح من غير مرجح. والظاهر بل المقطوع به من حال العاقل أنه لا يفعل ذلك، فإن العاقل لا يفرق بين المتماثلات من غير سبب، فإما أن يكون مقصوده إعطاء الأقرب إليه فالأقرب في جميع الطبقات إذا نقل نصيب الميت إلى ابنه في جميع الطبقات. أما كونه في بعض الطبقات يخص الأقربين إليه وفي بعضها ينقل النصيب إلى ولد الميت أو إلى ذوي طبقته، فما يكاد عاقل يقصد هذا، وإذا دار حمل اللفظ بين ما الظاهر إرادته وبين ما الظاهر عدم إرادته، كان حمله على ما ظهرت إرادته هو الواجب، فإن اللفظ إنما يعمل به لكونه دليلا على المقصود، فإذا كان في نفسه محتملا وقد ترجح أحد الاحتمالين تعين الصرف إليه، فإذا انضم إلى ذلك أنه تخصيص للعموم ببعض الأفراد التي نسبتها ونسبة غيرها إلى غرض الواقف سواء كان كالقاطع في العموم.
الوجه السادس: أن هذه الصفة في معنى الشرط، والشرط المتعقب جملا يعود إلى جميعها باتفاق الفقهاء، ولا عبرة في هذا المقام بمن خالف ذلك من بعض المتأخرين، فإن الفقهاء قد نصوا: أن رجلا لو قال: والله لأفعلن كذا، ولأفعلن كذا إن شاء الله أن كلا الفعلين يكون معلقا بالمشيئة. وكذلك لو قال: لأضربن زيدا، ثم عمرا، ثم بكرا إن شاء الله. وكذلك لو قال: الطلاق يلزمه ليفعلن كذا، وعبده حر ليفعلن كذا، أو امرأته كظهر أمه ليفعلن كذا إن شاء الله. وإنما اختلفوا في الاستثناء المخصص، لا في الاستثناء المعلق. وهذا من باب الاستثناء المعلق مثل الشروط؛ لأوجه:
أحدها: أن الاستثناء بإلا ونحوها متعلق بالأسماء لا بالكلام، والاستثناء بحروف الجزاء متعلق بالكلام. وقوله: على أنه ونحوه. متعلق بالكلام، فهو بحروف الجزاء أشبه منه بحروف الاستثناء: إلا وأخواتها؛ وذلك أن قوله: وقفت على أولادي إلا زيدا. الاستثناء فيه متعلق بأولادي. وقوله: وقفت على أولادي إن كانوا فقراء. الشرط فيه متعلق بقوله: وقفت. وهو الكلام، وهو المعنى المركب. وكذلك قوله: على أن يكونوا فقراء. حرف الاستعلاء معلق لمعنى الكلام، وهو وقفت. وهذا قاطع لمن تدبره.
الثاني: أن هذا بيان لشروط الوقف التي يقف الاستحقاق عليها، ليس المقصود بها إخراج بعض ما دخل في اللفظ، فهي شروط معنوية.
الثالث: أن قوله: من مات منهم عن غير ولد كان نصيبه لمن في درجته. جملة شرطية جزائية مجعولة خبر أن المفتوحة، واسم أن ضمير الشأن، وأن وما في خبرها في تأويل المصدر، فيصير التقدير: وقفت على هذا.
الرابع: أن حرف على للاستعلاء، فإذا قال الرجل: وقفت على أنه يكون كذا، أو بعتك على أن ترهنني. كان المعنى: وقفت وقفا مستعليا على هذا الشرط، فيكون الشرط أساسا وأصلا، لما علا عليه وصار فوقه، والأصل متقدم على الفرع، وهذا خاصية الشرط؛ ولهذا فرق من فرق بين الشرط والاستثناء: بأن الشرط منزلته التقدم على المشروط، فإذا أخر لفظا كان كالمتصدر في الكلام، ولو تصدر في الكلام تعلقت به جميع الجمل، فكذلك إذا تأخر. فلو قال: وقفت على أولادي، ثم على أولادهم ثم على أولاد أولادهم إن كانوا فقراء. كان بمنزلة قوله: على أن يكونوا فقراء. وأحد اللفظين موجب لعود الضمير إلى جميع الطبقات، فكذلك الآخر.
واعلم أن هذه الدلائل توجب أن الضمير يعود إلى جميع الطبقات في هذه المسألة عند القائلين بأن الاستثناء المتعقب جملا يعود إلى جميعها، والقائلين بأنه يعود إلى الأخيرة منها، كما اتفقوا على مثل ذلك في الشرط.
الوجه السابع: أن هذا السؤال فاسد على مذهب الشافعي خصوصا، وعلى مذهب غيره أيضا وذلك أن الرجل لو قال لامرأته: أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق، إن دخلت الدار، فإنه لا يقع بها طلاق حتى تدخل الدار، فطلق حينئذ ثلاثا إن كانت مدخولا بها، أو واحدة إن كانت غير مدخول بها. هذا قول أبي يوسف ومحمد. وقيل: عن أبي يوسف ومحمد تطلق غير المدخول بها ثلاثا، كالواو عندهما، وهو مذهب الشافعي، وأقوى الوجهين في مذهب أحمد. وقال أبو حنيفة والقاضي أبو يعلى من أصحاب أحمد وطائفة معه: بل تتعلق بالشرط الجملة الأخيرة فقط، فإن كانت مدخولا بها تنجز طلقتان، وتعلق بالشرط واحدة، وإن كانت غير مدخول بها تنجزت طلقة بانت بها، فلم يصح إيقاع الأخريتين لا تنجيزا ولا تعليقا.
قالوا: لأن "ثم" للترتيب مع التراخي، فيصير كأنه قال: أنت طالق، ثم سكت، ثم قال: أنت طالق إن دخلت الدار.
وأما الأولون فقالوا: ثم حرف عطف يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه كالواو، لكن الواو تقتضي مطلق الجمع والتشريك من غير دلالة على تقدم أو تأخر أو مقارنة، وثم تقتضي التشريك مع التأخر. وافتراقهما في المعنى لا يوجب افتراقهما في نفس التشريك. وأما كونها للتراخي فعنه جوابان:
أحدهما: أن مقتضاها مطلق الترتيب، فيعطف بها المتعقب والمتراخي، لكن لما كان للمتعقب حرف يخصه وهو الفاء صارت ثم علامة على المعنى الذي انفردت به، وهو التراخي، وإلا فلو قال لمدخول بها: أنت طالق، ثم طالق، أو أنت طالق، فطالق؛ لم يكن بين هذين الكلامين فرق هنا.
الثاني: أن ما فيها من التراخي إنما هو في المعنى لا في اللفظ، فإذا قال الرجل: جاء زيد، ثم عمرو. فهذا كلام متصل بعضه ببعض، لا يجوز أن يقال: هو بمنزلة من سكت، ثم قال: عمرو. فمن قال: إن قوله: أنت طالق، ثم طالق، بمنزلة من سكت، ثم قال: طالق، فقد أخطأ، وإنما غايته أن يكون بمنزلة من قال: أنت طالق طلاقا يتراخي عنه طلاق آخر. وهذا لا يمنع من تعلق الجميع بالشرط تقدم أو تأخر.
فإذا كان من مذهب الشافعي وهؤلاء: أن قوله: أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق إن دخلت الدار، بمنزلة قوله: أنت طالق، فطالق، فطالق إن دخلت الدار. وقوله: أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار في المدخول بها. وكذلك قوله: أنتن طوالق، ثم أنتن طوالق إن دخلتن الدار. وإن الشرط تعلق بالجميع، فكيف يجوز أن ينسب إلى مذهبه أن العطف بما يقتضي الترتيب يوجب الصرف إلى من يليه الشرط دون السابقين؟ وهلا قيل هنا: إذا ثبت وقوع الطلاق نصا باللفظين الأولين، ولم يثبت ما يغيره، وجب تقرير الطلاق الواقع، بل مسألة الطلاق أولى بقصر الشرط على الجملة الأخيرة؛ لأن إحدى الطلقتين ليس لها تعلق بالأخرى من حيث الوجود، بل يمكن إيقاعهما معا، بخلاف ولد الولد، فإنهم لا يوجدون إلا متعاقبين، فالحاجة هنا داعية إلى الترتيب ما لا تدعو إليه في الطلاق.
وأيضا، فإن جواز تعقيب البيع والوقف ونحوهما بالشروط متفق عليه، بخلاف الطلاق، فإن مذهب شريح وطائفة معه وهي رواية مرجوحة عن أحمد أن الطلاق لا يصح تعليقه بشرط متأخر، كما ذهب بعض الفقهاء من أصحاب وغيرهم إلى أنه لا يصح الاستثناء من الطلاق، فإذا كانوا قد أعادوا الشرط إلى جميع الجمل المرتبة بثم، فالقول بذلك في غيرها أولى.
وهذا الكلام لمن تدبره يجتث قاعدة من نسب إلى مذهب الشافعي ما يخالف هذا.
فإن قال: قد ثبت العموم في الجمل المتقدمة، فلا يجوز تخصيصه بمحتمل متردد وليس غرضنا هنا إفساد هذا الدليل بل نقول: موجب هذا الدليل اختصاص التوابع بالجملة الأخيرة مطلقا. أما التفريق بين عاطف وعاطف، فليس في هذا الدليل ما يقتضيه أصلا، وأي فرق عند العقلاء بين أن يقول: وقفت على أولادي، وعلى المساكين، إلا أن يكونوا فساقا؟ نعم، صاحب هذا القول ربما قوي عنده اختصاص الاستثناء بالجملة الآخرة، وهاب مخالفة الشافعي فغاظ ما عنده من الرجحان، مع أنا قد بينا أن مسألتنا ليست من موارد الخلاف، وإنما الخلاف في الاستثناء أو الصفة الإعرابية، فأما الشرط والصفة الشرطية فلا خلاف فيهما بين الفقهاء.
وبالجملة، من سلم أن الجمل المعطوفة بالواو يعود الاستثناء إلى جميعها؛ كان ذكره لهذا الدليل مبطلا لما سلمه، فلا يقبل منه، فإن تسليم الحكم مستلزم تسليم بطلان ما يدل على نقيضه، فلا يقبل منه دليل يدل على عدم عود الاستثناء إلى الجميع.
الوجه الثاني: أن قوله: انصراف الاستثناء إلى الذين يليهم الاستثناء مقطوع به، فممنوع، بل يجوز أن يعود الاستثناء إلى الجملة الأولى فقط، إذا دل على ذلك دليل، ويجوز للمتكلم أن ينوي ذلك ويقصده، وإن كان حالفا مظلوما، فإنه لو قال: قاتل أهل الكتاب وعادهم وأبغضهم إلا أن يعطوا الجزية؛ كان الاستثناء عائدا إلى الجملة الأولى فقط، وقد قال سبحانه: { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } [39]، وهذا الاستثناء في الظاهر عائد إلى الجملة الأولي. وقال سبحانه: { بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } إلى قوله: { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شيء ا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عليكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إليهمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ } [40]، وليس هذا مستثني مما يليه، بل من أول الكلام.
وقد قال جماعة من أهل العلم في قوله: { لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا } [41]: إن { قَلِيلا } عائد إلى قوله: { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ } [42]، { إِلاَّ قَلِيلا } وهذا الاستثناء عائد إلى جملة بينها وبين الاستثناء جمل أخري. والمقدم في القرآن، والمؤخر باب من العلم، وقد صنف فيه العلماء منهم الإمام أحمد وغيره، وهو متضمن هذا. وشبهه أن يكون الاستثناء مؤخرا في اللفظ مقدما في النية.
ثم التقديم والتأخير في لغة العرب، والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة معترضة وبين غيرهما، لا ينكره إلا من لم يعرف اللغة، وقد قال سبحانه: { وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } [43]، فقوله: { أَن يُؤْتَى } من تمام قول أهل الكتاب، أي: كراهة أن يؤتي، فهو مفعول { تٍؤًمٌنٍوا }، وقد فصل بينهما بقوله: { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ } وهي جملة أجنبية، ليست من كلام أهل الكتاب، فأيما أبلغ الفصل بين الفعل والمفعول أو بين المستثني والمستثني منه؟ وإذا لم يكن عود الاستثناء إلى الأخيرة مقطوعا به لم يجب عود الاستثناء إليها، بل ربما كان في سياقه ما يقتضي أن عوده إلى الأولى أوكد. ومسألتنا من هذا الباب كما تقدم.
الثالث: قوله: إذا ثبت الاستحقاق بلفظ الواقف نصا ولم يثبت ما يغيره وجب تقرير الاستحقاق.
قلنا أولا: مسألتنا ليست من هذا الباب، فإن قوله: على أولاده، ثم على أولادهم، ليس نصا في ترتيب الطبقة على الطبقة، فإنه صالح لترتيب الأفراد على الأفراد، لكن هذا يجب في خصوص مسألتنا مع من يريد أن يدخلها تحت عموم هذا الكلام، ثم من يقول من راس: لا نسلم ثبوت الاستحقاق بلفظ الواقف نصا في شيء من الصور التي يعقبها استثناء أو شرط، فإن اللفظ إنما يكون نصا إذا لم يتصل بما يغيره، والتغيير محتمل، فشرط كونه نصا مشكوك فيه، ومتى كان شرط الحكم مشكوكا فيه لم يثبت، فإنه لا نص مع احتمال التغيير، لا سيما مثل هذا الاحتمال القوي الذي هو عند أكثر العلماء راجح.
فإن قال: المقتضي لدخولهم قائم، والمانع من خروجهم مشكوك فيه.
قلت: على قول من يمنع تخصيص العلة لا أسلم قيام المقتضي لدخولهم، فإن المقتضي لدخولهم هو اللفظ الذي لم يوصل به ما يخرجهم، فلا أعلم أن هذا اللفظ لم يوصل به ما يخرجهم حتى أعلم أن هذا الاستثناء لا يخرجهم، وهذا الشرط مشكوك فيه. وأما على قول من يقول بتخصيصها، فأسلم قيام المقتضي، لكن شرط اقتضائه عدم المانع المعارض. وهنا ما يصلح أن يكون مانعا معارضا، فما لم يقم دليل يبقي صلاحه للمعارضة وإلا لم يعمل المقتضي عمله، والصلاح للمعارضة لا مزية فيه.
وهذا البحث بعينه وهو بحث القائلين بعود الاستثناء إلى جميع الجمل مع القاصرين على الجملة الأخيرة. ثم يقول من راس: إذا قال مثلا: وقفت على أولادي، ثم على الفقراء إلا الفساق المنازع يقول: ولدي نص في أولاده، والفساق يجوز أن يختص بالفقراء.
فنقول له: هذا معارض بمثله، فإن الفساق نص في جميع الفساق، فإنه اسم جمع معرف باللام، وإذا كان عاما وجب شموله لكل فاسق، فدعوي اختصاصه بفساق الفقراء دون الأولاد يحتاج إلى مخصص، فليست المحافظة على عموم الأولاد لعدم العلم بالتخصيص بأولى من المحافظة على عموم الفساق لعدم العلم بالمخصص، بل الراجح إخراجهم لأسباب:
أحدها: أن الأصل عدم دخولهم في الوقف، وقد تعارض عمومان في دخولهم وخروجهم، فيسلم النافي لدخولهم عن معارض راجح.
الثاني: أنا قد تيقنا خروجهم من إحدى الجملتين، فكان إحدى العمومين المعطوفين مخصوصا، فإلحاق شريكه في التخصيص أولى من إدخال التخصيص على ما ليس بشريكه.
الثالث: أن المعطوف والمعطوف عليه بمنزلة الجملة الواحدة، فإذا ورد التخصيص عليها ضعفت، بخلاف عموم المستثني، فإنه لم يرد عليه تخصيص.
الرابع: كون الفسق مانعا يقتضي رجحانه عند الواقف على المقتضي للإعطاء، فإذا تيقنا رجحانه في موضع كان ترجيحه في موضع آخر أولى من ترجيح ما لم يعرف رجحانه بحال.
الخامس: أن قوله: نص الواقف، إن عني به ظاهر لفظه، فعود الاستثناء إلى جميع الجمل ظاهر لفظه أيضا عند هذا القول، فلا فرق بينهما. وإن عني به النص الذي لا يحتمل إلا معني واحدا، فمعلوم أن كل لفظ يقبل الاستثناء، فلابد أن يكون إما عددًا أو عموما، والعمومات ظواهر ليست نصوصًا.
السادس: قوله: لا يجوز تغييره بمحتمل متردد. تقول بموجبه، فإن عود الاستثناء عندنا إلى جميع الجمل ليس بمحتمل متردد، بل هو نص أيضًا بالتفسير الأول. والدليل على ذلك غلبته على الاستعمال، قال تعالى: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } إلى قوله: { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ } [44]، وهو عائد إلى قوله: { يَلْقَ }، و { يُضَاعَفْ }، و { وَيَخْلُدْ }. وقال سبحانه: { أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ } [45]، وقال تعالى: { أُولَئِكَ عليهمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [46]، وقال تعالى: { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [47]، وقال تعالى: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ } إلى قوله: { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عليهمْ } [48]، فهذا استثناء قد تعقب عدة جمل.
فإن معنى الجملة في هذا الباب هو اللفظ الذي يصح إخراج بعضه، وهو الاسم العام، أو اسم العدد، ليس معناه الجملة التي هي الكلام المركب من اسمين أو اسم فعل أو اسم وحرف، وقد ثبت بما روي عن الصحابة أن قوله: { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } [49]، في آية القذف عائد إلى الجملتين، وقال النبي ﷺ: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه، وقال النبي ﷺ: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى). وهذا كثير في الكتاب والسنة، بل من تأمل غالب الاستثناءات الموجودة في الكتاب والسنة التي تعقبت جملا وجدها عائدة إلى الجميع هذا في الاستثناء فأما في الشروط والصفات فلا يكاد يحصيها إلا الله.
وإذا كان الغالب على الكتاب والسنة وكلام العرب عود الاستثناء إلى جميع الجمل، فالأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب؛ لأن الاستثناء إما أن يكون موضوعًا لهما حقيقة، فالأصل عدم الاشتراك، أو يكون موضوعًا للأقل فقط، فيلزم أن يكون استعماله في الباقي مجازًا، والمجاز على خلاف الأصل، فكثرته على خلاف الأصل، فإذا جعل حقيقة فيما غلب على استعماله فيه مجازًا فيما قل استعماله فإن قيل: فقد قال به بعض الفقهاء من الحنفية والحنبلية، فهؤلاء يقولون به هنا؟ قلنا: قد أسلفنا فيما مضى أن الضمير عائد إلى الجميع على أصول الجميع؛ لدليل دل على الرجوع من جهة كون الضمير حقيقة في جميع ما تقدم، وأن هذا هو المفهوم من الكلام، ثم الذي يقول بهذا يفرق بين هذا وبين الطلاق من وجوه:
أحدها: أن الشرط في الطلاق متعلق بالفعل الذي هو وتلك الأسماء المعطوفة بعضها على بعض كلها داخلة في حيز هذا الفعل، وهي من جهة المعنى مفاعيل له، بمنزلة الشرط في القسم، فإنه إذا قال: والله لأفعلن كذا، وكذا، ثم كذا إن شاء الله؛ كان الشرط متعلقا بالفعل في جواب القسم، والمفاعيل داخلة في مستثناه، وتناول الفعل لمفاعيله على حد واحد، فإذا كان قد قيد تناوله لها بقيد تقيد تناوله للجميع بذلك القيد؛ بخلاف قوله: أنت طالق، ثم طالق إن شاء زيد فإن المتعلق بالشرط هنا اسم الفاعل، لا نفس المبتدأ، والخبر الثاني ليس بداخل في خبر الخبر الآخر، بل كلاهما داخل في خبر المبتدأ، فلهذا خرج هنا خلاف، وهذا فرق بين لمن تأمله.
الوجه الثاني: أن الشرط في الطلاق، وهو قوله: إن دخلت الدار ليس فيه ما يوجب تعلقه بجميع الجمل، بخلاف قوله: على أنه من مات منهم. فإن الضمير يقتضي العود إلى جميع المذكور.
الثالث: أن إحدى الجملتين في الطلاق لا تعلق لها بالأخرى، فإن الطلقة تقع مع وجود الأولى وعدمها، فإذا علقت بالشرط لم تستلزم تعليق الأولى؛ لانفصالها عنها. وقد اعتقدوا أن ثم بمنزلة التراخي في اللفظ، فيزول التعلق اللفظي والمعنوي، فتبقى الجملة الأولى أجنبية عن الشرط على قولهم. وأما قوله: ثم على أولادهم. فإنه متعلق بالجملة الأولى من جهة الضمير ومن جهة الوجود، ومن جهة الاستحقاق، فلا يصح اللفظ بهذه الجملة إلا بعد الأولى، ولا وجود لمعناها إلا بعد الأولى، ولا استحقاق لهم إلا بعد الأولى، سواء قدر التراخي في اللفظ أو لم يقدر فلا يمكن أن تجعل الأولى أجنبية عن الثانية حتى تعلق الثانية وحدها بالشرط.
والذي تحقق: أن النزاع إنما هو في الطلاق فقط: أنه لو قال: والله لأضربن زيدا، ثم عمرا، ثم بكرا إن شاء الله عاد استثناء إلى الجميع. فقوله: وقفت على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على أولاد أولادهم إن كانوا فقراء، أبلغ من قوله: إن شاء الله، من حيث إن هنا تعلق الضمير.
الوجه الثامن: أن هذا الفرق الذي ذكره بعض الفقهاء بين العطف بالحرف المرتب والحرف الجامع إنما ذكره في الاستثناء، ثم قال: وكذلك القول في الصفة، والصفة إذا أطلقت فكثيرا ما يراد بها الصفة الصناعية النحوية. وهو الاسم التابع لما قبله في إعرابه، مثل أن تقول: وقفت على أولادي، ثم على الفقراء العدول، فإن اختصاص الجملة هنا بالصفة الآخرة قريب، ومسألتنا شروط حكمية، وهي إلى الشروط اللفظية أقرب منها إلى الاستثناء، وإن سميت صفات من جهة المعنى.
والدليل على أنه قصد هذا، أنه قال: وإن كان العطف بالواو ولا فاصل، فمذهب الشافعي رجوع الاستثناء إلى الجميع، وكذلك القول في الصفة، فعلم أنه قصد أن هذا مذهب الشافعي مشيرا إلى خلاف أبي حنيفة؛ فإنه إنما يعيد ذلك إلى الجملة الأخيرة، وهذا إنما يقوله أبو حنيفة في الاستثناء والصفات التابعة، لا يقوله في الشروط والصفات التي تجرى مجرى الشروط، فصار هنا أربعة أقسام:
أحدها: الاستثناء بحرف إلا المتعقب جملا، والخلاف فيه مشهور.
الثاني: الاستثناء بحروف الشرط، فالاستثناء هنا عائد إلى الجميع.
الثالث: الصفات التابعة للاسم الموصوف بها وما أشبهها وعطف البيان، فهذه توابع مخصصة للأسماء المتقدمة، فهي بمنزلة الاستثناء.
الرابع: الشروط المعنوية بحرف الجر، مثل قوله: على أنه، أو تشرط أن يفعل. أو بحروف العطف، مثل قوله: ومن شرطه كذا، ونحو ذلك، فهذه مثل الاستثناء بحروف الجزاء. والضابط أن كل ما كان من تمام الاسم فهو من جنس الاستثناء بإلا، وكلما كان متعلقا بنفس الكلام وهو النسبة الحكمية التي بين المبتدأ والخبر وبين الفعل والفاعل، فهو في معنى الاستثناء بحرف الشرط. ومعلوم أن حروف الجر وحروف الشرط المتأخرة إنما تتعلق بنفس الفعل المتقدم، وهو قوله: وقفت. وهو الكلام، والجملة والاستثناء والبدل والصفة النحوية وعطف البيان متعلق بنفس الأسماء التي هي مفاعيل هذا الفعل.
ويجوز كلام من فرق على جمل أجنبيات مثل أن تقول: وقفت على أولادي، ثم على ولد فلان، ثم على المساكين، على أنه لا يعطي منهم إلا صاحب عيال، ففي مثل هذا قد يقوى اختصاص الشرط بالجملة الأخيرة؛ لكونها أجنبية من الجملة الأولى، ليست من جنسها، بخلاف الأولاد وأولاد الأولاد، فإنهم من جنس واحد.
وحمل الكلام على أحد هذين المعنيين أو نحوهما متعين مع ما ذكرنا من دليل إرادة ذلك، على أنه لو كان فيه تخصيص لكلامه، فإنه واجب لما ذكرناه، فإنه إذا كان قد جاء إلى كلام الأئمة الذين قالوا: الاستثناء أو الصفة إذا تعقب جملا معطوفا بعضها على بعض عاد إلى جميع الجمل. فخص ذلك ببعض حروف العطف لما رآه من الدليل، فلأن نخص نحن كلامه بما ذكرناه من نصوص كلامهم الموجب للتسوية بين الواو وثم بطريق الأولى، فإن سلم أن كلامه محمول على ما ذكرناه وإلا تكلمنا معه بالوجه التاسع.
وهو أن هذا الفرق المدعي بين الحرف الجامع جمعا مطلقا والحرف المرتب فرق لا أصل له في اللغة، ولا في العرف، ولا في كلام الفقهاء، ولا في كلام الأصوليين، ولا في الأحكام الشرعية، والدليل المذكور على صحته فاسد، فيجب أن يكون فاسدا.
أما الأول، فإن أهل اللغة قالوا: حروف العطف هي التي تشرك بين ما قبلها وما بعدها في الإعراب، وهي نوعان: نوع يشرك بينهما في المعنى أيضا، وهي: الواو والفاء وثم، فأما الواو فتدل على مطلق التشريك والجمع، إلا عند من يقول: إنها للترتيب. وأما ثم، فإنها تدل على مطلق الترتيب. وقد يقال: إنها للتراخي. وأما الفاء، فإنها تدل على نوع من الترتيب، وهو التعقيب. فهذه الحروف لا يخالف بعضها بعضا في نفس اجتماع المعطوف والمعطوف عليه في المعنى، واشتراكهما فيه، وإنما تفترق في زمان الاجتماع.
فلو قيل: إن العطف بالواو يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فيما يلحق الجمل من استثناء ونعت ونحو ذلك، والعطف بثم لا يقتضي اشتراكهما في هذه اللواحق، للزم من ذلك ألا تكون، ثم مشتركة حيث تكون الواو مشتركة، ومعلوم أن هذا مخالف لما عليه أهل اللغة، بل هو خلاف المعلوم من لغة العرب. والأحكام اللغوية التي هي دلالات الألفاظ تستفاد من استعمال أهل اللغة والنقل عنهم، فإذا كان النقل والاستعمال قد اقتضيا أنهما للاشتراك في المعنى؛ كان دعوى انفراد أحدهما بالتشريك دون الآخر خروجا عن لغة العرب وعن المنقول عنهم.
وأما العرف، فقد أسلفنا أن الناس لا يفهمون من مثل هذا الكلام إلا عود الشرط إلى الجميع، والعلم بهذا من عرف الناس ضروري. وأما كلام العلماء من الفقهاء والأصوليين، فإنهم تكلموا في الاستثناء المتعقب جملا، فقال قوم: إنه يعود إلى جميعها. وقال قوم: يعود إلى الأخيرة منها. وقال قوم: إن كان بين الجملتين تعلق عاد الاستثناء إلى جميعها، وإن كانتا أجنبيتين عاد إلى الأخيرة. ثم فصلوا الجمل المتعلق بعضها ببعض من الأجنبية، وذكروا عدة أنواع من التفصيل. وقال قوم: العطف مشترك بين الجميع. وقال قوم: بالوقف في جميع هذه المذاهب. ثم ليس أحد من هؤلاء فرق بين العطف بالواو والفاء أو ثم، بل قولهم المعطوف بعضها على بعض يعم الجميع.
وكذلك الفقهاء ذكروا هذا في باب الإيمان، وباب الوقف ثم بنوه على أصلهم، فقالوا: الاستثناء أو الوصف إذا تعقب جملا عاد إلى جميعها أو إلى بعضها. وقد اعترف من فصل: بأن الأئمة أطلقوا هذا الكلام، وأنه هو الذي فصل، فلا يجوز أن ينسب إلى الأئمة إلا ما قالوه.
وأما الأحكام، فإنه لو قال: والله لأضربن زيدا، ثم عمرا، ثم بكرا إن شاء الله. عاد الاستثناء إلى الجميع. وكذلك لو قال: الطلاق يلزمنى لأضربن هذا، ثم هذا، ثم هذا. أو قال: لآخذن المُدْيَة، لأذبحن الشاة، لأطبخنها، إلى غير ذلك من الصور.
وأما ما استدل به، فإنه قال: إذا كان العطف بما يقتضي ترتيبها، فالصرف إلى جميع المتقدمين فيه بعض النظر والغموض، فإن انصراف الاستثناء إلى الذين يليهم الاستثناء مقطوع به، وانعطافه على جميع السابقين. والعطف بالحرف المرتب محتمل، غير مقطوع به، وإذا ثبت الاستحقاق بلفظ الواقف نصا ولم يثبت ما يغيره؛ وجب تقرير الاستحقاق، ولم يجز تغييره لمحتمل متردد، فنقول: الجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا بعينه موجود في العطف بالواو، فإن انعطافه على جميع السابقين محتمل غير مقطوع، سواء كان العطف بحرف مرتب أو مشترك غير مرتب، وهذا بعينه دليل من أوجب قصر الاستثناء على الجملة الأخيرة فيه؛ كنا قد عملنا بالأصل النافي للاشتراك، وبالأصل النافي للمجاز في صور التفاوت، وهو أولى من تركه مطلقًا.
وإذا ثبت أن عود الاستثناء إلى جميع الجمل نص بمعني أنه ظاهر اللفظ فهو المطلوب، وليس الغرض هنا تقرير هذه المسألة، وإنما الغرض التنبيه على مواضع المنع.
وهذا البحث الذي ذكره وارد في كل تخصيص متصل، فإنه ليس المحافظة على عموم المخصوص بأولى من المحافظة على عموم المخصص، بل هذا أولي؛ لأنه عام باق على عمومه؛ ولأن ذكر التخصيص عقب كل جملة مستقبح، فلو قال: وقفت على أولادي على أنه من مات منهم عن ولد أو عن غير ولد. كان نصيبه لولده أو لذوي طبقته، ثم على ولد ولدي على هذا الشرط، ثم على ولد ولد ولدي على هذا الشرط. لعد هذا من الكلام الذي غيره أفصح منه وأحسن.
ثم يقال لمن نازعنا: ومعلوم قطعًا أن عامة الواقفين يقصدون الاشتراط في جميع الطبقات، ولا يعبرون بهذه العبارة المستغربة، بل يقتصرون على ما ذكره أولا، فلولا أن ذلك كافٍ في تبليغ ما في نفوسهم لما اقتصروا عليه، والله يشهد وكفي بالله شهيدًا أنا نتيقن أن الكلام في مسألتنا يقيني، وأنه ليس من مسالك المظنون، لكن في قدرة الله سبحانه أن يجعل اليقين عند قوم جهلا عند آخرين، ويعد الكلام على هذا تكلفًا. ولولا أن الحاجة مست إلى ذلك بظن من يظن أن لمن ينازع في هذه المسألة متعلقًا، أو أنها مسألة من مسائل الاجتهاد لما أطلنا هذه الإطالة.
فإن قيل: الذي يرجح عود الضمير إلى الجملة الأخيرة هنا: أن الجملة الأخيرة عطفت بالواو، وعطف عليها بالواو، فاقتضي ذلك مخالفتها لحكم الأولى في الترتيب؛ إذ الوقف هاهنا مشترك بين البطون، فلم يبق بينها وبين الأولى من الأحكام إلا مسمي الوقفية على الجميع، والكيفية مختلفة، فاقتضي ذلك استقلالها بنفسها، واختصاصها بما يعقبها، فإنه إذا تخلل الجمل ال
فصل بشرط كل جملة أوجب ذلك اختصاص الشرط الأخير، وما ذاك إلا لاختلاف الأحكام حينئذ. والاختلاف موجود هاهنا.
قيل عنه وجوه:
أحدها: أن قوله: عطفت بالواو، وعطف عليها بالواو. يقتضي أنها هي لفظ النسل، فإن كان لفظ النسل والعقب بمعني واحد، فلم يعطف عليها في المعنى شيء. وإن كانا بمعنيين فيجب أن يكون الضمير عائدًا إلى الجملة المعطوفة؛ لا المعطوف عليها.
الثاني: قوله: فاقتضي ذلك مخالفتها للأولى في حكم الترتيب. قد تقدم منع ذلك، وذكرنا أن من الفقهاء من يجعل هذا الوقف مرتبًا إلى يوم القيامة، فإن قوله: ثم على أولاد أولاده، ونسله وعقبه. لم يتعرض فيه للترتيب بنفي ولا إثبات، لكن لما كان الأصل عدم الترتيب نفيناه عند الانطلاق، فلما رتب هنا في كلامه الأول مع العلم بأن العاقل لا يفرق في مثل هذا، بل يكتفي بما ذكره أولا كان إعادة الشرط تسمح؛ ولكن غرضنا هنا تقرير هذا.
الثالث: لو سلمنا أنه يوجب الاشتراك بين المعطوف، فلا يوجب ذلك اختلافهما في الحكم الذي اشتركا فيه بحرف العطف، فإن غاية ما في هذا أنه جعل البطن الرابع وما بعده طبقة واحدة، كما جعل في البطن الأول ولد الكبير والصغير، والولد الكبير والصغير طبقة واحدة، ولم يرتب بعضهم على بعض باعتبار الأسنان، فقوله: فاقتضي ذلك مخالفتها لحكم الأولى في الترتيب. فيه إبهام، فإنه إن عني به أن هذه الجملة بالنسبة إلى أفرادها مخالفة لتلك الجمل، فليس كذلك، بل جملة، فإنها حاوية لأفرادها على سبيل الاشتراك، لا على سبيل الترتيب. وإن عني به أن هذه الجملة لم يرتب عليها غيرها، فالجملة الأولى لم تترتب على غيرها، وهذا إنما جاء من ضرورة كونها آخر الجمل، وليس ذلك بفرق مؤثر، كما لم يكن كون الأولى غير مرتبة فرقًا مؤثرًا.
وإن عني به أن هذه الجملة مشتملة على طبقات متفاوتة بخلاف الجمل الأولي، فذلك فرق لا يعود إلى دلالة اللفظ ولا إلى الحكم المدلول عليه باللفظ، مع أن الجمل الأولى قد يحصل فيها من التفاوت أكثر من ذلك، فقد يكون أولاد الأولاد عشرين بين الأول والآخر سبعون سنة، ويكون للأول أولاد قبل وجود إخوته فيموت أولاده، وأولاد أولاده، وأولاد أولاد أولاده قبل انقراض إخوته، وربما لم يكن قد بقي من النسل والعقب إلا نفر يسير، فينقرضون، ثم هذه فروق عادت إلى الموجود، لا إلى دلالة اللفظ.
الرابع: قوله: فلم يبق بينها وبين الأولى من الأحكام إلا مسمي الوقفية. قيل: ليس بينهما فرق أصلا، بل تناول الجملة الأولى لأفرادها كتناول الثانية لأفرادها، لكن الجملة الثانية أكثر في الغالب، وهذا غير مؤثر. وقوله: الكيفية مختلفة. ممنوع، فإن كيفية الوقف على الأولاد مثل كيفية الوقف على النسل والعقب، يشترك هؤلاء فيه، وهؤلاء فيه.
الخامس: لو سلم أن بينهما فرقًا خارجًا عن دلالة اللفظ، فذلك لا يقدح في اشتراكهما في العطف، فإن هذا الاختلاف في الكيفية لو كان صحيحًا كان بمنزلة قوله: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } [50]، فإن ذوق الميت يختلف اختلافًا متباينًا، لكن هذا الاختلاف لا دلالة للفظ عليه، فلم يمنع من الاشتراك الذي دل عليه العموم.
السادس: أن الكيفية المختلفة مدلول عليها بالعطف، وذلك لا يوجب الاستقلال والاختصاص بما يعقبها، كما لو قال: وقفت على أولادي الذكور والإناث، وأولادي بني، وأولاد أولاد أولادي، على أنه من توفى منهم، وإنما الفصل الذي يقطع الثانية عن الأولى أن يفصل بين الجملتين بشرط، مثل أن يقول: وقفت على أولادي على أن يكونوا فقراء، ثم على أولاد أولادي على أن يكونوا عدولا. فإن الشرط الثاني مختص عما قبله؛ لكون الأول قد عقب بشرطه، والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بشرط يفصله عن مشاركة الثاني في جميع أحكامه، بخلاف ما إذا كان الاختلاف من غير فصل لفظي.
السابع: قوله: وما ذاك إلا لاختلاف الأحكام. قلنا: لا نسلم، بل إنما ذاك لأجل الفصول اللفظية المانعة من الاشتراك فيما ذكر من الأحكام للفظ. أما إذا كان الفرق بين المعطوف والمعطوف عليه لمعني يرجع إلى لفظ المعطوف، فهذا شأن كل معطوف ومعطوف عليه من جنسين، وفرق بين أن يفصل بين الجملتين بشرط مذكور، وبين أن يكون مفهوم لفظ إحدى الجملتين غير مفهوم الأخري. وهذا بين لمن تدبره.
فإن قيل: هنا مرجح ثان، وهو أن جعله مختص بالجملة الأخيرة يفيد ما لم يدل اللفظ عليه، وهو منع اشتراك النسل في نصيب من مات عن غير ولد، فإنه لولا هذا الشرط لاشتركوا في جميع حقهم المتلقي عمن فوقهم، وعمن مات عن ولد أو غير ولد، بخلاف ما إذا عاد إلى جميع الجمل فإنه يكون مؤكدًا فقط؛ فإنا كنا نجعل نصيب الميت عن غير ولد لطبقته.
قيل عنه وجوه:
أحدها: أنا قدمنا أن هذه الفائدة باطلة، فإن العاقل لا يقول: هؤلاء أعلاهم وأسفلهم مشتركون في الوقف، فمن مات عن غير ولد اختص بنصيبه إخوته، دون آبائه وأعمامه. ومن مات عن ولد لم يختص بنصيبه أحد، لا ولده ولا غيره، فإن هذا لم يفعله أحد، ولا يفعله من يستحضره فإنه بمنزلة من يقول: أعطوا البعيد منى ومن الميت، واحرموا القريب منى ومن الميت. وقول القائل: يقصد مثل هذا في العادات، فما علمنا أحدًا قصد هذا.
الثاني: أنا قد منعنا كون هذا مقتضاه التشريك، فتبطل الفائدة.
الثالث: أن في عوده إلى جميع الجمل فوائد:
أحدها: أنه يدل بنطقه على نقل نصيب الميت عن غير ولد إلى ذوي طبقته، وتنبيهه الذي هو أقوي من النطق على نقل نصيب المتوفي عن ولد إلى ولده، كما تقدم ذكره.
الفائدة الثانية: أن قوله: على أولاده، ثم أولاد أولاده إلى قوله: دائمًا ما تناسلوا، وأبدًا ما تعاقبوا. يقتضي استحقاق ذريته للوقف، فإذا مات الميت وليس له إلا ذوي طبقته، وأولاد أولاده؛ أفاد الشرط إخراج الطبقة، فيبقي الأولاد داخلين في اللفظ الأول مع الثاني. فمجموع قوله: على أولادي ثم أولادي، مع قوله: على أن نصيب الميت عن غير ولد ينتقل إلى إخوته. دلنا على أن نصيب الميت عن ولد ينتقل إلى ولده؛ لأنهم في عموم قوله: أولاد أولادي، ودخلت الطبقة في العموم، فلما خرجت الطبقة بالشرط بقي ولد الولد. وهكذا كل لفظ عام لنوعين أخرج أحدهما فإنه يتعين الآخر. وهذه دلالة ثانية على انتقال نصيب الميت عن ولد إلى ولده من جهة اللفظ العام الذي لم يبق فيه إلا هم، وهي غير دلالة التنبيه.
وإن شئت عبرت عن ذلك بأن تقول: نصيب الميت إما للأولاد، أو لأولاد الأولاد، كما دل على انحصار الوقف فيهما قوله: على أولادي، ثم على أولادهم: فكما منع الأولاد أن ينتقل إليهم نصيب الميت عن ولد؛ تعين أن يكون للنوع الآخر.
يبقي أن يقال: فقد يكون هناك من ليس من الطبقة، ولا من الولد. قلنا: إذا ظهرت الفائدة في بعض الصور حصل المقصود، وهي صورة مسألتنا، فإنا لم نتكلم إلا في نصيب الميت: هل يصرف إلى إخوته أو ولده؟ أما لو كان للميت عم مثلا فنقول: حرمان طبقة الميت تنبيه على حرمان من هم أبعد عنه، فإن طبقته لم يحرمهم لبعدهم من الوقف، فإن الولد أبعد منهم. وقد بينا أن ذلك يقتضي إعطاء الولد في أكثر الصور، فعلم أنه حرمهم لبعدهم عن الميت. وهذا المعني في أعمام الميت أقوي، فيكونون بالمنع مع الولد أحرى.
الفائدة الثالثة: أنه دليل على أنه قصد ترتيب الأفراد على الأفراد، لا ترتيب المجموع على المجموع، كما لو قال: على أنه من مات منهم عن ولد كان نصيبه لولده.
فإن قيل: هذا حمل اللفظ الواحد على مفهومين مختلفين، فإن فائدته في الأول بيان ترتيب الأفراد على الأفراد، وفي الثاني بيان اختصاص الطبقة بنصيب المتوفى، فمن منع من أن يراد باللفظ الواحد حقيقتان، أو مجازان، أو حقيقة ومجاز يمنع منه، ومن جوزه. قلنا: على هذا التقدير إذا ثبت أمر بلفظ الواقف نصًا لم يجز تغييره بمحتمل متردد. قيل: هذا السؤال ضعيف جدًا لوجوه:
أحدها: أن مورده جعله مقررًا لوجه ثان في بيان عود الضمير إلى الجملة الأخيرة، غير ما ذكر أولا عن عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة، ثم إنه في آخر الأمر على قول المجوزين لأن يراد باللفظ الواحد معنياه اعتمد على ذلك الجواب، فما صار وجهًا آخر.
الثاني: أنا نقول: هذا مبني على أن الشرط أفاد في الطبقة الأخيرة عدد نصيب المتوفى عن غير ولد إلى ذوي طبقته، والمتوفى عن ولد يشترك فيه جميع الطبقة، وهذا ممنوع من وجهين تقدمًا.
الثالث: لو سلمنا ذلك، فليس هذا من باب استعمال اللفظ في معنيين مختلفين، إنما هو من باب استعمال اللفظ الواحد في معني واحد، وذلك معدود من الألفاظ المتواطئة، وذلك أن فائدة اللفظ بمنطوقه نقل نصيب المتوفى عن غير ولد إلى طبقته، وهذه فائدة متجددة في جميع الجمل، ثم إن تقيد الانتقال إلى الطبقة بوجود الولد دليل على أنه عنا ترتيب الأفراد، وهذه دلالة لزومية، واللفظ إذا دل بالمطابقة على معني وبالالتزام على معنى آخر لم يكن هذا من القسم المختلف فيه، كعامة الألفاظ، فإن كونه دليلا على ترتيب الأفراد إنما جاء من جهة أنه شرط في استحقاق الطبقة نصيب المتوفى عدم ولده، ثم علم بالعقل أنه لو قصد ترتيب المجموع لم يشرطه بهذا الشرط، فإن ترتيب المجموع واشتراط هذا الشرط متنافيان، وكون هذين المعنيين يتنافيان قضية عقلية فهمت بعد تصور كل واحد من المعنيين؛ لأن أحد اللفظين دل عليهما بالوضع، وهذا كما فهموا من قوله: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } [51]، مع قوله تعالى: { يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [52]، أن أقل الحمل ستة أشهر، ونظائره كثيرة.
الرابع: لو فرض أن هذا من باب استعمال اللفظ الواحد في معنييه، فلا نسلم أن منع ذلك هو الحق، بل ليس ذلك مذهب أحد من الأئمة المعتبرين، وإنما هو قول طائفة من المتكلمين، والذي يدل عليه كلام عامة الصحابة والتابعين وعامة الفقهاء وعامة أهل اللغة وأكثر المتكلمين جواز ذلك، فلم لا يجوز أن يحمل كلامه على ما يعتقد هو صحته ويناظر عليه؟
الخامس: أن ما ادعوه من أن النص لا يدفع بمحتمل، تقدم جوابه، وبينا أنه لا نص هنا، بل يدفع المحتمل بالنص، وذكرنا أن هذا البحث هو المنصوص عن الأئمة الكبار.
الفائدة الرابعة: أنه قصد بهذا الشرط نفي انقطاع الوقف، ونفي اشتراك جميع أهل الوقف في نصيب المتوفى عن غير ولد، ونبه بذلك على أنه عني بقوله: عن ولده. ترتيب الأفراد.
فإن قيل: عوده إلى جميع الجمل يوجب انقطاع الوقف في الوسط، فحمل اللفظ على ما ينفي الانقطاع أولي؛ لأن من مات عن ولد لا يصرف نصيبه إلى الطبقة عملا بموجب الشرط، ولا إلى الولد عملا بموجب الترتيب المطلق.
فإن قلتم: إذا جعلناه مبنيا لترتيب الأفراد لم يكن موجبًا للانقطاع، فنجيب عنه بالبحث المتقدم، وهو أن استحقاق الطبقة مستحق لظاهر اللفظ، فلا يترك بمتردد محتمل.
قيل أولا: هذا الوجه لا يتم إلا بهذا البحث، وهو إنما ذكر ليكون مؤيدًا له، والمؤيد للشيء يجب أن يكون غيره، ولا يكون معتمدًا عليه، فإذا كان الوجه لا يتم إلا بذلك البحث كانت صحته موقوفة على صحته، والفرع لا يكون أقوي من أصله، ولا يكسبه قوة، بل يكون تقوية ذلك الوجه به تقوية الشيء بنفسه، وهذا نوع من المصادرة. وإذا كان هذا مبنيا على ذلك الوجه، وقد أجبنا عنه فيما مضي فقد حصل الجواب عن هذا.
ثم نقول: الانتفاع ينتفي من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الوقف محصور في الأولاد ثم أولادهم، فإذا مات الميت عن ولد فنصيبه إما لإخوته، أو لبنيهم، أو لبنيه، أو لعمومته؛ لأن الشرط يقتضي انحصار الوقف في الأولاد، ثم أولاد الأولاد، وهم إما ذو طبقته، أو من هو أعلى منه، عمومته ونحوهم، فإنه لا يستحق شيئا مع وجود أبيه، ومن هو أسفل منه: ولده وولد إخوته، وطبقتهم. فأما طبقته فانتفوا بالقيد المذكور في استحقاقهم، وأما بنوهم فانتفوا لثلاثة أسباب:
أحدها: بطريق التنبيه، فإن أباهم أقرب إلى الميت وإلى الواقف، فإذا لم ينقل إلى الأقرب فإلى الأبعد أولى.
والثاني: أنه سواء عني بالترتيب ترتيب المجموع، أو ترتيب الأفراد، لا يستحقون في هذه الحال، فإن الطبقة العليا لم تنقرض، وآباؤهم لم يموتوا.
الثالث: أنهم في هذه الحال ليسوا من أهل الوقف، ولم ينتقل إليهم ما هم أصل فيه، فلا ينتقل إليهم ما هم فروع فيه، وأما العمومة فإنه لا يتصور أن يستحق الميت شيئا مع وجود عمومته إلا على قولنا، ففرض هذه الصورة على رأي المنازع محال. وإذا كان وجود العمومة مستلزمًا لصحة هذا القول، فمحال أنه يستلزم ذلك ما يفسده، فإن الشيء الواحد لا يستلزم صحة الشيء وفساده، لكن يقال: قد كان الميت أولا لم يخلف إلا أخوة وولدًا، ثم مات ولده عن ولد وأعمامه. فنقول: حرمان الإخوة مع الولد تنبيه على حرمان العمومة، وهذا حقيقة الجواب: أن نفي إخوته تنبيه على نفي عمومته كما تقدم.
الوجه الثاني: النافي للانقطاع: أن إعطاء الإخوة نصيب الميت دون سائر أهل الوقف تنبيه على إعطاء الولد كما تقدم.
الثالث: أن ذلك دليل على أن الترتيب المتقدم؛ ترتيب الأفراد على الأفراد. وقد قدمنا تقرير هذا.
والله سبحانه يوفقنا لما يحبه ويرضاه. والحمد لله رب العالمين، وصلي الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
سئل عن وقف على أربعة أنفس يجري عليهم للذكر مثل حظ الأنثيين
وسئل رحمه الله عن وقف على أربعة أنفس: عمرو، وياقوتة، وجهمة، وعائشة، يجري عليهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فمن توفى منهم عن ولد، أو ولد ولد، أو عن نسل وعقب وإن سفل، عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على ولده، ثم على ولد ولده، ثم على نسله وعقبه، ثم من بعده وإن سفل، بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ومن توفى منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب عاد نصيبه وقفًا على إخوته الباقين، ثم على أنسالهم وأعقابهم بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، على الشرط والترتيب المقدم ذكرهما، فإذا لم يبق لهؤلاء الإخوة الموقوف عليهم نسل ولا عقب، أو توفوا بأجمعهم ولم يعقبوا ولا واحدًا منهم عاد ذلك وقفًا على الأسارى، ثم على الفقراء، ثم توفى عمر عن فاطمة، وتوفيت فاطمة عن عيناشي ابنة إسماعيل بن أبي يعلى، ثم توفيت عيناشي عن غير نسل ولا عقب، ولم يبق من ذرية هؤلاء الأربعة إلا بنت إسماعيل بن أبي يعلى، وكلاهما من ذرية جهمة. فهاتان الجهتان اللتان تليهما عيناشي بعد موت أبيها: هل ينتقل إلى أختها رقية أو إليها، أو إلى ابنة عمها صفية؟
فأجاب:
هذا النصيب الذي كان لعيناشي من أمها ينتقل إلى ابنتي العم المذكورتين، ولا يجوز أن تخص به أختها لأبيها؛ لأن الواقف ذكر: أن من توفى من هؤلاء الإخوة الموقوف عليهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب عاد نصيبه وقفًا على إخوته، ثم على أنسالهم وأعقابهم على الشرط والترتيب المقدم ذكرهما. وهذه العبارة تعم من انقطع نسله أولا وآخرًا، فكل من انقطع نسله من هؤلاء الإخوة كان نصيبه لإخوته، ثم لأولادهم؛ لأن الواقف لو لم يرد هذا لكان قد سكت عن بيان حكم من أعقب أولا ثم انقطع عقبه ولم يبين مصرف نصيبه، وذلك غير جائز؛ لأنه إنما نقل الوقف إلى الأسرى والفقراء إذا لم يبق له ولا لموقوف عليهم نسل ولا عقب، فمتى أعقبوا ولو واحدًا منهم لم ينتقل إلى الأسرى شيء، ولا إلى الفقراء، وذلك يوجب أن ينتقل نصيب من انقطع نسله منهم إلى الإخوة الباقين، وهو المطلوب.
وأيضًا، فإنه قسم حال المتوفى من الأربعة الموقوف عليهم إلى حالين: إما أن يكون له ولد، أو نسل، وعقب، أو لا يكون، فإن كان له انتقل نصيبه إلى الولد، ثم إلى ولد الولد، ثم إلى النسل والعقب، وإن لم يكن انتقل إلى الإخوة، ثم إلى أولادهم، فينبغي أن يعم هذا القسم ما لم يدخل في القسم الأول ليعم البيان جميع الأحوال؛ لأنه هو الظاهر من حال المتكلم؛ ولأنه لو لم يكن كذلك لزم الإهمال والإلغاء وإبطال الوقف على قول، ودلالة الحال تنفي هذا الاحتمال. وإذا عم ما لم يدخل في القسم الأول دخل فيه من لا ولد له ومن لا ولد لولده ومن لا عقب له، وإذا كان كذلك، فأي هؤلاء الأربعة لم يكن له عقب كان نصيبه لإخوته ثم لعقبه.
وأيضًا، فإن الواقف قد صرح بأن من مات منهم عن غير عقب انتقل نصيبه إلى إخوته، ثم إلى أولادهم. وهذا المقصود لا يختلف بين ألا يخلف ولدًا أو يخلف ولدًا ثم يخلف ولده ولدًا، فإن العاقل لا يقصد الفرق بين هاتين الحالتين؛ لأن التفريق بين المتماثلين قد علم بمطرد العادة أن العاقل لا يقصده، فيجب ألا يحمل كلامه عليه، بل يحمل كلامه على ما دل عليه دلالة الحال والعرف المطرد إذا لم يكن في اللفظ ما هو أولى منه، وإذا كان انقطاع النسل أولا وآخرًا سواء بالنسبة إلى الانتقال إلى الإخوة وجب حمل الكلام عليه.
واعلم أن من أمعن النظر علم قطعًا أن الواقف إنما قصد هذا بدلالة الحال واللفظ سائغ له، وليس في الكلام وجه ممكن هو أولى منه، فيجب الحمل عليه قطعًا.
وأيضًا، فإن الوقف يراد للتأبيد، فيجب بيان حال المتوفى في جميع الطبقات، فيكون قوله: ومن توفى منهم عن غير ولد ولا ولد ولد، ولا نسل ولا عقب. في قوة قوله: ومن كان منهم ميتًا ولا عقب له؛ لأن عدم نسله بعد موته بمنزلة كونهم معدومين حال موته، فلا فرق في قوله هذا وقوله: ومن مات منهم ولا ولد له، وقوله: ومن مات منهم ولم يكن له ولد. وهذه العبارة وإن كان قد لا يفهم منها إلا عدم الذرية حين الموت في بعض الأوقات، لكن اللفظ سائغ؛ لعدم الذرية مطلقًا، بحيث لو كان المتكلم قال: قد أردت هذا لم يكن خارجًا عن حد الإفهام، وإذا كان اللفظ سائغًا له، ولم يتناول صورة الحادثة إلا هذا اللفظ، وجب إدراجها تحته؛ لأن الأمر إذا دار بين صورة يحكم فيها بما يصلح له لفظ الواقف ودلالة حاله وعرف الناس؛ كان الأول هو الواجب بلا تردد.
إذا تقرر هذا: فعم جد عيناشي هو الآن متوفٍ عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب، فيكون نصيبه لإخوته الثلاثة على أنسالهم وأعقابهم. والحال التي انقطع فيها نسله لم يكن من ذريته إلا هاتان المرأتان، فيجب أن تستويا في نصيب عيناشي. وهكذا القول في كل واحد انقطع نسله، فإن نصيبه ينتقل إلى ذرية إخوته، إلا أن يبقي أحد من ذرية أبيهم الذي انتقل إليه الوقف منه، أو من ذرية أمه التي انتقل إليه الوقف منها، فيكون باقي الذرية هم المستحقين لنصيب أمهم أو أبيهم؛ لدخولهم في قوله: فمن توفى منهم عن ولد أو ولد ولد.
واعلم أن الكلام إن لم يحمل على هذا كان نصيب هذا وقفًا منقطع الانتهاء؛ لأنه قال: فمن توفى منهم عن ولد كان نصيبه لولده، ثم لولد ولده، ثم لنسله وعقبه. ولم يبين بعد انقراض النسل إلى من يصير، لكن بين في آخر الشرط أنه لا ينتقل إلى الأسرى والفقراء حتى تنقرض ذرية الأربعة، فيكون مفهوم هذا الكلام صرفه إلى الذرية، وهاتان من الذرية، وهما سواء في الدرجة، ولم يبق غيرهما، فيجب أن يشتركا فيه، وليس بعد هذين الاحتمالين إلا أن يكون قوله: ومن توفى منهم. عائدًا إلى الأربعة وذريتهم.
فيقال حينئذ: عيناشي قد توفيت عن أخت من أبيها وابنة عم، فيكون نصيبها لأختها، وهذا الحمل باطل قطعًا، لا ينفذ حكم حاكم إن حكم بموجبه؛ لأن الضمير أولا في قوله: فمن توفى منهم. عائد إلى الأربعة، فالضمير في قوله: ومن توفى منهم. عائد ثانيا إلى هؤلاء الأربعة؛ لأن الرجل إذا قال: هؤلاء الأربعة من فعل منهم كذا فافعل به كذا وكذا؛ ومن فعل منهم كذا فافعل لولده كذا، علم بالاضطرار أن الضمير الثاني هو الضمير الأول، ولأنه قال: ومن توفى منهم عن غير ولد عاد نصيبه إلى إخوته الباقين. وهذا لا يقال إلا فيمن له إخوة تبقي بعد موته، وأنا نعلم هذا في هؤلاء الأربعة؛ لأن الواحد من ذريتهم قد لا يكون له إخوة باقون، فلو أريد بذلك المعني لقيل: على إخوته إن كان له إخوة. أو قيل: ومن مات منهم عن إخوة، كما قيل في الولد: ومن مات منهم عن ولد. وهذا ظاهر لا خفاء به.
وأيضًا، فلو فرض أن من مات من أهل الوقف عن إخوة كان نصيبه لإخوته، فإنما ذلك في الإخوة الذين شركوه في نصيب أبيه وأمه، لا في الإخوة الذين هم أجانب عن النصيب الذي خلفه على ما هو مقرر في موضعه من كتب الفقه على المذاهب المشهورة وهذا النصيب إنما تلقته عيناشي من أمها. وأختها رقية أجنبية من أمها؛ لأنها أختها من أبيها فقط، فنسبة أختها لأبيها وابنة عمها إلى نصيب الأم سواء. وهذا بين لمن تأمله. والله أعلم.
سئل عن واقف وقف وقفا على ولديه بالسوية نصفين
وسئل عن واقف وقف وقفًا على ولديه: عمر، وعبد الله، بينهما بالسوية نصفين، أيام حياتهما، أبدًا ما عاشا، دائمًا ما بقيا، ثم على أولادهما من بعدهما، وأولاد أولادهما، ونسلهما، وعقبهما، أبدًا ما تناسلوا، بطنًا بعد بطن، فتوفى عبد الله المذكور وخلف أولادًا، فرفع عمر ولد عبد الله إلى حاكم يري الحكم بالترتيب، وسأله رفع يد ولد عبد الله عن الوقف، وتسليمه إليه، فرفع يد ولد عبد الله، وسلمه إلى عمر بحكم أنه من البطن الأول، فهل يكون ذلك الحكم جاريا في جميع البطون أم لا؟ ثم إن عمر توفى وخلف أولادًا، فوضعوا أيديهم على الوقف بغير حكم حاكم، فطلب ولد عبد الله من حاكم يري الحكم بالتشريك بينهم في الوقف تشريكهم؛ لأن الواقف جمع بين الأولاد والنسل والعقب في الاستحقاق بعد عبد الله وعمر بالواو الذي يقتضي التشريك؛ دون الترتيب. وأن قوله: بطنًا بعد بطن لا يقتضي الترتيب، فهل الحكم لهم بالمشاركة صحيح أم لا؟ وهل حكم الأول لعمر بالتقديم على ولد عبد الله مناقضًا للحكم بالتشريك بين أولاد عمر وأولاد عبد الله؟ وهل لحاكم ثالث أن يبطل هذا الحكم والتنفيذ؟
فأجاب:
مجرد الحكم لأحد الأخوين الأولين بجميع الوقف بعد موت أخيه المتوفى لا يكون جاريا في جميع البطون، ولا يكون حكمًا لأولاده بما حكم له به، فإن قوله: ثم على أولادهما. هل هو لترتيب المجموع على المجموع، أو لترتيب الأفراد على الأفراد، بحيث ينتقل نصيب كل ميت إلى ولده؟ فيه قولان للفقهاء. وكذلك قوله: وأولادهما من بعدهما بطنًا بعد بطن. هل هو للترتيب أو للتشريك؟ فيه قولان. فإذا حكم الحاكم باستحقاق عمر الجميع بعد موت عبد الله كان هذا لاعتقاده لترتيب المجموع على المجموع، فإذا مات عمر فقد يري ذلك الحاكم الترتيب في الطبقة الأولى فقط، كما قد يشعر به ظاهر اللفظ، وقد يكون يري أن الترتيب في جميع البطون، لكن ترتيب الجميع على الجميع، ويشرك كل طبقة من الطبقتين في الوقف دون من هو أسفل منها، وقد يري غيره وأنه بعد ذلك لترتيب الأفراد، فإذا حكم حاكم ثان فيما لم يحكم فيه الأول بما لا يناقض حكمه لم يكن نقضًا لحكمه، فلا ينقض هذا الثاني إلا بمخالفة نص أو إجماع. والله أعلم.
سئل عمن وقف وقفا على ابن ابنه فلان ثم على أولاده
وسئل رَضي الله عَنهُ عمن وقف وقفًا على ابن ابنه فلان، ثم على أولاده، واحدًا كان أم كثر، ثم على أولاد أولاده، ثم نسله، وعقبه. فمن توفى منهم عن ولد أو ولد ولد أو عن نسل وعقب عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على من معه في درجته، فتوفى الأول عن أولاد، توفى أحدهم في حياته عن أولاد، ثم مات الأول وخلف بنته وولدي ابنه، فهل تأخذ البنت الجميع؟ أو ينتقل إلى ولدي الابن ما كان يستحقه أبوهما لو كان حيا؟
فأجاب:
بل النصيب الذي كان يستحقه محمد الميت في حياة أبيه لو عاش ينتقل إلى ولديه دون أخته، فإن الواقف قد ذكر أن قوله: على أولاده، ثم على أولاد أولاده، إنما أراد به ترتيب الأفراد على الأفراد لا ترتيب الجملة على الجملة بما بينه، وإن كان ذلك هو مدلول اللفظ عند الإطلاق على أحد القولين.
والحقوق المرتب أهلها شرعا أو شرطا إنما يشترط انتقالها إلى الطبقة الثانية عند عدم الأولي، أو عدم استحقاقها الاستحقاق الأولى أولا، كما يقول الفقهاء في العصب بالميراث أو النكاح: الابن، ثم ابنه، ثم الأب، ثم أبوه. فاستحقاق ابن الابن مشروط بعدم أبيه؛ لعدم استحقاقه لمانع يقوم به من كفر وغيره لا يشترط أن أباه يستحق شيئا لم ينتقل إليه، كذلك في الأم: النكاح، والحضانة، وولاية غسل الميت، والصلاة عليه.
وإنما يتوهم من يتوهم اشتراط استحقاق الطبقة الأولى؛ لتوهمه أن الوقف ينتقل من الأولى إليها، وتتلقاه الثانية عن الأولي، كالميراث، وليس كذلك، بل هي تتلقي الوقف عن الواقف، كما تلقته الأولي، وكما تتلقي الأقارب حقوقهم عن الشارع، لكن يرجع في الاستحقاق إلى ما شرطه الشارع والواقف من الترتيب.
سئل عمن وقف شيئا على زيد ثم على أولاد زيد الثمانية
وسئل رَحمه الله عن وقف إنسان شيئا على زيد، ثم على أولاد زيد الثمانية، فمات واحد من أولاد زيد الثمانية المعينين في حال حياة زيد، وترك ولدا، ثم مات زيد، فهل ينتقل إلى ولد ولد زيد ما استحقه ولد زيد لو كان حيا؟ أم يختص الجميع بأولاد زيد؟
فأجاب:
نعم يستحق ولد الولد ما كان يستحقه والده، ولا ينتقل ذلك إلى أهل طبقة الميت ما بقي من ولده وولد ولده أحد؛ وذلك لأن قول الواقف: على زيد، ثم على أولاده، ثم أولاد أولاده فيه للفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم عند الإطلاق قولان:
أحدهما: أنه لترتيب الجملة على الجملة، كالمشهور في قوله: على زيد وعمرو، ثم على المساكين.
والثاني: أنه لترتيب الأفراد على الأفراد، كما في قوله تعالى: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } [53]، أي: لكل واحد نصف ما تركته زوجته، وكذلك قوله: { حُرِّمَتْ عليكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [54]، أي: حرمت على كل واحد أمه؛ إذ مقابلة الجمع بالجمع تقتضي توزيع الأفراد على الأفراد، كما في قوله: لبس الناس ثيابهم، وركب الناس دوابهم.
وهذا المعني هو المراد في صورة السؤال قطعا؛ إذ قد صرح الواقف بأن من مات من هؤلاء عن ولد انتقل نصيبه إلى ولده، فصار المراد ترتيب الأفراد على الأفراد في هذه الصورة المقيدة بلا خلاف؛ إذ الخلاف إنما هو مع الإطلاق.
وإذا كان كذلك، فاستحقاق المرتب في الشرع والشرط في الوصية والوقف وغير ذلك، إنما يشترط في انتقاله إلى الثاني عدم استحقاق الأول، سواء كان قد وجد واستحق، أو وجد ولم يستحق، أو لم يوجد بحال، كما في قول الفقهاء في ترتيب العصبات، وأولياء النكاح، والحضانة وغيرهم، فيستحق ذلك الابن، ثم ابنه وإن سفل، ثم الأب ثم أبوه وإن علا، فإن الأقرب إذا عدم أو كان ممنوعا لكفر أو رق انتقل الحق إلى من يليه. ولا يشترط في انتقال الحق إلى من يليه أن يكون الأول قد استحق. وكذلك لو قال: النظر في هذا لفلان، ثم لفلان، أو لابنه. فمتى انتفي النظر عن الأول لعدمه أو جنونه أو كفره انتقل إلى الثاني، سواء كان ولدا أو غير ولد. وكذلك ترتيب العصبة في الميراث، وفي الإرث بالولاء، وفي الحضانة، وغير ذلك.
وكذلك في الوقف: لو وقف على أولاده طبقة بعد طبقة عصبتهم، وشرط أن يكونوا عدولا، أو فقراء أو غير ذلك، وانتفي شرط الاستحقاق في واحد من الطبقة الأولى أو كلهم؛ انتقل الحق عند عدم استحقاق الأولى إلى الطبقة الثانية إذا كانوا متصفين بالاستحقاق.
وسر ذلك: أن الطبقة الثانية تتلقي الوقف من الواقف، لا من الطبقة الأولي، لكن تلقيهم ذلك مشروط بعدم الأولي، كما أن العصبة البعيدة تتلقي الإرث من الميت، لا من العاصب القريب، لكن شروط استحقاقه عدم العاصب القريب. وكذلك الولاء في القول المشهور عند الأئمة يرث به أقرب عصبة الميت يوم موت المعتق؛ لأنه يورث كما يورث المال.
وإنما يغلط ذهن بعض الناس في مثل هذا حيث يظن أن الولد يأخذ هذا الحق إرثا عن أبيه أو كالأرث، فيظن أن الانتقال إلى الثانية مشروط باستحقاق الأولي، كما ظن ذلك بعض الفقهاء، فيقول: إذا لم يكن الأب قد ترك شيئا لم يرثه الابن. وهذا غلط؛ فإن الابن لا يأخذ ما يأخذ الأب بحال، ولا يأخذ عن الأب شيئا؛ إذ لو كان الأب موجودا لكان يأخذ الريع مدة حياته، ثم ينتقل إلى ابنه الريع الحادث بعد موت الأب، لا الريع الذي يستحقه، وأما رقبة الوقف فهي باقية على حالها: حق الثاني فيها في وقته نظير حق الأول في وقته، لم ينتقل إليهم إرثا.
ولهذا اتفق المسلمون في طبقات الوقف: أنه لو انتفت الشروط في الطبقة الأولى أو بعضهم لم يلزم حرمان الطبقة الثانية إذا كانت الشروط موجودة فيهم؛ وإنما نازع بعضهم فيما إذا عدموا قبل زمن الاستحقاق، ولا فرق بين الصورتين.
ويبين هذا: أنه لو قيل بانتقال نصيب الميت إلى إخوته لكونه من الطبقة؛ كان ذلك مستلزما لترتيب جملة الطبقة على الطبقة، أو أن بعض الطبقة الثانية أو كلهم لا يستحق إلا مع عدم جميع الطبقة الأولي. ونص الواقف يبين أنه أراد ترتيب الأفراد على الأفراد؛ مع أنا نذكر في الإطلاق قولين: الأقوي ترتيب الأفراد مطلقا؛ إذ هذا هو المقصود من هذه العبارة، وهم يختارون تقديم ولد الميت على أخيه فيما يرثه أبوه، فإنه يقدم الولد على الأخ. وإن قيل بأن الوقف في هذا منقطع، فقد صرح هذا الواقف بالألفاظ الدالة على الاتصال، فتعين أن ينتقل نصيبه إلى ولده.
وفي الجملة، فهذا مقطوع به، لا يقبل نزاعا فقهيا، وإنما يقبل نزاعا غلطا. وقول الواقف: فمن مات من أولاد زيد، أو أولاد أولاده وترك ولدا، أو ولد ولد وإن سفل، كان نصيبه إلى ولد ولده، أو ولد ولد ولده. يقال فيه: إما أن يكون قوله: نصيبه. يعم النصيب الذي يستحقه إذا كان متصفا بصفة الاستحقاق، سواء استحقه أو لم يستحقه، ولا يتناول إلا ما استحقه، فإن كان الأول فلا كلام وهو الأرجح؛ لأنه بعد موته ليس هو في هذه الحال مستحقا له؛ ولأنه لو كان الأب ممنوعا لانتفاء صفة مشروطة فيه مثلا مثل أن يشترط فيهم الإسلام أو العدالة أو الفقر؛ كان ينتقل مع وجود المانع إلى ولده، كما ينتقل مع عدمه، ولأن الشيء يضاف إلى الشيء بأدني ملابسة، فيصدق أن يقال: نصيبه بهذا الاعتبار؛ ولأن حمل اللفظ على ذلك يقتضي أن يكون كلام الواقف متناولا لجميع الصور الواقعة، فهو أولى من حمله على الإخلال بذكر البعض؛ ولأنه يكون مطابقا للترتيب الكلامي، وليس ذلك هو المفهوم من ذلك عند العامة الشارطين مثل هذا.
وهذا أيضا موجب الاعتبار والقياس النظري عند الناس في شروطهم إلى استحقاق ولد الولد الذي يكون يتيما لم يرث هو وأبوه من الجد شيئًا، فيري الواقف أن يجبره بالاستحقاق حينئذ، فإنه يكون لاحقا فيما ورث أبوه من التركة وانتقل إليه الإرث، وهذا الذي يقصده الناس موافق لمقصود الشارع أيضا؛ ولهذا يوصون كثيرآً بمثل هذا الولد.
وإن قيل: إن هذا اللفظ لا يتناول إلا ما استحقه كان هذا مفهوم منطوق خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، وإذا لم يكن له مفهوم كان مسكوتا عنه في هذا الموضع، ولكن قد يتناوله في قوله: على زيد، ثم على أولاده، ثم على أولاد أولادهم. فإنا ذكرنا أن موجب هذا اللفظ مع ما ذكر بعده من أن الميت ينتقل نصيبه إلى ولده صريح في أن المراد ترتيب الأفراد على الأفراد، والتقدير: على زيد، ثم على أولاده، ثم على ولد كل واحد بعد والده، وهذا اللفظ يوجب أن يستحق كل واحد ما كان أبوه مستحقه لو كان متصفا بصفة الاستحقاق، كما يستحق ذلك أهل طبقاته. وهذا متفق عليه بين علماء المسلمين في أمثال ذلك شرعا وشرطا، وإذا كان هذا موجب استحقاق الولد، وذلك التفصيل إما أن يوجب استحقاق الولد أيضا وهو الأظهر، أو لا يوجب حرمانه، فيقر العمل بالدليل السالم عن المعارض المقاوم. والله أعلم.
سئل عمن وقف وقفا على أولاده
وسئل رحمه الله عمن وقف وقفا على أولاده، فلان وفلان وفلان، وعلى ابن ابنه فلان، على أنه من توفى منهم عن ولد ذكر انتقل نصيبه إلى ولده، ومن مات عن بنت انتقل نصيبه إليها، ثم إلى أعمامها، ثم بني أعمامها الأقرب فالأقرب منهم، فمات ابن ابن عن غير ولد، وترك أخته من أبويه وأعمامه، فأيهم أحق؟
فأجاب:
ينتقل نصيبه إلى أخته لأبويه، فإنه قد ظهر من قصد الواقف تخصيص ما كان ينبغي أن يستحقه أصله، وتخصيص نصيب الميت عن غير ولد بالأقرب إليه، وأنه أقام موسى ابن الابن مقام ابنه؛ لأن أباه كان ميتا وقت الوقف. والله أعلم.
سئل عن قرية وقفها السلطان صلاح الدين
وسئل رَحمه الله عن قرية وقفها السلطان صلاح الدين، فجعل ريعها وقفا على شخص معين، ثم على أولاده من بعده، والنصف والربع على الفقراء، واستمر الأمر على هذه الصورة والقرية عامرة فلما كان سنة دخول قازان خربت هذه القرية واستمرت داثرة مدة ثماني سنين، فجاء رجل من المشائخ وأخذ توقيعا سلطانيا بتمكينه من أن يعمر هذه القرية، فعمرها وتوفى إلى رحمة الله، وخلف أيتاما صغارا فقراء لا مال لهم، فجاءت امرأة من ذرية الموقوف عليه صاحب الريع فأثبتت نسبها، وتسلمت ريع هذه القرية، واستمر النصف والربع على الفقراء بحكم شرط الواقف، وبقي أولاد الذي عمر القرية فقراء، فهل يجوز لهم أن يقبضوا كفايتهم في جملة الفقراء؟ أم لهم ما غرمه والدهم على تعميرها ما لم يستوف عوضه قبل وفاته؟
فأجاب:
إن كانوا داخلين في شروط الواقف، فإنهم يستحقون ما يقتضيه الشرط، وإن قدر تعذر الصرف إلى الموصوفين لتعذر بعض الأوصاف، فكان هؤلاء الأطفال مشاركين في الاستحقاق لمن يصرف إليه المال، فينبغي أن يصرف إليهم أيضا ما غرمه والدهم من القرية بالمعروف من ماله؛ ليستوفى عوضه، فإنهم يستوفونه من مغل الوقف.
سئل عن قسمة الوقف ومنافعه
وسئل رَحمه الله عن قسمة الوقف ومنافعه؟
فأجاب:
ما كان وقفا على جهة واحدة لم يجز قسمة عينه، وإنما يجوز قسمة منافعه بالمهايأة. وإذا تهايؤوا ثم أرادوا نقضها فلهم ذلك، وإذا لم يقع من المستحق أو وكيله فهي باطلة. والله أعلم.
وسئل عن وقف على جهة واحدة، فقسمه قاسم حنبلي، معتقدا جواز ذلك، حيث وجد في المختصرات: إنا إذا قلنا: القسمة إقرار جاز قسمة الوقف، ثم تناقل الشريكان بعض الأعيان، ثم طلب بعضهم نصيبه الأول من المقاسمة؟
فأجاب:
إذا كان الوقف على جهة واحدة، فإن عينه لا تقسم قسمة لازمة، لا في مذهب أحمد ولا غيره، وإنما في المختصرات لما أرادوا بيان فروع قولنا: القسمة إقرار أو بيع. فإذا قلنا: هي بيع لم يجز؛ لأن الوقف لا يباع. وإذا قلنا: هي إقرار جاز قسمته في الجملة. ولم يذكروا شروط القسمة كما جرت به العادة في أمثال ذلك. وقد ذكر طائفة منهم في قسمة الوقف وجهين، وصرح الأصحاب بأن الوقف إنما يجوز قسمته إذا كان على جهتين، فأما الوقف على جهة واحدة فلا تقسم عينه اتفاقا؛ لتعلق حق الطبقة الثانية والثالثة، لكن تجوز المهايأة على منافعه. والمهايأة: قسمة المنافع، ولا فرق في ذلك بين مناقلة المنافع وبين تركها على المهايأة بلا مناقلة، فإن تراضوا بذلك أعيد المكان شائعا كما كان في العين والمنفعة. والله أعلم.
سئل عن وقف على جماعة
وسئل عن وقف على جماعة، وأن بعض الشركة قد دفع في الفاكهة مبلغا، وأن بعض الشركة امتنع من التضمين والضمان، وطلب أن يأخذ ممن يشتريه قدر حصته من الثمرة، فهل يحكم عليه الحاكم بالبيع مع الشركة أم لا؟
فأجاب:
إذا لم تمكن قسمة ذلك قبل البيع بلا ضرر فعليه أن يبيع مع شركائه ويقاسمهم الثمن.
سئل عن وقف لمصالح الحرم وعمارته
وسئل عن وقف لمصالح الحرم وعمارته، ثم بعد ذلك يصرف في وجوه البر والصدقات، وعلى الفقراء والمساكين المقيمين بالحرم، فهل يجوز أن يصرف من ذلك على القوام والفراشين القائمين بالوظائف؟
فأجاب:
نعم القائمون بالوظائف مما يحتاج إليه المسجد، من تنظيف وحفظ، وفرش، وتنويره، وفتح الأبواب، وإغلاقها، ونحو ذلك، هم من مصالحه يستحقون من الوقف على مصالحه.
سئل عن رجل اشترى دارا ولم يكن في كتبه غير ثلاثة حدود
وسئل رَحمه اللهّ عن رجل اشترى دارا، ولم يكن في كتبه غير ثلاثة حدود، والحد الرابع لدار وقف، ثم إن الذي اشترى هدم الدار وعمرها، ثم إنه فتح الطاقة في دار الوقف يخرج النور منها إلى مخزن، وجعل إلى جنب الجدار سقاية مجاورة للوقف محدثة تضر حائط الوقف وبرز بروزا على دور قاعة الوقف، فإذا بني على دور القاعة، وجعل أخشاب سقف على الجدار الذي للوقف، وفعل هذا بغير إذن ولي الأمر، وذكر أنه استأجره كل سنة بثلاثة دراهم، وولي الأمر لم يؤجره إلى الآن، ولا المباشرون، ثم إن رجلا حلف بالله أنه يستأجر هذا الجدار، وهو بين الدور، وأزيل ما فعله من البروز والسقاية، ولم أحدث فيه عمارة إلا احتسابا للّه تعالى وأستأجره كل سنة بعشرين درهما، مدة عشرين سنة، حتى بقي دور قاعة الوقف نيرة، ولم تتضرر الجيرة بالعلو، فهل يجوز الإيجار للذي تعدي؟ أم للذي قصد المثوبة وزيادة للوقف بالأجرة إن أجره ولي الأمر المنفعة بالزيادة، ولإزالة الضرر عن الوقف؟
فأجاب:
ليس له أن يبني على جدار الوقف ما يضر به باتفاق الناس، بل وكذلك إذا لم يضر به عند جمهور العلماء، ودعواه الاستئجار غير مقبولة بغير حجة، ولو آجر إجارة فيها ضرر على الوقف لم تكن إجارة شرعية، ومن طلب استئجاره بعد هذا وكان ذلك مصلحة للوقف، فإنه يجوز، بل يجب أن يؤجر، وإذا كان له نية حسنة حصل له من الأجر والثواب بحسب ذلك. والله أعلم.
سئل عن وقف على جماعة
وسئل رَحمه الله عن رجل ساكن في خان وقف، وله مباشر لرسم عمارته وإصلاحه، وأن الساكن أخبر المباشر أن مسكنه يخشي سقوطه وهو يدافعه، ثم إن المباشر صعد إلى المسكن المذكور، ورآه بعينه، وركضه برجله، وقال: ليس بهذا سقوط، ولا عليك منه ضرر، وتركه ونزل، فبعد نزوله سقط المسكن المذكور على زوجة الساكن وأولاده، فمات ثلاثة، وعدم جميع ماله، فهل يلزم المباشر من مات، ويغرم المال الذي عدم أم لا؟
فأجاب:
على هذا المباشر المذكور الذي تقدم إليه وأخر الاستهدام ضمان ما تلف بسقوطه، بل يضمن، ولو كان مالك المكان إذا خيف السقوط وأعلم بذلك، وإن لم يكن المعلم له مستأجرا منه عند جماهير العلماء كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في المشهور، وطائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم، لكن بعضهم يشترط الإشهاد عليه، وأكثرهم لا يشترط ذلك، فإنه مفرط بترك نقضه وإصلاحه، ولو ظن أنه لا يسقط، فإنه كان عليه أن يري ذلك لأرباب الخبرة بالبناء، فإذا ترك ذلك كان مفرطا ضامنا لما تلف بتفريطه، لا سيما مع قوله للمستأجر: إن شئت فاسكن، وإن شئت فلا تسكن، فإن هذا عدوان منه.
فإن المستأجر له مطالبة المؤجر بالعمارة التي يحتاج إليه المكان، والتي هي من موجب العقد، وهذه العمارة واجبة من وجهين: من جهة حق أهل الوقف ومن جهة حق المستأجر. والعلماء متفقون على أنه ليس لناظر الوقف أن يفرط في العمارة التي استحقها المستأجر، فهذان التفريطان يجب عليه بتركهما ضمان ما يتلف بتفريطه، فيضمن مال الوقف للوقف، ويدخل في ذلك المنافع التي استحقها المستأجر؛ بخلاف ما لو كانت العين باقية، فإن له أن يضمنه إياها وله أن يفسخ الإجارة، وأما ما تلف بالتفريط من النفوس والأموال التي للمستأجر، فيضمن من هذه الوجوه الثلاثة، ويضمن ما تلف للجيران من الوجه الأول، كما ذهب إليه جماهير العلماء.
سئل عن مال موقوف على فكاك الأسرى
وسئل عن مال موقوف على فكاك الأسرى، وإذا استدين بمال في ذمم الأسرى بخلاصهم لا يجدون وفاءه: هل يجوز صرفه من الوقف؟ وكذلك لو استدانه ولي فكاكهم بأمر ناظر الوقف أو غيره؟
فأجاب:
نعم يجوز ذلك، بل هو الطريق في خلاص الأسرى، أجود من إعطاء المال ابتداء لمن يفتكهم بعينهم، فإن ذلك يخاف عليه، وقد يصرف في غير الفكاك، وأما هذا فهو مصروف في الفكاك قطعا. ولا فرق بين أن يصرف عين المال في جهة الاستحقاق، أو يصرف ما استدين، كما كان النبي ﷺ تارة يصرف مال الزكاة إلى أهل السهمان، وتارة يستدين لأهل السهمان ثم يصرف الزكاة إلى أهل الدين، فعلم أن الصرف وفاء كالصرف أداء. والله أعلم.
سئل عن رجل تحته حصة في حمام وهي موقوفة على الفقراء
وسئل عن رجل تحته حصة في حمام، وهي موقوفة على الفقراء والمساكين فخرب شيء من الحمام في زمان العدو، فأجر تلك الحصة لشخص مدة ثماني سنين بثمانمائة درهم، وأذن له أن يصرف تلك الأجرة في العمارة الضرورية في الحمام، فعمر المستأجر، وصرف في العمارة حتى صارت أجرة الحصة المذكورة، وذكر أنه فضل له على الوقف مال زائد عن الأجرة من غير إذن المؤجر، فهل يجوز له ذلك أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، إذا عمر عمارة زائدة عن العمارة الواجبة على الوجه المأذون فيها لم يكن على أهل الحمام أن يقوموا ببقية تلك العمارة الزائدة ولا قيمتها، بل له أن يأخذها إذا لم يضر أخذها بالوقف، وإذا كانت العمارة تزيد كراء الحمام، فاتفقوا على أن تبقي العمارة له، لا يعطونه بقيمتها، بل يكون ما يحصل من زيادة الأجرة بإزاء ذلك، جاز ذلك، وإن أراد أهل الوقف أن يقلعوا العمارة الزائدة، فلهم ذلك إذا لم تنقص المنفعة المستحقة بالعقد، وإن اتفقوا على أن يعطوه بقية العمارة ويزيدهم في الأجرة بقدر ما زاد من المنفعة جاز. والله أعلم.
سئل عن رجل تحته حصة في حمام وهي موقوفة على الفقراء
وسئل عن وقف على تكفين الموتى، يفيض ريعه كل سنة على الشرط: هل يتصدق به؟ وهل يعطي منه أقارب الواقف الفقراء؟
فأجاب:
إذا فاض الوقف عن الأكفان صرف الفاضل في مصالح المسلمين، وإذا كان أقاربه محاويج فهم أحق من غيرهم. والله أعلم.
سئل عن فقيه منزل في مدرسة ثم غاب مدة البطالة
وسئل عن فقيه منزل في مدرسة، ثم غاب مدة البطالة، فهل يحل منعه من الجامكية أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، إذا لم يغب إلا شهر البطالة، فإنه يستحق ما يستحقه الشاهد، لا فرق في أشهر البطالة بين أن يكون البطال شاهدا أو غائبا. والله أعلم.
سئل عن مقرئ على وظيفة
وسئل َعن مقرئ على وظيفة، ثم إنه سافر واستناب شخصا، ولم يشترط عليه، فلما عاد قبض الجميع، ولم يخرج من المكان، فهل يستحق النائب المشروط أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، نعم النائب يستحق المشروط كله، لكن إذا عاد المستنيب فهو أحق بمكانه. والله أعلم.
سئل عمن وقف وقفا مستغلا ثم مات
وسئل عمن وقف وقفا مستغلا ثم مات، فظهر عليه دين، فهل يباع الوقف في دينه؟
فأجاب:
إذا أمكن وفاء الدين مع ريع الوقف لم يجز بيعه، وإن لم يمكن وفاء الدين إلا ببيع شيء من الوقف وهو في مرض الموت بيع باتفاق العلماء. وإن كان الوقف في الصحة، فهل يباع لوفاء الدين؟ فيه خلاف بين العلماء في مذهب أحمد وغيره. ومنعه قول قوي.
سئل عن رجل قال في مرضه إذا مت فداري وقف فتعافى
وسئل رحمه الله عن رجل قال في مرضه: إذا مت فداري وقف على المسجد الفلاني، فتعافى، ثم حدث عليه ديون، فهل يصح هذا الوقف ويلزم أم لا؟
فأجاب:
يجوز أن يبيعها في الدين الذي عليه، وإن كان التعليق صحيحًا كما هو أحد قولي العلماء، وليس هذا بأبلغ من التدبير، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه باع المدبر في الدين. والله أعلم.
سئل عمن وقف وقفا على ضريح رسول الله
وسئل عمن وقف وقفًا على ضريح رسول الله ﷺ برسم شمع أو زيت، وذلك بعد موته، ثم إنه قصد أن يغير الوقف ويجعله على الفقراء والمساكين بالقاهرة، وإن لم يجز ذلك، فهل يجوز على الفقراء المجاورين بالمدينة مدينة رسول الله ﷺ أم لا؟
فأجاب:
أما الوصية بما يفعل بعد موته، فله أن يرجع فيها ويغيرها باتفاق المسلمين، ولو كان قد أشهد بها وأثبتها، سواء كانت وصىة بوقف أو عتق أو غير ذلك، وفي الوقف المعلق بموته والعتق نزاعان مشهوران. والوقف على زيت وشمع يوقد على قبر ليس برًا باتفاق العلماء، بل ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (لعن الله زَوَّارَات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرج).
وأما تنوير المسجد النبوي على المصلين وغيره فتنوير بيوت الله حسن، لكن إذا كان للمسجد ما يكفي تنويره لم يكن للزيادة التي لا فائدة فيها فائدة مشروعة، ولم يكن ذلك مصروفًا في تنويره، بل تصرف في غيره. والله أعلم.
سئل عن الوقف إذا فضل من ريعه واستغنى عنه
وسئل عن الوقف إذا فضل من ريعه واستغنى عنه؟
فأجاب:
يصرف في نظير تلك الجهة، كالمسجد إذا فضل عن مصالحه صرف في مسجد آخر؛ لأن الواقف غرضه في الجنس، والجنس واحد، فلو قدر أن المسجد الأول خرب ولم ينتفع به أحد صرف ريعه في مسجد آخر، فكذلك إذا فضل عن مصلحته شيء، فإن هذا الفاضل لا سبيل إلى صرفه إليه، ولا إلى تعطيله، فصرفه في جنس المقصود أولي، وهو أقرب الطرق إلى مقصود الواقف، وقد روي أحمد عن على رضي الله عنه: أنه حض الناس على إعطاء مكاتب، ففضل شيء عن حاجته فصرفه في المكاتبين.
سئل عن رجل صالح فرض له القاضي شيئا من الصدقات
وسئل عن رجل صالح فرض له القاضي بشيء من الصدقات لأجله، وأجل الفقراء الواردين عليه، فهل يجوز لأحد أن يزاحمه في ذلك؟ أو يتغلب عليه باليد القوية؟
فأجاب:
قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (المسلم أخو المسلم، لا يحل للمسلم أن يبيع على بيع أخيه، ولا يستام على سَوْمِ أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صفحتها، فإن لها ما قدر لها).
فإذا كان النبي ﷺ في عقود المعاوضات قد نهي أن يستام الرجل على سوم أخيه، وأن يخطب على خطبته قبل أن يدخل المطلوب في ملك الإنسان، فكيف يحل للرجل أن يجيء إلى من فرض له ولي الأمر على الصدقات أو غيرها ما يستحقه ويحتاج إليه فيزاحمه على ذلك، ويريد أن ينزعه منه؟ فإن هذا أشد تحريمًا من ذلك. والله أعلم.
سئل عن وقف أرض على مسجد فيها أشجار معطلة من الثمر
وسئل رحمه الله عن وقف أرض على مسجد فيها أشجار معطلة من الثمر، وتعطلت الأرض من الزراعة بسببها، فهل يجوز قلع الأشجار، وصرف ثمنها في مصالح المسجد وتزرع الأرض وينتفع بها؟
فأجاب:
نعم إذا كان قلع الأشجار مصلحة للأرض بحيث يزيد الانتفاع بالأرض إذا قلعت فإنها تقلع. وينبغي للناظر أن يقلعها ويفعل ما هو الأصلح للوقف، ويصرف ثمنها فيما هو أصلح للوقف من عمارة الوقف، أو مسجد، إن احتاج إلى ذلك. والله أعلم.
سئل عن مصيف مسجد بني فيه قبر فسقية
وسئل عن مصيف مسجد بني فيه قبر فَسقية، وهدم بحكم الشرع، وللمسجد بيت خلاء، ولم يكن فيه موضع يسع الوضوء، فهل يجوز أن يعمل في المصيف مكان للوضوء، ويترك ما هو في الفسقية التي كانت بنيت قبرًا؟
فأجاب رحمه الله:
الحمد لله، نعم إذا كان هذا مصلحة للمسجد وأهله وليس فيه محذور إلا مجرد الوضوء في المسجد جاز أن يفعل ذلك، فإن الوضوء في المسجد جائز، بل لا يكره عند جمهور العلماء. والله أعلم.
سئل عن مسجد مغلق عتيق فسقط وهدم
وسئل عن مسجد مغلق عتيق، فسقط، وهدم، وأعيد مثل ما كان في طوله وعرضه، ورفعه الباني له عن ما كان عليه، وقدمه إلى قدام، وكان تحته خلوة فعمل تحته بيتًا لمصلحة المسجد، فهل يجوز تجديد البيت وسكنه؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم يجوز أن يعمل في ذلك ما كان مصلحة للمسجد وأهله، من تجديد عمارة، وتغيير العمارة من صورة إلى صورة ونحو ذلك. والله سبحانه أعلم.
سئل عن مساجد وجامع يحتاج إلى عمارة
وسئل رحمه الله عن مساجد وجامع يحتاج إلى عمارة، وعليها رواتب مقررة على الفائض والريع لا يقوم بذلك، فهل يحل أن يصرف لأحد قبل العمارة الضرورية؟ وإلى من يحل؟ وما يصنع بما يفضل عن الريع؟ أيدخر أم يشتري به عقارًا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا أمكن الجمع بين المصلحتين بأن يصرف ما لابد من صرفه لضرورة أهله، وقيام العمل الواجب بهم، وأن يعمر بالباقي، كان هذا هو المشروع. وإن تأخر بعض العمارة قدرًا لا يضر تأخره، فإن العمارة واجبة، والأعمال التي لا تقوم إلا بالرزق واجبة، وسد الفاقات واجبة، فإذا أقيمت الواجبات كان أولى من ترك بعضها.
وأما من لا تقوم العمارة إلا بهم من العمال، والحساب فهم من العمارة. وأما ما فضل من الريع عن المصارف المشروطة ومصارف المساجد، فيصرف في جنس ذلك، مثل عمارة مسجد آخر، ومصالحها، وإلى جنس المصالح، ولا يحبس المال أبدًا لغير علة محدودة، لا سيما في مساجد قد علم أن ريعها يفضل عن كفايتها دائمًا، فإن حبس مثل هذا المال من الفساد: { وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } [55].
سئل عن حاكم خطيب رتب له على فائض مسجد رزقه
وسئل رحمه الله عن حاكم خطيب رتب له على فائض مسجد رزقه، فيبقي سنتين لا يتناول شيئا، لعدم الفائض، ثم زاد الريع في السنة الثالثة، فهل له أن يتناول رزق ثلاث سنين من ذلك المغل؟
فأجاب:
إن كان لمغل السنة الثالثة مصارف شرعية بالشرط الصحيح وجب صرفها فيه، ولم يجز للحاكم أخذه. وأما إذا لم يكن له مصرف أصلًا، واقتضي نظر الإمام أن يصرفه إلى الحاكم عوضًا عما فاته في الماضي، جاز ذلك. والله أعلم.
فصل في إبدال الوقف
وقال الشيخ الإمام العالم العلامة أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية قدس الله روحه:
فصل في إبدال الوقف حتى المساجد بمثلها أو خير منها للحاجة أو المصلحة وكذلك إبدال الهدي، والأضحية، والمنذور، وكذلك إبدال المستحق بنظيره إذا تعذر صرفه إلى المستحق. والإبدال يكون تارة بأن يعوض فيها بالبدل، وتارة بأن يباع ويشتري بثمنها المبدل.
فمذهب أحمد في غير المسجد يجوز بيعه للحاجة، وأما المسجد فيجوز بيعه أيضًا للحاجة، في أشهر الروايتين عنه، وفي الأخرى: لا تباع عرصته، بل تنقل آلتها إلى موضع آخر.
ونظير هذا المصحف، فإنه يكره بيعه كراهة تحريم أو تنزيه. وأما إبداله، فيجوز عنده في إحدى الروايتين عنه من غير كراهة، ولكن ظاهر مذهبه: أنه إذا بيع واشترى بثمنه، فإن هذا من جنس الإبدال؛ إذ فيه مقصوده، فإن هذا فيه صرف نفعه إلى نظير المستحق إذا تعذر صرفه إلى عينه.
فإن المسجد إذا كان موقوفًا ببلدة أو محلة، فإذا تعذر انتفاع أهل تلك الناحية به صرفت المنفعة في نظير ذلك، فيبني بها مسجد في موضع آخر، كما يقول مثل ذلك في زيت المسجد وحصره إذا استغني عنها المسجد: تصرف إلى مسجد آخر، ويجوز صرفها عنده في فقراء الجيران. واحتج على ذلك: بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقسم كسوة الكعبة بين المسلمين، فكذلك كسوة سائر المساجد؛ لأن المسلمين هم المستحقون لمنفعة المساجد، واحتج على صرفها في نظير ذلك: بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جمع مالًا لمكاتب ففضلت فضلة عن قدر كتابته، فصرفها في مكاتب آخر، فإن المعطين أعطوا المال للكتابة، فلما استغني المعين صرفها في النظير.
والمقصود أن أحمد بن حنبل رحمه الله اختلف قوله في بيع المسجد عند عدم الانتفاع به، ولم يختلف قوله في بيع غيره عند الحاجة. قال في رواية ابنه عبد الله: إذا خرب المسجد يباع، وينفق ثمنه على مسجد آخر.
وقال القاضي أبو يعلى في المجرد وابن عقيل في الفصول وغيرهما واللفظ للقاضي: ونفقة الوقف من غلته؛ لأن القصد الانتفاع به مع بقاء عينه. وهذا لا يمكن إلا بالإنفاق عليه، فكان إبقاؤه يتضمن الإنفاق عليه، وما يبقي للموقوف عليه، فإن لم تكن له غلة مثل أن كان عبدًا تعطل أو بهيمة هزلت، فالموقوف عليه بالخيار بين الإنفاق عليه؛ لأنه هو المالك، وبين أن يبيعه ويصرف ثمنه في مثله. وإن كان الموقوف على المساكين، فالنفقة في بيت المال؛ لأنه لا مالك له بعينه، فهو كالمسجد... وإن رأي الإمام بيعه وصرف ثمنه في مثله جاز، وإذا كان الوقف دارًا فخربت وبطل الانتفاع بها، بيعت وصرف ثمنها إلى شراء دار، ويجعل وقفًا مكانها. وكذلك الفرس الحبيس إذا هَرَمَ وتعطل يباع ويشتري بثمنه فرس يصلح لما وقف له. قال في رواية بكر بن محمد: إن أمكن أن يشتري بثمنه فرسًا اشترى وجعل حبيسًا، وإلا جعله في ثمن دابة حبيس، وكذلك المسجد إذا خرب وحصل بموضع لا يصلي فيه جاز نقله إلى موضع عامر، وجاز بيع عرصته. نص عليه في رواية عبد الله. قال أبو بكر: وتكون الشهادة في ذلك على الإمام.
قال: وقال أبو بكر في كتاب القولين: وقد روي علي بن سعيد: أن المساجد لا تباع، ولكن تنقل. قال أبو بكر: وبالأول أقول، يعني رواية عبد الله؛ لإجماعهم على جواز بيع الفرس الحبيس. وقال أحمد في رواية الحسن بن ثواب في عبد لرجل بمكة يعني وقفًا فأبي العبد أن يعمل: يباع فيبدل عبدًا مكانه. ذكرها القاضي أبو يعلى في مسألة عتق الرهن في التعليق. قال أبو البركات: فجعل امتناعه كتعطل نفعه. يعني: ويلزم بإجباره على العمل كما يجبر المستأجر، وإن كان امتناعه محرمًا، وجعل تعذر الانتفاع بهذا الوجه كتعطله، نظرًا إلى مصلحة الوقف.
فصل في إبدال المسجد بغيره
وأما إبدال المسجد بغيره للمصلحة مع إمكان الانتفاع بالأول، ففيه قولان في مذهب أحمد. واختلف أصحابه في ذلك، لكن الجواز أظهر في نصوصه وأدلته. والقول الآخر ليس عنه به نص صريح، وإنما تمسك أصحابه بمفهوم خطه، فإنه كثيرًا ما يفتي بالجواز للحاجة، وهذا قد يكون تخصيصًا للجواز بالحاجة، وقد يكون التخصيص لكون ذلك هو الذي سئل عنه واحتاج إلى بيانه.
وقد بسط أبو بكر عبد العزيز ذلك في الشافي الذي اختصر منه زاد المسافر فقال: حدثنا الخَلاّل، ثنا صالح بن أحمد، ثنا أبي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا المسعودي، عن القاسم، قال: لما قدم عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه على بيت المال، كان سعد بن مالك قد بني القصر، واتخذ مسجدًا عند أصحاب التمر، قال: فَنُقبَ بيتُ المال، فأخذ الرجل الذي نقبه، فكتب إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: ألا تقطع الرجل وانقل المسجد، واجعل بيت المال في قبلته، فإنه لن يزال في المسجد مصل. فنقله عبد الله، فخط له هذه الخطة. قال صالح: قال أبي: يقال: إن بيت المال نقب من مسجد الكوفة، فحول عبد الله بن مسعود المسجد. فموضع التمارين اليوم في موضع المسجد العتيق.
قال: وسألت أبي عن رجل بني مسجدًا، ثم أراد تحويله إلى موضع آخر؟ قال: إن كان الذي بني المسجد يريد أن يحوله خوفًا من لصوص، أو يكون موضعه موضع قذر، فلا بأس أن يحوله. يقال: إن بيت المال نقب، وكان في المسجد، فحول ابن مسعود المسجد. ثنا محمد ابن على، ثنا أبو يحيي، ثنا أبو طالب: سئل أبو عبد الله: هل يحول المسجد؟ قال: إذا كان ضيقًا لا يسع أهله فلا بأس أن يجعل إلى موضع أوسع منه. ثنا محمد بن علي، ثنا عبد الله بن أحمد، قال: سألت أبي عن مسجد خرب: تري أن تباع أرضه وتنفق على مسجد آخر أحدثوه؟ قال: إذا لم يكن له جيران، ولم يكن أحد يعمره، فلا أري به بأسًا أن يباع وينفق على الآخر. ثنا محمد بن عبد الله، ثنا أبو داود، قال: سمعت أحمد
سئل عن مسجد فيه خشبتان لهما قيمة وقد تشعثت، وخافوا سقوطه: أتباع هاتان الخشبتان وينفق على المسجد ويبدل مكانهما جذعين؟ قال: ما أري به بأسًَا. واحتج بدواب الحبيس التي لا ينتفع بها، تباع ويجعل ثمنها في الحبيس.
ولا ريب أن في كلامه ما يبين جواز إبدال المسجد للمصلحة، وإن أمكن الانتفاع به، لكون النفع بالثاني أكمل، ويعود الأول طلقًا. وقال أبو بكر في زاد المسافر: قال أحمد في رواية صالح: نقب بيت المال بالكوفة، وعلى بيت المال ابن مسعود، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إليه عمر: أن انقل المسجد، وصىر بيت المال في قبلته، فإنه لن يخلو من مصل فيه. فنقله سعد إلى موضع التمارين اليوم، وصار سوق التمارين في موضعه، وعمل بيت المال في قبلته، فلا بأس أن تنقل المساجد إذا خربت. وقال في رواية أبي طالب: إذا كان المسجد يضيق بأهله، فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه. جوز تحويله لنقص الانتفاع بالأول لا لتعذره.
وقال القاضي أبو يعلى: وقال في رواية صالح: يحول المسجد خوفًا من لصوص، وإذا كان موضعه قذرًا. وبالثاني قال القاضي أبو يعلى. وقال في رواية أبي داود: في مسجد أراد أهله أن يرفعوه من الأرض؛ ويجعل تحته سقاية وحوانيت، وامتنع بعضهم من ذلك: ينظر إلى قول أكثرهم ولا بأس به. قال: فظاهر هذا أنه أجاز أن يجعل سفل المسجد حوانيت وسقاية. قال: ويجب أن يحمل هذا على أن الحاجة دعت إلى ذلك لمصلحة تعود بالمسجد. قال: وكان شيخنا أبو عبد الله هو ابن حامد يمنع من ذلك، ويتأول المسألة على أنهم اختلفوا في ذلك عند ابتداء بناء المسجد قبل وقفه. قال: وليس يمتنع على أصلنا جواز ذلك إذا كان فيه مصلحة؛ لأنا نجيز بيعه ونقله إلى موضع آخر. قال: وقد قال أحمد في رواية بكر بن محمد في مسجد ليس بحصين من الكلاب وغيرها، وله منارة، فرخص في نقضها ويبني بها حائط المسجد للمصلحة.
ومال ابن عقيل في الفصول إلى قول ابن حامد، فقال: هذا يجب أن يحمل على أن الحاجة دعت إلى ذلك، كما أن تغيير المسجد ونقله ما جاز عنده إلا للحاجة، فيحمل هذا الإطلاق على ذلك، لا على المستقر. قال: والأشبه أن يحمل على مسجد يبتدأ إنشاؤه. وعلى هذا فاختلفوا: كيف يبني؟ فأما بعد كونه مسجدًا فلا يجوز أن يباع، ولا أن يجعل سقاية تحته.
وكذلك رجح أبو محمد قول ابن حامد، وقال: هو أصح وأولى وإن خالف الظاهر. قال: فإن المسجد لا يجوز نقله وإبداله وبيع ساحته وجعلها سقاية وحوانيت إلا عند تعذر الانتفاع، والحاجة إلى سقاية وحوانيت لا يعطل نفع المسجد، فلا يجوز صرفه في ذلك. قال: ولو جاز جعل أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه الحاجة لجاز تخريب المسجد وجعله سقاية وحوانيت، ويجعل بدله مسجد في موضع آخر.
وهذا تكلف ظاهر لمخالفة نصه؛ فإن نصه صريح في أن المسجد إذا أرادوا رفعه من الأرض، وأن يجعل تحته سقاية وحوانيت، وأن بعضهم امتنع من ذلك، وقد أجاب بأنه ينظر إلى قول أكثرهم. ولو كان هذا عند ابتدائه لم يكن لأحد أن ينازع في بنيه إذا كان جائزا، ولم ينظر في ذلك إلى قول أكثرهم، فإنهم إن كانوا مشتركين في البناء لم يجبر أحد الشركاء على ما يريده الآخرون إذا لم يكن واجبًا، ولم يُبن إلا باتفاقهم، ولأن قوله: أرادوا رفعه من الأرض، وأن يجعل تحته سقاية، بين في أنه ملصق بالأرض، فأرادوا رفعه وجعل سقاية تحته. وأحمد اعتبر اختيار الأكثر من المصلين في المسجد؛ لأن الواجب ترجيح أصلح الأمرين، وما اختاره أكثرهم كان أنفع للأكثرين؛ فيكون أرجح.
وأيضًا، فلفظ المسألة على ما ذكره أبو بكر عبد العزيز، قال: قال في رواية سليمان بن الأشعث: إذا بني رجل مسجدًا فأراد غيره أن يهدمه ويبنيه بناء أجود من الأول فأبي عليه الباني الأول، فإنه يصير إلى قول الجيران ورضاهم، إذا أحبوا هدمه وبناءه، وإذا أرادوا أن يرفعوا المسجد من الأرض ويعمل في أسفله سقاية، فمنعهم من ذلك مشائخ ضعفاء وقالوا: لا نقدر أن نصعد، فإنه يرفع ويجعل سقاية، ولا أعلم بذلك بأسًا، وينظر إلى قول أكثرهم، فقد نص على هذا، وتبديل بنائه بأجود وإن كره الواقف الأول، وعلى جواز رفعه وعمل سقاية تحته، وإن منعهم مشائخ ضعفاء، إذا اختار ذلك الجيران، واعتبر أكثرهم. قال: وقال في رواية ابن الحكم: إذا كان للمسجد منارة، والمسجد ليس بحصين، فلا بأس أن تنقض المنارة فتجعل في حائط المسجد لتحصينه.
قال أبو العباس: وما ذكروه من الأدلة لو صح لكان يقتضي ترجيح غير هذا القول، فيكون في المسألة قولان، وقد رجحوا أحدهما، فكيف وهي حجج ضعيفة؟ أما قول القائل: لا يجوز النقل والإبدال إلا عند تعذر الانتفاع، فممنوع، ولم يذكروا على ذلك حجة لا شرعية ولا مذهبية، فليس عن الشارع ولا عن صاحب المذهب هذا النفي الذي احتجوا به، بل قد دلت الأدلة الشرعية وأقوال صاحب المذهب على خلاف ذلك، وقد قال أحمد: إذا كان المسجد يضيق بأهله فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه. وضيقه بأهله لم يعطل نفعه، بل نفعه باق كما كان، ولكن الناس زادوا، وقد أمكن أن يبني لهم مسجد آخر، وليس من شرط المسجد أن يسع جميع الناس، ومع هذا جوز تحويله إلى موضع آخر؛ لأن اجتماع الناس في مسجد واحد أفضل من تفريقهم في مسجدين؛ لأن الجمع كلما كثر كان أفضل؛ لقول النبي ﷺ: (صلاة الرجل مع الرجل أزكي من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكي من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى) رواه أبو داود وغيره.
وهذا مع أنه يجوز بناء مسجد آخر إذا كثر الناس وإن كان قريبًا، مع منعه لبناء مسجد ضرارًا. قال أحمد في رواية صالح: لا يبني مسجد يراد به الضرار لمسجد إلى جانبه، فإن كثر الناس فلا بأس أن يبني وإن قرب، فمع تجويزه بناء مسجد آخر عند كثرة الناس وإن قرب، أجاز تحويل المسجد إذا ضاق بأهله إلى أوسع منه؛ لأن ذلك أصلح وأنفع، لا لأجل الضرورة، ولأن الخلفاء الراشدين: عمر، وعثمان رضي الله عنهما غيرا مسجد النبي ﷺ، وأمر عمر بن الخطاب بنقل مسجد الكوفة إلى مكان آخر، وصار الأول سوق التمارين، للمصلحة الراجحة؛ لا لأجل تعطل منفعة تلك المساجد، فإنه لم يتعطل نفعها؛ بل ما زال باقيًا، وكذلك خلفاء المسلمين بعدهم، كالوليد، والمنصور، والمهدي، فعلوا مثل ذلك بمسجدي الحرمين، وفعل ذلك الوليد بمسجد دمشق وغيرها، مع مشورة العلماء في ذلك وإقرارهم، حتى أفتى مالك وغيره بأن يشتري الوقف المجاور للمسجد ويعوض أهله عنه. فجوزوا بيع الوقف والتعويض عنه لمصلحة المسجد، لا لمصلحة أهله، فإذا بيع وعوض عنه لمصلحة أهله كان أولى بالجواز.
وقول القائل: لو جاز جعل أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه الحاجة لجاز تخريب المسجد، وجعله سقاية وحوانيت ويجعل بدله مسجد في موضع آخر. قيل: نقول بموجب ذلك، وهذا هو الذي ذكره أحمد، ورواه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعليه بني مذهبه، فإن عمر بن الخطاب خرب المسجد الأول مسجد الجامع الذي كان لأهل الكوفة وجعل بدله مسجدًا في موضع آخر من المدينة، وصار موضع المسجد الأول سوق التمارين.
فهذه الصورة التي جعلوها نقضًا في المعارضة وأصلًا في قياسهم هي الصورة التي نقلها أحمد وغيره عن الصحابة، وبها احتج هو وأصحابه على من خالفهم، وقال أصحاب أحمد: هذا يقتضي إجماع الصحابة رضي الله عنهم عليها. فقالوا وهذا لفظ ابن عقيل في المفردات في مسألة إبدال المسجد وأيضًا روى يزيد بن هارون، قال: ثنا المسعودي، عن القاسم، قال: لما قدم عبد الله بن مسعود على بيت المال، كان سعد بن مالك قد بني القصر، واتخذ مسجدًا عند أصحاب التمر، فنقب بيت المال، وأخذ الرجل الذي نقبه، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب عمر: لا تقطع الرجل، وانقل المسجد، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل. فنقله عبد الله، فخط له هذه الخطة. قال أحمد: يقال: إن بيت المال نقب في مسجد الكوفة، فحول عبد الله المسجد، وموضع التمارين اليوم في موضع المسجد العتيق. قال ابن عقيل: وهذا كان مع توفر الصحابة، فهو كالإجماع؛ إذ لم ينكر أحد ذلك، مع كونهم لا يسكتون عن إنكار ما يعدونه خطأ؛ لأنهم أنكروا على عمر النهي عن المغالات في الصدقات، حتى ردت عليه امرأة، وردوه عن أن يحد الحامل، فقالوا: إن جعل الله لك على ظهرها سبيلًا فما جعل لك على ما في بطنها سبيلًا. وأنكروا على عثمان في إتمام الصلاة في الحج، حتى قال: إني دخلت بلدًا فيه أهلي. وعارضوا عليا حين رأي بيع أمهات الأولاد، فلو كان نقل المسجد منكرًا لكان أحق بالإنكار؛ لأنه أمر ظاهر فيه شناعة.
واحتج أيضًا بما روى أبو حفص في المناسك عن عائشة رضي الله عنها أنه قيل لها: يا أم المؤمنين إن كسوة الكعبة قد يداول عليها؟ فقالت: تباع، ويجعل ثمنها في سبيل الخير. فأمرت عائشة ببيع كسوة الكعبة مع أنها وقف، وصرف ثمنها في سبيل الخير؛ لأن ذلك أصلح للمسلمين، وهكذا قال من رجح قول ابن حامد في وقف الاستغلال كأبي محمد، قال: وإن لم تتعطل منفعة الوقف بالكلية، لكن قلت: أو كان غيره أنفع منه وأكثر ردًا على أهل الوقف لم يجز بيعه؛ لأن الأصل تحريم البيع، وإنما أبيح للضرورة صيانة لمقصود الوقف عن الضياع، مع إمكان تحصيله، ومع الانتفاع به، وإن قلنا: يضيع المقصود، اللهم إلا أن يبلغ من قلة النفع إلى حد لا يعد نفعًا، فيكون وجود ذلك كالعدم.
فيقال: ما ذكروه ممنوع، ولم يذكروا عليه دليلًا شرعيًا ولا مذهبيًا، وإن ذكروا شيئا من مفهوم كلام أحمد أو منطوقه، فغايته أن يكون رواية عنه قد عارضها رواية أخرى عنه هي أشبه بنصوصه وأصوله، وإذا ثبت في نصوصه وأصوله جواز إبدال المسجد للمصلحة الراجحة فغيره أولي. وقد نص على جواز بيع غيره أيضًا للمصلحة، لا للضرورة، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وأيضًا، فيقال لهم: لا ضرورة إلى بيع الوقف، وإنما يباع للمصلحة الراجحة ولحاجة الموقوف عليهم إلى كمال المنفعة، لا لضرورة تبيح المحظورات، فإنه يجوز بيعه لكمال المنفعة وإن لم يكونوا مضطرين، ولو كان بيعه لا يجوز لأنه حرام لم يجز بيعه لضرورة ولا غيرها، كما لم يجز بيع الحر المعتق ولو اضطر سيده المعتق إلى ثمنه، وغايته أن يتعطل نفعه فيكون كما لو كان حيوانًا فمات.
ثم يقال لهم: بيعه في عامة المواضع لم يكن إلا مع قلة نفعه، لا مع تعطل نفعه بالكلية، فإنه لو تعطل نفعه بالكلية لم ينتفع به أحد، لا المشتري ولا غيره. وبيع ما لا منفعة فيه لا يجوز أيضًا فغايته أن يخرب ويصير عرصة، وهذه يمكن الانتفاع بها بالإجارة بأن تكري لمن يعمرها، وهو الذي يسميه الناس الحكر ويمكن أيضًا أن يستسلف ما يعمر به ويوفي من كري الوقف. وهذا على وجهين:
أحدهما: أن يتبرع متبرع بالقرض، ولكن هذا لا يعتمد عليه.
والثاني: أن يؤجر إجارة غير موصوفة في الذمة، وتؤخذ الأجرة فيعمر بها، ليستوفي المستأجر المقابلة للأجرة، وهذان طريقان يكونان للناس إذا خرب الوقف، تارة يؤجرون الأرض وتبقي حكرًا، وتارة يستسلفون من الأجرة ما يعمرون به، وتكون تلك الأجرة أقل منها لو لم تكن سلفًا. وعامة ما يخرب من الوقف يمكن فيه هذا.
ومع هذا، فقد جوزوا بيعه والتعويض بثمنه؛ لأن ذلك أصلح لأهل الوقف لا للضرورة، ولا لتعطل الانتفاع بالكلية، فإن هذا لا يكاد ينفع، وما لا ينتفع به لا يشتريه أحد، لكن قد يتعذر ألا يحصل مستأجر، ويحصل مشترٍ؛ ولكن جواز بيع الوقف إذا خرب ليس مشروطًا بألا يوجد مستأجر، بل يباع ويعوض عنه إذا كان ذلك أصلح من الإيجار، فإنه إذا أكريت الأرض مجردة كان كراها قليلًا، وكذلك إذا استسلفت الأجرة للعمارة قلت المنفعة، فإنهم لا ينتفعون بها مدة استيفاء المنفعة المقابلة لما عمر به، وإنما ينتفعون بها بعد ذلك، ولكن الأجرة المسلفة تكون قليلة، ففي هذا قلت منفعة الوقف.
فتبين أن المسوغ للبيع والتعويض نقص المنفعة؛ لكون العوض أصلح وأنفع، ليس المسوغ تعطيل النفع بالكلية. ولو قدر التعطيل لم يكن ذلك من الضرورات التي تبيح المحرمات، وكلما جوز للحاجة لا للضرورة كتحلي النساء بالذهب والحرير، والتداوي بالذهب والحرير، فإنما أبيح لكمال الانتفاع، لا لأجل الضرورة التي تبيح الميتة ونحوها، وإنما الحاجة في هذا تكميل الانتفاع، فإن المنفعة الناقصة يحصل معها عوز يدعوها إلى كمالها، فهذه هي الحاجة في مثل هذا. وأما الضرورة التي يحصل بعدمها حصول موت أو مرض أو العجز عن الواجبات، كالضرورة المعتبرة في أكل الميتة، فتلك الضرورة المعتبرة في أكل الميتة لا تعتبر في مثل هذا. والله أعلم.
ولهذا جوز طائفة من الأصحاب هذا الموضع، بينوا أنه عند التعطيل بالكلية ينتهي الوقف، وإنما الكلام إذا بقي منه ما ينتفع به. ومن هؤلاء أبو عبد الله بن تيمية قال في ترغيب القاصد: الحكم الخامس: إذ تعطل الوقف فله أحوال:
أحدها: أن ينعدم بالكلية، كالفرس إذا مات، فقد انتهت الوقفية.
الثانية: أن يبقي منه بقية متمولة، كالشجرة إذا عطبت، والفرس إذا أعجف، والمسجد إذا خرب، فإن ذلك يباع ويصرف في تحصيل مثله، أو في شقيص من مثله.
الثالثة: حُصر المسجد إذا بُليت، وجذوعه إذا تكسرت وتحطمت، فإنه يباع ويصرف في مصالح المسجد، وكذلك إذا أشرفت جذوعه على التكسير أو داره على الانهدام، وعلم أنه لو أخر لخرج عن أن ينتفع به، فإنه يباع.
قال أحمد رحمه الله تعالى في رواية أبي داود: إذا كان في المسجد خشبات لها قيمة، وقد تشعثت جاز بيعها وصرف ثمنها عليه.
الرابعة: إذا خرب المسجد، وآلته تصلح لمسجد آخر يحتاج إلى مثلها، فإنها تحول إليه، وأما الأرض فتباع، هذا إذا لم يمكن عمارته بثمن بعض آلته، وإلا بيع ذلك وعمر به. نص عليه.
الخامسة: إذا ضاق المسجد بأهله، أو تفرق الناس عنه، لخراب المحلة، فإنه يباع ويصرف ثمنه في إنشاء مسجد آخر، أو في شِقْصٍ في مسجد.
فقد بين من قال هذا: أنه لا يمكن بيعه مع تعطل المنفعة بالكلية؛ بل إذا أبقي منه ما ينتفع به، وحينئذ فالمقصود التعويض عنه بما هو أنفع لأهل الوقف منه، ولم يشترط أحد من الأصحاب تعذر إجارة العرصة، مع العلم بأنه في غالب الأحوال يمكن إجارة العرصة، لكن يحصل لأهل الوقف منها أقل مما كان يحصل لو كان معمورًا، وإذا بيعت، فقد يشتري بثمنها ما تكون أجرته أنفع لهم؛ لأن العرصة يشتريها من يعمرها لنفسه فينتفع بها ملكًا، ويرغب فيها لذلك، ويشتري بثمنها ما تكون غلته أنفع من غلة العرصة، فهذا محل الجواز الذي اتفق الأصحاب عليه، وحقيقته تعود إلى أنهم عوضوا أهل الوقف عنه بما هو أنفع لهم منه.
فإن قيل: فلفظ الخرقي، وإذا خرب الوقف ولم يرد شيئا بيع واشترى بثمنه ما يرد على أهل الوقف. قيل: هذا اللفظ إما أن يراد به أنه لم يرد شيئا مما كان يرده لما كان معمورًا، مثل دور وحوانيت خربت، فإنها لو تشعثت ردت بعض ما كانت ترده مع كمال العمارة، بخلاف ما إذا خربت بالكلية، فإنها لا ترد شيئا من ذلك. وأما أن يراد به: لا ترد شيئا، لتعطيل نفعه من جميع الوجوه، فإن كان مراده هو الأول وهو الظاهر الذي يليق أن يحمل عليه كلامه، فهو مطابق لما قلناه؛ ولهذا قال: بيع. ولو تعطل نفعه من كل الجهات لم يجز بيعه. وإن كان مراده: أنه تعطل على أهل الوقف انتفاعهم به من كل وجه؛ لتعذر إجارة العرصة مع إمكان انتفاع غيرهم بها، كما قال أحمد في العبد، فإن أراد هذه الصورة كان منطوق كلامه موافقًا لما تقدم، ولكن مفهومه يقتضي أنه إذا أمكن أهل الوقف أن يؤجروه بأقل أجرة لم يجز بيعه، وهذا غايته أن يكون قولًا في المذهب، لكن نصوص أحمد تخالف ذلك في بيع المسجد والفرس الحبيس وغيرهما؛ كما قد ذكر المسجد. وأما الفرس الحبيس إذا عطب، فإن الذي يشتريه قد يشتريه ليركبه أو يديره في الرحي، ويمكن أهل الجهاد أن ينتفعوا به في مثل ذلك، مثل الحمل عليه، واستعماله في الرحي وإجارته وانتفاعهم بأجرته، ولكن المنفعة المقصودة لحبسه وهي الجهاد عليه تعطلت، ولم يتعطل انتفاعهم به بكل وجه.
فصل في بيع الوقف للمصلحة
وإذا كان يجوز في ظاهر مذهبه في المسجد الموقوف الذي يوقف للانتفاع بعينه وعينه محترمة شرعًا يجوز أن يبدل به غيره للمصلحة، لكون البدل أنفع وأصلح، وإن لم تتعطل منفعته بالكلية، ويعود الأول طلقا، مع أنه مع تعطل نفعه بالكلية: هل يجوز بيعه؟ عنه فيه روايتان، فلأن يجوز الإبدال بالأصلح والأنفع فيما يوقف للاستغلال أولى وأحري، فإنه عنده يجوز بيع ما يوقف للاستغلال للحاجة قولًا واحدًا، وفي بيع المسجد للحاجة روايتان.
فإذا جوز على ظاهر مذهبه أن يجعل المسجد الأول طلقًا، ويوقف مسجد بدله للمصلحة، وإن لم تتعطل منفعة الأول، فلأن يجوز أن يجعل الموقوف للاستغلال طلقًا ويوقف بدله أصلح منه، وإن لم تتعطل منفعة الأول أحرى، فإن بيع الوقف المستغل أولى من بيع المسجد، وإبداله أولى من إبدال المسجد؛ لأن المسجد تحترم عينه شرعًا، ويقصد الانتفاع بعينه، فلا يجوز إجارته ولا المعاوضة عن منفعته، بخلاف وقف الاستغلال، فإنه يجوز إجارته والمعاوضة عن نفعه، وليس المقصود أن يستوفي الموقوف عليه منفعته بنفسه كما يقصد مثل ذلك في المسجد، ولا له حرمة شرعية لحق الله تعالى كما للمسجد.
وأيضًا، فالوقف لله فيه شبه من التحرير، وشبه من التمليك، وهو أشبه بأم الولد عند من يمنع نقل الملك فيها، فإن الوقف من جهة كونه لا يبيعه أحد يملك ثمنه، ولا يهبه، ولا يورث عنه يشبه التحرير والإعتاق. ومن جهة أنه يقبل المعاوضة بأن يأخذ عوضه فيشتري به ما يقوم مقامه، يشبه التمليك، فإنه إذا أتلف ضمن بالبدل واشترى بثمنه ما يقوم مقامه عند عامة العلماء، بخلاف المعتق، فإنه صار حرًا لا يقبل المعاوضة. فالبيع الثابت في الطلق لا يثبت في الوقف بحال، وهو أن يبيعه المالك، أو وليه أو وكيله، ويملك عوضه من غير بدل يقوم مقامه. وهذا هو البيع الذي تقرن به الهبة والإرث، كما قال عمر بن الخطاب في وقفه: لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث.
ويشبه هذا: أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما جعلا الأرض المفتوحة عنوة فيء ا للمسلمين، كأرض السواد وغيرها، ولم يقسما شيئا مما فتح عنوة. ولما كانوا يمنعون من شرائها؛ لئلا يقر المسلم بالصغار فإن الخراج كالجزية أو يبطل حق المسلمين ظن بعض العلماء أنهم منعوا بيعها لكونها وقفًا، والوقف لا يباع، وزعموا أن ذلك يوجب أن مكة لا تباع لكونها فتحت عنوة. وهذا غلط؛ فإن أرض الخراج المفتوحة عنوة المجعولة فيء ا توهب وتورث، فإنها تنتقل عمن هي بيده إلى وارثه ويهبها، وهذا ممتنع في الوقف. وإذا بيعت لمن يقوم فيها مقام البائع، ولم يغير شيئا، فهذه المسألة تعلقت الأحكام الشرعية بأعيانها، وما سواها تعلقت بجنسه، لا بعينه فيؤدي خراجها، فلم يكن في ذلك ضرر على مستحقها، ولا زال حقهم عنها، والوقف إنما منع بيعه لئلا يبطل حق مستحقيه، وهذه يجوز فيها إبدال شخص بشخص بالاتفاق، فسواء كان بطريق المعاوضة أو غيرها.
والمقصود هنا أن الوقف فيه شوب التحرير والتمليك؛ ولهذا اختلف الفقهاء في الوقف على المعين: هل يفتقر إلى قبوله كالهبة أو لا يفتقر إلى قبوله كالعتق؟ على قولين مشهورين، بخلاف الوقف على جهة عامة كالمساجد. والوقف على المعين أقرب إلى التمليك من وقف المساجد ونحوها مما يوقف على جهة عامة، ووقف المساجد أشبه بالتحرير من غيرها، فإنها خالصة لله عز وجل كما قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [56]، وقال تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَي أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [57]، والمساجد بيوت الله، كما أن العتيق صار حرًا، أي: خالصًا لله. والتحرير: التخليص من الرق، ومنه الطين الحُرُّ، وهو الخالص، فالعتق: تخليص العبد لله.
ولهذا منع الشارع أن يجعل بعض مملوكه حرًا أو بعضه رقيقًا. وقال: ليس لله شريك، فإذا أعتق بعضه عتق جميعه، وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: (من أعتق شركا له في عبدٍ، وكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد قُوِّم عليه قيمة عدلٍ، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد)، وكذلك في الصحيحين مثله من حديث أبي هريرة. فأوجب تكميل عتقه، وإن كان ملكًا لغيره، وألزم المعتق بأن يعطي شركاءه حصصهم من الثمن، لتكميل عتق العبد لئلا يكون لله شريك.
ومذهب الأئمة الأربعة وسائر الأمة: وجوب تكميل العتق؛ لكن الجمهور يقولون: إذا كان موسرًا ألزم بالعوض، كما في حديث ابن عمر وأبي هريرة، وإن كان معسرًا، فمنهم من قال بالسعاية: بأن يستسعي العبد، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، اختارها أبو الخطاب. ومنهم من لا يقول بها، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى، واختارها أكثر أصحابه.
والمقصود أن المساجد أبلغ الموقوفات تحريرًا وشبهًا بالعتق، وليس لأحد أن يعتاض عن منفعتها كما يجوز ذلك في غيرها، كما أنه لا يملك أحد أعتق عبدًا منافعه، ومع هذا، فأحمد اتبع الصحابة في جواز إبدال المسجد بمسجد آخر، وجعل المسجد الأول سوقًا. وجوز إبدال الهدي والأضحية بخير منها مع أنها أيضًا لله تعالى يجب ذبحها لله، فلأن يجوز الإبدال في غيرها وهو أقرب إلى التمليك أولي، فإن حقوق الآدميين تقبل من المعاوضة والبدل ما لا يقبلها حقوق الله تعالى، ولا تمنع المعاوضة في حق الآدمي إلا أن يكون في ذلك ظلم لغيره، أو يكون في ذلك حق لله، أو يكون من حقوق الله، فإنه لا يجوز إبدال الصلوات والحج بعمل آخر، ولا القبلة بقبلة أخرى، ولا شهر رمضان بشهر آخر، ولا وقت الحج ومكانه بوقت آخر ومكان آخر؛ بل أهل الجاهلية لما ابتدعوا النسيء الذي يتضمن إبدال وقت الحج بوقت آخر قال الله تعالى: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللهُ } [58].
والمساجد الثلاثة التي بنتها الأنبياء عليهم السلام وشرع للناس السفر إليها، ووجب السفر إليها بالنذر، لا يجوز إبدال عرصتها بغيرها؛ بل يجوز الزيادة فيها، وإبدال التاليف والبناء بغيره، كما دلت عليه السنة وإجماع الصحابة، بخلاف غيرها، فإنه لا يتعين للنذر، ولا يسافر إليه، فيجوز إبداله للمصلحة كما تقدم والله أعلم.
ومما يبين ذلك: أن الوقف على معين قد تنازع العلماء فيه: هل هو ملك للموقوف عليه؟ أو هو باق على ملك الواقف؟ أو هو ملك لله تعالى؟ على ثلاثة أقوال معروفة في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وأكثر أصحاب أحمد يختارون أنه ملك للموقوف عليه كالقاضي، وابن عقيل. وأما المسجد ونحوه، فليس ملكًا لمعين باتفاق المسلمين، وإنما يقال: هو ملك لله. وقد يقال: هو ملك لجماعة المسلمين؛ لأنهم المستحقون للانتفاع به، فإذا جاز إبدال هذا بخير منه للمصلحة، فالأول أولي، إما بأن يعوض عنها بالبدل، وإما أن تباع ويشتري بثمنها البدل، والإبدال كما تقدم يبدل بجنسه بما هو أنفع للموقوف عليه.
فصل في وقف ما لا ينتفع به إلا مع إبدال عينه
قد نص أحمد على أبلغ من ذلك وهو وقف ما لا ينتفع به إلا مع إبدال عينه فقال أبو بكر عبد العزيز في الشافي: نقل الميموني عن أحمد: أن الدراهم إذا كانت موقوفة على أهل بيته، ففيها الصدقة، وإذا كانت على المساكين، فليس فيها صدقة. قلت: رجل وقف ألف درهم في السبيل؟ قال: إن كانت للمساكين فليس فيها شيء. قلت: فإن وقفها في الكُراع والسلاح؟ قال: هذه مسألة لبس واشتباه. قال أبو البركات: وظاهر هذا جواز وقف الأثمان لغرض القرض، أو التنمية، والتصدق بالربح، كما قد حكينا عن مالك والأنصاري. قال: ومذهب مالك صحة وقف الأثمان للقرض، ذكره صاحب التهذيب وغيره في الزكاة، وأوجبوا فيها الزكاة كقولهم في الماشية الموقوفة على الفقراء. وقال محمد ابن عبد الله الأنصاري: يجوز وقف الدنانير؛ لأنه لا ينتفع بها إلا باستهلاك عينها، وتدفع مضاربة، ويصرف ربحها في مصرف الوقف.
ومعلوم أن القرض والقراض يذهب عينه ويقوم بدله مقامه، وجعل المبدل به قائمًا مقامه لمصلحة الوقف، وإن لم تكن الحاجة ضرورة الوقف لذلك. وهذه المسألة فيها نزاع في مذهبه، فكثير من أصحابه منعوا وقف الدراهم والدنانير؛ لما ذكره الخرقي ومن اتبعه، ولم يذكروا عن أحمد نصًا بذلك، ولم ينقله القاضي وغيره إلا عن الخرقي وغيره.
وقد تأول القاضي رواية الميموني، فقال: ولا يصح وقف الدراهم والدنانير على ما نقل الخرقي. قال: قال أحمد في رواية: الميموني إذا وقف ألف درهم في سبيل الله وللمساكين فلا زكاة فيها، وإن وقفها في الكراع والسلاح فهي مسألة لبس. قال: ولم يرد بهذا وقف الدراهم، وإنما أراد إذا أوصى بألف تنفق على أفراس في سبيل الله، فتوقف في صحة هذه الوصىة. قال أبو بكر: لأن نفقة الكراع والسلاح على من وقفه، فكأنه اشتبه عليه إلى أين تصرف هذه الدراهم إذا كان نفقة الكراع والسلاح على أصحابه.
والأول أصح؛ لأن المسألة صريحة في أنه وقف الألف، لم يوص بها بعد موته؛ لأنه لو وصى أن تنفق على خيل وقفها غيره جاز ذلك بلا نزاع، كما لو وصى بما ينفق على مسجد بناه غيره. وقول القائل: إن نفقة الكراع والسلاح على من وقفه. ليس بمسلم في ظاهر المذهب، بل إن شرط له الواقف نفقة وإلا كان من بيت المال، كسائر ما يوقف للجهات العامة كالمساجد. وإذا تعذر من ينفق عليه بيع، ولم يكن على الواقف الإنفاق عليه. وأحمد توقف في وجوب الزكاة؛ لا في وقفها؛ فإنه إنما سئل عن ذلك؛ لأن مذهبه أن الوقف إذا كان على جهة خاصة، كبني فلان وجبت فيه الزكاة عنده في عينه. فلو وقف أربعين شاة على بني فلان وجبت الزكاة في عينها في المنصوص عنه، وهو مذهب مالك. قال في رواية مهنا فيمن وقف أرضاًِ أو غنما في سبيل الله: لا زكاة عليه، ولا عشر: هذا في السبيل؛ إنما يكون ذلك إذا جعله في قرابته؛ ولهذا قال أصحابه: هذا يدل على ملك الموقوف عليه لرقبة الوقف. وجعلوا ذلك إحدى الروايتين عنه. وفي مذهبه قول آخر: أنه لا زكاة في عين الوقف؛ لقصور ذلك، واختاره القاضي في المجرد وابن عقيل، وهو قول أكثر أصحاب الشافعي.
وأما ما وقفه على جهة عامة؛ كالجهاد، والفقراء، والمساكين، فلا زكاة فيه في مذهبه، ومذهب الشافعي. وأما مالك فيوجب فيه الزكاة. فتوقف أحمد فيما وقف في الكراع والسلاح؛ لأن فيها اشتباها؛ لأن الكراع والسلاح قد يعينه لقوم بعينهم؛ إما لأولاده، أو غيرهم؛ بخلاف ما هو عام لا يعتقبه التخصيص.
فصل فيمن وصى بفرس وسرج ولجام مفضض في سبيل الله
وقال في رواية بكر بن محمد فيمن وصى بفرس وسرج ولجام مفضض: يوقف في سبيل الله حبيس، فهو على ما وقف وأوصى، وإن بيع الفضة من السرج واللجام وجعل في وقف مثله فهو أحب إلى؛ لأن الفضة لا ينتفع بها، ولعله يشتري بتلك الفضة سرج ولجام، فيكون أنفع للمسلمين. فقيل له: تباع الفضة، وتصرف في نفقة الفرس؟ قال: لا. وهذا مما ذكره الخلال وصاحبه أبو بكر عبد العزيز والقاضي وأبو محمد المقدسي وغيرهم. فقد صرح أحمد بأن الفرس واللجام المفضض هو على ما وقف وأوصى، وأنه إن بيعت الفضة من السرح واللجام وجعل في وقف مثله فهو أحب إليه. قال: لأن الفضة لا ينتفع بها، ولعله يشتري بتلك الفضة سرج ولجام فيكون أنفع للمسلمين. فخير بين إبقاء الحلية الموقوفة وقفا وبين أن تباع ويشتري بثمنها ما هو أنفع للمسلمين من سرج ولجام. وهذا يبين أفضل الأمرين.
وقوله: لأن الفضة لا ينتفع بها. لم يرد به أنه لا منفعة بها بحال؛ فإن التحلي منفعة مباحة، ويجوز استئجار من يصوغ الحلية المباحة، ولو أتلف متلف الصياغة المباحة ضمن ذلك، وقد نص أحمد على ذلك، ولو لم يكن منفعة لم يصح الاستئجار عليها، ولا ضمنت بالإتلاف، بل أراد نفي كمال المنفعة، كما يقال هذا لا ينفع. يراد أنه لا ينفع منفعة تامة. ويدل على ذلك قوله: ويشتري بثمنها ما هو أنفع للمسلمين. فدل على أن كلاهما سائغ والثاني أنفع؛ ولأنه لو لم تكن فيه منفعة بحال لم يصح وقفه؛ فإن وقف ما لا ينتفع به لا يجوز، وهذا يبين أن أفضل الأمرين أن يباع الوقف، ويبدل بما هو أنفع منه للموقوف عليه، وأن ذلك أفضل من إبقائه وقفا؛ لأنه أصلح للموقوف عليه، ولم يوجب الإبدال.
وقوله: فهو على ما وقف، وأوصى. يقتضي أن هذا حكم ما وقفه وما وصى بوقفه؛ وإن كانت المسألة التي سئل عنها هي فيمن وصى بوقفه، ومعلوم أنه يجب اتباع شرطه فيما وصى بوقفه؛ كما يجب فيما وقفه، كما يجب اتباع كلامه فيما وصى بعتقه، كما يجب ذلك فيما أعتقه؛ وأنه لا يجوز أن يوقف ويعتق غير ما أوصى بوقفه وعتقه، كما لا يجوز أن يجعل الموقوف والمعتق غير ما وقفه وأعتقه. فجواز الإبدال في أحدهما كجوازه في الآخر. وقد علل استحبابه للإبدال بمجرد كون البدل أنفع للمسلمين من الزينة.
ونظير هذا إذا وقف ما هو مزين بنقوش ورخام وخشب وغير ذلك مما يكون ثمنه مرتفعا لزينته؛ فإنه يباع، ويشتري بثمنه ما هو أنفع لأهل الوقف. فالاعتبار بما هو أنفع لأهل الوقف، وقد تكون تلك الفضة أنفع لمشتريها، وهذا لأن انتفاع المالك غير انتفاع أهل الوقف؛ ولهذا يباع الوقف الخرب لتعطل نفعه. ومعلوم أن ما لا نفع فيه لا يجوز بيعه، لكن تعطل نفعه على أهل الوقف، ولم يتعطل على المالك؛ لأن أهل الوقف مقصودهم الاستغلال أو السكني. وهذا يتعذر في الخراب، والمالك يشتريه فيعمره بماله.
وقد اختلف مذهب أحمد في مثل هذه الحلية، على قولين، كحلية الخوذة والجوشن، وحمائل السيف، ونحو ذلك من لباس الجهاد؛ فإن لباس خيل الجهاد كلباس المجاهدين. وهذه الرواية تدل على جواز تحلية لباس الخيل بالفضة؛ كالسرج واللجام؛ فإنه جوز وقف ذلك. وجعل بيعه وصرف ثمنه في وقف مثله أحب إليه، ولو لم يبح ذلك لم يخير بين هذا وهذا. وقال القاضي في المجرد ظاهر هذا أنه أبطل الوقف في الفضة التي على اللجام والسرج؛ لأن الانتفاع بذلك محرم، وليس كذلك الحلي الذي استعماله مباح، وأجاز صرف ذلك في جنس ما وقفه من السروج واللجم، ومنع من صرفه في نفقة الفرس؛ لأنه ليس من جنس الوقف.
والقاضي بني هذا على أن هذه الحلية محرمة، وأنه إذا وقف ما يحرم الانتفاع به فإنه يباع ويشتري به ما يباح الانتفاع به. فيوقف على تلك الجهة. ومعلوم أنه لولا أن مقتضي عقد الوقف جواز الإبدال للمصلحة لم يجز هذا، كما أنه في البيع والنكاح لما لم يكن مقتضي العقد جواز الإبدال لم يصح بيع ما لا يحل الانتفاع به. ولا نكاح من يحرم وطؤها. وهذا يشبه ما لو أهدي ما لا يجوز أن يكون هديا؛ فإنه يشتري بثمنه ما يكون هديا. وكذلك في الأضحية.
وكلام أحمد يدل على الطريقة الأولى، لا على الثانية. وهي طريقة أبي محمد وغيره من أصحاب أحمد، قال أبو محمد: أباح أحمد أن يشتري بفضة السرج واللجام سرجا ولجاما؛ لأنه صرف لهما في جنس ما كانت عليه، حيث لم ينتفع بهما فيه. فأشبه الفرس الحبيس إذا عطب فلم ينتفع به في الجهاد جاز بيعه وصرف ثمنه في مثله. قال: ولم يجز إنفاقها على الفرس، لأنه صرف لها إلى غير جهتها.
وأبو محمد جعل ذلك من باب تعطل النفع بالكلية، كعطب الفرس، وخراب الوقف؛ بناء على أصله؛ فإنه لا يجوز بيعه إلا إذا تعطل نفعه بالكلية، كما تقدم، ويدل على أن وقف الحلية صحيح، وهو قول الخرقي والقاضي، وغيرهما. والقاضي يجعل المذهب قولا واحدا في صحة وقفه.
وأما أبو الخطاب وغيره فيجعلون في المسألة خلافا، بل ويذكرون النصوص أنه لا يصح. بحسب ما بلغهم من نصه. قال القاضي: فإن وقف الحلي على الإعارة واللبس؟ فقال في رواية الأثرم، وحنبل: لا يصح، وأنكر الحديث الذي يروي عن أم سلمة في وقفه. قال القاضي: وظاهر ما نقله الخرقي جواز وقفه؛ لأنه يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه. وقوله: لا يصح، يعني: لا يصح الحديث فيه، ولم يقصد لا يصح الوقف فيه. وقال أبو الخطاب: وأما وقف الحلي على الإعارة واللبس فجائز على ظاهر ما نقله الخرقي. ونقل عنه الأثرم وحنبل: أنه لا يصح.
وتجويزه لوقف السرج واللجام المفضض يوافق ما ذكره الخرقي، لكن إبداله بما هو أنفع لأهل الوقف أفضل عنده أن يشتري بالحلية سرج ولجام.
فصل في إبدال الهدي والأضحية بخير منها
ونصوص أحمد في غير موضع واختيار جمهور أصحابه جواز إبدال الهدي، والأضحية بخير منها. قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتري الأضحية يسمنها للأضحي؟ يبدلها بما هو خير منها، لا يبدلها بما هو دونها. فقيل له: فإن أبدلها بما هو خير منها يبيعها؟ قال: نعم. قال القاضي: وقد أطلق القول في رواية صالح وابن منصور وعبد الله بجواز أن تبدل الأضحية بما هو خير منها. قال: ورأيت في مسائل الفضل بن زياد: إذا سماها لا يبيعها إلا لمن يريد أن يضحي بها.
وهاتان الروايتان عنه كالروايتين عنه في المسجد: هل يباع أو تنقل آلته لخير منه ؟ كذلك هنا؛ منع في إحدى الروايتين أن يأخذ عنها بدلا إلا إذا كانت يضحي بها؛ لتعلق حرمة التضحية بعينها. وقال الخرقي: ويجوز أن تبدل الأضحية إذا أوجبها بخير منها. وقال القاضي أبو يعلى في التعليق إذا أوجب بدنة جاز بيعها، وعليه بدنة مكانها؛ فإن لم يوجب مكانها حتى زادت في بدن أو شعر أو ولدت كان عليه مثلها زائدة ومثل ولدها، ولو أوجب مكانها قبل الزيادة والولد لم يكن عليه شيء من الزيادة.
ولم أعلم في أصحاب أحمد من خالف في هذا، إلا أبا الخطاب؛ فإنه اختار أنه لا يجوز إبدالها. وقال: إذا نذر أضحية وعينها زال ملكه عنها، ولم يجز أن يتصرف فيها ببيع ولا إبدال، وكذلك إذا نذر عتق عبد معين أو دراهم معينة وقال هذا قياس المذهب عندي؛ لأن التعيين يجري مجري النص في النذر الذي لا يلحقه الفسخ؛ لأن أحمد قد نص في رواية صالح وإبراهيم بن الحارث فيمن نذر أضحية بعينها فأعورت أو أصابها عيب، تجزيه، ولو كانت في ملكه لم تجزه، ووجبت عليه صحيحة، كما لو نذر أضحية مطلقة. قال: وكذلك نص في رواية حنبل في الهدي إذا عطب في الحرم، قد أجزأ عنه، ولو كان في ملكه لم يجزه، ووجب بدله. وغير ذلك من المسائل. فدل على ما قلت.
وأبو الخطاب بنى ذلك على أن ملكه زال عنها، فلا يجوز الإبدال بعد زوال الملك، وهو قول أصحاب مالك. والشافعي وأبو حنيفة يجوزون إبدالها بخير منها. وبني أصحابه ذلك هم والقاضي أبو يعلى وموافقوه على أن ملكه لم يزل عنها. والنزاع بين الطائفتين في هذا الأصل. وأحمد وفقهاء أصحابه لا يحتاجون أن يبنوا على هذا الأصل. وقال أبو الخطاب: هذا هو القياس في النذر: أنه إذا نذر الصلاة في مسجد بعينه لزمه، وإنما تركناه للشرع، وهو قوله ﷺ: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). فقيل له: فلو نذر الصلاة في المسجد الأقصى جاز له الصلاة في المسجد الحرام؟ فقال: إن لم يصح الخبر بذلك لم نسلم على هذه الرواية.
وهذا الذي قاله أبو الخطاب كما أنه خلاف نصوص أحمد وجمهور أصحابه، فهو خلاف سائر أصوله؛ فإن جواز الإبدال عند أحمد لا يفتقر إلى كون ذلك في ملكه، بل ولا تأثير لذلك في جواز الإبدال؛ فإنه لو نذر عتق عبد فعينه لم يجز إبداله بلا ريب، وإن لم يخرج عن ملكه، بل ويقول: خرجت الأضحية عن ملكه، ويجوز إبدالها بخير منها؛ كما نقول مثل ذلك في المساجد، وكما نقول بجواز الإبدال في المنذورات؛ لأن الذبح عبادة للّه، وذبح الأفضل أحب إلى الله تعالى، فكان هذا كإبدال المنذور بخير منه، وذلك خير لأهل الحرم، بخلاف العتق؛ فإن مستحقه هو العبد فبطل حقه بالإبدال.
والنزاع في كون الأضحية المعينة بالنذر ثابتة على ملكه أو خارجة عن ملكه إلى الله يشبه النزاع في الوقف على الجهة العامة. والمشهور في مذهب أحمد والجمهور في ذلك أنها ملك للّه. وقد يقال: لجماعة المسلمين، والمتصرف فيه بالتحويل هم المسلمون المستحقون للانتفاع به، فيتصرفون فيه بحكم الولاية، لا بحكم الملك وكذلك الهدي والأضحية المعين بالنذر إذا قيل: إنه يخرج عن ملك صاحبه؛ فإن له ولاية التصرف فيه بالذبح والتفريق، فكذلك له ولاية التصرف فيه بالإبدال، كما لو أتلفه متلف فإنه كان يأخذ ثمنه يشتري به بدله، وإن لم يكن مالكا له. فكونه خارجا عن ملكه لا يناقض جواز تصرفه فيه بولاية شرعية.
وقول القائل: يملكه صاحبه أو لا يملكه. في ذلك وفي نظائره؟ كقوله: العبد يملك أو لا يملك، وأهل الحرب هل يملكون أموال المسلمين أو لا يملكونها، والموقوف عليه هل يملك الوقف أو لا يملكه؟ إنما نشأ فيها النزاع بسبب ظن كون الملك جنسا واحدا تتماثل أنواعه، وليس الأمر كذلك، بل الملك هو القدرة الشرعية، والشارع قد يأذن للإنسان في تصرف دون تصرف، ويملكه ذلك التصرف دون هذا، فيكون مالكا ملكا خاصا، ليس هو مثل ملك الوارث، ولا ملك الوارث كملك المشتري من كل وجه، بل قد يفترقان. وكذلك ملك النهب والغنائم ونحوهما قد خالف ملك المبتاع والوارث.
فقول القائل: إنه يملك الأضحية المعينة. إن أراد أنه يملكها كما يملك المبتاع؛ بحيث يبيعها ويأخذ ثمنها لنفسه ويهبها لمن يشاء وتورث عنه ملكا فليس الأمر كذلك. وكذلك إن أراد بخروجها عن ملكه أنه انقطع تصرفه فيها كما ينقطع التصرف بالرق أو البيع فليس الأمر كذلك، بل له فيها ملك خاص، وهو ملكه أن يحفظها، ويذبحها، ويقسم لحمها، ويهدي، ويتصدق، ويأكل. وهذا الذي يملكه من أضحيته لا يملكه من أضحيته غيره.
فصل في أدلة بيع المسجد للمصلحة
والدليل على ذلك وجوه:
أحدها: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين: بابا يدخل الناس منه، وبابا يخرجون منه). ومعلوم أن الكعبة أفضل وقف على وجه الأرض، ولو كان تغييرها وإبدالها بما وصفه ﷺ واجبا لم يتركه، فعلم أنه كان جائزا، وأنه كان أصلح لولا ما ذكره من حدثان عهد قريش بالإسلام. وهذا فيه تبديل بنائها ببناء آخر. فعلم أن هذا جائز في الجملة؟ وتبديل التاليف بتاليف آخر هو أحد أنواع الإبدال.
وأيضا، فقد ثبت أن عمر وعثمان غيرا بناء مسجد النبي ﷺ؛ أما عمر فبناه بنظير بنائه الأول باللبن والجذوع، وأما عثمان فبناه بمادة أعلا من تلك كالساج. وبكل حال فاللبن والجذوع التي كانت وقفا أبدلها الخلفاء الراشدون بغيرها. وهذا من أعظم ما يشتهر من القضايا ولم ينكره منكر. ولا فرق بين إبدال البناء ببناء، وإبدال العرصة بعرصة: إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ ولهذا أبدل عمر بن الخطاب مسجد الكوفة بمسجد آخر، أبدل نفس العرصة، وصارت العرصة الأولي سوقا للتمارين. فصارت العرصة سوقا بعد أن كانت مسجدا. وهذا أبلغ ما يكون في إبدال الوقف للمصلحة. وأيضا، فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه جوز إبدال المنذور بخير منه. ففي المسند مسند أحمد وسنن أبي داود، قال أبو داود: ثنا موسي بن إسماعيل، ثنا حماد يعني ابن سلمة أنا حبيب المعلم، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله، أن رجلا قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عز وجل عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، قال أبو سلمة: مرة ركعتين، قال: (صل ها هنا)، ثم أعاد عليه، فقال: (صل ها هنا)، ثم أعاد عليه؛ قال: (فشأنك إذا). قال أبو داود: وروي نحوه عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي ﷺ.
ولهذا في السنن طريق ثالث رواه أحمد وأبو داود، عن طائفة من أصحاب النبي ﷺ، قال أبو داود: ثنا بن خالد. ثنا أبو عاصم، وثنا عباس العمبري، ثنا روح، عن ابن جريج، أنا يوسف بن الحكم بن أبي سفيان، أنه سمع حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن رجال من أصحاب النبي ﷺ بهذا الخبر، زاد فقال النبي ﷺ: (والذي بعث محمدا بالحق لو صليت ها هنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس). قال أبو دواد: رواه الأنصار، عن ابن جريح. قال حفص بن عمر بن حنة: وقال عمر: أخبراه عن عبد الرحمن بن عوف، عن رجال من أصحاب النبي ﷺ.
وفي المسند وصحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة شكت شكوى، فقالت: إن شفاني الله فلأخرجن فلأصلين في بيت المقدس، فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج، فجاءت ميمونة تسلم عليها، وأخبرتها بذلك، فقالت: اجلسي وكلي ما صنعت، وصلى في مسجد رسول الله ﷺ؛ فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة).
وهذا مذهب عامة العلماء كالشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وابن المنذر، وغيرهم: قالوا: إذا نذر أن يصلي في بيت المقدس أجزأه الصلاة في مسجد النبي ﷺ، وإن نذر الصلاة في مسجد النبي ﷺ أجزأه الصلاة في المسجد الحرام، وإن نذر الصلاة في المسجد الحرام لم تجزه الصلاة في غيره عند الأكثرين، وهو مذهب ابن المسيب، ومالك، والشافعي في أصح قوليه، ومذهب أبي يوسف صاحب أبي حنيفة. وحكي عن أبي حنيفة: لا يتعين شيء للصلاة، بخلاف ما لو نذر أن يأتي المسجد الحرام لحج أو عمرة؛ فإن هذا يلزمه بلا نزاع. وأبو حنيفة بني هذا على أصله؛ وهو أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع.
وأما مالك وأحمد والشافعي في ظاهر مذهبه فيوجبون بالنذر ما كان طاعة، وإن لم يكن جنسه واجبا بالشرع، كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). والنبي ﷺ قال: (صل ها هنا)، وقال: (لو صليت هنا لأجزأ عنك صلاة أو كل صلاة في بيت المقدس)، فخص الأمر بالصلاة في المسجد الحرام، ولم يقل: صل حيث شئت، وقال: (لو صليت ها هنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس)، فجعل المجزي عنه الصلاة في المسجد الأفضل، لا في كل مكان. فدل هذا على أنه لم ينقله إلى البدل إلا لفضله، لا لكون الصلاة لم تتعين.
وقد ثبت عنه في الصحاح تفضيل مسجده والمسجد الحرام على المسجد الأقصى، وفي السنن والمسند تفضيل المسجد الحرام على مسجده، وثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)، وفي لفظ لمسلم: (إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد) فدل ذلك على أن السفر إلى هذه الثلاثة بِرٌ وقربة وعمل صالح؛ ولهذا أذن له النبي ﷺ أن يذهب إلى الأقصى، مع أمره له أن يصلي في المسجد الحرام، وإخباره أن ذلك يجزيه فدل ذلك على أنه أمر ندب، وأنه مخير بين أن يفعل عين المنذور، وإن يفعل ما هو أفضل منه.
ومعلوم أن النذر يوجب عليه ما نذره للّه تعالى من الطاعة؛ لقوله: (من نذر أن يطيع الله فليطعه). وهو أمر أوجبه هو على نفسه، لم يجب بالشرع ابتداء ثم إن الشارع بين أن البدل الأفضل يقوم مقام هذا، والأضحية والهدي المعين وجوبه من جنس وجوب النذر المعين. فدل ذلك على أن إبداله بخير منه أفضل من ذبحه بعينه: كالواجب بالشرع في الذمة، كما لو وجب عليه بنت مخاض فأدى بنت لبون، أو وجب عليه بنت لبون فأدى حقة، وفي ذلك حديث في السنن عن النبي ﷺ، يبين أنه إذا أدى أفضل مما وجب عليه أجزأه. رواه أبو داود في السنن وغيره.
قال أبو داود: ثنا محمد بن منصور، ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن يحيي بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن عمارة بن عمرو بن حزم، عن أبي بن كعب، قال: بعثني النبي ﷺ مُصَدِّقًا، فمررت برجل، فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا بنت مخاض، فقلت له: أدِّ بنت مخاض؛ فإنها صدقتك. فقال: ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها. فقلت له: ما أنا بآخذ ما لم أومر به، وهذا رسول الله ﷺ منك قريب، فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت على فافعل، فإن قبله منك قبلته، وإن رده عليك رددته. قال. فإني فاعل، فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض على حتى قدمنا على رسول الله ﷺ، فقال: يانبي الله، أتاني رسولك ليأخذ من صدقة مالى، وايم الله ما قام في مالى رسول الله ﷺ ولا رسوله قط قبله، فجمعت له مالى، فزعم أن ما على إلا بنت مخاض، وذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر، وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة ليأخذها فأبي على، وها هي هذه قد جئتك بها يا رسول الله، خذها. فقال له رسول الله ﷺ: (ذلك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه، وقبلناه منك). قال: فها هي ذه يا رسول الله، قد جئتك بها، فخذها، قال: فأمر رسول الله ﷺ بقبضها، ودعا له في ماله بالبركة.
وما في هذا الحديث من إجزاء سن أعلا من الواجب مذهب عامة أهل العلم الفقهاء المشهورين وغيرهم. فقد ثبت أن إبدال الواجب بخير منه جائز بل يستحب فيما وجب بإيجاب الشرع وبإيجاب العبد. ولا فرق بين الواجب في الذمة وما أوجبه معينا؛ فإنما وجب في الذمة وإن كان مطلقا من وجه فإنه مخصوص متميز عن غيره؛ ولهذا لم يكن له إبداله بدونه بلا ريب.
وعلى هذا، فلو نذر أن يقف شيئا فوقف خيرا منه كان أفضل، فلو نذر أن يبني للّه مسجدا وصفه، أو يقف وقفا وصفه. فبني مسجدا خيرا منه، ووقف وقفا خيرا منه كان أفضل. ولو عينه، فقال: للّه على أن أبني هذه الدار مسجدا أو وقفها على الفقراء والمساكين. فبني خيرا منها، ووقف خيرا منها، كان أفضل، كالذي نذر الصلاة بالمسجد الأقصى وصلى في المسجد الحرام، أو كانت عليه بنت مخاض فأدى خيرًا منها.
وقد تنازع الفقهاء في الواجب المقدر إذا زاده؛ كصدقة الفطر إذا أخرج أكثر من صاع. فجوزه أكثرهم، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم. وروي عن مالك كراهة ذلك. وأما الزيادة في الصفة فاتفقوا عليها، والصحيح جواز الأمرين؛ لقوله تعالى: { وَعلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [59]، وقد ثبت باتفاق أهل العلم وهو في كتب الحديث الصحاح وغيرها وكتب التفسير والفقه أن الله لما أوجب رمضان كان المقيم مخيرا بين الصوم وبين أن يطعم كل يوم مسكينا. فكان الواجب هو إطعام المسكين، وندب سبحانه إلى إطعام أكثر من ذلك، فقال تعالى: { وَعلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ }، ثم قال: { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ }، فلما كانوا مخيرين كانوا على ثلاث درجات: أعلاها الصوم، ويليه أن يطعم في كل يوم أكثر من مسكين، وأدناها أن يقتصر على إطعام مسكين. ثم إن الله حتم الصوم بعد ذلك وأسقط التخيير في الثلاثة.
فإن قيل: ففي سنن أبي داود: ثنا عبد الله بن محمد النفيلي ثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن جهم بن الجارود، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: قال أهدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه نجيبة، فأعطي بها ثلاثمائة دينار، فأتي النبي ﷺ، فقال: يارسول الله، إني أهديت نجيبة فأعطيت بها ثلاثمائة دينار أفأبيعها، وأشتري بثمنها بدنا؟ قال: (لا. انحرها إياها)، فقد نهاه عن بيعها وأن يشتري بثمنها بدنا؟
قيل: هذه القضية بتقدير صحتها قضية معينة، ليس فيها لفظ عام يقتضي النهي عن الإبدال مطلقا، ونحن لم نجوز الإبدال مطلقا. ولا يجوزه أحد من أهل العلم بدون الأصل، وليس في هذا الحديث أن البدل كان خيرا من الأصل، بل ظاهره أنها كانت أفضل. فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه سئل: أي الرقاب أفضل؟ فقال: (أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها). وقد قال تعالى: { ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } [60]، وقد قيل: من تعظيمها: استحسانها واستسمانها والمغالاة في أثمانها.
وهذه النجيبة كانت نفيسة؛ ولهذا بذل فيها ثمن كثير، فكان إهداؤها إلى الله أفضل من أن يهدي بثمنها عدد دونها، والملك العظيم قد يهدي له فرس نفيسه فتكون أحب إليه من عدة أفراس بثمنها، فالفضل ليس بكثرة العدد فقط، بل قد قال الله تعالى: { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [61]، فما كان أحب إلى المرء إذا تقرب به إلى الله تعالى كان أفضل له من غيره، وإن استويا في القيمة؛ فإن الهدية والأضحية عبادة بدنية ومالية، ليست كالصدقة المحضة، بل إذا ذبح النفيس من ماله لله تعالى كان أحب إلى الله تعالى. قال بعض السلف: لا يهدي أحدكم لله تعالى ما يستحي أن يهديه لكريمه، وقد قال تعالى: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } [62]، وقد قرب ابني آدم قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. وقد ذكر أن سبب ذلك أن أحدهما قرب نفيس ماله، والآخر قرب الدون من ماله. والله أعلم.
سئل عن الواقف والناذر يوقف شيئا ثم يري غيره أحظ للموقوف
وَسُئِلَ شيخُ الإسلام عن الواقف والناذر يوقف شيئًا، ثم يري غيره أحظ للموقوف عليه منه هل يجوز إبداله؛ كما في الأضحية؟
فأجاب:
وأما إبدال المنذور والموقوف بخير منه كما في إبدال الهدي، فهذا نوعان:
أحدهما: أن الإبدال للحاجة مثل أن يتعطل فيباع ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه، كالفرس الحبيس للغزو إذا لم يمكن الانتفاع به للغزو فإنه يباع ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه، والمسجد إذا خرب ما حوله فتنقل آلته إلى مكان آخر. أو يباع ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه: أو لا يمكن الانتفاع بالموقوف عليه من مقصود الواقف فيباع ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه. وإذا خرب ولم تمكن عمارته فتباع العرصة، ويشتري بثمنها ما يقوم مقامها، فهذا كله جائز؛ فإن الأصل إذا لم يحصل به المقصود قام بدله مقامه.
والثاني: الإبدال لمصلحة راجحة؛ مثل أن يبدل الهدي بخير منه، ومثل المسجد إذا بني بدله مسجد آخر أصلح لأهل البلد منه، وبيع الأول، فهذا ونحوه جائز عند أحمد وغيره من العلماء. واحتج أحمد بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نقل مسجد الكوفة القديم إلى مكان آخر، وصار الأول سوقًا للتمارين، فهذا إبدال لعرصة المسجد.
وأما إبدال بنائه ببناء آخر، فإن عمر وعثمان بنيا مسجد النبي ﷺ بناء غير بنائه الأول وزادا فيه، وكذلك المسجد الحرام، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين: بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرج الناس منه). فلولا المعارض الراجح لكان النبي ﷺ يغير بناء الكعبة. فيجوز تغيير بناء الوقف من صورة إلى صورة لأجل المصلحة الراجحة.
وأما إبدال العرصة بعرصة أخرى، فهذا قد نص أحمد وغيره على جوازه اتباعًا لأصحاب رسول الله ﷺ، حيث فعل ذلك عمر، واشتهرت القضية، ولم تنكر.
وأما ما وقف للغلة إذا أبدل بخير منه؛ مثل أن يقف دارًا، أو حانوتًا، أو بستانًا، أو قرية يكون مغلها قليلا، فيبدلها بما هو أنفع للوقف، فقد أجاز ذلك أبو ثور وغيره من العلماء؛ مثل أبي عبيد بن حرمويه، قاضي مصر، وحكم بذلك. وهو قياس قول أحمد في تبديل المسجد من عرصة إلى عرصة للمصلحة، بل إذا جاز أن يبدل المسجد بما ليس بمسجد للمصلحة بحيث يصير المسجد سوقًا فلأن يجوز إبدال المستغل بمستغل آخر أولي و أحرى. وهو قياس قوله في إبدال الهدي بخير منه. وقد نص على أن المسجد اللاصق بأرض إذا رفعوه وبنوا تحته سقاية، واختار ذلك الجيران، فعل ذلك. لكن من أصحابه من منع إبدال المسجد والهدي والأرض الموقوفة، وهو قول الشافعي وغيره، لكن النصوص والآثار والقياس تقتضي جواز الإبدال للمصلحة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
سئل عمن أوقف وقفا يحصل لأصحابها ضرر به
وَسُئِلَ رحمه الله تعالى عمن أوقف وقفًا على الفقراء. وهو من كروم يحصل لأصحابها ضرر به. فهل يجوز أن يرجع فيه ويقف غيره؟ وهل إذا فعل يكون الاثنان وقفًا؟
فأجاب:
إذا كان في ذلك ضرر على الجيران جاز أن يناقل عنه ما يقوم مقامه، ويعود الأول ملكًا، والثاني وقفًا، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسجد الكوفة لما جعل مكانه مسجدًا صار الأول سوقًا للتماّرين. وَسُئِلَ عن حوض سبيل، وعليه وقف إسطبل، وقد باعه الناظر، ولم يشتر بثمنه شيئًا من مدة ست سنين. فهل يجوز ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، أما بيعه بغير استبدال لما يقوم مقامه فلا ريب أنه لا يجوز. وأما إذا باعه لتعطل نفعه واشتري بالثمن ما يقوم مقامه فهذا يجوز على الصحيح في قولي العلماء، وإن استبدل به خيرًا منه مع وجود نفعه ففيه نزاع. والله أعلم.
سئل عن قرية بها عدة مساجد بعضها قد خرب
وَسُئِلَ رحمه الله عن قرية بها عدة مساجد، بعضها قد خرب لا تقام الصلاة إلا في واحد منها، ولها وقف عليها كلها. فهل تجب عمارة الخرب، وإقامة الجماعة في مسجد ثان؟ وهل يحل إغلاقها؟
فأجاب:
نعم، تجب عمارة المسجد إلى إقامة الصلاة فيه. وكذلك ترتيب إمام في مسجد آخر يجب أن يفعل عند المصلحة والحاجة، ولا يحل إغلاق المساجد عما شرعت له. وأما عند قلة أهل البقعة واكتفائهم بمسجد واحد مثل أن يكونوا حوله فلا يجب تفريق شملهم في غير مسجدهم.
سئل أيضا عن وقف على جماعة توفي بعضهم وله شقيق
وَسُئِلَ أيضًا عن وقف على جماعة توفي بعضهم، وله شقيق، وولد، وللعلماء في ذلك خلاف مستفيض في مثله: هل يخص الولد أم الأخ؟ فشهد قوم أنه يخص الولد دون الأخ بمقتضي شرط الواقف، مع عدم تحقيقهم الحد الموقوف، بحيث إنهم غيروا بعض الحدود عما هي عليه. فهل يجوز لهم ذلك؟ وهل للحاكم أن يحكم بشهادتهم هذه من غير استفصال؟ وما الحكم في مجموع السؤال؟ أفتونا مفصلا مأجورين. إن شاء الله تعالى.
فأجاب:
الحمد لله، الشهادة في الوقف بالاستحقاق غير مقبولة، وكذلك في الإرث من الأمور الاجتهادية؛ كطهارة الماء ونجاسته، ولكن الشاهد يشهد بما يعلمه من الشروط، ثم الحاكم يحكم في الشرط بموجب اجتهاده. والله أعلم.
سئل عن وقف على رجل ثم على أولاده فاقتسمه الفلاحون
وَسُئِلَ عن وقف على رجل؛ ثم على أولاده فاقتسمه الفلاحون، ثم تناقل بعضهم حصته إلى جانب حصة شريكه فهل تنفسخ القسمة والمناقلة؟
فأجاب:
لا تصح قسمة رقبة الوقف الموقوف على جهة واحدة، لكن تصح قسمة المنافع، وهي المهايأة. وإذا كانت مطلقة لم تكن لازمة، لاسيما إذا تغير الموقوف فتجوز بغير هذه المهايأة.
سئل عن بيعة بقرية ولها وقف
وَسُئِلَ عن بيعة بقرية، ولها وقف، وانقرض النصارى بتلك القرية، وأسلم من بقي منهم فهل يجوز أن يتخذ مسجدًا؟
فأجاب:
نعم، إذا لم يبق من أهل الذمة الذين استحقوا تلك أحد، جاز أن يتخذ مسجدًا، لا سيما إن كانت ببر الشام، فإنه فتح عنوة.
سئل عن مسجد مجاور كنيسة خراب سقط بعض جدرانها على باب المسجد
وَسُئِلَ رحمه الله عن مسجد مجاور كنيسة مغلقة خراب، سقط بعض جدرانها على باب المسجد، وعلى رحابه التي يتوصل منها، وزالت بعض الجدار الذي انهدم، وسقط على جدار المسجد، ويخاف على المسلمين من وقعها، ومن يصلي بالمسجد؟ وإذا آلت كلها للخراب هل تهدم؟
فأجاب:
نعم، إذا خيف تضرر المسجد وإيذاء المصلين فيه وجب إزالة ما يخاف من الضرر على المسجد وأهله. وإذا لم يزل إلا بالهدم هدمت، بل قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (لا قبلتان بأرض، ولا جزية على مسلم).
وإذا كانت هذه في أرض فتحت عنوة وجب أن تزال، ولا تترك مجاورة. والله أعلم.
سئل عن مسجد ليس له وقف وبجواره ساحة
وَسُئِلَ رحمه الله عن مسجد ليس له وقف، وبجواره ساحة: هل يجوز أن تعمل سكنًا للإمام؟ أفتونا؟
فأجاب:
يجوز ذلك والحالة هذه؛ فإن الساحة ليست من المسجد، كما ذكر. والله أعلم.
سئل عمن هو في مسجد يأكل وقفه ولا يقوم بمصالحه
وَسُئِلَ رحمه الله عمن هو في مسجد يأكل وقفه، ولا يقوم بمصالحه. وللواقف أولاد محتاجون: فهل لهم تغييره، وإقامة غيره، وأخذ الفائض عن مصلحة المسجد ؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا لم يقم بالواجب فإنه يغيره من له ولاية ذلك لمن يقوم بالواجب، إذا لم يتب الأول ويلتزم بالواجب. وأما الفاضل عن مصلحة المسجد فيجوز صرفه في مساجد أخر، وفي المستحقين للصدقة من أقارب الواقف وجيران المسجد.
سئل عن مسجد مجاور كنيسة خراب سقط بعض جدرانها على باب المسجد
وَسُئِلَ رحمه الله هل يجوز أن يبني خارج المسجد من رِيع الوقف مسكنًا ليأوي فيه أهل المسجد الذين يقومون بمصالحه؟
فأجاب:
نعم، يجوز لهم أن يبنوا خارج المسجد من المساكن ما كان مصلحة لأهل الاستحقاق لريع الوقف القائمين بمصلحته.
سئل عن مسجد أعلاه طبقة وأنها ضرر على المسجد
وَسُئِلَ رحمه الله عن مسجد أعلاه طبقة، وهو عتيق البناء، وأن الطبقة لم يسكنها أحد ولم ينتفع بها لكونها ساقطة، وأنها ضرر على المسجد لثقلها عليه تخربه، ولا له شيء يعمر منه: فهل يجوز نقض الطبقة التي أعلاه، أو يغلق ذلك المسجد؟
فأجاب:
إذا كان نقض الطبقة مصلحة للمسجد فتنقض، وتصرف الأنقاض في مصالح المسجد، وإن أمكن أن يشتري بها ما يوقف عليه أو يصرف في عمارته أو عمارة وقفه، فعل ذلك.
سئل عن رجل استأجر أرضا موقوفة
وَسُئِلَ عن رجل استأجر أرضًا موقوفة، وبني عليها ما أراد، ثم أوقف ذلك البناء وشرط أن يعطي الأجرة الموقوفة من ريع وقفه عليها، وحكم الحاكم بصحة الوقف على الشروط المذكورة في الوقف: فهل يجوز نقض ذلك أم لا؟ وإذا أراد الواقف نقض الوقف بعد ثبوته ليدخل فيه عددًا آخر بوقف ثان: هل يجوز ذلك؟
فأجاب:
إذا حكم الحاكم بصحة الوقف لم يجز فيه تغييره ولا تبديل شروطه.
سئل عن وقف على الفقراء وفيه أشجار زيتون
وَسُئِلَ عن وقف على الفقراء والمساكين، وفيه أشجار زيتون وغيره يحمل بعض السنين بثمر قليل، فإذا قطعت وأبيعت يشتري بثمنها ملك يغل بأكثر منها: فهل للناظر ذلك؟ وهل إذا طالبه بعض المستحقين للوقف يقطع الشجر ويبيعه ويقسم منه عليهم، فهل لهم ذلك؟ أم شراء الملك؟ وإذا تولي شخص فوجد من تقدمه غير شرط الواقف، فجهد في عمل شرط الواقف: فهل له أن يأخذ ما جرت به العادة من الجامكية، بكونه لم يقدر أن يعمل بما شرطه الواقف، وهذا الناظر فقير لا مال له: فهل له أن يأخذ من نسبة الفقراء، ويكون نظره تبرعًا؟ بينوا لنا ذلك.
فأجاب:
الحمد لله، نعم، يجوز بيع تلك الأشجار، وأن يشتري بها ما يكون مغله أكثر؛ فإن الشجر كالبناء، وللناظر أن يغير صورة الوقف من صورة إلى صورة أصلح منها، كما غير الخلفاء الراشدون صورة المسجدين اللذين بالحرمين الشريفين، وكما نقل عمر بن الخطاب مسجد الكوفة من موضع إلى موضع، وأمثال ذلك. ولا يقسم ثمن الشجر بين الموجودين؛ لأن الشجر كالبناء لا يختص بثمنه الموجودون، وليس هو بمنزلة الشجر والزرع والمنافع التي يختص كل أهل طبقة بما يؤخذ في زمنها منها.
وأما الناظر فعليه أن يعمل ما يقدر عليه من العمل الواجب، ويأخذ لذلك العمل ما يقابله، فإن كان الواجب عشرة أجزاء من العوض المستحق أخذه، وإن كان يستحق الجميع على ما يعمله أخذ الجميع. وله أن يأخذ على فقره ما يأخذه الفقير على فقره. والله أعلم.
سئل عن تغيير صورة الوقف
وَسُئِلَ عن تغيير صورة الوقف؟
فأجاب:
الحمد لله أما ما خرج من ذلك عن حدود الوقف إلى طريق المسلمين، وإلى حقوق الجيران، فيجب إزالته بلا ريب. وأما ما خرج إلى الطريق النافذ فلابد من إزالته، وأما إن كان خرج إلى ملك الغير فإن أذن فيه وإلا أزيل.
وأما تغيير صورة البناء من غير عدوان فينظر في ذلك إلى المصلحة، فإن كانت هذه الصورة أصلح للوقف وأهله أقرت. وإن كان إعادتها إلى ما كانت عليه أصلح أعيدت. وإن كان بناء ذلك على صورة ثالثة أصلح للوقف بنيت. فيتبع في صورة البناء مصلحة الوقف، ويدار مع المصلحة حيث كانت. وقد ثبت عن الخلفاء الراشدين كعمر وعثمان أنهما قد غيرا صورة الوقف للمصلحة بل فعل عمر بن الخطاب ما هو أبلغ من ذلك حيث حول مسجد الكوفة القديم فصار سوق التمارين، وبني لهم مسجدًا في مكان آخر. والله أعلم.
سئل عمن ناصب على أرض وقف
وَسُئِلَ عمن ناصب على أرض وقف على أن للوقف ثلثي الشجر المنصوب، وللعامل الثلث: فهل لمن بعده من النظار بيع نصيب الوقف من الشجر؟
فأجاب:
لا يجوز له بيع ذلك إلا لحاجة تقتضي ذلك. والله أعلم.
سئل عن امرأة وقفت على ولديها دكاكين ودارا
وَسُئِلَ رحمه الله عن امرأة وقفت على ولديها دكاكين ودارًا، ثم بعد بنيها وبني أولادها يرجع على وقف مدرسة نور الدين الشهيد وغيره من المصارف الشرعية، ثم إن بعض قرائب المرأة تعدي وتحيل وباع الوقف، ثم إن الورثة حاكموا المشتري ورقم القاضي على شهود الكتاب، وهو صحيح ثابت. فقام المشتري وأوقفها صدقة على خبز يصرف للمساكين وجعل الرئيس ناظرًا على الصدقة: فهل يصح ذلك. وإذا علم الرئيس العالم المتعبد أن هذا مغتصب، فهل يحل له أن يكون ناظرًا عليه، وما يكون؟
فأجاب:
بيع الوقف الصحيح اللازم الذي يحصل به مقصود الوقف من الانتفاع لا يجوز، ولا يصح وقف المشتري له، ولا يجوز للناظر على الوقف الثاني أن يصرفه إلى غير المستحقين قبل، ولا يتصرف فيه بغير مسوغ شرعي، سواء تصرف بحكم النظر الباطل، أو بغير ذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل بني حائطا في مقبرة المسلمين
وَسُئِلَ رحمه الله عن رجل بني حائطًا في مقبرة المسلمين، يقصد أن يحوز نفعه لدفن موتاه، فادعي رجل أن له موتي تحت الحائط، وما هو داخل الحائط: فهل يجوز له ذلك؟
فأجاب:
ليس له أن يبني على مقبرة المسلمين حائطًا، ولا أن يحتجر من مقبرة المسلمين ما يختص به دون سائر المستحقين. والله أعلم.
سئل عن حمام أكثرها وقف
وَسُئِلَ رحمه الله عن حمام أكثرها وقف على الفقراء والمساكين والفقهاء، وأن إنسانًا له حمامات بالقرب منها، وأنه احتال واشتري منها نصيبًا، وأخذ الرصاص الذي يخصه من الحاصل، وعطل الحمام وضار: فهل يلزمه العمارة أسوة الوقف أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله ليس له أن يتصرف في الحمام المشتركة بغير إذن الشركاء ولا بإذن الشارع، ولا يستولي على شيء منها بغير إذن الشركاء، ولا يقسم بنفسه شيئًا ويأخذ نصيبه منه، سواء كان رصاصًا أو غيره؛ ولا يغير بناء شيء منها، ولا يغير القدر ولا غيرها، وهذا كله باتفاق المسلمين. وليس له أن يغلقها، بل يكري على جميع الشركاء إذا طلب بعضهم ذلك، وتقسم بينهم الأجرة. وهذا مذهب جماهير العلماء؛ كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد. وإذا احتاجت الحمام إلى عمارة لابد منها، فعلى الشريك أن يعمر معهم في أصح قولي العلماء. والله أعلم.
سئل عن قناة سبيل
وَسُئِلَ رحمه الله عن قناة سبيل، لها فايض، ينزل على قناة الوسخ، وقريب منها قناة طاهرة قليلة الماء: فهل يجوز أن يساق ذلك الفائض إلى المطهرة، وهل يثاب فاعل ذلك؟ وهل يجوز منعه؟
فأجاب:
نعم، يجوز ذلك بإذن ولي الأمر، ولا يجوز منع ذلك إذا لم يكن فيه مصلحة شرعية، ويثاب الساعي في ذلك. والله أعلم.
سئل عن الوقف الذي يشتري بعوضه ما يقوم مقامه
وَسُئِلَ رحمه الله عن الوقف الذي يشتري بعوضه ما يقوم مقامه، وذلك مثل الوقف الذي أتلفه متلف، فإنه يؤخذ منه عوضه يشتري به ما يقوم مقامه؛ فإن الوقف مضمون بالإتلاف باتفاق العلماء، ومضمون باليد. فلو غصبه غاصب تلف تحت يده العادية فإن عليه ضمانه باتفاق العلماء، لكن قد تنازع بعضهم في بعض الأشياء هل تضمن بالغصب كالعقار. وفي بعضها هل يصح وقفه كالمنقول؟ ولكن لم يتنازعوا أنه مضمون بالإتلاف باليد كالأموال، بخلاف أم الولد، فإنهم وإن اتفقوا على أنها مضمونة بالإتلاف، فقد تنازعوا هل تضمن باليد أو لا؟ فأكثرهم يقول: هي مضمونة باليد؛ كمالك، والشافعي، وأحمد. وأما أبو حنيفة فيقول: لا تضمن باليد. وضمان اليد هو ضمان العقد، كضمان البايع تسليم المبيع، وسلامته من العيب، وأنه بيع بحق. وضمان دركه عليه بموجب العقد وإن لم يشترطه بلفظه.
ومن أصول الاشتراء ببدل الوقف؛ إذا تعطل نفع الوقف؛ فإنه يباع ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه في مذهب أحمد، وغيره. وهل يجوز مع كونه مغلا أن يبدل بخير منه؟ فيه قولان في مذهبه. والجواز مذهب أبي ثور وغيره.
والمقصود أنه حيث جاز البدل، هل يشترط أن يكون في الدرب أو البلد الذي فيه الوقف الأول. أم يجوز أن يكون بغيره إذا كان ذلك أصلح لأهل الوقف؛ مثل أن يكونوا مقيمين ببلد غير بلد الوقف، وإذا اشتري فيه البدل كان أنفع لهم؛ لكثرة الريع، ويسر التناول؟ فنقول:
ما علمت أحدًا اشترط أن يكون البدل في بلد الوقف الأول، بل النصوص عند أحمد وأصوله وعموم كلامه وكلام أصحابه وإطلاقه يقتضي أن يفعل في ذلك ما هو مصلحة أهل الوقف؛ فإن أصله في هذا الباب مراعاة مصلحة الوقف، بل أصله في عامة العقود اعتبار مصلحة الناس؛ فإن الله أمر بالصلاح، ونهي عن الفساد وبعث رسله بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها: { وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } [63]، وقال شعيب: { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ } [64]، وقال تعالى: { آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [65]، وقال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ } [66].
وقد جوز أحمد بن حنبل إبدال مسجد بمسجد آخر للمصلحة، كما جوز تغييره للمصلحة. واحتج بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبدل مسجد الكوفة القديم بمسجد آخر، وصار المسجد الأول سوقًا للتمارين. وجوز أحمد إذا خرب المكان أن ينقل المسجد إلى قرية أخرى، بل ويجوز، في أظهر الروايتين عنه: أن يباع ذلك المسجد ويعمر بثمنه مسجدًا آخر في قرية أخرى إذا لم يحتج إليه في القرية الأولي. فاعتبر المصلحة بجنس المسجد، وإن كان في قرية غير القرية الأولى؛ إذ كان جنس المساجد مشتركة بين المسلمين والوقف على قوم بعينهم أحق بجواز نقله إلى مدينتهم من المسجد؛ فإن الوقف على معينين حق لهم، لا يشركهم فيه غيرهم. وغاية ما فيه أن يكون بعد انقضائهم لجهة عامة؛ كالفقراء، والمساكين. فيكون كالمسجد. فإذا كان الوقف ببلدهم أصلح لهم كان اشتراء البدل ببلدهم هو الذي ينبغي فعله لمتولي ذلك.
وصار هذا كالفرس الحبيس الذي يباع ويشتري بقيمته ما يقوم مقامه إذا كان محبوسًا على ناس ببعض الثغور، ثم انتقلوا إلى ثغر آخر، فشراء البدل بالثغر الذي هو فيه مضمون أولي من شرائه بثغر آخر. وإن كان الفرس حبيسًا على جميع المسلمين فهو بمنزلة الوقف على جهة عامة؛ كالمساجد، والوقف على المساكين.
ومما يبين هذا: أن الوقف لو كان منقولا؛ كالنور، والسلاح، وكتب العلم؛ وهو وقف على ذرية رجل بعينهم، جاز أن يكون مقر الوقف حيث كانوا، بل كان هذا هو المتعين، بخلاف ما لو أوقف على أهل بلد بعينه.
لكن إذا صار له عوض، هل يشتري به ما يقوم مقامه إذا كان العوض منقولا؟ فأن يشتري بهذا العوض في بلد مقامهم أولي من أن يشتري به في مكان العقار الأول، إذا كان ذلك أصلح لهم؛ إذ ليس في تخصيص مكان العقار الأول مقصود شرعي، ولا مصلحة لأهل الوقف. وما لم يأمر به الشارع ولا مصلحة فيه للإنسان فليس بواجب ولا مستحب. فعلم أن تعيين المكان الأول ليس بواجب ولا مستحب لمن يشتري بالعوض ما يقوم مقامه، بل العدول عن ذلك جائز. وقد يكون مستحبًا، وقد يكون واجبًا إذا تعينت المصلحة فيه. والله أعلم.
باب الهبة والعطية
سئل عن الصدقة والهدية أيهما أفضل
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن الصدقة والهدية أيهما أفضل؟
فأجاب:
الحمد لله، الصدقة: ما يعطي لوجه الله عبادة محضة من غير قصد في شخص معين ولا طلب غرض من جهته، لكن يوضع في مواضع الصدقة كأهل الحاجات، وأما الهدية فيقصد بها إكرام شخص معين؛ إما لمحبة وإما لصداقة؛ وإما لطلب حاجة؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقبل الهدية، ويثيب عليها، فلا يكون لأحد عليه مِنة، ولا يأكل أوساخ الناس التي يتطهرون بها من ذنوبهم، وهي الصدقات، ولم يكن يأكل الصدقة لذلك وغيره.
وإذا تبين ذلك، فالصدقة أفضل، إلا أن يكون في الهدية معني تكون به أفضل من الصدقة، مثل الإهداء لرسول الله ﷺ في حياته محبة له. ومثل الإهداء لقريب يصل به رحمه، وأخ له في الله، فهذا قد يكون أفضل من الصدقة.
سئل عمن وهب أو أباح لرجل شيئا مجهولا
وسئل عمن وهب أو أباح لرجل شيئًا مجهولا: هل يصح؟ كما لو أباحه ثمر شجرة في قابل؟ ولو أراد الرجوع هل يصح؟
فأجاب:
تنازع العلماء في هبة المجهول: فجوزه مالك، حتى جوز أن يهب غيره ما ورثه من فلان، وإن لم يعلم قدره، وإن لم يعلم أثلث هو أم ربع؟ وكذلك إذا وهبه حصة من دار ولا يعلم ما هو، وكذلك يجوز هبة المعدوم كأن يهبه ثمر شجره هذا العام، أو عشرة أعوام، ولم يجوز ذلك الشافعي. وكذلك المعروف في مذهب أبي حنيفة وأحمد المنع من ذلك، لكن أحمد وغيره يجوز في الصلح على المجهول والإبراء منه ما لا يجوزه الشافعي. وكذلك أبو حنيفة يجوز من ذلك ما لا يجوزه الشافعي.
فإن الشافعي يشترط العلم بمقدار المعقود عليه في عامة العقود، حتى عوض الخلع والصداق، وفيما شرط على أهل الذمة. وأكثر العلماء يوسعون في ذلك. وهو مذكور في موضعه. ومذهب مالك في هذا أرجح.
وهذه المسألة متعلقة بأصل آخر، وهو: أن عقود المعاوضة؛ كالبيع، والنكاح، والخلع تلزم قبل القبض. فالقبض موجب العقد ومقتضاه ليس شرطا في لزومه. والتبرعات، كالهبة، والعارية، فمذهب أبي حنيفة والشافعي أنها لا تلزم إلا بالقبض، وعند مالك تلزم بالعقد. وفي مذهب أحمد نزاع، كالنزاع في المعين: هل يلزم بالعقد أم لابد من القبض؟ وفيه عنه روايتان. وكذلك في بعض صور العارية. وما زال السلف يعيرون الشجرة ويمنحون المنايح، وكذلك هبة الثمر واللبن الذي لم يوجد، ويرون ذلك لازما ولكن هذا يشبه العارية؛ لأن المقصود بالعقد يحدث شيئًا بعد شيء كالمنفعة؛ ولهذا كان هذا مما يستحقه الموقوف عليه، كالمنافع؛ ولهذا تصح المعاملة بجزء من هذا؛ كالمساقاة. وأما إباحة ذلك فلا نزاع بين العلماء فيه وسواء كان ما أباحه معدوما أو موجودا، معلوما أو مجهولا، لكن لا تكون الإباحة عقد لازما كالعارية عند من لا يجعل العارية عقدا لازما؛ كأبي حنيفة والشافعي. وأما مالك فيجعل ذلك لازما إذا كان محدودا بشرط أو عرف، وفي مذهب أحمد نزاع وتفصيل.
سئل عن امرأة وهبت لزوجها كتابها
وسئل رحمه الله عن امرأة وهبت لزوجها كتابها، ولم يكن لها أب سوي إخوة: فهل لهم أن يمنعوها ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، ليس لإخوتها عليها ولاية ولا حجر، فإن كانت ممن يجوز تبرعها في مالها صحت هبتها، سواء رضوا أو لم يرضوا والله أعلم.
سئل عمن وهب أو أباح لرجل شيئا مجهولا
وسئل رحمه الله عن امرأة لها أولاد غير أشقاء، فخصصت أحد الأولاد، وتصدقت عليه بحصة من ملكها دون بقية إخوته، ثم توفيت المذكورة وهي مقيمة بالمكان المتصدق به: فهل تصح الصدقة أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا لم يقبضها حتى ماتت بطلت الهبة في المشهور من مذهب الأئمة الأربعة. وإن أقبضته إياه لم يجز على الصحيح أن يختص به الموهوب له، بل يكون مشتركا بينه وبين إخوته. والله أعلم.
فصل العقود التي يشترط القبض في لزومها واستقرارها
وقال:
وأما العقود التي يشترط القبض في لزومها واستقرارها، كالصدقة، والهبة والرهن، والوقف عند من يقول: إن القبض شرط في لزومه فهذا أيضًا يصح في المشاع عند جمهور العلماء؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، ولم يجوزها أبو حنيفة. قال: لأن القبض شرط فيها، وقبضها غير ممكن قبل القسمة، وأما الجمهور فقالوا: تقبض في هذه العقود كما تقبض في البيع، وإن كان القبض من موجب البيع ليس شرطًا في صحته ولا لزومه. ويقبض ما لا ينقسم؛ فإنهم اتفقوا على جواز هبته مشاعا؛ لتعذر القسمة فيه.
ثم إذا وهب المشاع الذي تصح هبته بالاتفاق؛ كالذي لا ينقسم، والمتنازع فيه عند من يجوز هبته؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، وقبض ذلك قبض مثله، وحازه الموهوب له، والمتصدق عليه، لزم بذلك باتفاق المسلمين؛ يتصرف فيه بأنواع التصرفات الجائزة في المشاع. فإن شاء أن يبيعه أو يهبه، وإن شاء تهايآ هو والمتهب فيه بالمكان أو بالزمان. وإن شاءا أكرياه جميعًا؛ كما يفعل ذلك كل شريكين للشقص مع مالك الشقص الذي لم يوهب. وإن تصرف فيه بالمساكنة للمتهب مهايأة أو غير مهايأة لا ينقص الهبة ولا يبطلها. ومن قال غير ذلك فقد خرق إجماع المسلمين.
وما فعله الفقهاء من أصحاب مالك في كتبهم؛ من اشتراط الخيار، وأن بقاءه في يد الواهب بإكراء، أو استعارة، أو غيرها يبطل الحيازة، وأن حيازة المتهب له ثم عوده إلى الواهب في الزمن القريب يبطل حيازته، وفي الزمن الطويل كالسنة نزاع، وأنه إذا مرض أو أفلس قبل الحيازة بطلت، ونحو ذلك. ومثل تنازعهم: هل يجبر على الإقباض أم لا؟ وعند أبي حنيفة والشافعي لا يجبر، وعند مالك يجبر، وعند أحمد في الغبن روايتان. وأمثال هذه المسائل فهذا كله في نفس الموهوب المفرد والمشاع.
فأما النصف الباقي على ملك الواهب فهم متفقون اتفاقا معلوما عند علماء الشريعة بالاضطرار من دين الإسلام أن تصرف المالك فيه لا يبطل ما وقع من الهبة والحيازة السابقة في النصيب. ومتفقون على أن هذين الشريكين يتصرفان كتصرف الشركاء. ومن توهم من المتفقهة أنه بعد إقباض النصيب المشاع إذا تساكنا في الدار، فسكن هذا في النصف الباقي له، وهذا في النصف الآخر مهايأة أو غير مهايأة أن ذلك ينقض الهبة كما لو كان السكنى في نفس الموهوب، كما يقوله مالك في ذلك فقد خرق إجماع المسلمين، وهو من أبعد الناس عن مذاق الفقه ومعرفة الشريعة.
فإن هذا لو كان صحيحًا لكان الواهب للمشاع يتعطل انتفاعه بما بقي له، وكان بمنزلة واهب الجميع؛ ولأن الفقهاء إنما ذكروا ذلك في الموهوب؛ لأن بقاء يد الواهب عليه وعوده إليه في المدة اليسيرة يمتنع معها الحوز في العادة، وربما كان ذلك ذريعة إلى الهبة من غير حوز فيظهر سكناها بطريق العارية حيلة؛ ولهذا روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: ما بال أقوام يعطي أحدهم ولده العطية، فإن مات ولده قال: مالى وفي يدي، وإن مات هو قال: كنت وهبته، لا يثبت من الهبة إلا ما حازه الولد من مال والده. ثم سألوه عن الصغير فقال: حوز والده حوز له. وبهذا أخذ مالك وغيره. وهذا ظاهر في نفس الأمر مفردًا كان أو مشاعًا.
فأما النصيب الآخر الذي لم يوهب، فهو بمنزلة عين أخرى لم توهب؛ يتصرف تصرف الشريك، بحيث لو احتاج إلى عمارة أجبر على ذلك عند أحمد ومالك في ظاهر مذهبه، وبحيث تجب فيه الشفعة. وإذا كان قسمة عينه تمكن قسم إن كان قابلا للقسمة. وإن لم يقبلها: فهل يجبر على البيع إذا طلبه الآخر ليقتسما الثمن؟ فيه قولان للعلماء. والإجبار قول مالك، وأبي حنيفة وأحمد. وعدمه قول الشافعي. وهذا واضح على من له في الفقه بالشريعة أدني إلمام، إذا كان يفهم مأخذ الفقهاء، ولكن من لم يميز إذا رأي ما ذكروه من الفروع في الموهوب وخيل إليه أن هذا فيه وفي النصيب الآخر، كان هذا بعيدا من التميز في الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية، وليست هذه المسألة مما تقبل النزاع والخلاف أصلا.
ومن العجب أنهم يطلبون النقل في هذه المسألة من كتاب الهبة والصدقة ونحو ذلك، وليس هذا موضعها، وإنما موضعها كتاب الشركة والقسمة ونحو ذلك، فإن السؤال إنما وقع عن التصرف في الشقص الباقي لم يقع في النصيب الموهوب، وإن تخيل متخيل أن التساكت يقتضي ثبوت يد كل منهما على الجميع. قيل له: فحينئذ تكون يد كل من الشريكين على جميع المشترك، وإن صح هذا لم يصح يد المشترك بحال، فإن أبا حنيفة إنما قاله فيما يقبل القسمة، ثم إذا قدر أن يد الشريك على الجميع فهذه لا تمنع الحيازة المعتبرة في المشاع؛ فإنه إذا وهب شقصا من عين فإنما عليه أن يقبض الموهوب فقط، مع بقاء يده على ما لم يهبه، سواء قيل: إن بقاء يده على نصيبه يعم الجميع، أو لا يعم. فعلم أن استيلاء الشريك الواهب على نصيبه وتصرفه فيه لا يمنع الحوز ابتداء، ولا يمنعه دوامًا باتفاق المسلمين.
سئل عمن وهب ربع مكان فتبين أقل من ذلك
وسئل عمن وهب ربع مكان، فتبين أقل من ذلك، هل تبطل الهبة؟
فأجاب:
لا تبطل.
وسئل عن رجل له بنتان ومطلقة حامل وكتب لابنتيه ألفي دينار
وسئل رحمه الله عن رجل له بنتان، ومطلقة حامل، وكتب لابنتيه ألفي دينار، وأربع أملاك، ثم بعد ذلك ولد للمطلقة ولد ذكر، ولم يكتب له شيئًا، ثم بعد ذلك توفي الوالد وخلف موجودًا خارجا عما كتبه لبنتيه، وقسم الموجود بينهم على حكم الفريضة الشرعية: فهل يفسخ ما كتب للبنات، أم لا؟
فأجاب:
هذه المسألة فيها نزاع بين أهل العلم: إن كان قد ملك البنات تمليكًا تاما مقبوضًا. فأما أن يكون كتب لهن في ذمته ألفي دينار من غير إقباض، أو أعطاهن شيئًا ولم يقبضه لهن، فهذا العقد مفسوخ، ويقسم الجميع بين الذكر والأنثيين. وأما مع حصول القبض، ففيه نزاع. وقد روي أن سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده، فلما مات ولد له حمل، فأمر أبو بكر وعمر أن يعطي الحمل نصيبه من الميراث، فلهذا ينبغي أن يفعل بهذا كذلك؛ فإن النبي ﷺ قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، وقال: (إني لا أشهد على جور) لمن أراد تخصيص بعض أولاده بالعَطِيةِ. وعلى البنات أن يتقين الله ويعطين الابن حقه.
وقول النبي ﷺ للذي خصص بعض أولاده: (أشْهِد على هذا غيري) تهديدًا له؛ فإنه قال: اردده، وقد رده ذلك الرجل. وأما إذا وصى لهن بعد موته فهي غير لازمة باتفاق العلماء. والصحيح من قولي العلماء أن هذا الذي خص بناته بالعطية دون حمله يجب عليه أن يرد ذلك في حياته، كما أمر النبي ﷺ، وإن مات ولم يرده رد بعد موته على أصح القولين أيضا؛ طاعة لله ولرسوله، واتباعا للعدل الذي أمر به؛ واقتداء بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ولا يحل للذي فضل أن يأخذ الفضل، بل عليه أن يقاسم إخوته في جميع المال بالعدل الذي أمر الله به. والله سبحانه وتعالى أعلم.
سئل عن رجل له جارية فأذن لولده أن يستمتع بالجارية
وسئل عن رجل له جارية، فأذن لولده أن يستمتع بالجارية المذكورة، ويطأها ولم يصدر منه تمليك له بالجارية، ولا هبة، ولا غير ذلك، وأن الجارية حصل لها ولد من ولد مالك الجارية المذكورة. فهل يكون الإذن في الاستمتاع والوطء تمليكًا للولد؟ وهل يكون الولد حرًا، وتكون الجارية أم ولد لولد مالك الجارية فيحرم بيعها للمالك والد الصبي الآذن لولده في استمتاعها ووطئها؟
الجواب:
الحمد لله. هذه المسألة تبنى على أصلين:
أحدهما: صفة العقود. ومذهب مالك وأحمد في المشهور من مذهبه وغيرهما أن البيع والهبة والإجارة لا تفتقر إلى صيغة، بل يثبت ذلك بالمعاطاة، فما عده الناس بيعا أو هبة أو إجارة فهو كذلك. ومذهب الشافعي المشهور اعتبار الصيغة، إلا في مواضع مستثناة. وحيث كان ذلك بالصيغة فليس لذلك عند الجمهور صيغة محدودة في الشرع، بل المرجع في الصيغة المفيدة لذلك إلى عرف الخطاب. وهذا مذهب الجمهور، ولذلك صححوا الهبة بمثل قوله: أعمرتك هذه الدار، وأطعمتك هذا الطعام، وحملتك على هذه الدابة، ونحو ذلك مما يفهم منه أهل الخطاب به الهبة. وتجهيز المرأة بجهازها إلى بيت زوجها تمليك، كما أفتى به أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما.
وذلك أن الله ذكر البيع والإجارة والعطية مطلقا في كتابه، ليس لها حد في اللغة ولا الشرع فيرجع فيها إلى العرف. والمقصود بالخطاب إفهام المعاني، فأي لفظ دل عليه مقصود العقد انعقد به. وعلى هذا قاعدة الناس إذا اشترى أحد لابنه أمة، وقال: خذها لك استمتع بها ونحو ذلك كان هذا تمليكا عندهم.
وأيضا، فمن كان يعلم أن الأمة لا توطأ إلا بملك إذا أذن لابنه في الاستمتاع بها لا يكون مقصوده إلا تمليكها؛ فإن كان قد حصل ما يدل على التمليك على قول جمهور العلماء وهو أصح قوليهم كان الابن واطئا في ملكه، وولده حر لاحق النسب، والأمة أم ولد له، لا تباع، ولا توهب ولا تورث. وأما إن قدر أن الأب لم يصدر منه تمليك بحال، واعتقد الابن أنه قد ملكها، كان ولده أيضا حرًا، ونسبه لاحق، ولا حد عليه. وإن اعتقد الابن أيضا أنه لم يملكها ولكن وطئها بالإذن، فهذا ينبني على الأصل الثاني فإن العلماء اختلفوا فيمن وطئ أمة غيره بإذنه. قال مالك: يملكها بالقيمة حبلت أو لم تحبل. وقال الثلاثة: لا يملكها بذلك. فعلى قول مالك: هي أيضا ملك للولد، وأم ولد له، وولده حر. وعلى قول الثلاثة: الأمة لا تصير أم ولد، لكن الولد هل يصير حرًا مثل أن يطأ جارية امرأته بإذنها؟ فيه عن أحمد روايتان: إحداهما: لا يكون حرًا، وهذا مذهب أبي حنيفة، وإن ظن أنها حلال له. الثاني: أن الولد يكون حرًا، وهذا هو الصحيح إذا ظن الواطئ أنها حلال، فهو المنصوص عن الشافعي وأحمد في المرتهن، فإذا وطئ الأمة المرهونة بإذن الراهن، وظن أن ذلك جائز، فإن ولده ينعقد حرًا؛ لأجل الشبهة؛فإن شبه الاعتقاد أو الملك يسقط الحد باتفاق الأئمة. فكذلك يؤثر في حرية الولد ونسبه، كما لو وطئها في نكاح فاسد، أو مالك فاسد، فإن الولد يكون حرًا باتفاق الأئمة. وأبو حنيفة يخالفهما في هذا، ويقول: الولد مملوك. وأما مالك فعنده أن الواطئ قد ملك الجارية بالوطء المأذون فيه.
وهل على هذا الواطئ بالإذن قيمة الولد؟ فيه قولان للشافعي: أحدهما وهو المنصوص عن أحمد: أنه لا تلزمه قيمته؛ لأنه وطئ بإذن المالك، فهو كما لو أتلف ماله بإذنه. والثاني: تلزمه قيمته، وهو قول بعض أصحاب أحمد. ومن أصحاب الشافعي من زعم أن هذا مذهبه قولا واحدًا. وأما المهر فلا يلزمه في مذهب أحمد ومالك وغيرهما. وللشافعي فيه قولان أحدهما: يلزمه كما هو مذهب أبي حنيفة. وكل موضع لا تصير الأمة أم ولد فإنه يجوز بيعها.
سئل عن امرأة تصدقت على ولدها في حال صحتها وسلامتها
وسئل عن امرأة تصدقت على ولدها في حال صحتها وسلامتها بحصة من كل ما يحتمل القسمة، من مدة تزيد على عشر سنين، وماتت المتصدقة، ثم تصدق المتصدق عليه بجميع ما تصدقت به والدته عليه على ولده في حياته، وثبت ذلك جميعه بعد وفاة المتصدقة الأولى عند بعض القضاة، وحكم به: فهل لبقية الورثة أن تبطل ذلك بحكم استمراره بالسكنى بعد تسليمه لولدها المتصدق عليه أم لا؟
فأجاب رحمه الله:
إذا كانت هذه الصدقة لم تخرج عن يد المتصدق حتى مات بطلت باتفاق الأئمة في أقوالهم المشهورة. وإذا أثبت الحاكم ذلك لم يكن إثباته لذلك العقد موجبا لصحته. وأما الحكم بصحته وله ورثة والحالة هذه فلا يفعل ذلك حاكم عالم، إلا أن تكون القضية ليست على هذه الصفة، فلا يكون حينئذ حاكمًا. وإما أن تكون الصدقة قد أخرجها المتصدق عن يده إلى من تصدق عليه، وسلمها التسليم الشرعي، فهذه مسألة معروفة عند العلماء، فإن لم يكن المعطي أعطي بقية الأولاد مثل ذلك، وإلا وجب عليه أن يرد ذلك، أو يعطي الباقين مثل ذلك؛ لما ثبت في الصحيح عن النعمان بن بشير قال: نحلني أبي غلاما، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضي حتى تشهد رسول الله ﷺ، فأتيت النبي ﷺ، وقلت: إني نحلت ابني غلاما، وإن أمه قالت: لا أرضي حتى تشهد رسول الله ﷺ قال: (لك ولد غيره؟ ). قلت: نعم. قال: (فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ ). قلت: لا. قال: (أشهد على هذا غيري). وفي رواية: (لا تشهدني؛ فإني لا أشهد على جور، واتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم. اردده) فرده. والله أعلم.
سئل عن دار لرجل وأنه تصدق منها بالنصف والربع
وسئل عن دار لرجل، وأنه تصدق منها بالنصف والربع على ولده لصلبه، والباقي وهو الربع تصدق به على أخته شقيقته، ثم بعد ذلك توفي ولده الذي كان تصدق عليه بالنصف والربع، ثم إن المتصدق تصدق بجميع الدار على ابنته: فهل تصح الصدقة الأخيرة، ويبطل ما تصدق به أم لا؟
فأجاب:
إذا كان قد ملك أخته الربع تمليكا مقبوضًا، وملك ابنه الثلاثة أرباع، فملك الأخت ينتقل إلى ورثتها، لا إلى البنت، وليس للمالك أن ينقله إلى ابنته. والله أعلم.
سئل عن امرأة ماتت ولها أب وأم وزوج وهي رشيدة
وسئل رحمه الله تعالى عن امرأة ماتت ولها أب وأم وزوج وهي رشيدة، وقد أخذ أبوها القماش، ولم يعط الورثة شيئًا؟
فأجاب:
لا يقبل منه ذلك، بل ما كان في يدها من المال فهو لها ينتقل إلى ورثتها. وإن كان هو اشتراه وجهزها به على الوجه المعتاد في الجهاز فهو تمليك لها. فليس له الرجوع بعد موتها.
سئل هل لمن أهدي كلب صيد
وسئل: هل لمن أهدي كلب صيد فأهدي للمهدي عوضا هل له أكل هذه الهدية؟
فأجاب:
إذا أعطي الكلب المعلم، ولم يكن من نيته أن يأخذ عوضا ولا قصد بالهدية الثواب، بل إكرامًا للمهدي إليه، ثم إن المهدي إليه أعطاه شيئًا، فلا بأس.
سئل عما إذا وهب لإنسان شيئا ثم رجع فيه
وسئل رحمه الله تعالى عما إذا وهب لإنسان شيئًا ثم رجع فيه: هل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (ليس لواهب أن يرجع في هبته، إلا الوالد فيما وهبه لولده). وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، إلا أن يكون المقصود بالهبة المعاوضة؛ مثل من يعطي رجلا عطية ليعاوضه عليها، أو يقضي له حاجة: فهذا إذا لم يوف بالشرط المعروف لفظًا أو عرفا فله أن يرجع في هبته أو قدرها. والله أعلم.
سئل عن الرجل يهب الرجل شيئا ثم يحصل بينهما شنئان
وسئل عن الرجل يهب الرجل شيئًا: إما ابتداء، أو يكون دينا عليه، ثم يحصل بينهما شنئان فيرجع في هبته: فهل له ذلك؟ وإذا أنكر الهبة وحلف الموهوب له أنه لا يستحق الواهب في ذمته شيئًا: هل يحنث أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، ليس لواهب أن يرجع في هبته، غير الوالد، إلا أن تكون الهبة على جهة المعاوضة لفظا أو عرفا، فإذا كانت لأجل عوض ولم يحصل فللواهب الرجوع فيها. والله أعلم.
سئل عمن وهب لابنه هبة ثم تصرف فيها وادعى أنها ملكه
وسئل عمن وهب لابنه هبة، ثم تصرف فيها وادعي أنها ملكه: فهل يتضمن هذا الرجوع في الهبة أم لا؟
فأجاب:
نعم، يتضمن ذلك الرجوع. والله أعلم.
سئل عن رجل وهب لإنسان فرسا ثم بعد ذلك بمدة طلب منه أجرتها
وسئل عن رجل وهب لإنسان فرسا، ثم بعد ذلك بمدة طلب الواهب منه أجرتها، فقال له: ما أقدر على شيء، وإلا فرسك خذها. قال الواهب: ما آخذها إلا أن تعطيني أجرتها: فهل يجوز ذلك، وتجوز له أجرة أم لا؟
فأجاب:
إذا أعاد إليه العين الموهوبة فلا شيء له غير ذلك، وليس له المطالبة بأجرتها، ولا مطالبته بالضمان؛ فإنه كان ضامنا لها وكان يطعمها بانتفاعه بها مقابلة لذلك.
سئل عن رجل قدم لأمير مملوكا على سبيل التعويض
وسئل رحمه الله عن رجل قدم لأمير مملوكًا على سبيل التعويض المعروف بين الناس من غير مبايعة، فمكث الغلام عند الأمير مدة سنة يخدمه، ثم مات الأمير: فهل لصاحب المملوك التعلق على ورثة الأمير بوجه؛ بثمن، أو أجرة خدمة، أو بحال من الأحوال؟
فأجاب:
نعم إذا وهبه بشرط الثواب لفظا أو عرفا فله أن يرجع في الموهوب، ما لم يحصل له الثواب الذي استحقه، إذا كان الموهوب باقيا؛ وإن كان تالفا فله قيمته أو الثواب. والثواب هنا هو العوض المشروط على الموهوب.
سئل عن رجل أهدى الأمير هدية لطلب حاجة
وسئل عن رجل أهدي الأمير هدية لطلب حاجة، أو التقرب أو للاشتغال بالخدمة عنده، أو ما أشبه ذلك: فهل يجوز أخذ هذه الهدية على هذه الصورة أم لا؟ وإن أخذ الهدية انبعثت النفس إلى قضاء الشغل، وإن لم يأخذ لم تنبعث النفس في قضاء الشغل: فهل يجوز أخذها وقضاء شغله، أو لا يأخذ ولا يقضي؟ ورجل مسموع القول عند مخدومه إذا أعطوه شيئًا للأكل أو هدية لغير قضاء حاجة: فهل يجوز أخذها؟ وإن ردها على المهدي انكسر خاطره: فهل يحل أخذ هذا أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، في سنن أبي داود وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: (من شفع لأخيه شفاعة فأهدي له هدية فقبلها فقد أتي بابا عظيما من أبواب الربا).
وسئل ابن مسعود عن السُّحت؟ فقال: هو أن تشفع لأخيك شفاعة فيهدي لك هداية فتقبلها. فقال له: أرأيت إن كانت هدية في باطل؟ فقال: ذلك كفر { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [67]
ولهذا قال العلماء: إن من أهدي هدية لولي أمر ليفعل معه ما لا يجوز، كان حراما على المهدي والمهدي إليه. وهذه من الرشوة التي قال فيها النبي ﷺ: (لعن الله الراشي والمرتشي)، والرشوة تسمى البرطيل. والبرطيل في اللغة: هو الحجر المستطيل فاه. فأما إذا أهدي له هدية ليكف ظلمه عنه، أو ليعطيه حقه الواجب، كانت هذه الهدية حراما على الآخذ، وجاز للدافع أن يدفعها إليه، كما كان النبي ﷺ يقول: (إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارًا). قيل: يا رسول الله، فلم تعطيهم؟ قال: (يأبون إلا أن يسألوني، ويأبي الله لي البخل).
ومثل ذلك إعطاء من أعتق وكتم عتقه، أو أسر خبرا، أو كان ظالما للناس فأعطاء هؤلاء: جائز للمعطي، حرام عليهم أخذه. وأما الهدية في الشفاعة؛ مثل أن يشفع لرجل عند ولي أمر ليرفع عنه مظلمة، أو يوصل إليه حقه، أو يوليه ولاية يستحقها، أو يستخدمه في الجند المقاتلة وهو مستحق لذلك أو يعطيه من المال الموقوف على الفقراء أو الفقهاء أو القراء أو النساك أو غيرهم وهو من أهل الاستحقاق. ونحو هذه الشفاعة التي فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرم، فهذه أيضا لا يجوز فيها قبول الهدية، ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه، أو دفع الظلم عنه. هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الأكبار.
وقد رخص بعض المتأخرىن من الفقهاء في ذلك، وجعل هذا من باب الجعالة، وهذا مخالف للسنة وأقوال الصحابة والأئمة، فهو غلط؛ لأن مثل هذا العمل هو من المصالح العامة التي يكون القيام بها فرضا؛ إما على الأعيان، وإما على الكفاية، ومتى شرع أخذ الجعل على مثل هذا لزم أن تكون الولاية وإعطاء أموال الفيء والصدقات وغيرها لمن يبذل في ذلك، ولزم أن يكون كف الظلم عمن يبذل في ذلك، والذي لا يبذل لا يولي، ولا يعطي، ولا يكف عنه الظلم، وإن كان أحق وأنفع للمسلمين من هذا. والمنفعة في هذا ليست لهذا الباذل حتى يؤخد منه الجعل على الآبق والشارد. وإنما المنفعة لعموم الناس؛ أعني المسلمين؛ فإنه يجب أن يولي في كل مرتبة أصلح من يقدر عليها، وأن يرزق من رزق المقاتلة والأئمة والمؤذنين وأهل العلم الذين هم أحق الناس وأنفعهم للمسلمين. وهذا واجب على الإمام، وعلى الأمة أن يعاونوه على ذلك، فأخذ جعل من شخص معين على ذلك يفضي إلى أن تطلب هذه الأمور بالعوض، ونفس طلب الولايات منهي عنه، فكيف بالعوض؟ ولزم أن من كان ممكنا فيها يولي ويعطي وإن كان غيره أحق وأولي، بل يلزم تولية الجاهل والفاسق والفاجر وترك العالم العادل القادر وأن يرزق في ديوان المقاتلة الفاسق، والجبان العاجز عن القتال، وترك العدل الشجاع النافع للمسلمين. وفساد مثل هذا كثير.
وإذا أخذ وشفع لمن لا يستحق وغيره أولي، فليس له أن يأخذ ولا يشفع، وتركهما خير. وإذا أخذ وشفع لمن هو الأحق الأولى وترك من لا يستحق، فحينئذ ترك الشفاعة والأخذ أضر من الشفاعة لمن لا يستحق. ويقال لهذا الشافع الذي له الحاجة التي تقبل بها الشفاعة: يجب عليك أن تكون ناصحا لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. ولو لم يكن لك هذا الجاه والمال، فكيف إذا كان لك هذا الجاه والمال؟ فأنت عليك أن تنصح المشفوع إليه فتبين له من يستحق الولاية والاستخدام والعطاء، ومن لا يستحق ذلك، وتنصح للمسلمين بفعل مثل ذلك، وتنصح لله ولرسوله بطاعته؛ فإن هذا من أعظم طاعته، وتنفع هذا المستحق بمعاونته على ذلك، كما عليك أن تصلي، وتصوم، وتجاهد في سبيل الله.
وأما الرجل المسموع الكلام، فإذا أكل قدرا زائدا عن الضيافة الشرعية فلابد له أن يكافئ المطعم بمثل ذلك، أو لا يأكل القدر الزائد، وإلا فقبوله الضيافة الزائدة مثل قبوله للهدية، وهو من جنس الشاهد، والشافع إذا أدي الشهادة وقام بالشفاعة؛ لضيافة أو جعل؛ فإن هذا من أسباب الفساد. والله أعلم.
سئل عن رجل قدم لبعض الأكابر غلاما
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل قدم لبعض الأكابر غلاما، والعادة جارية أنه إذا قدم يعطي ثمنه أو نظير الثمن، فلم يعط شيئًا، وتزوج وجاءه أولاد، وتوفي: فهل أولاده أحرار أم لا؟ وهل يرث أولاد مالك الأصل صاحب العهدة أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا كانت العادة الجارية بالتعويض وأعطاه على هذا الشرط فإنه يستحق أحد الأمرين: إما التعويض، وإما الرجوع في الموهوب.
وأما المملوك، فإنه إذا لم يعتقه الموهوب له فإنه يكون باقيا على ملكه. وأما أولاده فيتبعون أمهم، فإن كانت حرة فهم أحرار، وإن كانت مملوكة فهم ملك لمالكها، لا لمالك الأب؛ إذ الأولاد في المذاهب الأربعة وغيرها يتبعون أمهم في الحرية والرق، ويتبعون أباهم في النسب والولاء.
وإذا لم يرجع الواهب حتى فات الرجوع فله أن يطالب الموهوب له بالتعويض إن كان حيا، وفي تركته إن كان ميتًا؛ كسائر الديون، وإن كان قد عتق وله أولاد من حرة فهم أحرار.
سئل عن رجل اشترى عبدا ووهبه شيئا حتى أثرى العبد
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل اشترى عبدًا ووهبه شيئًا حتى أثري العبد، ثم ظهر أن العبد كان حرًا: فهل يأخذ منه ما وهبه ظنًا منه أنه عبد؟
فأجاب:
نعم، له أخذه.
سئل عن رجل طلق زوجته وسألها الصلح فصالحها
وسئل عن رجل طلق زوجته، وسألها الصلح، فصالحها، وكتب لها دينارين. فقال لها: هبيني الدينار الواحد، فوهبته، ثم طلقها: فهل لها الرجوع في الهبة والحال هذه؟
فأجاب:
نعم، لها أن ترجع فيما وهبته والحال هذه، فإنه سألها الهبة، وطلقها مع ذلك، وهي لم تطلب نفسها أن يأخذ مالها بسؤالها ويطلقها. والله أعلم.
سئل عن رجل وهب لزوجته ألف درهم وكتب بها حجة
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل وهب لزوجته ألف درهم، وكتب عليه بها حجة، ولم يقبضها شيئًا، وماتت، وقد طالبه ورثتها بالمبلغ: فهل له أن يرجع في الهبة؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا لم يكن لها في ذمته شيء قبل ذلك لا هذا المبلغ، ولا ما يصلح أن يكون هذا المبلغ عوضًا عنه؛ مثل أن يكون قد أخذ بعض جهازها وصالحها عن قيمته بهذا المبلغ، ونحو ذلك فإنه لا يستحق ورثتها شيئًا من هذا الدين في نفس الأمر، فإن كان إقرارًا فله أن يحلفهم أنهم لا يعلمون أن باطن هذا الإقرار يخالف ظاهره، وإذا قامت بينة على المقر والمقر له بأن هذا الإقرار تلجئة فلا حقيقة له. ولو كان قيمة ما أقر به من مالها أقل من هذا المبلغ فصالحها على أكثر من قيمته، ففي لزوم هذه الزيادة نزاع بين العلماء، تبطله طوائف من أصحاب الشافعي وأحمد، ويصححه أبو حنيفة، وهو قياس قول أحمد وغيره، وهو الصحيح. والله أعلم.
سئل عن رجل عليه دين وله مال
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل عليه دين، وله مال يستغرقه الدين، ويفضل عليه من الدين، وأوهب في مرض موته لمملوك معتوق من ذلك المال: فهل لأهل الدين استرجاعه أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم، إذا كان عليه دين مستغرق لماله فليس له في مرض الموت أن يتبرع لأحد بهبة، لا محاباة، ولا إبراء من دين، إلا بإجازة الغرماء، بل ليس للورثة حق إلا بعد وفاء الدين. وهذا باتفاق المسلمين، كما أن النبي ﷺ قضي بالدين قبل الوصية، والتبرع في مرض الموت كالوصية باتفاق الأئمة الأربعة.
سئل عن رجل مات وخلف
وسئل عن رجل مات وخلف ولدين ذكرين، وبنتًا، وزوجة، وقسم عليهم الميراث؛ ثم إن لهم أختًا بالمشرق: فلما قدمت تطلب ميراثها فوجدت الولدين ماتا، والزوجة أيضًا، ووجدت الموجود عند أختها، فلما ادعت عليها، وألزمت بذلك، فخافت من القطيعة بينهما، فأشهدت على نفسها بأنها أبرأتها، فلما حصل الإبراء منها حلف زوجها بالطلاق أن أختها لا تجيءإليها، ولا هي تروح لها، والمذكورة لم تهبها المال إلا لتحصيل الصلة والمودة بينهما، ولم يحصل غرضها، فهل لها الرجوع في الهبة؟ وهل يمنع الإبراء أن تدعي بذلك وتطلب أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا كانت قد قالت عند الهبة: أنا أهب أختي لتعينني على أموري، ونتعاون أنا وهي في بلاد الغربة. أو قالت لها أختها: هبيني هذا الميراث، قالت: ما أوهبك إلا لتخدميني في بلاد الغربة، ثم أوهبتها، أو جري بينهما من الاتفاق ما يشبه ذلك؛ بحيث وهبتها لأجل منفعة تحصل لها منها، فإذا لم يحصل لها الغرض فلها أن تفسخ الهبة، وترجع فيها. فالعوض في مثل هذه الهبة فيه قولان في مذهب أحمد وغيره. قيل: إن منفعته تكون بقدر قيمة ذلك. والله أعلم.
سئل عن امرأة لها زوج ولها عليه صداق
وسئل عن امرأة لها زوج، ولها عليه صداق، فلما حضرتها الوفاة أحضرت شاهد عدل وجماعة نسوة، وأشهدت على نفسها أنها أبرأته من الصداق: فهل يصح هذا الإبراء أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إن كان الصداق ثابتًا عليه إلى أن مرضت مرض الموت لم يصح ذلك إلا بإجازة الورثة الباقين. وأما إن كانت أبرأته في الصحة جاز ذلك، وثبت بشاهد ويمين عند مالك والشافعي وأحمد. وثبت أيضا بشهادة امرأتين ويمين عند مالك، وقول في مذهب أحمد. وإن أقرت في مرضها أنها أبرأته في الصحة لم يقبل هذا الإقرار عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما، ويقبل عند الشافعي. وقد قال النبي ﷺ: (إن الله قد أعطي كل ذي حظ حظه، فلا وصية لوارث). وليس للمريض أن يخص الوارث بأكثر مما أعطاه الله.
سئل عن رجل خص بعض الأولاد على بعض
وسئل رحمه الله عن رجل خص بعض الأولاد على بعض؟
فأجاب:
ليس له في حال مرضه أن يخص أحدًا منهم بأكثر من قدر ميراثه باتفاق المسلمين، وإذا فعل ذلك فلباقي الورثة رده وأخذ حقوقهم، بل لو فعل ذلك في صحته لم يجز ذلك في أصح قولي العلماء، بل عليه أن يرده كما أمر النبي ﷺ أن يرده حيًا وميتًا. ويرده المخصص بعد موته.
سئل عن رجل أعطى بعض أولاده شيئا ولم يعط الآخر
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أعطي بعض أولاده شيئًا ولم يعط الآخر؛ لكون الأول طائعا له: فهل له بر من أطاعه، وحرمان من عصاه، وحلف الذي لم يعطه بالطلاق أنه لا يكلم أباه إن لم يواسيه: فهل له مخرج؟ وهل اليمين بالطلاق تجري مجري الأيمان أم لا؟
فأجاب:
على الرجل أن يعدل بين أولاده، كما أمر الله ورسوله، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لبشير بن سعد لما نحل ابنه النعمان نحلا، وأتي النبي ﷺ ليشهده على ذلك، فقال له: (اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)، وقال: (لا تشهدني على هذا؛ فإني لا أشهد على جور)، وقال له: (اردده) فرده بشير. وقال له على سبيل التهديد: (أشهد على هذا غيري).
لكن إذا خص أحدهما بسبب شرعي؛ مثل أن يكون محتاجا مطيعا لله، والآخر غني عاص يستعين بالمال على المعصية، فإذا أعطي من أمر الله بإعطائه ومنع من أمر الله بمنعه فقد أحسن.
وأما الذي حلف أنه لا يكلم أباه، فأيما يمين من أيمان المسلمين حلف بها الرجل فعليه إذا حنث كفارة يمين. وأي يمين حلف عليها ورأي الحنث خيرا من الإصرار عليها فإنه يكفر عن يمينه ويحنث، كما دل عليه الكتاب والسنة وسواء حلف باسم الله، أو بالنذر، أو بالطلاق، أو العتاق، أو الظهار، أو الحرام، كقوله: إن فعلت كذا فمالى صدقة، وعلى عشر حجج، وعلى صوم سنة، ونسائي طوالق، وعبيدي أحرار، ونحو ذلك، فكل ما كان من أيمان المسلمين أجزأت فيه كفارة.
وما لم يكن من أيمان المسلمين، كالحلف بالكعبة، والمشايخ والملوك والآباء؛ فإنها أيمان محرمة، غير منعقدة، ولا حرمة لها. وليس في شرع الله ورسوله إلا يمينان: يمين منعقدة، ففيها الكفارة. ويمين غير منعقدة، فلا شيء فيها إذا حنث. ومن أثبت من العلماء يمينا منعقدة غير مكفرة، فقوله ضعيف، مخالف للكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس الجلي. والله أعلم.
سئل عن رجل نحل البنات دون الذكور
وسئل عن رجل له أولاد ذكور، وإناث. فنحل البنات دون الذكور قبل وفاته: فهل يبقي في ذمته شيء أم لا؟
فأجاب:
لا يحل له أن ينحل بعض أولاده دون بعض، بل عليه أن يعدل بينهم، كما أمر النبي ﷺ حيث قال: (اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)، وكان رجل قد نحل بعض أولاده؛ وطلب أن يشهد فقال: (إني لا أشهد على جور)، وأمره برد ذلك، فإن كان ذلك بالكلام ولم يسلم إلى البنات ما أعطاهم حتى مات أو مرض مرض الموت فهذا مردود باتفاق الأئمة، وإن كان فيه خلاف شاذ. وإن كان قد أقبضهم في الصحة، ففي رده قولان للعلماء. والله أعلم.
سئل عن رجل ترك أولادا وتزوج الإناث قبل موت أبيهم فأخذوا الجهاز
وسئل عن رجل ترك أولادا ذكورا وإناثا، وتزوج الإناث قبل موت أبيهم فأخذوا الجهاز جملة كثيرة. ثم لما مات الرجل لم يرث الذكور إلا شيئًا يسيرًا، فهل على البنات أن يتحاصوا هم والذكور في الميراث والذي معهم أو لا؟
فأجاب:
يجب على الرجل أن يسوي بين أولاده في العطية، ولا يجوز أن يفضل بعضا على بعض كما أمر النبي ﷺ بذلك، حيث نهي عن الجور في التفضيل، وأمر برده. فإن فعل ومات قبل العدل كان الواجب على من فضل أن يتبع العدل بين إخوته؛ فيقتسمون جميع المال الأول والآخر على كتاب الله تعالى: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } [68]. والله أعلم.
سئل عن رجل وهب لأولاده مماليك
وسئل ر حمه الله تعالى عن رجل وهب لأولاده مماليك ثم قصد عتقهم: فهل الأفضل استرجاعهم منهم وعتقهم، أو إبقاؤهم في يد الأولاد؟
فأجاب:
الحمد لله، إن كان أولاده محتاجين إلى المماليك فتركهم لأولاده أفضل من استرجاعهم وعتقهم، بل صلة ذي الرحم المحتاج أفضل من العتق؛ كما ثبت في الصحيح؛ أن ميمونة زوج النبي ﷺ أعتقت جارية لها فذكرت ذلك للنبي ﷺ فقال: (لو أعطيتها أخوالك كان خيرا لك)، فإذا كان النبي ﷺ قد فضل إعطاء الخال على العتق فكيف الأولاد المحتاجون؟ وأما إن كان الأولاد مستعنين عن بعضهم فعتقه حسن، وله أن يرجع في هذه الهبة عند الشافعي وأحمد وغيرهما، ولا يرجع فيها عند أبي حنيفة. والله أعلم.
سئل عن رجل توفيت زوجته وخلفت أولادا
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل توفيت زوجته، وخلفت أولادًا، وموجودا تحت يده، وليس له قدرة أن يتزوج: فهل له أن يشتري من موجود الأولاد جارية تخدمهم، ويطؤها، ويتزوج من مالهم؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا لم يكن ذلك مضرا بأولاده، فله أن يتملك من مالهم ما يشتري به أمة يطؤها وتخدمهم. والله أعلم.
سئل عن امرأة أعطاها زوجها حقوقها في حال حياته
وسئل عن امرأة أعطاها زوجها حقوقها في حال حياته، ولها منه أولاد، وأعطاها مبلغا عن صداقها لتنفع به نفسها وأولادها. فإن ادعي عليها أحد وأراد أن يحلفها: فهل يجوز لها أن تحلف لنفي الظلم عنها؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا وهب لأولاده منها ما وهبه، وقبض ذلك، ولم يكن فيه ظلم لأحد، كان ذلك هبة صحيحة، ولم يكن لأحد أن ينتزعه منها. وإذا كان قد جعل نصيب الأولاد إليها حيا وميتا، وهي أهل لم يكن لأحد نزعه منها. وإذا حلفت، تحلف أن عندها للميت شيء. والله أعلم.
سئل عن رجل تصدق على ولده بصدقة
وسئل عن رجل تصدق على ولده بصدقة، ونزلها في كتاب زوجته، وقد ضعف حال الوالد، وجفاه ولده: فهل له الرجوع في هبته أم لا؟
فأجاب:
إذا كان قد أعطاه للمرأة في صداق زوجته، لم يكن للإنسان أن يرجع فيه باتفاق العلماء.
سئل عن رجل أعطى أولاده الكبار شيئا
وسئل عن رجل أعطي أولاده الكبار شيئًا، ثم أعطي لأولاده الصغار نظيره، ثم إنه قال: اشتروا بالريع ملكا، أوقفوه على الجميع بعد أن قبضوا ما أعطاهم: فهل يكون ذلك رجوعا أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يزول ملك الولدين المملكين بما ذكر؛ إذ ليس ذلك رجوعا في الهبة، ولو كان رجوعا في الهبة لم يجز له الرجوع في مثل هذه الهبة؛ فإنه إذا أعطي الولدين الأخرىن ما عدل به بينهما وبين الباقين فليس له أن يرجع عن العدل الذي أمره الله به ورسوله. كيف وقد قال النبي ﷺ: (اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم)، وقال: (إني لا أشهد على جور)، وقال في التفضيل: (اردده)، وقال على سبيل التهديد للمفضل: (أشهد على هذا غيري). والله أعلم.
سئل عن رجل ملك بنته ملكا ثم ماتت
وسئل عن رجل ملك بنته ملكا، ثم ماتت، وخلفت والدها وولدها: فهل يجوز للرجل أن يرجع فيما كتبه لبنته أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، ما ملكته البنت ملكا تاما مقبوضا وماتت انتقل إلى ورثتها، فلأبيها السدس، والباقي لابنها، إذا لم يكن لها وارث، وليس له الرجوع بعد موت البنت فيما ملكها بالاتفاق.
سئل عن رجل وهب لابنته مصاغا
وسئل عن رجل وهب لابنته مصاغا، لم يتعلق به حق لأحد، وحلف بالطلاق ألا يأخذ منها شيئًا منه، واحتاج أن يأخذ منها شيئًا: فهل له أن يرجع في هبته أم لا؟ وإن أعطته شيئًا من طيب نفسها هل يحنث أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، له أن يرجع فيما وهبه لها، لكنه إن فعل المحلوف عليه حنث. فإن كان قصده ألا يأخذ شيئًا بغير طيب قلبها، أو بغير إذنها، فإن طابت نفسها أو أذنت لم يحنث.
سئل عن رجل له أولاد وهب لهم ماله
وسئل عن رجل له أولاد وهب لهم ماله، ووهب أحدهم نصيبه لولده، وقد رجع الوالد الأول فيما وهبه لأولاده، فردوا عليه، إلا الذي وهبه لولده امتنع: فهل يلزمه أن ينتزعه من ولده، ويسلمه لوالده؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا كان قد وهب لولده شيئًا ولم يتعلق به حق الغير؛ مثل أن يكون قد صار عليه دين، أو زوجوه لأجل ذلك، فله أن يرجع في ذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل ماتت والدته
وسئل عن رجل ماتت والدته، وخلفته ووالده وكريمته، ثم ماتت كريمته، فأراد والده أن يزوجه، فقال: ما أزوجك حتى تملكني ما ورثته عن والدتك، فملكه ذلك، وتصدق عليه بالربع بشهود، ثم بعد ذلك مرض والده مرضا غيب عقله، فرجع فيما تصدق به على ولده، وأوقفها على زوجته وولده وابنته، ولم يذكر ولده، وانتسخ كتاب الوقف مرتين: فهل له أن يخصص أولاده، ويخرج ولده من جميع إرث والدته؟
فأجاب:
إن كان الأب قد أعطي ابنه شيئًا عوضا عما أخذه له، فليس له أن يرجع بذلك بلا نزاع بين العلماء. وأما إن كان تصدق به عليه صدقة لله ففي رجوعه عليه قولان للعلماء. أحدهما: لا يرجع. والثاني: يرجع، عند مالك والشافعي وأحمد. ومتى رجع وعقله غائب، أو أوقف وعقله غائب أو عقد عقدًا، لم يصح رجوعه ولا وقفه؛ إذا كان مغيبا عقله بمرض، بلا نزاع بين العلماء.
سئل عن رجل سرق له مبلغ
وسئل عن رجل سرق له مبلغ، فظن في أحد أولاده أنه هو أخذه، ثم صار يدعو عليه، وهجره، وهو بريء، ولم يكن أخذ شيئًا: فهل يؤجر الولد بدعاء والده عليه؟
فأجاب:
نعم إذا كان الولد مظلوما، فإن الله يكفر عنه بما يظلمه، ويؤجره على صبره، ويأثم من يدعو على غيره عدوانا.
وسئل عن رجل خلف شيئا من الدنيا وتقاسمه أولاده
وسئل رحمه الله عن رجل خلف شيئًا من الدنيا، وتقاسمه أولاده، وأعطوا أمهم كتابها وثمنها، وبعد قليل وجد الأولاد مع أمهم شيئًا يجيء ثلث الوراثة. فقالوا: من أين لك هذا المال؟ فقالت: لما كان أبوكم مريضًا طلبت منه شيئًا فأعطاني ثلث ماله، فأخذوا المال من أمهم، وقالوا: ما أعطاك أبونا شيئًا: فهل يجب رد المال إليها؟
فأجاب:
ما أعطى المريض في مرض الموت لوراثه فإنه لا ينفذ إلا بإجازة الورثة، فما أعطاه المريض لامرأته فهو كسائر ماله، إلا أن يجيز ذلك باقي الورثة. وينبغي للأولاد أن يقروا أمهم، ويجيزوا ذلك لها، لكن لا يجبرون على ذلك، بل تقسم جميع التركة، قال النبي ﷺ: (لا وصية لوارث).
كتاب الوصايا
سئل عمن قال يدفع هذا المال إلى يتامى فلان في مرض موته
سئل رحمه الله تعالى عمن قال: يدفع هذا المال إلى يتامى فلان في مرض موته، ولم يعرف أهذا إقرار؟ أو وصية؟
فأجاب:
إن كان هناك قرينة تبين مراده هل هو إقرار أو وصية عمل بها، وإن لم يعرف: فما كان محكوما له به لم يزل عن ملكه بلفظ مجمل، بل يجعل وصية..
سئل عن مودع مرض مودعه
وسئل عن مودع مرض مودعه فقال له: أما يعرف ابنك بهذه الوديعة؟ فقال: فلان الأسير يجيء ما يقدر على شيء يعود عليه؛ وقصد بذلك أن يكون موصدا له، ولم يزد على ذلك، فإذا خرج من الثلث هل يجوز أن يصرفه في مصالح ذلك الأسير؟
فأجاب:
تنعقد الوصية بكل لفظ يدل على ذلك، كما إذا فهمت المخاطبة من الموصي، ويبقي قبول الوصية في التصرف فيها موقوفا على قبول الموصى له لفظا أو عرفا وعلى إذنه في التصرف فيها، على قبول الموصى له لفظا أو عرفا، وعلى إذنه في التصرف أو إذن الشارع ويجوز صرف مال الأسير في فكاكه بلا إذنه. والله أعلم.
سئل عن رجل كتب وصيته وذكر فيها مالا لزوجته في ذمته
وسئل عن رجل كتب وصيته، وذكر في وصيته: أن في ذمته لزوجته مائة درهم، ولم تكن زوجته تعلم أن لها في ذمته شيئا: فهل يجوز لوصيه بعد موته دفع الدراهم لزوجته بغير يمين، إذا كان قد أقر لها من غير استحقاق؟
فأجاب:
لا يحل لها أن تأخذ من ذلك شيئا؛ فإن هذا يكون وصية لوارث لا يجوز له وصيته بإجماع المسلمين، إلا بإجازة بقية الورثة، وأما في الحكم فلا تعطي شيئا حتى تصدقه على الإقرار في مرض الموت، وإلا كان باطلا عند أكثر العلماء، وإذا صدقته على الإقرار فادعى الوصي أو بعض الورثة أن هذا الإقرار من غير استحقاق كما جرت عادة بعض الناس أنه يجعل الإنشاء إقرارا فإن ذلك بمنزلة أن يدعي في الإقرار أنه أقر قبل القبض. ومثل ذلك قد تنازع العلماء في التحليف عليه. والصحيح أنه يحلف. والصحيح أنها لا تعطي شيئا حتى تحلف.
سئل عن امرأة أعتقت جارية دون البلوغ
وسئل عن امرأة أعتقت جارية دون البلوغ، وكتبت لها أموالها، ولم تزل تحت يدها إلى حال وفاتها أي السيدة المعتقة وخلفت ورثة: فهل يصح تمليكها للجارية؟ أم للورثة انتزاعها؟ أو بعضها؟
فأجاب:
الحمد لله، أما مجرد التمليك بدون القبض الشرعي فلا يلزم به عقد الهبة، بل للوارث أن ينتزع ذلك، وكذلك إن كانت هبة تلجئه بحيث توهب في الظاهر وتقبض مع اتفاق الواهب والموهوب له على أنه ينتزعه منه إذا شاء، ونحو ذلك من الحيل التي تجعل طريقا إلى منع الوارث أو الغريم حقوقهم، فإذا كان الأمر كذلك، كانت أيضًا هبة باطلة. والله أعلم.
سئل عمن أشهد على أبيه أن عنده ثلاثمائة في حجة عن فلانة
وسئل عمن أشهد على أبيه أن عنده ثلاثمائة في حجة عن فلانة، فقال ورثتها: لا يخرج إلا بثلثها، فقال المشهود عليه: أمي تبرع بها. فما الحكم؟
فأجاب:
مجرد هذا الإشهاد لا يوجب أن يكون هذا المال تركة مخلفة يستحق الورثة ثلثيها؛ لاحتمال ألا يكون من مال المرأة، ولاحتمال أن يكون حجة الإسلام الخارجة من صلب التركة. والله أعلم.
سئل عن رجل تصدق على ابنته لصلبه
وسئل رحمه الله عن رجل تصدق على ابنته لصلبه، وأسند وصيته لرجل فآجره مدة ثلاثين سنة؛ وقد توفي الوصي المذكور. ورشد من كان وصية عليها، ولم ترض الموصى عليها بعد رشدها بإجارة الوصي، وأن الوصي أجر ذلك بغير قيمة المثل: فهل تنفسخ الإجارة وتتصرف في ملكها عادة الملاك؟
فأجاب:
لها أن تفسخ هذه الإجارة بلا نزاع بين العلماء، وإنما النزاع هل تقع باطلة من أصلها؟ أو مضمونة على المؤجر؟ والله أعلم.
سئل عن رجل أوصى لأولاده بسهام مختلفة
وسئل عن رجل أوصى لأولاده بسهام مختلفة، وأشهد عليه عند وفاته بذلك فهل تنفذ هذه الوصية؟ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، لا يجوز للمريض تخصيص بعض أولاده بعطية منجزة، ولا وصية بعد الموت، ولا أن يقر له بشيء في ذمته، وإذا فعل ذلك لم يجز تنفيذه بدون إجازة بقية الورثة. وهذا كله باتفاق المسلمين، ولا يجوز لأحد من الشهود أن يشهد على ذلك شهادة يعين بها على الظلم، وهذا التخصيص من الكبائر الموجبة للنار، حتى قد روي أهل السنن ما يدل على الوعيد الشديد لمن فعل ذلك؛ لأنه كالمتسبب في الشحناء وعدم الاتحاد بين ذريته، لاسيما في حقه، فإنه يتسبب في عقوقه وعدم بره.
سئل عن رجل له زرع ونخل فأوصى بالإنفاق من ثلث الوصية
وسئل عن رجل له زرع ونخل. فقال عند موته لأهله: أنفقوا من ثلثي على الفقراء والمساكين إلى أن يولد لولدي ولد فيكون لهم. فهل تصح هذه الوصية أم لا؟
فأجاب:
نعم تصح هذه الوصية؛ فإن الوصية لولد الولد الذين لا يرثون جائزة، كما وصى الزبير بن العوام لولد عبد الله بن الزبير. والوصية تصح للمعدوم بالمعدوم، فيكون الريع للفقراء إلى أن يحدث ولد الولد فيكون لهم. والله أعلم.
سئل عن رجل أوصى لأولاده الذكور دون الإناث
وسئل عن رجل أوصى لأولاده الذكور بتخصيص ملك دون الإناث، وأثبته على يد الحاكم قبل وفاته: فهل يجوز ذلك؟
فأجاب:
لا يجوز أن يخص بعض أولاده دون بعض في وصيته ولا مرض موته باتفاق العلماء، ولا يجوز له على أصح قولي العلماء أن يخص بعضهم بالعطية في صحته أيضًا، بل عليه أن يعدل بينهم، ويرد الفضل، كما أمر النبي ﷺ بشير بن سعيد حيث قال له: (اردده)، فرده، وقال: (إني لا أشهد على جور). وقال له على سبيل التهديد: (أشهد على هذا غيري). ولا يجوز للولد الذي فضل أن يأخذ الفضل، بل عليه أن يرد ذلك في حياة الظالم الجائر، وبعد موته، كما يرد في حياته في أصح قولي العلماء.
سئل عن امرأة وصت لطفلة تحت نظر أبيها
وسئل رحمه الله عن امرأة وصت لطفلة تحت نظر أبيها بمبلغ من ثلث مالها، وتوفىت الموصية، وقبل للطفلة والدها الوصية المذكورة بعد وفاتها، وادعى لها عند الحاكم بما وصت الموصية، وقامت البينة بوفاتها وعليها، بما نسب إليها من الإيصاء، وعلى والدها بقبول الوصية لابنته، وتوقف الحاكم عن الحكم للطفلة بما ثبت لها عنده بالبينة، لتعذر حلفها لصغر سنها: فهل يحلف والدها؟ أو يوقف الحكم إلى البلوغ ويحلفها؟ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يحلف والدها؛ لأنه غير مستحق، ولا يوقف الحكم إلى بلوغها وحلفها، بل يحكم لها بذلك بلا نزاع بين العلماء، ما لم يثبت معارض، بل أبلغ من هذا لو ثبت لصبي أو لمجنون حق على غائب عنه من دين عن مبيع، أو بدل قرض، أو أرش جناية، أو غير ذلك مما لو كان مستحقا بالغا عاقلا: يحلف على عدم الإبراء، أو الاستيفاء في أحد قولي العلماء، ويحكم به للصبي والمجنون، ولا يحلف وليه، كما قد نص عليه العلماء. ولهذا لو ادعى مدع على صبي أو مجنون جناية أو حقا لم يحكم له، ولا يحلف الصبي والمجنون. وإن كان البالغ العاقل لا يقول إلا بيمين، ولها نظائر. هذا فيما يشرع فيه اليمين بالاتفاق، أو على أحد قولي العلماء. فكيف بالوصية التي لم يذكر العلماء تحليف الموصى له فيها، وإنما أخذ به بعض الناس. والوصية تكون للحمل باتفاق العلماء، ويستحقها إذا ولد حيا، ولم يقل مسلم: إنها تؤخر إلى حين بلوغه. ولا يحلف. والله أعلم.
سئل عن امرأة وصت وصايا في حال مرضها
وسئل عن امرأة وصت وصايا في حال مرضها، ولزوجها ولأخيها بشيء، ثم بعد مدة طويلة وضعت ولدا ذكرا، وبعد ذلك توفىت: فهل يبطل حكم الوصية؟
فأجاب:
أما ما زاد على ثلث التركة فهو للوارث، والولد اليتيم لا يتبرع بشيء من ماله. فأما الزوج الوارث فالوصية له باطلة؛ لأنه وارث. وأما الأخ فالوصية له صحيحة؛ لأنه مع الولد ليس بوارث، وإن كان عند الوصية وارثا. فينظر ما وصت به للأخ والناس، فإن وسعه الثلث وإلا قسم بينهم على قدر وصاياها.
سئل عن امرأة ماتت ولم يكن لها وارث سوى ابن أخت لأم
وسئل رحمه الله عن امرأة ماتت ولم يكن لها وارث سوي ابن أخت لأم، وقد أوصت بصدقة أكثر من الثلث: فهل للوصى أن ينفذ ذلك ويعطي ما بقي لابن أختها؟
فأجاب:
يعطي الموصى له الثلث، وما زاد عن ذلك إن أجازه الوارث جاز، وإلا بطل. وابن الأخت يرث المال كله عند من يقول بتوريث ذوي الأرحام، وهو الوارث في هذه المسألة عندهم. وهو مذهب جمهور السلف، وأبي حنيفة، وأحمد، وطوائف من أصحاب الشافعي. وهو قول في مذهب مالك إذا فسد بيت المال. والله أعلم.
سئل عن رجل مات وخلف ستة أولاد ذكور
وسئل عن رجل مات، وخلف ستة أولاد ذكور، وابن ابن، وبنت ابن، ووصى لابن ابنه بمثل نصيب أولاده، ولبنت ابنه بثلث ما بقي من الثلث بعد أن كان يعطي ابن ابنه نصيبه. فكم يكون نصيب كل واحد من أولاده؟
فأجاب:
الحمد لله، ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة أن هذه المسألة تصح من ستين، لكل ابن ثمانية، ولصاحب الوصية ثلث ما بقي بعد الثلث اثني عشر، ثلث ذلك أربعة. ولها طرق يعمل بها.
وجواب هذه المسألة معروف في كتب العلم.
سئل عن رجل توفي وله مال كثير
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل توفي، وله مال كثير، وله ولد صغير، وأوصى في حال مرضه أن يباع فرسه الفلاني، ويعطي ثمنه كله لمن يحج عنه حجة الإسلام. وبيعت بتسعمائة درهم. فأراد الحاكم أن يستأجر إنسانا أجنبيا ليحج بهذا المقدار، فجاء رجل غيره فقال: أنا أحج بأربعمائة. فهل يجوز ذلك؟ أو يتعين ما أوصى به؟
فأجاب:
الحمد لله، بل يجب إخراج جميع ما أوصىبه إن كان يخرج من ثلثه، وإن كان لا يخرج من ثلثه لم يجب على الورثة إخراج ما زاد على الثلث، إلا أن يكون واجبا عليه بحيث لا يحصل حجة الإسلام. والله أعلم.
سئل عن رجل خلف أولادا وأوصى لأخته كل يوم بدرهم
وسئل عن رجل خلف أولادا، وأوصى لأخته كل يوم بدرهم، فأعطيت ذلك حتى نفد المال، ولم يبق من التركة إلا عقار مغله كل سنة ستمائة درهم: فهل تعطى ذلك؟ أو درهما كما أوصى لها؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا لم يكن ما بقي متسعا لأن تعطى منه كل يوم درهما، ويبقي للورثة درهم، فلا تعطى إلا ما يبقى معه للورثة الثلثان، لا يزاد على مقدار الثلث شيء إلا بإجازة الورثة المستحقين، إذا كان المجيز بالغا رشيدا أهلا للتبرع. وإن لم يكن المجيز كذلك، أو لم يجز، لم تعط شيئا. ولو لم يخلف الميت إلا العقار فإنها تعطي من مغله أقل الأمرين من الدرهم الموصى به أو ثلث المغل، فإن كان المغل أقل من ثلاثة دراهم كل يوم لم تعط إلا ثلث ذلك، فلو كان درهما أعطيت ثلث درهم فقط، وإن أخذت زيادة على مقدار ثلث المغل استرجع منها ذلك، وليس في ذلك نزاع بين العلماء. والله أعلم.
سئل عن امرأة توفيت وخلفت أباها
وسئل عن امرأة توفيت، وخلفت أباها، وعمها أخا أبيها شقيقه، وجدتها، وكان أبوها قد رشدها قبل أن يزوجها، ثم إنها أوصت في مرض موتها لزوجها بالنصف. ولعمها بالنصف الآخر، ولم توص لأبيها وجدتها بشيء: فهل تصح هذه الوصية؟
فأجاب:
أما الوصية للعم صحيحة، لكن لا ينفذ فيما زاد على الثلث إلا بإجازة، والوصية للزوج لا ينفذ شيء منها إلا بإجازة الورثة. وإذا لم تجز الورثة بما زاد على الثلث كان للزوج نصف الباقي بعد هذه الوصية التي هي الثلث، وللجدة السدس، وللأب الباقي، وهو الثلث.
سئل عن امرأة أوصت قبل موتها بأشياء
وسئل رحمه الله عن امرأة أوصت قبل موتها بخمسة أيام بأشياء: من حج، وقراءة، وصدقة: فهل تنفذ الوصية؟
فأجاب:
إذا أوصت بأن يخرج من ثلث مالها ما يصرف في قربة لله وطاعته وجب تنفيذ وصيتها، وإن كان في مرض الموت. وأما إن كان الموصى به أكثر من الثلث كان الزائد موقوفا، فإن أجازه الورثة جاز، وإلا بطل. وإن وصت بشيء في غير طاعة لم تنفذ وصيتها.
سئل عن رجل أوصى زوجته عند موته
وسئل عن رجل أوصى زوجته عند موته أنها لا توهب شيئا من متاع الدنيا لمن يقرأ القرآن ويهدي له، وقد ادعى أن في صدره قرآنا يكفيه، ولم تكن زوجته تعلم بأنه كان يحفظ القرآن: فهل أصاب فيما أوصى؟ وقد قصدت الزوجة الموصى إليها أنها تعطي شيئا لمن يستحقه يستعين به على سبيل الهدية: ويقرأ جزءا من القرآن ويهديه لميتها: فهل يفسح لها في ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، تنفذ وصيته؛ فإن إعطاء أجرة لمن يقرأ القرآن ويهديه للميت بدعة، لم ينقل عن أحد من السلف، وإنما تكلم العلماء فيمن يقرأ لله ويهدي للميت. وفيمن يعطي أجرة على تعليم القرآن وجوه. فأما الاستئجار على القراءة وإهدائها فهذا لم ينقل عن أحد من الأئمة، ولا أذن في ذلك؛ فإن القراءة إذا كانت بأجرة كانت معاوضة، فلا يكون فيها أجر، ولا يصل إلى الميت شيء، وإنما يصل إليه العمل الصالح، والاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة وإنما تكلموا في الاستئجار على التعليم لكن هذه المرأة إذا أرادت نفع زوجها فلتتصدق عنه بما تريد الاستئجار به، فإن الصدقة تصل إلى الميت باتفاق الأئمة، وينفعه الله بها. وإن تصدقت بذلك على قوم من قراء القرآن الفقراء ليستغنوا بذلك عن قراءتهم حصل من الأجر بقدر ما أعينوا على القراءة، وينفع الله الميت بذلك. والله أعلم.
سئل عن مسجد لرجل وعليه وقف والوقف عليه حكر
وسئل عن مسجد لرجل، وعليه وقف، والوقف عليه حكر، وأوصى قبل وفاته أن يخرج من الثلث ويشتري الحكر الذي للوقف، فتعذر مشتراه، لأن الحكر وقف، وله ورثة وهم ضعفاء الحال، وقد وافقهم الوصي على شيء من الثلث لعمارة المسجد: فهل إذا تأخر من الثلث شيء للأيتام يتعلق في ذمة الوصي؟
فأجاب:
بل على الوصي أن يخرج جميع الثلث كما أوصاه الميت، ولا يدع للورثة شيئا، ثم إن أمكن شراء الأرض التي عينها الموصى اشتراها ووقفها، وإلا اشترى مكانا آخر ووقف على الجهة التي وصى بها الموصي، كما ذكره العلماء فيما إذا قال: بيعوا غلامي من زيد، وتصدقوا بثمنه. فامتنع فلان من شرائه، فإنه يباع من غيره ويتصدق بثمنه، فالوصية بشراء معين والتصدق به لوقف كالوصية ببيع معين والتصدق بثمنه؛ لأن الموصى له هنا جهة الصدقة والوقف، وهي باقية، والتعيين إذا فات قام بدله مقامه، كما لو أتلف الوقف متلف، أو أتلف الموصى به متلف، فإن بدلهما يقوم مقامهما في ذلك، فيفرق بين الموصى به والموقوف؛ وبين بدل الموصى له والموقوف عليه؛ فإنه لو وصى لزيد لم يكن لغيره، ولو وصى أن يعتق عبده المعين، أو نذر عتق عبد معين فمات المعين لم يقم غيره مقامه.
وتنازع الفقهاء إذا وصى أن يحج عنه فلان بكذا فامتنع ذلك المعين من الحج، وكان الحج تطوعا: فهل يحج عنه أم لا؟ على قولين، هما وجهان في مذهب أحمد وغيره؛ لأن الحج مقصود في نفسه، ويقع المعين مقصودا، فمن الفقهاء من غلب جانب التعيين. ومنهم من قال: بل الحج مقصود أيضًا كما أن الصدقة والوقف مقصود، وتعيين الحج كتعيين الموقوف والمتصدق به، فإذا فات التعيين أقيم بدله، كما يقام في الصدقة والوقف.
سئل عن رجل أوصى في مرضه المتصل بموته
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أوصى في مرضه المتصل بموته بأن يباع شراب في حانوت العطر قيمته مائة وخمسون درهما، يضاف ذلك إلى ثلاثمائة درهم من ماله، وأن يشتري بذلك عقار، ويجعل وقفا على مصالح مسجد لإمامه ومؤذنه وزيته. وكتب ذلك قبل مرضه؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا أوصى أن يباع شيء معين من ماله من عقار أو منقول، يضم إلى ثمنه شيء آخر قدره من ماله، ويصرف ذلك في وقف شرعي، جاز. وإذا كان ذلك يخرج من الثلث أخرج، وإن لم ترض الورثة، وما أعطاه للورثة في مرض موته أن أعطي أحدا منهم زيادة على قدر ميراثه لم يجز إلا بإجازة الورثة، وإن أعطي كل إنسان شيئا معينا بقدر حقه أو بعض حقه، ففيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره: أحدهما: له ذلك، وهو مذهب الشافعي. والثاني: ليس له ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة. وإذا قيل: إن له ذلك بحسب ميراث أحدهم؛ فإن عطية المريض في مرض الموت المخوف بمنزلة وصيته بعد موته في مثل ذلك باتفاق الأئمة. والله أعلم.
باب الموصى إليه
سئل عن وصي على أيتام بوكالة شرعية
وسئل رحمه الله تعالى عن وصى على أيتام بوكالة شرعية، وللأيتام دار، فباعها وكيل الوصي من قبل أن ينظرها، وقبض الثمن، ثم زيد فيها: فهل له أن يقبل الزيادة؟ أم لا؟
فأجاب:
إن كان الوكيل باعها بثمن المثل، وقد رؤيت له صح البيع. وإن لم تر له، فيه نزاع. وإن باعها بدون ثمن المثل فقد فرط في الوصية، ويرجع عليه بما فرط فيه، أو يفسخ البيع، إذا لم يبذل له تمام المثل. والله أعلم.
سئل عن رجل جليل القدر وأوصى بأمور
وسئل عن رجل جليل القدر، له تعلقات كثيرة مع الناس، وأوصى بأمور، فجاء رجل إلى وصيه في حياة الموصي، وقال: يا فلان، جئتك في حياة فلان الموصى بمال، فلي عنده كذا، وكذا. فذكر الوصي ذلك للموصي، فقال الموصي: من ادعى بعد موتي على شيئا فحلفه وأعطه بلا بينة: فهل يجوز أو يجب على الوصي فعل ذلك مع يمين المدعي؟
فأجاب:
نعم، يجب على الوصي تسليم ما ادعاه هذا المدعي إذا حلف عليه، وسواء كان يخرج من الثلث أو لا، أما إذا كان يخرج من الثلث كان أسوأ الأحوال، كما يكون هذا الموصى متبرعًا بهذا الإعطاء. ولو وصى لمعين إذا فعل فعلا، أو وصى لمطلق موصوف، فكل من الوصيتين جائز باتفاق الأئمة، فإنهم لا ينازعون في جواز الوصية بالمجهول، ولم يتنازعوا في جواز الإقرار بالمجهول؛ ولهذا لا يقع شبهة لأحد في أنه إذا خرج من الثلث وجب تسليمه وإنما قد تقع الشبهة فيما إذا لم يخرج من الثلث. والصواب المقطوع به أنه يجب تسليم ذلك من رأس المال؛ لأن الدين مقدم على الوصايا؛ فإن هذا الكلام مفهومه رد اليمين على المدعي، والأمر بتسليم ما حلف عليه.
لكن رد اليمين هل هو كالإقرار؟ أو كالبينة؟ فيه للعلماء قولان. فإذا قيل: هو كالإقرار صار هذا إقرار لهذا المدعي، غايته أنه أقر بموصوف أو بمجهول، وكل من هذين إقرار يصح باتفاق العلماء؛ مع أن هذا الشخص المعين ليس الإقرار له إقرارا بمجهول؛ فإنه هو سبب اللفظ العام، وسبب اللفظ العام مراد فيه قطعا، كأنه قال: هذا الشخص المعين إن حلف على ما ادعاه فأعطوه إياه. ومثل هذه الصفة جائزة باتفاق العلماء، واجب تنفيذها. وإن قيل: إن الرد كالبينة صار حلف المدعي مع نكول المدعي عليه بينة، ويصير المدعي قد أقام بينة على ما ادعاه، ومثل هذا يجب تسليم ما ادعاه إليه بلا ريب هذا على أصل من لا يقضي برد اليمين على المدعي؛ كمالك، والشافعي، وأحد القولين في مذهب الإمام أحمد.
وأما عند من يقضي بالنكول كأبي حنيفة وأحمد في أشهر الروايتين عنه، فالأمر عنده أوكد؛ فإنه إذا رضي الخصمان فحلف المدعي كان جائزا عندهم، وكان من النكول أيضًا، فالرجل الذي قد علم أن بينه وبين الناس معاملات متعددة منها ما هو بغير بينة، وعليه حقوق قد لا يعلم أربابها، ولا مقدارها، لا تكون مثل هذه الصفة منه تبرعا، بل تكون وصية بواجب، والوصية بواجب لآدمي تكون من رأس المال باتفاق المسلمين، وذلك أنه إذا علم أن عليه حقا، وشك في أدائه لم يكن له أن يحلف، بل إذا حلف المدعي عليه وأعطاه فقد فعل الواجب، فإذا كان عليه حق لا يعلم عين صاحبه كان عليه أن يفعل ما تبرأ به زمته فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها، وكمن عليه دين لأحد رجلين لا يعلم عين المستحق، فإذا قال: من حلف منكما فهو له ونحو ذلك، فقد أدى الواجب.
وأيضًا، فإنه إذا ادعى عليه بأمر لا يعلم ثبوته ولا انتفاءه لم يكن له أن يحلف على نفيه يمين بت؛ لأن ذلك حلف على ما لا يعلم، بل عليه أن يفعل ما يغلب على ظنه، وإذا أخبره من يصدقه بأمر بني عليه، وإذا رد اليمين على المدعي عند اشتباه الحال عليه فقد فعل ما يجب عليه؛ فإنه لو نهاهم عن إعطائه قد يكون ظالما مانعا المستحق، وإن أمر بإعطاء كل مدع أفضي إلى أن يدعي الإنسان بما لا يستحقه، وذلك تبرع، فإذا أمر بتحليفه وإعطائه فقد فعل ما يجب عليه حيث بني الأمر على ما يغلب على ظنه أن تبرأ ذمته منه، فإن كان قد فعل الواجب أخرج ذلك من رأس المال.
سئل عن وصي على أولاد أخيه
وسئل رحمه الله تعالى عن وصى على أولاد أخيه، وتوفى، وخلف أولادا، وضعوا أيديهم على موجود والدهم: فهل يلزم أولاد الوصي المتوفي الخروج عن ذلك، والدعوى عليهم؟
فأجاب:
إذا عرف أن مال اليتامى كان مختلطا بمال الرجل، فإنه ينظر كم خرج من مال اليتامى نفقة وغيرها، ويطلب الباقي وما أشبه ذلك، ويرجع فيه إلى العرف المطرد.
سئل عن رجل وصي على مال يتيم وقد قارض فيه
وسئل عن رجل وصى على مال يتيم، وقد قارض فيه مدة ثلاث سنين، وقد ربح فيه فائدة من وجه حل: فهل يحل للوصى أن يأخذ من الفائدة شيئا؟ أو هي لليتيم خاصة؟
فأجاب:
الربح كله لليتيم، لكن إن كان الوصي فقيرا وقد عمل في المال فله أن يأخذ أقل الأمرين من أجرة مثله أو كفايته، فلا يأخذ فوق أجرة عمله وإن كانت الأجرة أكثر من كفايته لم يأخذ أكثر منها.
سئل عن وصي تحت يده أيتام أطفال ووالدتهم حامل
وسئل رحمه الله عن وصى تحت يده أيتام أطفال، ووالدتهم حامل: فهل يعطي الأطفال نفقة، والذي يخدم الأطفال، والوالدة إذا أخذت صداقها: فهل يجوز أن تأكل الأطفال ووالدتهم ومن يخدمهم جميع المال؟
فأجاب:
أما الزوجة فتعطي قبل وضع الحمل. وأما سائر الورثة فإن أخرت قسمة التركة إلى حين الوضع فينفق على اليتامى بالمعروف، ولا بأس أن يختلط مالهم بمال الأم، ويكون خبزهم جميعا، وطبخهم جميعا، إذا كان ذلك مصلحة لليتامى، فإن الصحابة سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك فأنزل الله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } [69]. وأما الحمل فإن أخرت فلا كلام، وإن عجلت أخر له نصيب ذكر احتىاطًا.
وهل تستحق الزوجة نفقة لأجل الحمل الذي في بطنها وسكنى؟ على ثلاثة أقوال للعلماء:
أحدها: لا نفقة لها، ولا سكنى، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، والشافعي في قول.
والثاني: لها النفقة والسكنى، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقول طائفة.
والثالث: لها السكنى، دون النفقة، كما نقل عن مالك والشافعي في قول.
سئل عن يتيمة حضر من يرغب في تزويجها
وسئل رحمه الله عن يتيمة حضر من يرغب في تزويجها، ولها أملاك: فهل يجوز للوصى أن يبيع من عقارها شيئا، ويصرف ثمنه في جهاز وقماش لها، وحلي يصلح لمثلها أم لا؟
فأجاب:
نعم، للولي أن يبيع من عقارها ما يجهزها به، ويجهزها الجهاز المعروف، والحلي المعروف.
سئل عن وصي على أختيه وقد كبرتا
وسئل عن وصى على أختيه، وقد كبرتا، وولديهما؛ وآنس منهما الرشد: فهل يحتاج إلى إثبات عند الحاكم؟ أو إلى شهود؟
فأجاب:
إذا آنس الوصي منهم الرشد دفع إليهم المال، ولا يحتاج إلى شهود، بل يقر برشدهم، ويسلم إليهم المال، وذلك جائز بغير إذن الحاكم، لكن له إثبات ذلك عند الحاكم. والله أعلم.
سئل عن وصي قضى دينا عن الموصى بغير ثبوت
وسئل عن وصى قضي دينا عن الموصى بغير ثبوت عند الحاكم، وعوض عن الغائب بدون قيمة المثل: فهل للورثة فسخ ذلك؟
فأجاب:
ليس للوصى أن يقضي ما يدعي من الدين إلا بمستند شرعي، بل ولا بمجرد دعوي من المدعي، فإنه ضامن له. ولا يجوز له التعويض إلا بقيمة المثل، وما عوضه بدون القيمة بما لا يتغابن الناس به، فإما أن يضمن ما نقص من حق الورثة، وإما أن يفسخ التعويض ويوفي الغريم حقه. والمستند الشرعي متعدد؛ مثل إقرار الميت، أو إقرار من يقبل إقراره عليه، مثل وكيله إذا أقر بما وكله فيه، ويدخل في ذلك ديوان الأمير، وأستاذ داره؛ مثل شاهد يحلف معه المدعي، ومثل خط الميت الذي يعلم أنه خطه وغير ذلك.
سئل عن نصراني توفي وخلف تركة وأوصى وصيته
وسئل عن نصراني توفي وخلف تركة، وأوصى وصيته، وظهرت عليه ديون بمساطر وغير مساطر: فهل للوصي أن يعطي أرباب الديون بغير ثبوت على يد حاكم؟
فأجاب:
إذا كان الميت ممن يكتب ما عليه للناس في دفتر ونحوه، وله كاتب يكتب بإذنه ما عليه ونحوه، فإنه يرجع في ذلك إلى الكتاب الذي بخطه أو خط وكيله، فما كان مكتوبا وليس عليه علامة الوفاء كان بمنزلة إقرار الميت به، فالخط في مثل ذلك كاللفظ، وإقرار الوكيل فيما وكل فيه بلفظه أو خطه المعتبر مقبول، ولكن على صاحب الدين اليمين بالاستحقاق، أو نفي البراءة، كما لو ثبت الدين بإقرار لفظي. وأما إعطاء المدعي ما يدعيه بمجرد قوله الذي لا فرق فيه بين دعواه ودعوي غيره فلا يجوز. والله أعلم.
سئل عن الوصي ونحوه إذا كان بعض مال الوصي مشتركا
وسئل رحمه الله تعالى عن الوصي ونحوه إذا كان بعض مال الوصي مشتركا بينه وبين وصى عليه وللموصى فيه نصيب؛ وباع الشركاء أنصباءهم أو اكتروه للوصي، واحتاج الولي أن يبيع نصيب اليتيم، أو يكريه معهم: فهل يجوز له الشراء؟
فأجاب:
يجوز له الشراء؛ لأن الشركاء غير متهمين في بيع نصيبهم، ولأن الشركاء إذا عينوا الوصي تعين عن غيره في نصيب اليتيم دخل ضرورة، ويشهد له المعني، قال الله تعالى: { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } [70]
سئل عن وصي يتيم وهو يتجر له ولنفسه بماله
وسئل رحمه الله تعالى عن وصى يتيم، وهو يتجر له ولنفسه بماله، فاشترى لليتيم صنفا، ثم باعه واشترى له بثمنه، ثم بعد ذلك اشترى المذكور، ومات ولم يعين: هل هو لأحدهما أو لهما. فهل يكون الصنف لورثة الوصي أم لليتيم؟
فأجاب:
إذا علم أنه لم يشتره إلا بماله وحده، وبمال اليتيم وحده، فإنه لأحدهما: ينظر في ذلك: هل يمكن علمه بأن يعرف مقدار مال اليتيم. ومقدار مال نفسه. وينظر دفاتر الحساب، وما كتبه بخطه، ونحو ذلك، وإن كان مال اليتيم متميزا بأن يكون ما اشتراه بكتبه ونحو ذلك كان مما لم يكتبه لنفسه، فإن تعذر معرفة المستحق من كل وجه كان فيه للفقهاء ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يقسم بينهما كقول أبي حنيفة، كما لو تداعيا عينا يدهما عليها.
والثاني: يوقف الأمر حتى يصطلحا؛ كقول الشافعي؛ لأن المستحق أحدهما لا بعينه.
والثالث: وهو مذهب أحمد أنه يقرع بينهما، فمن أصابته القرعة حلف وأخذ، لما في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي ﷺ، ليس لواحد منهما بينة، فقال النبي ﷺ: استهما عليه، رواه أبو داود والنسائي. وفي لفظ لأبي داود: (إذا كره الاثنان اليمين، أو استحباها فليستهما عليه) رواه البخاري، ولفظه: أن النبي ﷺ عرض على قوم اليمين فأسرعوا، فأمر أن يسهم بينهم أيهم يحلف. والله أعلم.
سئل عن أيتام تحت الحجر ولهم وصى وكفيل ولأمهم زوج
وسئل رحمه الله تعالى عن أيتام تحت الحجر؛ ولهم وصى وكفيل ولأمهم زوج أجنبي: فهل له عليهم حكم؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، ليس لزوج الأم عليهم حكم في أبدانهم ولا أموالهم، بل الأم المزوجة بالأجنبي لا حضانة لها لئلا يحضنهم الأجنبي؛ فإن الزوجة تحت أمر الزوج، فأسقط الشارع حضانتها؛ لئلا يكونوا في حضانة أجنبي، وإنما الحضانة لأم الأم، أو لغيرها من الأقارب. وأما المال فأمره إلى الوصي. والنكاح للعصبة.
سئل عن رجل حضرته الوفاة فأوصى وصية بحضرته
وسئل عن رجل حضرته الوفاة فأوصى وصية بحضرته: أن هذه الدار نصفها للحرم الشريف، ونصفها لمملوكي سنقر المعتوق الحر، ولم يكن له وارث سوي ابن أستاذه، وأن الوصي قال لابن أستاذه: هذا ما يجوز للمسلمين منعه، فخلي كلام الوصي وباعه وتصرف فيها تصرف المالك: فهل يصح بيعه؟
فأجاب:
إذ كانت الوصية تخرج من الثلث وجب تنفيذها، ولم يكن للورثة إبطالها، فإن جحدوها فله تحليفهم، ومتى شهد له شاهد بقول الوصي أو غيره فله أن يحلف مع شاهده ويأخذ حصته.
سئل عن رجل تحت حجر بطريق شرعي وأن الوصي توفي
وسئل رحمه الله عن رجل تحت حجر بطريق شرعي، وأن الوصي توفي إلى رحمة الله تعالى، وترك ولده، وإن ولده قد وضع يده على ما ترك والده، وعلى ما كان والده وضع يده عليه من مال المحجور عليه، وإن اليتيم طلب الحساب من ولد الوصي فهل له ذلك، وأن ولده ادعى أن والده أقبض بعض مال محجوره لزيد وهو لا يستحق إقباض ذلك شرعا، وأنه بإشهاد عليهما، ثم إن ذلك القابض الذي أقبضه الوصي ادعى أنه أقبض ذلك المال لليتيم: فهل تجوز هذه الشهادة على اليتيم المحجور عليه ما ذكر؟ أم لا؟ وهل له أن يرجع على مال الوصي بما أقبضه من ماله لمن لا يستحق إقباضه شرعا؟ وهل لولد الوصي الرجوع عن ما أقبضه والده بغير مستند شرعي؟ وما الحكم في ذلك؟
فأجاب رحمه الله:
إذا مات الوصي ولم يعرف أن مال اليتيم قد ذهب بغير تفريط فهو باق بحكم يوجب إبقائه في تركة الميت، لكن هل يكون دينا يحاص الغرماء؟ أو يكون أمانة يؤخذ من أصل المال؟ فيه نزاع. وإذا ادعى الوارث رده إليه لم يقبل بمجرد قوله.
وأما إذا كان الوصي قد أقبضه لغيره، وذلك الغير أقبضه لليتيم، فإن ثبت ذلك وكان الإقباض مما يسوغ، فقد برئت ذمة الوصي في ذلك، مثل أن يكون اليتيم قد رشد. فسلم إليه ماله بعد أنه آنس الرشد، وإن لم يثبت ذلك عند الحاكم، فإن ذلك الحجر عنه لا يحتاج إلى ثبوت الحاكم ولا حكمه، بل متى آنس الوصي منه الرشد فعليه أن يدفع إليه ماله، كما قال الله تعالى: { وَابْتَلُواْ اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إليهمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إليهمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عليهمْ وَكَفَي بِاللهِ حَسِيبًا } [71].
وأما إن كان الوصي قد سلم المال من لا يجوز تسليمه إليه فهو ضامن له، ثم إن كان المال وصل إلى اليتيم الباين رشده فقد برئت ذمة الوصي، كما تبرأ ذمة كل غاصب يوصل المال إلى مستحقه، ولو كان بغير فعل الغاصب، ولا تعد؛ مثل أن يأخذه المالك قهرا، أو يخلصه له بعض الناس، أو تطيره إليه الريح، فإن أنكر اليتيم بعد إيناس الرشد وصوله إليه من جهة ذلك القابض الذي ليس بوكيل للوصى فالقول قوله مع يمينه، وأما إن أنكر إقباض الوصي أو وكيله لأحد: فهل يقبل قوله؟ أو قول الوصي؟ فيه نزاع مشهور بين العلماء.
سئل عن وصي تحت يده مال لأيتام
وسئل رحمه الله عن وصى تحت يده مال لأيتام: فهل يجوز أن يخرج من ماله حصته، ومن مالهم حصته، وينفقه عليهم وعليه؟
فأجاب:
ينفق على اليتيم بالمعروف، وإذا كان خلط طعامه بطعام الرجل أصلح لليتيم فعل ذلك، كما قال تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } [72]، فإن الصحابة كانوا لما توعد الله على من يأكل مال اليتيم بالعذاب العظيم يميزون طعام اليتيم عن طعامهم، فيفسد، فسألوا عن ذلك النبي ﷺ؛ فأنزل الله هذه الآية.
سئل عن أيتام تحت يد وصي ولهم أخ من أم وقد باع الوصي حصته
وسئل رحمه الله عن أيتام تحت يد وصي، ولهم أخ من أم، وقد باع الوصي حصته على إخوته، وذكر الملك كان واقعا، ولم تعلم الأيتام ببيعه لما باعه الوصي منه إليهم: فهل يجوز البيع أم لا؟
فأجاب:
بيع العقار ليس للوصى أن يفعله إلا لحاجة أو مصلحة راجحة بينة؛ وإذا ذكر أنه باعه للاستهدام لم يكن له أن يشتريه لليتيم الآخر؛ لأن في ذلك ضررا لليتيم الآخر إن كان صادقا، وضررا للأول إن كان كاذبا.
سئل عن رجل له جارية وله منها أولاد خمسة
وسئل رحمه الله عن رجل له جارية، وله منها أولاد خمسة، وأودع عند إنسان دراهم، وقال له: إن أنا مت تعطيها الدراهم، ثم إنه مات، فأخذت من الوصي بعض الدراهم، ثم إن أولادها طلبوها إلى الحاكم، وطلبوا منها الدراهم، فأعطتهم إياها، واعترفت أنها أخذتها من الموصي، ثم إنهم طلبوا الوصي بجملة المال وادعوا أن الذي أقرت به أنه منها لم يكن منه، إلا كان بعد أن أكرهوها على ذلك: فالقول قول المرأة أنه من المبلغ أم لا؟
فأجاب:
القول قول المستودع الموصى إليه في قدر المال مع يمينه، والقول قوله: أنه دفع إلى المرأة ما دفع إذا صدقته على ذلك، والقول قول كل منهما مع يمينه أنه ليس عنده أكثر من ذلك. والوصية لأم الولد وصية صحيحة إذا كانت تخرج من الثلث؛ ولهذه المرأة أن تأخذ ما وصى لها به إذا كان دون الثلث، فإن أنكر الوارث الوصية فلها عليه اليمين، وإن شهد لها شاهد عدل وحلفت مع شاهدها حكم لها بذلك، وإذا خرج المال عن يد الوصي وشهد لها قبلت شهادته لها.
وإذا كانت كتمت أولا ما عند الوصي لتأخذ منه ما وصى لها به كان ذلك عذرا لها في الباطن، وإن لم يقم لها بذلك بينة. فإن من علم أنه يستحق مالا في باطن ذلك وأخذه كان متأولا في ذلك، مع اختلاف العلماء في مسائل هذا الباب. والله أعلم.
سئل عن وصي نزل عن وصيته عند الحاكم
وسئل رحمه الله عن وصي نزل عن وصيته عند الحاكم، وسلم المال إلى الحاكم، وطلب منه أن يأذن له في محضر ليسلمه: فهل يجب ذلك على الحاكم؟
فأجاب:
إذا كان محتاجا إلى ذلك لدفع ضرر عن نفسه فعلى الحاكم إجابته إلى ذلك؛ فإن المقصود بالحكم إيصال الحقوق إلى مستحقيها، ودفع العدوان، وهو يعود إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإلزام بذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل وصى لرجلين على ولده
وسئل رحمه الله عن رجل وصى لرجلين على ولده، ثم إنهما اجتهدا في ثبوت الوصية: فهل لهم أن يأخذوا من مال اليتيم ما غرموا على ثبوتها؟
فأجاب:
إذا كانا متبرعين بالوصية فما أنفقاه على إثباتها بالمعروف، فهو من مال اليتيم. والله أعلم.
كتاب الفرائض
سئل عن رجل توفي صاحب له في الجهاد
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل توفي صاحب له في الجهاد، فجمع تركته في مدة ثلاث سنين بعد تعب: فهل يجب له على ذلك أجرة؟
فأجاب:
إن كان وصيا فله أقل الأمرين من أجرة مثله، أو كفايته وإن كان مكرها على هذا العمل فله أجرة مثله، وإن عمل متبرعا فلا شيء له من الأجرة، بل أجره على الله، وإن عمل ما يجب غير متبرع، ففي وجوب أجره نزاع. والأظهر الوجوب.
سئل عن امرأة توفى زوجها وخلف أولادا
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن امرأة توفى زوجها، وخلف أولادًا؟
فأجاب:
للزوجة الصداق، والباقى في ذمته، حكمها فيه حكم سائر الغرماء، وما بقى بعد الدين والوصية النافذة إن كان هناك وصية فلها ثمنه مع الأولاد.
سئل عن امرأة ماتت وخلفت زوجا وأبوين
وسئل رحمه الله عن امرأة ماتت، وخلفت زوجا وأبوين، وقد احتاط الأب على التركة، وذكر أنها غير رشيدة. فهل للزوج ميراث منها؟
فأجاب:
ما خلفته هذه المرأة فلزوجها نصفه، ولأبيها الثلث والباقي للأم. وهو السدس في مذهب الأئمة الأربعة، سواء كانت رشيدة أم غير رشيدة.
سئل عن امرأة ماتت عن أبوين، وزوج وأربعة أولاد ذكور وأنثى
وسئل رحمه الله تعالى عن امرأة ماتت عن أبوين، وزوج، وأربعة أولاد ذكور، وأنثى. فقال الزوج لجماعة شهود: اشهدوا، على أن نصيبي هو ستة لأبوي زوجتي، وأولادها المذكورين بالفريضة الشرعية، فما خص كل واحد منهم؟
فأجاب:
إذا كان قد ملكه نصيبه الذي هو ستة أسهم لسائر الورثة على الفريضة الشرعية، والباقي ثمانية عشر سهما: للأبوين ثمانية أسهم، وأولاده عشرة أسهم، فترد تلك الستة على هذه الثمانية عشر سهما، ويقسم الجميع بينهم على ثمانية عشر سهما، كما يرد الفاضل عن ذوي السهام بينهم، عند من يقول بالرد؛ فإن نصيب الوارث جعله لهم بمنزلة النصيب المردود بينهم.
سئل عن امرأة ماتت ولها زوج وجدة وإخوة أشقاء وابن
وسئل عن امرأة ماتت، ولها زوج، وجدة، وإخوة أشقاء، وابن: فما يستحق كل واحد من الميراث؟
فأجاب:
للزوج الربع، وللجدة السدس، وللابن الباقي، ولا شيء للأخوة باتفاق الأئمة.
سئل عن امرأة توفيت وخلفت زوجا وابنتين ووالدتها وأختين أشقاء
وسئل عن امرأة توفيت، وخلفت زوجا، وابنتين، ووالدتها، وأختين أشقاء: فهل ترث الأخوات؟
فأجاب:
يفرض للزوج الربع، وللأم السدس، وللبنتين الثلثان. أصلها من اثنى عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر، وأما الأخوات فلا شيء لهن مع البنات؛ لأن الأخوات مع البنات عصبة، ولم يفضل للعصبة شيء، هذا مذهب الأئمة الأربعة.
سئل عن امرأة ماتت وخلفت زوجا وأما وأختا شقيقة وأختا لأب وأخا وأختا لأم
وسئل عن امرأة ماتت، وخلفت زوجا، وأما، وأختا شقيقة، وأختا لأب وأخا وأختا لأم؟
فأجاب:
المسألة على عشرة أسهم، أصلها من ستة، وتعول إلى عشرة وتسمى ذات الفروخ لكثرة عولها. للزوج النصف، وللأم السدس سهم وللشقيقة ثلاثة، وللأخت من الأب السدس تكملة الثلثين، ولولدي الأم الثلث سهمان. فالمجموع عشرة أسهم. وهذا باتفاق الأئمة الأربعة.
سئل عن امرأة ماتت وخلفت زوجا وبنتا وأما وأختا
وسئل رحمه الله عن امرأة ماتت، وخلفت زوجا، وبنتا، وأما، وأختا من أم فما يستحق كل واحد منهم؟
فأجاب:
هذه الفريضة تقسم على أحد عشر: للبنت ستة أسهم، وللزوج ثلاثة أسهم؛ وللأم سهمان، ولا شيء للأخت من الأم؛ فإنها تسقط بالبنت باتفاق الأئمة كلهم. وهذا على قول من يقول بالرد كأبي حنيفة، وأحمد.
ومن لا يقول بالرد؛ كمالك، والشافعي، فيقسم عندهم على اثنى عشر سهما؛ للبنت ستة، وللزوج ثلاثة، وللأم سهمان، والسهم الثاني عشر لبيت المال.
فصل في أن النصوص شاملة لجميع الأحكام
والمقصود هنا أن النصوص شاملة لجميع الأحكام. ونحن نبين ذلك فيما هو من أشكل الأشياء، لننبه به على ما سواه، والفرائض من أشكلها. فنقول: النص والقياس وهما الكتاب، والميزان دلا على أن الثلث يختص به ولد الأم، كما هو قول على، ومن وافقه، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، وروى حرب التشريك، وهو قول زيد ومن وافقه، وقول مالك والشافعي، واختلف في ذلك عن عمر وعثمان، وغيرهما من الصحابة.
حتى قيل: إنه اختلف فيها عن جميع الصحابة إلا عليًا، وزيدًا، فإن عليًا لم يختلف عنه أنه لم يشرك، وزيد لم يختلف عنه أنه يشرك.
قال العنبري: القياس ما قال على، والاستحسان ما قال زيد. قال: قال العنبري: هذه وساطة مليحة، وعبارة صحيحة.
فيقال: النص والقياس دلا على ما قال على. أما النص فقوله تعالى: { فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ } [73] والمراد به: ولد الأم، وإذا أدخلنا فيهم ولد الأبوين، لم يشتركوا في الثلث، بل زاحمهم غيرهم.
وإن قيل: إن ولد الأبوين منهم وأنهم من ولد الأم، فهو غلط، والله تعالى قال: { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } الآية.
وفي قراءة سعد وابن مسعود: من الأم، والمراد به ولد الأم بالإجماع. ودل على ذلك قوله: { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ }، وولد الأبوين والأب في آية في قوله: { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ } [74]، فجعل لها النصف، وله جميع المال، وهكذا حكم ولد الأبوين.
ثم قال: { وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ }، وهذا حكم ولد الأبوين؛ لا الأم، باتفاق المسلمين.
فدل ذكره تعالى لهذا الحكم في هذه الآية، وكذلك الحكم في تلك الآية على أن أحد الصنفين غير الآخر. وإذا كان النص قد أعطى ولد الأم الثلث فمن نقصهم منه فقد ظلمهم. وولد الأبوين جنس آخر.
وقد قال النبي ﷺ: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر)
وهذا يقتضي أنه إذا لم تبق الفرائض شيئًا لم يكن للعصبة شيء، وهنا لم تبق الفرائض شيئًا.
وأما قول القائل: إن أباهم كان حمارًا، فقد اشتركوا في الأم. فقول فاسد حسًا، وشرعًا.
أما الحس: فلأن الأب لو كان حمارًا لكانت الأم أتانًا، ولم يكونوا من بني آدم. وإذا قيل: مراده أن وجوده كعدمه، فيقال: هذا باطل فإن الوجود لا يكون معدومًا.
وأما الشرع: فلأن الله حكم في ولد الأبوين، بخلاف حكمه في ولد الأم وإذا قيل: فالأب إذا لم ينفعهم لم يضرهم؟
قيل: بلى، قد يضرهم، كما ينفعهم؛ بدليل ما لو كان ولد الأم واحدا وولد الأبوين كثيرين؛ فإن ولد الأم وحده يأخذ السدس، والباقي يكون لهم كله، ولولا الأب لتشاركوا هم وذاك الواحد في الثلث، وإذا جاز أن يكون وجود الأب ينفعهم جاز أن يحرمهم، فعلم أنه يضرهم.
وأيضًا، فأصول الفرائض مبنية على أن القرابة المتصلة، ذكر وأنثى، لا تفرق أحكامها. فالأخ من الأبوين لا يكون كأخ من أب، ولا كأخ من أم، ولا يعطي بقرابة الأم وحدها، كما لا يعطي بقرابة الأب وحده، بل القرابة المشتركة من الأبوين؛ وإنما يفرد إذا كان قرابة لأم منفردا، مثل ابني عم. أحدهما أخ لأم، فهنا ذهب الجمهور إلى أن للأخ لأم السدس، ويشتركان في الباقي، وهو مأثور عن علي، وروي عن شريح: أنه جعل الجميع للأخ من الأم، كما لو كان ابن عم لأبوين، والجمهور يقولون: كلاهما في بنوة العم سواء هما ابن عم من أبوين أو من أب والأخوة من الأم مستقلة ليست مقترنة، حتى يجعل كابن عم لأبوين.
ومما يبين الحكم في مسألة المشتركة أن لو كان فيهن أخوات من أب لفرض لهن الثلثان، وعالت الفريضة، فلو كان معهن أخوهن سقطن، ويسمى الأخ المشؤوم، فلما صرن بوجوده يصرن عصبة. صار تارة ينفعهن، وتارة يضرهن، ولم يجعل وجوده كعدمه في حالة الضر. كذلك قرابة الأب لما الأخوة بها عصبة صار ينفعهم تارة ويضرهم أخرى. فهذا مجرى العصوبة، فإن العصبة تارة يحوز المال كله، وتارة يحوز أكثره، وتارة أقله، وتارة لا يبقى له شيء، وهو إذا استغرقت الفرائض المال. فمن جعل العصبة تأخذ مع استغراق الفرائض المال فقد خرج عن الأصول المنصوصة في الفرائض.
وقول القائل: هو استحسان. يقال: هذا استحسان يخالف الكتاب والميزان؛ فإنه ظلم للأخوة من الأم؛ حيث يؤخذ حقهم فيعطاه غيرهم.
والمنازعون في هذه المسألة ليس معهم حجة إلا أنه قول زيد. فقد روي عن عمر: أنه حكم بها فعمل بذلك من عمل من أهل المدينة وغيرها، كما عملوا بمثل ذلك في ميراث الجد والأخوة. وعملوا بقول زيد في غير ذلك من الفرائض تقليدًا له، وإن كان النص والقياس مع من خالفه. وبعضهم يحتج لذلك بقوله: (أفرضكم زيد). وهو حديث ضعيف، لا أصل له. ولم يكن زيد على عهد النبي ﷺ معروفا بالفرائض. حتى أبو عبيدة لم يصح فيه إلا قوله: (لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح).
وكذلك اتباعهم لزيد في الجد، مع أن جمهور الصحابة على خلافه. فجمهور الصحابة موافقون للصديق في أن الجد كالأب، يحجب الأخوة، وهو مروي عن بضعة عشر من الصحابة، ومذهب أبي حنيفة، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي، وأحمد. اختاره أبو حفص البرمكي من أصحابه، وحكاه بعضهم رواية عن أحمد. وأما المورثون للأخوة مع الجد فهم على وابن مسعود وزيد، ولكل واحد قول انفرد به. وعمر بن الخطاب كان متوقفا في أمره. والصواب بلا ريب قول الصديق؛ لأدلة متعددة، ذكرناها في غير هذا الموضع.
وأما العمريتان، فليس في القرآن ما يدل على أن للأم الثلث مع الأب والزوج، بل إنما أعطاها الله الثلث إذ ورثت المال هي والأب، فكان القرآن قد دل على أن ما رثته هي والأب تأخذ ثلثه، والأب ثلثيه، واستدل بهذا أكابر الصحابة؛ كعمر، وعثمان، وعلى وابن مسعود، وزيد وجمهور العلماء، على أن ما يبقى بعد فرض الزوجين، يكونان فيه أثلاثًا، قياسا على جميع المال، إذا اشتركا فيه، وكما يشتركان فيما يبقى بعد الدين، والوصية.
ومفهوم القرآن ينفي أن تأخذ الأم الثلث مطلقا، فمن أعطاها الثلث مطلقا حتى مع الزوجة، فقد خالف مفهوم القرآن.
وأما الجمهور فقد عملوا بالمفهوم، فلم يجعلوا ميراثها إذا ورثه أبوه كميراثها إذا لم يرث؛ بل إن ورثه أبوه فلأمه الثلث مطلقًا، وأما إذا لم يرثه أبوه، بل ورثه من دون الأب؛ كالجد، والعم، والأخ، فهي بالثلث أولى فإنها إذا أخذت الثلث مع الأب فمع غيره من العصبة أولى.
فدل القرآن على أنه إذا لم يرثه إلا الأم والأب، أو عصبة غير الأب، سوى الابن؛ فلأمه الثلث، وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، وأما الابن فإنه أقوى من الأب، فلها معه السدس. وإذا كان مع العصبة ذو فرض فالبنات والأخوات قد أعطوا الأم معهن السدس، والأخت الواحدة إذا كانت هي والأم، فالأم تأخذ الثلث مع الذكر من الأخوة، فمع الأنثى أولى.
وإنما الحجب عن الثلث إلى السدس بالأخوة، والواحد ليس إخوة. فإذا كانت مع الأخ الواحد تأخذ الثلث، فمع العم وغيره بطريق الأولى.
وفي الجد نزاع، يروي عن ابن مسعود والجمهور على أنها مع الجد تأخذ ثلث المال، وهو الصواب؛ لأن الجد أبعد منها، وهو محجوب بالأب، فلا يحجبها عن شيء من حقها، ومحض القياس أن الأب مع الأم، كالبنت مع الابن، والأخت مع الأخ؛ لأنهما ذكر وأنثى، من جنس واحد، هما عصبة. وقد أعطيت الزوجة نصف ما يعطاه الزوج؛ لأنهما ذكر وأنثى من جنس.
وأما دلالة الكتاب على ميراث الأم، فإن الله يقول: { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } [75]، فالله تعالى فرض لها بشرطين: ألا يكون له ولد. وأن يرثه أبوه، فكان في هذا دلالة على أنها لا تعطى الثلث مطلقًا، مع عدم الولد، وهذا مما يدل على صحة قول أكابر الصحابة، والجمهور الذين يقولون: لا تعطى في العمريتين زوج وأبوان، وزوجة وأبوان ثلث جميع المال.
قال ابن عباس وموافقوه: فإنها لو أعطيت الثلث هنا، لكانت تعطاه مع عدم الولد مطلقا، وهو خلاف ما دل عليه القرآن. وقد روى عنه أنه قال لزيد: أفي كتاب الله ثلث ما بقى؟ أي ليس في كتاب الله إلا سدس وثلث. فيقال: وليس في كتاب الله إعطاؤها الثلث مطلقا، فكيف يعطيها مع الزوجين الثلث؟ بل في كتاب الله ما يمنع إعطاؤها الثلث مع الأب وأحد الزوجين، فإنه لو كان كذلك كان يقول: فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث، فإنها على هذا التقدير تستحق الثلث مطلقًا، فلما خص الثلث ببعض الحال، علم أنها لا تستحق مطلقًا. فهذا مفهوم المخالفة، الذي يسمى دليل الخطاب، يدل على بطلان قول من أعطاها الثلث، إلا العمريتين ولا وجه لإعطائها الثلث مع مخالفته للإجماع.
إلى أن قال: فإن قوله: { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } [76]، دل على أن لها الثلث، والباقي للأب بقوله: { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ }، فإنه لما جعل الميراث ميراثا بينهما، ثم أخرج نصيبها، دل على أن الباقي نصيبه. وإذا أعطى الأب الباقي معها لم يلزم أن يعطى غيره مثل ما أعطى.
وإنما أعطينا سائر العصبة بقوله: { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ } [77]، وبقوله: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَإلى مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } [78]، وبقول النبي ﷺ: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقى فلأولى رجل ذكر)
فصل في ميراث الأخوات مع البنات وأنهن عصبة
وأما ميراث الأخوات مع البنات، وأنهن عصبة، كما قال: { وَلَهُ أُخْتٌ } الذي هو قول جمهور الصحابة والعلماء فقد دل عليه القرآن والسنة أيضًا، فإن قوله تعالى: { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ } [79]، فدل على أن الأخت ترث النصف مع عدم الولد. وأنه هو يرث المال كله مع عدم ولدها.
وذلك يقتضى أن الأخت مع الولد لا يكون لها النصف مما ترك، إذ لو كان كذلك لكان لها النصف، سواء كان له ولد، أو لم يكن له، فكان ذكر الولد تدليسا وعبثا مضرا، وكلام الله منزه عن ذلك.
ومن هذا قوله تعالى: { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } [80]، وقوله: { فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } [81]، وإذا علم أنها مع الولد لا ترث النصف، فالولد إما ذكر وإما أنثى.
أما الذكر فإنه يسقطها كما يسقط الأخ بطريق الأولى؛ بدليل قوله: { وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ } [82]، فلم يثبت له الإرث المطلق إلا إذا لم يكن لها ولد، والإرث المطلق هو حوز جميع المال، فدل ذلك على أنه إذا كان لها ولد لم يحز المال، بل إما أن يسقط، وإما أن يأخذ بعضه. فيبقى إذا كان لها ولد، فإما ابن، وإما بنت. والقرآن قد بين أن البنت إنما تأخذ النصف، فدل على أن البنت لا تمنعه النصف الآخر، إذا لم يكن إلا بنت، وأخ. ولما كان فتيا الله إنما هو في الكلالة، والكلالة من لا والد له، ولا ولد، علم أن من ليس له ولد ووالد، ليس هذا حكمه.
ولما كان قد بين تعالى أن الأخ يحوز المال مال الأخت فيكون لها عصبة، كان الأب أن يكون له عصبة بطريق الأولى، وإذا كان الأب والأخ عصبة، فالابن بطريق الأولى، وقد قال تعالى: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالي مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } [83].
ودل أيضًا قول النبي ﷺ: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقى فلأولى رجل ذكر): أن ما بقى بعد الفرائض لا يرثه إلا العصبة، وقد علم أن الابن أقرب، ثم الأب، ثم الجد، ثم الأخوة. وقضى النبي ﷺ أن أولاد بني الأم يتوارثون، دون بني العَلات. فالأخ للأبوين أولى من الأخ للأب، وابن الابن يقوم مقام الابن، وكذلك كل بني أب أدنى هم أقرب من بني الأب الذي هو أعلى منه، وأقربهم إلى الأب الأعلى، فهو أقرب إلى الميت. وإذا استوى في الدرجة فمن كان لأبوين أولى ممن كان للأب.
فلما دل القرآن على أن للأخت النصف مع عدم الولد، وأنه مع ذكور ولد يكون الابن عاصبا يحجب الأخت، كما يحجب أخاها.
بقى الأخت مع إناث الولد، ليس في القرآن ما ينفي ميراث الأخت في هذه الحال. بقى مع البنت: إما أن تسقط، وإما أن يكون لها النصف، وإما أن تكون عصبة. ولا وجه لسقوطها؛ فإنها لا تزاحم البنت. وأخوها لا يسقط. فلا تسقط هي، ولو سقطت بمن هو أبعد منها من الأقارب، والبعيد لا يسقط القريب، ولأنها كانت تساوي البنت مع اجتماعهما، والبنت أولى منها، فلا تساوي بها؛ فإنه لو فرض لها النصف لنقصت البنت عن النصف كزوج وبنت، فلو فرض لها النصف لعالت فنقصت البنت عن النصف، والإخوة لا يزاحمون الأولاد بفرض ولا تعصيب؛ فإن الأولاد أولى منهم.
والله إنما أعطاها النصف، إذا كان الميت كلالة. فلما بطل سقوطها وفرضها لم يبق إلا أن تكون عصبة أولى من البعيد، كالعم وابن العم، وهذا قول الجمهور.
وقد دل عليه حديث البخاري عن ابن مسعود لما ذكر له أن أبا موسى وسلمان بن ربيعة قال في بنت وبنت ابن وأخت: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فإنه سيتابعنا. فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، لأقضين فيها بقضاء رسول الله ﷺ، (للبنت النصف، وبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقى للأخت)، فدل ذلك أن الأخوات مع البنات عصبة، والأخت تكون عصبة بغيرها، وهو أخوها. فلا يمتنع أن تكون عصبة مع البنت.
وقوله ﷺ: (ألحقوا الفرائض بأهلها.. ) إلخ فهذا عام خص منه المعتقة، والملاعنة، والملتقطة؛ لقوله ﷺ: (تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه)، وإذا كان عاما مخصوصا، خصت منه هذه الصورة بما ذكر من الأدلة.
فصل في ميراث البنتين
وأما ميراث البنتين فقد قال تعالى: { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } [84].
فدل القرآن على أن البنت لها مع أخيها الذكر الثلث، ولها وحدها النصف ولما فوق اثنتين الثلثان. بقيت البنت إذا كان لها مع الذكر الثلث لا الربع، فأن يكون لها مع الأنثى الثلث لا الربع أولى وأحرى، ولأنه قال: { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ }، فقيد النصف بكونها واحدة، فدل بمفهومه على أنه لا يكون لها إلا مع هذا الوصف، بخلاف قوله: { فَإِن كُنَّ نِسَاء }، ذكر ضمير كُنَّ ونِسَاء وذلك جمع، لم يمكن أن يقال: اثنتين؛ لأن ضمير الجمع لا يختص باثنتين، ولأن الحكم لا يختص باثنتين، فلزم أن يقال: { فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } ؛ لأنه قد عرف حكم الثنتين، وعرف حكم الواحدة، وإذا كانت واحدة فلها النصف، ولما فوق الثنتين الثلثان، امتنع أن يكون للبنتين أكثر من الثلثين، فلا يكون لهما جميع المال لكل واحدة النصف، فإن الثلاث ليس لهن إلا الثلثان، فكيف الثلاثة؟ ولا يكفيها النصف؛ لأنه لها بشرط أن تكون واحدة، فلا يكون لها إذا لم تكن واحدة.
وهذه الدلالة تظهر من قراءة النصب { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً }، فإن هذا خبر كان، تقديره: فإن كانت بنتا واحدة أي مفردة ليس معها غيرها { فَلَهَا النِّصْفُ } فلا يكون لها ذلك إذا كان معها غيرها، فانتفي النصف وانتفي الجميع، فلم يبق إلا الثلثان. وهذه دلالة من الآية.
وأيضًا، فإن الله لما قال في الأخوات: { فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } [85]، كان دليلا على أن البنتين أولى بالثلثين من الأختين.
وأيضًا، فسنة رسول الله ﷺ لما أعطى ابنتي سعد بن الربيع الثلثين، وأمهما الثمن، والعم ما بقي. وهذا إجماع لا يصح فيه خلاف عن ابن عباس.
ودلت آية الولد على أن حكم ما فوق الاثنين حكم الاثنتين، فكذلك قال في الأخوات: { فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } ولم يذكر ما فوقهما، فإنه إذا كانت الثنتان يستحقان الثلثين فما فوقهما بطريق الأولى والأحرى، بخلاف آية البنات؛ فإنه لم يدل قوله: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } [86] إلا على أن لها الثلث مع أخيها، وإذا كن اثنتين لم يستحقوا الثلث، فصار بيانه في كل من الآيتين من أحسن البيان؛ لما دل الكلام الأول على ميراث البنتين دون ما زاد على ذلك بين بعد ذلك ميراث ما زاد على البنتين في آية الصيف لما دل الكلام على ميراث الأختين، وكان ذلك دال بطريق الأولى على ميراث الثلاثة أو الأربعة، وما زاد لم يحتج أن يذكر ما زاد على الأختين. فهناك ذكر ما فوق البنتين دون البنتين، وفي الآية الأخرى ذكر البنتين دون ما فوقهما لما يقتضيه حسن البيان في كل موضوع.
ولما بين حكم الأخت الواحدة، والأخ الواحد وحكم الأختين فصاعدًا، بقى بيان الابنتين فصاعدًا من الصنفين، ليكون البيان مستوعبا للأقسام. ولفظ الأخوة وسائر جميع ألفاظ الجمع قد يعني به الجنس من غير قصد القدر منه، فيتناول الاثنين فصاعدًا. وقد يعني به الثالثة فصاعدًا. وفي هذه الآية إنما عني به العدد مطلقًا؛لأنه بين الواحدة قبل ذلك، ولأن ما ذكره من الأحكام في الفرائض فرق فيه بين الواحد والعدد، وسوى فيه بين مراتب العدد الاثنين والثلاثة، وقد صرح بذلك في قوله: { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ } إلى قوله { فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ } [87]، فقوله: { كَانُوَا } ضمير جمع وقوله: { أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ }، أي من أخ وأخت، ثم قال: { فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ } فذكرهم بصيغة الجمع المضمر، وهو قوله: { فَهُمْ } والمظهر، وهو قوله: { شُرَكَاء }.
فدل على أن صيغة الجمع في آيات الفرائض تناولت العدد مطلقا: الاثنين فصاعدًا؛ لقوله: { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } [88]، وقوله: { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } وقوله: { وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاء } [89]
فصل في ميراث الجدة والجدات
وأما الجدة فكما قال الصديق: ليس لها في كتاب الله شيء؛ فإن الأم المذكورة في كتاب الله مقيدة بقيود توجب اختصاص الحكم بالأم الدنيا، فالجدة وإن سميت أما لم تدخل في لفظ الأم المذكورة في الفرائض، فأدخلت في لفظ الأمهات في قوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [90]، ولكن رسول الله ﷺ أعطاها السدس. فثبت ميراثها بسنة رسول الله ﷺ؛ ولم ينقل عنه لفظ عام في الجدات، بل ورث الجدة التي سألته، فلما جاءت الثانية أبا بكر جعلها شريكة الأولى في السدس.
وقد تنازع الناس في الجدات فقيل: لا يرث الاثنتان؛ أم الأم، وأم الأب؛ كقول مالك، وأبي ثور. وقيل: لا يرث إلا ثلاث؛ هاتان، وأم الجد؛ لما روى إبراهيم النخعي: أن النبي ﷺ قال: (ورث ثلاث جدات: جدتيك من قبل أبيك، وجدتك من قبل أمك) وهذا مرسل حسن؛ فإن مراسيل إبراهيم من أحسن المراسيل. فأخذ به أحمد. ولم يرد في النص إلا توريث هؤلاء.
وقيل: بل يرث جنس الجدات المدليات بوارث، وهو قول الأكثرين؛ كأبي حنيفة، والشافعي، وغيرهما، وهو وجه في مذهب أحمد. وهذا القول أرجح؛ لأن لفظ النص وإن لم يرد في كل جدة، فالصديق لما جاءته الثانية قال لها: لم يكن السدس التي أعطى إلا لغيرك؛ ولكن هي لو خلت به فهو لها. فورث الثانية، والنص إنما كان في غيرها.
ولأنه لا نزاع أن من علت بالأمومة ورثت، فترث أم أم الأب، وأم أم الأم بالاتفاق، فيبقى أم أبي الجد. أي فرق بينها وبين أم الجد؟ وإن فرق بين أم الأب وأم الجد. ومعلوم أن أبا الجد يقوم مقام الجد، بل هو جد أعلا، كذلك الجد كالأب، فأي وصف يفرق بين أم أم الأب، وأم أبي الجد؟
يبين ذلك أن أم أم الميت وأم أبيه بالنسبة إليه سواء؛ فكذلك أم أم أبيه وأم أبي أبيه بالنسبة إلى أبيه سواء، فوجب اشتراكهما في الميراث.
وأيضًا، فهؤلاء جعلوا أم أم الأم وإن زادت أمومتها ترث، وأم أبي الأب لا ترث. ورجحوا الجدة من جهة الأم على الجدة من جهة الأب. وهذا ضعيف، فلم تكن أم الأم أولى به من أم الأب، وأقارب الأم لم يقدموا في شيء من الأحكام، بل أقارب الأب أولى في جميع الأحكام، فكذلك في الحضانة.
والصحيح أنها لا تسقط بابنها أي الأب كما هو أظهر الروايتين عن أحمد؛ لحديث ابن مسعود، ولأنها ولو أدلت به فهي لا ترث ميراثه، بل هي معه كولد الأم مع الأم لم يسقطوا بها.
وقول من قال: من أدلى بشخص سقط به، باطل طردًا وعكسا؛ باطل طردا بولد الأم مع الأم، وعكسا بولد الابن مع عمهم، وولد الأخ مع عمهم. وأمثال ذلك مما فيه سقوط شخص بمن لم يدل به، وإنما العلة أنه يرث ميراثه، فكل من ورث ميراث شخص سقط به إذا كان أقرب منه، والجدات يقمن مقام الأم فيسقطن بها وإن لم يدلين بها.
وأما كون بنات الابن مع البنت لهن السدس تكملة الثلثين، وكذلك الأخوات من الأب مع أخت الأبوين؛ فلأن الله قال: { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [91]، وقد علم أن الخطاب تناول ولد النبين دون ولد البنات، وأن قوله: { أَوْلاَدِكُمْ } يتناول من ينسب إلى الميت، وهم ولده وولد ابنته، وأنه متناولهم على الترتيب، يدخل فيه ولد النبين عند عدم ولد الصلب، لما قد عرف من أن ما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر، والابن أقرب من ابن الابن، فإذا لم تكن إلا بنت فلها النصف، وبقى من نصيب البنات السدس، فإذا كان هنا بنات ابن فإنهن يستحققن الجميع لولا البنت، فإذا أخذت النصف فالباقى لهن.
وكذلك في الأخت من الأبوين مع الأخت من الأب، أخبر ابن مسعود: أن النبي ﷺ قضى للبنت بالنصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين. وأما إذا استكملت البنات الثلثين لم يبق فرض، فإن كان هناك عصبة من ولد النبين فالمال له، لأنه أولى ذكر، وإن كان معه أو فوقه عصبها عند جمهور الصحابة والعلماء كالأربعة وغيرهم. وأما ابن مسعود فإنه يسقطها؛ لأنها لا ترث مفردة.
والنزاع في الأخت للأب مع أخيها إذا استكمل البنات الثلثين. فالجمهور يجعلون البنات عصبة مع إخوانهن، يقتسمون الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين، سواء زاد ميراثهن بالتعصيب أو نقص، وتوريثهن هنا أقوى، وقول ابن مسعود معروف في نقصانهن.
فصل فيمن عمي موتهم والمفقود
وفي من عمي موتهم فلم يعرف أيهم مات أولًا، فالنزاع مشهور فيهم. والأشبه بأصول الشريعة أنه لا يرث بعضهم من بعض، بل يرث كل واحد ورثته الأحياء، وهو قول الجمهور، وهو قول في مذهب أحمد، لكن خلاف المشهور في مذهبه، وذلك لأن المجهول كالمعدوم في الأصول، كالملتقط لما جهل حال المالك كان المجهول كالمعدوم، فصار مالكا لما التقطه، لعدم العلم بالملك.
وكذلك المفقود، قد أخذ أحمد بأقوال الصحابة الذين جعلوا المجهول كالمعدوم، فجعلوها زوجة الثاني ما دام الأول مجهولا باطنا وظاهرًا، كما في اللقط، فإذا علم صار النكاح موقوفا على إجازته ورده، فخير بين امرأته والمهر. فإن اختار امرأته كانت زوجته، وبطل نكاح الثاني، ولم يحتج إلى طلاقه.
والمقصود هنا أن أحمد تبع الصحابة الذين جعلوا المجهول كالمعدوم، وهنا إذا كان أحدهما قد مات قبل الآخر فذاك مجهول، والمجهول كالمعدوم فيكون تقدم أحدهما على الآخر معدوما فلا يرث أحدهما صاحبه.
وأيضًا، فالميراث جعل للحي ليكون خليفة للميت ينتفع بماله.
سئل عن رجل توفي وله عم شقيق وله أخت من أبيه
وسئل رَحمه الله عن رجل توفي، وله عم شقيق، وله أخت من أبيه: فما الميراث؟
فأجاب:
للأخت النصف، والباقي للعم، وذلك باتفاق المسلمين.
سئل عن أمراة ماتت وخلفت من الورثة بنتا وأخا من أمها وابن عم
وسئل عن أمراة ماتت، وخلفت من الورثة بنتا، وأخا من أمها، وابن عم فما يخص كل واحد؟
فأجاب:
للبنت النصف، ولابن العم الباقي، ولا شيء للأخ من الأم، لكن إذا حضر القسمة فينبغي أن يرضخ له. والبنت تسقط الأخ من الأم في مذهب الأئمة الأربعة. والله أعلم.
سئل عن امرأة ماتت عن زوج وأب وأم وولدين أنثى وذكر
وسئل رَحمه الله عن امرأة ماتت عن زوج، وأب، وأم، وولدين أنثى وذكر ثم بعد وفاتها توفي والدها وترك أباه، وأخته، وجده، وجدته؟
فأجاب:
للزوج الربع، وللأبوين السدسان، وهو الثلث، والباقي للولدين أثلاثا؛ ثم ما تركه الأب فلجدته سدسه، ولأبيه الباقي، ولاشيء لأخته، ولا جده، بل كلاهما يسقط بالأب.
سئل عن رجل له أولاد وكسب جارية وأولدها
وسئل رَحمه الله عن رجل له أولاد، وكسب جارية، وأولدها، فولدت ذكرا، فعتقها، وتزوجت، ورزقت أولادا، فتوفي الشخص، فخص ابنه الذي من الجارية دارا، وقد توفي: فهل يخص إخوته من أمه شيء مع إخوته الذين من أبيه؟
فأجاب:
للأم السدس، ولأخوته من الأم الثلث، والباقي لأخوته من أبيه، للذكر مثل حظ الأنثيين. والله أعلم.
سئل عن امرأة ماتت وخلفت زوجا وابن أخت
وسئل رَحمه الله عن امرأة ماتت، وخلفت زوجا، وابن أخت؟
فأجاب:
للزوج النصف، وأما ابن الأخت ففي أحد الأقوال له الباقي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأحمد في المشهور عنه وطائفة من أصحاب الشافعي.
وفي القول الثاني: الباقي لبيت المال، وهو قول كثير من أصحاب الشافعي، وأحمد في إحدى الروايات.
وأصل هذه المسألة: تنازع العلماء في ذوي الأرحام الذين لا فرض لهم، ولا تعصيب. فمذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية: أن من لا وارث له بفرض ولا تعصيب يكون ماله لبيت مال المسلمين. ومذهب أكثر السلف وأبي حنيفة، والثوري، وإسحاق، وأحمد في المشهور عنه، يكون الباقي لذوي الأرحام { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [92]، ولقول النبي ﷺ: (الخال وارث من لا وارث له، يرث ماله، ويفك عانه)
سئل عن رجل مات وترك زوجة وأختا لأبويه وثلاث بنات أخ لأبويه
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل مات، وترك زوجة، وأختا لأبويه، وثلاث بنات أخ لأبويه: فهل لبنات الأخ معهن شيء؟ وما يخص كل واحدة منهن؟
فأجاب:
للزوجة الربع، وللأخت لأبوين النصف، ولا شيء لبنات الأخ. والربع الثاني إن كان هناك عصبة فهو للعصبة، وإلا فهو مردود على الأخت على أحد قولي العلماء، وعلى الآخر هو لبيت المال.
سئل عن رجل مات وخلف بنتا وله أولاد أخ من أبيه
وسئل شيخ الإسلام رَحِمهُ الله عن رجل مات، وخلف بنتا، وله أولاد أخ من أبيه، وهم صغار، وله ابن عم راجل، وله بنت عم، وله أخ من أمه، وليس هو من أولاد أعمامه: فمن يأخذ المال؟ ومن يكون ولي البنت؟
فأجاب:
أما الميراث فنصفه للبنت، ونصفه لأبناء الأخ. وأما حضانة الجارية فهي لبنت العم، دون العم من الأم، ودون ابن العم الذي ليس بمحرم وله الولاية على المال الذي لليتيمة لوصى أو نوابه.
سئل عمن ترك ابنتين وعمه أخا أبيه من أمه
وسئل عمن ترك ابنتين، وعمه أخا أبيه من أمه: فما الحكم؟
فأجاب:
إذا مات الميت وترك بنتيه، وأخاه من أمه، فلا شيء لأخيه لأمه باتفاق الأئمة، بل للبنتين الثلثان، والباقي للعصبة، إن كان له عصبة، وإلا فهو مردود على البنتين، أو بيت المال.
سئل الشيخ عن رجل توفي وخلف أخا له وأختين شقيقين وبنتين وزوجة
وسئل الشيخ رَحِمهُ الله عن رجل توفي وخلف أخا له؛ وأختين شقيقين؛ وبنتين، وزوجة وخلف موجودا. وكان الأخ المذكور غائبا، فما تكون القسمة؟
فأجاب:
للزوجة الثمن وللبنتين الثلثان، وللأخوة خمسة قراريط، بين الأخ والأخت أثلاثا. فتحصل للزوجة ثلاثة قراريط، ولكل بنت ثمانية قراريط، وللأخ ثلاثة قراريط وثلث، وللأخت قيراط وثلثا قيراط.
سئل عن رجل له خالة ماتت وخلفت موجودا، ولم يكن لها وارث
وسئل عن رجل له خالة ماتت وخلفت موجودًا، ولم يكن لها وارث: فهل يرثها ابن أختها؟
فأجاب:
هذا في أحد قولي العلماء هو الوارث، وفي الآخر بيت المال الشرعي.
سئل عن رجل كانت له بنت عم وابن عم
وسئل عن رجل كانت له بنت عم، وابن عم، فتوفيت بنت العم، وتركت بنتا، ثم توفي ابن العم المذكور، وترك ولدين، فبقى الولدان وبنت بنت العم المتوفية، ثم توفيت البنت، وتركت أولاد عم: فمن يستحق الميراث؛ أولاد ابن العم من الأم، أم أولاد عمها؟
الجواب:
مذهب الإمام أحمد وغيره ممن يقول بالتنزيل كما نقل نحو ذلك عن الصحابة والتابعين، وهو قول الجمهور فتنزيل كل واحد من ذوي الأرحام منزلة من أدلى به، قريبا كان أو بعيدا، ولا يعتبر القرب إلى الوارث، ثم اتحدت الجهة، فإن أولاد العم لهم ثلثا المال وأولاد ابن عم الأم ثلث المال، فإن أولئك ينتهي أمرهم إلى الأم. وإذا وجد أم مع أب، أو مع جد، كان للأم الثلث، والباقي له. والله أعلم.
سئل عن رجل خلف زوجة وثلاثة أولاد ذكور منها ثم مات أحدهم
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل خلف زوجة، وثلاثة أولاد ذكور منها. ثم مات أحدهم وخلف أمه، وأخويه. ثم مات الآخر، وخلف أمه، وأخاه. ثم مات الثالث، وخلف أمه وابنا له: فما يحصل للأم من تركته؟
فأجاب:
للزوجة من تركة الميت الأول الثمن، والباقي للإخوة الذين هم أولاد الميت، ثم الأخ الأول لأمه سدس تركته، والباقي لأخويه. والأخ الثاني لأمه ثلث تركته، والباقي لأخيه، والأخ الثالث لأمه سدس التركة، والباقي لابنه.
سئل عن رجلين إخوة لأب وكانت أم أحدهما أم ولد
وسئل رَحمه الله عن رجلين إخوة لأب وكانت أم أحدهما أم ولد، تزوجت بإنسان، ورزقت منه اثنين، وكان ابن الأم المذكورة تزوج ورزق ولدًا، ومات وخلف ولده، فورث أباه، ثم مات الولد، وكان قد مات أخوه من أبيه في حياته، وخلف ابنا، فلما مات الولد خلف أخوه اثنين، وهم إخوة أبيه من أمه، وخلف ابن عم من أبيه: فما الذي يخص إخوة أبيه؟ وما الذي يخص ابن عمه؟
فأجاب:
الحمد للّه، الميراث جميعه لابن عمه من الأب، وأما إخوة أبيه من الأم فلا ميراث لهما، وهذا باتفاق المسلمين، لكن ينبغي للميت أن يوصى لقرابته الذين لا يرثونه، فإذا لم يوص فينبغي إذا حضروا القسمة أن يعطوا منه، كما قال تعالى: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا } [93]
سئل عن رجل توفي وخلف ابنين وبنتين وزوجة وابن أخ
وسئل عن رجل توفي، وخلف ابنين، وبنتين، وزوجة، وابن أخ. فتوفي الابنان، وأخذت الزوجة ما خصها، وتزوجت بأجنبى، وبقى نصيب الذكرين ما قسم، وأن الزوجة حبلت من الزوج الجديد، فأراد بقية الورثة قسمة الموجود، فمنع البقية إلى حيث تلد الزوجة. فهل يكون لها إذا ولدت مشاركة في الموجود؟
فأجاب:
الحمد للّه، الميت الأول لزوجته الثمن، والباقي لبنيه وبناته للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا شيء لابن الأخ، فيكون للزوجة ثلاثة قراريط، ولكل ابن سبعة قراريط، وللبنتين سبعة قراريط.
ثم الابن الأول لما مات خلف أخاه وأختين وأمه، والأخ الثاني خلف أختيه وأمه وابن عمه. والحمل إن كان موجودًا عند موت أحدهما ورثا منه؛ لأنه أخوه من أمه. وينبغي لزوج المرأة أن يكف عن وطئها من حين موت هذا. وهذا كما أمر بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه إذا لم يطأها وولدته، علم أنه كان موجودًا وقت الموت، وإذا وطئها وتأخر الحمل اشتبه، لكن من أراد من الورثة أن يعطي حقه أعطى الثلثين ووقف للحمل نصيب، وهو الثلث. والله أعلم.
سئل عن يتيم له موجود تحت أمين الحكم
وسئل رَحمه الله عن يتيم له موجود تحت أمين الحكم، وأن عمه تعمد قتله حسدًا فقتله، وثبت عليه ذلك. فما الذي يجب عليه شرعا، وما حكم الله في قسم ميراثه، من وقف وغيره، وله من الورثة والدة، وأخ من أمه، وجد لأمه، وأولاد القاتل؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، أما الميراث من المال فإنه لورثته، والقاتل لا يرث شيئًا باتفاق الأئمة، بل للأم الثلث، والأخ من الأم السدس والباقي لابن العم، ولا شيء للجد أبي الأم.
وأما الوقف فيرجع فيه إلى شرط الواقف الموافق للشرع.
وأما دم المقتول فإنه لورثته، وهم الأم، والأخ، وابن العم القاتل في مذهب الشافعي، وأحمد وغيرهما.
ومذهب مالك أنهم إن اختلفوا، فأرادت الأم أمرًا، وابن العم أمرًا، فإنه يقدم ما أراده ابن العم، وهو ذو العصبية في إحدى الروايات التي اختارها كثير من أصحابه. وفي الثانية وهي رواية ابن القاسم التي عليها العمل عند المغاربة: أن الأمر أمر من طلب الدم، سواء كان هو العاصب، أو ذات الفرض. والرواية الثالثة كمذهب الشافعي: أن من عفا من الورثة صح عفوه، وصار حق الباقين في الدية.
لكن ابن العم، هل يقتل أباه؟ هذا فيه قولان أيضًا: أحدهما: لا يقتله؛ كمذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه. وفي الثاني: يقتله؛ كقول مالك، وهو قول في مذهب أحمد، لكن القود ثبت للمقتول، ثم انتقل إلى الورث، لكن كره مالك له قتله، ومن وجب له القود فله أن يعفو، وله أن يأخذ الدية، وإذا عفا بعض المستحق للقود سقط، وكان حق الباقين في الدية. وله أن يأخذ الدية بغير رضا القاتل في مذهب الشافعي وأحمد في المشهور، وفي رواية أخرى: لا يأخذ الدية إلا برضا القاتل، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.
وإذا سقط القود عن قاتل العمد، فإنه يضرب مائة جلدة، ويحبس سنة عند مالك، وطائفة من أهل العلم، دون الباقين.
سئل عن قوله جدتي أمه وأبي جده وأنا عمة له وهو خالي
وسئل عَن قَولِهِ:
جدتي أمه وأبي جده ** وأنا عمة له وهو خالي
أفتنا يا إمام رحمك اللّ ** ه ويكفيك حادثات الليالي
فأجاب رحمه الله:
رجل زوج ابنه أم بنته ** وأتى البنت بالنكاح الحلال
فأتت منه ببنت قالت الشع ** ر قالت لابن هاتيك خالي
رجل تزوج امرأة وتزوج ابنه بأمها، ولد له بنت، ولابنه ابن، فبنته هي المخاطبة بالشعر فجدتها أم أمها هي أم ابن الابن زوجة الابن وأبوها جد ابن ابنه، وهي عمته أخت أبيه من الأب، وهو خالها أخو أمها من الأم. والله أعلم.
سئل عن قوله ما بال قوم غدوا قد مات ميتهم فأصبحوا يقسمون المال والحللا
وسئل رَحِمَه الله عن قوله: ما بال قوم غدوا قد مات ميتهم ** فأصبحوا يقسمون المال والحللا فقالت امرأة من غير عترتهم ** ألا أخبركم أعجوبة مثلا في البطن مني جنين دام يشكركم ** فأخروا القسم حتى تعرفوا الحملا فإن يكن ذكرا لم يعط خردلة ** وإن يكن غيره أنثى فقد فضلا بالنصف حقا يقينا ليس ينكره ** من كان يعرف فرض الله لا زللا إني ذكرت لكم أمري بلا كذب ** فلا أقول لكم جهلا ولا مثلا
فأجاب:
زوج، وأم، واثنان من ولد الأم، وحمل من الأب، والمرأة الحامل ليست أم الميت، بل هي زوجة أبيها. فللزوج النصف، وللأم السدس ولولد الأم الثلث. فإن كان الحمل ذكرًا فهو أخ من أب فلا شيء له باتفاق العلماء. وإن كان الحمل أنثى فهو أخت من أب، فيفرض لها النصف، وهو فاضل عن السهام. فأصلها من ستة، وتعول إلى تسعة.
وأما إن كان الحمل من أم الميت، فهكذا الجواب في أحد قولي العلماء من الصحابة، ومن بعدهم، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه. وعلى القول الآخر: إن كان الحمل ذكرًا يشارك ولد الأم، كواحد منهم، ولا يسقط، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في رواية عنه.
سئل عن امرأة مزوجة وزوجها في مرض مزمن
وسئل الشّيخ رَحمه الله عن امرأة مزوجة، ولزوجها ثلاث شهور، وهو في مرض مزمن، فطلب منها شرابًا فأبطأت عليه، فنفر منها. وقال لها: أنت طالق ثلاثة، وهي مقيمة عنده تخدمه، وبعد عشرين يوما توفي الزوج: فهل يقع الطلاق؟ وهل إذا حلف على حكم هذه الصورة يحنث؟ وهل للوارث أن يمنعها الإرث؟
فأجاب:
أما الطلاق فإنه يقع إن كان عاقلا مختارًا، لكن ترثه عند جمهور أئمة الإسلام، وهو مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة، والشافعي في القول القديم، كما قضى به عثمان بن عفان في امرأة عبد الرحمن بن عوف. فإنه طلقها في مرض موته، فورثها منه عثمان. وعليها أن تعتد أبعد الأجلين؛ من عدة الطلاق، أو عدة الوفاة. وأما إن كان عقله قد زال فلا طلاق عليه.
سئل عن رجل طلق زوجته طلقة واحدة في مرضه الذي مات فيه
وسئل رَحمه الله عن رجل طلق زوجته طلقة واحدة قبل الدخول بها، في مرضه الذي مات فيه: فهل يكون ذلك طلاق الفار؟ ويعامل بنقيض قصده؟ وترثه الزوجة، وتستكمل جميع صداقها عليه؟ أم لا ترث وتأخذ نصف الصداق، والحالة هذه؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، هذه المسألة مبنية على مسألة المطلق بعد الدخول في مرض الموت. والذي عليه جمهور السلف والخلف: توريثها؛ كما قضى بذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه لامرأة عبد الرحمن بن عوف؛ تماضر بنت الأصبغ، وقد كان طلقها في مرضه، وهذا مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة والشافعي في القديم.
ثم على هذا، هل ترث بعد انقضاء العدة؟ والمطلقة قبل الدخول؟ على قولين للعلماء: أصحهما أنها ترث أيضًا، وهو مذهب مالك، وأحمد في المشهور عنه، وقول للشافعي؛ لأنه قد روي أن عثمان ورثها بعد انقضاء العدة؛ ولأن هذه إنما ورثت لتعلق حقها بالتركة لما مرض مرض الموت، وصار محجورًا عليه في حقها، وحق سائر الورثة، بحيث لا يملك التبرع لوارث، ولا يملكه لغير وارث بزيادة على الثلث، كما لا يملك ذلك بعد الموت، فلما كان تصرفه في مرض موته بالنسبة إلى الورثة كتصرفه بعد الموت لا يملك قطع إرثها، فكذلك لا يملك بعد مرضه، وهذا هو طلاق الفار المشهور بهذا الاسم عند العلماء وهو القول الصحيح الذي أفتى به.
سئل عن امرأة مزوجة وزوجها في مرض مزمن
وسئل رَحمه الله عن رجل زوج ابنته، وكتب الصداق عليه، ثم إن الزوج مرض بعد ذلك، فحين قوى عليه المرض فقبل موته بثلاثة أيام طلق الزوجة؛ ليمنعها من الميراث: فهل يقع هذا الطلاق؟ وما الذي يجب لها في تركته؟
فأجاب:
هذه المطلقة إن كانت مطلقة طلاقا رجعيًا، ومات زوجها، وهي في العدة ورثته باتفاق المسلمين، وإن كان الطلاق بائنا كالمطلقة ثلاثًا، ورثته أيضًا عند جماهير أئمة الإسلام، وبه قضى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه لما طلق عبد الرحمن بن عوف زوجته بنت الأصبغ الكلبية، طلقها ثلاثا في مرض موته، فشاور عثمان الصحابة فأشاروا على أنها ترث منه، ولم يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك خلاف.
وإنما ظهر الخلاف في خلافة ابن الزبير، فإنه قال: لو كنت أنا لم أورثها، وابن الزبير قد انعقد الإجماع قبل أن يصير من أهل الاجتهاد، وإلى ذلك ذهب أئمة التابعين، ومن بعدهم، وهو مذهب أهل العراق؛ كالثوري، وأبي حنيفة، وأصحابه، ومذهب أهل المدينة؛ كمالك، وأصحابه، ومذهب فقهاء الحديث؛ كأحمد بن حنبل، وأمثاله، وهو القول القديم للشافعي، وفي الجديد وافق ابن الزبير؛ لأن الطلاق واقع بحيث لو ماتت هي لم يرثها هو بالاتفاق، فكذلك لا ترثه هي، ولأنها حرمت عليه بالطلاق، فلا يحل له وطؤها، ولا الاستمتاع بها، فتكون أجنبية، فلا ترث.
والجمهور قالوا: إن المريض مرض الموت قد تعلق الورثة بماله من حين المرض، وصار محجورًا عليه بالنسبة إليهم، فلا يتصرف في مرض موته من التبرعات، إلا ما يتصرفه بعد موته، فليس له في مرض الموت أن يحرم بعض الورثة ميراثه، ويخص بعضهم بالإرث، كما ليس له ذلك بعد الموت، وليس له أن يتبرع لأجنبي بما زاد على الثلث في مرض موته، كما لا يملك ذلك بعد الموت.
وفي الحديث: (من قطع ميراثا قطع الله ميراثه من الجنة)، وإذا كان كذلك فليس له بعد المرض أن يقطع حقها من الإرث، لا بطلاق، ولا غيره. وإن وقع الطلاق بالنسبة له، إذ له أن يقطع نفسه منها، ولا يقطع حقها منه. وعلى هذا القول ففي وجوب العدة نزاع. هل تعتد عدة الطلاق أو عدة الوفاة؟ أو أطولهما؟ على ثلاثة أقوال: أظهرها أنها تعتد أبعد الأجلين، وكذلك هل يكمل لها المهر؟ قولان: أظهرهما أنه يكمل لها المهر أيضًا؛ فإنه من حقوقها التي تستقر، كما تستحق الإرث.
سئل عن رجل تزوج بامرأتين إحداهما مسلمة والأخرى كتابية
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج بامرأتين: إحداهما مسلمة، والأخرى كتابية، ثم قال: إحداكما طالق، ومات قبل البيان، فلمن تكون التركة من بعده؟ وأيهما تعتد عدة الطلاق؟
فأجاب:
هذه المسألة فيها تفصيل ونزاع بين العلماء. فمنهم من فرق بين أن يطلق معينة وينساها، أو يجهل عينها؛ وبين أن يطلق مبهمة، ويموت قبل تمييزها بتعيينه أو تعريفه.
ثم منهم من يقول: يقع الطلاق بالجميع؛ كقول مالك. ومنهم من يقول لا يقع إلا بواحدة؛ كقول الثلاثة، وإذا قدر تعيينها، ولم تعين، فهل تقسم التركة بين المطلقة وغيرها، كما يقوله أبو حنيفة؟ أو يوقف الأمر حتى يصطلحا كما يقول الشافعي؟ أو يقرع بين المطلقة وغيرها كما يقول أحمد وغيره من فقهاء الحديث؟ على ثلاثة أقوال.
والقرعة بعد الموت هي قرعة على المال؛ فلهذا قال بها من لم ير القرعة في المطلقات. والصحيح في هذه المسألة سواء كانت المطلقة مبهمة أو مجهولة أن يقرع بين الزوجتين، فإذا خرجت القرعة على المسلمة لم ترث هي ولا الذمية شيئًا، أما هي فلأنها مطلقة، وأما الذمية فإن الكافر لا يرث المسلم، وإن خرجت القرعة على الذمية ورثت المسلمة ميراث زوجة كاملة. هذا إذا كان الطلاق طلاقا محرما للميراث، مثل أن يبينها في حال صحته.
فأما إن كان الطلاق رجعيا في الصحة والمرض، ومات قبل انقضاء العدة فهذه زوجته ترث، وعليها عدة الوفاة باتفاق الأئمة، وتنقضى بذلك عدتها عند جمهورهم؛ كمالك والشافعي، وأبي حنيفة، وهو قول أحمد في إحدى الروايتين. والمشهور عنه أنها تعتد أطول الأجلين من مدة الوفاة والطلاق. وإن كان الطلاق بائنا في مرض الموت فإن جمهور العلماء على أن البائنة في مرض الموت ترث، إذا كان طلقها طلاقا فيه قصد حرمانها الميراث. هذا قول مالك. وهو يرثها وإن انقضت عدتها وتزوجت، وهو مذهب أبي حنيفة وهو يرثها ما دامت في العدة، وهو المشهور عنه، ما لم تتزوج. وللشافعي ثلاثة أقوال كذلك، لكن قوله الجديد: أنها لا ترث.
وأما إذا لم يتهم بقصد حرمانها، فالأكثرون على أنها لا ترث، فعلى هذا لا ترث هذه المرأة؛ لأن مثل هذا الطلاق الذي لم يعين فيه، لا يظهر فيه قصد الحرمان، ومن ورثها مطلقًا كأحمد في إحدى الروايتين فالحكم عنده كذلك.
وإذا ورثت المبتوتة فقيل: تعتد أبعد الأجلين، وهو ظاهر مذهب أحمد، وقول أبي حنيفة، ومحمد. وقيل: تعتد عدة الطلاق فقط، وهو قول مالك، والشافعي المشهور عنه، ورواية عن أحمد، وقول للشافعي.
وأما صورة أنها لم تتبين المطلقة، فإحداهما وجبت عليها عدة الوفاة، والأخرى عدة الطلاق، وكل منهما وجبت عليه إحدى العدتين، فاشتبه الواجب بغيره؛ فلهذا كان الأظهر هنا وجوب العدتين على كل منهما؛ لأن الذمة لا تبرأ من أداء الواجب إلا بذلك.
سئل عن رجل توفي وخلف مستولدة له
وسئل رحمه الله عن رجل توفي، وخلف مستولدة له، ثم بعد ذلك توفيت المستولدة، وخلفت ولدًا ذكرًا، وبنتين، فهل للبنات ولاء مع الذكر؟ وهل يرثن معه شيئًا؟
فأجاب:
هذا فيه روايتان عن أحمد، إحداهما وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي: أن الولاء يختص بالذكور. والثانية: أن الولاء مشترك بين النبين، والبنات، للذكر مثل حظ الأنثيين. والله أعلم.
سئل عن رجل له جارية وله ولد فزنى بالجارية وهي تزني مع غيره
وسئل رَحمه الله عن رجل له جارية، وله ولد، فزنى بالجارية، وهي تزني مع غيره، فجاءت بولد ونسبته إلى ولده، فاستلحقه، ورضي السيد. فهل يرث إذا مات مستلحقه؟ أم لا؟
فأجاب:
إن كان الولد استلحقه في حياته، وقال: هذا ابني، لحقه النسب، وكان من أولاده، إذا لم يكن له أب يعرف غيره. وكذلك إن علم أن الجارية كانت ملكا للابن، فإن (الولد للفراش، وللعاهر الحجر).
سئل عمن له والدة ولها جارية فواقعها بغير إذن والدته
وسئل رَحمه الله عمن له والدة، ولها جارية؛ فواقعها بغير إذن والدته، فحملت منه، فولدت غلاما، وملكهما، ويريد أن يبيع ولده من الزنا؟
فأجاب:
هذا ينبغي له أن يعتقه باتفاق العلماء، بل قد تنازع العلماء، هل يعتق عليه من غير إعتاق؟ على قولين:
أحدهما: أنه يعتق عليه، وهو مذهب أبي حنيفة، وقول القاضي أبي يعلى من أصحاب أحمد، ولكن مع هذا لا يرث هذا لهذا، ولا هذا لهذا.
والثاني: لا يعتق عليه، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في المنصوص عنه. والله أعلم.
سئل عن رجل له جارية وله ولد فزنى بالجارية وهي تزني مع غيره
وسئل رَحمه الله عن رجل أعطى لزوجته من صداقها جارية، فأعتقتها، ثم بعد مدة وَطِئ الجارية، فولدت ابنًا، وولدت زوجته بنتًا، وتوفي: فهل يرث الابن الذي من الجارية مع بنت زوجته؟
فأجاب:
إذا كان قد وطئ الجارية المعتقة بغير نكاح، وهو يعلم أن الوطء حرام فولده ولد زنا، لا يرث هذا الواطئ، ولا يرثه الواطئ، في مذهب الأئمة الأربعة. والله أعلم.
باب العتق
سئل عن عتق ولد الزنا
سئل عَن عتق وَلَد الزّنَا؟
فأجاب:
يجوز عتق ولد الزنا، ويثاب بعتقه. والله أعلم.
سئل عن رجل قرشي تزوج بجارية مملوكة فأولدها ولدا
وسئل الشيخ رَحمه الله عن رجل قرشي: تزوج بجارية مملوكة، فأولدها ولدا. هل يكون الولد حرا؟ أم يكون عبدا مملوكا؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، إذا تزوج الرجل المرأة، وعلم أنها مملوكة. فإن ولدها منه مملوك لسيدها باتفاق الأئمة؛ فإن الولد يتبع أباه في النسب والولاء، ويتبع أمه في الحرية والرق.
فإن كان الولد ممن يسترق جنسه بالاتفاق، فهو رقيق بالاتفاق، وإن كان ممن تنازع الفقهاء في رقه، وقع النزاع في رقه، كالعرب.
والصحيح أنه يجوز استرقاق العرب والعجم؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله ﷺ يقولها فيهم، سمعت رسول الله ﷺ يقول: (هم أشد أمتى على الرجال). وجاءت صدقاتهم فقال النبي ﷺ: (هذه صدقات قومنا). قال: وكانت سبية منهم عند عائشة، فقال النبي ﷺ: (اعتقيها فإنها من ولد إسماعيل).
وفي لفظ لمسلم: ثلاث خلال سمعتهن من رسول الله ﷺ في بني تميم، لا أزال أحبهم بعدها، كان على عائشة محرر، فقال رسول الله ﷺ: (اعتقي من هؤلاء). وجاءت صدقاتهم فقال: (هذه صدقات قومي)، وقال: (هم أشد الناس قتلا في الملاحم).
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أبي أيوب الأنصاري، عن النبي ﷺ قال: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل). ففي هذا الحديث أن بني إسماعيل يعتقون. فدل على ثبوت الرق عليهم، كما أمر عائشة أن تعتق عن المحرر الذي كان عليها من بني إسماعيل. وفيه: من بني تميم لأنهم من ولد إسماعيل.
وفي صحيح البخاري عن مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة: أن رسول الله ﷺ قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم النبي ﷺ: (معي من ترون، وأحب الحديث إلى أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين، إما المال، وإما السبي وقد كنت استأنيت بكم)، وكان انتظرهم رسول الله ﷺ بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبين لهم أن رسول الله ﷺ غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: فإنا نختار سبينا؛ فقام رسول الله ﷺ في المسلمين؛ وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: (أما بعد، فإن إخوانكم قد جاؤونا تائبين، وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل). فقال الناس: طيبنا ذلك يا رسول الله. فقال رسول الله ﷺ: (إنا لا ندري من أذن في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم)، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله ﷺ فأخبروه أنهم قد طيبوا، وأذنوا. ففي هذا الحديث الصحيح أنه سبي نساء هوازن، وهم عرب، وقسمهم بين الغانمين. فصاروا رقيقا لهم؛ ثم بعد ذلك طلب أخذهم منهم، إما تبرعا، وإما معاوضة، وقد جاء في الحديث أنه أعتقهم، كما في حديث عمر لما اعتكف وبلغه أن النبي ﷺ أعتق السبي، فأعتق جارية كانت عنده والمسلمون كانو يطؤون ذلك السبي بملك اليمين، كما في سبي أوطاس، وهو من سبي هوازن، فإن النبي ﷺ قال فيه: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة).
وفي المسند للإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قسم رسول الله ﷺ سبايا بني المصطلق، فوقعت جويرية بنت الحارث لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، كاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، فأتت رسول الله ﷺ وقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، وجئتك أستعينك على كتابتي، فقال رسول الله ﷺ: (هل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول اللّّه؟ قال: (أقضي كتابتك، وأتزوجك). قالت: نعم، يا رسول الله، قال: (قد فعلت)، قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله ﷺ تزوج جويرية بنت الحارث، فأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فقد عتق بتزوجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، وما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها. وهذه الأحاديث ونحوها مشهورة، بل متواترة: أن النبي ﷺ كان يسبي العرب وكذلك خلفاؤه بعده، كما قال الأئمة وغيرهم: سبى النبي ﷺ العرب، وسبى أبو بكر بني ناحية، وكان يطارد العرب بذلك الاسترقاق، وقد قال الله لهم: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ } [94]، وفي حديث أبي سعيد وغيره: أنها نزلت في المسبيات، أباح الله لهم وطأها بملك اليمين.
وإذا سبيت واسترقت بدون زوجها جاز وطؤها بلا ريب، وإنما فيه خلاف شاذ في مذهب أحمد، وحكى الخلاف في مذهب مالك. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة إذا وقعت في ملك ولها زوج مقيم بدار الحرب، أن نكاح زوجها قد انفسخ، وحل لمالكها وطؤها بعد الاستبراء، وأما إذا سبيت مع زوجها ففيه نزاع بين أهل العلم.
ومعلوم أن عامة السبي الذي كان يسبيه النبي ﷺ كان في الحرب، وقد قاتل أهل الكتاب، فإنه خرج لقتال النصارى عام تبوك، ولم يجر بينهم قتال، وقد بعث إليهم السرية التي أمر عليها زيد، ثم جعفر، ثم عبد الله بن رواحة. ومع هذا فكان في النصارى العرب، والروم. وكذلك قاتل اليهود بخيبر والنضير وقينقاع؛ وكان في يهود العرب، وبنو إسرائيل. وكذلك يهود اليمن، كان فيهم العرب، وبنو إسرائيل.
وأيضًا، فسبب الاسترقاق هو الكفر بشرط الحرب، فالحر المسلم لا يسترق بحال، والمعاهد لا يسترق، والكفر مع المحاربة موجود في كل كافر، فجاز استرقاقه، كما يجوز قتاله، فكل ما أباح قتل المقاتلة أباح سبي الذرية؛ وهذا حكم عام في العرب والعجم، وهذا مذهب مالك والشافعي في الجديد من قوليه، وأحمد.
وأما أبو حنيفة فلا يجوز استرقاق العرب، كما لا يجوز ضرب الجزية عليهم؛ لأن العرب اختصوا بشرف النسب؛ لكون النبي ﷺ منهم، واختص كفارهم بفرط عدوانه؛ فصار ذلك مانعا من قبول الجزية، كما أن المرتد لا تؤخذ منه الجزية؛ للتغليظ؛ ولما حصل له من الشرف بالإسلام السابق. واحتج بما روي عن عمر أنه قال: ليس على عربي ملك.
والذين نازعوه لهم قولان في جواز استرقاق من لا تقبل منه الجزية، هما روايتان عن أحمد.
إحداهما: أن الاسترقاق كأخذ الجزية، فمن لم تؤخذ منه الجزية لا يسترق، وهذا مذهب أبي حنيفة وغيره وهو اختيار الخرقي، والقاضي وغيرهما من أصحاب أحمد، وهو قول الاصطخري من أصحاب الشافعي. وعند أبي حنيفة تقبل الجزية من كل كافر، إلا من مشركي العرب، وهو رواية عن أحمد. فعلى هذا لا يجوز استرقاق مشركي العرب؛ لكون الجزية لا تؤخذ منهم، ويجوز استرقاق مشركي العجم، وهو قول الشافعي؛ بناء على قوله: إن العرب لا يسترقون.
والرواية الأخرى عن أحمد: أن الجزية لا تقبل إلا من أهل الكتاب، والمجوس، كمذهب الشافعي. فعلى هذا القول في مذهب أحمد: لا يجوز استرقاق أحد من المشركين، لا من العرب، ولا من غيرهم كاختيار الخرقي، والقاضي وغيرهما. وهذان القولان في مذهب أحمد لا يمنع فيه الرق؛ لأجل النسب، لكن لأجل الدين. فإذا سبي عربية فأسلمت استرقها، وإن لم تسلم أجبرها على الإسلام. وعلى هذا يحملون ما كان النبي ﷺ والصحابة يفعلونه من استرقاق العرب.
وأما الرقيق الوثني، فلا يجوز إقراره عندهم برق، كما يجوز بجزية. وهذا كما أن الصحابة سبوا العربيات والوثنيات؛ ووطؤوهم؛ وقد قال النبي ﷺ: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة). ثم الأئمة الأربعة متفقون على أن الوطأ إنما كان بعد الإسلام؛ وأن وطء الوثنية لا يجوز، كما لا يجوز تزويجها.
والقول الثاني: أنه يجوز استرقاق من لا تؤخذ منهم الجزية من أهل الأوثان، وهو مذهب الشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى؛ بناء على أن الصحابة استرقوهم؛ ولم نعلم أنهم أجبروهم على الإسلام؛ ولأنه لا يجوز قتلهم، فلابد من استرقاقهم، والرق فيه من الغل ما ليس في أخذ الجزية. وقد تبين مما ذكرناه أن الصحيح جواز استرقاق العرب.
وأما الأثر المذكور عن عمر إذا كان صحيحا صريحا في محل النزاع فقد خالفه أبو بكر وعلى؛ فإنهم سبوا العرب. ويحتمل أن يكون قول عمر محمولا على أن العرب أسلموا قبل أن يسترق رجالهم، فلا يضرب عليهم رق، كما أن قريشا أسلموا كلهم فلم يضرب عليهم رق؛ لأجل إسلامهم، لا لأجل النسب، ولم تتمكن الصحابة من سبي نساء قريش، كما تمكنوا من سبي نساء طوائف من العرب؛ ولهذا لم يسترق منهم أحد، ولم يحفظ عن النبي ﷺ في النهي عن سبيهم شيء.
وأما إذا تزوج العربي مملوكة فنكاح الحر للمملوكة لا يجوز إلا بشرطين: خوف العنت، وعدم الطول إلى نكاح حرة، في مذهب مالك والشافعي وأحمد. وعللوا ذلك بأن تزوجه يفضي إلى استرقاق ولده، فلا يجوز للحر العربي ولا العجمي أن يتزوج مملوكة إلا لضرورة، وإذا تزوجها للضرورة كان ولده مملوكا. وأما أبو حنيفة فالمانع عنده أن تكون تحته حرة، وهو يفرق في الاسترقاق بين العربي وغيره.
وأما إذا وطئ الأمة بزنا فإن ولدها مملوك لسيدها بالاتفاق، وإن كان أبوه عربيا؛ لأن النسب غير لاحق. وأما إذا وطئها بنكاح، وهو يعتقدها حرة، أو استبرأها فوطئها يظنها مملوكته، فهنا ولده حر، سواء كان عربيا أو عجميا. وهذا يسمى المغرور. فولد المغرور من النكاح أو البيع حر؛ لاعتقاده أنه وطئ زوجة حرة، أو مملوكته. وعليه الفداء لسيد الأمة كما قضت بذلك الصحابة؛ لأنه فوت سيد الأمة ملكهم، فكان عليه الضمان. وفي ذلك تفريع ونزاع ليس هذا موضعه. والله أعلم.
سئل عن رجل له مملوك هرب فلما رجع قتل نفسه
وسئل شيخ الإسلام رَحِمهُ الله عن رجل له مملوك هرب، ثم رجع، فلما رجع أخفي سكينته، وقتل نفسه: فهل يأثم سيده؟ وهل تجوز عليه صلاة؟
فأجاب:
الحمد للّه، لم يكن له أن يقتل نفسه، وإن كان سيده قد ظلمه، واعتدى عليه، بل كان عليه إذا لم يمكنه دفع الظلم عن نفسه أن يصبر إلى أن يفرج الله، فإن كان سيده ظلمه حتى فعل ذلك؛ مثل أن يقتر عليه في النفقة، أو يعتدي عليه في الاستعمال، أو يضربه بغير حق، أو يريد به فاحشة، ونحو ذلك؛ فإن على سيده من الوزر بقدر ما نسب إليه من المعصية.
ولم يصل النبي ﷺ على من قتل نفسه، فقال لأصحابه: (صلوا عليه)، فيجوز لعموم الناس أن يصلوا عليه. وأما أئمة الدين الذين يقتدي بهم فإذا تركوا الصلاة عليه زجرًا لغيره اقتداء بالنبي ﷺ فهذا حق. والله أعلم.
سئل عن مماليك ضمنوا رجلا وكانوا مماليك إنسان وهو مسلم نجس ببلاد التتر
وسئل رَحمه الله تعالى عن مماليك ضمنوا رجلا، وكانوا مماليك إنسان، وهو مسلم نجس ببلاد التتر، وهم متفقون على طاعة الله ورسوله، يطلبون الحج ويصلون، ويزكون ويتصدقون، وهو غلب عليه العصيان، يمنعهم عن طاعة الله ورسوله، فلم تطب لهم مخالفة الله ورسوله، وهو قاطع طريق، وشارب خمر، وزان، وتارك للصلاة، وقاتل النفس التي حرم الله، ويطلبون منه البيع فلم يبعهم ويطلبون العتق فلم يعتقهم، وكلما تلفظوا له بشيء من ذلك ضربهم، ويسجنهم فيموتوا جوعا، فاتفقوا وهربوا إلى مصر طالبين طاعة الله ورسوله، فمنهم اليوم حجاج، فهل في طاعة الله ورسوله نص لأجل أبقهم؟
فأجاب:
إذا كانوا كما ذكروا يمنعهم ذلك الرجل من فعل ما أمر الله ورسوله، ويكرههم على فعل ما نهي الله عنه ورسوله، كان خروجهم من تحت يده جائزًا، بل واجبا. وقد أحسنوا فيما فعلوا، فإنه لا حرمة لمن يكون كذلك، إذ لو كان في طاعة المسلمين، فكيف إذا كان في طاعة التتر؟ فإنه يجب قتاله، وإن كان مسلما. وهؤلاء المهاجرون الذين فروا بأنفسهم قد أحسنوا في ذلك، والعبد إذا هاجر من أرض الحرب فإنه حر، ولا حكم عليه لأحد.
سئل عن نائب أخذ من مال مخدومه مبلغا واشترى به مماليك
وسئل عن نائب أخذ من مال مخدومه مبلغا، واشترى به مماليك، فقيل له: لأي شيء تأخذ مال أستاذك، وتشتري به مماليك؟ فقال: اشتراها له، وهي باقية على ملكه، ثم أعتقها جميعها. وادعى في العتق أنها مماليكه، وهو اليوم معسر عن قيمة ثمنهم. فهل يصح العتق؟
فأجاب:
إذا اشترى مماليك للرجل بإذنه، فهم كذلك للرجل، وإذا أعتقهم بغير إذن المالك لم يصح عتقه. وإن اشتراهم بمال الرجل بغير إذنه فلصاحب المال أن يأخذهم، وله أن يغرم هذا الغاصب ماله. وإذا أعتقهم هذا المشتري فلصاحب المال أن يأخذهم، ويكون العتق باطلا. والله أعلم.
(آخر المجلد الحادي والثلاثين )
=============
=============
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
سئل عن رجل احتكر من رجل قطعة أرض
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى عن رجل احتكر من رجل قطعة أرض بستان، ثم إن المحتكر عمر في أرض البستان صورة مسجد، وبني فيها محرابًا، وقال لمالك الأرض: هذا عمرته مسجدًا فلا تأخذ مني حكره، فأجابه إلى ذلك، ثم إن مالك الأرض باع البستان، ولم يستثن منه شيئا، فهل يصير هذا المكان مسجدًا بذلك أم لا؟ وإذا لم يصر مسجدًا بذلك، فهل يكون عدم أخذ مالك الأرض الحكر يصير مسجدًا؟ وإذا لم يصر بيع البستان جميعه، هل يجوز لباني صورة المسجد أن يضع ما بناه؟
فأجاب:
إذا لم يسبل للناس كما تسبل المساجد، بحيث تصلي فيه الصلوات الخمس التي تصلي في المساجد، لم يصر مسجدًا بمجرد الإذن في العمارة المذكورة، وإذا لم يكن قربة يقتضي خروجه من المبيع دخل في المبيع، فإن الشروع في تصييره مسجدًا لا يجعله مسجدًا.
وكذلك القول في العمارة، لكن ينبغي لمن أخرج ثمن ذلك ألا يعود إلى ملكه، كمن أخرج من ماله مالًا ليتصدق به، فلم يجد السائل ينبغي له أن يمضي ذلك، ويتصدق به على سائل آخر، ولا يعيده إلى ملكه، وإن لم يجب.
وإذا صرف مثل هذا المكان في مصالح مسجد آخر جاز ذلك، بل إذا صار مسجدًا، وكان بحيث لا يصلي فيه أحد جاز أن ينقل إلى مسجد ينتفع به، بل إذا جاز أن يباع ويصرف ثمنه في مسجد آخر، بل يجوز أن يعمر عمارة ينتفع بها لمسجد آخر.
سئل عمن بني مسجدا وأوقف حانوتا على مؤذن وقيم معين
وسئل رحمه الله عمن بني مسجدًا، وأوقف حانوتًا على مؤذن وقيم معين، ولم يتسلم من ريع الحانوت شيئا في حياته، فهل يجوز تناوله بعد وفاته؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا وقف وقفًا، ولم يخرج من يده، ففيه قولان مشهوران لأهل العلم:
أحدهما: يبطلُ، وهو مذهب مالك والإمام أحمد في إحدى الروايتين وقول أبي حنيفة وصاحبه محمد.
والثاني: يلزم، وهو مذهب الشافعي والإمام أحمد في إحدى الروايتين عن أحمد، والقول الثاني في مذهب أبي حنيفة وقول أبي يوسف. والله أعلم.
سئل عن البناء على الزاوية والمسجد
وسئل عن حقوق زاوية وهو بظاهرها، وقد أقيم فيه محراب منذ سنين، فرأي من له النظر على المكان المذكور المصلحة في بناء طبقة على ذلك المحراب، إما لسكن الإمام، أو لمن يخدم المكان من غير ضرورة تعود على المكان المذكور، ولا على أهله، فهل يجوز ذلك؟
فأجاب:
إذا لم يكن ذلك مسجدًا معدًا للصلوات الخمس، بل هو من حقوق المكان؛ جاز أن يبني فيه ما يكون من مصلحة المكان، ومجرد تصوير محراب لا يجعله مسجدًا، لاسيما إذا كان المسجد المعد للصلوات، ففي البناء عليه نزاع بين العلماء.
سئل عمن استأجر أرضا وبني فيها
وسئل رحمه الله عمن استأجر أرضًا، وبني فيها دارًا ودكانًا أو شيئا يستحق له كري عشرين درهمًا كل شهر، إذا يعمر، وعليه حكر في كل شهر درهم ونصف توقف قديمًا، فهل يجوز للمستأجر أن يعمر مع ما قد عمره من الملك مسجدًا لله ويوقف الملك على المسجد؟
فأجاب:
يجوز أن يقف البناء الذي بناه في الأرض المستأجرة، سواء وقفه مسجدًا أو غير مسجد، ولا يسقط ذلك حق أهل الأرض، فإنه متى انتقضت مدة الإجارة وانهدم البناء، زال حكم الوقف، سواء كان مسجدًا أو غير مسجد، وأخذوا أرضهم فانتفعوا بها، وما دام البناء قائما فيها فعليه أجرة المثل، ولو وقف على ربع، أو دار مسجدًا، ثم انهدمت الدار، أو الربع، فإن وقف العلو لا يسقط حق ملاك السفل، كذلك وقف البناء لا يسقط على ملاك الأرض.
سئل عمن وصى أو وقف على جيرانه فما الحكم
وسئل رحمه الله عمن وصى، أو وقف على جيرانه فما الحكم؟
فأجاب:
إذا لم يعرف مقصود الواقف والوصي، لا بقرينة لفظية ولا عرفية، ولا كان له عرف في مسمي الجيران، رجع في ذلك إلى المسمي الشرعي وهو أربعون دارًا من كل جانب؛ لما روي عن النبي ﷺ أنه قال: (الجيران أربعون من هاهنا وهاهنا، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه). والله أعلم.
سئل عن رجل معرف على المراكب وبني مسجدا
وسئل عن رجل معرف على المراكب، وبني مسجدًا، وجعل للإمام في كل المراكب شهر أجرة من عنده، فهل هو حلال أم حرام؟ وهل تجوز الصلاة في المسجد أم لا؟
فأجاب:
إن كان يعطي هذه الدراهم من أجرة المراكب التي له جاز أخذها، وإن كان يعطيها مما يأخذ من الناس بغير حق فلا. والله أعلم.
سئل عن قوم بيدهم وقف من جدهم من أكثر من مائة وخمسين سنة
وسئل رحمه الله عن قوم بيدهم وقف من جدهم من أكثر من مائة وخمسين سنة على مشهد مضاف إلى شيث، وعلى ذرية الواقف والفقراء، ونظره لهم، والوقف معروف بذلك من الزمان القديم. وقد ثبت ذلك في مجلس الحكم الشريف، وبيدهم مراسيم الملوك من زمان نور الدين، وصلاح الدين تشهد بذلك، وتأمر بإعفاء هذا الوقف، ورعاية حرمته، وقد قام نظار هذا الوقف في هذا الوقت طلبوا أن يفرقوا نصف المغل في عمارة المشهد، والنصف الذي يبقي لذريته يأخذونه لا يعطونهم إياه، ولا يصرفونه في مصارف الوقف؟
فأجاب:
لا يجوز هذا للناظر، ولا يجوز تمكينهم من أن يصرفوا الوقف في غير مصارفه الشرعية ولا حرمان ورثة الواقف والفقراء الداخلين في شرط الواقف، بل ذريته والفقراء أحق بأن يصرف إليهم ما شرط لهم من المشهد المذكور، فكيف يحرمون والحال هذه بل لو كان الوقف على المشهد وحده؛ لكان صرف ما يفضل إليهم مع حاجتهم أولى من صرفه إلى غيرهم.
فمن صرف بعض الوقف على المشهد، وأخذ بعضه يصرفه فيما لم يقتضه الشرط، وحرم الذرية الداخلين في الشرط، فقد عصى الله ورسوله، وتعدي حدوده من وجوب أداء الوقف على ذرية الواقف، جائر باتفاق أئمة المسلمين المجوزين للوقف، وهو أمر قديم من زمن الصحابة والتابعين.
وأما بناء المشاهد على القبور والوقف عليها، فبدعة لم يكن على عهد الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم، بل ولا على عهد الأربعة.
وقد اتفق الأئمة على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد على القبور، ولا الإعانة على ذلك بوقف ولا غيره، ولا النذر لها، ولا العكوف عليها، ولا فضيلة للصلاة والدعاء فيها على المساجد الخالية عن القبور، فإنه يعرف أن هذا خلاف دين الإسلام المعلوم بالاضطرار المتفق عليه بين الأئمة، فإنه إن لم يرجع فإنه يستتاب، بل قد نص الأئمة المعتبرون على أن بناء المساجد على القبور مثل هذا المشهد ونحوه حرام؛ لما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا. قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا.
وفي صحيح مسلم عنه ﷺ أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)، وفي السنن عنه ﷺ أنه قال: (لعن الله زوارات القبور؛ والمتخذين عليها المساجد والسرج)، فقد لعن من يبني مسجدًا على قبر، ويوقد فيه سراجًا مثل قنديل وشمعة ونحو ذلك، فكيف يصرف مال أحدهم إلى ما نهي عنه رسول الله ﷺ، ويترك صرف ما شرط لهم مع استحقاقهم ذلك في دين الله؟ نعم، لو كان هذا مسجدًا لله خاليًا عن قبر لكانوا هم وهو في متناول شرط الواقف لهما سواء.
أما ما يصرف لبناء المشهد فمعصية لله، والصرف إليهم واجب، وإن كان المسجد منفصلًا عن القبر، فحكمه حكم سائر مساجد المسلمين، ولكن لا فضيلة له على غيره. والله أعلم.
سئل عن رجل وقف وقفا على مدرسة
وسئل رحمه الله عن رجل وقف وقفا على مدرسة، وشرط في كتاب الوقف أنه لا ينزل بالمدرسة المذكورة إلا من لم يكن له وظيفة بجامكية ولا مرتب، وأنه لا يصرف ريعها لمن له مرتب في جهة أخرى، وشرط لكل طالب جامكية معلومة، فهل يصح هذا الشرط والحالة هذه، وإذا صح فنقص ريع الوقف، ولم يصل كل طالب إلى الجامكية المقررة له، فهل يجوز للطالب أن يتناول جامكية في مكان آخر؟ وإذا نقص ريع الوقف ولم يصل كل طالب إلى تمام حقه، فهل يجوز للناظر أن يبطل الشرط المذكور أم لا؟ وإذا حكم بصحة الوقف المذكور حاكم: هل يبطل الشرط والحالة هذه؟
فأجاب:
أصل هذه المسائل: أن شرط الواقف إن كان قربة وطاعة لله ورسوله كان صحيحًا، وإن لم يكن شرطًا لازمًا، وإن كان مباحًا، كما لم يسوغ النبي ﷺ السبق إلا في خف أو حافر أو نصل، وإن كانت المسابقة بلا عوض قد جوزها بالأقدام وغيرها؛ ولأن الله تعالى قال في مال الفيء: { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ } [1]، فعلم أن الله يكره أن يكون المال دولة بين الأغنياء.
وإن كان الغني وصفًا مباحًا فلا يجوز الوقف على الأغنياء، وعلى قياسه سائر الصفات المباحة؛ ولأن العمل إذا لم يكن قربة لم يكن الواقف مثابًا على بذل المال فيه، فيكون قد صرف المال فيما لا ينفعه، لا في حياته ولا في مماته، ثم إذا لم يكن للعامل فيه منفعة في الدنيا، كان تعذيبًا له بلا فائدة تصل إليه، ولا إلى الواقف، ويشبه ما كانت الجاهلية تفعله من الأحباس المنبه عليها في سورة الأنعام والمائدة.
وإذا خلا العمل المشروط في العقود كلها عن منفعة في الدين أو في الدنيا، كان باطلًا بالاتفاق في أصول كثيرة؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى، فيكون باطلًا، ولو كان مائة شرط.
مثال ذلك: أن يشرط عليه التزام نوع من المطعم أو الملبس أو المسكن الذي لم تستحبه الشريعة، أو ترك بعض الأعمال التي تستحب الشريعة عملها ونحو ذلك.
يبقي الكلام في تحقيق هذا المناط في اعتبار المسائل، فإنه قد يكون متفقًا عليه وقد يكون مختلفًا فيه؛ لاختلاف الاجتهاد في بعض الأعمال، فينظر في شرط ترك من جهة أخرى، فما لم يكن فيه مقصود شرعي خالص أو راجح كان باطلًا، وإن كان صحيحًا، ثم إذا نقص الريع عما شرطه الواقف جاز للطالب أن يرتزق تمام كفايته من جهة أخرى؛ لأن رزق الكفاية لطلبة العلم من الواجبات الشرعية، بل هو من المصالح الكلية التي لا قيام للخلق بدونها، فليس لأحد أن يشرط ما ينافيها، فكيف إذا لم يعلم أنه قصد ذلك؟
ويجوز للناظر مع هذه الحالة أن يوصل إلى المرتزقة بالعلم ما جعل لهم وألا يمنعهم من تناول تمام كفايتهم من جهة أخرى يرتبون فيها، وليس هذا إبطالًا للشرط، لكنه ترك العمل به عند تعذره، وشروط الله حكمها كذلك وحكم الحاكم لا يمنع ما ذكر.
وهذه الأرزاق المأخوذة على الأعمال الدينية إنما هي أرزاق ومعاون على الدين، بمنزلة ما يرتزقه المقاتلة، والعلماء من الفيء، والواجبات الشرعية تسقط بالعذر؛ وليست كالجعالات على عمل دنيوي، ولا بمنزلة الإجارة عليها، فهذه حقيقة حال هذه الأموال. والله أعلم.
سئل عن رجل وقف مدرسة وشرط من يكون له بها وظيفة ألا يشتغل بوظيفة أخرى
وسئل عن رجل وقف مدرسة، وشرط من يكون له بها وظيفة ألا يشتغل بوظيفة أخرى بغير مدرسته، وشرط له فيها مرتبًا معلومًا، وقال في كتاب الوقف: وإذا حصل في ريع هذه المدرسة نقص بسبب محل أو غيره كان ما بقي من ريع هذا الوقف مصروفًا في أرباب الوظائف بها، لكل منهم بالنسبة إلى معلومه بالمحاصصة. وقال في كتاب الوقف: وإذا حصل في السعر غلاء، فللناظر أن يرتب لهم زيادة على ما قرر لهم بحسب كفايتهم في ذلك الوقت، ثم إذا حصل في ريع الوقف نقص من جهة نقص وقفها بحيث إنه إذا ألغي هذا الشرط من عدم الجمع بينها وبين غيرها، يؤدي إلى تعطيل المدرسة، فهل يجوز لمن يكون بها أن يجمع بينها وبين غيرها ليحصل له قدر كفايته والحالة هذه، حيث راعي الواقف الكفاية لمن يكون بها أو كما تقدم في فصل غلاء السعر أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، هذه الشروط المشروطة على من فيها كعدم الجمع إنما يلزم الوفاء بها إذا لم يفض ذلك إلى الإخلال بالمقصود الشرعي الذي هو يكون اسمك، إما واجب، وإما مستحب، فأما المحافظة على بعض الشروط مع فوات المقصود بالشروط فلا يجوز، فاشتراط عدم الجمع باطل مع ذهاب بعض أصل الوقف، وعدم حصول الكفاية للمرتب بها لا يجب التزامه، ولا يجوز الإلزام به لوجهين:
أحدهما: أن ذلك إنما شرط عليهم مع وجود ريع الموقوف عليهم، سواء كان كاملًا أو ناقصًا، فإذا ذهب بعض أصل الوقف لم تكن الشروط مشروطة في هذه الحال، وفرق بين نقص ريع الوقف مع وجود أصله، وبين ذهاب بعض أصله.
الوجه الثاني: أن حصول الكفاية المرتب بها أمر لابد منه، حتى لو قدر أن الواقف صرح بخلاف ذلك كان شرطًا باطلًا، مثل أن يقول: إن المرتب بها لا يرتزق من غيرها ولو لم تحصل له كفايته، فلو صرح بهذا لم يصح؛ لأن هذا شرط يخالف كتاب الله، فإن حصول الكفاية لابد منها، وتحصيلها للمسلم واجب، إما عليه، وإما على المسلمين، فلا يصح شرط يخالف ذلك.
وقد ظهر أن الواقف لم يقصد ذلك؛ لأنه شرط لهم الكفاية، ولكن ذهاب بعض أموال الوقف بمنزلة تلف العين الموقوفة ونحو ذلك.
والوقف سواء شبه بالجعل أو بالأجرة أو بالرزق، فإن ما على العامل أن يعمل إذا وفي له بما شرط له. والله أعلم.
سئل عن رجل وقف وقفا على مسجد وأكفان الموتى وشرط فيه الأرشد
وسئل رحمه الله عن رجل وقف وقفًا على مسجد، وأكفان الموتى، وشرط فيه الأرشد فالأرشد من ورثته، ثم للحاكم، وشرط لإمام المسجد ستة دراهم، والمؤذن والقيم بالتربة ستة دراهم، وشرط لهما دارين لسكناهما، ثم إن ريع الوقف زاد خمسة أمثاله، بحيث لا يحتاج الأكفان إلى زيادة، فجعل لهما الحاكم كل شهر ثلاثين درهمًا، ثم اطلع بعد ذلك على شرط الواقف فتوقف في أن يصرف عليهم ما زاد على شرط الواقف، فهل يجوز له ذلك؟ وهل يجوز لهما تناوله؟
وأيضًا الدار المذكورة انهدمت، فأحكرها ناظر الوقف كل سنة بدرهمين، فعمرها المستأجر، وأجرها في السنة بخمسين درهمًا، فهل يصح هذا الإحكار؟
فأجاب:
نعم يجوز أن يعطى الإمام والمؤذن من مثل هذا الوقف الفائض رزق مثلهما وإن كان زائدًا على ثلثين، بل إذا كانا فقيرين، وليس لما زاد مصرف معروف، جاز أن يصرف إليهما منه تمام كفايتهما؛ وذلك لوجهين:
أحدهما: أن تقدير الواقف دراهم مقدرة في وقف مقدار ريع، قد يراد به النسبة، مثل أن يشرط له عشرة، والمغل مائة، ويراد به العشر، فإن كان هناك قرينة تدل على إرادة هذا عمل به. ومن المعلوم في العرف أن الوقف إذا كان مغله مائة درهم، وشرط له ستة ثم صار خمسمائة، فإن العادة في مثل هذا أن يشرط له أضعاف ذلك، مثل خمسة أمثاله، ولم تجر عادة من شرط ستة من مائة أن يشترط ستة من خمسمائة، فيحمل كلام الناس على ما جرت به عادتهم في خطابهم.
الثاني: أن الواقف لو لم يشترط هذا، فزائد الوقف يصرف في المصالح التي هي نظير مصالحه وما يشبهها، مثل صرفه في مساجد أخر، وفي فقراء الجيران ونحو ذلك؛ لأن الأمر دائر بين أن يصرف في مثل ذلك، أو يرصد لما يحدث من عمارة ونحوه، ورصده دائما مع زيادة الريع لا فائدة فيه، بل فيه مضرة، وهو حبسه لمن يتولي عليهم من الظالمين المباشرين والمتولين الذين يأخذونه بغير حق. وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه حض الناس على مكاتب يجمعون له، ففضلت فضلة، فأمر بصرفها في المكاتبين، والسبب فيه أنه إذا تعذر المعين، صار الصرف إلى نوعه.
ولهذا كان الصحيح في الوقف هو هذا القول، وأن يتصدق بما فضل من كسوته، كما كان عمر بن الخطاب يتصدق كل عام بكسوة الكعبة يقسمها بين الحجاج.
وإذا كان كذلك، فمن المعلوم أن صرف الفاضل إلى إمامه ومؤذنه مع الاستحقاق أولى من الصرف إلى غيرهما، وتقدير الواقف لا يمنع استحقاق الزيادة بسبب آخر، كما لا يمنع استحقاق غير مسجده.
وإذا كان كذلك، وقدر الأكفان التي هي المصروفة ببعض الريع، صرف ما يفضل إلى الإمام والمؤذن ما ذكر. والله أعلم.
سئل عن رجل أوقف وقفا وشرط التنزيل فيه للشيخ
وسئل رحمه الله عن رجل أوقف وقفًا، وشرط التنزيل فيه للشيخ، وشرط ألا ينزل فيه شرير ولا متجوه، وأنه نزل فيه شخص بالجاه، ثم بدا منه أمر يدل على أنه شرير، فرأى الشيخ المصلحة في صرفه اعتمادًا على شرط الواقف، ونزل الشيخ شخصًا آخر بطريق شرط الواقف، ومرسوم ألفاظه، فهل يجوز صرف من نزل بشرط الواقف بغير مستند شرعي، وإعادة المتجوه الشرير المخالف لشرط الواقف؟ وهل يحرم على الناظر والشيخ ذلك، ويقدح ذلك في ولايتهما؟ وهل يحرم على الساعي في ذلك المساعد له؟
فأجاب:
إذا علم شرط الواقف، عدل عنه إلى شرط الله قبل شرط الواقف إذا كان مخالفًا لشرط الله.
فإن الجهات الدينية مثل الخوانك، والمدارس وغيرها لا يجوز أن ينزل فيها فاسق، سواء كان فسقه بظلمه للخلق، وتعديه عليهم بقوله وفعله، أو فسقه بتعديه حقوق الله التي بينه وبين الله، فإن كلًا من هذين الضربين يجب الإنكار عليه وعقوبته، فكيف يجوز أن يقرر في الجهات الدينية ونحوها؟ فكيف إذا شرط الواقف ذلك، فإنه يصير وجوبه مؤكدًا.
ومن نزل من أهل الاستحقاق تنزيلًا شرعيًا لم يجز صرفه لأجل هذا الظلم ولا لغيره، فكيف يجوز أن يستبدل الظالم بالعادل، والفاجر بالبر؟ ومن أعان على ذلك فقد أعان على الإثم والعدوان، سواء علم شرط الواقف، أو لم يعلم.
سئل عن رجل أوقف وقفا على مدرسة وشرط فيها أن ثلث ريع الوقف للعمارة
وسئل رحمه الله عن رجل أوقف وقفًا على مدرسة، وشرط فيها أن ثلث ريع الوقف للعمارة، والثلثين يكون للفقهاء وللمدرسة وأرباب الوظائف، وشرط أن الناظر يري بالمصلحة والحال جاريًا كذلك مدة ثلاثين سنة، وأن حصر المدرسة وملء الصهريج يكون من جامكية الفقهاء؛ لأن لهم غيبة وأماكن غيرها؛ وأن معلوم الإمام في كل شهر من الدراهم عشرون درهما، وكذلك المؤذن، فطلب الفقهاء بعد هذه المسألة أرباب الوظائف أن يشاركوهم فيما يؤخذ من جوامكهم، لأجل الحصر، وملء الصهريج، وأن أرباب الوظائف قائمون بهذه الوظيفة، ولو لم يكن لهم غيرها: هل يجب للناظر موافقة الفقهاء على ما طلبوه، ونقص هؤلاء المساكين عن معلومهم اليسير أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا رأى الناظر تقديم أرباب الوظائف الذين يأخذون على عمل معلوم كالإمام والمؤذن فقد أصاب في ذلك، إذا كان الذي يأخذونه لا يزيد على جعل مثلهم في العادة، كما أنه يجب أن يقدم الجابي والعامل والصانع والبناء ونحوهم ممن يأخذ على عمل يعمله في تحصيل المال، أو عمارة المكان، يقدمون بأخذ الأجرة.
والإمامة والأذان شعائر لا يمكن إبطالها، ولا تنقيصها بحال، فالجاعل جعل مثل ذلك لأصحابها يقدم على ما يأخذه الفقهاء، وهذا بخلاف المدرس والمفيد والفقهاء، فإنهم من جنس واحد.
وإن أمكن صرف ثمن الحصر، وملء الصهريج من ثلث العمارة أو غيره، يجعل ذلك، ويوفر الثلثان على مستحقيه، فإنه إذا شرط أن الثلث للعمارة والثلثين لأرباب الوظائف؛ لم يكن أخذ ثمن الحصر ونحوها من هذا أولى من صرفها من هذا، إلا أن يكون للوقف شرط شرعي بخلاف هذا.
سئل عمن وقف تربة وشرط المقري عزبا فهل يحل التنزل مع التزوج
وسئل عمن وقف تربة وشرط المقري عزبا، فهل يحل التنزل مع التزوج؟
فأجاب:
هذا شرط باطل، والمتأهل أحق بمثل هذا من المتعزب إذا استويا في سائر الصفات؛ إذ ليس في التعزب هنا مقصود شرعي.
سئل عن رجل وقف وقفا وشرط النظر لنفسه في حياته
وسئل رحمه الله عن رجل وقف وقفًا على عدد معلوم من النساء والأرامل والأيتام، وشرط النظر لنفسه في حياته، ثم الصالح من ولده بعد وفاته ذكرًا كان أو أنثي، وللواقف أقارب من أولاد أولاده ممن هو محتاج، وقصد الناظر أن يميزهم على غيرهم في الصرف: هل يجوز أن يميزهم؟
فأجاب:
إذا استووا هم وغيرهم في الحاجة، فأقارب الواقف يقدمون على نظرائهم الأجانب، كما يقدمون لصلته في حياته، كما قال النبي ﷺ: (صَدقتُك على المسلمين صدقة، وعلى ذوي الرحم صدقة وصلة).
ولهذا يؤمر أن يوصى لأقاربه الذين لا يرثون، إما أمر إيجاب على قول بعض العلماء، وإما أمر استحباب كقول الأكثرين، وهما روايتان عن أحمد. والله أعلم.
سئل عن رجل وقف وقفا ومات الواقف ولم يثبت الوقف
وسئل قدس الله روحه عن رجل وقف وقفًا على جهة معينة، وشرط شروطًا، ومات الواقف ولم يثبت الوقف على حاكم، وعدم الكتاب قبل ذلك، ثم عمل محضرًا مجردًا يخالف الشروط والأحكام المذكورة في كتاب الوقف، وأثبت على حاكم بعد تاريخ الوقف المتقدم ذكره سنتين، ثم ظهر كتاب الوقف، وفيه شروط لم يتضمن المحضر شيئا منها، وتوجه الكتاب للثبوت، فهل يجوز منع ثبوته، والعمل المذكور أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يجوز منع ثبوته بحال من الأحوال، بل إذا أمكن ثبوته وجب ثبوته والعمل به، وإن خالفه المحضر المثبت بعده، وإن حكم بذلك المحضر حاكم، فالحاكم به معذور بكونه لم يثبت عنده ما يخالفه، ولكن إذا ظهر ما يقال: إنه كتاب الوقف، وجب التمكن من إثباته بالطريق الشرعي، فإن ثبت وجب العمل به. والله أعلم.
سئل عن رجل أوقف وقفا وشرط في بعض شروطه أنهم يقرؤون ما تيسر
وسئل عن رجل أوقف وقفًا، وشرط في بعض شروطه أنهم يقرؤون ما تيسر، ويسبحون ويهللون ويكبرون ويصلون على النبي ﷺ بعد الفجر إلى طلوع الشمس، فهل الأفضل السر أو الجهر؟ وإن شرط الواقف فما يكون؟
فأجاب:
الحمد لله، بل الإسرار بالذكر والدعاء كالصلاة على النبي ﷺ وغيرها أفضل، ولا هو الأفضل مطلقا، إلا لعارض راجح، وهو في هذا الوقت أفضل خصوصًا، فإن الله يقول: { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } [2]، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه لما رأى الصحابة رضي الله عنهم يرفعون أصواتهم بالذكر قال: (أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، وإنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)، وفي الحديث: (خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما كفى). والله أعلم.
سئل عن رجل وقف وقفا وشرط فيه شروطا على جماعة يقرؤون عند قبره
وسئل رحمه الله عن رجل وقف وقفًا وشرط فيه شروطًا على جماعة قراء، وألهم يحضرون كل يوم بعد صلاة الصبح يقرؤون ما تيسر من القرآن إلى طلوع الشمس، ثم يتداولون النهار بينهم يومًا، مثنى مثنى، ويجتمعون أيضًا بعد صلاة العصر يقرأ كل منهم حزبين، ويجتمعون أيضًا في كل ليلة جمعة، جملة اجتماعهم في الشهر سبعة وسبعون مرة على هذا النحو عند قبره بالتربة، وشرط عليهم أيضًا أن يبيتوا كل ليلة بالتربة المذكورة، وجعل لكل منهم سكنًا يليق به، وشرط لهم جاريًا من ريع الوقف يتناولون في كل يوم، وفي كل شهر، فهل يلزمهم الحضور على شرطه عليهم؟ أم يلزمهم أن يتصفوا بتلك الصفات في أي مكان أمكن إقامتهم بوظيفة القراءة، أو لا يتعين المكان ولا الزمان؟
وهل يلزمهم أيضًا أن يبيتوا بالمكان المذكور أم لا؟ وإن قيل باللزوم فاستخلف أحدهم من يقرأ عنه وظيفته في الوقف، والمكان، والواقف شرط في كتاب الوقف أن يستنيبوا في أوقات الضرورات، فما هي الضرورة التي تبيح النيابة؟
وأيضًا، إن نقصهم الناظر من معلومهم الشاهد به كتاب الوقف، فهل يجوز أن ينقصوا مما شرط عليهم؟ وسواء كان النقص بسبب ضرورة، أو من اجتهاد الناظر، أو من غير اجتهاده، وليشف سيدنا بالجواب مستوعبًا بالأدلة، ويجلي به عن القلوب كل عسر مثابًا في ذلك.
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، أصل هذه المسألة وهو على أهل الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى، والوصية لأهلها والنذر لهم أن تلك الأعمال لابد أن تكون من الطاعات التي يحبها الله ورسوله، فإذا كانت منهيًا عنها لم يجز الوقف عليها، ولا اشتراطها في الوقف باتفاق المسلمين، وكذلك في النذر ونحوه، وهذا متفق عليه بين المسلمين في الوقف والنذر، ونحو ذلك، ليس فيه نزاع بين العلماء أصلًا.
ومن أصول ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).
ومن أصوله ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة أيضًا، أن رسول الله ﷺ خطب على المنبر لما أراد أهل بريرة أن يشترطوا الولاء لغير المعتق فقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق).
وهذا الحديث الشريف المستفيض الذي اتفق العلماء على تلقيه بالقبول، اتفقوا على أنه عام في الشروط في جميع العقود، ليس ذلك مخصوصًا عند أحد منهم بالشروط في البيع، بل من اشترط في الوقف أو العتق أو الهبة أو البيع أو النكاح أو الإجارة أو النذر أو غير ذلك شروطًا تخالف ما كتبه الله على عباده، بحيث تتضمن تلك الشروط الأمر بما نهى الله عنه، أو النهي عما أمر به، أو تحليل ما حرمه، أو تحريم ما حلله، فهذه الشروط باطلة باتفاق المسلمين في جميع العقود، الوقف وغيره.
وقد روي أهل السنن أبو داود وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: (الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حراما، أو حرم حلالًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا، أو حرم حلالًا).
وحديث عائشة هو من العام الوارد على سبب، وهذا وإن كان أكثر العلماء يقولون: إنه يؤخذ فيه بعموم اللفظ، ولا يقتصر على سببه، فلا نزاع بينهم أن أكثر العمومات الواردة على أسباب لا تختص بأسبابها كالآيات النازلة بسبب معين، مثل آيات المواريث، والجهاد، والظهار، واللعان، والقذف، والمحاربة، والقضاء، والفيء، والربا، والصدقات وغير ذلك، فعامتها نزلت على أسباب معينة مشهورة في كتب الحديث، والتفسير، والفقه، والمغازي، مع اتفاق الأمة على أن حكمها عام في حق غير أولئك المعينين، وغير ذلك مما يماثل قضاياهم من كل وجه.
وكذلك الأحاديث، وحديث عائشة مما اتفقوا على عمومه، وأنه من جوامع الكلم التي أوتيها ﷺ، وبعث بها حيث قال: (من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق).
ولكن تنازعوا في العقود المباحات، كالبيع، والإجارة، والنكاح: هل معني الحديث من اشترط شرطًا لم يثبت أنه خالف فيه شرعًا، أو من اشترط شرطًا يعلم أنه مخالف لما شرعه الله؟ هذا فيه تنازع؛ لأن قوله في آخر الحديث: (كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق) يدل على أن الشرط الباطل ما خالف ذلك، وقوله: (من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل) قد يفهم منه ما ليس بمشروع.
وصاحب القول الأول يقول: ما لم ينه عنه من المباحات، فهو مما أذن فيه فيكون مشروعًا بكتاب الله، وأما ما كان في العقود التي يقصد بها الطاعات كالنذر، فلابد أن يكون المنذور طاعة، فمتى كان مباحًا لم يجب الوفاء به، لكن في وجوب الكفارة به نزاع مشهور بين العلماء، كالنزاع في الكفارة بنذر المعصية، لكن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، ونذر المباح مخير بين الأمرين، وكذلك الوقف أيضًا.
وحكم الشروط فيه يعرف بذكر أصلين: أن الواقف إنما وقف الوقوف بعد موته لينتفع بثوابه، وأجره عند الله لا ينتفع به في الدنيا، فإنه بعد الموت لا ينتفع الميت إلا بالأجر والثواب.
ولهذا فرق بين ما قد يقصد به منفعة الدنيا، وبين ما لا يقصد به إلا الأجر والثواب، فالأول، كالبيع، والإجارة، والنكاح، فهذا يجوز للإنسان أن يبذل ماله فيها ليحصل أغراضًا مباحة دنيوية، ومستحبة، ودينية، بخلاف الأغراض المحرمة. وأما الوقف فليس له أن يبذل ملكه إلا فيما ينفعه في دينه، فإنه إذا بذله فيما لا ينفعه في الدين، والوقف لا ينتفع به بعد موته في الدنيا، صار بذل المال لغير فائدة تعود إليه، لا في دينه، ولا في دنياه وهذا لا يجوز.
ولهذا فرق العلماء بين الوقف على معين وعلى جهة، فلو وقف أو وصى لمعين جاز، وإن كان كافرًا ذميًا؛ لأن صلته مشروعة، كما دل على ذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى: { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } [3]، ومثل حديث أسماء بنت أبي بكر لما قدمت أمها وكانت مشركة، فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: (صلي أمك) والحديث في الصحيحين. وفي ذلك نزل قوله تعالى: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إليهمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [4]، وقوله تعالى: { لَّيْسَ عليكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إليكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [5].
فبين أن عطية مثل هؤلاء إنما يعطونها لوجه الله، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (في كل ذات كبد رطبة أجر). فإذا أوصى أو وقف على معين، وكان كافرًا، أو فاسقًا، لم يكن الكفر والفسق هو سبب الاستحقاق، ولا شرطًا فيه، بل هو يستحق ما أعطاه وإن كان مسلمًا عدلًا، فكانت المعصية عديمة التأثير، بخلاف ما لو جعلها شرطًا في ذلك على جهة الكفار والفساق، أو على الطائفة الفلانية، بشرط أن يكونوا كفارًا أو فساقًا، فهذا الذي لا ريب في بطلانه عند العلماء.
ولكن تنازعوا في الوقف على جهة مباحة، كالوقف على الأغنياء على قولين مشهورين، والصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة والأصول: أنه باطل أيضًا؛ لأن الله سبحانه قال في مال الفيء: { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ ً } [6]، فأخبر سبحانه أنه شرع ما ذكره؛ لئلا يكون الفيء متداولًا بين الأغنياء، دون الفقراء، فعلم أنه سبحانه يكره هذا وينهى عنه ويذمه، فمن جعل الوقف للأغنياء فقط، فقد جعل المال دولة بين الأغنياء، فيتداولونه بطنًا بعد بطن دون الفقراء، وهذا مضاد للّه في أمره ودينه، فلا يجوز ذلك.
وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (لا سبق إلا في خف، أو حافر أو نصل). فإذا كان قد نهى عن بذل السبق إلا فيما يعين على الطاعة والجهاد، مع أنه بذل لذلك في الحياة وهو منقطع غير مؤبد، فكيف يكون الأمر في الوقف؟ وهذا بين في أصول الشريعة من وجهين:
أحدهما: أن بذل المال لا يجوز إلا لمنفعة في الدين أو الدنيا، وهذا أصل متفق عليه بين العلماء، ومن خرج عن ذلك كان سفيهًا، وحجر عليه عند جمهور العلماء الذين يحجرون على السفيه، وكان مبذرًا لماله، وقد نهى الله في كتابه عن تبذير المال: { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } [7] وهو إنفاقه في غير مصلحة وكان مضيعًا لماله، وقد نهى النبي ﷺ عن إضاعة المال في الحديث المتفق عليه عن المغيرة بن شعبة عن النبي ﷺ، أنه كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.
وقد قال الله تعالى في كتابه: { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا } [8].
وقد قال كثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم: هذا مثل توكيل السفيه، وهو أن يدفع الرجل ماله إلى ولده السفيه أو امرأته السفيهة، فينفقان عليه، ويكون تحت أمرهما. وقال آخرون: ذلك أن يسلم إلى السفيه مال نفسه، فإن الله نهى عن تسليم مال نفسه إليه، إلا إذا أونس منه الرشد.
والآية تدل على النوعين كليهما، فقد نهى الله أن يجعل السفيه متصرفًا لنفسه أو لغيره بالوكالة أو الولاية. وصرف المال فيما لا ينفع في الدين ولا الدنيا من أعظم السفه، فيكون ذلك منهيًا عنه في الشرع.
إذا عرف هذا، فمن المعلوم أن الواقف لا ينتفع بوقفه في الدنيا، كما ينتفع بما يبذله في البيع والإجارة والنكاح، وهذا أيضًا لا ينتفع به في الدين إن لم ينفقه في سبيل الله، وسبيل الله طاعته وطاعة رسوله، فإن الله إنما يثيب العباد على ما أنفقوه فيما يحبه، وأما ما لا يحبه فلا ثواب في النفقة عليه. ونفقة الإنسان على نفسه وولده وزوجته واجبة؛ فلهذا كان الثواب عليها أعظم من الثواب على التطوعات على الأجانب.
وإذا كان كذلك، فالمباحات التي لا يثيب الشارع عليها لا يثيب على الإنفاق فيها والوقف عليها، ولا يكون في الوقف عليها منفعة، وثواب في الدين، ولا منفعة في الوقف عليها في الدنيا، فالوقف عليها خال من انتفاع الواقف في الدين والدنيا، فيكون باطلًا، وهذا ظاهر في الأغنياء وإن كان قد يكون مستحبًا، بل واجبًا، فإنما ذاك إذا أعطوا بسبب غير الغني من القرابة والجهاد والدين ونحو ذلك.
فأما إن جعل سبب الاستحقاق هو الغني، وتخصيص الغني بالإعطاء مع مشاركة الفقير له في أسباب الاستحقاق سوي الغني، مع زيادة استحقاق الفقير عليه، فهذا مما يعلم بالاضطرار في كل ملة أن الله لا يحبه ولا يرضاه، فلا يجوز اشتراط ذلك في الوقف.
الوجه الثاني: أن الوقف يكون فيما يؤبد على الكفار ونحوهم، وفيما يمنع منه التوارث، وهذا لو أن فيه منفعة راجحة، وإلا كان يمنع منه الواقف؛ لأنه فيه حبس المال عن أهل المواريث، ومن ينتقل إليهم، وهذا مأخذ من قال: لا حبس عن فرائض الله، لكن هذا القول ترك لقول عمر وغيره، وما في ذلك من المصلحة الراجحة، فأما إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، بل قد حبس المال فمنعه الوارث وسائر الناس أن ينتفع به، وهو لم ينتفع به، فهذا لا يجوز تنفيذه بلا ريب.
ثم هذه المسألة المتنازع فيها هي في الوقف على الصفات المباحة الدنيوية كالغني بالمال، وأما الوقف على الأعمال الدينية كالقرآن، والحديث، والفقه، والصلاة والأذان، والإمامة، والجهاد، ونحو ذلك، والكلام في ذلك هو الأصل الثاني، وذلك لا يمكن أن يكون في ذلك نزاع بين العلماء، في أنه لا يجوز أن يوقف إلا على ما شرعه الله وأحبه من هذه الأعمال.
فأما من ابتدع عملًا لم يشرعه الله وجعله دينًا، فهذا ينهى عن عمل هذا العمل، فكيف يشرع له أن يقف عليه الأموال؟ بل هذا من جنس الوقف على ما يعتقده اليهود والنصارى عبادات، وهذا من الدين المبدل، أو المنسوخ؛ ولهذا جعلنا هذا أحد الأصلين في الوقف.
وذلك أن باب العبادات والديانات والتقربات متلقاة عن الله ورسوله، فليس لأحد أن يجعل شيئًا عبادة أو قربة إلا بدليل شرعي، قال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [9]، وقال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [10]، وقال تعالى: { المص كِتَابٌ أُنزِلَ إليكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَي لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إليكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ } [11]، ونظائر ذلك في الكتاب كثير، يأمر الله فيه بطاعة رسوله، واتباع كتابه، وينهى عن اتباع ما ليس من ذلك.
والبدع جميعها كذلك، فإن البدعة الشرعية - أي: المذمومة في الشرع هي ما لم يشرعه الله في الدين، أي: ما لم يدخل في أمر الله ورسوله وطاعة الله ورسوله، فأما إن دخل في ذلك فإنه من الشرعة لا من البدعة الشرعية، وإن كان قد فعل بعد موت النبي ﷺ بما عرف من أمره، كإخراج اليهود والنصارى بعد موته، وجمع المصحف، وجمع الناس على قارئ واحد في قيام رمضان، ونحو ذلك.
وعمر بن الخطاب الذي أمر بذلك وإن سماه بدعة؛ فإنما ذلك لأنه بدعة في اللغة، إذ كل أمر فعل على غير مثال متقدم يسمي في اللغة بدعة، وليس مما تسميه الشريعة بدعة، وينهى عنه، فلا يدخل فيما رواه مسلم من صحيحه عن جابر قال: كان رسول الله ﷺ يقول في خطبته: (إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) فإن قوله ﷺ: (كل بدعة ضلالة) حق، وليس فيما دلت عليه الأدلة الشرعية على الاستحباب بدعة، كما قال ﷺ في الحديث الذي رواه أهل السنن، وصححه الترمذي عن العرباض بن سارية عن النبي ﷺ قال: وعظنا رسول الله ﷺ موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بتقوى الله، وعليكم بالسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)، وفي رواية: (فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وفي رواية: (وكل ضلالة في النار).
ففي هذا الحديث أمر المسلمين باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين، وبين أن المحدثات التي هي البدع التي نهى عنها ما خالف ذلك، فالتراويح ونحو ذلك لو لم تعلم دلالة نصوصه، وأفعاله عليها؛ لكان أدني أمرها أن تكون من سنة الخلفاء الراشدين، فلا تكون من البدع الشرعية التي سماها النبي ﷺ بدعة، ونهى عنها.
وبالجملة، لا خلاف بين العلماء أن من وقف على صلاة أو صيام أو قراءة أو جهاد غير شرعي ونحو ذلك لم يصح وقفه، بل هو ينهى عن ذلك العمل، وعن البذل فيه، والخلاف الذي بينهم في المباحات لا يخرج مثله هنا؛ لأن اتخاذ الشيء عبادة، واعتقاد كونه عبادة، وعمله؛ لأنه عبادة لا يخلو من أن يكون مأمورًا به، أو منهيًا عنه، فإن كان مأمورًا به واجبًا أو مستحبًا في الشريعة كان اعتقاد كونه عبادة، والرغبة فيه لأجل العبادة، ومحبته وعمله مشروعًا، وإن لم يكن الله يحبه ولا يرضاه فليس بواجب ولا مستحب، لم يجز لأحد أن يعتقد أنه مستحب، ولا أنه قربة وطاعة، ولا يتخذه دينًا، ولا يرغب فيه لأجل كونه عبادة.
وهذا أصل عظيم من أصول الديانات، وهو التفريق بين المباح الذي يفعل لأنه مباح، وبين ما يتخذ دينا وعبادة وطاعة وقربة واعتقادًا ورغبة وعملًا. فمن جعل ما ليس مشروعًا ولا هو دينا ولا طاعة ولا قربة جعله دينًا وطاعة وقربة، كان ذلك حرامًا باتفاق المسلمين.
لكن قد يتنازع العلماء في بعض الأمور: هل هو من باب القرب والعبادات أم لا؟ سواء كان من باب الاعتقادات القولية، أو من باب الإرادات العملية حتى قد يرى أحدهم واجبًا ما يراه الآخر حرامًا، كما يرى بعضهم وجوب قتل المرتد، ويرى آخر تحريم ذلك، ويرى أحدهم وجوب التفريق بين السكران وامرأته إذا طلقها في سكره، ويرى الآخر تحريم التفريق بينهما، وكما يرى أحدهم وجوب قراءة فاتحة الكتاب على المأموم ويرى الآخر كراهة قراءته إما مطلقًا، وإما إذا سمع جهر الإمام، ونحو ذلك من موارد النزاع. كما أن اعتقادها وعملها من موارد النزاع، فبذل المال عليها هو من موارد النزاع أيضًا وهو الاجتهادية.
وأما كل عمل يعلم المسلم أنه بدعة منهي عنها، فإن العالم بذلك لا يجوز الوقف باتفاق المسلمين، وإن كان قد يشرط بعضهم بعض هذه الأعمال من لم يعلم الشريعة، أو من هو يقلد في ذلك لمن لا يجوز تقليده في ذلك، فإن هذا باطل، كما قال عمر بن الخطاب: ردوا الجهالات إلى السنة. ولما في الصحيح عن عائشة عن النبي ﷺ أنه قال: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد).
ولهذا اتفق العلماء: أن حكم الحاكم العادل إذا خالف نصَّا أو إجماعًا لم يعلمه فهو منقوض، فكيف بتصرف من ليس يعلم هذا الباب من واقف لا يعلم حكم الشريعة، ومن يتولي ذلك له من وكلائه؟ وإن قدر أن حاكمًا حكم بصورة ذلك ولزومه فغايته أن يكون عالمًا عادلًا، فلا ينفذ ما خالف فيه نصًا أو إجماعًا باتفاق المسلمين.
والشروط المتضمنة للأمر بما نهى الله عنه، والنهي عن ما أمر الله به مخالفة للنص والإجماع، وكل ما أمر الله به أو نهى عنه، فإن طاعته فيه بحسب الإمكان، كما قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [12]، وكما قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
فهذه القواعد هي الكلمات الجامعة والأصول الكلية التي تبني عليها هذه المسائل ونحوها، وقد ذكرنا منها نكتًا جامعة بحسب ما تحتمله الورقة يعرفها المتدرب في فقه الدين.
وبعد هذا ينظر في تحقيق مناط الحكم في صورة السؤال وغيرها بنظره، فما تبين أنه من الشروط الفاسدة ألغي، وما تبين أنه شرط موافق لكتاب الله عمل به، وما اشتبه أمره أو كان فيه نزاع فله حكم نظائره، ومن هذه الشروط الباطلة ما يحتاج تغييره إلى همة قوية وقدرة نافذة، ويؤيدها الله بالعلم والدين، وإلا فمجرد قيام الشخص في هوي نفسه لجلب دنيا، أو دفع مضرة دنيوية، إذا أخرج ذلك مخرج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يكاد ينجح سعيه. وإن كان متظلمًا طالبًا من يعينه، فإن أعانه الله بمن هو متصف بذلك، أو بما يقدره له من جهة تعينه حصل مقصوده. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وما ذكره السائلون فرض تمام الوجود، والله يسهل لهم ولسائر المسلمين من يعينهم على خير الدين والدنيا، إنه على كل شيء قدير.
فمما لا نزاع فيه بين العلماء: أن مبيت الشخص في مكان معين دائمًا ليس قربة ولا طاعة باتفاق العلماء، ولا يكون ذلك إلا في بعض الأوقات إذا كان في التعيين مصلحة شرعية، مثل المبيت في ليإلى منى، ومثل مبيت الإنسان في الثغر للرباط، أو مبيته في الحرس في سبيل الله، أو عند عالم أو رجل صالح ينتفع به، ونحو ذلك.
فإما أن المسلم يجب عليه أن يرابط دائما ببقعة بالليل لغير مصلحة دينية فهذا ليس من الدين، بل لو كان المبيت عارضًا وكان يشرع فيها ذلك؛ لم يكن أيضًا من الدين، ومن شرط عليه ذلك، ووقف عليه المال لأجل ذلك؛ فلا ريب في بطلان مثل هذا الشرط وسقوطه.
بل تعيين مكان معين للصلوات الخمس، أو قراءة القرآن، أو إهدائه غير ما عينه الشارع ليس أيضًا مشروعًا باتفاق العلماء، حتى لو نذر أن يصلى أو يقرأ، أو يعتكف في مسجد بعينه غير الثلاثة، لم يتعين، وله أن يفعل ذلك في غيره؛ لكن في وجوب الكفارة لفوات التعيين قولان للعلماء.
والعلماء لهم في وصول العبادات البدنية، كالقراءة، والصلاة، والصيام إلى الميت قولان: أصحهما أنه يصل؛ لكن لم يقل أحد من العلماء بالتفاضل في مكان دون مكان، ولا قال أحد قط من علماء الأمة المتبوعين: إن الصلاة أو القراءة عند القبر أفضل منها عند غيره، بل القراءة عند القبر قد اختلفوا في كراهتها، فكرهها أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد في إحدى الروايتين وطوائف من السلف، ورخص فيها طائفة أخري من أصحاب أبي حنيفة والإمام أحمد وغيرهم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد وليس عن الشافعي في ذلك كله نص نعرفه.
ولم يقل أحد من العلماء: إن القراءة عند القبر أفضل، ومن قال: إنه عند القبر ينتفع الميت بسماعها، دون ما إذا بعد القارئ فقوله هذا بدعة باطلة، مخالفة لإجماع العلماء، والميت بعد موته لا ينتفع بأعمال يعملها هو بعد الموت، لا من استماع، ولا قراءة، ولا غير ذلك باتفاق المسلمين، وإنما ينتفع بآثار ما عمله في حياته، كما قال النبي ﷺ: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
وينتفع أيضًا بما يهدي إليه من ثواب العبادات المالية، كالصدقة، والهبة باتفاق الفقهاء، وكذلك العبادات البدنية في أصح قوليهم، وإلزام المسلمين ألا يعملوا ولا يتصدقوا إلا في بقعة معينة، مثل كنائس النصارى باطل.
وبكل حال، فالاستخلاف في مثل هذه الأعمال المشروطة جائز، وكونها عن الواقف إذا كان النائب مثل المستنيب، فقد يكون في ذلك مفسدة راجحة على المصلحة الشرعية، كالأعمال المشروطة في الإجارة على عمل في الذمة؛ لأن التعيين فيه مصلحة شرعية، فشرط باطل، ومتى نقصوا من المشروط لهم كان لهم أن ينقصوا من المشروط عليهم بحسب ذلك. والله أعلم.
قاعدة فيما يشترط الناس في الوقف
وَقَال رحَمهُ الله:
قاعدة: فيما يشترط الناس في الوقف: فإن فيها ما فيه عوض دنيوي وأخروي، وما ليس كذلك، وفي بعضها تشديد على الموقوف عليه.
فنقول: الأعمال المشروطة في الوقف على الأمور الدينية مثل الوقف على الأئمة والمؤذنين، والمشتغلين بالعلم من القرآن، والحديث، والفقه، ونحو ذلك، أو بالعبادات أو بالجهاد في سبيل الله تنقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: عمل يقترب به إلى الله تعالى، وهو الواجبات والمستحبات التي رغب رسول الله ﷺ فيها، وحض على تحصيلها، فمثل هذا الشرط يجب الوفاء به، ويقف استحقاق الوقف على حصوله في الجملة.
والثاني: عمل نهى النبي ﷺ عنه نهى تحريم أو نهى تنزيه، فاشتراط مثل هذا العمل باطل باتفاق العلماء؛ لما قد استفاض عن النبي ﷺ أنه خطب على منبره فقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق). وهذا الحديث وإن خرج بسبب شرط الولاء لغير المعتق، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند عامة العلماء وهو مجمع عليه في هذا الحديث.
وكذا ما كان من الشروط مستلزمًا وجود ما نهى عنه الشارع، فهو بمنزلة ما نهى عنه، وما علم أنه نهى عنه ببعض الأدلة الشرعية، فهو بمنزلة ما علم أنه صرح بالنهي عنه، لكن قد يختلف اجتهاد العلماء في بعض الأعمال: هل هو من باب المنهي عنه؟ فيختلف اجتهادهم في ذلك الشرط؛ بناء على هذا. وهذا أمر لابد منه في الأمة.
ومن هذا الباب أن يكون العمل المشترط ليس محرمًا في نفسه، لكنه مناف لحصول المقصود المأمور به، ومثال هذه الشروط أن يشترط على أهل الرباط ملازمته وهذا مكروه في الشريعة مما أحدثه الناس، أو يشترط على الفقهاء اعتقاد بعض البدع المخالفة للكتاب والسنة، أو بعض الأقوال المحرمة، أو يشترط على الإمام أو المؤذن ترك بعض سنن الصلاة، والأذان، أو فعل بعض بدعهما، مثل أن يشترط على الإمام أن يقرأ في الفجر بقصار المفصل، أو أن يصل الأذان بذكر غير مشروع، أو أن يقيم صلاة العيد في المدرسة أو المسجد، مع إقامة المسلمين لها على سنة نبيهم ﷺ.
ومن هذا الباب: أن يشترط عليهم أن يصلوا وحدانا، ومما يلحق بهذا القسم أن يكون الشرط مستلزمًا ترك ما ندب إليه الشارع، مثل أن يشترط على أهل رباط أو مدرسة إلى جانب المسجد الأعظم أن يصلوا فيها فرضهم، فإن هذا دعاء إلى ترك الفرض على الوجه الذي هو أحب إلى الله ورسوله، فلا يلتفت إلى مثل هذا، بل الصلاة في المسجد الأعظم هو الأفضل، بل الواجب هدم مساجد الضرار مما ليس هذا موضع تفصيله.
ومن هذا الباب اشتراط الإيقاد على القبور إيقاد الشمع، أو الدهن ونحو ذلك فإن النبي ﷺ قال: (لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج) وبناء المسجد، وإسراج المصابيح على القبور، مما لم أعلم فيه خلافًا أنه معصية للّه ورسوله، وتفاصيل هذه الشروط يطول جدًا، وإنما نذكر هاهنا جماع الشروط.
القسم الثالث: عمل ليس بمكروه في الشرع ولا مستحب، بل هو مباح مستوي الطرفين، فهذا قال بعض العلماء بوجوب الوفاء به. والجمهور من العلماء من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أن شرطه باطل، فلا يصح عندهم أن يشرط إلا ما كان قربة إلى الله تعالى؛ وذلك لأن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا لما له فيه منفعة في الدين أو الدنيا، فما دام الإنسان حيًا، فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة؛ لأنه ينتفع بذلك، فأما الميت فما بقي بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء؛ إلا بعمل صالح قد أمر به، أو أعان عليه، أو أهدي إليه، ونحو ذلك. فأما الأعمال التي ليست طاعة للّه ورسوله، فلا ينتفع بها الميت بحال، فإذا اشترط الموصى أو الواقف عملًا أو صفة لا ثواب فيها؛ كان السعي في تحصيلها سعيًا فيما لا ينتفع به في دنياه ولا في آخرته، ومثل هذا لا يجوز، وهذا إنما مقصوده بالوقف التقرب. والله أعلم.
سئل عمن أوقف رباطا وجعل فيه جماعة من أهل القرآن
وسئل رَحمه الله عمن أوقف رباطًا، وجعل فيه جماعة من أهل القرآن، وجعل لهم كل يوم ما يكفيهم، وشرط عليهم شروطًا غير مشروعة، منها أن يجتمعوا في وقتين معينين من النهار، فيقرؤون شيئًا معينًا من القرآن في المكان الذي أوقفه لا في غيره، مجتمعين في ذلك غير متفرقين، وشرط أن يهدوا له ثواب التلاوة، ومن لم يفعل ما شرط في المكان الذي أوقفه لم يأخذ ما جعل له، فهل جميع الشروط لازمة لمن أخذ المعلوم أم بعضها؟ أم لا أثر لجميعها؟ وهل إذا لزمت القراءة، فهل يلزم جميع ما شرطه منها؟ أم يقرؤون ما تيسر عليهم قراءته من غير أن يهدوا شيئًا؟
فأجاب:
الحمد للّه، الأصل في هذا: أن كل ما شرط من العمل من الوقوف التي توقف على الأعمال فلابد أن تكون قربة، إما واجبًا، وإما مستحبًا، وأما اشتراط عمل محرم، فلا يصح باتفاق علماء المسلمين، بل وكذلك المكروه، وكذلك المباح على الصحيح.
وقد اتفق المسلمون على أن شروط الواقف تنقسم إلى صحيح، وفاسد، كالشروط في سائر العقود. ومن قال من الفقهاء: إن شروط الواقف نصوص كألفاظ الشارع، فمراده أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف؛ لا في وجوب العمل بها، أي: أن مراد الواقف يستفاد من ألفاظه المشروطة، كما يستفاد مراد الشارع من ألفاظه، فكما يعرف العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والتشريك والترتيب في الشرع من ألفاظ الشارع، فكذلك تعرف في الوقف من ألفاظ الواقف.
مع أن التحقيق في هذا: أن لفظ الواقف ولفظ الحالف والشافع والموصى وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، سواء وافقت العربية العرباء؛ أو العربية المولدة، أو العربية الملحونة، أو كانت غير عربية، وسواء وافقت لغة الشارع، أو لم توافقها، فإن المقصود من الألفاظ دلالتها على مراد الناطقين بها، فنحن نحتاج إلى معرفة كلام الشارع؛ لأن معرفة لغته وعرفه وعادته تدل على معرفة مراده، وكذلك في خطاب كل أمة وكل قوم، فإذا تخاطبوا بينهم في البيع والإجارة، أو الوقف أو الوصية أو النذر أو غير ذلك بكلام رجع إلى معرفة مرادهم وإلى ما يدل على مرادهم من عادتهم في الخطاب، وما يقترن بذلك من الأسباب.
وإما أن تجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها، فهذا كفر باتفاق المسلمين؛ إذ لا أحد يطاع في كل ما يأمر به من البشر? بعد رسول الله ﷺ والشروط إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة، وإن خالفت كتاب الله كانت باطلة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه خطب على منبره وقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق).
وهذا الكلام حكمه ثابت في البيع والإجارة، والوقف وغير ذلك باتفاق الأئمة، سواء تناوله لفظ الشارع أو لا؛ إذ الأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أو كان متناولًا لغير الشروط في البيع بطريق الاعتبار عمومًا معنويًا.
وإذا كانت شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وباطل بالاتفاق، فإن شرط فعلًا محرمًا ظهر أنه باطل، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإن شرط مباحًا لا قربة فيه، كان أيضًا باطلًا؛ لأنه شرط شرطًا لا منفعة فيه، لا له ولا للموقوف عليه، فإنه في نفسه لا ينتفع إلا بالإعانة على البر والتقوي.
وأما بذل المال في مباح، فهذا إذا بذله في حياته مثل الابتياع والاستئجار. جاز؛ لأنه ينتفع بتناول المباحات في حياته.
وأما الواقف والموصي، فإنهما لا ينتفعان بما يفعل الموصى له والموقوف عليه من المباحات في الدنيا، ولا يثابان على بذل المال في ذلك في الآخرة، فلو بذل المال في ذلك عبثًا وسفهًا لم يكن فيه حجة على تناول المال، فكيف إذا ألزم بمباح لا غرض له فيه، فلا هو ينتفع به في الدنيا، ولا في الآخرة، بل يبقي هذا منفقًا للمال في الباطل، مسخر، معذب، آكل للمال بالباطل.
وإذا كان الشارع قد قال: (لا سبق إلا في خف؛ أو حافر، أو نصل)، فلم يجوز بالجعل شيئًا لا يستعان به على الجهاد، وإن كان مباحًا، وقد يكون فيه منفعة، كما في المصارعة، والمسابقة على الأقدام، فكيف يبذل العوض المؤبد في عمل لا منفعة فيه، لا سيما والوقف محبس مؤبد، فكيف يحبس المال دائما مؤبدًا على عمل لا ينتفع به هو ولا ينتفع به العامل؟ فيكون في ذلك ضرر على حبس الورثة وسائر الآدميين بحبس المال عليهم بلا منفعة حصلت لأحد، وفي ذلك ضرر على المتناولين باستعمالهم في عمل هم فيه مسخرون، يعوقهم عن مصالحهم الدينية والدنيوية، فلا فائدة تحصل له ولا لهم، وقد بسطنا الكلام في هذه القاعدة في غير هذا الموضع.
فإذا عرف هذا، فقراءة القرآن كل واحد على حدته أفضل من قراءة مجتمعين بصوت واحد، فإن هذه تسمي قراءة الإرادة وقد كرهها طوائف من أهل العلم، كمالك، وطائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم. ومن رخص فيها كبعض أصحاب الإمام أحمد لم يقل: إنها أفضل من قراءة الانفراد، يقرأ كل منهم جميع القرآن.
وأما هذه القراءة فلا يحصل لواحد جميع القرآن، بل هذا يتم ما قرأه هذا، وهذا يتم ما قرأه هذا، ومن كان لا يحفظ القرآن يترك قراءة ما لم يحفظه.
وليس في القراءة بعد المغرب فضيلة مستحبة يقدم بها على القراءة في جوف الليل، أو بعد الفجر، ونحو ذلك من الأوقات، فلا قربة في تخصيص مثل ذلك بالوقت.
ولو نذر صلاة أو صيامًا أو قراءة أو اعتكافًا في مكان بعينه، فإن كان للتعيين مزية في الشرع، كالصلاة، والاعتكاف في المساجد الثلاثة؛ لزم الوفاء به، وإن لم يكن له مزية، كالصلاة والاعتكاف في مساجد الأمصار؛ لم يتعين بالنذر الذي أمر الله بالوفاء به، وقال النبي ﷺ: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).
فإذا كان النذر الذي يجب الوفاء به لا يجب أن يوفى به إلا ما كان طاعة باتفاق الأئمة، فلا يجب أن يوفي منه بمباح، كما لا يجب أن يوفي منه بمحرم باتفاق العلماء في الصورتين، وإنما تنازعوا في لزوم الكفارة، كمذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، فكيف بغير النذر من العقود التي ليس في لزومها من الأدلة الشرعية ما في النذر؟
وأما اشتراط إهداء ثواب التلاوة، فهذا ينبني على إهداء ثواب العبادات البدنية، كالصلاة، والصيام، والقراءة، فإن العبادات المالية يجوز إهداء ثوابها بلا نزاع، وأما البدنية ففيها قولان مشهوران.
فمن كان من مذهبه: أنه لا يجوز إهداء ثوابها كأكثر أصحاب مالك، والشافعي كان هذا الشرط عندهم باطلًا، كما لو شرط أن يحمل عن الواقف ديونه، فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
ومن كان من مذهبه: أنه يجوز إهداء ثواب العبادات البدنية كأحمد وأصحاب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب مالك فهذا يعتبر أمرًا آخر، وهو أن هذا إنما يكون من العبادات ما قصد بها وجه الله، فأما ما يقع مستحقًا بعقد إجارة أو جعالة فإنه لا يكون قربة، فإن جاز أخذ الأجر والجعل عليه، فإنه يجوز الاستئجار على الإمامة، والأذان، وتعليم القرآن، نقول:...
سئل عمن وقف مدرسة بيت المقدس
وسئل رَحمه الله عمن وقف مدرسة بيت المقدس، وشرط على أهلها الصلوات الخمس فيها، فهل يصح هذا الشرط؟ وهل يجوز للمنزلين الصلوات الخمس في المسجد الأقصى دونها، ويتناولون ما قرر لهم؟ أم لا يحل التناول إلا بفعل هذا الشرط؟
فأجاب:
ليس هذا شرطًا صحيحًا يقف الاستحقاق عليه، كما كان يفتي بذلك في هذه الصورة بعينها الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وغيره من العلماء؛ لأدلة متعددة، وقد بسطناها في غير هذا الموضع مع ما في ذلك من أقوال العلماء.
ويجوز للمنزلين أن يصلوا في المسجد الأقصى الصلوات الخمس، ولا يصلوها في المدرسة، ويستحقون مع ذلك ما قدر لهم، وذلك أفضل لهم من أن يصلوا في المدرسة، والامتناع من أداء الفرض في المسجد الأقصي، لأجل حل الجاري، ورع فاسد، يمنع صاحبه الثواب العظيم في الصلاة في المسجد. والله أعلم.
سئل عن واقف وقف رباطا على الصوفية
ما تقول السادة العلماء في واقف وقف رباطًا على الصوفية، وكان هذا الرباط قديمًا جاريًا على قاعدة الصوفية في الربط، من الطعام، والاجتماع بعد العصر فقط، فتولي نظره شخص، فاجتهد في تبطيل قاعدته، وشرط على من به شروطًا ليست في الرباط أصلًا، ثم إنهم يصلون الصلوات الخمس في هذا الرباط، ويقرؤون بعد الصبح قريبًا من جزء ونصف، وبعد العصر قريبًا من ثلاثة أجزاء، حتى إن أحدهم إذا غاب عن صلاة أو قراءة كتب عليه غيبة، مع أن هذا الرباط لم يعرف له كتاب وقف، ولا شرط، فهل يجوز إحداث هذه الشروط عليهم أم لا؟ وهل يأثم من أحدثها أم لا؟ وهل يحل للناظر الآن أن يكتب عليهم غيبة أم لا؟ وهل يجب إبطال هذه الشروط أم لا؟ وهل يثاب ولي الأمر إذا أبطلها، أم لا؟ وإذ كانت هذه الشروط قد شرطها الواقف: هل يجب الوفاء بها أم لا؟ وما الصور في الذي يستحق ذلك؟ وهل إذا كان في الجماعة من هو مشتغل بالعلوم الشرعية يكون أولى ممن هو مترسم برسم ظاهر لا علم عنده؟ ومن لم يكن متأدبًا بالآداب الشرعية: هل يجوز له تناول شيء من ذلك أم لا؟ وإذا كان فيهم من هو مشتغل بالعلم الشريف، وله من الدنيا ما لا يقوم ببعض كفايته: هل يكون أولى ممن ليس متأدبا بالآداب الشرعية، ولا عنده شيء من العلم؟ أفتونا مأجورين، وبينوا لنا ذلك بيانًا شافيًا بالدليل من الكتاب والسنة رضي الله عنكم.
فأجاب رحمه الله:
لا يجوز للناظر إحداث هذه الشروط ولا غيرها، فإن الناظر إنما هو منفذ لما شرطه الواقف، ليس له أن يبتدئ شروطًا لم يوجبها الواقف، ولا أوجبها الشارع، ويأثم من أحدثها، فإنه منع المستحقين حقهم حتى يعملوا أعمالًا لا تجب، ولا يحل أن يكتب على من أخل بذلك غيبة؛ بل يجب إبطال هذه الشروط، ويثاب الساعي في إبطالها مبتغيًا بذلك وجه الله تعالى.
وأما الصوفي الذي يدخل في الوقف على الصوفية، فيعتبر له ثلاثة شروط.
أحدها: أن يكون عدلًا في دينه، يؤدي الفرائض، ويجتنب المحارم.
الثاني: أن يكون ملازمًا لغالب الآداب الشرعية في غالب الأوقات وإن لم تكن واجبة، مثل آداب الأكل، والشرب، واللباس، والنوم، والسفر، والركوب والصحبة، والعشرة، والمعاملة مع الخلق، إلى غير ذلك من الآداب الشريفة، قولًا وفعلًا، ولا يلتفت إلى ما أحدثه بعض المتصوفة من الآداب التي لا أصل لها في الدين، من التزام شكل مخصوص في اللبسة، ونحوها مما لا يستحب في الشريعة، فإن مبني الآداب على اتباع السنة، ولا يلتفت أيضًا إلى ما يهدره بعض المتفقهة من الآداب المشروعة، يعتقد لقلة علمه أن ذلك ليس من آداب الشريعة؛ لكونه ليس فيما بلغه من العلم أو طالعه من كتبه، بل العبرة في الآداب بما جاءت به الشريعة قولًا وفعلًا وتركًا، كما أن العبرة في الفرائض والمحارم بذلك أيضًا.
والشرط الثالث في الصوفي: قناعته بالكفاف من الرزق، بحيث لا يمسك من الدنيا ما يفضل عن حاجته، فمن كان جامعًا لفضول المال لم يكن من الصوفية الذين يقصد إجراء الأرزاق عليهم، وإن كان قد يفسح لهم في مجرد السكني في الربط ونحوها، فمن حمل هذه الخصال الثلاث كان من الصوفية المقصودين بالربط، والوقف عليها، وما فوق هؤلاء من أرباب المقامات العلية والأحوال الزكية، وذوي الحقائق الدينية، والمنح الربانية، فيدخلون في العموم؛ لكن لا يختص الوقف بهم لقلة هؤلاء، ولعسر تمييز الأحوال الباطنة على غالب الخلق، فلا يمكن ربط استحقاق الدنيا بذلك؛ ولأن مثل هؤلاء قد لا ينزل الربط إلا نادرًا.
وما دون هذه الصفات من المقتصرين على مجرد رسم في لبسة أو مشية، ونحو ذلك، لا يستحقون الوقف، ولا يدخلون في مسمي الصوفية؛ لا سيما إن كان ذلك محدثًا لا أصل له في السنة، فإن بذل المال على مثل هذه الرسوم فيه نوع من التلاعب بالدين، وأكل لأموال الناس بالباطل، وصدود عن سبيل الله.
ومن كان من الصوفية المذكورين المستحقين فيه قدر زائد، مثل اجتهاد في نوافل العبادات؛ أو سعى في تصحيح أحوال القلب، أو طلب شيء من الأعيان، أو علم الكفاية، فهو أولى من غيره، ومن لم يكن متأدبًا بالآداب الشرعية، فلا يستحق شيئًا البتة، وطالب العلم الذي ليس له تمام الكفاية أولى ممن ليس فيه الآداب الشرعية، ولا علم عنده، بل مثل هذا لا يستحق شيئًا.
سئل عن الشروط التي يشترطها الواقفون على الموقوف عليهم
ما تقول السادة العلماء في الشروط التي قد جرت العوائد في اشتراط أمثالها من الواقفين على الموقوف عليهم، مما بعضه له فائدة ظاهرة، وفيه مصلحة مطلوبة، وبعضها ليس فيها كبير غرض للواقف، وقد يكون فيه مشقة على الموقوف عليه، فإن وفي به شق عليه، وإن أهمله خشي الإثم، وأن يكون متناولًا للحرام، وذلك كشرط واقف الرباط أو المدرسة المبيت والعزوبة، وتأدية الصلوات المفروضات بالرباط، وتخصيص القراءة المعينة بالمكان بعينه، وأن يكونوا من مدينة معينة، أو قبيلة معينة، أو مذهب معين، وما أشبه ذلك من الشروط في الإمامة بالمساجد، والأذان، وسماع الحديث بحلق الحديث بالخوانك، فهل هذه الشروط وما أشبهها مما هو مباح في الجملة، وللواقف فيه يسير غرض لازمة لا يحل لأحد الإخلال بها، ولا بشيء منها؟ أم يلزم البعض منها دون البعض؟ وأي ذلك هو اللازم؟ وأي ذلك الذي لا يلزم؟ وما الضابط فيما يلزم وما لا يلزم؟
فأجاب قدس الله روحه:
الحمد لله رب العالمين، الأعمال المشروطة في الوقف من الأمور الدينية، مثل الوقف على الأئمة والمؤذنين، والمشتغلين بالعلم والقرآن، والحديث، والفقه، ونحو ذلك، أو بالعبادة أو بالجهاد في سبيل الله تنقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: عمل يتقرب به إلى الله تعالى، وهو الواجبات، والمستحبات التي رَغَّب رسول الله ﷺ فيها، وحض على تحصيلها، فمثل هذا الشرط يجب الوفاء به، ويقف استحقاق الوقف على حصوله في الجملة.
والثاني: عمل قد نهى رسول الله ﷺ عنه، نهي تحريم، أو نهي تنزيه، فاشتراط مثل هذا العمل باطل باتفاق العلماء؛ لما قد استفاض عن رسول الله ﷺ أنه خطب على منبره فقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق). وهذا الحديث وإن خرج بسبب شرط الولاء لغير المعتق، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند عامة العلماء وهو مجمع عليه في هذا الحديث، وما كان من الشروط مستلزمًا وجود ما نهي عنه الشارع، فهو بمنزلة ما نهي عنه، وما علم ببعض الأدلة الشرعية أنه نهي عنه، فهو بمنزلة ما علم أنه صرح بالنهي عنه؛ لكن قد يختلف اجتهاد العلماء في بعض الأعمال: هل هو من باب المنهي عنه؟ فيختلف اجتهادهم في ذلك الشرط، بناء على هذا، وهذا أمر لابد منه في الأمة.
ومن هذا الباب أن يكون المشترط ليس محرمًا في نفسه، لكنه مناف لحصول المقصود المأمور به، فمثال هذه الشروط أن يشترط على أهل الرباط ملازمته، هذا مكروه في الشريعة، كما قد أحدثه الناس، أو أن يشترط على الفقهاء اعتقاد بعض البدع المخالفة للكتاب والسنة، أو بعض الأقوال المحرمة، أو يشترط على الإمام والمؤذن ترك بعض سنن الصلاة والأذان، أو فعل بعض بدعها، مثل أن يشترط على الإمام أن يقرأ في الفجر بقصار المفصل، وأن يصل الأذان بذكر غير مشروع، أو أن يقيم صلاة العيد في المدرسة والمسجد، مع إقامة المسلمين لها على سنة نبيهم ﷺ.
ومن هذا الباب لو اشترط عليهم أن يصلوا وحدانًا، ومما يلتحق بهذا القسم أن يكون الشرط مستلزمًا للحض على ترك ما ندب إليه الشارع، مثل أن يشترط على أهل رباط أو مدرسة إلى جانب المسجد الأعظم أن يصلوا فيها فرضهم، فإن هذا دعاء إلى ترك أداء الفرض على الوجه الذي هو أحب إلى الله ورسوله، فلا يلتفت إلى مثل هذا، بل الصلاة في المسجد الأعظم هو الأفضل، بل الواجب هدم مساجد الضرار مما ليس هذا موضع تفصيله.
ومن هذا الباب اشتراط الإيقاد على القبور، وإيقاد شمع أو دهن ونحو ذلك، فإن النبي ﷺ قال: (لعن الله زَوَّارَات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرج). وبناء المسجد وإسراج المصابيح على القبور مما لم أعلم خلافًا أنه معصية لله ورسوله، وتفاصيل هذه الشروط تطول جدًا، وإنما نذكر هنا جماع الشروط.
القسم الثالث: عمل ليس بمكروه في الشرع، ولا مستحب، بل هو مباح مستوي الطرفين، فهذا قال بعض العلماء بوجوب الوفاء به، والجمهور من العلماء من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أنه شرط باطل، ولا يصح عندهم أن يشترط إلا ما كان قربة إلى الله تعالى؛ وذلك أن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا لما فيه منفعة في الدين، أو الدنيا، فما دام الرجل حيًا، فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة؛ لأنه ينتفع بذلك، فأما الميت فما بقى بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء إلا بعمل صالح قد أمر به أو أعان عليه، أو قد أهدى إليه، أو نحو ذلك، فأما الأعمال التي ليست طاعة لله ورسوله، فلا ينتفع بها الميت بحال.
فإذا اشترط الموصي أو الواقف عملًا أو صفة لا ثواب فيها؛ كان السعي فيها بتحصيلها سعيًا فيما لا ينتفع به في دنياه وآخرته، ومثل هذا لا يجوز، وهو إنما مقصوده بالوقف التقرب إلى الله تعالى، والشارع أعلم من الواقفين بما يتقرب به إلى الله تعالى، فالواجب أن يعمل في شروطهم بما شرطه الله ورضيه في شروطهم.
وإن كان النبي ﷺ قد قال: (لا سَبْقَ إلا في نَصْلٍ، أو خُفٍّ، أو حَافرٍ) وعمل بهذا الحديث فقهاء الحديث ومتابعوهم، فنهي عن بذل المال في المسابقة إلا في مسابقة يستعان بها على الجهاد، الذي هو طاعة لله تعالى، فكيف يجوز أن يبذل الجعل المؤبد لمن يعمل دائمًا عملًا ليس طاعة لله تعالى؟
وهذه القاعدة معروفة عند العلماء، لكن قد تختلف آراء الناس وأهواؤهم في بعض ذلك؛ ولا يمكن هنا تفصيل هذه الجملة، ولكن من له هداية من الله تعالى لا يكاد يخفي عليه المقصود في غالب الأمر، وتسمى العلماء مثل هذه الأصول تحقيق المناط وذلك كما أنهم جميعهم يشترطون العدالة في الشهادة، ويوجبون النفقة بالمعروف؛ ونحو ذلك، ثم قد يختلف اجتهادهم في بعض الشروط: هل هو شرط في العدالة؟ ويختلفون في صفة الإنفاق بالمعروف، ونحن نذكر ما ينبه عن مثاله.
أما إذا اشترط على أهل الرباط أو المدرسة أن يصلوا فيها الخمس الصلوات المفروضات، فإن كانت فيما فيه مقصود شرعي، كما لو نذر أن يصلي في مكان بعينه، فإن كان في تعيين ذلك المكان قربة وجب الوفاء به، بأن يصلي فيه إذا لم يصل صلاة تكون مثل تلك، أو أفضل، وإلا وجب الوفاء بالصلاة دون التعيين والمكان، والغالب أنه ليس في التعيين مقصود شرعي.
فإذا كان قد شرط عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس هناك في جماعة اعتبرت الجماعة؛ فإنها مقصود شرعي بحيث من لم يصل في جماعة لم يف بالشرط الصحيح، وأما التعيين فعلى ما تقدم.
وأما اشتراط التعزب والرهبانية، فالأشبه بالكتاب والسنة أنه لا يصح اشتراطه بحال، لا على أهل العلم؛ ولا على أهل العبادة، ولا على أهل الجهاد، فإن غالب الخلق يكون لهم شهوات، والنكاح في حقهم مع القدرة إما واجب أو مستحب، فاشتراط التعزب في حق هؤلاء إن كان فهو مناقضة للشرع.
وإن قيل: المقصود بالتعزب الذي لا يستحب له النكاح عند بعض أهل العلم؛ خرج عامة الشباب عن هذا الشرط، وهم الذين ترجى المنفعة بتعليمهم في الغالب، فيكون كأنه قال: وقفت على المتعلمين الذين لا ترجى منفعتهم في الغالب، وقد كان النبي ﷺ إذا أتاه مال قسم للآهل قسمين؛ وللعزب قسمًا؛ فكيف يكون الآهل محرومًا؟ وقد قال لأصحابه المتعلمين المتعبدين: (يا مَعْشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضُّ للبصر، وأحْصَنُ للفرْج).
فكيف يقال للمتعلمين والمتعبدين: لا تتزوجوا، والشارع ندب إلى ذلك العمل؛ وحض عليه، وقد قال: (لارَهْبَانِيَّةَ في الإسلام)، فكيف يصح اشتراط رهبانية؟
وما يتوهم من أن التعزب أعون على كيد الشيطان والتعلم والتعبد، غلط مخالف للشرع وللواقع، بل عدم التعزب أعون على كيد الشيطان، والإعانة للمتعبدين والمتعلمين أحب إلى الله ورسوله من إعانة المترهبين منهم، وليس هذا موضع استقصاء ذلك.
وكذلك اشتراط أهل بلد، أو قبيلة من الأئمة، والمؤذنين مما لا يصح، فإن النبي ﷺ قال: (يَؤمُ القومَ أقْرَؤُهُم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنًا) رواه مسلم.
والمساجد لله، تبنى لله على الوجه الذي شرعه الله، فإذا قيد إمام المسجد ببلد، فقد يوجد في غير أهل ذلك البلد من هو أولى منه بالإمامة في شرط الله ورسوله، فإن وفينا بشرط الواقف في هذه الحال لزم ترك ما أمر الله به ورسوله، وشرط الله أحق وأوثق.
وأما بقية الشروط المسؤول عنها، فيحتاج كل شرط منها إلى كلام خاص فيه، لا تتسع له هذه الورقة، وقد ذكرنا الأصل، فعلى المؤمن بالله أن ينظر دائمًا في كل ما يحبه الله ورسوله من الخلق، فيسعى في تحصيله بالوقف وغيره، وما يكرهه الله ورسوله يسعى في إعدامه؛ وما لا يكرهه الله ولا يحبه يعرض عنه ولا يعلق به استحقاق وقف ولا عدمه ولا غيره. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
سئل عن زاوية فيها فقراء مقيمون وبتلك الزاوية مطلع به امرأة عزباء
وسئل رحمه الله عن زاوية فيها عشرة فقراء مقيمون، وبتلك الزاوية مطلع به امرأة عزباء، وهي من أوسط النساء، ولم يكن شرط الواقف لها مسكنها في تلك الزاوية، ولم تكن من أقارب الواقف، ولم يكن ساكن في المطلع سوى المرأة المذكورة، وباب المطلع المذكور يغلق عليه
باب الزاوية، فهل يجوز لها السكنى بين هؤلاء الفقراء المقيمين أم لا؟ أفتونا.
فأجاب:
إن كان شرط الواقف لا يسكنه إلا الرجال، سواء كانوا عزبًا أو متأهلين؛ منعت لمقتضى الشرط، وكذلك سكنى المرأة بين الرجال والرجال بين النساء يمنع منه لحق الله. والله أعلم.
سئل عن ناظر وقف وبالوقف شخص يتصرف بغير ولاية الناظر
وسئل رحمه الله عن ناظر وقف له عليه ولاية شرعية، وبالوقف شخص يتصرف بغير ولاية الناظر، يتصرف بولاية أحد الحكام؛ لأن له النظر العام، وأن الناظر عزل هذا المباشر، فباشر بعد عزله، وسأل الناظر الحاكم أن يدفع هذا عن المباشرة، فادعى الحاكم على الناظر دعوى فأنكرها، فهل له أن يولي بدون أمر الناظر الشرعي؟ وهل له أن يكون هو الحاكم بينه وبين هذا الناظر الذي هو خصمه دون سائر الحكام؟ وإذا اعتدى على الناظر فماذا يستحق على عدوانه عليه؟
فأجاب:
ليس للحاكم أن يولى ولا يتصرف في الوقف بدون أمر الناظر الشرعي الخاص، إلا أن يكون الناظر الشرعي قد تعدى فيما يفعله، وللحاكم أن يعترض عليه إذا خرج عما يجب عليه.
وإذا كان بين الناظر والحاكم منازعة حكم بينهما غيرهما بحكم الله ورسوله، ومن اعتدى على غيره، فإنه يقابل على عدوانه، إما أن يعاقب بمثل ذلك إن أمكنت المماثلة، وإلا عوقب بحسب ما يمكن شرعًا. والله أعلم.
سئل عن ناظرين هل لهما أن يقتسما المنظور عليه
وسئل رحمه الله عن ناظرين: هل لهما أن يقتسما المنظور عليه بحيث ينظر كل منهما في نصفه فقط؟
فأجاب:
لا يتصرفان إلا جميعًا في جميع المنظور فيه، فإن أحدهما لو انفرد بالتصرف لم يجز، فكيف إذا وزع المفرد، فإن الشرعَ شَرع جمع المتفرق بالقسمة والشفعة، فكيف يفرق المجتمع؟
سئل عمن وقف وقفا وشرط للناظر جراية وجامكية
وسئل عمن وقف وقفًا، وشرط للناظر جراية وجامكية، كما شرط للمعين والفقهاء، فهل يقدم الناظر بمعلومه أم لا؟
فأجاب:
ليس في اللفظ المذكور ما يقتضي تقدمه بشيء من معلومه، بل هو مذكور بالواو التي مقتضاها الاشتراك والجمع المطلق، فإن كان ثم دليل منفصل يقتضي جواز الاختصاص والتقدم غير الشرط المذكور، مثل كونه حائزًا أجرة عمله مع فقره، كوصى اليتيم؛ عمل بذلك الدليل المنفصل الشرعي وإلا فشرط الواقف لا يقتضي التقديم، ولا فرق بين الجامكية والجراية، فهو بمنزلة العمارة من مال الوقف، لا من عمالة الناظر. والله أعلم.
سئل عمن وقف وقفا على جماعة معينين وجعل للناظر عزل وولاية
وسئل رضي الله عنه عمن وقف وقفًا على جماعة معينين، وفيهم من قرر الواقف لوظيفته شيئا معلومًا، وجعل للناظر على هذا الوقف صرف من شاء منهم، يخرج بغير خراج، وإخراج من شاء منهم، والتعوض عنه، وزيادة من أراد زيادته ونقصانه على ما يراه ويختاره، ويرى المصلحة فيه، فعزل أحد المعينين واستبدل به غيره من هو أهل للقيام بها ببعض ذلك المعلوم المقدر للوظيفة، ووفي باقى ذلك لمصلحة الوقف، فهل للناظر فعل ذلك أم لا؟ وإذا عزل أحد المعينين للمصلحة واستمر على تناول المعلوم بعد علمه بالعزل: يفسق بذلك، ويجب عليه إعادة ما أخذه أم لا؟ وهل يلزم الناظر بيان المصلحة أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، الناظر ليس له أن يفعل شيئا في أمر الوقف إلا بمقتضى المصلحة الشرعية، وعليه أن يفعل الأصلح فالأصلح. وإذا جعل الواقف للناظر صرف من شاء، وزيادة من أراد زيادته ونقصانه، فليس للذي يستحقه بهذا الشرط أن يفعل ما يشتهيه، أو ما يكون فيه اتباع الظن، وما تهوى الأنفس، بل الذي يستحقه بهذا الشرط أن يفعل من الأمور الذي هو خير ما يكون إرضاء لله ورسوله، وهذا في كل من تصرف لغيره بحكم الولاية، كالإمام، والحاكم، والواقف، وناظر الوقف، وغيرهم. إذا قيل: هو مخير بين كذا وكذا، أو يفعل ما شاء وما رأي، فإنما ذاك تخيير مصلحة، لا تخيير شهوة.
والمقصود بذلك أنه لا يتعين عليه فعل معين، بل له أن يعدل عنه إلى ما هو أصلح وأرضى لله ورسوله، وقد قال الواقف: على ما يراه ويختاره ويرى المصلحة فيه، وموجب هذا كله أن يتصرف برأيه واختياره الشرعي، الذي يتبع فيه المصلحة الشرعية، وقد يرى هو مصلحة والله ورسوله يأمر بخلاف ذلك، ولا يكون هذا مصلحة كما يراه مصلحة، وقد يختار ما يهواه لا ما فيه رضي الله، فلا يلتفت إلى اختياره، حتى لو صرح الواقف بأن للناظر أن يفعل ما يهواه وما يراه مطلقًا لم يكن هذا الشرط صحيحًا، بل كان باطلًا؛ لأنه شرط مخالف لكتاب الله: (ومن اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق).
وإذا كان كذلك، وكان عزل الناظر واستبداله موافقًا لأمر الله ورسوله لم يكن للمعزول ولا غيره رد ذلك، ولا يتناول شيئا من الوقف والحال هذه، وإن لم يكن موافقًا لأمر الله ورسوله كان مردودًا بحسب الإمكان، فإن النبي ﷺ قال: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَد)، وقال: (لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق).
وإن تنازعوا: هل الذي فعله هو المأمور به أم لا؟ رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، فإن كان الذي فعل الناظر أرضى لله ورسوله نفذ، وإن كان الأول هو الأرضى ألزم الناظر بإقراره، وإن كان هناك أمر ثالث هو الأرضى لزم اتباعه، وعلى الناظر بيان المصلحة، فإن ظهرت وجب اتباعها، وإن ظهر أنها مفسدة ردت، وإن اشتبه الأمر وكان الناظر عالمًا عادلًا سوغ له اجتهاده. والله أْعلم.
سئل عن رجل له مزرعة وبها شجر وقف
وسئل رحمه الله عن رجل له مزرعة، وبها شجر وقف للفقراء تباع كل سنة وتصرف في مصارفها، ثم إن الناظر أجر الوقف لمن يضر بالوقف، وكان هناك حوض للسبيل، ومطهرة للمسلمين، فهدمها هذا المستأجر، وهدم الحيطان، فهل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب:
لا يجوز إكراء الوقف لمن يضر به باتفاق المسلمين، بل ولا يجوز إكراء الشجر بحال، وإن سوقى عليها بجزء حيلة لم يجز بالوقف باتفاق العلماء، ولا يجوز إزالة ما كان ينتفع به المسلمون للشرب والطهارة، بل يعزر هذا المستأجر الظالم الذي فعل ذلك، ويلزم بضمان ما أتلفه من البناء، وأما القيمة والشجر فيستغل، كما جرت عادتها، وتصرف الغلة في مصارفها الشرعية.
سئل عن مساجد وجوامع لهم أوقاف وفيها قوام
وسئل عن مساجد وجوامع لهم أوقاف، وفيها قوام وأئمة ومؤذنون، فهل لقاضي المكان أن يصرف منه إلى نفسه؟
فأجاب:
بل الواجب صرف هذه الأموال في مصارفها الشرعية، فيصرف من الجوامع والمساجد إلى الأئمة والمؤذنين والقوام ما يستحقه أمثالهم، وكذلك يصرف في فرش المساجد وتنويرها كفايتها بالمعروف، وما فضل عن ذلك إما أن يصرف في مصالح مساجد أخر، ويصرف في المصالح، كأرزاق القضاة في أحد قولي العلماء، وأما صرفها للقضاة ومنع مصالح المساجد فلا يجوز. والله أعلم.
سئل عن رجل بنى مدرسة وأوقف عليها وقفا
وسئل رحمه الله عن رجل بنى مدرسة، وأوقف عليها وقفًا على فقهاء وأرباب وظائف، ثم إن السلطنة أخذت أكثر الوقف، وأن الواقف اشترط المحاصصة بينهم، فهل يجوز للناظر أن يعطي أصحاب الوظائف بالكامل وما بقى للفقهاء؟
فأجاب:
الحمد لله، إن كان الذي يحصل بالمحاصصة لأرباب الأعمال التي يستأجر عليها كالبواب والقيم والسواق ونحوهم أجرة مثلهم يعطوه زيادة على ذلك، وإن كان ما يحصل دون أجرة المثل وأمكن من يعمل بذلك لم يحتج إلى الزيادة، وإن كان الحاصل لهم أقل من أجرة المثل ولا يحصل من يعمل بأقل من أجرة المثل، فلابد من تكميل المثل لهم إذا لم تقم مصلحة المكان إلا بهم، وإن أمكن أن يجعل شخص واحد قيمًا وبوابًا أو قيمًا ومؤذنًا أو يجمع له بين تلك الوظائف ويقوم بها، فإنه يفعل ذلك، ولا يكثر العدد الذي لا يحتاج إليه مع كون الوقف قد عاد إلى ريعه، بل إذا أمكن سد أربع وظائف بواحد فعل ذلك. والله أعلم.
سئل عن دار حديث شرط واقفها
وسئل عن دار حديث شرط واقفها في كتاب وقفها ما صورته بحروفه قال: والنظر في أمر أهل الدار على اختلاف أصنافهم إثباتًا وصرفًا، وإعطاء ومنعًا، وزيادة ونقصًا، ونحو ذلك إلى شيخ المكان، وكذلك النظر إليه في خزانة كتبها، وسائر ما يشبه ذلك أو يلحق به، وله إذا كان عنده الوقف في أمر من الأمور أن يفوض ذلك إلى من يتولاه، ثم قال: والنظر في أمر الأوقاف وأمورها المالية إلى الواقف ضاعف الله ثوابه يفوض ذلك إلى من يشاء ومتى فوض ذلك إليه تلقاه بحكم الشرط المقارن لإنشاء الوقف وينتقل بعد ذلك إلى حاكم المسلمين بدمشق، وله أن يصرف إلى من سوى ذلك من عامل وغيره من مغل الوقف على حسب ما تقتضيه الحال.
فهل إذا لم يكن في شرط النظر في كتاب الوقف شيء آخر يكون النظر المشروط للحاكم مختصًا بحاكم مذهب معين بمقتضى لفظ الشرط المذكور؟ أم لا يختص بحاكم معين، بل يكون النظر المذكور لمن كان حاكمًا بدمشق على أي مذهب كان من المذاهب الأربعة؟ وإذا لم يكن مختصًا وفوض بعض الحكام قضاة القضاة أعزهم الله بدمشق المحروسة لأهل كان النظر المذكور بمقتضى ما رآه من عدم الاختصاص يجوز لحاكم آخر منعه من ذلك أو بعض ما فعله بغير قادح؟
فأجاب:
ليس في اللفظ المذكور في شرط الواقف ما يقتضي اختصاصه بمذهب معين على الإطلاق، فإن ذلك يقتضي أنه لو لم يكن في البلد إلا حاكم على غير المذهب الذي كان عليه حاكم البلد ومن الواقف ألا يكون له النظر، وهذا باطل باتفاق المسلمين، فما زال المسلمون يقفون الأوقاف، ويشرطون أن يكون النظر للحاكم، أو لا يشترطون ذلك في كتاب الوقف، فإن ذلك يقتضي بطلان الشرع في الوقوف العامة التي لم يعين ولي الأمر لها ناظرًا خاصًا، وفي الوقوف الخاصة نزاع معروف.
ثم قد يكون الحاكم وقت الوقف له مذهب، وبعد ذلك يكون للحاكم مذهب آخر، كما يكون في العراق وغيرها من بلاد الإسلام، فإنهم كانوا يولون قضاة القضاة تارة لحنفي، وتارة لمالكي، وتارة لشافعي، وتارة لحنبلي، وهذا القاضي يولي في الأطراف من يوافقه على مذهبه تارة، ومن يخالفه أخرى، ولو شرط الإمام على الحاكم أو شرط الحاكم على خليفته أن يحكم بمذهب معين بطل الشرط، وفي فساد العقد وجهان.
ولا ريب أن هذا إذا أمكن القضاة أن يحكموا بالعلم والعدل من غير هذا الشرط فعلوا، فأما إذا قدر أن في الخروج عن ذلك من الفساد جهلًا وظلمًا أعظم مما في التقدير؛ كان ذلك من
باب دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولكن هذا لا يسوغ لواقف ألا يجعل النظر في الوقف إلا لذي مذهب معين دائمًا مع إمكان إلا أن يتولى في ذلك المذهب، فكيف إذا لم يشرط ذلك؟
ولهذا كان في بعض بلاد الإسلام يُشْرَط على الحاكم ألا يحكم إلا بمذهب معين، كما صار أيضًا في بعضها بولاية قضاة مستقلين، ثم عموم النظر في عموم العمل، وإن كان في كل من هذا نزاع معروف، وفيمن يعين إذا تنازع الخصمان: هل يعين الأقرب أو بالقرعة؟ فيه نزاع معروف، وهذه الأمور التي فيها اجتهاد إذا فعلها ولي الأمر نفذت.
وإذا كان كذلك، فالحاكم على أي مذهب كان إذا كانت ولايته تتناول النظر في هذا الوقف كان تفويضه سائغًا ولم يجز لحاكم آخر نقض مثل هذا، لا سيما إذا كان في التفويض إليه من المصلحة في المال ومستحقه ما ليس في غيره.
ولو قدر أن حاكمين ولي أحدهما شخصًا، وولي آخر شخصًا؛ كان الواجب على ولي الأمر أن يقدم أحقهما بالولاية، فإن من عرفت قوته وأمانته يقدم على من ليس كذلك باتفاق المسلمين.
سئل عن الناظر متى يستحق معلومه
وسئل عن الناظر: متى يستحق معلومه، من حين فوض إليه؟ أو من حين مكنه السلطان؟ أو من حين المباشرة؟
فأجاب:
الحمد لله، المال المشروط للناظر مستحق على العمل المشروط عليه، فمن عمل ما عليه يستحق ماله. والله أعلم.
سئل عمن استأجر أرض وقف من الناظر
وسئل عمن استأجر أرض وقف من الناظر على الوقف النظر الشرعي ثلاثين سنة بأجرة المثل، وأثبت الإجارة عند حاكم من الحكام، وأنشأ عمارة، وغرس في المكان مدة أربع سنين، ثم سافر والمكان في إجارته، وغاب إحدى عشرة سنة، فلما حضر وجد بعض الناس قد وضع يده على الأرض، وادعى أنه استأجرها، وذلك بطريق شرعي، فهل له نزع هذا الثاني وطلبه بتفاوت الأجرة؟
فأجاب:
إن كان الثاني قد استأجر المكان من غير من له ولاية الإيجار واستأجره مع بقاء إجارة صحيحة عليه، فالإجارة باطلة، ويده يد عادية مستحقة للرفع والإزالة، وإذا كان الثاني استأجرها وتسلمها وهي في إجارة الأول، فالأول مخير بين أن يفسخ الإجارة وتسقط عنه الإجارة من حين الفسخ، ويطالب أهل المكان بالإجارة لهذا الثاني المتولي عليه، يطلبون منه أجرة المثل إن كانت الإجارة فاسدة، وإن كانت صحيحة طالبوه بالفسخ وبين إمضاء الإجارة، ويعطي أهل المكان أجرتهم، ويطالب الغاصب بأجرة المثل من حين استيلائه على ما استأجره.
سئل عن قوم وقف عليهم حصة من حوانيت
وسئل رحمه الله عن قوم وقف عليهم حصة من حوانيت، وبعضها وقف على جهة أخرى، وتلك ملكًا لغيرهم، وشرط الواقف المذكور النظر في ذلك للأسَنِّ، فإذا استووا في ذلك فهم شركاء في النظر، فتداعى الوقف المذكور إلى الخراب، فأجروه لمالكي باقي الحصة مدة ثلاثين سنة بأجرة حالة وأجرة مؤجلة، وعينوا شهود الإجارة جميع ما في الحوانيت المذكورة، من خشب، وقَصَب، وجريد، وجُدر، وطولها، وعرضها، وغير ذلك. وذكر شهود الإجارة فيها: اعترف فلان وفلان الآخران المذكوران بقبض الأجرة الحالة بتمامها، ومن في درجتها، ومات المستأجر، وانتقل ما كان ملكًا له من ذلك لغيره، وانقضت مدة الإجارة، وانتقل الوقف المذكور إلى البطن الثاني، فهل للبطن الثاني أن يتسلموا الحوانيت المذكورة على ما هي عليه الآن، وقد اعترف الآخران بقبض الأجرة الحالة ليصرفاها في عمارة الوقف وإعادته إلى ما كان عليه، أو يلزمهم إقامة البينة على أن الآخران المذكوران لما قبضا الأجرة صرفاها في العمارة، أو المستأجرين، أو من انتقل إليهم ما كان ملكًا للمستأجر المنع من تسليم الحصة المذكورة من الحوانيت إلا على صورتها الأولى والحالة هذه؟
فأجاب:
الحمد لله، بل ما كان في العَرْصَة المشتركة من البناء بيد أهل العرصة ثابتة عليه بحكم الاشتراك أيضًا، حتى يقيم أحدهم حجة شرعية باختصاصه بالبناء، ولا يقبل مجرد دعوى أحد الشركاء في العرصة الاختصاص بالبناء، سواء كانت العرصة المشتركة بين وقف وطَلْقٍ، أو بين طلقين، أو وقفين، ويد المستأجر إنما هي على المنفعة، وليس بمجرد الإجارة تثبت دعوى استحقاق البناء إلا أن يقيم بذلك حجة. والله أْعلم.
سئل عن رجل أقر قبل موته أن جميع الحانوت والأعيان وقف
وسئل رحمه الله عن رجل أقر قبل موته بعشرة أيام أن جميع الحانوت والأعيان التي بها وقف على وجوه البر والقربات، وتصرف الأجرة والثواب من مدة تتقدم على إقراره هذا بعشرين سنة، ففعل بمقتضى شرط إقراره، وعين الناظر الإمام بعد موته، ثم عين ناظرًا آخر من غير عزل الإمام الناظر الأول، فصرف أحد الناظرين على ثبوت الوقف ما جرت العادة بصرفه على ثبوت مثله من ريع الوقف من غير أن يصرف إلى مستحقي الريع شيئا، فهل تجب الأجرة من الريع؟ أم من تركة الميت المقر بالوقف المذكور؟ وإذا تعذر إيجار العين الموقوفة بسبب اشتغالها بمال الورثة، فهل تجب الأجرة على الورثة تلك المدة؟ وهل تفوت الأجرة السابقة في ذمة الميت بمقتضى إقراره بالمدة الأولى ويرجع بها في تركته؟ وهل إذا عين ناظرًا ثم عين ناظرًا آخر يكون عزلًا للأول من غير أن يتلفظ بعزله؟ أم يشتركان في النظر؟ وهل إذا علم الشهود ثبوت المال في تركة الميت يحل كتمه أم لا؟
فأجاب:
ليست أجرة إثبات الوقف والسعي في مصالحه من تركة الميت، فإن ما زاد على المقر به كله مستحق للورثة، وإنما عليهم رفع أيديهم عن ذلك وتمكين الناظر منه، وليس عليه السعي ولا أجرة ذلك، وأما العين المقر بها إذا انتفع بها الورثة أو وضعوا أيديهم عليها، بحيث يمنع الانتفاع المستحق بها، فعليهم أجرة المنفعة في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما ممن يقول بأن منافع الغصب مضمونة، والنزاع في المسألة مشهور، وإقرار الميت بأنها وقف من المدة المتقدمة ليس بصريح في أنه كان مستوليًا عليها بطريق الغصب، والضمان لا يجب بالاحتمال.
وأما تعيين ناظر بعد آخر، فيرجع في ذلك إلى عرف مثل هذا الوقف وعادة أمثاله، فإن كان هذا في العادة رجوعًا كان رجوعًا، وكذلك إن كان في لفظه ما يقتضي انفراد الثاني بالتصرف، وإلا فقد عرفت المسألة وهي ما إذا وصى بالعين لشخص، ثم وصى بها لآخر: هل يكون رجوعًا أم لا؟ وما علمه الشهود من حق مستحق يصل الحق إلى مستحقه بشهادتهم لم يكتموها، وإن كان يوجد من لا يستحقه ولا يصل إلى من يستحقه، فليس عليهم أن يعينوا واحدًا منهما، وإن كان أخذه بتأويل واجتهاد لم يكن عليهم أيضًا نزعه من يده، بل يعان المتأول المجتهد على من لا تأويل له ولا اجتهاد.
سئل عمن وقف على أولاده أنه من توفي منهم رجع وقفه على ولده
وسئل رحمه الله عن صورة كتاب وقف نصه: هذا ما وقفه عامر بن يوسف بن عامر على أولاده: على، وطريفة؛ وزبيدة، بينهم على الفريضة الشرعية، ثم على أولادهم من بعدهم، ثم على أولاد أولادهم، ثم على أولاد أولاد أولادهم، ثم على نسلهم وعقبهم من بعدهم وإن سفلوا، كل ذلك على الفريضة الشرعية، على أنه من توفي من أولادهم المذكورين؛ وأولاد أولادهم ونسلهم، وعقبهم من بعدهم، عن ولد أو ولد ولد، ونسل أو عقب وإن سفل، كان ما كان موقوفًا عليه راجعًا إلى ولده، وولد ولده، ونسله وعقبه من بعده وإن سفل، كل ذلك على الفريضة الشرعية، ومن توفي منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب وإن بعد كان ما كان موقوفًا عليه راجعًا إلى من هو في طبقته وأهل درجته من أهل الوقف على الفريضة الشرعية، ثم على جهات ذكرها في كتاب الوقف والمسؤول من السادة العلماء أن يتأملوا شرط الواقف المذكور ثم توفي عن بنتين فتناولتا ما انتقل إليهما عنه، ثم توفيت إحداهما عن ابن وابنة ابن. فهل يشتركان في نصيبها؟ أم يختص به الابن دون ابنة الابن؟ ثم إن الابن المذكور توفي عن ابن: هل يختص بما كان جاريًا على أبيه دون ابنة الابن؟ وهل يقتضي شرط الواقف المذكور ترتيب الجملة على الجملة؟ أو الأفراد على الأفراد؟
فأجاب:
هذه المسألة فيها قولان عند الإطلاق معروفان للفقهاء في مذهب الإمام أحمد وغيره، ولكن الأقوى أنها لترتيب الأفراد على الأفراد، وأن ولد الولد يقوم مقام أبيه لو كان الابن موجودًا مستحقًا قد عاش بعد موت الجد واستحق، أو عاش ولم يستحق لمانع فيه، أو لعدم قبوله للوقف، أو لغير ذلك، أو لم يعش، بل مات في حياة الجد، ويكون على هذا التقدير مقابلة الجمع بالجمع، وهي تقتضي توزيع الأفراد على الأفراد كما في قوله: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } [13] أي: لكل واحد نصف ما تركت زوجته، وقوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [14]، أي: حرم على كل واحد أمه، ونحو ذلك، كذلك قوله: على أولادهم، ثم على أولاد أولادهم، أي: على كل واحد بعد موت أبيه، وأما في هذه فقد صرح الواقف بأنه من مات عن ولد انتقل نصيبه إلى ولده، وهذا صريح في أنه لترتيب الأفراد على الأفراد، فلم يبق في هذه المسألة نزاع.
وإنما الشبهة في أن الولد إذا مات في حياة أبيه وله ولد، ثم مات الأب عن ولد آخر، وعن ولد الولد الأول: هل يشتركان؟ أو ينفرد به الأول؟ الأظهر في هذه المسألة: أنهما يشتركان؛ لأنه إذا كان المراد أن كل ولد مستحق بعد موت أبيه سواء كان عمه حيًا أو ميتًا فمثل هذا الكلام إذًا يشترط فيه عدم استحقاق الأب كما قال الفقهاء في ترتيب العصبة: إنهم الابن، ثم ابنه، ثم الأب، ثم أبوه، ثم العم، ثم بنو العم، ونحو ذلك، فإنه لا يشترط في الطبقة الثانية إلا عدم استحقاق الأولى، فمتى كانت الثانية موجودة والأولى لا استحقاق لها استحقت الثانية، سواء كانت الأولى استحقت أو لم تستحق، ولا يشترط لاستحقاق الثانية استحقاق الأولى؛ وذلك لأن الطبقة الثانية تتلقى الوقف من الواقف، لا من الثانية، فليس هو كالميراث الذي يرثه الابن، ثم ينتقل إلى ابنه، وإنما هو كالولاء الذي يورث به، فإذا كان ابن المعتق قد مات في حياة المعتق، ورث الولاء ابن ابنه.
وإنما يغلط من يغلط في مثل هذه المسألة حين يظن أن الطبقة الثانية تتلقى من التي قبلها، فإن لم تستحق الأولى شيئا لم تستحق الثانية، ثم يظنون أن الوالد إذا مات قبل الاستحقاق لم يستحق ابنه، وليس كذلك، بل هم يتلقون من الواقف، حتى لو كانت الأولى محجوبة بمانع من الموانع، مثل أن يشترط الواقف في المستحقين أن يكونوا فقراء أو علماء، أو عدولًا، أو غير ذلك، ويكون الأب مخالفًا للشرط المذكور، وابنه متصفًا به فإنه يستحق الابن، وإن لم يستحق أبوه، كذلك إذا مات الأب قبل الاستحقاق فإنه يستحق ابنه، وهكذا جميع الترتيب في الحضانة، وولاية النكاح والمال، وترتيب عصبة النسب والولاء في الميراث، وسائر ما جعل المستحقون فيه طبقات ودرجات، فإن الأمر فيه على ما ذكر.
وهذا المعنى هو الذي يقصده الواقفون إذا سئلوا عن مرادهم، ومن صرح منهم بمراده، فإنه يصرح بأن ولد الولد ينتقل إليه ما ينتقل إلى ولده لو كان حيًا؛ لا سيما والناس يرحمون من مات والده ولم يرث؛ حتى إن الجد قد يوصى لولد ولده؛ ومعلوم أن نسبة هذا الولد ونسبة ولد ذلك الولد إلى الجد سواء، فكيف يحرم ولد ولده اليتيم ويعطي ولد ولده الذي ليس بيتيم؟ فإن هذا لا يقصده عاقل، ومتى لم نقل بالتشريك بقى الوقف في هذا الولد وولده، دون ذرية الولد الذي مات في حياة أبيه. والله أعلم.
سئل عن امرأة أوقفت وقفا على تربتها بعد موتها
وسئل عن امرأة أوقفت وقفًا على تربتها بعد موتها، وأرصدت للمقرئين شيئا معلومًا، وما يفضل عن ذلك للفقراء، أو وجوه البر، وأن لها قرابة خالها قد افتقر واحتاج، وانقطع عن الخدم، وأن الناظر لم يصرف له ما يقوم بأوده، فهل يجب إلزام الناظر بما يقوم بأود القرابة ودفع حاجته دون غيره؟
فأجاب:
إذا كان للموقفة قرابة محتاج كالخال ونحوه، فهو أحق من الفقير المساوي له في الحاجة، وينبغي تقديمه، وإذا اتسع الوقف لسد حاجته سدت حاجته منه.
سئل عن أوقاف ببلد على أماكن مختلفة
وسئل رحمه الله عن أوقاف ببلد على أماكن مختلفة، من مدارس، ومساجد، وخوانك، وجوامع، ومارستانات، وربط، وصدقات، وفكاك أسرى من أيدى الكفار، وبعضها له ناظر خاص، وبعضها له ناظر من جهة ولي الأمر، وقد أقام ولي الأمر على كل صنف من هذه الأصناف ديوانًا يحفظون أوقافه؛ ويصرفون ريعه في مصارفه، ورأي الناظر أن يفرز لهذه المعاملات مستوفيًا يستوفي حساب هذه المعاملات يعني الأوقاف كلها وينظر في تصرفات النظار والمباشرين، ويحقق عليهم ما يجب تحقيقه من الأموال المصروفة والباقي، وضبط ذلك عنده؛ ليحفظ أموال الأوقاف عند اختلاف الأيدي، وتغيير المباشرين، ويظهر بمباشرته محافظة بعض العمال على فائدة، فهل لولي الأمر أن يفعل ذلك إذا رأى فيه المصلحة أم لا؟ وإذا صار الآن يفعل ذلك إذا رأي فيه المصلحة، وقرر المذكور، وقرر له معلومًا يسير على كل من هذه لا يصل إلى ريع معلوم أحد المباشرين لها، ودون ذلك بكثير، لما يظهر له من المصلحة فيه، فهل يكون ذلك سائغًا؟ وهل يستحق المستوفي المذكور تناول ما قرر له أم لا إذا قام بوظيفته؟ وإذا كانت وظيفته استرجاع الحساب عن كل سنة على حكم أوضاع الكتاب، ووجد ارتفاع حساب سنين أو أكثر، فتصرف وعمل فيه وظيفته: هل يستحق معلوم المدة التي استرجع حسابهم فيها وقام بوظيفته بذلك الحساب؟
فأجاب:
نعم، لولي الأمر أن ينصب ديوانًا مستوفيًا لحساب الأموال الموقوفة عند المصلحة، كما له أن ينصب الدواوين مستوفيًا لحساب الأموال السلطانية، كالفيء وغيره، وله أن يفرض له على عمله ما يستحقه مثله، من كل مال يعمل فيه بقدر ذلك المال، واستيفاء الحساب، وضبط مقبوض المال، ومصروفه من العمل الذي له أصل؛ لقوله تعالى: { وَالْعَامِلِينَ عليها } [15]، وفي الصحيح: أن النبي ﷺ استعمل رجلا على الصدقة، فلما رجع حاسبه. وهذا أصل في محاسبة العمال المتفرقين، والمستوفي الجامع نائب الإمام في محاسبتهم، ولابد عند كثرة الأموال ومحاسبتهم من ديوان جامع.
ولهذا لما كثرت الأموال على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وضع الدواوين ديوان الخراج، وهو ديوان المستخدمين على الارتزاق، استعمل عليه عثمان بن حُنيف. وديوان النفقات، وهو ديوان المصروف على المقاتلة والذرية الذي يشبه في هذه الأوقات ديوان الحبس والثبوتات ونحو ذلك، واستعمل عليه زيد بن ثابت.
وكذلك الأموال الموقوفة على ولاة الأمر من الإمام والحاكم ونحوه إجراؤها على الشروط الصحيحة الموافقة لكتاب الله، وإقامة العمال على ما ليس عليه عامل من جهة الناظر. والعامل في عرف الشرع يدخل فيه الذي يسمي ناظرًا، ويدخل فيه غير الناظر لقبض المال ممن هو عليه صرفه ودفعه إلى من هو له؛ لقوله: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [16]. ونصب المستوفي الجامع للعمال المتفرقين بحسب الحاجة والمصلحة، وقد يكون واجبًا إذا لم تتم مصلحة قبض المال وصرفه إلا به، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد يستغني عنه عند قلة العمل ومباشرة الإمام للمحاسبة بنفسه، كما في نصب الإمام للحاكم، عليه أن ينصب حاكمًا عند الحاجة والمصلحة، إذا لم تصل الحقوق إلى مستحقها، أو لم يتم فعل الواجب وترك المحرم إلا به، وقد يستغني عنه الإمام إذا أمكنه مباشرة الحكم بنفسه.
ولهذا كان النبي ﷺ يباشر الحكم واستيفاء الحساب بنفسه، وفيما بعد عنه يولي من يقوم بالأمر، ولما كثرت الرعية على عهد أبي بكر وعمر والخلفاء استعملوا القضاة ودونوا الدواوين في أمصارهم وغيرها، فكان عمر يستنيب زيد بن ثابت بالمدينة على القضاء والديوان، وكان بالكوفة قد استعمل عمار بن ياسر على الصلاة والحرب، مثل نائب السلطان، والخطيب، فإن السنة كانت أنه يصلى بالناس أمير حربهم، واستعمل عبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال، واستعمل عثمان بن حُنيف على ديوان الخراج.
وإذا قام المستوفي بما عليه من العمل استحق ما فرض له، والجعل الذي ساغ له فرضه، وإذا عمل هذا ولم يعط جعله، فله أن يطلب على العمل الخاص، فإن ما وجب بطريق المعاملة يجب.
سئل عمن استأجر أرض وقف وغرس فيها غراسا وأثمر
وسئل عن رجل استأجر قطع أرض وقف، وغرس فيها غراسًا وأثمر، ومضت مدة الإيجار؛ فأراد نظار الوقف قلع الغراس، فهل لهم ذلك؟ أو أجرة المثل؟ وهل يثاب ولي الأمر على مساعدته؟
فأجاب:
ليس لأهل الأرض قلع الغراس، بل لهم المطالبة بأجرة المثل أو تملك الغراس بقيمته، أو ضمان نقصه إذا قلع، وما دام باقيًا فعلى صاحبه أجرة مثله، وعلى ولي الأمر منع الظالم من ظلمه. والله أعلم.
سئل عن رجل متولي إمامة مسجد ونظر وقفه من سنين معدودة
وسئل رحمه الله عن رجل متولي إمامة مسجد وخطابته، ونظر وقفه من سنين معدودة، بمرسوم ولي الأمر، وله مستحق بحكم ولايته الشرعية، فهل لنظار وقف آخر أن يضعوا أيديهم على هذا الوقف، أو يتصرفوا فيه بدون هذا الناظر، وأن يصرفوا مال المسجد المذكور في غير جهته، أو يمنعوا ما قدر له على ذلك؟ ولو قدر أن هذا الوقف كان في ديوان أولئك من مدة، ثم أخرجه ولي الأمر، وجعله للإمام الخطيب، فهل لهم ذلك والحالة هذه أن يتصرفوا فيه ويمنعوه التصرف مع بقاء ولايته؟ وهل إذا تصرف فيه متعد وصرف منه شيئا إلى غيره مع حاجة الإمام وقيام المصالح، وأصر على ذلك والحالة هذه يقدح في دينه وعدالته أم لا؟
فأجاب:
ليس لناظر غير الناظر المتولي هذا الوقف أن يضع يده عليه ولا يتصرف فيه بغير إذنه، لا نظار وقف آخر ولا غيرهم، سواء كانوا قبل ذلك متولين نظره أو لم يكونوا متولين نظره، ولا لهم أن يصرفوا مال المسجد في غير جهاته التي وقف عليها والحال ما ذكر بل يجب أن يعطي الإمام وغيره ما يستحقونه كاملا، ولا ينقصون من مستحقهم لأجل أن يصرفوا الفاضل إلى وقف آخر؛ فإن هذا لا نزاع في أنه لا يجوز، وإنما تنازع العلماء في جواز صرف الفاضل، ومن جوزه، فلم يجوز لغير الناظر المتولي أن يستقل بذلك، ومن أصر على صرف مال لغير مستحقه ومنع المستحق قدح في دينه وعدالته.
سئل على واقف وقف على فقراء المسلمين
وسئل رحمه الله على واقف وقف على فقراء المسلمين، فهل يجوز لناظر الوقف أن يصرف جميع ريعه إلى ثلاثة والحالة هذه أم لا؟ وإن جاز له أن يصرف إلى ثلاثة، وكان من أقارب الواقف فقير ثبت فقره واستحقاقه للصرف إليه من ذلك فهل يجوز الصرف إليه عوضًا عن أحد الثلاثة الأجانب من الواقف؟ وإذا جاز الصرف إليه، فهل هو أولى من الأجنبيين المصروف إليهما؟ وإذا كان أولي، فهل يجوز للناظر أن يصرف إلى قريب الواقف المذكور قدر كفايته من الوقف والحالة هذه؟ وإذا جاز له ذلك، فهل يكون فعله ذلك أولى وأفضل من أن ينقص من كفايته ويصرف ذلك القدر إلى الأجنبي والحالة هذه؟
فأجاب:
الحمد لله، يجب على ناظر الوقف أن يجتهد في مصرفه، فيقدم الأحق فالأحق، وإذا قدر أن المصلحة الشرعية اقتضت صرفه إلى ثلاثة مثل ألا يكفيهم أقل من ذلك، فلا يدخل غيرهم من الفقراء، وإذا كفاهم وغيرهم من الفقراء يدخل الفقراء معهم، ويساويهم مما يحصل من ريعه، وهم أحق منه عند التزاحم، ونحو ذلك. وأقارب الواقف الفقراء أولى من الفقراء الأجانب مع التساوي في الحاجة، ويجوز أن يصرف إليه كفايته إذا لم يوجد من هو أحق منه، وإذا قدر وجود فقير مضطر كان دفع ضرورته واجبًا، وإذا لم يندفع إلا بتنقيص كفاية أولئك من هذا الوقف من غير ضرورة تحصل لهم تعين ذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل ولى ذا شوكة على وقف
وسئل رحمه الله عن رجل ولي ذا شوكة على وقف من مساجد وربط وغير ذلك، اعتمادًا على دينه، وعلما بقصده للمصلحة، فعند توليته وجد تلك الوقوف على غير سنن مستقيم، ويتعرض إليها كره مباشرتها؛ لئلا يقع الطمع في مالها، وغير ملتفتين إلى صرفها في استحقاقها، وهم مثل القاضي، والخطيب، وإمام الجامع، وغير ذلك، فإنهم يأخذون من عموم الوقف، وهو مع هذا عاجز عن صد التعرض عنها، ومع اجتهاده فيها ومبالغته، فهل يحل للسائل عزل نفسه عنها، وعن القيام بما يقدر عليه من مصالحها، مع العلم بأنه بأجرة يكثر التعرض فيها، والطمع في مالها؟
وهل يحل له تناول أجرة عمله منها مع كونه ذا عائلة، وعاجز عن تحصيل قوتهم من غيرها؟ وهل يحل للناظر إذا وجد مكانًا خربًا أن يصرف ماله في مصلحة غيره عند تحققه بأن مصلحته ما يتصور أن تقوم بعمارته؟ وهل إذا فضل عن جهته شيء من ملكها صرفه إلى مهم غيره، وعمارة لازمة يمكن أن تحفظه لكثرة التعرض إليه أم لا؟
فأجاب:
أصل هذه إنما أوجبه الله من طاعته وتقواه مشروط بالقدرة، كما قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [17]، وكما قال النبي ﷺ: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)؛ ولهذا جاءت الشريعة عند تعارض المصالح والمفاسد بتحصيل أعظم المصلحتىن بتفويت أدناهما، وباحتمال أدني المفسدتين لدفع أعلاهما، فمتى لم يندفع الفساد الكبير عن هذه الأموال الموقوفة ومصارفها الشرعية إلا بما ذكر من احتمال المفسدة القليلة كان ذلك هو الواجب شرعًا.
وإذا تعين ذلك على هذا الرجل، فليس له ترك ذلك إلا مع ضرر أوجب التزامه، أو مزاحمة ما هو أوجب من ذلك، وله بإجماع المسلمين مع الحاجة تناول أجرة عمله فيها، بل قد جوزه من جوزه مع الغني أيضا، كما جوز الله تعالى للعاملين على الصدقات الأخذ مع الغني عنها.
وإذا خرب مكان موقوف، فتعطل نفعه بيع وصرف ثمنه في نظيره، أو نقلت إلى نظيره، وكذلك إذا خرب بعض الأماكن الموقوف عليها كمسجد ونحوه على وجه يتعذر عمارته، فإنه يصرف ريع الوقف عليه إلى غيره، وما فضل من ريع وقف عن مصلحته صرف في نظيره، أو مصلحة المسلمين من أهل ناحيته، ولم يحبس المال دائمًا بلا فائدة، وقد كان عمر بن الخطاب كل عام يقسم كسوة الكعبة بين الحجيج، ونظير كسوة الكعبة المسجد المستغني عنه من الحصر ونحوها، وأمر بتحويل مسجد الكوفة من مكان إلى مكان، حتى صار موضع الأول سوقًا.
سئل عن الوقف الذي أوقف على الأشراف
وسئل رحمه الله عن الوقف الذي أوقف على الأشراف ويقول: إنهم أقارب: هل الأقارب شرفاء أم غير شرفاء؟ وهل يجوز أن يتناولوا شيئا من الوقف أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إن كان الوقف على أهل بيت النبي ﷺ، أو على بعض أهل البيت، كالعلويين، والفاطميين، أو الطالبيين الذين يدخل فيهم بنو جعفر، وبنو عقيل، أو على العباسيين ونحو ذلك، فإنه لا يستحق من ذلك إلا من كان نسبه صحيحًا ثابتًا، فأما من ادعي أنه منهم ولم يثبت أنه منهم، أو علم أنه ليس منهم، فلا يستحق من هذا الوقف وإن ادعي أنه منهم، كبني عبد الله بن ميمون القداح، فإن أهل العلم بالأنساب وغيرهم يعلمون أنه ليس لهم نسب صحيح، وقد شهد بذلك طوائف أهل العلم من أهل الفقه والحديث والكلام والأنساب، وثبت في ذلك محاضر شرعية، وهذا مذكور في كتب عظيمة من كتب المسلمين، بل ذلك مما تواتر عند أهل العلم.
وكذلك من وقف على الأشراف، فإن هذا اللفظ في العرف لا يدخل فيه إلا من كان صحيح النسب من أهل بيت النبي ﷺ، وأما إن وقف واقف على بني فلان، أو أقارب فلان، ونحو ذلك، ولم يكن في الوقف ما يقتضي أنه لأهل البيت النبوي، وكان الموقوف ملكًا للواقف يصح وقفه على ذرية المعين؛ لم يدخل بنو هاشم في هذا الوقف.
سئل عن رجل بيده مسجد
وسئل قدس الله روحه عن رجل بيده مسجد بتواقيع إحياء سنة شرعية بحكم نزول من كان بيده توقيعًا بالنزول ثابتًا بالحكام، ثم إن ولد من كان بيده المسجد أولا تعرض لمن بيده المسجد الآن، وطلب مشاركته، ولم يكن له مستند شرعي غير أنه كان بيد والده، فهل يجوز أن يلجأ إلى الشركة بغير رضاه؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يجوز إلزام إمام مسجد على المشاركة والحالة هذه ولا التشريك بينهما، أو عزله بمجرد ما ذكر، من كون أبيه كان هو الإمام، فإن المساجد يجب أن يولي فيها الأحق شرعًا، وهو الأقرأ لكتاب الله، والأعلم بسنة رسول الله ﷺ، الأسبق إلى الأعمال الصالحة، مثل أن يكون أسبق هجرة، أو أقدم سنًا، فكيف إذا كان الأحق هو المتولي؟ فإنه لا يجوز عزله باتفاق العلماء. والله أعلم.
سئل عن مدرسة وقفت على الفقهاء والمتفقهة الفلانية
وسئل عن مدرسة وقفت على الفقهاء والمتفقهة الفلانية، برسم سكناهم، واشتغالهم فيها، فهل تكون السكني مختصة بالمرتزقين؟ وهل يجوز إخراج أحد من الساكنين مع كونه من الصنف الموقوف عليه؟
فأجاب:
لا تختص السكني والارتزاق بشخص واحد، وتجوز السكني من غير ارتزاق من المال، كما يجوز الارتزاق من غير سكني، ولا يجوز قطع أحد الصنفين إلا بسبب شرعي - إذا كان الساكن مشتغلا - سواء كان يحضر الدرس أم لا.
سئل عن رجل ملك إنسانا أنشابا قائمة على الأرض الموقوفة
وسئل رحمه الله عن رجل ملك إنسانًا أنشابَا قائمة على الأرض الموقوفة على الملك المذكور وغيره أيام حياته، ثم بعد وفاته على أولاده، وعلى من يحدثه الله من الأولاد من الذكور والإناث بينهم بالسوية، على أن من توفي منهم وترك ولدًا كان نصيبه من الوقف إلى ولده، أو ولد ولده وإن سفل، واحدًا كان أو أكثر، ذكرًا كان أو أنثي، من ولد الظهر والبطن، يستوي في ذلك الذكور والإناث، وإن توفي ولم يكن له ولد ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك؛ كان نصيبه من ذلك مصروفًا إلى من هو في درجته، مضافَا إلى ما يستحقه من ريع هذا الوقف، فإن لم يكن له أخ، ولا أخت، ولا من يساويه في الدرجة؛ كان نصيبه مصروفًا إلى أقرب الناس إليه، الأقرب فالأقرب من ولد الظهر والبطن، تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلي، من ولد الظهر والبطن بالسوية، إلى حين انقراضهم، فإن لم يبق أحد يرجع بنسبه إلى الموقوف عليه، لا من جهة الأب، ولا من جهة البنت؛ كان مغل الوقف مصروفًا إلى الفقراء والمساكين بثغر دمياط المحروسة، والواردين إليه، والمترددين عليه يفرقه الناظر على ما يراه، ثم على أسارى المسلمين.
فمن أهل الوقف الأول أحد البنات توفيت ولم يكن لها ولد أخذ إخوتها نصيبها، ثم ماتت البنت الثانية ولها ابنتان أخذتا نصيبها، ثم بعد ذلك ماتت البنت الثالثة ولم يكن لها ولد أخذت أختها نصيبها، ثم بعد ذلك ماتت الأخت الرابعة فأخذوا لها الثلثين؛ فهل يصح لأولاد خالته نصيب معه أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، البنت الأولى انتقل نصيبها إلى إخوتها الثلاثة، كما شرطه الواقف، لا يشارك أولاد هذه لأولاد هذه في النصيب الأصلى الذي كان لأمها، وأما النصيب العائد وهو الذي كان للثالثة وانتقل إلى الرابعة فهذا يشترك فيه أولاد هذه وأولاد هذه، كما يشترك فيه أمهما، هذا أظهر القولين في هذه المسألة.
وقيل: إن جميع ما حصل للرابعة وهو نصيبها، ونصيب الثالثة ينتقل إلى أولادها خاصة؛ لأن الواقف قال: وإن توفي، ولم يكن له ولد ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك كان نصيبه مصروفًا إلى من في درجته، مضافًا إلى ما يستحقه من ريع الوقف. قالوا: فالمضاف كالمضاف إليه، فإذا كان هذا ينتقل إلى أولاده فكذلك الآخر؛ لأن قول الواقف: من مات منهم وترك ولدًا كان نصيبه من الوقف إلى ولده يتناول الأصلى والعائد.
والأظهر هو القول الأول، فإن قوله: كان نصيبه، يتناول النصيب الذي تقدم ذكره، وأما تناوله لما بعد ذلك فمشكوك فيه، فلا يدخل بالشك، بل قد يقال: هذا هو في الأصل نصيب الميت عنه، كما ذكر الواقف، والظاهر من حال الواقف لفظًا وعرفًا أنه سوي بين الطبقة في نصيب من ولد له ولد، فأخذه المساوي بكونه كان في الطبقة، وأولاده في الطبقة، كأولاد الميت الأول، فكما أن الميتين لو كانا حيين اشتركا في هذا النصيب العائد، فكذلك يشترك فيه ولدهما من بعدهما، فإن نسبتهما إلى صاحب النصيب نسبة واحدة.
وهذا هو الذي يقصده الناس بمثل هذه الشروط، كما يشهد بذلك عرفهم وعادتهم، والمقصود إجراء الوقف على الشروط الذي يقصدها الواقف؛ ولهذا قال الفقهاء، إن نصوصه كنصوص الشارع يعني: في الفهم والدلالة فيفهم مقصود ذلك من وجوه متعددة، كما يفهم مقصود الشارع.
ومن كشف أحوال الواقفين علم أنهم يقصدون هذا المعني، فإنه أشبه بالعدل، ونسبة أولاد الأولاد إلى الواقف سواء، فليس له غرض في أن يعطي ابن هذا نصيبان أو ثلاثة لتأخر موت أبيه، وأولئك لا يعطون إلا نصيبًا واحدًا، لا سيما وهذا المتأخر قد استغل الوقف، فقد يكون خلف لأولاده بعض ما استغله، والذي مات أولا لم يستغله إلا قليلا، فأولاده أقرب إلى الحاجة، ونسبتهما إلى الواقف سواء، فكيف يقدم من هو أقرب إلى الحاجة إلى من هو أبعد عنها وهما في القرب إليه وإلى الميت صاحب النصيب بعد انقراض الطبقة سواء؟
وهو كما لو مات صاحبه آخرًا، ولو مات آخرًا اشترك جميع الأولاد فيه، بل هذا يتناوله قول الواقف: إن توفي ولم يكن له ولد ولا ولد ولد كان نصيبه مصروفًا إلى من هو في درجته، فإن لم يكن له أخ ولا أخت ولا من يساويه في الدرجة، فيكون نصيبه مصروفًا إلى أقرب الناس، وكلهم في القرب إليه سواء. والله أعلم.
سئل عن واقف وقف وقفا على أولاده ثم على أولاد أولاده
وسئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى عن واقف وقف وقفًا على أولاده، ثم على أولاد أولاده، ثم على أولاد أولاد أولاده، ونسله، وعقبه دائمًا ما تناسلوا، على أنه من توفي منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب؛ كان ما كان جاريا عليه من ذلك على من في درجته وذوي طبقته، فإذا توفي بعض هؤلاء الموقوف عليهم عن ولد أو ولد ولد، أو نسل أو عقب لمن يكون نصيبه؟ هل يكون لولده؟ أو لمن في درجته من الإخوة وبني العم ونحوهم؟
فأجاب:
نصيبه ينتقل إلى ولده دون إخوته وبني عمه؛ لوجوه متعددة نذكر منها ثلاثة:
أحدها: أن قوله: على أولاده، ثم على أولاد أولاده، مقيد بالصفة المذكورة بعده، وهي قوله: على أنه من توفي منهم عن غير ولد انتقل نصيبه إلى ذوي طبقته، وكل كلام اتصل بما يقيده فإنه يجب اعتبار ذلك المقيد دون إطلاقه أول الكلام.
بيان المقدمة الأولى: أن هذه الجملة وهي قوله: على أنه من توفي منهم، في موضع نصب على الحال، والحال صفة في المعني، والصفة مقيدة للموصوف وإن شئت قلت: لأنه جار ومجرور متصل بالفعل، والجار والمجرور مفعول في النفي، وذلك مقيد للفعل. وإن شئت قلت: لأنه كلام لم يستقل بنفسه، فيجب ضمه إلى ما قبله. وإن شئت قلت: لأن الكلام الأول لم يسكت عليه المتكلم حتى وصله بغيره، وصلة الكلام مقيدة له. وكل هذه القضايا معلومة بالاضطرار في كل لغة.
بيان الثانية: أن الكلام متى اتصل به صفة أو شرط أو غير ذلك من الألفاظ التي تغير موجبه عند الإطلاق وجب العمل بها، ولم يجز قطع ذلك الكلام عن تلك الصفات المتصلة به، وهذا مما لا خلاف فيه أيضًا بين الفقهاء بل ولا بين العقلاء، وعلى هذا تنبني جميع الأحكام المتعلقة بأقوال المكلفين من العبادات والمعاملات، مثل الوقف، والوصية، والإقرار، والبيع، والهبة، والرهن، والإجارة، والشركة، وغير ذلك.
ولهذا قال الفقهاء: يرجع إلى لفظ الواقف في الإطلاق والتقييد؛ ولهذا لو كان أول الكلام مطلقًا أو عامًا ووصله المتكلم بما يخصه أو يقيده؛ كان الاعتبار بذلك التقييد والتخصيص، فإذا قال: وقفت على أولادي، كان عامًا، فلو قال: الفقراء، أو العدول، أو الذكور؛ اختص الوقف بهم، وإن كان أول كلامه عامًا.
وليس لقائل أن يقول: لفظ الأولاد عام، وتخصيص أحد النوعين بالذكر لا ينفي الحكم عن النوع الآخر، بل العقلاء كلهم مجمعون على أنه قصر الحكم على أولئك المخصوصين في آخر الكلام - مثبتوا المفهوم ونفاته، ويسمون هذا التخصيص المتصل. ويقولون: لما وصل اللفظ العام بالصفة الخاصة صار الحكم متعلقًا بذلك الوصف فقط، وصار الخارجون عن ذلك الوصف خارجين عن الحكم، أما عند نفاة المفهوم فلأنهم لم يكونوا يستحقون شيئا إلا إذا دخلوا في اللفظ، فلما وصل اللفظ العام بالصفة الخاصة أخرجهم من اللفظ؛ فلم يصيروا داخلين فيه، فلا يستحقون، فهم ينفون استحقاقهم لعدم موجب الاستحقاق. وأما عند مثبتي المفهوم فيخرجون لهذا المعني ولمعني آخر، وهو أن تخصيص أحد النوعين بالذكر يدل على قصد تخصيصه بالحكم، وقصد تخصيصهم بالحكم ملتزم لنفيه عن غيرهم. فهم يمنعون استحقاقهم لانتفاء موجبه، ولقيام مانعه.
وكذلك لو قيد المطلق مثل أن يقول: وقفت على أولادي على أنهم يعطون إن كانوا فقراء، أو على أنهم يستحقون إذا كانوا فقراء، أو وقفت على أولادي على أنه يصرف من الوقف إلى الموجودين منهم إذا كانوا فقراء، ووقفت على أنه من كان فقيرًا كان من أهل الوقف، فإن هذا مثل قوله: وقفت على أولادي على الفقراء منهم، أو بشرط أن يكونوا فقراء، أو إن كان فقيرًا.
ولو قال: وقفت على بناتي على أنه من كانت أيما أعطيت، ومن تزوجت ثم طلقها زوجها أعطيت، فإن هذا مثل قوله: وقفت على بناتي على الأيامي منهم، فإن صيغة على من صيغ الاشتراط، كما قال: { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } [18].
واتفق الفقهاء أنه لو قال: زوجتك بنتي على ألف، أو على أن تعطيها ألفًا، أو على أن يكون لها في ذمتك ألف؛ كان ذلك شرطًا ثابتًا وتسميته صحيحة، وليس في هذا خلاف، وقد أخطأ من اعتقد أن في مذهب الإمام أحمد أو غيره خلافًا في ذلك؛ من أجل اختلافهم فيما إذا قال لزوجته: أنت طالق على ألف، أو لعبده: أنت حر على ألف، فلم تقبل الزوجة والعبد، فإنه في إحدى الروايتين عن أحمد يقع العتق والطلاق، فإنه ليس مأخذه أن هذه الصيغة ليست للشرط، فإنه لا يختلف مذهبه أنه لو قال: خلعتك على ألف، أو كاتبتك على ألف، أو زوجتك على ألف، أو قال: بعتك هذا العبد على أن ترهنني به كذا، أو على أن يضمنه زيد، أو زوجتك بنتي على أنك حر، أن هذه شروط صحيحة، ولا خلاف في ذلك بين الفقهاء كلهم.
وإنما المأخذ أن العتق والطلاق لا يفتقران إلى عوض، ولم يعلق الطلاق بشرط، وإنما شرط فيه شرطًا، وفَرَّق بين التعليق على الشرط وبين الشرط في الكلام المنجز؛ولهذا لا يصح كثير من التصرفات المعلقة مع صحة الاشتراط فيها، وهذه الصفة قد تعذر وجودها، والطلاق الموصوف إذا فاتت صفته: هل يفوت جميعه؟ أو يثبت هو دون الصفة؟ فيه اختلاف.
إذا تبين أن قوله: على أنه من توفي منهم، شرط حكمي، ووصف معنوي للوقف المذكور، وأنه يجب اعتباره والعمل بموجبه، فمعلوم أنه إذا اعتبر القيد المذكور في الكلام كان انتقال نصيب المتوفي إلى ذوي طبقته مشروطًا بعدم ولده، وأن الواقف لم يصرف إليهم نصيب المتوفي في هذه الحال، ومعلوم حينئذ أنه لا يجوز صرف نصيب المتوفي إليهم في ضد هذه الحال، وهو ما إذا كان له ولد، وهو المطلوب.
وعلم أن هذا ثابت باتفاق الفقهاء، بل والعقلاء القائلين بالمفهوم، والنافين له، فإن صرف الوقف إلى غير من صرفه إليه الواقف حرام، وهو لم يصرفه إليهم، فهذا المنع لانتفاء الموجب متفق عليه، ولأنه قد منع صرفه إليهم وهذا المنع لوجود المانع مختلف فيه، وتقدير الكلام: وقفت على أولادي ثم على أولادهم بشرط أن ينتقل نصيب المتوفي منهم إلى أهل طبقته إذا كان قد توفي عن غير ولد.
وليس يختلف أحد من الفقهاء في أن هذا الباب يقصر على القيود المذكورة، وإنما يغلط هنا من لم يحكم دلالات الألفاظ اللغوية، ولم يميز بين أنواع أصول الفقه السمعية، ولم يتدرب فيما علق بأقوال المكلفين من الأحكام الشرعية، ولا هو جري في فهم هذا الخطاب على الطبيعة العربية، والفطرة السليمة النقية، فارتفع عن شأن العامة بحيث لم يدخل في زمرتهم فيما يفهمونه في عرف خطابهم، وانحط عن أوج الخاصة، فلم يهتد للتمييز بين المشتبهات في الكلام، حتى تقر الفطر على ما فطرها عليه الذي أحسن كل شيء خلقه، والحمق أدي به إلى الخلاص من كناسة بترًا، ومن أحكم العلوم حتى أحاط بغاياتها رده ذلك إلى تقرير الفطر على بداياتها، وإنما بعثت الرسل لتكميل الفطرة؛ لا لتغييرها { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عليها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [19].
ومعلوم أن كل من سمع هذا الكلام من أهل اللسان العربي خاصتهم وعامتهم لم يفهموا منه إلا إعطاء أهل طبقة المتوفي بشرط ألا يكون للمتوفي ولد، ويعقلون أن هذا الكلام واحد متصل بعضه ببعض، وإنما نشأ غلط الغالط من حيث توهم أن الكلام الأول فيه عموم، والكلام الثاني قد خص أحد النوعين بالذكر، فيكون من باب تعارض العموم والمفهوم.
ثم قد يكون ممن نظر في كتب بعض المتكلمين أو بعض الفقهاء الذين لا يقولون بدلالة المفهوم، وإذا قالوا بها رأوا دلالة العموم راجحة عليها؛ لكون الخلافات فيها أضعف منه في دلالة المفهوم، فإنه لم يخالف في العموم إلا شرذمة لا يعتد بهم، وقد خالف في المفهوم طائفة من الفقهاء وطوائف من أهل الكلام، حتى قد يتوهم من وقع له هذا أنه لا ينبغي أن يترك صريح الشرط أو عمومه لمفهوم الصفة مع ضعفه. فنعوذ بالله من العمى في البصيرة، أو حَوَلٍ يرى الواحد اثنين؛ فإن الأعمى أسلم حالا في إدراكه من الأحول إذا كان مقلدًا للبصير، والبصير صحيح الإدراك. ولولا خشية أن يحسب حاسب أن لهذا القول مساغًا، أو أنه قد يصح على أصول بعض الفقهاء لكان الإضراب عن بيانه أولى.
فيقال: هذا الذي تكلم الناس فيه من دلالة المفهوم: هل هي حجة أم لا؟ وإذا كانت حجة، فهل يخص بها العام أم لا؟ إنما هو في كلامين منفصلين من متكلم واحد، أو في حكم الواحد، ليس ذلك في كلام واحد متصل بعضه ببعض، ولا في كلام متكلمين لا يجب اتحاد مقصودهما، فهنا ثلاثة أقسام:
أحدها: كلامان من متكلم واحد أو في حكم الواحد، وإنما ذكرنا ذلك ليدخل فيه إذا كان أحدهما كلام الله والآخر كلام رسوله، فإن حكم ذلك حكم ما لو كانا جميعًا من كلام الله أو كلام رسوله، مثل قوله ﷺ: (الماءُ طهورٌ لا ينجسه شيء) مع قوله: (إذا بلغ الماء قُلتَين لم يحمل الخبث)، فإن المتكلم بهما واحد ﷺ، وهما كلامان. فمن قال: إن المفهوم حجة يخص به العموم خص عموم قوله: (الماء طهور لا ينجسه شيء) بمفهوم (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) مع أن مفهوم العدد أضعف من مفهوم الصفة، وهذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما. ومن امتنع من ذلك قال: قوله: (الماء طهور) عام، وقوله: (إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس) هو بعض ذلك العام، وهو موافق له في حكمه، فلا تترك دلالة العموم لهذا.
وكذلك قوله في كتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر: (في الإبل في خمسٍ منها شاةٌ) إلى آخره، مع قوله في حديث آخر: (في الإبل السائمة في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة)، ونظائره كثيرة، منها ما قد اتفق الناس على ترجيح المفهوم فيه، مثل قوله: (جُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) مع قوله: (جعلت لي كُل أرض طيبة مسجدًا وطهورًا)، فإنه لا خلاف أن الأرض الخبيثة ليست بطهور. ومنها ما قد اختلفوا فيه، كقوله في هذا الحديث: (وَجُعِلت تربتها لي طهورا)، فإن الشافعي وأحمد وغيرهما جعلوا مفهوم هذا الحديث مخصصًا لقوله: (جُعلت لي كل أرض طيبة طهورًًا). ومنها ما قد اتفقوا على تقديم العموم فيه كقوله: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [20]، مع قوله: { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ } [21]، فإن أكلها حرام سواء قصد بدارًا كبر اليتيم أو لا.
وقد اختلف الناس في هاتين الدلالتين إذا تعارضتا، فذهب أهل الرأي وأهل الظاهر، وكثير من المتكلمين، وطائفة من المالكية، والشافعية والحنبلية إلى ترجيح العموم. وذهب الجمهور من المالكية، والشافعية والحنبلية، وطائفة من المتكلمين إلى تقديم المفهوم، وهو المنقول صريحًا عن الشافعي وأحمد وغيرهما. والمسألة محتملة، وليس هذا موضع تفصيلها؛ فإنها ذات شُعَب كثيرة، وهي متصلة بمسألة المطلق، والمقيد وهي غَمرةٌ من غمرات أصول الفقه، وقد اشتبهت أنواعها على كثير من السابحين فيه.
لكن المقصود أن مسألتنا ليست من هذا الباب، مع أنها لو كانت منه؛ لكان الواجب على من يفتي بمذهب الشافعي وأحمد أن يبني هذه المسألة على أصولهما، وأصول أصحابهما، دون ما أصله بعض المتكلمين الذين لم يمعنوا النظر في آيات الله، ودلائله التي بينها في كتابه، وعلى لسان رسوله، ولا أحاطوا علمًا بوجوه الأدلة ودقائقها التي أودعها الله في وحيه الذي أنزله، ولا ضبطوا وجوه دلالات اللسان الذي هو أبين الألسنة، وقد أنزل الله به أشرف الكتب.
وإنما هذه المسألة هي من القسم الثاني، وهو أن يكون كلام واحد متصل بعضه ببعض، آخره مقيد لأوله، مثل ما لو قال: (الماء طهور لا ينجسه شيء إذا بلغ قلتين)، أو يقول: (الماء طهور إذا بلغ قلتين لا ينجسه شيء)، أو يقول: (في كل خمس من الإبل شاةٌ، وفي عشر شاتان، تجب هذه الزكاة في الإبل السائمة)، كما قال: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } [22]، فأطلق وعمم، ثم قال في آخره: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ }، فإنه لا خلاف بين الناس أن هذا الكلام لا يؤخذ بعموم أوله، بل إنما تضمن طهارة القلتين فصاعدًا، ووجوب الزكاة في السائمة.
لكن نفاة المفهوم يقولون: لم يتعرض لما سوي ذلك بنفي ولا إثبات، فنحن ننفيه بالأصل، إلا أن يقوم دليل ناقل عن الأصل، والجمهور يقولون: بل ننفيه بدليل هذا الخطاب الموافق للأصل.
ومما يوضح الفرق بين الكلام المتصل والمنفصل: أن رجلا لو قال: وصيت بهذا المال للعلماء يعطون منه إذا كانوا فقراء. ولو قال مرة: وصيت به للعلماء، ثم قال: أعطوا من مإلى للعلماء إذا كانوا فقراء، فهنا يقال: تعارض العموم والمفهوم؛ لكن مثل هذا لا يجيء في الوقف، فإنه إذا وقف على صفة عامة أو خاصة لم يمكن تغييرها، بخلاف الوصية، ولو فسر الموصى لفظه بما يخالف ظاهره قبل منه، بخلاف الواقف؛ ولهذا قلنا: إن تقييد هذا الكلام بالصفة المتأخرة واجب عند جميع الناس القائلين بالمفهوم ونفاته، فإن هذا ليس من هذا الباب، وإنما هو من باب الكلام المقيد بوصف في آخره.
القسم الثالث: أن يكون في كلام متكلمين لا يجب اتحاد مقصودهما، مثل شاهدين شهدا أن جميع الدار لزيد، وشهد آخران أن الموضع الفلاني منها لعمرو، فإن هاتين البينتين يتعارضان في ذلك الموضع، ولا يقول أحد: إنه يبني العام على الخاص هنا. وقد غلط بعض الناس مرة في مثل هذه المسألة، فرأي أنه يجمع بين البينتين؛ لأنه من باب العام والخاص، كما غلط بعضهم في القسم الثاني فألحقوه بالأول.
ومن نَوَّر الله قلبه فَرَّق بين هذه الأقسام الثلاثة، وعلم أن الفرق بينها ثابت في جميع الفطر، وإنما خاصة العلماء إخراج ما في القوة إلى الفعل، فلو سلم أن الكلام الأول عام أو مطلق فقد وصل بما يقيده ويخصصه، وقد أطبق جميع العقلاء على أن مثل هذا مخصوص مقيد، وليس عامًا ولا مطلقًا. ففرِّق أصلحك الله بين أن يتم الكلام العام المطلق فيسكت عليه، ثم يعارضه مفهوم خاص أو مقيد، وبين أن يوصل بما يقيده ويخصصه. ألست تعلم أن جميع الأحكام مبنية على هذا؟ فإنه لو حلف وسكت سكوتًا طويلا، ثم وصله باستثناء أو عطف أو وصف أو غير ذلك لم يؤثر، فلو قال: والله لا أسافر، ثم سكت سكوتًا طويلا، ثم قال: إن شاء الله. أو قال: إلى المكان الفلاني. أو قال: ولا أتزوج. أو قال: لا أسافر راجلا؛لم تتقيد اليمين بذلك. ولو حلف مرة: لا أسافر، ثم حلف مرة ثانية: لا يسافر راجلا؛ لم تقيد اليمين الأولى بقيد الثانية. ولو قال: لا أسافر راجلا؛ لتقيدت يمينه بذلك الاتفاق.
فلما قال هنا: وقفت على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على أولاد أولادهم، على أنه من توفي منهم عن غير ولد كان نصيبه لذوي طبقته؛ صار المعني وقفت وقفًا مقيدًا بهذا القيد المتضمن انتقال نصيب المتوفي إلى أهل طبقته بشرط عدم ولده، وصار مثل هذا أن يقول: وقفت على ولدي وولد ولدي ونسلي وعقبي، على أن الأولاد يستحقون هذا الوقف بعد موت آبائهم، أفليس كل فقيه يوجب أن استحقاق الأولاد مشروط بموت الآباء؟ وأنه لو اقتصر على قوله: على ولدي وولد ولدي اقتضي التشريك.
ويوضح هذه المسألة التي قد يظن أنها مثل هذه أنه لو وقف على زيد وعمرو وبكر، ثم على المساكين؛ لم ينتقل إلى المساكين شيء حتى يموت الثلاثة، هذا هو المشهور، فلو قال في هذه الصورة: وقفت على زيد وعمرو وبكر، ثم على المساكين، على أنه من مات من الثلاثة انتقل نصيبه إلى الآخرين إذا لم يكن في بلد الوقف مسكين. أو قال: على أنه من من مات من الثلاثة ولم يوجد من المساكين أحد انتقل نصيبه إلى الآخرين. أو يقول: على أنه من مات من الثلاثة انتقل نصيبه إلى الآخرين إن كانا فقيرين. أو إن كانا مقيمين ببلد الوقف، ونحو ذلك، أفليس كل فقيه، بل كل عاقل يقضي بأن استحقاق الباقين لنصيب المتوفي مشروط بهذا الشرط، وإن هذا الشرط الذي تضمنه الكلام يجب الرجوع إليه، فإن الكلام إنما يتم بآخره، ولا يجوز اعتبار الكلام المقيد دون مطلقه، وهذا مما قد اضطر الله العقلاء إلى معرفته، إلا أن يحول بين البصيرة وبين الإدراك مانع، فيفعل الله ما يشاء، ومسألتنا أوضح من هذه الأمثلة.
ومثال ذلك أن يقول: وقف على أولادي، ثم على أولادهم، على أنه من مات منهم وهو عدل انتقل نصيبه إلى ولده، فهل يجوز أن ينتقل الوقف إلى الولد، سواء كان الميت مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان عدلا أو فاسقًا؟ فمن توهم أنه ينتقل إليه لاندراجه في اللفظ العام قيل له: اللفظ العام لم ينقطع ويسكت عليه حتى يعمل به، وإنما هو موصول بما قيده وخصصه، ولا يجوز أن يعتبر بعض الكلام الواحد دون بعض، وهذا أبين من فلق الصبح، ولكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
ومن أراد أن يبهر المتكلم في هذا، فليكثر من النظائر التي يصل فيها الكلام العام أو المطلق بما يخصه ويقيده، مثل أن تقول: وقفت على الفقهاء على أنه من حضر الدرس صبيحة كل يوم استحق. أو وقفت على الفقراء على أنه من جاور بالحرمين منهم استحق. أو تقول: على أن يجاور بأحد الحرمين. أو على أن الفقهاء يشهدون الدرس في كل غداة، ونحو ذلك من النظائر التي تفوت العدد والإحصاء.
ومما يغلط فيه بعض الأذهان في مثل هذا: أن يحسب أن بين أول الكلام وآخره تناقضًا أو تعارضًا، وهذا شبهة من شبهات بعض الطماطم من منكري العموم، فإنهم قالوا: لو كانت هذه الصيغ عامة لكان الاستثناء رجوعًا أو نقضًا. وهذا جهل؛ فإن ألفاظ العدد نصوص مع جواز ورود الاستثناء عليها، كما قال تعالى: { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا } [23]، وكذلك النكرة في الموجب مطلقة مع جواز تقييدها في مثل قوله: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [24].
وإنما أتي هؤلاء من حيث توهموا أن الصيغ إذا قيل: هي عامة. قيل: إنها عامة مطلقًا. وإذا قيل: إنها عامة مطلقًا، ثم رفع بالاستثناء بعض موجبها، فقد اجتمع في ذلك المرفوع العموم المثبت له، والاستثناء النافي له، وذلك تناقض، أو رجوع.
فيقال لهم: إذا قيل: هي عامة، فمن شرط عمومها أن تكون منفصلة عن صلة مخصصة، فهي عامة عند الإطلاق، لا عامة على الإطلاق، واللفظ الواحد تختلف دلالته بحسب إطلاقه وتقييده؛ ولهذا أجمع الفقهاء أن الرجل لو قال: له ألف درهم من النقد الفلاني، أو مكسرة، وسود، أو ناقصة، أو طبرية، أو ألف إلا خمسين، ونحو ذلك؛ كان مقرًًا بتلك الصفة المقيدة، ولو كان الاستثناء رجوعًا لما قبل في الإقرار؛ إذ لا يقبل رجوع المقر في حقوق الآدميين.
وكثيرًا ما قد يغلط بعض المتطرفين من الفقهاء في مثل هذا المقام، فإنه يسأل عن شرط واقف، أو يمين حالف، ونحو ذلك، فيري أول الكلام مطلقًا أو عامًا، وقد قيد في آخره، فتارة يجعل هذا من باب تعارض الدليلين، ويحكم عليهما بالأحكام المعروفة للدلائل المتعارضة من التكافؤ والترجيح، وتارة يري أن هذا الكلام متناقض؛ لاختلاف آخره وأوله، وتارة يتلدد تلدد المتحير، وينسب الشاطر إلى فعل المقصر، وربما قال: هذا غلط من الكاتب. وكل هذا منشؤه من عدم التمييز بين الكلام المتصل والكلام المنفصل. ومن علم أن المتكلم لا يجوز اعتبار أول كلامه حتى يسكت سكوتًا قاطعًا، وأن الكاتب لا يجوز اعتبار كتابه حتى يفرغ فراغًا قاطعًا؛ زالت عنه كل شبهة في هذا الباب، وعلم صحة ما تقوله العلماء في دلالات الخطاب.
ومن أعظم التقصير نسبة الغلط إلى متكلم مع إمكان تصحيح كلامه، وجريانه على أحسن أساليب كلام الناس، ثم يعتبر أحد الموضعين المتعارضين بالغلط دون الآخر، فلو جاز أن يقال: قوله: على أنه من مات منهم عن غير ولد غلط، لم يكن ذلك بأولى من أن يقال: قوله: "ثم" هو الغلط؛ فإن الغلط في تبديل حرف بحرف بالنسبة إلى الكاتب أولى من الغلط بذكر عدة كلمات، فإن قوله: عن غير ولد، ولا ولد ولد، ولا نسل، ولا عقب، مشتمل على أكثر من عشر كلمات.
ثم من العجب أن يتوهم أن هذا توكيد، والمؤكد إنما يزيح الشبهة، فكان قوله: من مات منهم عن ولد. أولى من قوله: من مات منهم عن غير ولد؛ إذا كان الحكم في البابين واحدًا، وقصد التوكيد، فإن نقل نصيب الميت إلى إخوته مع ولده تنبيه على نقله إليهم مع عدمهم. أما أن يكون التوكيد ببيان الحكم الجلي دون الخفي، فهذا خروج عن حدود العقل والكلام، ثم التوكيد لا يكون بالأوصاف المقيدة للموصوف، فإنه لو قال: أكرم الرجال المسلمين، وقال: أردت إكرام جميع الرجال، وخصصت المسلمين بالذكر توكيدًا، وذكرهم لا ينفي غيرهم بعد دخولهم في الاسم الأول؛ لكان هذا القول ساقطًا غير مقبول أصلا؛ فإن المسلمين صفة للرجال، والصفة تخصص الموصوف، فلا يبقي فيه عموم، لكن لو قال: أكرم الرجال والمسلمين بحرف العطف، مع اتفاق الحكم في المعطوف والمعطوف عليه وكونه بعضه لكان توكيدًا؛ لأن المعطوف لا يجب أن يقيد المعطوف عليه ويخصصه؛ لما بينهما من المغايرة الحاصلة بحرف العطف، بخلاف الصفات ونحوها فإنها مقيده؛ وكذلك بعض أنواع العطف، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك؛ ولهذا فَرَّق الفقهاء بين العطف المغير وغير المغير في باب الإقرار، والطلاق، والعقود.
ومن رام أن يجعل الكلام معني صحيحًا قبل أن يتم لزمه أن يجعل أول كلمة التوحيد كفرًا وآخرها إيمانًا؛ وأن المتكلم بها قد كفر، ثم آمن، فنعوذ بالله من هذا الخبال. وإن كان قد نقل عن بعض الناس أنه قال: ما كلمة أولها كفر وآخرها إيمان؟ فقيل له: ما هي؟ فقال: كلمة الإخلاص. قلت: قصد بذلك أن أولها لو سكت عليه كان كفرًا، ولم يرد أنها كفر مع اتصالها بالاستثناء؛ فإنه لو أراد هذا لكان قد كفر.
ولهذا قال المحققون: الاستثناء تكلم بما عدي المستثني. وغلط بعضهم فظن أنه إذا قال: ألف إلا خمسين، كانت الألف مجازًا؛ لأنه مستعمل في غير ما وضع له؛ لأنه موضوع لجملة العدد، ولم يرد المتكلم ذلك. فيقال له: هو موضوع له إذا كان منفردًا عن صلة؛ وذلك الشرط قد زال، ثم يقال له: إنما فهم المعنى هنا بمجموع قول: ألف إلا خمسين، لا بنفس الألف، فصارت هذه الألفاظ الثلاثة هي الدالة على تسعمائة وخمسين، وهذه شبهة من رأى أن العام المخصوص تخصيصًا متصلا مجاز، كالعام المخصوص تخصيصًا مفصلا عند كثير من الناس.
وسياق هذا القول يوجب أن كل اسم أو فعل وصل بوصف، أو عطف بيان، أو بدل، أو أحد المفعولات المقيدة، أو الحال، أو التمييز، أو نحو ذلك، كان استعماله مجازا. وفساد هذا معلوم بالاضطرار، والفرق بين القرينة اللفظية المتصلة باللفظ الدالة بالوضع وبينما ليس كذلك من القرائن الحالية والقرائن اللفظية التي لا تدل على المقصود بالوضع كقوله: رأيت أسدا يكتب، وبحرا راكبا في البحر وبين الألفاظ المنفصلة معلوم يقينا من لغة العرب والعجم، ومع هذا فلا ريب عند أحد من العقلاء أن الكلام إنما يتم بآخره؛وأن دلالته إنما تستفاد بعد تمامه وكماله، وأنه لا يجوز أن يكون أوله دالا دون آخره، سواء سمي أوله حقيقة، أو مجازا ولا أن يقال: إن أوله يعارض آخره، فإن التعارض إنما يكون بين دليلين مستقلين، والكلام المتصل كله دليل واحد، فالمعارضة بين أبعاضه كالمعارضة بين أبعاض الأسماء المركبة.
وهذا كلام بَيِّنٌ، خصوصا في باب الوقوف فإن الواقف يريد أن يشرط شروطا كثيرة في الموقوف والموقوف عليه، من الجمع، والترتيب، والتسوية، والتفضيل، والإطلاق، والتقيد، يحتمل سجلا كبيرا، ثم إنه لم يخالف مسلم في أنه لا يجوز اعتبار أول كلامه إطلاقا وعموما وإلغاء آخره، أو يجعل ما قيده وفصله وخصصه في آخر كلامه مناقضا أو معارضا لما صدر به كلامه من الأسماء المطلقة أو العامة؛ فإن مثل هذا مثل رجل نظر في وقف قد قال واقفه: وقفت على أولادي، ثم على أولادهم، ثم قال بعد ذلك: ومن شرط الموقوف عليهم أن يكونوا فقراء أو عدولا، ونحو ذلك، فقال: هذا الكلام متعارض؛ لأنه في أول كلامه قد وقف على الجميع، وهذا مناقض لتخصيص البعض، ثم يجعل هذا من باب الخاص والعام ومن باب تعارض الأدلة، فمعلوم أن هذا كله خبط؛ إذ التعارض فرع على استقلال كل منهما بالدلالة، والاستقلال بالدلالة فرع على انقضاء الكلام وانفصاله، فأما مع اتصاله بما يغير حكمه، فلا يجوز جعل بعضه دليلا مخالفا لبعض. والله سبحانه يوفقنا وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه.
فإن قيل: قوله: على أنه من مات منهم. يجوز أن يكون شرطه الواقف ليبين أن الوقف ينتقل إلى من بقى، وأنه لا ينقطع في وسطه؛ فإن من الفقهاء من قد خرج في قوله: على ولدي، ثم على ولد ولدي إذا مات أحدهم ثلاثة أقوال، كالأقوال الثلاثة في قوله: على أولادي الثلاثة، ثم على المساكين:
أحدها وهو المشهور: أنه يكون للباقين من الطبقة العليا.
والثاني: أنه ينتقل إلى الطبقة الثانية، كما لو انقرضت الطبقة العليا.
والثالث: أنه يكون مسكوتا، فيكون منقطع الوسط، كما لو قال: وقفته على زيد، وبعد موته بعشر سنين على المساكين، وإذا كان انقطاعه في وسط عند موت الواحد محتملا، فقد ذكر الواقف هذا الشرط لينفي هذا الاحتمال، وإن كان هذا الشرط مقتضى الوقف على القول الأول، ثم من الشروط ما يكون مطابقا لمقتضى المدلول، فيزيد موجبها توكيدا.
قلنا: سبحان الله العظيم، هذا كلام من قد نأى عن موضع استدلالنا، فإنا لم نستدل بصيغة الشرط المطلقة، وإنما استدللنا بما تضمنه الشرط من التقييد، فإن هذا الكلام جيد لو كان الواقف قال: على أنه من مات منهم انتقل نصيبه إلى ذوي طبقته. ولو قال هذا لم يكن في المسألة شبهة أن نصيب الميت ينتقل إلى ذوي الطبقة مع الولد وعدمه من وجوه متعددة:
منها: أن هذا هو موجب الكلام الأول عند الإطلاق ولم يوصل بما يغيره.
ومنها: أنه وصل بما وكد موجب مطلقه.
ومنها: أنه قد شرط ذلك شرطا نفي به الصرف إلى الطبقة الثانية ونفي به الانقطاع، سواء كان للميت ولد أو لم يكن.
وإنما صورة مسألتنا أنه قال: على أنه من توفى منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب، كان نصيبه لذوي طبقته، فجعل الانتقال إليهم مشروطا بموت الميت عن غير ولد. وهذا الشرط كما أنه قد نفي به الانقطاع فقد قيد به الانتقال إلى ذوي الطبقة، واللفظ دال عليهما دلالة صريحة فإفادته لأحداهما لا تنفي إفادته للأخرى، كما لو قال: وقفت على أولادي الثلاثة، ثم على المساكين على أنه من مات منهم في حياة الواقف صرف نصيبه إلى من في درجته، فهل يجوز أن يصرف نصيبه إلى ذوي الطبقة إذا مات بعد موت الواقف؟ هذا لم يقله أحد في هذه الصورة؛ لكن قد يقال: إنه مسكوت عن موته بعد موت الواقف، فيكون منقطع الوسط.
والصواب الذي عليه الناس قديما وحديثا: أنه يكون للمساكين؛ لأن اللفظ اقتضى جعله للثلاثة، ثم للمساكين، فحيث لم يصرف إلى الثلاثة تعين صرفه إلى المساكين؛ لحصر الواقف الوقف فيها، مع أن بحث مسألتنا أظهر من هذه كما تقدم، بل لو فرض أن قائلا قد قال: إذا مات عن غير ولد يكون منقطعا، وإذا مات عن ولد لم يكن؛ لجاز أن يقال: هذا الشرط لنفي احتمال الانقطاع، ومع هذا فهو دال على التقييد كما ذكرناه فإنه يدل على صرف نصيب الميت عن غير ولد إلى طبقته، وعلى عدم الصرف إليهم مع الولد، فالدلالة الأولى تنفي الانقطاع، والدلالة الثانية توجب الاشتراك ولا منافاة بينهما.
بل الأولى حصلت من وضع هذا اللفظ، والثانية حصلت من مجموع الشرط أو الكلام الأول، فكيف والأمر ليس كذلك؟
فإن قيل: هذا نفي للاحتمال في هذه الصورة، وإن كان لم ينفه في أخرى. قلنا: هذا إنما يستقيم أن لو لم تكن الصورة المذكورة مقيدة للفظ المطلق، فإن قوله: من مات منهم. مطلق، وقد قيده: عن غير ولد. وفي مثل هذا لا يقال: ذكر صورة وترك أخرى، إلا إذا كان الكلام مستقلا بنفسه غير متصل بغيره؛ فأما إذا كان الكلام متصلا بغيره، فإنه يصير قيدا في ذلك الأول، فإن قوله: عن غير ولد. نصب على الحال أيضا، والحال صفة، والصفة مقيدة، فكأنه قال: بشرط أنه من كان موته على هذه الصفة انتقل نصيبه إلى ذوي الطبقة، أو أنه ينتقل نصيب الميت إلى ذوي الطبقة بشرط ألا يكون للميت ولد، ومعلوم بالاضطرار أن الانتقال المشروط بصفة لا يجوز إثباته بدون تلك الصفة.
فقوله: عن غير ولد، صفة لموت الميت، والانتقال إذا مات الميت على هذه الحال صفة للوقف، والوقف الموصوف بصفة، وتلك الصفة موصوفة بأخرى، لا يجوز إثباته إلا مع وجود الصفة وصفة الصفة، فلا يجوز أن يكون وقفا على الأولاد، ثم أولادهم، إلا بشرط انتقال نصيب المتوفي إلى ذوي الطبقة.
ولا يجوز نقل نصيب الميت إلى ذوي الطبقة إلا بشرط موته عن غير ولد أو ولد ولد أو نسل أو عقب، حتى لو كان له ولد وإن بعد كان وجوده مانعا من الانتقال إلى ذوي الطبقة، وموجبا للانتقال إليه بقوله: على أولاده، ثم أولاد أولاده، ثم نسله وعقبه دائما ما تناسلوا.
واعلم أن هذا السؤال لا يكاد ينضبط وجوه فساده مع ما ذكرناه لكثرتها.
منها: أنه لو كان قصده مجرد نفي احتمال الانقطاع؛ لكان التعميم بقوله: من مات منهم انتقل نصيبه. أو التنبيه بقوله: من مات منهم عن ولد انتقل نصيبه إلى ذوي طبقته. هو الواجب؛ فإنه إذا انتقل نصيبه إلى ذوي الطبقة مع الولد فمع عدمه أولى. أما أن ينص على انتقاله إلى الطبقة مع عدم الولد نافيا بذلك احتمال الانقطاع، ثم يريد منا أن نفهم انتقاله إليهم أيضا مع الولد لمجرد قوله: على ولدي، ثم ولد ولدي. مع أن احتمال الانقطاع هنا قائم مع احتمال آخر ينفرد به، وهو الانتقال إلى الولد؛ لأن احتمال انتقاله إلى ولد الولد هنا أظهر من احتمال الانقطاع، ومع أن فهم التخصيص مع التقييد أظهر من فهم الانقطاع، ومع أن دلالة قوله: على ولد ولدي، في الانتقال إلى الطبقة مع عدم الولد أظهر من دلالته في الانتقال إليهم مع وجود الولد، فقد أراد منا أن نفهم الكلام المقلوب، ونخرج عن حدود العقل والبيان؛ فإن تركه لرفع احتمال الانقطاع وغيره فيما هو فيه أظهر، وعدوله عن العبارة المحققة لنفي الانقطاع مطلقا بلا لبس إلى عبارة هي في التقييد أظهر منها في مجرد نفي انقطاع بعض الصور، دليل قاطع على أنه لم يقصد بذلك.
ونظير هذا رجل قال لعبده: أكرم زيدا إن كان رجلا صالحا فأكرمه. وكان غير صالح فلم يكرمه الغلام. فقال له سيده: عصيت أمري، ألم آمرك بإكرامه؟ قال: قد قلت لي: إن كان صالحا فأكرمه. قال: إنما قلت هذا، لئلا تتوهم أني أبغض الصالحين فلا تكرمه مع صلاحه، فنفيت احتمال التخصيص في هذه الصورة، فهل يقبل هذا الكلام من عاقل، أو ينسب الغلام إلى تفريط، أو يقول للسيد: هذه العبارة دالة على التخصيص، ولو كنت مثبتا للتعميم لكان الواجب أن تقول: أكرمه وإن لم يكن صالحا؛ لأن إكرام الصالح يصير من باب التنبيه، أو أكرمه وإن كان صالحا إن كان حبا لك صحيحا؟
وكذا هنا يقول المنازع: هو نقله إلى الطبقة، سواء كان له ولد أو لم يكن. فإذا قيل له: فلم قيد النقل بقوله: على أنه من مات منهم عن غير ولد انتقل نصيبه إلى الطبقة؟ قال: لينفي احتمال الانقطاع في هذه الصورة دون الصورة التي هي أولى بنفي الانقطاع فيها. فيقال له: كان الكلام العربي في مثل هذا: على أنه من توفى منهم وإن كان له ولد انتقل نصيبه إلى من في درجته. أو يقول: على أنه من توفى منهم وإن لم يكن له ولد، فيأتي بحرف العطف. أما إذا قال: على أنه من توفى منهم عن غير ولد. فهذا نص في التقييد لا يقبل غيره. ومن توهم غير هذا أو جوزه ولو على بعد أو جوز لعاقل أن يجوزه فلا ريب أنه خارج عن نعمة الله التي أنعم بها على الإنسان حيث علمه البيان. وما ظني أنه لو ترك وفطرته توهم هذا، ولكن قد يعرض للفطر آفات تصدها عن سلامتها، كما نطقت به الأحاديث.
ومنها: أن العاقل لا ينفي احتمالا بعيدا بإثبات احتمال أظهر منه، ومعلوم أنه لو سكت عن هذا الشرط لكان احتمال الانقطاع في غاية البعد، فإنه إما خلاف الإجماع، أو معدود من الوجوه السود، وإذا ذكر الشرط صار احتمال التقييد وترتيب التوزيع احتمالا قويا، إما ظاهرا عند المنازع، أو قاطعا عند غيره، فكيف يجوز أن يحمل كلام الواقف على المنهج الذميم دون الطريق الحميد مع إمكانه؟
ومنها: أن هذا الاحتمال لا يتفطن له إلا بعض الفقهاء، ولعله لم يخلق في الإسلام إلا من زمن قريب، واحتمال التقييد أمر لغوي موجود قبل الإسلام، فكيف يحمل كلام واقف متقدم على الاحتراز من احتمال لا يخطر إلا بقلب الفرد من الناس بعد الفرد؟ ولعله لم يخطر ببال الواقف، دون أن يحمل على الاحتراز من احتمال قائم بقلب كل متكلم، أو غالب المتكلمين، منذ علم آدم البيان.
ومنها: أن الواقف إذا كان قصده نفي احتمال الانقطاع في هذه الصورة بقوله: عن غير ولد أيضا صالح لأن يكون نفي به احتمال الانقطاع في الصورة الأخرى، ويكون نفي احتمال الانقطاع فيها بانتقال نصيب من مات عن ولد إلى ولده، فإن هذا فيه صون هذا التقييد عن الإلغاء، ورفع للانقطاع في الصورتين، ومعلوم أن حمل كلام الواقف على هذا أحسن من جعله مهدرا مبتورا.
ومنها: أن هذا المقصود كان حاصلا على التمام لو قال: على أنه من مات منهم. فزيادة اللفظ ونقص المعنى خطأ لا يجوز حمل كلام المتكلم عليه إذا أمكن أن يكون له وجه صحيح، وهو هنا كذلك.
ومنها: أن هذا الكلام مبني على أن قوله: على أولادي، ثم على أولادهم. مقتض لترتيب المجموع على المجموع، وهذا الاقتضاء مشروط بعدم وصل اللفظ بما يقيده، فإنه إذا وصل بما يقيده ويقتضي ترتيب الأفراد على الأفراد، مثل قوله: على أنه من مات منهم عن ولد كان نصيبه لولده، ونحو ذلك من العبارات؛ كان ذلك الاقتضاء منتفيا بالاتفاق. وهذا اللفظ وهو قوله: على أنه من توفى منهم عن غير ولد. ظاهر في تقييد الانتقال بعدم الولد، وإنما يصرفه من يصرفه عن هذا الظهور لمعارضة الأول له، وشرط كون الأول دليلا عدم الصلة المغيرة، فيدور الأمر فتبطل الدلالة؛ وذلك أنه لا يثبت كون الأول مقتضيا لترتيب المجموع إلا مع الانقطاع عن المغير، ولا يثبت هنا الانقطاع عن المغير حتى يثبت أن هذا لا يدل على التغيير، بل على معنى آخر. ولا تثبت دلالته على ذلك المعنى حتى يثبت أن المتقدم دليل على ترتيب المجموع، وهذا هو الدور، وهو مصادرة على المطلوب، فإنه جعل المطلوب مقدمة في إثبات نفسه.
ومنها: أن يقال: قوله: عن غير ولد، قيد في الانتقال أم لا؟ فإن قال: ليس بقيد. فهو مكابرة ظاهرة في اللغة. وإن قال: هو قيد. قيل له: فيجوز إثبات الحكم المقيد بدون قيده. فإن قال: نعم بالدليل الأول. قيل: فيجوز الاستدلال بأول الكلام مطلقا عما قيد به في آخره. فإن قال: نعم. علم أنه مكابر. وإن قال: لا. ثبت المطلوب. وهذه مقدمات يقينية لا يقدح فيها كون الكلام له فوائد أخر. ومن وقف عليها مقدمة لم يبق إلا معاندا أو مسلما للحق.
ومنها: أنه إذا قيل: بأن الوقف يكون منقطع الوسط إذا مات الميت عن غير ولد، ولا يكون منقطعا إذا مات عن ولد؛ كان لهذا السؤال وجه، لكن يكون حجة على المنازع، فإنه إذا كان متصلا مع موته عن ولد، فإن كان ينتقل إلى الولد فهو المطلوب، وإن كان ينتقل إلى الطبقة، فمحال أن يقول فقيه: إنه ينتقل إلى الطبقة مع الولد، ويكون منقطعا مع عدم الولد. فثبت أن جعل هذا الكلام رفعا لاحتمال الانقطاع دليل ظاهر على انتقال نصيب المتوفي عن ولد إلى ولده، ودلائل هذا مثل المطر. والله يهدي من يشاء إلى سواء الصراط.
الوجه الثاني في أصل المسألة: أن قوله: على أولاده، ثم على أولادهم. مقتض للترتيب، وهو أن استحقاق أولاد الأولاد بعد الأولاد. وهنا جمعان: أحدهما مرتب على الآخر، والأحكام المرتبة على الأسماء العامة نوعان:
أحدهما: ما يثبت لكل فرد من أفراد ذلك العام، سواء قدر وجود الفرد الآخر أو عدمه.
والثاني: ما يثبت لمجموع تلك الأفراد، فيكون وجود كل منها شرطا في ثبوت الحكم للآخر.
مثال الأول قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [25]، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } [26]، ومثال الثاني قوله تعالى: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [27]، { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [28]، فإن الخلق ثابت لكل واحد من الناس، وكلا منهم مخاطب بالعبادة والطهارة، وليس كل واحد من الأمة أمة وسطا، ولا خير أمة.
ثم العموم المقابل بعموم آخر قد يقابل كل فرد من هذا بكل فرد من هذا، كما في قوله: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [29]، فإن كل واحد من المؤمنين آمن بكل واحد من الملائكة والكتب والرسل. وقد يقابل المجموع بالمجموع بشرط الاجتماع منهما، كما في قوله: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } [30]، فإن الالتقاء ثبت لكل منهما حال اجتماعهما. وقد يقابل شرط الاجتماع من أحدهما كقوله: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [31]، مجموع الأمة خير للناس مجتمعين ومنفردين. وقد يقابل المجموع بالمجموع بتوزيع الأفراد على الأفراد، فيكون لكل واحد من العمومين واحد من العموم الآخر، كما يقال: لبس الناس ثيابهم، وركب الناس دوابهم، فإن كل واحد منهم ركب دابته، ولبس ثوبه. وكذلك إذا قيل: الناس يحبون أولادهم، أي: كل واحد يحب ولده، ومن هذا قوله سبحانه: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } [32]، أي: كل والدة ترضع ولدها، بخلاف ما لو قلت: الناس يعظمون الأنبياء، فإن كل واحد منهم يعظم كل واحد من الأنبياء.
فقول الواقف: على أولاده، ثم على أولادهم. قد اقتضى ترتيب أحد العمومين على الآخر، فيجوز أن يريد أن العموم الثاني بمجموعه مرتب على مجموع العموم الأول وعلى كل فرد من أفرداه، فلا يدخل شيء من هذا العموم الثاني في الوقف، حتى ينقضي جميع أفراد العموم الأول، ويجوز أن يريد ترتيبا يوزع فيه الأفراد على الأفراد، فيكون كل فرد من أولاد الأولاد داخلا عند عدم والده، لا عند عدم والد غيره كما في قوله: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ }، وقولهم: الناس يحبون أولادهم. واللفظ صالح لكلا المعنيين صلاحا قويا؛ لكن قد يترجح أحدهما على الآخر بأسباب أخرى، كما رجح الجمهور ترتيب الكل على الكل في قوله: وقفت على زيد وعمرو وبكر، ثم على المساكين، فإنه ليس بين المساكين وبين أولئك الثلاثة مساواة في العدد حتى يجعل كل واحد مرتبا على الآخر، ولا مناسبة تقتضى أن يعين لزيد هذا المسكين، ولعمرو هذا، ولبكر هذا، بخلاف قولنا: الناس يحبون أولادهم، فإن المراد هنا من له ولد، فصار أحد العمومين مقاوما للآخر. وفي أولادهم من الإضافة ما اقتضى أن يعين لكل إنسان ولده دون ولد غيره.
وكما يترجح المعنى الثاني في قوله سبحانه: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ } إلى آخره [33]، فإنه لم يحرم على كل واحد من المخاطبين جميع أمهات المخاطبين وبناتهم، وإنما حرم على كل واحد أمه وبنته، وكذلك قوله: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } [34]، فإنه ليس لجميع الأزواج نصف ما ترك جميع النساء، وإنما لكل واحد نصف ما تركت زوجته فقط، وكذلك قوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [35]، إنما معناه: اتبع كل واحد ذريته؛ ليس معناه: أن كل واحد من الذرية اتبع كل واحد من الآباء.
وهذا كثير في الكلام، مثل أن يقول: الناس في ديارهم ومع أزواجهم يتصرفون في أموالهم وينفقون على أولادهم، وما أشبه ذلك.
ثم الذي يوضح أن هذا المعنى قوى في الوقف ثلاثة أشياء:
أحدها: أن أكثر الواقفين ينقلون نصيب كل والد إلى ولده، لا يؤخرون الانتقال إلى انقضاء الطبقة، والكثرة دليل القوة، بل والرجحان.
الثاني: أن الوقف على الأولاد يقصد به غالبا أن يكون بمنزلة الموروث الذي لا يمكن بيعه، فإن المقصود الأكبر انتفاع الذرية به على وجه لا يمكنهم إذهاب عينه.
وأيضا، فإن بين الوقف والميراث هنا شبه من جهة أن الانتقال إلى ولد الولد مشروط بعدم الولد فيهما، ثم مثل هذه العبارة لو أطلقت في الميراث كما أطلقها الله تعالى في قوله: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } [36]، { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ }، لما فهم منها إلا مقابلة التوزيع للأفراد على الأفراد، لا مقابلة المجموع بالمجموع، ولا مقابلة كل واحد بكل واحد، ولا مقابلة كل واحد بالمجموع، كما لو قال الفقيه لرجل: مالك ينتقل إلى ورثتك، ثم إلى ورثتهم، فإنه يفهم منه أن مال كل واحد ينتقل إلى وارثه. فليكن قوله: على أولادهم، ثم على أولاد أولادهم كذلك، إما صلاحا، وإما ظهورا.
الثالث: أن قوله: على أولادهم. محال أن يحصل في هذه الإضافة مقابلة كل فرد بكل فرد، فإن كل واحد من الأولاد ليس مضافا إلى كل واحد من الوالدين، وإنما المعنى: ثم على ما لكل واحد من الأولاد. فإذا قال: وقفت على زيد وعمرو وبكر، ثم على أولادهم، فالضمير عائد إلى زيد وعمرو وبكر، وهذه المقابلة مقابلة التوزيع.
وفي الكلام معنيان: إضافة، وترتيب، فإذا كانت مقابلة الإضافة مقابلة توزيع أمكن أن يكون مقابلة الترتيب أيضا مقابلة توزيع، كما أن قوله: { يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } [37]، لما كان معنى إرضاع وإضافة، والإضافة موزعة، كان الإرضاع موزعا، وقوله: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } [38]، لما كان معنى إضافة موزعة، كان الاستحقاق موزعا وهذا يبين لك أن مقابلة التوزيع في هذا الضرب قوية، سواء كانت راجحة، أو مرجوحة، أو مكافية.
وللناس تردد في موجب هذه العبارة عند الإطلاق في الوقف، وإن كان كثير منهم أو أكثرهم يرجحون ترتيب الجمع على الجمع بلا توزيع، كما في قولنا: على هؤلاء، ثم على المساكين. ولأصحابنا في موجب ذلك عند الإطلاق وجهان، مع أنهم لم يذكروا في قوله: وقفت على هذين، ثم على المساكين خلافا. والفرق بينهما على أحد الوجهين ما قدمناه. والمشهور عند أصحاب الشافعي: أنه لترتيب الجمع على الجمع. ولهم وجه: أنه من مات عن ولد أو غير ولد، فنصيبه منقطع الوسط. وخرج بعضهم وجها: أن نصيب الميت ينتقل إلى جميع الطبقة الثانية.
وليس الغرض هنا الكلام في موجب هذا اللفظ لو أطلق، فإنا إنما نتكلم على تقدير التسليم، لكونه يقتضي ترتيب الجمع على الجمع؛ إذ الكلام على التقدير الآخر ظاهر، فأما صلاح اللفظ للمعنيين فلا ينازع فيه من تصور ما قلناه. وإذا ثبت أنه صالح، فمن المعلوم أن اللفظ إذا وصل بما يميز أحد المعنيين الصالحين له وجب العمل به، ولا يستريب عاقل في أن الكلام الثاني يبين أن الواقف قصد أن ينقل نصيب كل والد إلى ولده، وإلا لم يكن فرق بين أن يموت أحد منهم عن ولد أو عن غير ولد، بل لم يكن إلى ذكر الشرط حاجة أصلا، أكثر ما يقال: إنه توكيد لو خلا عن دلالة المفهوم، فيقال: حمله على التأسيس أولى من حمله على التوكيد.
واعلم أن هذه الدلالة مستمدة من أشياء:
أحدها: صلاح اللفظ الأول لترتيب التوزيع.
الثاني: أن المفهوم يشعر بالاختصاص، وهذا لا ينازع فيه عاقل، وإن نازع في كونه دليلا.
الثالث: أن التأسيس أولى من التوكيد، وليس هذا من باب تعارض الدليلين، ولا من باب تقييد الكلام المطلق، وإنما هو من باب تفسير اللفظ الذي فيه احتمال المعنيين، فإن قلتم: اللفظ الأول إن كان ظاهرا في ترتيب الجمع فهذا صرف للظاهر. وإن قلتم: هو محتمل أو ظاهر في التوزيع. منعناكم وإن قلتم: لا يوصف اللفظ بظهور ولا إكمال إلا عند تمامه، والأول لم يتم، فهذا هو الدليل الأول، فما الفرق بينهما؟ قلنا: في الدليل الأول بيان أن اللفظ الأول لو كان نصا لا يقبل التأويل عند الإطلاق، فإن وصله بما يقيده يبطل تلك الدلالة، كما لو قال: وقفت على زيد، ثم قال: إن كان فقيرا فهذا لا يعد تفسيرا للفظ محتمل، وإنما هو تقييد، وفي هذا الدليل بيان أن اللفظ الأول محتمل لمعنيين، ولا يجوز وصفه بظهور في أحدهما إلا أن ينفصل عما بعده، فأما إذا اتصل بما بعده بين ذلك الوصل أحد المعنيين.
فقولكم: اللفظ الأول لا يخلو أن يكون ظاهرا في أحدهما أو محتملا. قلنا: قبل تمامه لا يوصف بواحد من الثلاثة، وإنما قد يوصف بالصلاح للمعاني الثلاثة. ولا يقال فيه: صرف للظاهر أصلا، فإنه لا ظاهر لكلام لم يتم بعد، وإنما ظاهر الكلام ما يظهر منه عند فراغ المتكلم.
وبهذا يتبين منشأ الغلط في عموم اللفظ الأول، فإن قوله: على أولادي ثم على أولادهم. عام في أولاد أولاده بلا تردد، فلا يجوز إخراج أحد منهم. وهو مقتض للترتيب أيضا، فإن الأولاد مرتبون على أولاد الأولاد، لكن ما صفة هذا العموم، أهو عموم التفسير والتوزيع المقتضي لمقابلة كل فرد بفرد؟ أو عموم الشياع المقتضى لمقابلة كل فرد بكل فرد؟ ومن ادعى أن اللفظ صريح في هذا، بمعنى: أنه نص فيه، فهو جاهل بالأدلة السمعية والأحكام الشرعية، خارج عن مناهج العقول الطبيعية، ومن سلم صلاح اللفظ لهما، وادعى رجحان أحدهما عند انقطاع الكلام؛ لم ننازعه، فإنها ليست مسألتنا، وإن نازع في رجحان المعنى الأول بعد تلك الصلة فهو أيضا مخطيء قطعا.
وهذه حجة عند مثبتي المفهوم ونفاته، كالوجه الأول، فإن نافي المفهوم يقول: المسكوت لم يدخل في الثاني، لكن إن دخل في الأول عملت به، ونسلم أنه إذا غلب على الظن أو إذا علم ألا موجب للتخصيص سوى الاختصاص بالحكم؛ كان المفهوم دليلا، فإذا تأمل قوله: على أنه من مات منهم من غير ولد كان نصيبه لأهل طبقته. قال: إن كان مراد الواقف عموم الشياع كان هذا اللفظ مقيدا لبيان مراده، ومتى دار الأمر بين أن تجعل هذه الكلمة مفسرة للفظ الأول، وبين أن تكون لغوا؛ كان حملها على الإفادة والتفسير أولى؛ لوجهين:
أحدهما: أنى أعتبرها، واعتبار كلام الواقف أولى من إهداره.
والثاني: أجعلها بيانا للفظ المحتمل حينئذ؛ فأدفع بها احتمالا كنت أعمل به لولا هي، وإذا كان الكلام محتملا لمعنيين كان المقتضى لتعيين أحدهما قائما، سواء كان ذلك الاقتضاء مانعا من النقيض أو غير مانع. فإذا حملت هذا اللفظ على البيان كنت قد وفيت المقتضى حقه من الاقتضاء، وصنت الكلام الذي يميز بين الحلال والحرام عن الإهدار والإلغاء، فأين هذا ممن يأخذ بما يحتمله أول اللفظ ويهدر آخره؛ وينسب المتكلم به إلى العي واللغو؟
والذي يوضح هذا: أن قوله: على أنه من صيغ الاشتراط، والتقييد والشرط إنما يكون لما يحتمله العقد، مع أن إطلاقه لا يقتضيه. بيان ذلك: أن قوله: بعت، واشترىت. لا يقتضي أجلا، ولا رهنا، ولا ضمينا ولا نقدا غير نقد البلد، ولا صفة زائدة في المبيع، لكن اللفظ يحتمله، بمعنى: أنه صالح لهذا ولهذا، لكن عند الإطلاق ينفي هذه الأشياء، فإن اللفظ لا يوجبها، والأصل عدمها، فمتى قال: على أن ترهنني به كذا كان هذا تفسيرا لقوله: بعتك بألف، بمنزلة قوله: بألف متعلقة برهن.
الوجه الثالث: أن قوله: على أنه من مات منهم من غير ولد كان نصيبه لذوي طبقته. دليل على أن من مات منهم عن ولد لم يكن نصيبه لذوي طبقته، وهذه دلالة المفهوم، وليس هذا موضع تقريرها؛ لكن نذكر هنا نكتا تحصل المقصود.
أحدها: أن القول بهذه الدلالة مذهب جمهور الفقهاء قديما وحديثا من المالكية، والشافعية، والحنبلية؛ بل هو نص هؤلاء الأئمة، وإنما خالف طوائف من المتكلمين مع بعض الفقهاء، فيجب أن يضاف إلى مذاهب الفقهاء ما يوافق أصولهم. فمن نسب خلاف هذا القول إلى مذهب هؤلاء كان مخطئا، وإن كان بما يتكلم به مجتهدا فيجب أن يحتوي على أدوات الاجتهاد.
ومما يقضى منه العجب: ظن بعض الناس أن دلالة المفهوم حجة في كلام الشارع دون كلام الناس، بمنزلة القياس. وهذا خلاف إجماع الناس؛ فإن الناس إما قائل بأن المفهوم من جملة دلالات الألفاظ، أو قائل: إنه ليس من جملتها، أما هذا التفصيل فمحدث.
ثم القائلون بأنه حجة إنما قالوا: هو حجة في الكلام مطلقا، واستدلوا على كونه حجة بكلام الناس، وبما ذكره أهل اللغة، وبأدلة عقلية تبين لكل ذي نظر أن دلالة المفهوم من جنس دلالة العموم والإطلاق والتقييد، وهو دلالة من دلالات اللفظ، وهذا ظاهر في كلام العلماء، والقياس ليس من دلالات الألفاظ المعلومة من جهة اللغة، وإنما يصير دليلا بنص الشارع، بخلاف المفهوم، فإنه دليل في اللغة، والشارع بَيَّنَ الأحكام بلغة العرب.
الثاني: أن هذا المفهوم من باب مفهوم الصفة الخاصة المذكورة بعد الاسم العام، وهذا قد وافق عليه كثير ممن خالف في الصفة المبتدأة حتى إن هذا المفهوم يكون حجة في الاسم غير المشتق، كما احتج به الشافعي وأحمد في قول النبي ﷺ: (جعلت لي الأرض مسجدا)، (وجعلت تربتها طهورا)، وذلك أنه إذا قال: الناس رجلان مسلم وكافر، فأما المسلم فيجب عليك أن تحسن إليه؛ علم بالاضطرار أن المتكلم قصد تخصيص المسلم بهذا الحكم، بخلاف ما لو قال ابتداء: يجب عليك أن تحسن إلى المسلم، فإنه قد يظن أنه إنما ذكره على العادة؛ لأنه هو المحتاج إلى بيان حكمه غالبا، كما في قوله: (كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه) وكذلك: (في الإبل السائمة الزكاة) أقوى من قوله: (في السائمة الزكاة)؛ لأنه إذا قال: (في الإبل السائمة) فلو كان حكمها مع السوم وعدمه سواء؛ لكان قد طول اللفظ ونقص المعنى، أما إذا قال: (في السائمة) فقد يظن أنه خصها بالذكر لكونها أغلب الأموال، أو لكون الحاجة إلى بيانها أمس، وهذا بَيِْنٌ، كذلك هنا إذا كان مقصوده انتقال نصيب الميت إلى طبقته مع الولد وعدمه.
فلو قال: فمن مات منهم كان نصيبه لذوي طبقته. كان قد عمم الحكم الذي أراده واختصر اللفظ. فإذا قال: فمن مات منهم عن غير ولد ولا نسل ولا عقب كان ما كان جاريا عليه من ذلك لمن في درجته وذوي طبقته. كان قد طول الكلام ونقص المعنى، بخلاف ما إذا حمل في ذلك على الاختصاص بالحكم، فإنه يبقى الكلام صحيحا معتبرا، والواجب اعتبار كلام المصنف ما أمكن، ولا يجوز إلغاؤه بحال مع إمكان اعتباره.
الوجه الثالث: أن نفاة المفهوم لإمكان أن يكون للتخصيص بالذكر سبب غير التخصيص بالحكم، أما عدم الشعور بالمسكوت، أو عدم قصد بيان حكمه، أو كون المسكوت أولى بالحكم منه، أو كونه مساويا له في بادئ الرأى، أو كونه سئل عن المنطوق، أو كونه قد جرى بسبب أوجب بيان المنطوق، أو كون الحاجة داعية إلى بيان المنطوق، أو كون الغالب على إفراد ذلك النوع هو المنطوق، فإذا علم أو غلب على الظن ألا موجب للتخصيص بالذكر من هذه الأسباب ونحوها علم أنه إنما خصه بالذكر؛ لأنه مخصوص بالحكم.
ولهذا كان نفاة المفهوم يحتجون في مواضع كثيرة بمفهومات؛لأنهم لا يمنعون أن يظهر قصد التخصيص في بعض المفهومات، وهذا من هذا الباب؛ فإن قوله: من مات منهم عن غير ولد. قد يشعر بالقسمين، وله مقصود في بيان الشرط، وليس هذا من باب التنبيه، فإنه إذا جعل نصيب الميت ينتقل إلى إخوته عند عدم ولده لم يلزم أن ينقله إليهم مع وجود ولده والحاجة داعية إلى بيان النوعين، بل لو كان النوعان عنده سواء وقد خص بالذكر حال عدم الوالد لكان ملبسا معميا؛ لأنه يوهم خلاف ما قصد بخلاف ما إذا حمل على التخصيص.
الرابع: أن الوصف إذا كان مناسبا اقتضى العلية. وكون الميت لم يخلف ولدا مناسبٌ لنقل حقه إلى أهل طبقته، فيدل على أن علة النقل إلى ذوي الطبقة الموت عن غير ولد، فيزول هذا بزوال علته، وهو وجود الولد.
الخامس: أن كل من سمع هذا الخطاب فهم منه التخصيص، وذلك يوجب أن هذا حقيقة عرفية، إما أصلية لغوية، أو طارية منقولة. وعلى التقديرين يجب حمل كلام المتصرفين عليها باتفاق الفقهاء.
واعلم أن إثبات هذا في هذه الصورة الخاصة لا يحتاج إلى بيان كون المفهوم دليلا؛ لأن المخالف في المفهوم إنما يدعى سلب العموم عن المفهومات لا عموم السلب فيها، فقد يكون بعض المفهومات دليلا لظهور المقصود فيها، وهذا المفهوم كذلك؛ بدليل فهم الناس منه ذلك، ومن نازع في فهم ذلك، فإما فاسد العقل أو معاند.
وإذا ثبت أن هذا الكلام يقتضي عدم الانتقال إلى ذوي الطبقة مع وجود الأولاد، فإما ألا يصرف إليهم ولا إلى الأولاد، وهو خلاف قوله: على أولادهم، ثم على أولاد أولادهم أبدا ما تناسلوا، أو يصرف إلى الأولاد فهو المطلوب.
فإن قيل: قد يسلم أن المفهوم دليل، لكن قد عارضه اللفظ الصريح أولا، أو اللفظ العام، فلا يترك ذلك الدليل لأجل المفهوم. قيل: عنه أجوبة:
أحدها: أن اللفظ الأول لا دلالة فيه بحال على شىء؛ لأن اللفظ إنما يصير دليلا إذا تم وقطع عما بعده، أما إذا وصل بما بعده، فإنه يكون جزءا من الدليل لا دليلا، وجزء الدليل ليس هو الدليل. ومن اعتقد أن الكلام المتصل بعضه ببعض يعارض آخره المقيد أوله المطلق، فما درى أي شيء هو تعارض الدليلين؟
الثاني: أن اللفظ الأول لو فرض تمامه ليس بصريح كما تقدم بيانه بل هو محتمل لمعنيين. وأما كونه عاما فمسلم لكنا لا نخصه، بل نبقيه على عمومه، وإنما الكلام في صفة عمومه، بل ما حملناه عليه أبلغ في عمومه؛ لأن أولاد الأولاد يأخذ كل منهم في حياة أعمامه وبعد موتهم، وعلى ذلك التقدير إنما يأخذ في حياتهم فقط، واللفظ المتناول لهم في حالين أعم من المتناول لهم في أحدهما.
الثالث: لو فرض أن هذا من باب تعارض العموم والمفهوم، فالصواب أن مثل هذا المفهوم يقدم على العموم، كما هو قول أكثر المالكية والشافعية والحنبلية، وقد حكاه بعض الناس إجماعا من القائلين بالمفهوم؛ لأن المفهوم دليل خاص، والدليل الخاص مقدم على العام، ولا عبرة بالخلاف في المفهوم، فإن القياس الجلي مقدم على المفهوم، مع أن المخالفين في القياس قريبون من المخالفين في المفهوم، وخبر الواحد يخص به عموم الكتاب، مع أن المخالفين في خبر الواحد أكثر من المخالفين عموم الكتاب.
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه مبني على أن الضمير في قوله: على أنه من مات. عائد إلى جميع من تقدم، وهذا ممنوع، فإن من الفقهاء المعتبرين من قال: إن الاستثناء في شروط الواقف إذا تعقب جملا معطوفة وإذا كان الضمير عائدا إلى الجملة الأخيرة فتبقى الجمل الأولى على ترتيبها.
قيل: هذا باطل من وجوه:
أحدها: أن لازم هذا القول أنه لو قال: على أولادي، ثم أولادهم ثم أولاد أولادهم، ثم أولاد أولاد أولادهم، ونسلهم، وعقبهم، على أنه من مات منهم عن ولد كان نصيبه لولده، ومن مات منهم عن غير ولد كان نصيبه لمن في درجته؛ لكان هذا الشرط في الطبقة الآخرة، وأن الطبقة الأولى والثانية والثالثة إذا مات الميت منهم لم ينتقل نصيبه إلى ولده، بل إلى ذوي الطبقة، عملا بمقتضى مطلق الترتيب، فإن التزم المنازع هذا اللازم وقال: كذلك أقول. كان هذا قولا مخالفا لما عليه عمل المسلمين قديما وحديثا، في كل عصر، وكل مصر، فإن الوقوف المشرطة بهذه الشروط لا يحصي عددها إلا الله تعالى.
وما زال المسلمون من قضاتهم ومفتيهم وخاصتهم وعامتهم يجعلون مثل هذا الشرط ثابتا في جميع الطبقات من غير نكير لذلك ولا منازع فيه، فمن قال خلاف ذلك؛ علم أنه قد ابتدع قولا يخالف ما أجمعت عليه القرون السالفة، والعلم بهذا ضروري.
ثم لو فرض أن في هذا خلافا لكان خلافا شاذا معدودا من الزلات، وبحسب قول من الضعف أن يبنى على مثل هذا. ومن لوازم هذا القول أنه لو قال: وقف على أولادي، ثم أولادهم؛ ثم أولاد أولادهم، على أنه من كان منهم فقيرا صرف إليه، ومن كان منهم غنيا لم يصرف إليه، فإنه يصرف إلى الطبقة الأولى، والثانية، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، أو يختص التفصيل بالطبقة الثالثة. وكذلك لو قال: على أنه من تزوج منهم أعطى، ومن لم يتزوج لم يعط. وكذلك لو قال: ومن شرط الوقف على أنه يصرف إلى الفقراء منهم دون الأغنياء. أو بشرط أن يصرف إلى فقرائهم دون أغنيائهم.
وهكذا صور كثيرة لا يأتى عليها الإحصاء من التزم فيها قياس هذا القول كان قد أتى بداهية ذهيا!! وإن قال: بل يعود الشرط إلى جميع الطبقات، كما هو المعلوم عند الناس، فقد علم بالاضطرار أن مسألتنا واحدة من هذا النوع، ليس بينها وبين هذه الصور من الفرق ما يجوز أن يذهب على مميز.
الوجه الثاني: أن الناس لا يفهمون من هذا الكلام إلا الاشتراط في جميع الطبقات، والدليل عليه: أن الوقوف المشروطة بمثل هذا أكثر من أن تحصى، ثم لم يفهم الناس منها إلا هذا، ولعله لم يخطر الاختصاص بالطبقة الأخيرة ببال واقف، ولا كاتب، ولا شاهد، ولا مستمع، ولا حاكم، ولا موقوف عليه، وإذا كان هذا هو المفهوم من هذا الكلام في عرف الناس، وجب حمل كلام المتكلمين على عرفهم في خطابهم، سواء كان عرفهم موافقا للوضع اللغوي، أو مخالفا له، فإن كان موجب اللغة عود الشرط إلى الطبقات كلها فالعرف مقررٌ له، وإن فرض أن موجب اللغة قصره على الطبقة الأخيرة كان العرف مغيرا لذلك الوضع.
وكلام الواقفين والحالفين والموصين ونحوهم محمول على الحقائق العرفية دون اللغوية، على أنا نقول: هذا هو المفهوم من هذا الكلام في العرف والأصل تقرير اللغة لا تغييرها، فيستدل بذلك على أن هذا هو مفهوم اللفظ في اللغة؛ إذ الأصل عدم النقل، ومن نازع في أن الناس خاصتهم وعامتهم يفهمون من هذا الكلام عند الإطلاق عود الشرط إلى جميع الطبقات، علم أنه مكابر، وإذا سلمه ونازع في حمل كلام المتصرف على المعنى الذي يفهمونه؛ علم أنه خارج عن قوانين الشريعة، فهاتان مقدمتان يقينيتان، والعلم بهما مستلزم لعود الشرط إلى جميع الطبقات.
الوجه الثالث: أنه إذا حمل الكلام على عود الشرط إلى الجملة الأخيرة فقط؛ كانت فائدته على رأي المنازع أنه لولا هذا الشرط لاشترك العقب في جميع الوقف الذي انتقل إليهم من الطبقة التي فوقهم، والذي انتقل إليهم ممن مات منهم عن ولد، أو عن غير ولد. فإذا قال: فمن مات منهم عن غير ولد فنصيبه لذوي طبقته، أفاد ذلك أن يختص ذووا الطبقة بنصيب المتوفي إذا لم يكن له ولد، دون من فوقهم ومن دونهم. وهذا لم يكن مفهوما من اللفظ، وإذا كان له ولد اشترك جميع أهل الوقف في نصيب المتوفي ولده وغير ولده، وإذا حمل الكلام على عود الشرط إلى الطبقات كلها أفاد أن ينتقل نصيب المتوفي إلى طبقته إذا لم يكن له ولد، وإلى ولده إذا كان له ولد.
ومعلوم قطعا من أحوال الخلق أن من شرك بين جميع الطبقات لا ينقل نصيب الميت إلى ذوي طبقته فقط دون من هو فوقه، وإذا كان له ولد لم ينقله إلى ولده، بل يجعله كأحدهم؛ فإنه على هذا التقدير يكون قد جعل ذوي الطبقة أولى من ولد الميت، مع أنه لم يراع ترتيب الطبقات، ومعلوم أن هذا لا يقصده عاقل، فإن العاقل إما أن يراعى ترتيب الطبقات فلا يشرك أو ينقل نصيب المتوفي إلى ولده كالإرث. أما إنه مع التشريك يخص نصيب المتوفي إخوته دون ولده، فهذا خلاف المعلوم من أحوال الناس، ولو فرض أن الضمير متردد بين عوده إلى الجميع وعوده إلى الطبقة الأخيرة؛ كانت هذه الدلالة الحالية العرفية معينة لأحد الاحتمالين.
فإن قيل: هذا يلزمكم إذا أعدتم الضمير إلى الجميع، فإن اللفظ يقتضي الترتيب في أربع طبقات، والتشريك في الباقية، فأنتم تقولون في بقية الطبقات مثلما نقوله؟
قلنا: هذا فيه خلاف، فإن الطبقات الباقية هل يشرك بينها عملا بما تقتضيه الواو من مطلق التشريك، أو يرتب بينها استدلالاً بالترتيب فيما ذكره على الترتيب في الباقي، كما هو مفهوم عامة الناس من مثل هذا الكلام، فإن الواو كما أنها لا تقتضي الترتيب فهي لا تنفيه، فإن كان في الكلام قرينة تدل عليه وجب رعايتها، وقد تنازع الناس في هذا. فإن قلنا بالثاني، فلا كلام. وإن قلنا بالأول قلنا أيضا: إنه يقتضي انتقال نصيب الميت إلى ولده في جميع الطبقات، فإن نقل نصيب الميت إلى ذوي طبقته إذا لم يكن له ولد دون سائر أهل الوقف تنبيه على أنه ينقله إلى ولده إن كان له ولد، والتنبيه دليل أقوى من النص حتى في شروط الواقفين.
ولهذا لو قال: وقفت على ولدي على أنه من كان فاسقا لا يعطي درهما واحدا، فإنه لا يجوز أن يعطي درهمان بلا ريب، فإنه نبه بحرمانه القليل على حرمانه الكثير، كذلك نبه بنقل نصيب الميت إذا لم يكن له ولد إلى إخوته على نقله إلى الولد إذا كانا موجودين، فيكون منع الإخوة مع الولد مستفادا من التقييد، وإعطاء الولد مستفادا من تنبيه الخطاب وفحواه.
وإيضاح ذلك: أن إعطاء نصيب الميت لذوي طبقته دون سائر أهل الوقف ودون تخصيص الأقرب إلى الميت، دليل على أنه جعل سبب الاختصاص القرب إلى الميت، لا القرب إلى الواقف، ولا مطلق الاستحقاق. ومعلوم أن الولد عند وجودهم أقرب إلى الميت، فيكون سبب استحقاقهم أوكد، فيكون ذلك دليلا على أن الواقف قصد إعطاءهم. وسنذكر إن شاء الله ما يرد على هذا.
الوجه الرابع: أن الضمير يجب عوده إلى جميع ما تقدم ذكره، فإن تعذر عوده إلى الجميع أعيد إلى أقرب المذكورين، أو إلى ما يدل دليل على تعيينه، فأما اختصاصه ببعض المذكور من غير موجب، فمن باب التخصيص المخالف للأصل الذي لا يجوز حمل الكلام عليه إلا بدليل؛ وذلك لأن الأسماء المضمرة إضمار الغيبة هي في الأمر العام موضوعة لما تقدم ذكره من غير أن يكون لها في نفسها دلالة على جنس أو قدر. فلو قال: ادخل على بني هاشم ثم بني المطلب، ثم سائر قريش، وأكرمهم، وأجلسهم، ونحو هذا الكلام؛ لكان الضمير عائدا إلى ما تقدم ذكره، وليس هذا من باب اختلاف الناس في الاستثناء المتعقب جملا: هل يعود إلى جميعها أو إلى أقربها؟ لأن الخلاف هناك إنما نشأ؛ لأن الاستثناء يرفع بعض ما دخل في اللفظ، فقال من قصره على الجملة الأخيرة: إن المقتضي للدخول في الجمل السابقة قائم، والمخرج مشكوك فيه، فلا يزال عن المقتضي بالشك، وهذا المعنى غير موجود في الضمير، فإن الضمير اسم موضوع لما تقدم ذكره، وهو صالح للعموم على سبيل الجمع، فإنه يجب حمله على العموم إذا لم يقم مخصص، وعلى هذا فحمل الضمير على العموم حقيقة فيه، وحمله على الخصوص مثل تخصيص اللفظ العام.
الوجه الخامس: أنه إذا قال: وقفت على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على أولاد أولادهم، على أنه من توفى منهم عن ولد أو عن غير ولد، فإن إعادة الضمير إلى الطبقة الثالثة ترجيح من غير مرجح. والظاهر بل المقطوع به من حال العاقل أنه لا يفعل ذلك، فإن العاقل لا يفرق بين المتماثلات من غير سبب، فإما أن يكون مقصوده إعطاء الأقرب إليه فالأقرب في جميع الطبقات إذا نقل نصيب الميت إلى ابنه في جميع الطبقات. أما كونه في بعض الطبقات يخص الأقربين إليه وفي بعضها ينقل النصيب إلى ولد الميت أو إلى ذوي طبقته، فما يكاد عاقل يقصد هذا، وإذا دار حمل اللفظ بين ما الظاهر إرادته وبين ما الظاهر عدم إرادته، كان حمله على ما ظهرت إرادته هو الواجب، فإن اللفظ إنما يعمل به لكونه دليلا على المقصود، فإذا كان في نفسه محتملا وقد ترجح أحد الاحتمالين تعين الصرف إليه، فإذا انضم إلى ذلك أنه تخصيص للعموم ببعض الأفراد التي نسبتها ونسبة غيرها إلى غرض الواقف سواء كان كالقاطع في العموم.
الوجه السادس: أن هذه الصفة في معنى الشرط، والشرط المتعقب جملا يعود إلى جميعها باتفاق الفقهاء، ولا عبرة في هذا المقام بمن خالف ذلك من بعض المتأخرين، فإن الفقهاء قد نصوا: أن رجلا لو قال: والله لأفعلن كذا، ولأفعلن كذا إن شاء الله أن كلا الفعلين يكون معلقا بالمشيئة. وكذلك لو قال: لأضربن زيدا، ثم عمرا، ثم بكرا إن شاء الله. وكذلك لو قال: الطلاق يلزمه ليفعلن كذا، وعبده حر ليفعلن كذا، أو امرأته كظهر أمه ليفعلن كذا إن شاء الله. وإنما اختلفوا في الاستثناء المخصص، لا في الاستثناء المعلق. وهذا من باب الاستثناء المعلق مثل الشروط؛ لأوجه:
أحدها: أن الاستثناء بإلا ونحوها متعلق بالأسماء لا بالكلام، والاستثناء بحروف الجزاء متعلق بالكلام. وقوله: على أنه ونحوه. متعلق بالكلام، فهو بحروف الجزاء أشبه منه بحروف الاستثناء: إلا وأخواتها؛ وذلك أن قوله: وقفت على أولادي إلا زيدا. الاستثناء فيه متعلق بأولادي. وقوله: وقفت على أولادي إن كانوا فقراء. الشرط فيه متعلق بقوله: وقفت. وهو الكلام، وهو المعنى المركب. وكذلك قوله: على أن يكونوا فقراء. حرف الاستعلاء معلق لمعنى الكلام، وهو وقفت. وهذا قاطع لمن تدبره.
الثاني: أن هذا بيان لشروط الوقف التي يقف الاستحقاق عليها، ليس المقصود بها إخراج بعض ما دخل في اللفظ، فهي شروط معنوية.
الثالث: أن قوله: من مات منهم عن غير ولد كان نصيبه لمن في درجته. جملة شرطية جزائية مجعولة خبر أن المفتوحة، واسم أن ضمير الشأن، وأن وما في خبرها في تأويل المصدر، فيصير التقدير: وقفت على هذا.
الرابع: أن حرف على للاستعلاء، فإذا قال الرجل: وقفت على أنه يكون كذا، أو بعتك على أن ترهنني. كان المعنى: وقفت وقفا مستعليا على هذا الشرط، فيكون الشرط أساسا وأصلا، لما علا عليه وصار فوقه، والأصل متقدم على الفرع، وهذا خاصية الشرط؛ ولهذا فرق من فرق بين الشرط والاستثناء: بأن الشرط منزلته التقدم على المشروط، فإذا أخر لفظا كان كالمتصدر في الكلام، ولو تصدر في الكلام تعلقت به جميع الجمل، فكذلك إذا تأخر. فلو قال: وقفت على أولادي، ثم على أولادهم ثم على أولاد أولادهم إن كانوا فقراء. كان بمنزلة قوله: على أن يكونوا فقراء. وأحد اللفظين موجب لعود الضمير إلى جميع الطبقات، فكذلك الآخر.
واعلم أن هذه الدلائل توجب أن الضمير يعود إلى جميع الطبقات في هذه المسألة عند القائلين بأن الاستثناء المتعقب جملا يعود إلى جميعها، والقائلين بأنه يعود إلى الأخيرة منها، كما اتفقوا على مثل ذلك في الشرط.
الوجه السابع: أن هذا السؤال فاسد على مذهب الشافعي خصوصا، وعلى مذهب غيره أيضا وذلك أن الرجل لو قال لامرأته: أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق، إن دخلت الدار، فإنه لا يقع بها طلاق حتى تدخل الدار، فطلق حينئذ ثلاثا إن كانت مدخولا بها، أو واحدة إن كانت غير مدخول بها. هذا قول أبي يوسف ومحمد. وقيل: عن أبي يوسف ومحمد تطلق غير المدخول بها ثلاثا، كالواو عندهما، وهو مذهب الشافعي، وأقوى الوجهين في مذهب أحمد. وقال أبو حنيفة والقاضي أبو يعلى من أصحاب أحمد وطائفة معه: بل تتعلق بالشرط الجملة الأخيرة فقط، فإن كانت مدخولا بها تنجز طلقتان، وتعلق بالشرط واحدة، وإن كانت غير مدخول بها تنجزت طلقة بانت بها، فلم يصح إيقاع الأخريتين لا تنجيزا ولا تعليقا.
قالوا: لأن "ثم" للترتيب مع التراخي، فيصير كأنه قال: أنت طالق، ثم سكت، ثم قال: أنت طالق إن دخلت الدار.
وأما الأولون فقالوا: ثم حرف عطف يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه كالواو، لكن الواو تقتضي مطلق الجمع والتشريك من غير دلالة على تقدم أو تأخر أو مقارنة، وثم تقتضي التشريك مع التأخر. وافتراقهما في المعنى لا يوجب افتراقهما في نفس التشريك. وأما كونها للتراخي فعنه جوابان:
أحدهما: أن مقتضاها مطلق الترتيب، فيعطف بها المتعقب والمتراخي، لكن لما كان للمتعقب حرف يخصه وهو الفاء صارت ثم علامة على المعنى الذي انفردت به، وهو التراخي، وإلا فلو قال لمدخول بها: أنت طالق، ثم طالق، أو أنت طالق، فطالق؛ لم يكن بين هذين الكلامين فرق هنا.
الثاني: أن ما فيها من التراخي إنما هو في المعنى لا في اللفظ، فإذا قال الرجل: جاء زيد، ثم عمرو. فهذا كلام متصل بعضه ببعض، لا يجوز أن يقال: هو بمنزلة من سكت، ثم قال: عمرو. فمن قال: إن قوله: أنت طالق، ثم طالق، بمنزلة من سكت، ثم قال: طالق، فقد أخطأ، وإنما غايته أن يكون بمنزلة من قال: أنت طالق طلاقا يتراخي عنه طلاق آخر. وهذا لا يمنع من تعلق الجميع بالشرط تقدم أو تأخر.
فإذا كان من مذهب الشافعي وهؤلاء: أن قوله: أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق إن دخلت الدار، بمنزلة قوله: أنت طالق، فطالق، فطالق إن دخلت الدار. وقوله: أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار في المدخول بها. وكذلك قوله: أنتن طوالق، ثم أنتن طوالق إن دخلتن الدار. وإن الشرط تعلق بالجميع، فكيف يجوز أن ينسب إلى مذهبه أن العطف بما يقتضي الترتيب يوجب الصرف إلى من يليه الشرط دون السابقين؟ وهلا قيل هنا: إذا ثبت وقوع الطلاق نصا باللفظين الأولين، ولم يثبت ما يغيره، وجب تقرير الطلاق الواقع، بل مسألة الطلاق أولى بقصر الشرط على الجملة الأخيرة؛ لأن إحدى الطلقتين ليس لها تعلق بالأخرى من حيث الوجود، بل يمكن إيقاعهما معا، بخلاف ولد الولد، فإنهم لا يوجدون إلا متعاقبين، فالحاجة هنا داعية إلى الترتيب ما لا تدعو إليه في الطلاق.
وأيضا، فإن جواز تعقيب البيع والوقف ونحوهما بالشروط متفق عليه، بخلاف الطلاق، فإن مذهب شريح وطائفة معه وهي رواية مرجوحة عن أحمد أن الطلاق لا يصح تعليقه بشرط متأخر، كما ذهب بعض الفقهاء من أصحاب وغيرهم إلى أنه لا يصح الاستثناء من الطلاق، فإذا كانوا قد أعادوا الشرط إلى جميع الجمل المرتبة بثم، فالقول بذلك في غيرها أولى.
وهذا الكلام لمن تدبره يجتث قاعدة من نسب إلى مذهب الشافعي ما يخالف هذا.
فإن قال: قد ثبت العموم في الجمل المتقدمة، فلا يجوز تخصيصه بمحتمل متردد وليس غرضنا هنا إفساد هذا الدليل بل نقول: موجب هذا الدليل اختصاص التوابع بالجملة الأخيرة مطلقا. أما التفريق بين عاطف وعاطف، فليس في هذا الدليل ما يقتضيه أصلا، وأي فرق عند العقلاء بين أن يقول: وقفت على أولادي، وعلى المساكين، إلا أن يكونوا فساقا؟ نعم، صاحب هذا القول ربما قوي عنده اختصاص الاستثناء بالجملة الآخرة، وهاب مخالفة الشافعي فغاظ ما عنده من الرجحان، مع أنا قد بينا أن مسألتنا ليست من موارد الخلاف، وإنما الخلاف في الاستثناء أو الصفة الإعرابية، فأما الشرط والصفة الشرطية فلا خلاف فيهما بين الفقهاء.
وبالجملة، من سلم أن الجمل المعطوفة بالواو يعود الاستثناء إلى جميعها؛ كان ذكره لهذا الدليل مبطلا لما سلمه، فلا يقبل منه، فإن تسليم الحكم مستلزم تسليم بطلان ما يدل على نقيضه، فلا يقبل منه دليل يدل على عدم عود الاستثناء إلى الجميع.
الوجه الثاني: أن قوله: انصراف الاستثناء إلى الذين يليهم الاستثناء مقطوع به، فممنوع، بل يجوز أن يعود الاستثناء إلى الجملة الأولى فقط، إذا دل على ذلك دليل، ويجوز للمتكلم أن ينوي ذلك ويقصده، وإن كان حالفا مظلوما، فإنه لو قال: قاتل أهل الكتاب وعادهم وأبغضهم إلا أن يعطوا الجزية؛ كان الاستثناء عائدا إلى الجملة الأولى فقط، وقد قال سبحانه: { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } [39]، وهذا الاستثناء في الظاهر عائد إلى الجملة الأولي. وقال سبحانه: { بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } إلى قوله: { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شيء ا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عليكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إليهمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ } [40]، وليس هذا مستثني مما يليه، بل من أول الكلام.
وقد قال جماعة من أهل العلم في قوله: { لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا } [41]: إن { قَلِيلا } عائد إلى قوله: { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ } [42]، { إِلاَّ قَلِيلا } وهذا الاستثناء عائد إلى جملة بينها وبين الاستثناء جمل أخري. والمقدم في القرآن، والمؤخر باب من العلم، وقد صنف فيه العلماء منهم الإمام أحمد وغيره، وهو متضمن هذا. وشبهه أن يكون الاستثناء مؤخرا في اللفظ مقدما في النية.
ثم التقديم والتأخير في لغة العرب، والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة معترضة وبين غيرهما، لا ينكره إلا من لم يعرف اللغة، وقد قال سبحانه: { وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } [43]، فقوله: { أَن يُؤْتَى } من تمام قول أهل الكتاب، أي: كراهة أن يؤتي، فهو مفعول { تٍؤًمٌنٍوا }، وقد فصل بينهما بقوله: { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ } وهي جملة أجنبية، ليست من كلام أهل الكتاب، فأيما أبلغ الفصل بين الفعل والمفعول أو بين المستثني والمستثني منه؟ وإذا لم يكن عود الاستثناء إلى الأخيرة مقطوعا به لم يجب عود الاستثناء إليها، بل ربما كان في سياقه ما يقتضي أن عوده إلى الأولى أوكد. ومسألتنا من هذا الباب كما تقدم.
الثالث: قوله: إذا ثبت الاستحقاق بلفظ الواقف نصا ولم يثبت ما يغيره وجب تقرير الاستحقاق.
قلنا أولا: مسألتنا ليست من هذا الباب، فإن قوله: على أولاده، ثم على أولادهم، ليس نصا في ترتيب الطبقة على الطبقة، فإنه صالح لترتيب الأفراد على الأفراد، لكن هذا يجب في خصوص مسألتنا مع من يريد أن يدخلها تحت عموم هذا الكلام، ثم من يقول من راس: لا نسلم ثبوت الاستحقاق بلفظ الواقف نصا في شيء من الصور التي يعقبها استثناء أو شرط، فإن اللفظ إنما يكون نصا إذا لم يتصل بما يغيره، والتغيير محتمل، فشرط كونه نصا مشكوك فيه، ومتى كان شرط الحكم مشكوكا فيه لم يثبت، فإنه لا نص مع احتمال التغيير، لا سيما مثل هذا الاحتمال القوي الذي هو عند أكثر العلماء راجح.
فإن قال: المقتضي لدخولهم قائم، والمانع من خروجهم مشكوك فيه.
قلت: على قول من يمنع تخصيص العلة لا أسلم قيام المقتضي لدخولهم، فإن المقتضي لدخولهم هو اللفظ الذي لم يوصل به ما يخرجهم، فلا أعلم أن هذا اللفظ لم يوصل به ما يخرجهم حتى أعلم أن هذا الاستثناء لا يخرجهم، وهذا الشرط مشكوك فيه. وأما على قول من يقول بتخصيصها، فأسلم قيام المقتضي، لكن شرط اقتضائه عدم المانع المعارض. وهنا ما يصلح أن يكون مانعا معارضا، فما لم يقم دليل يبقي صلاحه للمعارضة وإلا لم يعمل المقتضي عمله، والصلاح للمعارضة لا مزية فيه.
وهذا البحث بعينه وهو بحث القائلين بعود الاستثناء إلى جميع الجمل مع القاصرين على الجملة الأخيرة. ثم يقول من راس: إذا قال مثلا: وقفت على أولادي، ثم على الفقراء إلا الفساق المنازع يقول: ولدي نص في أولاده، والفساق يجوز أن يختص بالفقراء.
فنقول له: هذا معارض بمثله، فإن الفساق نص في جميع الفساق، فإنه اسم جمع معرف باللام، وإذا كان عاما وجب شموله لكل فاسق، فدعوي اختصاصه بفساق الفقراء دون الأولاد يحتاج إلى مخصص، فليست المحافظة على عموم الأولاد لعدم العلم بالتخصيص بأولى من المحافظة على عموم الفساق لعدم العلم بالمخصص، بل الراجح إخراجهم لأسباب:
أحدها: أن الأصل عدم دخولهم في الوقف، وقد تعارض عمومان في دخولهم وخروجهم، فيسلم النافي لدخولهم عن معارض راجح.
الثاني: أنا قد تيقنا خروجهم من إحدى الجملتين، فكان إحدى العمومين المعطوفين مخصوصا، فإلحاق شريكه في التخصيص أولى من إدخال التخصيص على ما ليس بشريكه.
الثالث: أن المعطوف والمعطوف عليه بمنزلة الجملة الواحدة، فإذا ورد التخصيص عليها ضعفت، بخلاف عموم المستثني، فإنه لم يرد عليه تخصيص.
الرابع: كون الفسق مانعا يقتضي رجحانه عند الواقف على المقتضي للإعطاء، فإذا تيقنا رجحانه في موضع كان ترجيحه في موضع آخر أولى من ترجيح ما لم يعرف رجحانه بحال.
الخامس: أن قوله: نص الواقف، إن عني به ظاهر لفظه، فعود الاستثناء إلى جميع الجمل ظاهر لفظه أيضا عند هذا القول، فلا فرق بينهما. وإن عني به النص الذي لا يحتمل إلا معني واحدا، فمعلوم أن كل لفظ يقبل الاستثناء، فلابد أن يكون إما عددًا أو عموما، والعمومات ظواهر ليست نصوصًا.
السادس: قوله: لا يجوز تغييره بمحتمل متردد. تقول بموجبه، فإن عود الاستثناء عندنا إلى جميع الجمل ليس بمحتمل متردد، بل هو نص أيضًا بالتفسير الأول. والدليل على ذلك غلبته على الاستعمال، قال تعالى: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } إلى قوله: { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ } [44]، وهو عائد إلى قوله: { يَلْقَ }، و { يُضَاعَفْ }، و { وَيَخْلُدْ }. وقال سبحانه: { أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ } [45]، وقال تعالى: { أُولَئِكَ عليهمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [46]، وقال تعالى: { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [47]، وقال تعالى: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ } إلى قوله: { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عليهمْ } [48]، فهذا استثناء قد تعقب عدة جمل.
فإن معنى الجملة في هذا الباب هو اللفظ الذي يصح إخراج بعضه، وهو الاسم العام، أو اسم العدد، ليس معناه الجملة التي هي الكلام المركب من اسمين أو اسم فعل أو اسم وحرف، وقد ثبت بما روي عن الصحابة أن قوله: { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } [49]، في آية القذف عائد إلى الجملتين، وقال النبي ﷺ: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه، وقال النبي ﷺ: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى). وهذا كثير في الكتاب والسنة، بل من تأمل غالب الاستثناءات الموجودة في الكتاب والسنة التي تعقبت جملا وجدها عائدة إلى الجميع هذا في الاستثناء فأما في الشروط والصفات فلا يكاد يحصيها إلا الله.
وإذا كان الغالب على الكتاب والسنة وكلام العرب عود الاستثناء إلى جميع الجمل، فالأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب؛ لأن الاستثناء إما أن يكون موضوعًا لهما حقيقة، فالأصل عدم الاشتراك، أو يكون موضوعًا للأقل فقط، فيلزم أن يكون استعماله في الباقي مجازًا، والمجاز على خلاف الأصل، فكثرته على خلاف الأصل، فإذا جعل حقيقة فيما غلب على استعماله فيه مجازًا فيما قل استعماله فإن قيل: فقد قال به بعض الفقهاء من الحنفية والحنبلية، فهؤلاء يقولون به هنا؟ قلنا: قد أسلفنا فيما مضى أن الضمير عائد إلى الجميع على أصول الجميع؛ لدليل دل على الرجوع من جهة كون الضمير حقيقة في جميع ما تقدم، وأن هذا هو المفهوم من الكلام، ثم الذي يقول بهذا يفرق بين هذا وبين الطلاق من وجوه:
أحدها: أن الشرط في الطلاق متعلق بالفعل الذي هو وتلك الأسماء المعطوفة بعضها على بعض كلها داخلة في حيز هذا الفعل، وهي من جهة المعنى مفاعيل له، بمنزلة الشرط في القسم، فإنه إذا قال: والله لأفعلن كذا، وكذا، ثم كذا إن شاء الله؛ كان الشرط متعلقا بالفعل في جواب القسم، والمفاعيل داخلة في مستثناه، وتناول الفعل لمفاعيله على حد واحد، فإذا كان قد قيد تناوله لها بقيد تقيد تناوله للجميع بذلك القيد؛ بخلاف قوله: أنت طالق، ثم طالق إن شاء زيد فإن المتعلق بالشرط هنا اسم الفاعل، لا نفس المبتدأ، والخبر الثاني ليس بداخل في خبر الخبر الآخر، بل كلاهما داخل في خبر المبتدأ، فلهذا خرج هنا خلاف، وهذا فرق بين لمن تأمله.
الوجه الثاني: أن الشرط في الطلاق، وهو قوله: إن دخلت الدار ليس فيه ما يوجب تعلقه بجميع الجمل، بخلاف قوله: على أنه من مات منهم. فإن الضمير يقتضي العود إلى جميع المذكور.
الثالث: أن إحدى الجملتين في الطلاق لا تعلق لها بالأخرى، فإن الطلقة تقع مع وجود الأولى وعدمها، فإذا علقت بالشرط لم تستلزم تعليق الأولى؛ لانفصالها عنها. وقد اعتقدوا أن ثم بمنزلة التراخي في اللفظ، فيزول التعلق اللفظي والمعنوي، فتبقى الجملة الأولى أجنبية عن الشرط على قولهم. وأما قوله: ثم على أولادهم. فإنه متعلق بالجملة الأولى من جهة الضمير ومن جهة الوجود، ومن جهة الاستحقاق، فلا يصح اللفظ بهذه الجملة إلا بعد الأولى، ولا وجود لمعناها إلا بعد الأولى، ولا استحقاق لهم إلا بعد الأولى، سواء قدر التراخي في اللفظ أو لم يقدر فلا يمكن أن تجعل الأولى أجنبية عن الثانية حتى تعلق الثانية وحدها بالشرط.
والذي تحقق: أن النزاع إنما هو في الطلاق فقط: أنه لو قال: والله لأضربن زيدا، ثم عمرا، ثم بكرا إن شاء الله عاد استثناء إلى الجميع. فقوله: وقفت على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على أولاد أولادهم إن كانوا فقراء، أبلغ من قوله: إن شاء الله، من حيث إن هنا تعلق الضمير.
الوجه الثامن: أن هذا الفرق الذي ذكره بعض الفقهاء بين العطف بالحرف المرتب والحرف الجامع إنما ذكره في الاستثناء، ثم قال: وكذلك القول في الصفة، والصفة إذا أطلقت فكثيرا ما يراد بها الصفة الصناعية النحوية. وهو الاسم التابع لما قبله في إعرابه، مثل أن تقول: وقفت على أولادي، ثم على الفقراء العدول، فإن اختصاص الجملة هنا بالصفة الآخرة قريب، ومسألتنا شروط حكمية، وهي إلى الشروط اللفظية أقرب منها إلى الاستثناء، وإن سميت صفات من جهة المعنى.
والدليل على أنه قصد هذا، أنه قال: وإن كان العطف بالواو ولا فاصل، فمذهب الشافعي رجوع الاستثناء إلى الجميع، وكذلك القول في الصفة، فعلم أنه قصد أن هذا مذهب الشافعي مشيرا إلى خلاف أبي حنيفة؛ فإنه إنما يعيد ذلك إلى الجملة الأخيرة، وهذا إنما يقوله أبو حنيفة في الاستثناء والصفات التابعة، لا يقوله في الشروط والصفات التي تجرى مجرى الشروط، فصار هنا أربعة أقسام:
أحدها: الاستثناء بحرف إلا المتعقب جملا، والخلاف فيه مشهور.
الثاني: الاستثناء بحروف الشرط، فالاستثناء هنا عائد إلى الجميع.
الثالث: الصفات التابعة للاسم الموصوف بها وما أشبهها وعطف البيان، فهذه توابع مخصصة للأسماء المتقدمة، فهي بمنزلة الاستثناء.
الرابع: الشروط المعنوية بحرف الجر، مثل قوله: على أنه، أو تشرط أن يفعل. أو بحروف العطف، مثل قوله: ومن شرطه كذا، ونحو ذلك، فهذه مثل الاستثناء بحروف الجزاء. والضابط أن كل ما كان من تمام الاسم فهو من جنس الاستثناء بإلا، وكلما كان متعلقا بنفس الكلام وهو النسبة الحكمية التي بين المبتدأ والخبر وبين الفعل والفاعل، فهو في معنى الاستثناء بحرف الشرط. ومعلوم أن حروف الجر وحروف الشرط المتأخرة إنما تتعلق بنفس الفعل المتقدم، وهو قوله: وقفت. وهو الكلام، والجملة والاستثناء والبدل والصفة النحوية وعطف البيان متعلق بنفس الأسماء التي هي مفاعيل هذا الفعل.
ويجوز كلام من فرق على جمل أجنبيات مثل أن تقول: وقفت على أولادي، ثم على ولد فلان، ثم على المساكين، على أنه لا يعطي منهم إلا صاحب عيال، ففي مثل هذا قد يقوى اختصاص الشرط بالجملة الأخيرة؛ لكونها أجنبية من الجملة الأولى، ليست من جنسها، بخلاف الأولاد وأولاد الأولاد، فإنهم من جنس واحد.
وحمل الكلام على أحد هذين المعنيين أو نحوهما متعين مع ما ذكرنا من دليل إرادة ذلك، على أنه لو كان فيه تخصيص لكلامه، فإنه واجب لما ذكرناه، فإنه إذا كان قد جاء إلى كلام الأئمة الذين قالوا: الاستثناء أو الصفة إذا تعقب جملا معطوفا بعضها على بعض عاد إلى جميع الجمل. فخص ذلك ببعض حروف العطف لما رآه من الدليل، فلأن نخص نحن كلامه بما ذكرناه من نصوص كلامهم الموجب للتسوية بين الواو وثم بطريق الأولى، فإن سلم أن كلامه محمول على ما ذكرناه وإلا تكلمنا معه بالوجه التاسع.
وهو أن هذا الفرق المدعي بين الحرف الجامع جمعا مطلقا والحرف المرتب فرق لا أصل له في اللغة، ولا في العرف، ولا في كلام الفقهاء، ولا في كلام الأصوليين، ولا في الأحكام الشرعية، والدليل المذكور على صحته فاسد، فيجب أن يكون فاسدا.
أما الأول، فإن أهل اللغة قالوا: حروف العطف هي التي تشرك بين ما قبلها وما بعدها في الإعراب، وهي نوعان: نوع يشرك بينهما في المعنى أيضا، وهي: الواو والفاء وثم، فأما الواو فتدل على مطلق التشريك والجمع، إلا عند من يقول: إنها للترتيب. وأما ثم، فإنها تدل على مطلق الترتيب. وقد يقال: إنها للتراخي. وأما الفاء، فإنها تدل على نوع من الترتيب، وهو التعقيب. فهذه الحروف لا يخالف بعضها بعضا في نفس اجتماع المعطوف والمعطوف عليه في المعنى، واشتراكهما فيه، وإنما تفترق في زمان الاجتماع.
فلو قيل: إن العطف بالواو يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فيما يلحق الجمل من استثناء ونعت ونحو ذلك، والعطف بثم لا يقتضي اشتراكهما في هذه اللواحق، للزم من ذلك ألا تكون، ثم مشتركة حيث تكون الواو مشتركة، ومعلوم أن هذا مخالف لما عليه أهل اللغة، بل هو خلاف المعلوم من لغة العرب. والأحكام اللغوية التي هي دلالات الألفاظ تستفاد من استعمال أهل اللغة والنقل عنهم، فإذا كان النقل والاستعمال قد اقتضيا أنهما للاشتراك في المعنى؛ كان دعوى انفراد أحدهما بالتشريك دون الآخر خروجا عن لغة العرب وعن المنقول عنهم.
وأما العرف، فقد أسلفنا أن الناس لا يفهمون من مثل هذا الكلام إلا عود الشرط إلى الجميع، والعلم بهذا من عرف الناس ضروري. وأما كلام العلماء من الفقهاء والأصوليين، فإنهم تكلموا في الاستثناء المتعقب جملا، فقال قوم: إنه يعود إلى جميعها. وقال قوم: يعود إلى الأخيرة منها. وقال قوم: إن كان بين الجملتين تعلق عاد الاستثناء إلى جميعها، وإن كانتا أجنبيتين عاد إلى الأخيرة. ثم فصلوا الجمل المتعلق بعضها ببعض من الأجنبية، وذكروا عدة أنواع من التفصيل. وقال قوم: العطف مشترك بين الجميع. وقال قوم: بالوقف في جميع هذه المذاهب. ثم ليس أحد من هؤلاء فرق بين العطف بالواو والفاء أو ثم، بل قولهم المعطوف بعضها على بعض يعم الجميع.
وكذلك الفقهاء ذكروا هذا في باب الإيمان، وباب الوقف ثم بنوه على أصلهم، فقالوا: الاستثناء أو الوصف إذا تعقب جملا عاد إلى جميعها أو إلى بعضها. وقد اعترف من فصل: بأن الأئمة أطلقوا هذا الكلام، وأنه هو الذي فصل، فلا يجوز أن ينسب إلى الأئمة إلا ما قالوه.
وأما الأحكام، فإنه لو قال: والله لأضربن زيدا، ثم عمرا، ثم بكرا إن شاء الله. عاد الاستثناء إلى الجميع. وكذلك لو قال: الطلاق يلزمنى لأضربن هذا، ثم هذا، ثم هذا. أو قال: لآخذن المُدْيَة، لأذبحن الشاة، لأطبخنها، إلى غير ذلك من الصور.
وأما ما استدل به، فإنه قال: إذا كان العطف بما يقتضي ترتيبها، فالصرف إلى جميع المتقدمين فيه بعض النظر والغموض، فإن انصراف الاستثناء إلى الذين يليهم الاستثناء مقطوع به، وانعطافه على جميع السابقين. والعطف بالحرف المرتب محتمل، غير مقطوع به، وإذا ثبت الاستحقاق بلفظ الواقف نصا ولم يثبت ما يغيره؛ وجب تقرير الاستحقاق، ولم يجز تغييره لمحتمل متردد، فنقول: الجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا بعينه موجود في العطف بالواو، فإن انعطافه على جميع السابقين محتمل غير مقطوع، سواء كان العطف بحرف مرتب أو مشترك غير مرتب، وهذا بعينه دليل من أوجب قصر الاستثناء على الجملة الأخيرة فيه؛ كنا قد عملنا بالأصل النافي للاشتراك، وبالأصل النافي للمجاز في صور التفاوت، وهو أولى من تركه مطلقًا.
وإذا ثبت أن عود الاستثناء إلى جميع الجمل نص بمعني أنه ظاهر اللفظ فهو المطلوب، وليس الغرض هنا تقرير هذه المسألة، وإنما الغرض التنبيه على مواضع المنع.
وهذا البحث الذي ذكره وارد في كل تخصيص متصل، فإنه ليس المحافظة على عموم المخصوص بأولى من المحافظة على عموم المخصص، بل هذا أولي؛ لأنه عام باق على عمومه؛ ولأن ذكر التخصيص عقب كل جملة مستقبح، فلو قال: وقفت على أولادي على أنه من مات منهم عن ولد أو عن غير ولد. كان نصيبه لولده أو لذوي طبقته، ثم على ولد ولدي على هذا الشرط، ثم على ولد ولد ولدي على هذا الشرط. لعد هذا من الكلام الذي غيره أفصح منه وأحسن.
ثم يقال لمن نازعنا: ومعلوم قطعًا أن عامة الواقفين يقصدون الاشتراط في جميع الطبقات، ولا يعبرون بهذه العبارة المستغربة، بل يقتصرون على ما ذكره أولا، فلولا أن ذلك كافٍ في تبليغ ما في نفوسهم لما اقتصروا عليه، والله يشهد وكفي بالله شهيدًا أنا نتيقن أن الكلام في مسألتنا يقيني، وأنه ليس من مسالك المظنون، لكن في قدرة الله سبحانه أن يجعل اليقين عند قوم جهلا عند آخرين، ويعد الكلام على هذا تكلفًا. ولولا أن الحاجة مست إلى ذلك بظن من يظن أن لمن ينازع في هذه المسألة متعلقًا، أو أنها مسألة من مسائل الاجتهاد لما أطلنا هذه الإطالة.
فإن قيل: الذي يرجح عود الضمير إلى الجملة الأخيرة هنا: أن الجملة الأخيرة عطفت بالواو، وعطف عليها بالواو، فاقتضي ذلك مخالفتها لحكم الأولى في الترتيب؛ إذ الوقف هاهنا مشترك بين البطون، فلم يبق بينها وبين الأولى من الأحكام إلا مسمي الوقفية على الجميع، والكيفية مختلفة، فاقتضي ذلك استقلالها بنفسها، واختصاصها بما يعقبها، فإنه إذا تخلل الجمل ال
فصل بشرط كل جملة أوجب ذلك اختصاص الشرط الأخير، وما ذاك إلا لاختلاف الأحكام حينئذ. والاختلاف موجود هاهنا.
قيل عنه وجوه:
أحدها: أن قوله: عطفت بالواو، وعطف عليها بالواو. يقتضي أنها هي لفظ النسل، فإن كان لفظ النسل والعقب بمعني واحد، فلم يعطف عليها في المعنى شيء. وإن كانا بمعنيين فيجب أن يكون الضمير عائدًا إلى الجملة المعطوفة؛ لا المعطوف عليها.
الثاني: قوله: فاقتضي ذلك مخالفتها للأولى في حكم الترتيب. قد تقدم منع ذلك، وذكرنا أن من الفقهاء من يجعل هذا الوقف مرتبًا إلى يوم القيامة، فإن قوله: ثم على أولاد أولاده، ونسله وعقبه. لم يتعرض فيه للترتيب بنفي ولا إثبات، لكن لما كان الأصل عدم الترتيب نفيناه عند الانطلاق، فلما رتب هنا في كلامه الأول مع العلم بأن العاقل لا يفرق في مثل هذا، بل يكتفي بما ذكره أولا كان إعادة الشرط تسمح؛ ولكن غرضنا هنا تقرير هذا.
الثالث: لو سلمنا أنه يوجب الاشتراك بين المعطوف، فلا يوجب ذلك اختلافهما في الحكم الذي اشتركا فيه بحرف العطف، فإن غاية ما في هذا أنه جعل البطن الرابع وما بعده طبقة واحدة، كما جعل في البطن الأول ولد الكبير والصغير، والولد الكبير والصغير طبقة واحدة، ولم يرتب بعضهم على بعض باعتبار الأسنان، فقوله: فاقتضي ذلك مخالفتها لحكم الأولى في الترتيب. فيه إبهام، فإنه إن عني به أن هذه الجملة بالنسبة إلى أفرادها مخالفة لتلك الجمل، فليس كذلك، بل جملة، فإنها حاوية لأفرادها على سبيل الاشتراك، لا على سبيل الترتيب. وإن عني به أن هذه الجملة لم يرتب عليها غيرها، فالجملة الأولى لم تترتب على غيرها، وهذا إنما جاء من ضرورة كونها آخر الجمل، وليس ذلك بفرق مؤثر، كما لم يكن كون الأولى غير مرتبة فرقًا مؤثرًا.
وإن عني به أن هذه الجملة مشتملة على طبقات متفاوتة بخلاف الجمل الأولي، فذلك فرق لا يعود إلى دلالة اللفظ ولا إلى الحكم المدلول عليه باللفظ، مع أن الجمل الأولى قد يحصل فيها من التفاوت أكثر من ذلك، فقد يكون أولاد الأولاد عشرين بين الأول والآخر سبعون سنة، ويكون للأول أولاد قبل وجود إخوته فيموت أولاده، وأولاد أولاده، وأولاد أولاد أولاده قبل انقراض إخوته، وربما لم يكن قد بقي من النسل والعقب إلا نفر يسير، فينقرضون، ثم هذه فروق عادت إلى الموجود، لا إلى دلالة اللفظ.
الرابع: قوله: فلم يبق بينها وبين الأولى من الأحكام إلا مسمي الوقفية. قيل: ليس بينهما فرق أصلا، بل تناول الجملة الأولى لأفرادها كتناول الثانية لأفرادها، لكن الجملة الثانية أكثر في الغالب، وهذا غير مؤثر. وقوله: الكيفية مختلفة. ممنوع، فإن كيفية الوقف على الأولاد مثل كيفية الوقف على النسل والعقب، يشترك هؤلاء فيه، وهؤلاء فيه.
الخامس: لو سلم أن بينهما فرقًا خارجًا عن دلالة اللفظ، فذلك لا يقدح في اشتراكهما في العطف، فإن هذا الاختلاف في الكيفية لو كان صحيحًا كان بمنزلة قوله: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } [50]، فإن ذوق الميت يختلف اختلافًا متباينًا، لكن هذا الاختلاف لا دلالة للفظ عليه، فلم يمنع من الاشتراك الذي دل عليه العموم.
السادس: أن الكيفية المختلفة مدلول عليها بالعطف، وذلك لا يوجب الاستقلال والاختصاص بما يعقبها، كما لو قال: وقفت على أولادي الذكور والإناث، وأولادي بني، وأولاد أولاد أولادي، على أنه من توفى منهم، وإنما الفصل الذي يقطع الثانية عن الأولى أن يفصل بين الجملتين بشرط، مثل أن يقول: وقفت على أولادي على أن يكونوا فقراء، ثم على أولاد أولادي على أن يكونوا عدولا. فإن الشرط الثاني مختص عما قبله؛ لكون الأول قد عقب بشرطه، والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بشرط يفصله عن مشاركة الثاني في جميع أحكامه، بخلاف ما إذا كان الاختلاف من غير فصل لفظي.
السابع: قوله: وما ذاك إلا لاختلاف الأحكام. قلنا: لا نسلم، بل إنما ذاك لأجل الفصول اللفظية المانعة من الاشتراك فيما ذكر من الأحكام للفظ. أما إذا كان الفرق بين المعطوف والمعطوف عليه لمعني يرجع إلى لفظ المعطوف، فهذا شأن كل معطوف ومعطوف عليه من جنسين، وفرق بين أن يفصل بين الجملتين بشرط مذكور، وبين أن يكون مفهوم لفظ إحدى الجملتين غير مفهوم الأخري. وهذا بين لمن تدبره.
فإن قيل: هنا مرجح ثان، وهو أن جعله مختص بالجملة الأخيرة يفيد ما لم يدل اللفظ عليه، وهو منع اشتراك النسل في نصيب من مات عن غير ولد، فإنه لولا هذا الشرط لاشتركوا في جميع حقهم المتلقي عمن فوقهم، وعمن مات عن ولد أو غير ولد، بخلاف ما إذا عاد إلى جميع الجمل فإنه يكون مؤكدًا فقط؛ فإنا كنا نجعل نصيب الميت عن غير ولد لطبقته.
قيل عنه وجوه:
أحدها: أنا قدمنا أن هذه الفائدة باطلة، فإن العاقل لا يقول: هؤلاء أعلاهم وأسفلهم مشتركون في الوقف، فمن مات عن غير ولد اختص بنصيبه إخوته، دون آبائه وأعمامه. ومن مات عن ولد لم يختص بنصيبه أحد، لا ولده ولا غيره، فإن هذا لم يفعله أحد، ولا يفعله من يستحضره فإنه بمنزلة من يقول: أعطوا البعيد منى ومن الميت، واحرموا القريب منى ومن الميت. وقول القائل: يقصد مثل هذا في العادات، فما علمنا أحدًا قصد هذا.
الثاني: أنا قد منعنا كون هذا مقتضاه التشريك، فتبطل الفائدة.
الثالث: أن في عوده إلى جميع الجمل فوائد:
أحدها: أنه يدل بنطقه على نقل نصيب الميت عن غير ولد إلى ذوي طبقته، وتنبيهه الذي هو أقوي من النطق على نقل نصيب المتوفي عن ولد إلى ولده، كما تقدم ذكره.
الفائدة الثانية: أن قوله: على أولاده، ثم أولاد أولاده إلى قوله: دائمًا ما تناسلوا، وأبدًا ما تعاقبوا. يقتضي استحقاق ذريته للوقف، فإذا مات الميت وليس له إلا ذوي طبقته، وأولاد أولاده؛ أفاد الشرط إخراج الطبقة، فيبقي الأولاد داخلين في اللفظ الأول مع الثاني. فمجموع قوله: على أولادي ثم أولادي، مع قوله: على أن نصيب الميت عن غير ولد ينتقل إلى إخوته. دلنا على أن نصيب الميت عن ولد ينتقل إلى ولده؛ لأنهم في عموم قوله: أولاد أولادي، ودخلت الطبقة في العموم، فلما خرجت الطبقة بالشرط بقي ولد الولد. وهكذا كل لفظ عام لنوعين أخرج أحدهما فإنه يتعين الآخر. وهذه دلالة ثانية على انتقال نصيب الميت عن ولد إلى ولده من جهة اللفظ العام الذي لم يبق فيه إلا هم، وهي غير دلالة التنبيه.
وإن شئت عبرت عن ذلك بأن تقول: نصيب الميت إما للأولاد، أو لأولاد الأولاد، كما دل على انحصار الوقف فيهما قوله: على أولادي، ثم على أولادهم: فكما منع الأولاد أن ينتقل إليهم نصيب الميت عن ولد؛ تعين أن يكون للنوع الآخر.
يبقي أن يقال: فقد يكون هناك من ليس من الطبقة، ولا من الولد. قلنا: إذا ظهرت الفائدة في بعض الصور حصل المقصود، وهي صورة مسألتنا، فإنا لم نتكلم إلا في نصيب الميت: هل يصرف إلى إخوته أو ولده؟ أما لو كان للميت عم مثلا فنقول: حرمان طبقة الميت تنبيه على حرمان من هم أبعد عنه، فإن طبقته لم يحرمهم لبعدهم من الوقف، فإن الولد أبعد منهم. وقد بينا أن ذلك يقتضي إعطاء الولد في أكثر الصور، فعلم أنه حرمهم لبعدهم عن الميت. وهذا المعني في أعمام الميت أقوي، فيكونون بالمنع مع الولد أحرى.
الفائدة الثالثة: أنه دليل على أنه قصد ترتيب الأفراد على الأفراد، لا ترتيب المجموع على المجموع، كما لو قال: على أنه من مات منهم عن ولد كان نصيبه لولده.
فإن قيل: هذا حمل اللفظ الواحد على مفهومين مختلفين، فإن فائدته في الأول بيان ترتيب الأفراد على الأفراد، وفي الثاني بيان اختصاص الطبقة بنصيب المتوفى، فمن منع من أن يراد باللفظ الواحد حقيقتان، أو مجازان، أو حقيقة ومجاز يمنع منه، ومن جوزه. قلنا: على هذا التقدير إذا ثبت أمر بلفظ الواقف نصًا لم يجز تغييره بمحتمل متردد. قيل: هذا السؤال ضعيف جدًا لوجوه:
أحدها: أن مورده جعله مقررًا لوجه ثان في بيان عود الضمير إلى الجملة الأخيرة، غير ما ذكر أولا عن عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة، ثم إنه في آخر الأمر على قول المجوزين لأن يراد باللفظ الواحد معنياه اعتمد على ذلك الجواب، فما صار وجهًا آخر.
الثاني: أنا نقول: هذا مبني على أن الشرط أفاد في الطبقة الأخيرة عدد نصيب المتوفى عن غير ولد إلى ذوي طبقته، والمتوفى عن ولد يشترك فيه جميع الطبقة، وهذا ممنوع من وجهين تقدمًا.
الثالث: لو سلمنا ذلك، فليس هذا من باب استعمال اللفظ في معنيين مختلفين، إنما هو من باب استعمال اللفظ الواحد في معني واحد، وذلك معدود من الألفاظ المتواطئة، وذلك أن فائدة اللفظ بمنطوقه نقل نصيب المتوفى عن غير ولد إلى طبقته، وهذه فائدة متجددة في جميع الجمل، ثم إن تقيد الانتقال إلى الطبقة بوجود الولد دليل على أنه عنا ترتيب الأفراد، وهذه دلالة لزومية، واللفظ إذا دل بالمطابقة على معني وبالالتزام على معنى آخر لم يكن هذا من القسم المختلف فيه، كعامة الألفاظ، فإن كونه دليلا على ترتيب الأفراد إنما جاء من جهة أنه شرط في استحقاق الطبقة نصيب المتوفى عدم ولده، ثم علم بالعقل أنه لو قصد ترتيب المجموع لم يشرطه بهذا الشرط، فإن ترتيب المجموع واشتراط هذا الشرط متنافيان، وكون هذين المعنيين يتنافيان قضية عقلية فهمت بعد تصور كل واحد من المعنيين؛ لأن أحد اللفظين دل عليهما بالوضع، وهذا كما فهموا من قوله: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } [51]، مع قوله تعالى: { يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [52]، أن أقل الحمل ستة أشهر، ونظائره كثيرة.
الرابع: لو فرض أن هذا من باب استعمال اللفظ الواحد في معنييه، فلا نسلم أن منع ذلك هو الحق، بل ليس ذلك مذهب أحد من الأئمة المعتبرين، وإنما هو قول طائفة من المتكلمين، والذي يدل عليه كلام عامة الصحابة والتابعين وعامة الفقهاء وعامة أهل اللغة وأكثر المتكلمين جواز ذلك، فلم لا يجوز أن يحمل كلامه على ما يعتقد هو صحته ويناظر عليه؟
الخامس: أن ما ادعوه من أن النص لا يدفع بمحتمل، تقدم جوابه، وبينا أنه لا نص هنا، بل يدفع المحتمل بالنص، وذكرنا أن هذا البحث هو المنصوص عن الأئمة الكبار.
الفائدة الرابعة: أنه قصد بهذا الشرط نفي انقطاع الوقف، ونفي اشتراك جميع أهل الوقف في نصيب المتوفى عن غير ولد، ونبه بذلك على أنه عني بقوله: عن ولده. ترتيب الأفراد.
فإن قيل: عوده إلى جميع الجمل يوجب انقطاع الوقف في الوسط، فحمل اللفظ على ما ينفي الانقطاع أولي؛ لأن من مات عن ولد لا يصرف نصيبه إلى الطبقة عملا بموجب الشرط، ولا إلى الولد عملا بموجب الترتيب المطلق.
فإن قلتم: إذا جعلناه مبنيا لترتيب الأفراد لم يكن موجبًا للانقطاع، فنجيب عنه بالبحث المتقدم، وهو أن استحقاق الطبقة مستحق لظاهر اللفظ، فلا يترك بمتردد محتمل.
قيل أولا: هذا الوجه لا يتم إلا بهذا البحث، وهو إنما ذكر ليكون مؤيدًا له، والمؤيد للشيء يجب أن يكون غيره، ولا يكون معتمدًا عليه، فإذا كان الوجه لا يتم إلا بذلك البحث كانت صحته موقوفة على صحته، والفرع لا يكون أقوي من أصله، ولا يكسبه قوة، بل يكون تقوية ذلك الوجه به تقوية الشيء بنفسه، وهذا نوع من المصادرة. وإذا كان هذا مبنيا على ذلك الوجه، وقد أجبنا عنه فيما مضي فقد حصل الجواب عن هذا.
ثم نقول: الانتفاع ينتفي من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الوقف محصور في الأولاد ثم أولادهم، فإذا مات الميت عن ولد فنصيبه إما لإخوته، أو لبنيهم، أو لبنيه، أو لعمومته؛ لأن الشرط يقتضي انحصار الوقف في الأولاد، ثم أولاد الأولاد، وهم إما ذو طبقته، أو من هو أعلى منه، عمومته ونحوهم، فإنه لا يستحق شيئا مع وجود أبيه، ومن هو أسفل منه: ولده وولد إخوته، وطبقتهم. فأما طبقته فانتفوا بالقيد المذكور في استحقاقهم، وأما بنوهم فانتفوا لثلاثة أسباب:
أحدها: بطريق التنبيه، فإن أباهم أقرب إلى الميت وإلى الواقف، فإذا لم ينقل إلى الأقرب فإلى الأبعد أولى.
والثاني: أنه سواء عني بالترتيب ترتيب المجموع، أو ترتيب الأفراد، لا يستحقون في هذه الحال، فإن الطبقة العليا لم تنقرض، وآباؤهم لم يموتوا.
الثالث: أنهم في هذه الحال ليسوا من أهل الوقف، ولم ينتقل إليهم ما هم أصل فيه، فلا ينتقل إليهم ما هم فروع فيه، وأما العمومة فإنه لا يتصور أن يستحق الميت شيئا مع وجود عمومته إلا على قولنا، ففرض هذه الصورة على رأي المنازع محال. وإذا كان وجود العمومة مستلزمًا لصحة هذا القول، فمحال أنه يستلزم ذلك ما يفسده، فإن الشيء الواحد لا يستلزم صحة الشيء وفساده، لكن يقال: قد كان الميت أولا لم يخلف إلا أخوة وولدًا، ثم مات ولده عن ولد وأعمامه. فنقول: حرمان الإخوة مع الولد تنبيه على حرمان العمومة، وهذا حقيقة الجواب: أن نفي إخوته تنبيه على نفي عمومته كما تقدم.
الوجه الثاني: النافي للانقطاع: أن إعطاء الإخوة نصيب الميت دون سائر أهل الوقف تنبيه على إعطاء الولد كما تقدم.
الثالث: أن ذلك دليل على أن الترتيب المتقدم؛ ترتيب الأفراد على الأفراد. وقد قدمنا تقرير هذا.
والله سبحانه يوفقنا لما يحبه ويرضاه. والحمد لله رب العالمين، وصلي الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
سئل عن وقف على أربعة أنفس يجري عليهم للذكر مثل حظ الأنثيين
وسئل رحمه الله عن وقف على أربعة أنفس: عمرو، وياقوتة، وجهمة، وعائشة، يجري عليهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فمن توفى منهم عن ولد، أو ولد ولد، أو عن نسل وعقب وإن سفل، عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على ولده، ثم على ولد ولده، ثم على نسله وعقبه، ثم من بعده وإن سفل، بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ومن توفى منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب عاد نصيبه وقفًا على إخوته الباقين، ثم على أنسالهم وأعقابهم بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، على الشرط والترتيب المقدم ذكرهما، فإذا لم يبق لهؤلاء الإخوة الموقوف عليهم نسل ولا عقب، أو توفوا بأجمعهم ولم يعقبوا ولا واحدًا منهم عاد ذلك وقفًا على الأسارى، ثم على الفقراء، ثم توفى عمر عن فاطمة، وتوفيت فاطمة عن عيناشي ابنة إسماعيل بن أبي يعلى، ثم توفيت عيناشي عن غير نسل ولا عقب، ولم يبق من ذرية هؤلاء الأربعة إلا بنت إسماعيل بن أبي يعلى، وكلاهما من ذرية جهمة. فهاتان الجهتان اللتان تليهما عيناشي بعد موت أبيها: هل ينتقل إلى أختها رقية أو إليها، أو إلى ابنة عمها صفية؟
فأجاب:
هذا النصيب الذي كان لعيناشي من أمها ينتقل إلى ابنتي العم المذكورتين، ولا يجوز أن تخص به أختها لأبيها؛ لأن الواقف ذكر: أن من توفى من هؤلاء الإخوة الموقوف عليهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب عاد نصيبه وقفًا على إخوته، ثم على أنسالهم وأعقابهم على الشرط والترتيب المقدم ذكرهما. وهذه العبارة تعم من انقطع نسله أولا وآخرًا، فكل من انقطع نسله من هؤلاء الإخوة كان نصيبه لإخوته، ثم لأولادهم؛ لأن الواقف لو لم يرد هذا لكان قد سكت عن بيان حكم من أعقب أولا ثم انقطع عقبه ولم يبين مصرف نصيبه، وذلك غير جائز؛ لأنه إنما نقل الوقف إلى الأسرى والفقراء إذا لم يبق له ولا لموقوف عليهم نسل ولا عقب، فمتى أعقبوا ولو واحدًا منهم لم ينتقل إلى الأسرى شيء، ولا إلى الفقراء، وذلك يوجب أن ينتقل نصيب من انقطع نسله منهم إلى الإخوة الباقين، وهو المطلوب.
وأيضًا، فإنه قسم حال المتوفى من الأربعة الموقوف عليهم إلى حالين: إما أن يكون له ولد، أو نسل، وعقب، أو لا يكون، فإن كان له انتقل نصيبه إلى الولد، ثم إلى ولد الولد، ثم إلى النسل والعقب، وإن لم يكن انتقل إلى الإخوة، ثم إلى أولادهم، فينبغي أن يعم هذا القسم ما لم يدخل في القسم الأول ليعم البيان جميع الأحوال؛ لأنه هو الظاهر من حال المتكلم؛ ولأنه لو لم يكن كذلك لزم الإهمال والإلغاء وإبطال الوقف على قول، ودلالة الحال تنفي هذا الاحتمال. وإذا عم ما لم يدخل في القسم الأول دخل فيه من لا ولد له ومن لا ولد لولده ومن لا عقب له، وإذا كان كذلك، فأي هؤلاء الأربعة لم يكن له عقب كان نصيبه لإخوته ثم لعقبه.
وأيضًا، فإن الواقف قد صرح بأن من مات منهم عن غير عقب انتقل نصيبه إلى إخوته، ثم إلى أولادهم. وهذا المقصود لا يختلف بين ألا يخلف ولدًا أو يخلف ولدًا ثم يخلف ولده ولدًا، فإن العاقل لا يقصد الفرق بين هاتين الحالتين؛ لأن التفريق بين المتماثلين قد علم بمطرد العادة أن العاقل لا يقصده، فيجب ألا يحمل كلامه عليه، بل يحمل كلامه على ما دل عليه دلالة الحال والعرف المطرد إذا لم يكن في اللفظ ما هو أولى منه، وإذا كان انقطاع النسل أولا وآخرًا سواء بالنسبة إلى الانتقال إلى الإخوة وجب حمل الكلام عليه.
واعلم أن من أمعن النظر علم قطعًا أن الواقف إنما قصد هذا بدلالة الحال واللفظ سائغ له، وليس في الكلام وجه ممكن هو أولى منه، فيجب الحمل عليه قطعًا.
وأيضًا، فإن الوقف يراد للتأبيد، فيجب بيان حال المتوفى في جميع الطبقات، فيكون قوله: ومن توفى منهم عن غير ولد ولا ولد ولد، ولا نسل ولا عقب. في قوة قوله: ومن كان منهم ميتًا ولا عقب له؛ لأن عدم نسله بعد موته بمنزلة كونهم معدومين حال موته، فلا فرق في قوله هذا وقوله: ومن مات منهم ولا ولد له، وقوله: ومن مات منهم ولم يكن له ولد. وهذه العبارة وإن كان قد لا يفهم منها إلا عدم الذرية حين الموت في بعض الأوقات، لكن اللفظ سائغ؛ لعدم الذرية مطلقًا، بحيث لو كان المتكلم قال: قد أردت هذا لم يكن خارجًا عن حد الإفهام، وإذا كان اللفظ سائغًا له، ولم يتناول صورة الحادثة إلا هذا اللفظ، وجب إدراجها تحته؛ لأن الأمر إذا دار بين صورة يحكم فيها بما يصلح له لفظ الواقف ودلالة حاله وعرف الناس؛ كان الأول هو الواجب بلا تردد.
إذا تقرر هذا: فعم جد عيناشي هو الآن متوفٍ عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب، فيكون نصيبه لإخوته الثلاثة على أنسالهم وأعقابهم. والحال التي انقطع فيها نسله لم يكن من ذريته إلا هاتان المرأتان، فيجب أن تستويا في نصيب عيناشي. وهكذا القول في كل واحد انقطع نسله، فإن نصيبه ينتقل إلى ذرية إخوته، إلا أن يبقي أحد من ذرية أبيهم الذي انتقل إليه الوقف منه، أو من ذرية أمه التي انتقل إليه الوقف منها، فيكون باقي الذرية هم المستحقين لنصيب أمهم أو أبيهم؛ لدخولهم في قوله: فمن توفى منهم عن ولد أو ولد ولد.
واعلم أن الكلام إن لم يحمل على هذا كان نصيب هذا وقفًا منقطع الانتهاء؛ لأنه قال: فمن توفى منهم عن ولد كان نصيبه لولده، ثم لولد ولده، ثم لنسله وعقبه. ولم يبين بعد انقراض النسل إلى من يصير، لكن بين في آخر الشرط أنه لا ينتقل إلى الأسرى والفقراء حتى تنقرض ذرية الأربعة، فيكون مفهوم هذا الكلام صرفه إلى الذرية، وهاتان من الذرية، وهما سواء في الدرجة، ولم يبق غيرهما، فيجب أن يشتركا فيه، وليس بعد هذين الاحتمالين إلا أن يكون قوله: ومن توفى منهم. عائدًا إلى الأربعة وذريتهم.
فيقال حينئذ: عيناشي قد توفيت عن أخت من أبيها وابنة عم، فيكون نصيبها لأختها، وهذا الحمل باطل قطعًا، لا ينفذ حكم حاكم إن حكم بموجبه؛ لأن الضمير أولا في قوله: فمن توفى منهم. عائد إلى الأربعة، فالضمير في قوله: ومن توفى منهم. عائد ثانيا إلى هؤلاء الأربعة؛ لأن الرجل إذا قال: هؤلاء الأربعة من فعل منهم كذا فافعل به كذا وكذا؛ ومن فعل منهم كذا فافعل لولده كذا، علم بالاضطرار أن الضمير الثاني هو الضمير الأول، ولأنه قال: ومن توفى منهم عن غير ولد عاد نصيبه إلى إخوته الباقين. وهذا لا يقال إلا فيمن له إخوة تبقي بعد موته، وأنا نعلم هذا في هؤلاء الأربعة؛ لأن الواحد من ذريتهم قد لا يكون له إخوة باقون، فلو أريد بذلك المعني لقيل: على إخوته إن كان له إخوة. أو قيل: ومن مات منهم عن إخوة، كما قيل في الولد: ومن مات منهم عن ولد. وهذا ظاهر لا خفاء به.
وأيضًا، فلو فرض أن من مات من أهل الوقف عن إخوة كان نصيبه لإخوته، فإنما ذلك في الإخوة الذين شركوه في نصيب أبيه وأمه، لا في الإخوة الذين هم أجانب عن النصيب الذي خلفه على ما هو مقرر في موضعه من كتب الفقه على المذاهب المشهورة وهذا النصيب إنما تلقته عيناشي من أمها. وأختها رقية أجنبية من أمها؛ لأنها أختها من أبيها فقط، فنسبة أختها لأبيها وابنة عمها إلى نصيب الأم سواء. وهذا بين لمن تأمله. والله أعلم.
سئل عن واقف وقف وقفا على ولديه بالسوية نصفين
وسئل عن واقف وقف وقفًا على ولديه: عمر، وعبد الله، بينهما بالسوية نصفين، أيام حياتهما، أبدًا ما عاشا، دائمًا ما بقيا، ثم على أولادهما من بعدهما، وأولاد أولادهما، ونسلهما، وعقبهما، أبدًا ما تناسلوا، بطنًا بعد بطن، فتوفى عبد الله المذكور وخلف أولادًا، فرفع عمر ولد عبد الله إلى حاكم يري الحكم بالترتيب، وسأله رفع يد ولد عبد الله عن الوقف، وتسليمه إليه، فرفع يد ولد عبد الله، وسلمه إلى عمر بحكم أنه من البطن الأول، فهل يكون ذلك الحكم جاريا في جميع البطون أم لا؟ ثم إن عمر توفى وخلف أولادًا، فوضعوا أيديهم على الوقف بغير حكم حاكم، فطلب ولد عبد الله من حاكم يري الحكم بالتشريك بينهم في الوقف تشريكهم؛ لأن الواقف جمع بين الأولاد والنسل والعقب في الاستحقاق بعد عبد الله وعمر بالواو الذي يقتضي التشريك؛ دون الترتيب. وأن قوله: بطنًا بعد بطن لا يقتضي الترتيب، فهل الحكم لهم بالمشاركة صحيح أم لا؟ وهل حكم الأول لعمر بالتقديم على ولد عبد الله مناقضًا للحكم بالتشريك بين أولاد عمر وأولاد عبد الله؟ وهل لحاكم ثالث أن يبطل هذا الحكم والتنفيذ؟
فأجاب:
مجرد الحكم لأحد الأخوين الأولين بجميع الوقف بعد موت أخيه المتوفى لا يكون جاريا في جميع البطون، ولا يكون حكمًا لأولاده بما حكم له به، فإن قوله: ثم على أولادهما. هل هو لترتيب المجموع على المجموع، أو لترتيب الأفراد على الأفراد، بحيث ينتقل نصيب كل ميت إلى ولده؟ فيه قولان للفقهاء. وكذلك قوله: وأولادهما من بعدهما بطنًا بعد بطن. هل هو للترتيب أو للتشريك؟ فيه قولان. فإذا حكم الحاكم باستحقاق عمر الجميع بعد موت عبد الله كان هذا لاعتقاده لترتيب المجموع على المجموع، فإذا مات عمر فقد يري ذلك الحاكم الترتيب في الطبقة الأولى فقط، كما قد يشعر به ظاهر اللفظ، وقد يكون يري أن الترتيب في جميع البطون، لكن ترتيب الجميع على الجميع، ويشرك كل طبقة من الطبقتين في الوقف دون من هو أسفل منها، وقد يري غيره وأنه بعد ذلك لترتيب الأفراد، فإذا حكم حاكم ثان فيما لم يحكم فيه الأول بما لا يناقض حكمه لم يكن نقضًا لحكمه، فلا ينقض هذا الثاني إلا بمخالفة نص أو إجماع. والله أعلم.
سئل عمن وقف وقفا على ابن ابنه فلان ثم على أولاده
وسئل رَضي الله عَنهُ عمن وقف وقفًا على ابن ابنه فلان، ثم على أولاده، واحدًا كان أم كثر، ثم على أولاد أولاده، ثم نسله، وعقبه. فمن توفى منهم عن ولد أو ولد ولد أو عن نسل وعقب عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على من معه في درجته، فتوفى الأول عن أولاد، توفى أحدهم في حياته عن أولاد، ثم مات الأول وخلف بنته وولدي ابنه، فهل تأخذ البنت الجميع؟ أو ينتقل إلى ولدي الابن ما كان يستحقه أبوهما لو كان حيا؟
فأجاب:
بل النصيب الذي كان يستحقه محمد الميت في حياة أبيه لو عاش ينتقل إلى ولديه دون أخته، فإن الواقف قد ذكر أن قوله: على أولاده، ثم على أولاد أولاده، إنما أراد به ترتيب الأفراد على الأفراد لا ترتيب الجملة على الجملة بما بينه، وإن كان ذلك هو مدلول اللفظ عند الإطلاق على أحد القولين.
والحقوق المرتب أهلها شرعا أو شرطا إنما يشترط انتقالها إلى الطبقة الثانية عند عدم الأولي، أو عدم استحقاقها الاستحقاق الأولى أولا، كما يقول الفقهاء في العصب بالميراث أو النكاح: الابن، ثم ابنه، ثم الأب، ثم أبوه. فاستحقاق ابن الابن مشروط بعدم أبيه؛ لعدم استحقاقه لمانع يقوم به من كفر وغيره لا يشترط أن أباه يستحق شيئا لم ينتقل إليه، كذلك في الأم: النكاح، والحضانة، وولاية غسل الميت، والصلاة عليه.
وإنما يتوهم من يتوهم اشتراط استحقاق الطبقة الأولى؛ لتوهمه أن الوقف ينتقل من الأولى إليها، وتتلقاه الثانية عن الأولي، كالميراث، وليس كذلك، بل هي تتلقي الوقف عن الواقف، كما تلقته الأولي، وكما تتلقي الأقارب حقوقهم عن الشارع، لكن يرجع في الاستحقاق إلى ما شرطه الشارع والواقف من الترتيب.
سئل عمن وقف شيئا على زيد ثم على أولاد زيد الثمانية
وسئل رَحمه الله عن وقف إنسان شيئا على زيد، ثم على أولاد زيد الثمانية، فمات واحد من أولاد زيد الثمانية المعينين في حال حياة زيد، وترك ولدا، ثم مات زيد، فهل ينتقل إلى ولد ولد زيد ما استحقه ولد زيد لو كان حيا؟ أم يختص الجميع بأولاد زيد؟
فأجاب:
نعم يستحق ولد الولد ما كان يستحقه والده، ولا ينتقل ذلك إلى أهل طبقة الميت ما بقي من ولده وولد ولده أحد؛ وذلك لأن قول الواقف: على زيد، ثم على أولاده، ثم أولاد أولاده فيه للفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم عند الإطلاق قولان:
أحدهما: أنه لترتيب الجملة على الجملة، كالمشهور في قوله: على زيد وعمرو، ثم على المساكين.
والثاني: أنه لترتيب الأفراد على الأفراد، كما في قوله تعالى: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } [53]، أي: لكل واحد نصف ما تركته زوجته، وكذلك قوله: { حُرِّمَتْ عليكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [54]، أي: حرمت على كل واحد أمه؛ إذ مقابلة الجمع بالجمع تقتضي توزيع الأفراد على الأفراد، كما في قوله: لبس الناس ثيابهم، وركب الناس دوابهم.
وهذا المعني هو المراد في صورة السؤال قطعا؛ إذ قد صرح الواقف بأن من مات من هؤلاء عن ولد انتقل نصيبه إلى ولده، فصار المراد ترتيب الأفراد على الأفراد في هذه الصورة المقيدة بلا خلاف؛ إذ الخلاف إنما هو مع الإطلاق.
وإذا كان كذلك، فاستحقاق المرتب في الشرع والشرط في الوصية والوقف وغير ذلك، إنما يشترط في انتقاله إلى الثاني عدم استحقاق الأول، سواء كان قد وجد واستحق، أو وجد ولم يستحق، أو لم يوجد بحال، كما في قول الفقهاء في ترتيب العصبات، وأولياء النكاح، والحضانة وغيرهم، فيستحق ذلك الابن، ثم ابنه وإن سفل، ثم الأب ثم أبوه وإن علا، فإن الأقرب إذا عدم أو كان ممنوعا لكفر أو رق انتقل الحق إلى من يليه. ولا يشترط في انتقال الحق إلى من يليه أن يكون الأول قد استحق. وكذلك لو قال: النظر في هذا لفلان، ثم لفلان، أو لابنه. فمتى انتفي النظر عن الأول لعدمه أو جنونه أو كفره انتقل إلى الثاني، سواء كان ولدا أو غير ولد. وكذلك ترتيب العصبة في الميراث، وفي الإرث بالولاء، وفي الحضانة، وغير ذلك.
وكذلك في الوقف: لو وقف على أولاده طبقة بعد طبقة عصبتهم، وشرط أن يكونوا عدولا، أو فقراء أو غير ذلك، وانتفي شرط الاستحقاق في واحد من الطبقة الأولى أو كلهم؛ انتقل الحق عند عدم استحقاق الأولى إلى الطبقة الثانية إذا كانوا متصفين بالاستحقاق.
وسر ذلك: أن الطبقة الثانية تتلقي الوقف من الواقف، لا من الطبقة الأولي، لكن تلقيهم ذلك مشروط بعدم الأولي، كما أن العصبة البعيدة تتلقي الإرث من الميت، لا من العاصب القريب، لكن شروط استحقاقه عدم العاصب القريب. وكذلك الولاء في القول المشهور عند الأئمة يرث به أقرب عصبة الميت يوم موت المعتق؛ لأنه يورث كما يورث المال.
وإنما يغلط ذهن بعض الناس في مثل هذا حيث يظن أن الولد يأخذ هذا الحق إرثا عن أبيه أو كالأرث، فيظن أن الانتقال إلى الثانية مشروط باستحقاق الأولي، كما ظن ذلك بعض الفقهاء، فيقول: إذا لم يكن الأب قد ترك شيئا لم يرثه الابن. وهذا غلط؛ فإن الابن لا يأخذ ما يأخذ الأب بحال، ولا يأخذ عن الأب شيئا؛ إذ لو كان الأب موجودا لكان يأخذ الريع مدة حياته، ثم ينتقل إلى ابنه الريع الحادث بعد موت الأب، لا الريع الذي يستحقه، وأما رقبة الوقف فهي باقية على حالها: حق الثاني فيها في وقته نظير حق الأول في وقته، لم ينتقل إليهم إرثا.
ولهذا اتفق المسلمون في طبقات الوقف: أنه لو انتفت الشروط في الطبقة الأولى أو بعضهم لم يلزم حرمان الطبقة الثانية إذا كانت الشروط موجودة فيهم؛ وإنما نازع بعضهم فيما إذا عدموا قبل زمن الاستحقاق، ولا فرق بين الصورتين.
ويبين هذا: أنه لو قيل بانتقال نصيب الميت إلى إخوته لكونه من الطبقة؛ كان ذلك مستلزما لترتيب جملة الطبقة على الطبقة، أو أن بعض الطبقة الثانية أو كلهم لا يستحق إلا مع عدم جميع الطبقة الأولي. ونص الواقف يبين أنه أراد ترتيب الأفراد على الأفراد؛ مع أنا نذكر في الإطلاق قولين: الأقوي ترتيب الأفراد مطلقا؛ إذ هذا هو المقصود من هذه العبارة، وهم يختارون تقديم ولد الميت على أخيه فيما يرثه أبوه، فإنه يقدم الولد على الأخ. وإن قيل بأن الوقف في هذا منقطع، فقد صرح هذا الواقف بالألفاظ الدالة على الاتصال، فتعين أن ينتقل نصيبه إلى ولده.
وفي الجملة، فهذا مقطوع به، لا يقبل نزاعا فقهيا، وإنما يقبل نزاعا غلطا. وقول الواقف: فمن مات من أولاد زيد، أو أولاد أولاده وترك ولدا، أو ولد ولد وإن سفل، كان نصيبه إلى ولد ولده، أو ولد ولد ولده. يقال فيه: إما أن يكون قوله: نصيبه. يعم النصيب الذي يستحقه إذا كان متصفا بصفة الاستحقاق، سواء استحقه أو لم يستحقه، ولا يتناول إلا ما استحقه، فإن كان الأول فلا كلام وهو الأرجح؛ لأنه بعد موته ليس هو في هذه الحال مستحقا له؛ ولأنه لو كان الأب ممنوعا لانتفاء صفة مشروطة فيه مثلا مثل أن يشترط فيهم الإسلام أو العدالة أو الفقر؛ كان ينتقل مع وجود المانع إلى ولده، كما ينتقل مع عدمه، ولأن الشيء يضاف إلى الشيء بأدني ملابسة، فيصدق أن يقال: نصيبه بهذا الاعتبار؛ ولأن حمل اللفظ على ذلك يقتضي أن يكون كلام الواقف متناولا لجميع الصور الواقعة، فهو أولى من حمله على الإخلال بذكر البعض؛ ولأنه يكون مطابقا للترتيب الكلامي، وليس ذلك هو المفهوم من ذلك عند العامة الشارطين مثل هذا.
وهذا أيضا موجب الاعتبار والقياس النظري عند الناس في شروطهم إلى استحقاق ولد الولد الذي يكون يتيما لم يرث هو وأبوه من الجد شيئًا، فيري الواقف أن يجبره بالاستحقاق حينئذ، فإنه يكون لاحقا فيما ورث أبوه من التركة وانتقل إليه الإرث، وهذا الذي يقصده الناس موافق لمقصود الشارع أيضا؛ ولهذا يوصون كثيرآً بمثل هذا الولد.
وإن قيل: إن هذا اللفظ لا يتناول إلا ما استحقه كان هذا مفهوم منطوق خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، وإذا لم يكن له مفهوم كان مسكوتا عنه في هذا الموضع، ولكن قد يتناوله في قوله: على زيد، ثم على أولاده، ثم على أولاد أولادهم. فإنا ذكرنا أن موجب هذا اللفظ مع ما ذكر بعده من أن الميت ينتقل نصيبه إلى ولده صريح في أن المراد ترتيب الأفراد على الأفراد، والتقدير: على زيد، ثم على أولاده، ثم على ولد كل واحد بعد والده، وهذا اللفظ يوجب أن يستحق كل واحد ما كان أبوه مستحقه لو كان متصفا بصفة الاستحقاق، كما يستحق ذلك أهل طبقاته. وهذا متفق عليه بين علماء المسلمين في أمثال ذلك شرعا وشرطا، وإذا كان هذا موجب استحقاق الولد، وذلك التفصيل إما أن يوجب استحقاق الولد أيضا وهو الأظهر، أو لا يوجب حرمانه، فيقر العمل بالدليل السالم عن المعارض المقاوم. والله أعلم.
سئل عمن وقف وقفا على أولاده
وسئل رحمه الله عمن وقف وقفا على أولاده، فلان وفلان وفلان، وعلى ابن ابنه فلان، على أنه من توفى منهم عن ولد ذكر انتقل نصيبه إلى ولده، ومن مات عن بنت انتقل نصيبه إليها، ثم إلى أعمامها، ثم بني أعمامها الأقرب فالأقرب منهم، فمات ابن ابن عن غير ولد، وترك أخته من أبويه وأعمامه، فأيهم أحق؟
فأجاب:
ينتقل نصيبه إلى أخته لأبويه، فإنه قد ظهر من قصد الواقف تخصيص ما كان ينبغي أن يستحقه أصله، وتخصيص نصيب الميت عن غير ولد بالأقرب إليه، وأنه أقام موسى ابن الابن مقام ابنه؛ لأن أباه كان ميتا وقت الوقف. والله أعلم.
سئل عن قرية وقفها السلطان صلاح الدين
وسئل رَحمه الله عن قرية وقفها السلطان صلاح الدين، فجعل ريعها وقفا على شخص معين، ثم على أولاده من بعده، والنصف والربع على الفقراء، واستمر الأمر على هذه الصورة والقرية عامرة فلما كان سنة دخول قازان خربت هذه القرية واستمرت داثرة مدة ثماني سنين، فجاء رجل من المشائخ وأخذ توقيعا سلطانيا بتمكينه من أن يعمر هذه القرية، فعمرها وتوفى إلى رحمة الله، وخلف أيتاما صغارا فقراء لا مال لهم، فجاءت امرأة من ذرية الموقوف عليه صاحب الريع فأثبتت نسبها، وتسلمت ريع هذه القرية، واستمر النصف والربع على الفقراء بحكم شرط الواقف، وبقي أولاد الذي عمر القرية فقراء، فهل يجوز لهم أن يقبضوا كفايتهم في جملة الفقراء؟ أم لهم ما غرمه والدهم على تعميرها ما لم يستوف عوضه قبل وفاته؟
فأجاب:
إن كانوا داخلين في شروط الواقف، فإنهم يستحقون ما يقتضيه الشرط، وإن قدر تعذر الصرف إلى الموصوفين لتعذر بعض الأوصاف، فكان هؤلاء الأطفال مشاركين في الاستحقاق لمن يصرف إليه المال، فينبغي أن يصرف إليهم أيضا ما غرمه والدهم من القرية بالمعروف من ماله؛ ليستوفى عوضه، فإنهم يستوفونه من مغل الوقف.
سئل عن قسمة الوقف ومنافعه
وسئل رَحمه الله عن قسمة الوقف ومنافعه؟
فأجاب:
ما كان وقفا على جهة واحدة لم يجز قسمة عينه، وإنما يجوز قسمة منافعه بالمهايأة. وإذا تهايؤوا ثم أرادوا نقضها فلهم ذلك، وإذا لم يقع من المستحق أو وكيله فهي باطلة. والله أعلم.
وسئل عن وقف على جهة واحدة، فقسمه قاسم حنبلي، معتقدا جواز ذلك، حيث وجد في المختصرات: إنا إذا قلنا: القسمة إقرار جاز قسمة الوقف، ثم تناقل الشريكان بعض الأعيان، ثم طلب بعضهم نصيبه الأول من المقاسمة؟
فأجاب:
إذا كان الوقف على جهة واحدة، فإن عينه لا تقسم قسمة لازمة، لا في مذهب أحمد ولا غيره، وإنما في المختصرات لما أرادوا بيان فروع قولنا: القسمة إقرار أو بيع. فإذا قلنا: هي بيع لم يجز؛ لأن الوقف لا يباع. وإذا قلنا: هي إقرار جاز قسمته في الجملة. ولم يذكروا شروط القسمة كما جرت به العادة في أمثال ذلك. وقد ذكر طائفة منهم في قسمة الوقف وجهين، وصرح الأصحاب بأن الوقف إنما يجوز قسمته إذا كان على جهتين، فأما الوقف على جهة واحدة فلا تقسم عينه اتفاقا؛ لتعلق حق الطبقة الثانية والثالثة، لكن تجوز المهايأة على منافعه. والمهايأة: قسمة المنافع، ولا فرق في ذلك بين مناقلة المنافع وبين تركها على المهايأة بلا مناقلة، فإن تراضوا بذلك أعيد المكان شائعا كما كان في العين والمنفعة. والله أعلم.
سئل عن وقف على جماعة
وسئل عن وقف على جماعة، وأن بعض الشركة قد دفع في الفاكهة مبلغا، وأن بعض الشركة امتنع من التضمين والضمان، وطلب أن يأخذ ممن يشتريه قدر حصته من الثمرة، فهل يحكم عليه الحاكم بالبيع مع الشركة أم لا؟
فأجاب:
إذا لم تمكن قسمة ذلك قبل البيع بلا ضرر فعليه أن يبيع مع شركائه ويقاسمهم الثمن.
سئل عن وقف لمصالح الحرم وعمارته
وسئل عن وقف لمصالح الحرم وعمارته، ثم بعد ذلك يصرف في وجوه البر والصدقات، وعلى الفقراء والمساكين المقيمين بالحرم، فهل يجوز أن يصرف من ذلك على القوام والفراشين القائمين بالوظائف؟
فأجاب:
نعم القائمون بالوظائف مما يحتاج إليه المسجد، من تنظيف وحفظ، وفرش، وتنويره، وفتح الأبواب، وإغلاقها، ونحو ذلك، هم من مصالحه يستحقون من الوقف على مصالحه.
سئل عن رجل اشترى دارا ولم يكن في كتبه غير ثلاثة حدود
وسئل رَحمه اللهّ عن رجل اشترى دارا، ولم يكن في كتبه غير ثلاثة حدود، والحد الرابع لدار وقف، ثم إن الذي اشترى هدم الدار وعمرها، ثم إنه فتح الطاقة في دار الوقف يخرج النور منها إلى مخزن، وجعل إلى جنب الجدار سقاية مجاورة للوقف محدثة تضر حائط الوقف وبرز بروزا على دور قاعة الوقف، فإذا بني على دور القاعة، وجعل أخشاب سقف على الجدار الذي للوقف، وفعل هذا بغير إذن ولي الأمر، وذكر أنه استأجره كل سنة بثلاثة دراهم، وولي الأمر لم يؤجره إلى الآن، ولا المباشرون، ثم إن رجلا حلف بالله أنه يستأجر هذا الجدار، وهو بين الدور، وأزيل ما فعله من البروز والسقاية، ولم أحدث فيه عمارة إلا احتسابا للّه تعالى وأستأجره كل سنة بعشرين درهما، مدة عشرين سنة، حتى بقي دور قاعة الوقف نيرة، ولم تتضرر الجيرة بالعلو، فهل يجوز الإيجار للذي تعدي؟ أم للذي قصد المثوبة وزيادة للوقف بالأجرة إن أجره ولي الأمر المنفعة بالزيادة، ولإزالة الضرر عن الوقف؟
فأجاب:
ليس له أن يبني على جدار الوقف ما يضر به باتفاق الناس، بل وكذلك إذا لم يضر به عند جمهور العلماء، ودعواه الاستئجار غير مقبولة بغير حجة، ولو آجر إجارة فيها ضرر على الوقف لم تكن إجارة شرعية، ومن طلب استئجاره بعد هذا وكان ذلك مصلحة للوقف، فإنه يجوز، بل يجب أن يؤجر، وإذا كان له نية حسنة حصل له من الأجر والثواب بحسب ذلك. والله أعلم.
سئل عن وقف على جماعة
وسئل رَحمه الله عن رجل ساكن في خان وقف، وله مباشر لرسم عمارته وإصلاحه، وأن الساكن أخبر المباشر أن مسكنه يخشي سقوطه وهو يدافعه، ثم إن المباشر صعد إلى المسكن المذكور، ورآه بعينه، وركضه برجله، وقال: ليس بهذا سقوط، ولا عليك منه ضرر، وتركه ونزل، فبعد نزوله سقط المسكن المذكور على زوجة الساكن وأولاده، فمات ثلاثة، وعدم جميع ماله، فهل يلزم المباشر من مات، ويغرم المال الذي عدم أم لا؟
فأجاب:
على هذا المباشر المذكور الذي تقدم إليه وأخر الاستهدام ضمان ما تلف بسقوطه، بل يضمن، ولو كان مالك المكان إذا خيف السقوط وأعلم بذلك، وإن لم يكن المعلم له مستأجرا منه عند جماهير العلماء كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في المشهور، وطائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم، لكن بعضهم يشترط الإشهاد عليه، وأكثرهم لا يشترط ذلك، فإنه مفرط بترك نقضه وإصلاحه، ولو ظن أنه لا يسقط، فإنه كان عليه أن يري ذلك لأرباب الخبرة بالبناء، فإذا ترك ذلك كان مفرطا ضامنا لما تلف بتفريطه، لا سيما مع قوله للمستأجر: إن شئت فاسكن، وإن شئت فلا تسكن، فإن هذا عدوان منه.
فإن المستأجر له مطالبة المؤجر بالعمارة التي يحتاج إليه المكان، والتي هي من موجب العقد، وهذه العمارة واجبة من وجهين: من جهة حق أهل الوقف ومن جهة حق المستأجر. والعلماء متفقون على أنه ليس لناظر الوقف أن يفرط في العمارة التي استحقها المستأجر، فهذان التفريطان يجب عليه بتركهما ضمان ما يتلف بتفريطه، فيضمن مال الوقف للوقف، ويدخل في ذلك المنافع التي استحقها المستأجر؛ بخلاف ما لو كانت العين باقية، فإن له أن يضمنه إياها وله أن يفسخ الإجارة، وأما ما تلف بالتفريط من النفوس والأموال التي للمستأجر، فيضمن من هذه الوجوه الثلاثة، ويضمن ما تلف للجيران من الوجه الأول، كما ذهب إليه جماهير العلماء.
سئل عن مال موقوف على فكاك الأسرى
وسئل عن مال موقوف على فكاك الأسرى، وإذا استدين بمال في ذمم الأسرى بخلاصهم لا يجدون وفاءه: هل يجوز صرفه من الوقف؟ وكذلك لو استدانه ولي فكاكهم بأمر ناظر الوقف أو غيره؟
فأجاب:
نعم يجوز ذلك، بل هو الطريق في خلاص الأسرى، أجود من إعطاء المال ابتداء لمن يفتكهم بعينهم، فإن ذلك يخاف عليه، وقد يصرف في غير الفكاك، وأما هذا فهو مصروف في الفكاك قطعا. ولا فرق بين أن يصرف عين المال في جهة الاستحقاق، أو يصرف ما استدين، كما كان النبي ﷺ تارة يصرف مال الزكاة إلى أهل السهمان، وتارة يستدين لأهل السهمان ثم يصرف الزكاة إلى أهل الدين، فعلم أن الصرف وفاء كالصرف أداء. والله أعلم.
سئل عن رجل تحته حصة في حمام وهي موقوفة على الفقراء
وسئل عن رجل تحته حصة في حمام، وهي موقوفة على الفقراء والمساكين فخرب شيء من الحمام في زمان العدو، فأجر تلك الحصة لشخص مدة ثماني سنين بثمانمائة درهم، وأذن له أن يصرف تلك الأجرة في العمارة الضرورية في الحمام، فعمر المستأجر، وصرف في العمارة حتى صارت أجرة الحصة المذكورة، وذكر أنه فضل له على الوقف مال زائد عن الأجرة من غير إذن المؤجر، فهل يجوز له ذلك أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، إذا عمر عمارة زائدة عن العمارة الواجبة على الوجه المأذون فيها لم يكن على أهل الحمام أن يقوموا ببقية تلك العمارة الزائدة ولا قيمتها، بل له أن يأخذها إذا لم يضر أخذها بالوقف، وإذا كانت العمارة تزيد كراء الحمام، فاتفقوا على أن تبقي العمارة له، لا يعطونه بقيمتها، بل يكون ما يحصل من زيادة الأجرة بإزاء ذلك، جاز ذلك، وإن أراد أهل الوقف أن يقلعوا العمارة الزائدة، فلهم ذلك إذا لم تنقص المنفعة المستحقة بالعقد، وإن اتفقوا على أن يعطوه بقية العمارة ويزيدهم في الأجرة بقدر ما زاد من المنفعة جاز. والله أعلم.
سئل عن رجل تحته حصة في حمام وهي موقوفة على الفقراء
وسئل عن وقف على تكفين الموتى، يفيض ريعه كل سنة على الشرط: هل يتصدق به؟ وهل يعطي منه أقارب الواقف الفقراء؟
فأجاب:
إذا فاض الوقف عن الأكفان صرف الفاضل في مصالح المسلمين، وإذا كان أقاربه محاويج فهم أحق من غيرهم. والله أعلم.
سئل عن فقيه منزل في مدرسة ثم غاب مدة البطالة
وسئل عن فقيه منزل في مدرسة، ثم غاب مدة البطالة، فهل يحل منعه من الجامكية أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، إذا لم يغب إلا شهر البطالة، فإنه يستحق ما يستحقه الشاهد، لا فرق في أشهر البطالة بين أن يكون البطال شاهدا أو غائبا. والله أعلم.
سئل عن مقرئ على وظيفة
وسئل َعن مقرئ على وظيفة، ثم إنه سافر واستناب شخصا، ولم يشترط عليه، فلما عاد قبض الجميع، ولم يخرج من المكان، فهل يستحق النائب المشروط أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، نعم النائب يستحق المشروط كله، لكن إذا عاد المستنيب فهو أحق بمكانه. والله أعلم.
سئل عمن وقف وقفا مستغلا ثم مات
وسئل عمن وقف وقفا مستغلا ثم مات، فظهر عليه دين، فهل يباع الوقف في دينه؟
فأجاب:
إذا أمكن وفاء الدين مع ريع الوقف لم يجز بيعه، وإن لم يمكن وفاء الدين إلا ببيع شيء من الوقف وهو في مرض الموت بيع باتفاق العلماء. وإن كان الوقف في الصحة، فهل يباع لوفاء الدين؟ فيه خلاف بين العلماء في مذهب أحمد وغيره. ومنعه قول قوي.
سئل عن رجل قال في مرضه إذا مت فداري وقف فتعافى
وسئل رحمه الله عن رجل قال في مرضه: إذا مت فداري وقف على المسجد الفلاني، فتعافى، ثم حدث عليه ديون، فهل يصح هذا الوقف ويلزم أم لا؟
فأجاب:
يجوز أن يبيعها في الدين الذي عليه، وإن كان التعليق صحيحًا كما هو أحد قولي العلماء، وليس هذا بأبلغ من التدبير، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه باع المدبر في الدين. والله أعلم.
سئل عمن وقف وقفا على ضريح رسول الله
وسئل عمن وقف وقفًا على ضريح رسول الله ﷺ برسم شمع أو زيت، وذلك بعد موته، ثم إنه قصد أن يغير الوقف ويجعله على الفقراء والمساكين بالقاهرة، وإن لم يجز ذلك، فهل يجوز على الفقراء المجاورين بالمدينة مدينة رسول الله ﷺ أم لا؟
فأجاب:
أما الوصية بما يفعل بعد موته، فله أن يرجع فيها ويغيرها باتفاق المسلمين، ولو كان قد أشهد بها وأثبتها، سواء كانت وصىة بوقف أو عتق أو غير ذلك، وفي الوقف المعلق بموته والعتق نزاعان مشهوران. والوقف على زيت وشمع يوقد على قبر ليس برًا باتفاق العلماء، بل ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (لعن الله زَوَّارَات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرج).
وأما تنوير المسجد النبوي على المصلين وغيره فتنوير بيوت الله حسن، لكن إذا كان للمسجد ما يكفي تنويره لم يكن للزيادة التي لا فائدة فيها فائدة مشروعة، ولم يكن ذلك مصروفًا في تنويره، بل تصرف في غيره. والله أعلم.
سئل عن الوقف إذا فضل من ريعه واستغنى عنه
وسئل عن الوقف إذا فضل من ريعه واستغنى عنه؟
فأجاب:
يصرف في نظير تلك الجهة، كالمسجد إذا فضل عن مصالحه صرف في مسجد آخر؛ لأن الواقف غرضه في الجنس، والجنس واحد، فلو قدر أن المسجد الأول خرب ولم ينتفع به أحد صرف ريعه في مسجد آخر، فكذلك إذا فضل عن مصلحته شيء، فإن هذا الفاضل لا سبيل إلى صرفه إليه، ولا إلى تعطيله، فصرفه في جنس المقصود أولي، وهو أقرب الطرق إلى مقصود الواقف، وقد روي أحمد عن على رضي الله عنه: أنه حض الناس على إعطاء مكاتب، ففضل شيء عن حاجته فصرفه في المكاتبين.
سئل عن رجل صالح فرض له القاضي شيئا من الصدقات
وسئل عن رجل صالح فرض له القاضي بشيء من الصدقات لأجله، وأجل الفقراء الواردين عليه، فهل يجوز لأحد أن يزاحمه في ذلك؟ أو يتغلب عليه باليد القوية؟
فأجاب:
قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (المسلم أخو المسلم، لا يحل للمسلم أن يبيع على بيع أخيه، ولا يستام على سَوْمِ أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صفحتها، فإن لها ما قدر لها).
فإذا كان النبي ﷺ في عقود المعاوضات قد نهي أن يستام الرجل على سوم أخيه، وأن يخطب على خطبته قبل أن يدخل المطلوب في ملك الإنسان، فكيف يحل للرجل أن يجيء إلى من فرض له ولي الأمر على الصدقات أو غيرها ما يستحقه ويحتاج إليه فيزاحمه على ذلك، ويريد أن ينزعه منه؟ فإن هذا أشد تحريمًا من ذلك. والله أعلم.
سئل عن وقف أرض على مسجد فيها أشجار معطلة من الثمر
وسئل رحمه الله عن وقف أرض على مسجد فيها أشجار معطلة من الثمر، وتعطلت الأرض من الزراعة بسببها، فهل يجوز قلع الأشجار، وصرف ثمنها في مصالح المسجد وتزرع الأرض وينتفع بها؟
فأجاب:
نعم إذا كان قلع الأشجار مصلحة للأرض بحيث يزيد الانتفاع بالأرض إذا قلعت فإنها تقلع. وينبغي للناظر أن يقلعها ويفعل ما هو الأصلح للوقف، ويصرف ثمنها فيما هو أصلح للوقف من عمارة الوقف، أو مسجد، إن احتاج إلى ذلك. والله أعلم.
سئل عن مصيف مسجد بني فيه قبر فسقية
وسئل عن مصيف مسجد بني فيه قبر فَسقية، وهدم بحكم الشرع، وللمسجد بيت خلاء، ولم يكن فيه موضع يسع الوضوء، فهل يجوز أن يعمل في المصيف مكان للوضوء، ويترك ما هو في الفسقية التي كانت بنيت قبرًا؟
فأجاب رحمه الله:
الحمد لله، نعم إذا كان هذا مصلحة للمسجد وأهله وليس فيه محذور إلا مجرد الوضوء في المسجد جاز أن يفعل ذلك، فإن الوضوء في المسجد جائز، بل لا يكره عند جمهور العلماء. والله أعلم.
سئل عن مسجد مغلق عتيق فسقط وهدم
وسئل عن مسجد مغلق عتيق، فسقط، وهدم، وأعيد مثل ما كان في طوله وعرضه، ورفعه الباني له عن ما كان عليه، وقدمه إلى قدام، وكان تحته خلوة فعمل تحته بيتًا لمصلحة المسجد، فهل يجوز تجديد البيت وسكنه؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم يجوز أن يعمل في ذلك ما كان مصلحة للمسجد وأهله، من تجديد عمارة، وتغيير العمارة من صورة إلى صورة ونحو ذلك. والله سبحانه أعلم.
سئل عن مساجد وجامع يحتاج إلى عمارة
وسئل رحمه الله عن مساجد وجامع يحتاج إلى عمارة، وعليها رواتب مقررة على الفائض والريع لا يقوم بذلك، فهل يحل أن يصرف لأحد قبل العمارة الضرورية؟ وإلى من يحل؟ وما يصنع بما يفضل عن الريع؟ أيدخر أم يشتري به عقارًا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا أمكن الجمع بين المصلحتين بأن يصرف ما لابد من صرفه لضرورة أهله، وقيام العمل الواجب بهم، وأن يعمر بالباقي، كان هذا هو المشروع. وإن تأخر بعض العمارة قدرًا لا يضر تأخره، فإن العمارة واجبة، والأعمال التي لا تقوم إلا بالرزق واجبة، وسد الفاقات واجبة، فإذا أقيمت الواجبات كان أولى من ترك بعضها.
وأما من لا تقوم العمارة إلا بهم من العمال، والحساب فهم من العمارة. وأما ما فضل من الريع عن المصارف المشروطة ومصارف المساجد، فيصرف في جنس ذلك، مثل عمارة مسجد آخر، ومصالحها، وإلى جنس المصالح، ولا يحبس المال أبدًا لغير علة محدودة، لا سيما في مساجد قد علم أن ريعها يفضل عن كفايتها دائمًا، فإن حبس مثل هذا المال من الفساد: { وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } [55].
سئل عن حاكم خطيب رتب له على فائض مسجد رزقه
وسئل رحمه الله عن حاكم خطيب رتب له على فائض مسجد رزقه، فيبقي سنتين لا يتناول شيئا، لعدم الفائض، ثم زاد الريع في السنة الثالثة، فهل له أن يتناول رزق ثلاث سنين من ذلك المغل؟
فأجاب:
إن كان لمغل السنة الثالثة مصارف شرعية بالشرط الصحيح وجب صرفها فيه، ولم يجز للحاكم أخذه. وأما إذا لم يكن له مصرف أصلًا، واقتضي نظر الإمام أن يصرفه إلى الحاكم عوضًا عما فاته في الماضي، جاز ذلك. والله أعلم.
فصل في إبدال الوقف
وقال الشيخ الإمام العالم العلامة أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية قدس الله روحه:
فصل في إبدال الوقف حتى المساجد بمثلها أو خير منها للحاجة أو المصلحة وكذلك إبدال الهدي، والأضحية، والمنذور، وكذلك إبدال المستحق بنظيره إذا تعذر صرفه إلى المستحق. والإبدال يكون تارة بأن يعوض فيها بالبدل، وتارة بأن يباع ويشتري بثمنها المبدل.
فمذهب أحمد في غير المسجد يجوز بيعه للحاجة، وأما المسجد فيجوز بيعه أيضًا للحاجة، في أشهر الروايتين عنه، وفي الأخرى: لا تباع عرصته، بل تنقل آلتها إلى موضع آخر.
ونظير هذا المصحف، فإنه يكره بيعه كراهة تحريم أو تنزيه. وأما إبداله، فيجوز عنده في إحدى الروايتين عنه من غير كراهة، ولكن ظاهر مذهبه: أنه إذا بيع واشترى بثمنه، فإن هذا من جنس الإبدال؛ إذ فيه مقصوده، فإن هذا فيه صرف نفعه إلى نظير المستحق إذا تعذر صرفه إلى عينه.
فإن المسجد إذا كان موقوفًا ببلدة أو محلة، فإذا تعذر انتفاع أهل تلك الناحية به صرفت المنفعة في نظير ذلك، فيبني بها مسجد في موضع آخر، كما يقول مثل ذلك في زيت المسجد وحصره إذا استغني عنها المسجد: تصرف إلى مسجد آخر، ويجوز صرفها عنده في فقراء الجيران. واحتج على ذلك: بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقسم كسوة الكعبة بين المسلمين، فكذلك كسوة سائر المساجد؛ لأن المسلمين هم المستحقون لمنفعة المساجد، واحتج على صرفها في نظير ذلك: بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جمع مالًا لمكاتب ففضلت فضلة عن قدر كتابته، فصرفها في مكاتب آخر، فإن المعطين أعطوا المال للكتابة، فلما استغني المعين صرفها في النظير.
والمقصود أن أحمد بن حنبل رحمه الله اختلف قوله في بيع المسجد عند عدم الانتفاع به، ولم يختلف قوله في بيع غيره عند الحاجة. قال في رواية ابنه عبد الله: إذا خرب المسجد يباع، وينفق ثمنه على مسجد آخر.
وقال القاضي أبو يعلى في المجرد وابن عقيل في الفصول وغيرهما واللفظ للقاضي: ونفقة الوقف من غلته؛ لأن القصد الانتفاع به مع بقاء عينه. وهذا لا يمكن إلا بالإنفاق عليه، فكان إبقاؤه يتضمن الإنفاق عليه، وما يبقي للموقوف عليه، فإن لم تكن له غلة مثل أن كان عبدًا تعطل أو بهيمة هزلت، فالموقوف عليه بالخيار بين الإنفاق عليه؛ لأنه هو المالك، وبين أن يبيعه ويصرف ثمنه في مثله. وإن كان الموقوف على المساكين، فالنفقة في بيت المال؛ لأنه لا مالك له بعينه، فهو كالمسجد... وإن رأي الإمام بيعه وصرف ثمنه في مثله جاز، وإذا كان الوقف دارًا فخربت وبطل الانتفاع بها، بيعت وصرف ثمنها إلى شراء دار، ويجعل وقفًا مكانها. وكذلك الفرس الحبيس إذا هَرَمَ وتعطل يباع ويشتري بثمنه فرس يصلح لما وقف له. قال في رواية بكر بن محمد: إن أمكن أن يشتري بثمنه فرسًا اشترى وجعل حبيسًا، وإلا جعله في ثمن دابة حبيس، وكذلك المسجد إذا خرب وحصل بموضع لا يصلي فيه جاز نقله إلى موضع عامر، وجاز بيع عرصته. نص عليه في رواية عبد الله. قال أبو بكر: وتكون الشهادة في ذلك على الإمام.
قال: وقال أبو بكر في كتاب القولين: وقد روي علي بن سعيد: أن المساجد لا تباع، ولكن تنقل. قال أبو بكر: وبالأول أقول، يعني رواية عبد الله؛ لإجماعهم على جواز بيع الفرس الحبيس. وقال أحمد في رواية الحسن بن ثواب في عبد لرجل بمكة يعني وقفًا فأبي العبد أن يعمل: يباع فيبدل عبدًا مكانه. ذكرها القاضي أبو يعلى في مسألة عتق الرهن في التعليق. قال أبو البركات: فجعل امتناعه كتعطل نفعه. يعني: ويلزم بإجباره على العمل كما يجبر المستأجر، وإن كان امتناعه محرمًا، وجعل تعذر الانتفاع بهذا الوجه كتعطله، نظرًا إلى مصلحة الوقف.
فصل في إبدال المسجد بغيره
وأما إبدال المسجد بغيره للمصلحة مع إمكان الانتفاع بالأول، ففيه قولان في مذهب أحمد. واختلف أصحابه في ذلك، لكن الجواز أظهر في نصوصه وأدلته. والقول الآخر ليس عنه به نص صريح، وإنما تمسك أصحابه بمفهوم خطه، فإنه كثيرًا ما يفتي بالجواز للحاجة، وهذا قد يكون تخصيصًا للجواز بالحاجة، وقد يكون التخصيص لكون ذلك هو الذي سئل عنه واحتاج إلى بيانه.
وقد بسط أبو بكر عبد العزيز ذلك في الشافي الذي اختصر منه زاد المسافر فقال: حدثنا الخَلاّل، ثنا صالح بن أحمد، ثنا أبي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا المسعودي، عن القاسم، قال: لما قدم عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه على بيت المال، كان سعد بن مالك قد بني القصر، واتخذ مسجدًا عند أصحاب التمر، قال: فَنُقبَ بيتُ المال، فأخذ الرجل الذي نقبه، فكتب إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: ألا تقطع الرجل وانقل المسجد، واجعل بيت المال في قبلته، فإنه لن يزال في المسجد مصل. فنقله عبد الله، فخط له هذه الخطة. قال صالح: قال أبي: يقال: إن بيت المال نقب من مسجد الكوفة، فحول عبد الله بن مسعود المسجد. فموضع التمارين اليوم في موضع المسجد العتيق.
قال: وسألت أبي عن رجل بني مسجدًا، ثم أراد تحويله إلى موضع آخر؟ قال: إن كان الذي بني المسجد يريد أن يحوله خوفًا من لصوص، أو يكون موضعه موضع قذر، فلا بأس أن يحوله. يقال: إن بيت المال نقب، وكان في المسجد، فحول ابن مسعود المسجد. ثنا محمد ابن على، ثنا أبو يحيي، ثنا أبو طالب: سئل أبو عبد الله: هل يحول المسجد؟ قال: إذا كان ضيقًا لا يسع أهله فلا بأس أن يجعل إلى موضع أوسع منه. ثنا محمد بن علي، ثنا عبد الله بن أحمد، قال: سألت أبي عن مسجد خرب: تري أن تباع أرضه وتنفق على مسجد آخر أحدثوه؟ قال: إذا لم يكن له جيران، ولم يكن أحد يعمره، فلا أري به بأسًا أن يباع وينفق على الآخر. ثنا محمد بن عبد الله، ثنا أبو داود، قال: سمعت أحمد
سئل عن مسجد فيه خشبتان لهما قيمة وقد تشعثت، وخافوا سقوطه: أتباع هاتان الخشبتان وينفق على المسجد ويبدل مكانهما جذعين؟ قال: ما أري به بأسًَا. واحتج بدواب الحبيس التي لا ينتفع بها، تباع ويجعل ثمنها في الحبيس.
ولا ريب أن في كلامه ما يبين جواز إبدال المسجد للمصلحة، وإن أمكن الانتفاع به، لكون النفع بالثاني أكمل، ويعود الأول طلقًا. وقال أبو بكر في زاد المسافر: قال أحمد في رواية صالح: نقب بيت المال بالكوفة، وعلى بيت المال ابن مسعود، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إليه عمر: أن انقل المسجد، وصىر بيت المال في قبلته، فإنه لن يخلو من مصل فيه. فنقله سعد إلى موضع التمارين اليوم، وصار سوق التمارين في موضعه، وعمل بيت المال في قبلته، فلا بأس أن تنقل المساجد إذا خربت. وقال في رواية أبي طالب: إذا كان المسجد يضيق بأهله، فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه. جوز تحويله لنقص الانتفاع بالأول لا لتعذره.
وقال القاضي أبو يعلى: وقال في رواية صالح: يحول المسجد خوفًا من لصوص، وإذا كان موضعه قذرًا. وبالثاني قال القاضي أبو يعلى. وقال في رواية أبي داود: في مسجد أراد أهله أن يرفعوه من الأرض؛ ويجعل تحته سقاية وحوانيت، وامتنع بعضهم من ذلك: ينظر إلى قول أكثرهم ولا بأس به. قال: فظاهر هذا أنه أجاز أن يجعل سفل المسجد حوانيت وسقاية. قال: ويجب أن يحمل هذا على أن الحاجة دعت إلى ذلك لمصلحة تعود بالمسجد. قال: وكان شيخنا أبو عبد الله هو ابن حامد يمنع من ذلك، ويتأول المسألة على أنهم اختلفوا في ذلك عند ابتداء بناء المسجد قبل وقفه. قال: وليس يمتنع على أصلنا جواز ذلك إذا كان فيه مصلحة؛ لأنا نجيز بيعه ونقله إلى موضع آخر. قال: وقد قال أحمد في رواية بكر بن محمد في مسجد ليس بحصين من الكلاب وغيرها، وله منارة، فرخص في نقضها ويبني بها حائط المسجد للمصلحة.
ومال ابن عقيل في الفصول إلى قول ابن حامد، فقال: هذا يجب أن يحمل على أن الحاجة دعت إلى ذلك، كما أن تغيير المسجد ونقله ما جاز عنده إلا للحاجة، فيحمل هذا الإطلاق على ذلك، لا على المستقر. قال: والأشبه أن يحمل على مسجد يبتدأ إنشاؤه. وعلى هذا فاختلفوا: كيف يبني؟ فأما بعد كونه مسجدًا فلا يجوز أن يباع، ولا أن يجعل سقاية تحته.
وكذلك رجح أبو محمد قول ابن حامد، وقال: هو أصح وأولى وإن خالف الظاهر. قال: فإن المسجد لا يجوز نقله وإبداله وبيع ساحته وجعلها سقاية وحوانيت إلا عند تعذر الانتفاع، والحاجة إلى سقاية وحوانيت لا يعطل نفع المسجد، فلا يجوز صرفه في ذلك. قال: ولو جاز جعل أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه الحاجة لجاز تخريب المسجد وجعله سقاية وحوانيت، ويجعل بدله مسجد في موضع آخر.
وهذا تكلف ظاهر لمخالفة نصه؛ فإن نصه صريح في أن المسجد إذا أرادوا رفعه من الأرض، وأن يجعل تحته سقاية وحوانيت، وأن بعضهم امتنع من ذلك، وقد أجاب بأنه ينظر إلى قول أكثرهم. ولو كان هذا عند ابتدائه لم يكن لأحد أن ينازع في بنيه إذا كان جائزا، ولم ينظر في ذلك إلى قول أكثرهم، فإنهم إن كانوا مشتركين في البناء لم يجبر أحد الشركاء على ما يريده الآخرون إذا لم يكن واجبًا، ولم يُبن إلا باتفاقهم، ولأن قوله: أرادوا رفعه من الأرض، وأن يجعل تحته سقاية، بين في أنه ملصق بالأرض، فأرادوا رفعه وجعل سقاية تحته. وأحمد اعتبر اختيار الأكثر من المصلين في المسجد؛ لأن الواجب ترجيح أصلح الأمرين، وما اختاره أكثرهم كان أنفع للأكثرين؛ فيكون أرجح.
وأيضًا، فلفظ المسألة على ما ذكره أبو بكر عبد العزيز، قال: قال في رواية سليمان بن الأشعث: إذا بني رجل مسجدًا فأراد غيره أن يهدمه ويبنيه بناء أجود من الأول فأبي عليه الباني الأول، فإنه يصير إلى قول الجيران ورضاهم، إذا أحبوا هدمه وبناءه، وإذا أرادوا أن يرفعوا المسجد من الأرض ويعمل في أسفله سقاية، فمنعهم من ذلك مشائخ ضعفاء وقالوا: لا نقدر أن نصعد، فإنه يرفع ويجعل سقاية، ولا أعلم بذلك بأسًا، وينظر إلى قول أكثرهم، فقد نص على هذا، وتبديل بنائه بأجود وإن كره الواقف الأول، وعلى جواز رفعه وعمل سقاية تحته، وإن منعهم مشائخ ضعفاء، إذا اختار ذلك الجيران، واعتبر أكثرهم. قال: وقال في رواية ابن الحكم: إذا كان للمسجد منارة، والمسجد ليس بحصين، فلا بأس أن تنقض المنارة فتجعل في حائط المسجد لتحصينه.
قال أبو العباس: وما ذكروه من الأدلة لو صح لكان يقتضي ترجيح غير هذا القول، فيكون في المسألة قولان، وقد رجحوا أحدهما، فكيف وهي حجج ضعيفة؟ أما قول القائل: لا يجوز النقل والإبدال إلا عند تعذر الانتفاع، فممنوع، ولم يذكروا على ذلك حجة لا شرعية ولا مذهبية، فليس عن الشارع ولا عن صاحب المذهب هذا النفي الذي احتجوا به، بل قد دلت الأدلة الشرعية وأقوال صاحب المذهب على خلاف ذلك، وقد قال أحمد: إذا كان المسجد يضيق بأهله فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه. وضيقه بأهله لم يعطل نفعه، بل نفعه باق كما كان، ولكن الناس زادوا، وقد أمكن أن يبني لهم مسجد آخر، وليس من شرط المسجد أن يسع جميع الناس، ومع هذا جوز تحويله إلى موضع آخر؛ لأن اجتماع الناس في مسجد واحد أفضل من تفريقهم في مسجدين؛ لأن الجمع كلما كثر كان أفضل؛ لقول النبي ﷺ: (صلاة الرجل مع الرجل أزكي من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكي من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى) رواه أبو داود وغيره.
وهذا مع أنه يجوز بناء مسجد آخر إذا كثر الناس وإن كان قريبًا، مع منعه لبناء مسجد ضرارًا. قال أحمد في رواية صالح: لا يبني مسجد يراد به الضرار لمسجد إلى جانبه، فإن كثر الناس فلا بأس أن يبني وإن قرب، فمع تجويزه بناء مسجد آخر عند كثرة الناس وإن قرب، أجاز تحويل المسجد إذا ضاق بأهله إلى أوسع منه؛ لأن ذلك أصلح وأنفع، لا لأجل الضرورة، ولأن الخلفاء الراشدين: عمر، وعثمان رضي الله عنهما غيرا مسجد النبي ﷺ، وأمر عمر بن الخطاب بنقل مسجد الكوفة إلى مكان آخر، وصار الأول سوق التمارين، للمصلحة الراجحة؛ لا لأجل تعطل منفعة تلك المساجد، فإنه لم يتعطل نفعها؛ بل ما زال باقيًا، وكذلك خلفاء المسلمين بعدهم، كالوليد، والمنصور، والمهدي، فعلوا مثل ذلك بمسجدي الحرمين، وفعل ذلك الوليد بمسجد دمشق وغيرها، مع مشورة العلماء في ذلك وإقرارهم، حتى أفتى مالك وغيره بأن يشتري الوقف المجاور للمسجد ويعوض أهله عنه. فجوزوا بيع الوقف والتعويض عنه لمصلحة المسجد، لا لمصلحة أهله، فإذا بيع وعوض عنه لمصلحة أهله كان أولى بالجواز.
وقول القائل: لو جاز جعل أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه الحاجة لجاز تخريب المسجد، وجعله سقاية وحوانيت ويجعل بدله مسجد في موضع آخر. قيل: نقول بموجب ذلك، وهذا هو الذي ذكره أحمد، ورواه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعليه بني مذهبه، فإن عمر بن الخطاب خرب المسجد الأول مسجد الجامع الذي كان لأهل الكوفة وجعل بدله مسجدًا في موضع آخر من المدينة، وصار موضع المسجد الأول سوق التمارين.
فهذه الصورة التي جعلوها نقضًا في المعارضة وأصلًا في قياسهم هي الصورة التي نقلها أحمد وغيره عن الصحابة، وبها احتج هو وأصحابه على من خالفهم، وقال أصحاب أحمد: هذا يقتضي إجماع الصحابة رضي الله عنهم عليها. فقالوا وهذا لفظ ابن عقيل في المفردات في مسألة إبدال المسجد وأيضًا روى يزيد بن هارون، قال: ثنا المسعودي، عن القاسم، قال: لما قدم عبد الله بن مسعود على بيت المال، كان سعد بن مالك قد بني القصر، واتخذ مسجدًا عند أصحاب التمر، فنقب بيت المال، وأخذ الرجل الذي نقبه، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب عمر: لا تقطع الرجل، وانقل المسجد، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل. فنقله عبد الله، فخط له هذه الخطة. قال أحمد: يقال: إن بيت المال نقب في مسجد الكوفة، فحول عبد الله المسجد، وموضع التمارين اليوم في موضع المسجد العتيق. قال ابن عقيل: وهذا كان مع توفر الصحابة، فهو كالإجماع؛ إذ لم ينكر أحد ذلك، مع كونهم لا يسكتون عن إنكار ما يعدونه خطأ؛ لأنهم أنكروا على عمر النهي عن المغالات في الصدقات، حتى ردت عليه امرأة، وردوه عن أن يحد الحامل، فقالوا: إن جعل الله لك على ظهرها سبيلًا فما جعل لك على ما في بطنها سبيلًا. وأنكروا على عثمان في إتمام الصلاة في الحج، حتى قال: إني دخلت بلدًا فيه أهلي. وعارضوا عليا حين رأي بيع أمهات الأولاد، فلو كان نقل المسجد منكرًا لكان أحق بالإنكار؛ لأنه أمر ظاهر فيه شناعة.
واحتج أيضًا بما روى أبو حفص في المناسك عن عائشة رضي الله عنها أنه قيل لها: يا أم المؤمنين إن كسوة الكعبة قد يداول عليها؟ فقالت: تباع، ويجعل ثمنها في سبيل الخير. فأمرت عائشة ببيع كسوة الكعبة مع أنها وقف، وصرف ثمنها في سبيل الخير؛ لأن ذلك أصلح للمسلمين، وهكذا قال من رجح قول ابن حامد في وقف الاستغلال كأبي محمد، قال: وإن لم تتعطل منفعة الوقف بالكلية، لكن قلت: أو كان غيره أنفع منه وأكثر ردًا على أهل الوقف لم يجز بيعه؛ لأن الأصل تحريم البيع، وإنما أبيح للضرورة صيانة لمقصود الوقف عن الضياع، مع إمكان تحصيله، ومع الانتفاع به، وإن قلنا: يضيع المقصود، اللهم إلا أن يبلغ من قلة النفع إلى حد لا يعد نفعًا، فيكون وجود ذلك كالعدم.
فيقال: ما ذكروه ممنوع، ولم يذكروا عليه دليلًا شرعيًا ولا مذهبيًا، وإن ذكروا شيئا من مفهوم كلام أحمد أو منطوقه، فغايته أن يكون رواية عنه قد عارضها رواية أخرى عنه هي أشبه بنصوصه وأصوله، وإذا ثبت في نصوصه وأصوله جواز إبدال المسجد للمصلحة الراجحة فغيره أولي. وقد نص على جواز بيع غيره أيضًا للمصلحة، لا للضرورة، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وأيضًا، فيقال لهم: لا ضرورة إلى بيع الوقف، وإنما يباع للمصلحة الراجحة ولحاجة الموقوف عليهم إلى كمال المنفعة، لا لضرورة تبيح المحظورات، فإنه يجوز بيعه لكمال المنفعة وإن لم يكونوا مضطرين، ولو كان بيعه لا يجوز لأنه حرام لم يجز بيعه لضرورة ولا غيرها، كما لم يجز بيع الحر المعتق ولو اضطر سيده المعتق إلى ثمنه، وغايته أن يتعطل نفعه فيكون كما لو كان حيوانًا فمات.
ثم يقال لهم: بيعه في عامة المواضع لم يكن إلا مع قلة نفعه، لا مع تعطل نفعه بالكلية، فإنه لو تعطل نفعه بالكلية لم ينتفع به أحد، لا المشتري ولا غيره. وبيع ما لا منفعة فيه لا يجوز أيضًا فغايته أن يخرب ويصير عرصة، وهذه يمكن الانتفاع بها بالإجارة بأن تكري لمن يعمرها، وهو الذي يسميه الناس الحكر ويمكن أيضًا أن يستسلف ما يعمر به ويوفي من كري الوقف. وهذا على وجهين:
أحدهما: أن يتبرع متبرع بالقرض، ولكن هذا لا يعتمد عليه.
والثاني: أن يؤجر إجارة غير موصوفة في الذمة، وتؤخذ الأجرة فيعمر بها، ليستوفي المستأجر المقابلة للأجرة، وهذان طريقان يكونان للناس إذا خرب الوقف، تارة يؤجرون الأرض وتبقي حكرًا، وتارة يستسلفون من الأجرة ما يعمرون به، وتكون تلك الأجرة أقل منها لو لم تكن سلفًا. وعامة ما يخرب من الوقف يمكن فيه هذا.
ومع هذا، فقد جوزوا بيعه والتعويض بثمنه؛ لأن ذلك أصلح لأهل الوقف لا للضرورة، ولا لتعطل الانتفاع بالكلية، فإن هذا لا يكاد ينفع، وما لا ينتفع به لا يشتريه أحد، لكن قد يتعذر ألا يحصل مستأجر، ويحصل مشترٍ؛ ولكن جواز بيع الوقف إذا خرب ليس مشروطًا بألا يوجد مستأجر، بل يباع ويعوض عنه إذا كان ذلك أصلح من الإيجار، فإنه إذا أكريت الأرض مجردة كان كراها قليلًا، وكذلك إذا استسلفت الأجرة للعمارة قلت المنفعة، فإنهم لا ينتفعون بها مدة استيفاء المنفعة المقابلة لما عمر به، وإنما ينتفعون بها بعد ذلك، ولكن الأجرة المسلفة تكون قليلة، ففي هذا قلت منفعة الوقف.
فتبين أن المسوغ للبيع والتعويض نقص المنفعة؛ لكون العوض أصلح وأنفع، ليس المسوغ تعطيل النفع بالكلية. ولو قدر التعطيل لم يكن ذلك من الضرورات التي تبيح المحرمات، وكلما جوز للحاجة لا للضرورة كتحلي النساء بالذهب والحرير، والتداوي بالذهب والحرير، فإنما أبيح لكمال الانتفاع، لا لأجل الضرورة التي تبيح الميتة ونحوها، وإنما الحاجة في هذا تكميل الانتفاع، فإن المنفعة الناقصة يحصل معها عوز يدعوها إلى كمالها، فهذه هي الحاجة في مثل هذا. وأما الضرورة التي يحصل بعدمها حصول موت أو مرض أو العجز عن الواجبات، كالضرورة المعتبرة في أكل الميتة، فتلك الضرورة المعتبرة في أكل الميتة لا تعتبر في مثل هذا. والله أعلم.
ولهذا جوز طائفة من الأصحاب هذا الموضع، بينوا أنه عند التعطيل بالكلية ينتهي الوقف، وإنما الكلام إذا بقي منه ما ينتفع به. ومن هؤلاء أبو عبد الله بن تيمية قال في ترغيب القاصد: الحكم الخامس: إذ تعطل الوقف فله أحوال:
أحدها: أن ينعدم بالكلية، كالفرس إذا مات، فقد انتهت الوقفية.
الثانية: أن يبقي منه بقية متمولة، كالشجرة إذا عطبت، والفرس إذا أعجف، والمسجد إذا خرب، فإن ذلك يباع ويصرف في تحصيل مثله، أو في شقيص من مثله.
الثالثة: حُصر المسجد إذا بُليت، وجذوعه إذا تكسرت وتحطمت، فإنه يباع ويصرف في مصالح المسجد، وكذلك إذا أشرفت جذوعه على التكسير أو داره على الانهدام، وعلم أنه لو أخر لخرج عن أن ينتفع به، فإنه يباع.
قال أحمد رحمه الله تعالى في رواية أبي داود: إذا كان في المسجد خشبات لها قيمة، وقد تشعثت جاز بيعها وصرف ثمنها عليه.
الرابعة: إذا خرب المسجد، وآلته تصلح لمسجد آخر يحتاج إلى مثلها، فإنها تحول إليه، وأما الأرض فتباع، هذا إذا لم يمكن عمارته بثمن بعض آلته، وإلا بيع ذلك وعمر به. نص عليه.
الخامسة: إذا ضاق المسجد بأهله، أو تفرق الناس عنه، لخراب المحلة، فإنه يباع ويصرف ثمنه في إنشاء مسجد آخر، أو في شِقْصٍ في مسجد.
فقد بين من قال هذا: أنه لا يمكن بيعه مع تعطل المنفعة بالكلية؛ بل إذا أبقي منه ما ينتفع به، وحينئذ فالمقصود التعويض عنه بما هو أنفع لأهل الوقف منه، ولم يشترط أحد من الأصحاب تعذر إجارة العرصة، مع العلم بأنه في غالب الأحوال يمكن إجارة العرصة، لكن يحصل لأهل الوقف منها أقل مما كان يحصل لو كان معمورًا، وإذا بيعت، فقد يشتري بثمنها ما تكون أجرته أنفع لهم؛ لأن العرصة يشتريها من يعمرها لنفسه فينتفع بها ملكًا، ويرغب فيها لذلك، ويشتري بثمنها ما تكون غلته أنفع من غلة العرصة، فهذا محل الجواز الذي اتفق الأصحاب عليه، وحقيقته تعود إلى أنهم عوضوا أهل الوقف عنه بما هو أنفع لهم منه.
فإن قيل: فلفظ الخرقي، وإذا خرب الوقف ولم يرد شيئا بيع واشترى بثمنه ما يرد على أهل الوقف. قيل: هذا اللفظ إما أن يراد به أنه لم يرد شيئا مما كان يرده لما كان معمورًا، مثل دور وحوانيت خربت، فإنها لو تشعثت ردت بعض ما كانت ترده مع كمال العمارة، بخلاف ما إذا خربت بالكلية، فإنها لا ترد شيئا من ذلك. وأما أن يراد به: لا ترد شيئا، لتعطيل نفعه من جميع الوجوه، فإن كان مراده هو الأول وهو الظاهر الذي يليق أن يحمل عليه كلامه، فهو مطابق لما قلناه؛ ولهذا قال: بيع. ولو تعطل نفعه من كل الجهات لم يجز بيعه. وإن كان مراده: أنه تعطل على أهل الوقف انتفاعهم به من كل وجه؛ لتعذر إجارة العرصة مع إمكان انتفاع غيرهم بها، كما قال أحمد في العبد، فإن أراد هذه الصورة كان منطوق كلامه موافقًا لما تقدم، ولكن مفهومه يقتضي أنه إذا أمكن أهل الوقف أن يؤجروه بأقل أجرة لم يجز بيعه، وهذا غايته أن يكون قولًا في المذهب، لكن نصوص أحمد تخالف ذلك في بيع المسجد والفرس الحبيس وغيرهما؛ كما قد ذكر المسجد. وأما الفرس الحبيس إذا عطب، فإن الذي يشتريه قد يشتريه ليركبه أو يديره في الرحي، ويمكن أهل الجهاد أن ينتفعوا به في مثل ذلك، مثل الحمل عليه، واستعماله في الرحي وإجارته وانتفاعهم بأجرته، ولكن المنفعة المقصودة لحبسه وهي الجهاد عليه تعطلت، ولم يتعطل انتفاعهم به بكل وجه.
فصل في بيع الوقف للمصلحة
وإذا كان يجوز في ظاهر مذهبه في المسجد الموقوف الذي يوقف للانتفاع بعينه وعينه محترمة شرعًا يجوز أن يبدل به غيره للمصلحة، لكون البدل أنفع وأصلح، وإن لم تتعطل منفعته بالكلية، ويعود الأول طلقا، مع أنه مع تعطل نفعه بالكلية: هل يجوز بيعه؟ عنه فيه روايتان، فلأن يجوز الإبدال بالأصلح والأنفع فيما يوقف للاستغلال أولى وأحري، فإنه عنده يجوز بيع ما يوقف للاستغلال للحاجة قولًا واحدًا، وفي بيع المسجد للحاجة روايتان.
فإذا جوز على ظاهر مذهبه أن يجعل المسجد الأول طلقًا، ويوقف مسجد بدله للمصلحة، وإن لم تتعطل منفعة الأول، فلأن يجوز أن يجعل الموقوف للاستغلال طلقًا ويوقف بدله أصلح منه، وإن لم تتعطل منفعة الأول أحرى، فإن بيع الوقف المستغل أولى من بيع المسجد، وإبداله أولى من إبدال المسجد؛ لأن المسجد تحترم عينه شرعًا، ويقصد الانتفاع بعينه، فلا يجوز إجارته ولا المعاوضة عن منفعته، بخلاف وقف الاستغلال، فإنه يجوز إجارته والمعاوضة عن نفعه، وليس المقصود أن يستوفي الموقوف عليه منفعته بنفسه كما يقصد مثل ذلك في المسجد، ولا له حرمة شرعية لحق الله تعالى كما للمسجد.
وأيضًا، فالوقف لله فيه شبه من التحرير، وشبه من التمليك، وهو أشبه بأم الولد عند من يمنع نقل الملك فيها، فإن الوقف من جهة كونه لا يبيعه أحد يملك ثمنه، ولا يهبه، ولا يورث عنه يشبه التحرير والإعتاق. ومن جهة أنه يقبل المعاوضة بأن يأخذ عوضه فيشتري به ما يقوم مقامه، يشبه التمليك، فإنه إذا أتلف ضمن بالبدل واشترى بثمنه ما يقوم مقامه عند عامة العلماء، بخلاف المعتق، فإنه صار حرًا لا يقبل المعاوضة. فالبيع الثابت في الطلق لا يثبت في الوقف بحال، وهو أن يبيعه المالك، أو وليه أو وكيله، ويملك عوضه من غير بدل يقوم مقامه. وهذا هو البيع الذي تقرن به الهبة والإرث، كما قال عمر بن الخطاب في وقفه: لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث.
ويشبه هذا: أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما جعلا الأرض المفتوحة عنوة فيء ا للمسلمين، كأرض السواد وغيرها، ولم يقسما شيئا مما فتح عنوة. ولما كانوا يمنعون من شرائها؛ لئلا يقر المسلم بالصغار فإن الخراج كالجزية أو يبطل حق المسلمين ظن بعض العلماء أنهم منعوا بيعها لكونها وقفًا، والوقف لا يباع، وزعموا أن ذلك يوجب أن مكة لا تباع لكونها فتحت عنوة. وهذا غلط؛ فإن أرض الخراج المفتوحة عنوة المجعولة فيء ا توهب وتورث، فإنها تنتقل عمن هي بيده إلى وارثه ويهبها، وهذا ممتنع في الوقف. وإذا بيعت لمن يقوم فيها مقام البائع، ولم يغير شيئا، فهذه المسألة تعلقت الأحكام الشرعية بأعيانها، وما سواها تعلقت بجنسه، لا بعينه فيؤدي خراجها، فلم يكن في ذلك ضرر على مستحقها، ولا زال حقهم عنها، والوقف إنما منع بيعه لئلا يبطل حق مستحقيه، وهذه يجوز فيها إبدال شخص بشخص بالاتفاق، فسواء كان بطريق المعاوضة أو غيرها.
والمقصود هنا أن الوقف فيه شوب التحرير والتمليك؛ ولهذا اختلف الفقهاء في الوقف على المعين: هل يفتقر إلى قبوله كالهبة أو لا يفتقر إلى قبوله كالعتق؟ على قولين مشهورين، بخلاف الوقف على جهة عامة كالمساجد. والوقف على المعين أقرب إلى التمليك من وقف المساجد ونحوها مما يوقف على جهة عامة، ووقف المساجد أشبه بالتحرير من غيرها، فإنها خالصة لله عز وجل كما قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [56]، وقال تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَي أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [57]، والمساجد بيوت الله، كما أن العتيق صار حرًا، أي: خالصًا لله. والتحرير: التخليص من الرق، ومنه الطين الحُرُّ، وهو الخالص، فالعتق: تخليص العبد لله.
ولهذا منع الشارع أن يجعل بعض مملوكه حرًا أو بعضه رقيقًا. وقال: ليس لله شريك، فإذا أعتق بعضه عتق جميعه، وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: (من أعتق شركا له في عبدٍ، وكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد قُوِّم عليه قيمة عدلٍ، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد)، وكذلك في الصحيحين مثله من حديث أبي هريرة. فأوجب تكميل عتقه، وإن كان ملكًا لغيره، وألزم المعتق بأن يعطي شركاءه حصصهم من الثمن، لتكميل عتق العبد لئلا يكون لله شريك.
ومذهب الأئمة الأربعة وسائر الأمة: وجوب تكميل العتق؛ لكن الجمهور يقولون: إذا كان موسرًا ألزم بالعوض، كما في حديث ابن عمر وأبي هريرة، وإن كان معسرًا، فمنهم من قال بالسعاية: بأن يستسعي العبد، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، اختارها أبو الخطاب. ومنهم من لا يقول بها، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى، واختارها أكثر أصحابه.
والمقصود أن المساجد أبلغ الموقوفات تحريرًا وشبهًا بالعتق، وليس لأحد أن يعتاض عن منفعتها كما يجوز ذلك في غيرها، كما أنه لا يملك أحد أعتق عبدًا منافعه، ومع هذا، فأحمد اتبع الصحابة في جواز إبدال المسجد بمسجد آخر، وجعل المسجد الأول سوقًا. وجوز إبدال الهدي والأضحية بخير منها مع أنها أيضًا لله تعالى يجب ذبحها لله، فلأن يجوز الإبدال في غيرها وهو أقرب إلى التمليك أولي، فإن حقوق الآدميين تقبل من المعاوضة والبدل ما لا يقبلها حقوق الله تعالى، ولا تمنع المعاوضة في حق الآدمي إلا أن يكون في ذلك ظلم لغيره، أو يكون في ذلك حق لله، أو يكون من حقوق الله، فإنه لا يجوز إبدال الصلوات والحج بعمل آخر، ولا القبلة بقبلة أخرى، ولا شهر رمضان بشهر آخر، ولا وقت الحج ومكانه بوقت آخر ومكان آخر؛ بل أهل الجاهلية لما ابتدعوا النسيء الذي يتضمن إبدال وقت الحج بوقت آخر قال الله تعالى: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللهُ } [58].
والمساجد الثلاثة التي بنتها الأنبياء عليهم السلام وشرع للناس السفر إليها، ووجب السفر إليها بالنذر، لا يجوز إبدال عرصتها بغيرها؛ بل يجوز الزيادة فيها، وإبدال التاليف والبناء بغيره، كما دلت عليه السنة وإجماع الصحابة، بخلاف غيرها، فإنه لا يتعين للنذر، ولا يسافر إليه، فيجوز إبداله للمصلحة كما تقدم والله أعلم.
ومما يبين ذلك: أن الوقف على معين قد تنازع العلماء فيه: هل هو ملك للموقوف عليه؟ أو هو باق على ملك الواقف؟ أو هو ملك لله تعالى؟ على ثلاثة أقوال معروفة في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وأكثر أصحاب أحمد يختارون أنه ملك للموقوف عليه كالقاضي، وابن عقيل. وأما المسجد ونحوه، فليس ملكًا لمعين باتفاق المسلمين، وإنما يقال: هو ملك لله. وقد يقال: هو ملك لجماعة المسلمين؛ لأنهم المستحقون للانتفاع به، فإذا جاز إبدال هذا بخير منه للمصلحة، فالأول أولي، إما بأن يعوض عنها بالبدل، وإما أن تباع ويشتري بثمنها البدل، والإبدال كما تقدم يبدل بجنسه بما هو أنفع للموقوف عليه.
فصل في وقف ما لا ينتفع به إلا مع إبدال عينه
قد نص أحمد على أبلغ من ذلك وهو وقف ما لا ينتفع به إلا مع إبدال عينه فقال أبو بكر عبد العزيز في الشافي: نقل الميموني عن أحمد: أن الدراهم إذا كانت موقوفة على أهل بيته، ففيها الصدقة، وإذا كانت على المساكين، فليس فيها صدقة. قلت: رجل وقف ألف درهم في السبيل؟ قال: إن كانت للمساكين فليس فيها شيء. قلت: فإن وقفها في الكُراع والسلاح؟ قال: هذه مسألة لبس واشتباه. قال أبو البركات: وظاهر هذا جواز وقف الأثمان لغرض القرض، أو التنمية، والتصدق بالربح، كما قد حكينا عن مالك والأنصاري. قال: ومذهب مالك صحة وقف الأثمان للقرض، ذكره صاحب التهذيب وغيره في الزكاة، وأوجبوا فيها الزكاة كقولهم في الماشية الموقوفة على الفقراء. وقال محمد ابن عبد الله الأنصاري: يجوز وقف الدنانير؛ لأنه لا ينتفع بها إلا باستهلاك عينها، وتدفع مضاربة، ويصرف ربحها في مصرف الوقف.
ومعلوم أن القرض والقراض يذهب عينه ويقوم بدله مقامه، وجعل المبدل به قائمًا مقامه لمصلحة الوقف، وإن لم تكن الحاجة ضرورة الوقف لذلك. وهذه المسألة فيها نزاع في مذهبه، فكثير من أصحابه منعوا وقف الدراهم والدنانير؛ لما ذكره الخرقي ومن اتبعه، ولم يذكروا عن أحمد نصًا بذلك، ولم ينقله القاضي وغيره إلا عن الخرقي وغيره.
وقد تأول القاضي رواية الميموني، فقال: ولا يصح وقف الدراهم والدنانير على ما نقل الخرقي. قال: قال أحمد في رواية: الميموني إذا وقف ألف درهم في سبيل الله وللمساكين فلا زكاة فيها، وإن وقفها في الكراع والسلاح فهي مسألة لبس. قال: ولم يرد بهذا وقف الدراهم، وإنما أراد إذا أوصى بألف تنفق على أفراس في سبيل الله، فتوقف في صحة هذه الوصىة. قال أبو بكر: لأن نفقة الكراع والسلاح على من وقفه، فكأنه اشتبه عليه إلى أين تصرف هذه الدراهم إذا كان نفقة الكراع والسلاح على أصحابه.
والأول أصح؛ لأن المسألة صريحة في أنه وقف الألف، لم يوص بها بعد موته؛ لأنه لو وصى أن تنفق على خيل وقفها غيره جاز ذلك بلا نزاع، كما لو وصى بما ينفق على مسجد بناه غيره. وقول القائل: إن نفقة الكراع والسلاح على من وقفه. ليس بمسلم في ظاهر المذهب، بل إن شرط له الواقف نفقة وإلا كان من بيت المال، كسائر ما يوقف للجهات العامة كالمساجد. وإذا تعذر من ينفق عليه بيع، ولم يكن على الواقف الإنفاق عليه. وأحمد توقف في وجوب الزكاة؛ لا في وقفها؛ فإنه إنما سئل عن ذلك؛ لأن مذهبه أن الوقف إذا كان على جهة خاصة، كبني فلان وجبت فيه الزكاة عنده في عينه. فلو وقف أربعين شاة على بني فلان وجبت الزكاة في عينها في المنصوص عنه، وهو مذهب مالك. قال في رواية مهنا فيمن وقف أرضاًِ أو غنما في سبيل الله: لا زكاة عليه، ولا عشر: هذا في السبيل؛ إنما يكون ذلك إذا جعله في قرابته؛ ولهذا قال أصحابه: هذا يدل على ملك الموقوف عليه لرقبة الوقف. وجعلوا ذلك إحدى الروايتين عنه. وفي مذهبه قول آخر: أنه لا زكاة في عين الوقف؛ لقصور ذلك، واختاره القاضي في المجرد وابن عقيل، وهو قول أكثر أصحاب الشافعي.
وأما ما وقفه على جهة عامة؛ كالجهاد، والفقراء، والمساكين، فلا زكاة فيه في مذهبه، ومذهب الشافعي. وأما مالك فيوجب فيه الزكاة. فتوقف أحمد فيما وقف في الكراع والسلاح؛ لأن فيها اشتباها؛ لأن الكراع والسلاح قد يعينه لقوم بعينهم؛ إما لأولاده، أو غيرهم؛ بخلاف ما هو عام لا يعتقبه التخصيص.
فصل فيمن وصى بفرس وسرج ولجام مفضض في سبيل الله
وقال في رواية بكر بن محمد فيمن وصى بفرس وسرج ولجام مفضض: يوقف في سبيل الله حبيس، فهو على ما وقف وأوصى، وإن بيع الفضة من السرج واللجام وجعل في وقف مثله فهو أحب إلى؛ لأن الفضة لا ينتفع بها، ولعله يشتري بتلك الفضة سرج ولجام، فيكون أنفع للمسلمين. فقيل له: تباع الفضة، وتصرف في نفقة الفرس؟ قال: لا. وهذا مما ذكره الخلال وصاحبه أبو بكر عبد العزيز والقاضي وأبو محمد المقدسي وغيرهم. فقد صرح أحمد بأن الفرس واللجام المفضض هو على ما وقف وأوصى، وأنه إن بيعت الفضة من السرح واللجام وجعل في وقف مثله فهو أحب إليه. قال: لأن الفضة لا ينتفع بها، ولعله يشتري بتلك الفضة سرج ولجام فيكون أنفع للمسلمين. فخير بين إبقاء الحلية الموقوفة وقفا وبين أن تباع ويشتري بثمنها ما هو أنفع للمسلمين من سرج ولجام. وهذا يبين أفضل الأمرين.
وقوله: لأن الفضة لا ينتفع بها. لم يرد به أنه لا منفعة بها بحال؛ فإن التحلي منفعة مباحة، ويجوز استئجار من يصوغ الحلية المباحة، ولو أتلف متلف الصياغة المباحة ضمن ذلك، وقد نص أحمد على ذلك، ولو لم يكن منفعة لم يصح الاستئجار عليها، ولا ضمنت بالإتلاف، بل أراد نفي كمال المنفعة، كما يقال هذا لا ينفع. يراد أنه لا ينفع منفعة تامة. ويدل على ذلك قوله: ويشتري بثمنها ما هو أنفع للمسلمين. فدل على أن كلاهما سائغ والثاني أنفع؛ ولأنه لو لم تكن فيه منفعة بحال لم يصح وقفه؛ فإن وقف ما لا ينتفع به لا يجوز، وهذا يبين أن أفضل الأمرين أن يباع الوقف، ويبدل بما هو أنفع منه للموقوف عليه، وأن ذلك أفضل من إبقائه وقفا؛ لأنه أصلح للموقوف عليه، ولم يوجب الإبدال.
وقوله: فهو على ما وقف، وأوصى. يقتضي أن هذا حكم ما وقفه وما وصى بوقفه؛ وإن كانت المسألة التي سئل عنها هي فيمن وصى بوقفه، ومعلوم أنه يجب اتباع شرطه فيما وصى بوقفه؛ كما يجب فيما وقفه، كما يجب اتباع كلامه فيما وصى بعتقه، كما يجب ذلك فيما أعتقه؛ وأنه لا يجوز أن يوقف ويعتق غير ما أوصى بوقفه وعتقه، كما لا يجوز أن يجعل الموقوف والمعتق غير ما وقفه وأعتقه. فجواز الإبدال في أحدهما كجوازه في الآخر. وقد علل استحبابه للإبدال بمجرد كون البدل أنفع للمسلمين من الزينة.
ونظير هذا إذا وقف ما هو مزين بنقوش ورخام وخشب وغير ذلك مما يكون ثمنه مرتفعا لزينته؛ فإنه يباع، ويشتري بثمنه ما هو أنفع لأهل الوقف. فالاعتبار بما هو أنفع لأهل الوقف، وقد تكون تلك الفضة أنفع لمشتريها، وهذا لأن انتفاع المالك غير انتفاع أهل الوقف؛ ولهذا يباع الوقف الخرب لتعطل نفعه. ومعلوم أن ما لا نفع فيه لا يجوز بيعه، لكن تعطل نفعه على أهل الوقف، ولم يتعطل على المالك؛ لأن أهل الوقف مقصودهم الاستغلال أو السكني. وهذا يتعذر في الخراب، والمالك يشتريه فيعمره بماله.
وقد اختلف مذهب أحمد في مثل هذه الحلية، على قولين، كحلية الخوذة والجوشن، وحمائل السيف، ونحو ذلك من لباس الجهاد؛ فإن لباس خيل الجهاد كلباس المجاهدين. وهذه الرواية تدل على جواز تحلية لباس الخيل بالفضة؛ كالسرج واللجام؛ فإنه جوز وقف ذلك. وجعل بيعه وصرف ثمنه في وقف مثله أحب إليه، ولو لم يبح ذلك لم يخير بين هذا وهذا. وقال القاضي في المجرد ظاهر هذا أنه أبطل الوقف في الفضة التي على اللجام والسرج؛ لأن الانتفاع بذلك محرم، وليس كذلك الحلي الذي استعماله مباح، وأجاز صرف ذلك في جنس ما وقفه من السروج واللجم، ومنع من صرفه في نفقة الفرس؛ لأنه ليس من جنس الوقف.
والقاضي بني هذا على أن هذه الحلية محرمة، وأنه إذا وقف ما يحرم الانتفاع به فإنه يباع ويشتري به ما يباح الانتفاع به. فيوقف على تلك الجهة. ومعلوم أنه لولا أن مقتضي عقد الوقف جواز الإبدال للمصلحة لم يجز هذا، كما أنه في البيع والنكاح لما لم يكن مقتضي العقد جواز الإبدال لم يصح بيع ما لا يحل الانتفاع به. ولا نكاح من يحرم وطؤها. وهذا يشبه ما لو أهدي ما لا يجوز أن يكون هديا؛ فإنه يشتري بثمنه ما يكون هديا. وكذلك في الأضحية.
وكلام أحمد يدل على الطريقة الأولى، لا على الثانية. وهي طريقة أبي محمد وغيره من أصحاب أحمد، قال أبو محمد: أباح أحمد أن يشتري بفضة السرج واللجام سرجا ولجاما؛ لأنه صرف لهما في جنس ما كانت عليه، حيث لم ينتفع بهما فيه. فأشبه الفرس الحبيس إذا عطب فلم ينتفع به في الجهاد جاز بيعه وصرف ثمنه في مثله. قال: ولم يجز إنفاقها على الفرس، لأنه صرف لها إلى غير جهتها.
وأبو محمد جعل ذلك من باب تعطل النفع بالكلية، كعطب الفرس، وخراب الوقف؛ بناء على أصله؛ فإنه لا يجوز بيعه إلا إذا تعطل نفعه بالكلية، كما تقدم، ويدل على أن وقف الحلية صحيح، وهو قول الخرقي والقاضي، وغيرهما. والقاضي يجعل المذهب قولا واحدا في صحة وقفه.
وأما أبو الخطاب وغيره فيجعلون في المسألة خلافا، بل ويذكرون النصوص أنه لا يصح. بحسب ما بلغهم من نصه. قال القاضي: فإن وقف الحلي على الإعارة واللبس؟ فقال في رواية الأثرم، وحنبل: لا يصح، وأنكر الحديث الذي يروي عن أم سلمة في وقفه. قال القاضي: وظاهر ما نقله الخرقي جواز وقفه؛ لأنه يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه. وقوله: لا يصح، يعني: لا يصح الحديث فيه، ولم يقصد لا يصح الوقف فيه. وقال أبو الخطاب: وأما وقف الحلي على الإعارة واللبس فجائز على ظاهر ما نقله الخرقي. ونقل عنه الأثرم وحنبل: أنه لا يصح.
وتجويزه لوقف السرج واللجام المفضض يوافق ما ذكره الخرقي، لكن إبداله بما هو أنفع لأهل الوقف أفضل عنده أن يشتري بالحلية سرج ولجام.
فصل في إبدال الهدي والأضحية بخير منها
ونصوص أحمد في غير موضع واختيار جمهور أصحابه جواز إبدال الهدي، والأضحية بخير منها. قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتري الأضحية يسمنها للأضحي؟ يبدلها بما هو خير منها، لا يبدلها بما هو دونها. فقيل له: فإن أبدلها بما هو خير منها يبيعها؟ قال: نعم. قال القاضي: وقد أطلق القول في رواية صالح وابن منصور وعبد الله بجواز أن تبدل الأضحية بما هو خير منها. قال: ورأيت في مسائل الفضل بن زياد: إذا سماها لا يبيعها إلا لمن يريد أن يضحي بها.
وهاتان الروايتان عنه كالروايتين عنه في المسجد: هل يباع أو تنقل آلته لخير منه ؟ كذلك هنا؛ منع في إحدى الروايتين أن يأخذ عنها بدلا إلا إذا كانت يضحي بها؛ لتعلق حرمة التضحية بعينها. وقال الخرقي: ويجوز أن تبدل الأضحية إذا أوجبها بخير منها. وقال القاضي أبو يعلى في التعليق إذا أوجب بدنة جاز بيعها، وعليه بدنة مكانها؛ فإن لم يوجب مكانها حتى زادت في بدن أو شعر أو ولدت كان عليه مثلها زائدة ومثل ولدها، ولو أوجب مكانها قبل الزيادة والولد لم يكن عليه شيء من الزيادة.
ولم أعلم في أصحاب أحمد من خالف في هذا، إلا أبا الخطاب؛ فإنه اختار أنه لا يجوز إبدالها. وقال: إذا نذر أضحية وعينها زال ملكه عنها، ولم يجز أن يتصرف فيها ببيع ولا إبدال، وكذلك إذا نذر عتق عبد معين أو دراهم معينة وقال هذا قياس المذهب عندي؛ لأن التعيين يجري مجري النص في النذر الذي لا يلحقه الفسخ؛ لأن أحمد قد نص في رواية صالح وإبراهيم بن الحارث فيمن نذر أضحية بعينها فأعورت أو أصابها عيب، تجزيه، ولو كانت في ملكه لم تجزه، ووجبت عليه صحيحة، كما لو نذر أضحية مطلقة. قال: وكذلك نص في رواية حنبل في الهدي إذا عطب في الحرم، قد أجزأ عنه، ولو كان في ملكه لم يجزه، ووجب بدله. وغير ذلك من المسائل. فدل على ما قلت.
وأبو الخطاب بنى ذلك على أن ملكه زال عنها، فلا يجوز الإبدال بعد زوال الملك، وهو قول أصحاب مالك. والشافعي وأبو حنيفة يجوزون إبدالها بخير منها. وبني أصحابه ذلك هم والقاضي أبو يعلى وموافقوه على أن ملكه لم يزل عنها. والنزاع بين الطائفتين في هذا الأصل. وأحمد وفقهاء أصحابه لا يحتاجون أن يبنوا على هذا الأصل. وقال أبو الخطاب: هذا هو القياس في النذر: أنه إذا نذر الصلاة في مسجد بعينه لزمه، وإنما تركناه للشرع، وهو قوله ﷺ: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). فقيل له: فلو نذر الصلاة في المسجد الأقصى جاز له الصلاة في المسجد الحرام؟ فقال: إن لم يصح الخبر بذلك لم نسلم على هذه الرواية.
وهذا الذي قاله أبو الخطاب كما أنه خلاف نصوص أحمد وجمهور أصحابه، فهو خلاف سائر أصوله؛ فإن جواز الإبدال عند أحمد لا يفتقر إلى كون ذلك في ملكه، بل ولا تأثير لذلك في جواز الإبدال؛ فإنه لو نذر عتق عبد فعينه لم يجز إبداله بلا ريب، وإن لم يخرج عن ملكه، بل ويقول: خرجت الأضحية عن ملكه، ويجوز إبدالها بخير منها؛ كما نقول مثل ذلك في المساجد، وكما نقول بجواز الإبدال في المنذورات؛ لأن الذبح عبادة للّه، وذبح الأفضل أحب إلى الله تعالى، فكان هذا كإبدال المنذور بخير منه، وذلك خير لأهل الحرم، بخلاف العتق؛ فإن مستحقه هو العبد فبطل حقه بالإبدال.
والنزاع في كون الأضحية المعينة بالنذر ثابتة على ملكه أو خارجة عن ملكه إلى الله يشبه النزاع في الوقف على الجهة العامة. والمشهور في مذهب أحمد والجمهور في ذلك أنها ملك للّه. وقد يقال: لجماعة المسلمين، والمتصرف فيه بالتحويل هم المسلمون المستحقون للانتفاع به، فيتصرفون فيه بحكم الولاية، لا بحكم الملك وكذلك الهدي والأضحية المعين بالنذر إذا قيل: إنه يخرج عن ملك صاحبه؛ فإن له ولاية التصرف فيه بالذبح والتفريق، فكذلك له ولاية التصرف فيه بالإبدال، كما لو أتلفه متلف فإنه كان يأخذ ثمنه يشتري به بدله، وإن لم يكن مالكا له. فكونه خارجا عن ملكه لا يناقض جواز تصرفه فيه بولاية شرعية.
وقول القائل: يملكه صاحبه أو لا يملكه. في ذلك وفي نظائره؟ كقوله: العبد يملك أو لا يملك، وأهل الحرب هل يملكون أموال المسلمين أو لا يملكونها، والموقوف عليه هل يملك الوقف أو لا يملكه؟ إنما نشأ فيها النزاع بسبب ظن كون الملك جنسا واحدا تتماثل أنواعه، وليس الأمر كذلك، بل الملك هو القدرة الشرعية، والشارع قد يأذن للإنسان في تصرف دون تصرف، ويملكه ذلك التصرف دون هذا، فيكون مالكا ملكا خاصا، ليس هو مثل ملك الوارث، ولا ملك الوارث كملك المشتري من كل وجه، بل قد يفترقان. وكذلك ملك النهب والغنائم ونحوهما قد خالف ملك المبتاع والوارث.
فقول القائل: إنه يملك الأضحية المعينة. إن أراد أنه يملكها كما يملك المبتاع؛ بحيث يبيعها ويأخذ ثمنها لنفسه ويهبها لمن يشاء وتورث عنه ملكا فليس الأمر كذلك. وكذلك إن أراد بخروجها عن ملكه أنه انقطع تصرفه فيها كما ينقطع التصرف بالرق أو البيع فليس الأمر كذلك، بل له فيها ملك خاص، وهو ملكه أن يحفظها، ويذبحها، ويقسم لحمها، ويهدي، ويتصدق، ويأكل. وهذا الذي يملكه من أضحيته لا يملكه من أضحيته غيره.
فصل في أدلة بيع المسجد للمصلحة
والدليل على ذلك وجوه:
أحدها: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين: بابا يدخل الناس منه، وبابا يخرجون منه). ومعلوم أن الكعبة أفضل وقف على وجه الأرض، ولو كان تغييرها وإبدالها بما وصفه ﷺ واجبا لم يتركه، فعلم أنه كان جائزا، وأنه كان أصلح لولا ما ذكره من حدثان عهد قريش بالإسلام. وهذا فيه تبديل بنائها ببناء آخر. فعلم أن هذا جائز في الجملة؟ وتبديل التاليف بتاليف آخر هو أحد أنواع الإبدال.
وأيضا، فقد ثبت أن عمر وعثمان غيرا بناء مسجد النبي ﷺ؛ أما عمر فبناه بنظير بنائه الأول باللبن والجذوع، وأما عثمان فبناه بمادة أعلا من تلك كالساج. وبكل حال فاللبن والجذوع التي كانت وقفا أبدلها الخلفاء الراشدون بغيرها. وهذا من أعظم ما يشتهر من القضايا ولم ينكره منكر. ولا فرق بين إبدال البناء ببناء، وإبدال العرصة بعرصة: إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ ولهذا أبدل عمر بن الخطاب مسجد الكوفة بمسجد آخر، أبدل نفس العرصة، وصارت العرصة الأولي سوقا للتمارين. فصارت العرصة سوقا بعد أن كانت مسجدا. وهذا أبلغ ما يكون في إبدال الوقف للمصلحة. وأيضا، فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه جوز إبدال المنذور بخير منه. ففي المسند مسند أحمد وسنن أبي داود، قال أبو داود: ثنا موسي بن إسماعيل، ثنا حماد يعني ابن سلمة أنا حبيب المعلم، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله، أن رجلا قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عز وجل عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، قال أبو سلمة: مرة ركعتين، قال: (صل ها هنا)، ثم أعاد عليه، فقال: (صل ها هنا)، ثم أعاد عليه؛ قال: (فشأنك إذا). قال أبو داود: وروي نحوه عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي ﷺ.
ولهذا في السنن طريق ثالث رواه أحمد وأبو داود، عن طائفة من أصحاب النبي ﷺ، قال أبو داود: ثنا بن خالد. ثنا أبو عاصم، وثنا عباس العمبري، ثنا روح، عن ابن جريج، أنا يوسف بن الحكم بن أبي سفيان، أنه سمع حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن رجال من أصحاب النبي ﷺ بهذا الخبر، زاد فقال النبي ﷺ: (والذي بعث محمدا بالحق لو صليت ها هنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس). قال أبو دواد: رواه الأنصار، عن ابن جريح. قال حفص بن عمر بن حنة: وقال عمر: أخبراه عن عبد الرحمن بن عوف، عن رجال من أصحاب النبي ﷺ.
وفي المسند وصحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة شكت شكوى، فقالت: إن شفاني الله فلأخرجن فلأصلين في بيت المقدس، فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج، فجاءت ميمونة تسلم عليها، وأخبرتها بذلك، فقالت: اجلسي وكلي ما صنعت، وصلى في مسجد رسول الله ﷺ؛ فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة).
وهذا مذهب عامة العلماء كالشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وابن المنذر، وغيرهم: قالوا: إذا نذر أن يصلي في بيت المقدس أجزأه الصلاة في مسجد النبي ﷺ، وإن نذر الصلاة في مسجد النبي ﷺ أجزأه الصلاة في المسجد الحرام، وإن نذر الصلاة في المسجد الحرام لم تجزه الصلاة في غيره عند الأكثرين، وهو مذهب ابن المسيب، ومالك، والشافعي في أصح قوليه، ومذهب أبي يوسف صاحب أبي حنيفة. وحكي عن أبي حنيفة: لا يتعين شيء للصلاة، بخلاف ما لو نذر أن يأتي المسجد الحرام لحج أو عمرة؛ فإن هذا يلزمه بلا نزاع. وأبو حنيفة بني هذا على أصله؛ وهو أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع.
وأما مالك وأحمد والشافعي في ظاهر مذهبه فيوجبون بالنذر ما كان طاعة، وإن لم يكن جنسه واجبا بالشرع، كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). والنبي ﷺ قال: (صل ها هنا)، وقال: (لو صليت هنا لأجزأ عنك صلاة أو كل صلاة في بيت المقدس)، فخص الأمر بالصلاة في المسجد الحرام، ولم يقل: صل حيث شئت، وقال: (لو صليت ها هنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس)، فجعل المجزي عنه الصلاة في المسجد الأفضل، لا في كل مكان. فدل هذا على أنه لم ينقله إلى البدل إلا لفضله، لا لكون الصلاة لم تتعين.
وقد ثبت عنه في الصحاح تفضيل مسجده والمسجد الحرام على المسجد الأقصى، وفي السنن والمسند تفضيل المسجد الحرام على مسجده، وثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)، وفي لفظ لمسلم: (إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد) فدل ذلك على أن السفر إلى هذه الثلاثة بِرٌ وقربة وعمل صالح؛ ولهذا أذن له النبي ﷺ أن يذهب إلى الأقصى، مع أمره له أن يصلي في المسجد الحرام، وإخباره أن ذلك يجزيه فدل ذلك على أنه أمر ندب، وأنه مخير بين أن يفعل عين المنذور، وإن يفعل ما هو أفضل منه.
ومعلوم أن النذر يوجب عليه ما نذره للّه تعالى من الطاعة؛ لقوله: (من نذر أن يطيع الله فليطعه). وهو أمر أوجبه هو على نفسه، لم يجب بالشرع ابتداء ثم إن الشارع بين أن البدل الأفضل يقوم مقام هذا، والأضحية والهدي المعين وجوبه من جنس وجوب النذر المعين. فدل ذلك على أن إبداله بخير منه أفضل من ذبحه بعينه: كالواجب بالشرع في الذمة، كما لو وجب عليه بنت مخاض فأدى بنت لبون، أو وجب عليه بنت لبون فأدى حقة، وفي ذلك حديث في السنن عن النبي ﷺ، يبين أنه إذا أدى أفضل مما وجب عليه أجزأه. رواه أبو داود في السنن وغيره.
قال أبو داود: ثنا محمد بن منصور، ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن يحيي بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن عمارة بن عمرو بن حزم، عن أبي بن كعب، قال: بعثني النبي ﷺ مُصَدِّقًا، فمررت برجل، فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا بنت مخاض، فقلت له: أدِّ بنت مخاض؛ فإنها صدقتك. فقال: ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها. فقلت له: ما أنا بآخذ ما لم أومر به، وهذا رسول الله ﷺ منك قريب، فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت على فافعل، فإن قبله منك قبلته، وإن رده عليك رددته. قال. فإني فاعل، فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض على حتى قدمنا على رسول الله ﷺ، فقال: يانبي الله، أتاني رسولك ليأخذ من صدقة مالى، وايم الله ما قام في مالى رسول الله ﷺ ولا رسوله قط قبله، فجمعت له مالى، فزعم أن ما على إلا بنت مخاض، وذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر، وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة ليأخذها فأبي على، وها هي هذه قد جئتك بها يا رسول الله، خذها. فقال له رسول الله ﷺ: (ذلك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه، وقبلناه منك). قال: فها هي ذه يا رسول الله، قد جئتك بها، فخذها، قال: فأمر رسول الله ﷺ بقبضها، ودعا له في ماله بالبركة.
وما في هذا الحديث من إجزاء سن أعلا من الواجب مذهب عامة أهل العلم الفقهاء المشهورين وغيرهم. فقد ثبت أن إبدال الواجب بخير منه جائز بل يستحب فيما وجب بإيجاب الشرع وبإيجاب العبد. ولا فرق بين الواجب في الذمة وما أوجبه معينا؛ فإنما وجب في الذمة وإن كان مطلقا من وجه فإنه مخصوص متميز عن غيره؛ ولهذا لم يكن له إبداله بدونه بلا ريب.
وعلى هذا، فلو نذر أن يقف شيئا فوقف خيرا منه كان أفضل، فلو نذر أن يبني للّه مسجدا وصفه، أو يقف وقفا وصفه. فبني مسجدا خيرا منه، ووقف وقفا خيرا منه كان أفضل. ولو عينه، فقال: للّه على أن أبني هذه الدار مسجدا أو وقفها على الفقراء والمساكين. فبني خيرا منها، ووقف خيرا منها، كان أفضل، كالذي نذر الصلاة بالمسجد الأقصى وصلى في المسجد الحرام، أو كانت عليه بنت مخاض فأدى خيرًا منها.
وقد تنازع الفقهاء في الواجب المقدر إذا زاده؛ كصدقة الفطر إذا أخرج أكثر من صاع. فجوزه أكثرهم، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم. وروي عن مالك كراهة ذلك. وأما الزيادة في الصفة فاتفقوا عليها، والصحيح جواز الأمرين؛ لقوله تعالى: { وَعلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [59]، وقد ثبت باتفاق أهل العلم وهو في كتب الحديث الصحاح وغيرها وكتب التفسير والفقه أن الله لما أوجب رمضان كان المقيم مخيرا بين الصوم وبين أن يطعم كل يوم مسكينا. فكان الواجب هو إطعام المسكين، وندب سبحانه إلى إطعام أكثر من ذلك، فقال تعالى: { وَعلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ }، ثم قال: { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ }، فلما كانوا مخيرين كانوا على ثلاث درجات: أعلاها الصوم، ويليه أن يطعم في كل يوم أكثر من مسكين، وأدناها أن يقتصر على إطعام مسكين. ثم إن الله حتم الصوم بعد ذلك وأسقط التخيير في الثلاثة.
فإن قيل: ففي سنن أبي داود: ثنا عبد الله بن محمد النفيلي ثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن جهم بن الجارود، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: قال أهدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه نجيبة، فأعطي بها ثلاثمائة دينار، فأتي النبي ﷺ، فقال: يارسول الله، إني أهديت نجيبة فأعطيت بها ثلاثمائة دينار أفأبيعها، وأشتري بثمنها بدنا؟ قال: (لا. انحرها إياها)، فقد نهاه عن بيعها وأن يشتري بثمنها بدنا؟
قيل: هذه القضية بتقدير صحتها قضية معينة، ليس فيها لفظ عام يقتضي النهي عن الإبدال مطلقا، ونحن لم نجوز الإبدال مطلقا. ولا يجوزه أحد من أهل العلم بدون الأصل، وليس في هذا الحديث أن البدل كان خيرا من الأصل، بل ظاهره أنها كانت أفضل. فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه سئل: أي الرقاب أفضل؟ فقال: (أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها). وقد قال تعالى: { ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } [60]، وقد قيل: من تعظيمها: استحسانها واستسمانها والمغالاة في أثمانها.
وهذه النجيبة كانت نفيسة؛ ولهذا بذل فيها ثمن كثير، فكان إهداؤها إلى الله أفضل من أن يهدي بثمنها عدد دونها، والملك العظيم قد يهدي له فرس نفيسه فتكون أحب إليه من عدة أفراس بثمنها، فالفضل ليس بكثرة العدد فقط، بل قد قال الله تعالى: { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [61]، فما كان أحب إلى المرء إذا تقرب به إلى الله تعالى كان أفضل له من غيره، وإن استويا في القيمة؛ فإن الهدية والأضحية عبادة بدنية ومالية، ليست كالصدقة المحضة، بل إذا ذبح النفيس من ماله لله تعالى كان أحب إلى الله تعالى. قال بعض السلف: لا يهدي أحدكم لله تعالى ما يستحي أن يهديه لكريمه، وقد قال تعالى: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } [62]، وقد قرب ابني آدم قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. وقد ذكر أن سبب ذلك أن أحدهما قرب نفيس ماله، والآخر قرب الدون من ماله. والله أعلم.
سئل عن الواقف والناذر يوقف شيئا ثم يري غيره أحظ للموقوف
وَسُئِلَ شيخُ الإسلام عن الواقف والناذر يوقف شيئًا، ثم يري غيره أحظ للموقوف عليه منه هل يجوز إبداله؛ كما في الأضحية؟
فأجاب:
وأما إبدال المنذور والموقوف بخير منه كما في إبدال الهدي، فهذا نوعان:
أحدهما: أن الإبدال للحاجة مثل أن يتعطل فيباع ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه، كالفرس الحبيس للغزو إذا لم يمكن الانتفاع به للغزو فإنه يباع ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه، والمسجد إذا خرب ما حوله فتنقل آلته إلى مكان آخر. أو يباع ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه: أو لا يمكن الانتفاع بالموقوف عليه من مقصود الواقف فيباع ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه. وإذا خرب ولم تمكن عمارته فتباع العرصة، ويشتري بثمنها ما يقوم مقامها، فهذا كله جائز؛ فإن الأصل إذا لم يحصل به المقصود قام بدله مقامه.
والثاني: الإبدال لمصلحة راجحة؛ مثل أن يبدل الهدي بخير منه، ومثل المسجد إذا بني بدله مسجد آخر أصلح لأهل البلد منه، وبيع الأول، فهذا ونحوه جائز عند أحمد وغيره من العلماء. واحتج أحمد بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نقل مسجد الكوفة القديم إلى مكان آخر، وصار الأول سوقًا للتمارين، فهذا إبدال لعرصة المسجد.
وأما إبدال بنائه ببناء آخر، فإن عمر وعثمان بنيا مسجد النبي ﷺ بناء غير بنائه الأول وزادا فيه، وكذلك المسجد الحرام، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين: بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرج الناس منه). فلولا المعارض الراجح لكان النبي ﷺ يغير بناء الكعبة. فيجوز تغيير بناء الوقف من صورة إلى صورة لأجل المصلحة الراجحة.
وأما إبدال العرصة بعرصة أخرى، فهذا قد نص أحمد وغيره على جوازه اتباعًا لأصحاب رسول الله ﷺ، حيث فعل ذلك عمر، واشتهرت القضية، ولم تنكر.
وأما ما وقف للغلة إذا أبدل بخير منه؛ مثل أن يقف دارًا، أو حانوتًا، أو بستانًا، أو قرية يكون مغلها قليلا، فيبدلها بما هو أنفع للوقف، فقد أجاز ذلك أبو ثور وغيره من العلماء؛ مثل أبي عبيد بن حرمويه، قاضي مصر، وحكم بذلك. وهو قياس قول أحمد في تبديل المسجد من عرصة إلى عرصة للمصلحة، بل إذا جاز أن يبدل المسجد بما ليس بمسجد للمصلحة بحيث يصير المسجد سوقًا فلأن يجوز إبدال المستغل بمستغل آخر أولي و أحرى. وهو قياس قوله في إبدال الهدي بخير منه. وقد نص على أن المسجد اللاصق بأرض إذا رفعوه وبنوا تحته سقاية، واختار ذلك الجيران، فعل ذلك. لكن من أصحابه من منع إبدال المسجد والهدي والأرض الموقوفة، وهو قول الشافعي وغيره، لكن النصوص والآثار والقياس تقتضي جواز الإبدال للمصلحة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
سئل عمن أوقف وقفا يحصل لأصحابها ضرر به
وَسُئِلَ رحمه الله تعالى عمن أوقف وقفًا على الفقراء. وهو من كروم يحصل لأصحابها ضرر به. فهل يجوز أن يرجع فيه ويقف غيره؟ وهل إذا فعل يكون الاثنان وقفًا؟
فأجاب:
إذا كان في ذلك ضرر على الجيران جاز أن يناقل عنه ما يقوم مقامه، ويعود الأول ملكًا، والثاني وقفًا، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسجد الكوفة لما جعل مكانه مسجدًا صار الأول سوقًا للتماّرين. وَسُئِلَ عن حوض سبيل، وعليه وقف إسطبل، وقد باعه الناظر، ولم يشتر بثمنه شيئًا من مدة ست سنين. فهل يجوز ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، أما بيعه بغير استبدال لما يقوم مقامه فلا ريب أنه لا يجوز. وأما إذا باعه لتعطل نفعه واشتري بالثمن ما يقوم مقامه فهذا يجوز على الصحيح في قولي العلماء، وإن استبدل به خيرًا منه مع وجود نفعه ففيه نزاع. والله أعلم.
سئل عن قرية بها عدة مساجد بعضها قد خرب
وَسُئِلَ رحمه الله عن قرية بها عدة مساجد، بعضها قد خرب لا تقام الصلاة إلا في واحد منها، ولها وقف عليها كلها. فهل تجب عمارة الخرب، وإقامة الجماعة في مسجد ثان؟ وهل يحل إغلاقها؟
فأجاب:
نعم، تجب عمارة المسجد إلى إقامة الصلاة فيه. وكذلك ترتيب إمام في مسجد آخر يجب أن يفعل عند المصلحة والحاجة، ولا يحل إغلاق المساجد عما شرعت له. وأما عند قلة أهل البقعة واكتفائهم بمسجد واحد مثل أن يكونوا حوله فلا يجب تفريق شملهم في غير مسجدهم.
سئل أيضا عن وقف على جماعة توفي بعضهم وله شقيق
وَسُئِلَ أيضًا عن وقف على جماعة توفي بعضهم، وله شقيق، وولد، وللعلماء في ذلك خلاف مستفيض في مثله: هل يخص الولد أم الأخ؟ فشهد قوم أنه يخص الولد دون الأخ بمقتضي شرط الواقف، مع عدم تحقيقهم الحد الموقوف، بحيث إنهم غيروا بعض الحدود عما هي عليه. فهل يجوز لهم ذلك؟ وهل للحاكم أن يحكم بشهادتهم هذه من غير استفصال؟ وما الحكم في مجموع السؤال؟ أفتونا مفصلا مأجورين. إن شاء الله تعالى.
فأجاب:
الحمد لله، الشهادة في الوقف بالاستحقاق غير مقبولة، وكذلك في الإرث من الأمور الاجتهادية؛ كطهارة الماء ونجاسته، ولكن الشاهد يشهد بما يعلمه من الشروط، ثم الحاكم يحكم في الشرط بموجب اجتهاده. والله أعلم.
سئل عن وقف على رجل ثم على أولاده فاقتسمه الفلاحون
وَسُئِلَ عن وقف على رجل؛ ثم على أولاده فاقتسمه الفلاحون، ثم تناقل بعضهم حصته إلى جانب حصة شريكه فهل تنفسخ القسمة والمناقلة؟
فأجاب:
لا تصح قسمة رقبة الوقف الموقوف على جهة واحدة، لكن تصح قسمة المنافع، وهي المهايأة. وإذا كانت مطلقة لم تكن لازمة، لاسيما إذا تغير الموقوف فتجوز بغير هذه المهايأة.
سئل عن بيعة بقرية ولها وقف
وَسُئِلَ عن بيعة بقرية، ولها وقف، وانقرض النصارى بتلك القرية، وأسلم من بقي منهم فهل يجوز أن يتخذ مسجدًا؟
فأجاب:
نعم، إذا لم يبق من أهل الذمة الذين استحقوا تلك أحد، جاز أن يتخذ مسجدًا، لا سيما إن كانت ببر الشام، فإنه فتح عنوة.
سئل عن مسجد مجاور كنيسة خراب سقط بعض جدرانها على باب المسجد
وَسُئِلَ رحمه الله عن مسجد مجاور كنيسة مغلقة خراب، سقط بعض جدرانها على باب المسجد، وعلى رحابه التي يتوصل منها، وزالت بعض الجدار الذي انهدم، وسقط على جدار المسجد، ويخاف على المسلمين من وقعها، ومن يصلي بالمسجد؟ وإذا آلت كلها للخراب هل تهدم؟
فأجاب:
نعم، إذا خيف تضرر المسجد وإيذاء المصلين فيه وجب إزالة ما يخاف من الضرر على المسجد وأهله. وإذا لم يزل إلا بالهدم هدمت، بل قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (لا قبلتان بأرض، ولا جزية على مسلم).
وإذا كانت هذه في أرض فتحت عنوة وجب أن تزال، ولا تترك مجاورة. والله أعلم.
سئل عن مسجد ليس له وقف وبجواره ساحة
وَسُئِلَ رحمه الله عن مسجد ليس له وقف، وبجواره ساحة: هل يجوز أن تعمل سكنًا للإمام؟ أفتونا؟
فأجاب:
يجوز ذلك والحالة هذه؛ فإن الساحة ليست من المسجد، كما ذكر. والله أعلم.
سئل عمن هو في مسجد يأكل وقفه ولا يقوم بمصالحه
وَسُئِلَ رحمه الله عمن هو في مسجد يأكل وقفه، ولا يقوم بمصالحه. وللواقف أولاد محتاجون: فهل لهم تغييره، وإقامة غيره، وأخذ الفائض عن مصلحة المسجد ؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا لم يقم بالواجب فإنه يغيره من له ولاية ذلك لمن يقوم بالواجب، إذا لم يتب الأول ويلتزم بالواجب. وأما الفاضل عن مصلحة المسجد فيجوز صرفه في مساجد أخر، وفي المستحقين للصدقة من أقارب الواقف وجيران المسجد.
سئل عن مسجد مجاور كنيسة خراب سقط بعض جدرانها على باب المسجد
وَسُئِلَ رحمه الله هل يجوز أن يبني خارج المسجد من رِيع الوقف مسكنًا ليأوي فيه أهل المسجد الذين يقومون بمصالحه؟
فأجاب:
نعم، يجوز لهم أن يبنوا خارج المسجد من المساكن ما كان مصلحة لأهل الاستحقاق لريع الوقف القائمين بمصلحته.
سئل عن مسجد أعلاه طبقة وأنها ضرر على المسجد
وَسُئِلَ رحمه الله عن مسجد أعلاه طبقة، وهو عتيق البناء، وأن الطبقة لم يسكنها أحد ولم ينتفع بها لكونها ساقطة، وأنها ضرر على المسجد لثقلها عليه تخربه، ولا له شيء يعمر منه: فهل يجوز نقض الطبقة التي أعلاه، أو يغلق ذلك المسجد؟
فأجاب:
إذا كان نقض الطبقة مصلحة للمسجد فتنقض، وتصرف الأنقاض في مصالح المسجد، وإن أمكن أن يشتري بها ما يوقف عليه أو يصرف في عمارته أو عمارة وقفه، فعل ذلك.
سئل عن رجل استأجر أرضا موقوفة
وَسُئِلَ عن رجل استأجر أرضًا موقوفة، وبني عليها ما أراد، ثم أوقف ذلك البناء وشرط أن يعطي الأجرة الموقوفة من ريع وقفه عليها، وحكم الحاكم بصحة الوقف على الشروط المذكورة في الوقف: فهل يجوز نقض ذلك أم لا؟ وإذا أراد الواقف نقض الوقف بعد ثبوته ليدخل فيه عددًا آخر بوقف ثان: هل يجوز ذلك؟
فأجاب:
إذا حكم الحاكم بصحة الوقف لم يجز فيه تغييره ولا تبديل شروطه.
سئل عن وقف على الفقراء وفيه أشجار زيتون
وَسُئِلَ عن وقف على الفقراء والمساكين، وفيه أشجار زيتون وغيره يحمل بعض السنين بثمر قليل، فإذا قطعت وأبيعت يشتري بثمنها ملك يغل بأكثر منها: فهل للناظر ذلك؟ وهل إذا طالبه بعض المستحقين للوقف يقطع الشجر ويبيعه ويقسم منه عليهم، فهل لهم ذلك؟ أم شراء الملك؟ وإذا تولي شخص فوجد من تقدمه غير شرط الواقف، فجهد في عمل شرط الواقف: فهل له أن يأخذ ما جرت به العادة من الجامكية، بكونه لم يقدر أن يعمل بما شرطه الواقف، وهذا الناظر فقير لا مال له: فهل له أن يأخذ من نسبة الفقراء، ويكون نظره تبرعًا؟ بينوا لنا ذلك.
فأجاب:
الحمد لله، نعم، يجوز بيع تلك الأشجار، وأن يشتري بها ما يكون مغله أكثر؛ فإن الشجر كالبناء، وللناظر أن يغير صورة الوقف من صورة إلى صورة أصلح منها، كما غير الخلفاء الراشدون صورة المسجدين اللذين بالحرمين الشريفين، وكما نقل عمر بن الخطاب مسجد الكوفة من موضع إلى موضع، وأمثال ذلك. ولا يقسم ثمن الشجر بين الموجودين؛ لأن الشجر كالبناء لا يختص بثمنه الموجودون، وليس هو بمنزلة الشجر والزرع والمنافع التي يختص كل أهل طبقة بما يؤخذ في زمنها منها.
وأما الناظر فعليه أن يعمل ما يقدر عليه من العمل الواجب، ويأخذ لذلك العمل ما يقابله، فإن كان الواجب عشرة أجزاء من العوض المستحق أخذه، وإن كان يستحق الجميع على ما يعمله أخذ الجميع. وله أن يأخذ على فقره ما يأخذه الفقير على فقره. والله أعلم.
سئل عن تغيير صورة الوقف
وَسُئِلَ عن تغيير صورة الوقف؟
فأجاب:
الحمد لله أما ما خرج من ذلك عن حدود الوقف إلى طريق المسلمين، وإلى حقوق الجيران، فيجب إزالته بلا ريب. وأما ما خرج إلى الطريق النافذ فلابد من إزالته، وأما إن كان خرج إلى ملك الغير فإن أذن فيه وإلا أزيل.
وأما تغيير صورة البناء من غير عدوان فينظر في ذلك إلى المصلحة، فإن كانت هذه الصورة أصلح للوقف وأهله أقرت. وإن كان إعادتها إلى ما كانت عليه أصلح أعيدت. وإن كان بناء ذلك على صورة ثالثة أصلح للوقف بنيت. فيتبع في صورة البناء مصلحة الوقف، ويدار مع المصلحة حيث كانت. وقد ثبت عن الخلفاء الراشدين كعمر وعثمان أنهما قد غيرا صورة الوقف للمصلحة بل فعل عمر بن الخطاب ما هو أبلغ من ذلك حيث حول مسجد الكوفة القديم فصار سوق التمارين، وبني لهم مسجدًا في مكان آخر. والله أعلم.
سئل عمن ناصب على أرض وقف
وَسُئِلَ عمن ناصب على أرض وقف على أن للوقف ثلثي الشجر المنصوب، وللعامل الثلث: فهل لمن بعده من النظار بيع نصيب الوقف من الشجر؟
فأجاب:
لا يجوز له بيع ذلك إلا لحاجة تقتضي ذلك. والله أعلم.
سئل عن امرأة وقفت على ولديها دكاكين ودارا
وَسُئِلَ رحمه الله عن امرأة وقفت على ولديها دكاكين ودارًا، ثم بعد بنيها وبني أولادها يرجع على وقف مدرسة نور الدين الشهيد وغيره من المصارف الشرعية، ثم إن بعض قرائب المرأة تعدي وتحيل وباع الوقف، ثم إن الورثة حاكموا المشتري ورقم القاضي على شهود الكتاب، وهو صحيح ثابت. فقام المشتري وأوقفها صدقة على خبز يصرف للمساكين وجعل الرئيس ناظرًا على الصدقة: فهل يصح ذلك. وإذا علم الرئيس العالم المتعبد أن هذا مغتصب، فهل يحل له أن يكون ناظرًا عليه، وما يكون؟
فأجاب:
بيع الوقف الصحيح اللازم الذي يحصل به مقصود الوقف من الانتفاع لا يجوز، ولا يصح وقف المشتري له، ولا يجوز للناظر على الوقف الثاني أن يصرفه إلى غير المستحقين قبل، ولا يتصرف فيه بغير مسوغ شرعي، سواء تصرف بحكم النظر الباطل، أو بغير ذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل بني حائطا في مقبرة المسلمين
وَسُئِلَ رحمه الله عن رجل بني حائطًا في مقبرة المسلمين، يقصد أن يحوز نفعه لدفن موتاه، فادعي رجل أن له موتي تحت الحائط، وما هو داخل الحائط: فهل يجوز له ذلك؟
فأجاب:
ليس له أن يبني على مقبرة المسلمين حائطًا، ولا أن يحتجر من مقبرة المسلمين ما يختص به دون سائر المستحقين. والله أعلم.
سئل عن حمام أكثرها وقف
وَسُئِلَ رحمه الله عن حمام أكثرها وقف على الفقراء والمساكين والفقهاء، وأن إنسانًا له حمامات بالقرب منها، وأنه احتال واشتري منها نصيبًا، وأخذ الرصاص الذي يخصه من الحاصل، وعطل الحمام وضار: فهل يلزمه العمارة أسوة الوقف أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله ليس له أن يتصرف في الحمام المشتركة بغير إذن الشركاء ولا بإذن الشارع، ولا يستولي على شيء منها بغير إذن الشركاء، ولا يقسم بنفسه شيئًا ويأخذ نصيبه منه، سواء كان رصاصًا أو غيره؛ ولا يغير بناء شيء منها، ولا يغير القدر ولا غيرها، وهذا كله باتفاق المسلمين. وليس له أن يغلقها، بل يكري على جميع الشركاء إذا طلب بعضهم ذلك، وتقسم بينهم الأجرة. وهذا مذهب جماهير العلماء؛ كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد. وإذا احتاجت الحمام إلى عمارة لابد منها، فعلى الشريك أن يعمر معهم في أصح قولي العلماء. والله أعلم.
سئل عن قناة سبيل
وَسُئِلَ رحمه الله عن قناة سبيل، لها فايض، ينزل على قناة الوسخ، وقريب منها قناة طاهرة قليلة الماء: فهل يجوز أن يساق ذلك الفائض إلى المطهرة، وهل يثاب فاعل ذلك؟ وهل يجوز منعه؟
فأجاب:
نعم، يجوز ذلك بإذن ولي الأمر، ولا يجوز منع ذلك إذا لم يكن فيه مصلحة شرعية، ويثاب الساعي في ذلك. والله أعلم.
سئل عن الوقف الذي يشتري بعوضه ما يقوم مقامه
وَسُئِلَ رحمه الله عن الوقف الذي يشتري بعوضه ما يقوم مقامه، وذلك مثل الوقف الذي أتلفه متلف، فإنه يؤخذ منه عوضه يشتري به ما يقوم مقامه؛ فإن الوقف مضمون بالإتلاف باتفاق العلماء، ومضمون باليد. فلو غصبه غاصب تلف تحت يده العادية فإن عليه ضمانه باتفاق العلماء، لكن قد تنازع بعضهم في بعض الأشياء هل تضمن بالغصب كالعقار. وفي بعضها هل يصح وقفه كالمنقول؟ ولكن لم يتنازعوا أنه مضمون بالإتلاف باليد كالأموال، بخلاف أم الولد، فإنهم وإن اتفقوا على أنها مضمونة بالإتلاف، فقد تنازعوا هل تضمن باليد أو لا؟ فأكثرهم يقول: هي مضمونة باليد؛ كمالك، والشافعي، وأحمد. وأما أبو حنيفة فيقول: لا تضمن باليد. وضمان اليد هو ضمان العقد، كضمان البايع تسليم المبيع، وسلامته من العيب، وأنه بيع بحق. وضمان دركه عليه بموجب العقد وإن لم يشترطه بلفظه.
ومن أصول الاشتراء ببدل الوقف؛ إذا تعطل نفع الوقف؛ فإنه يباع ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه في مذهب أحمد، وغيره. وهل يجوز مع كونه مغلا أن يبدل بخير منه؟ فيه قولان في مذهبه. والجواز مذهب أبي ثور وغيره.
والمقصود أنه حيث جاز البدل، هل يشترط أن يكون في الدرب أو البلد الذي فيه الوقف الأول. أم يجوز أن يكون بغيره إذا كان ذلك أصلح لأهل الوقف؛ مثل أن يكونوا مقيمين ببلد غير بلد الوقف، وإذا اشتري فيه البدل كان أنفع لهم؛ لكثرة الريع، ويسر التناول؟ فنقول:
ما علمت أحدًا اشترط أن يكون البدل في بلد الوقف الأول، بل النصوص عند أحمد وأصوله وعموم كلامه وكلام أصحابه وإطلاقه يقتضي أن يفعل في ذلك ما هو مصلحة أهل الوقف؛ فإن أصله في هذا الباب مراعاة مصلحة الوقف، بل أصله في عامة العقود اعتبار مصلحة الناس؛ فإن الله أمر بالصلاح، ونهي عن الفساد وبعث رسله بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها: { وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } [63]، وقال شعيب: { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ } [64]، وقال تعالى: { آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [65]، وقال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ } [66].
وقد جوز أحمد بن حنبل إبدال مسجد بمسجد آخر للمصلحة، كما جوز تغييره للمصلحة. واحتج بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبدل مسجد الكوفة القديم بمسجد آخر، وصار المسجد الأول سوقًا للتمارين. وجوز أحمد إذا خرب المكان أن ينقل المسجد إلى قرية أخرى، بل ويجوز، في أظهر الروايتين عنه: أن يباع ذلك المسجد ويعمر بثمنه مسجدًا آخر في قرية أخرى إذا لم يحتج إليه في القرية الأولي. فاعتبر المصلحة بجنس المسجد، وإن كان في قرية غير القرية الأولى؛ إذ كان جنس المساجد مشتركة بين المسلمين والوقف على قوم بعينهم أحق بجواز نقله إلى مدينتهم من المسجد؛ فإن الوقف على معينين حق لهم، لا يشركهم فيه غيرهم. وغاية ما فيه أن يكون بعد انقضائهم لجهة عامة؛ كالفقراء، والمساكين. فيكون كالمسجد. فإذا كان الوقف ببلدهم أصلح لهم كان اشتراء البدل ببلدهم هو الذي ينبغي فعله لمتولي ذلك.
وصار هذا كالفرس الحبيس الذي يباع ويشتري بقيمته ما يقوم مقامه إذا كان محبوسًا على ناس ببعض الثغور، ثم انتقلوا إلى ثغر آخر، فشراء البدل بالثغر الذي هو فيه مضمون أولي من شرائه بثغر آخر. وإن كان الفرس حبيسًا على جميع المسلمين فهو بمنزلة الوقف على جهة عامة؛ كالمساجد، والوقف على المساكين.
ومما يبين هذا: أن الوقف لو كان منقولا؛ كالنور، والسلاح، وكتب العلم؛ وهو وقف على ذرية رجل بعينهم، جاز أن يكون مقر الوقف حيث كانوا، بل كان هذا هو المتعين، بخلاف ما لو أوقف على أهل بلد بعينه.
لكن إذا صار له عوض، هل يشتري به ما يقوم مقامه إذا كان العوض منقولا؟ فأن يشتري بهذا العوض في بلد مقامهم أولي من أن يشتري به في مكان العقار الأول، إذا كان ذلك أصلح لهم؛ إذ ليس في تخصيص مكان العقار الأول مقصود شرعي، ولا مصلحة لأهل الوقف. وما لم يأمر به الشارع ولا مصلحة فيه للإنسان فليس بواجب ولا مستحب. فعلم أن تعيين المكان الأول ليس بواجب ولا مستحب لمن يشتري بالعوض ما يقوم مقامه، بل العدول عن ذلك جائز. وقد يكون مستحبًا، وقد يكون واجبًا إذا تعينت المصلحة فيه. والله أعلم.
باب الهبة والعطية
سئل عن الصدقة والهدية أيهما أفضل
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن الصدقة والهدية أيهما أفضل؟
فأجاب:
الحمد لله، الصدقة: ما يعطي لوجه الله عبادة محضة من غير قصد في شخص معين ولا طلب غرض من جهته، لكن يوضع في مواضع الصدقة كأهل الحاجات، وأما الهدية فيقصد بها إكرام شخص معين؛ إما لمحبة وإما لصداقة؛ وإما لطلب حاجة؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقبل الهدية، ويثيب عليها، فلا يكون لأحد عليه مِنة، ولا يأكل أوساخ الناس التي يتطهرون بها من ذنوبهم، وهي الصدقات، ولم يكن يأكل الصدقة لذلك وغيره.
وإذا تبين ذلك، فالصدقة أفضل، إلا أن يكون في الهدية معني تكون به أفضل من الصدقة، مثل الإهداء لرسول الله ﷺ في حياته محبة له. ومثل الإهداء لقريب يصل به رحمه، وأخ له في الله، فهذا قد يكون أفضل من الصدقة.
سئل عمن وهب أو أباح لرجل شيئا مجهولا
وسئل عمن وهب أو أباح لرجل شيئًا مجهولا: هل يصح؟ كما لو أباحه ثمر شجرة في قابل؟ ولو أراد الرجوع هل يصح؟
فأجاب:
تنازع العلماء في هبة المجهول: فجوزه مالك، حتى جوز أن يهب غيره ما ورثه من فلان، وإن لم يعلم قدره، وإن لم يعلم أثلث هو أم ربع؟ وكذلك إذا وهبه حصة من دار ولا يعلم ما هو، وكذلك يجوز هبة المعدوم كأن يهبه ثمر شجره هذا العام، أو عشرة أعوام، ولم يجوز ذلك الشافعي. وكذلك المعروف في مذهب أبي حنيفة وأحمد المنع من ذلك، لكن أحمد وغيره يجوز في الصلح على المجهول والإبراء منه ما لا يجوزه الشافعي. وكذلك أبو حنيفة يجوز من ذلك ما لا يجوزه الشافعي.
فإن الشافعي يشترط العلم بمقدار المعقود عليه في عامة العقود، حتى عوض الخلع والصداق، وفيما شرط على أهل الذمة. وأكثر العلماء يوسعون في ذلك. وهو مذكور في موضعه. ومذهب مالك في هذا أرجح.
وهذه المسألة متعلقة بأصل آخر، وهو: أن عقود المعاوضة؛ كالبيع، والنكاح، والخلع تلزم قبل القبض. فالقبض موجب العقد ومقتضاه ليس شرطا في لزومه. والتبرعات، كالهبة، والعارية، فمذهب أبي حنيفة والشافعي أنها لا تلزم إلا بالقبض، وعند مالك تلزم بالعقد. وفي مذهب أحمد نزاع، كالنزاع في المعين: هل يلزم بالعقد أم لابد من القبض؟ وفيه عنه روايتان. وكذلك في بعض صور العارية. وما زال السلف يعيرون الشجرة ويمنحون المنايح، وكذلك هبة الثمر واللبن الذي لم يوجد، ويرون ذلك لازما ولكن هذا يشبه العارية؛ لأن المقصود بالعقد يحدث شيئًا بعد شيء كالمنفعة؛ ولهذا كان هذا مما يستحقه الموقوف عليه، كالمنافع؛ ولهذا تصح المعاملة بجزء من هذا؛ كالمساقاة. وأما إباحة ذلك فلا نزاع بين العلماء فيه وسواء كان ما أباحه معدوما أو موجودا، معلوما أو مجهولا، لكن لا تكون الإباحة عقد لازما كالعارية عند من لا يجعل العارية عقدا لازما؛ كأبي حنيفة والشافعي. وأما مالك فيجعل ذلك لازما إذا كان محدودا بشرط أو عرف، وفي مذهب أحمد نزاع وتفصيل.
سئل عن امرأة وهبت لزوجها كتابها
وسئل رحمه الله عن امرأة وهبت لزوجها كتابها، ولم يكن لها أب سوي إخوة: فهل لهم أن يمنعوها ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، ليس لإخوتها عليها ولاية ولا حجر، فإن كانت ممن يجوز تبرعها في مالها صحت هبتها، سواء رضوا أو لم يرضوا والله أعلم.
سئل عمن وهب أو أباح لرجل شيئا مجهولا
وسئل رحمه الله عن امرأة لها أولاد غير أشقاء، فخصصت أحد الأولاد، وتصدقت عليه بحصة من ملكها دون بقية إخوته، ثم توفيت المذكورة وهي مقيمة بالمكان المتصدق به: فهل تصح الصدقة أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا لم يقبضها حتى ماتت بطلت الهبة في المشهور من مذهب الأئمة الأربعة. وإن أقبضته إياه لم يجز على الصحيح أن يختص به الموهوب له، بل يكون مشتركا بينه وبين إخوته. والله أعلم.
فصل العقود التي يشترط القبض في لزومها واستقرارها
وقال:
وأما العقود التي يشترط القبض في لزومها واستقرارها، كالصدقة، والهبة والرهن، والوقف عند من يقول: إن القبض شرط في لزومه فهذا أيضًا يصح في المشاع عند جمهور العلماء؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، ولم يجوزها أبو حنيفة. قال: لأن القبض شرط فيها، وقبضها غير ممكن قبل القسمة، وأما الجمهور فقالوا: تقبض في هذه العقود كما تقبض في البيع، وإن كان القبض من موجب البيع ليس شرطًا في صحته ولا لزومه. ويقبض ما لا ينقسم؛ فإنهم اتفقوا على جواز هبته مشاعا؛ لتعذر القسمة فيه.
ثم إذا وهب المشاع الذي تصح هبته بالاتفاق؛ كالذي لا ينقسم، والمتنازع فيه عند من يجوز هبته؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، وقبض ذلك قبض مثله، وحازه الموهوب له، والمتصدق عليه، لزم بذلك باتفاق المسلمين؛ يتصرف فيه بأنواع التصرفات الجائزة في المشاع. فإن شاء أن يبيعه أو يهبه، وإن شاء تهايآ هو والمتهب فيه بالمكان أو بالزمان. وإن شاءا أكرياه جميعًا؛ كما يفعل ذلك كل شريكين للشقص مع مالك الشقص الذي لم يوهب. وإن تصرف فيه بالمساكنة للمتهب مهايأة أو غير مهايأة لا ينقص الهبة ولا يبطلها. ومن قال غير ذلك فقد خرق إجماع المسلمين.
وما فعله الفقهاء من أصحاب مالك في كتبهم؛ من اشتراط الخيار، وأن بقاءه في يد الواهب بإكراء، أو استعارة، أو غيرها يبطل الحيازة، وأن حيازة المتهب له ثم عوده إلى الواهب في الزمن القريب يبطل حيازته، وفي الزمن الطويل كالسنة نزاع، وأنه إذا مرض أو أفلس قبل الحيازة بطلت، ونحو ذلك. ومثل تنازعهم: هل يجبر على الإقباض أم لا؟ وعند أبي حنيفة والشافعي لا يجبر، وعند مالك يجبر، وعند أحمد في الغبن روايتان. وأمثال هذه المسائل فهذا كله في نفس الموهوب المفرد والمشاع.
فأما النصف الباقي على ملك الواهب فهم متفقون اتفاقا معلوما عند علماء الشريعة بالاضطرار من دين الإسلام أن تصرف المالك فيه لا يبطل ما وقع من الهبة والحيازة السابقة في النصيب. ومتفقون على أن هذين الشريكين يتصرفان كتصرف الشركاء. ومن توهم من المتفقهة أنه بعد إقباض النصيب المشاع إذا تساكنا في الدار، فسكن هذا في النصف الباقي له، وهذا في النصف الآخر مهايأة أو غير مهايأة أن ذلك ينقض الهبة كما لو كان السكنى في نفس الموهوب، كما يقوله مالك في ذلك فقد خرق إجماع المسلمين، وهو من أبعد الناس عن مذاق الفقه ومعرفة الشريعة.
فإن هذا لو كان صحيحًا لكان الواهب للمشاع يتعطل انتفاعه بما بقي له، وكان بمنزلة واهب الجميع؛ ولأن الفقهاء إنما ذكروا ذلك في الموهوب؛ لأن بقاء يد الواهب عليه وعوده إليه في المدة اليسيرة يمتنع معها الحوز في العادة، وربما كان ذلك ذريعة إلى الهبة من غير حوز فيظهر سكناها بطريق العارية حيلة؛ ولهذا روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: ما بال أقوام يعطي أحدهم ولده العطية، فإن مات ولده قال: مالى وفي يدي، وإن مات هو قال: كنت وهبته، لا يثبت من الهبة إلا ما حازه الولد من مال والده. ثم سألوه عن الصغير فقال: حوز والده حوز له. وبهذا أخذ مالك وغيره. وهذا ظاهر في نفس الأمر مفردًا كان أو مشاعًا.
فأما النصيب الآخر الذي لم يوهب، فهو بمنزلة عين أخرى لم توهب؛ يتصرف تصرف الشريك، بحيث لو احتاج إلى عمارة أجبر على ذلك عند أحمد ومالك في ظاهر مذهبه، وبحيث تجب فيه الشفعة. وإذا كان قسمة عينه تمكن قسم إن كان قابلا للقسمة. وإن لم يقبلها: فهل يجبر على البيع إذا طلبه الآخر ليقتسما الثمن؟ فيه قولان للعلماء. والإجبار قول مالك، وأبي حنيفة وأحمد. وعدمه قول الشافعي. وهذا واضح على من له في الفقه بالشريعة أدني إلمام، إذا كان يفهم مأخذ الفقهاء، ولكن من لم يميز إذا رأي ما ذكروه من الفروع في الموهوب وخيل إليه أن هذا فيه وفي النصيب الآخر، كان هذا بعيدا من التميز في الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية، وليست هذه المسألة مما تقبل النزاع والخلاف أصلا.
ومن العجب أنهم يطلبون النقل في هذه المسألة من كتاب الهبة والصدقة ونحو ذلك، وليس هذا موضعها، وإنما موضعها كتاب الشركة والقسمة ونحو ذلك، فإن السؤال إنما وقع عن التصرف في الشقص الباقي لم يقع في النصيب الموهوب، وإن تخيل متخيل أن التساكت يقتضي ثبوت يد كل منهما على الجميع. قيل له: فحينئذ تكون يد كل من الشريكين على جميع المشترك، وإن صح هذا لم يصح يد المشترك بحال، فإن أبا حنيفة إنما قاله فيما يقبل القسمة، ثم إذا قدر أن يد الشريك على الجميع فهذه لا تمنع الحيازة المعتبرة في المشاع؛ فإنه إذا وهب شقصا من عين فإنما عليه أن يقبض الموهوب فقط، مع بقاء يده على ما لم يهبه، سواء قيل: إن بقاء يده على نصيبه يعم الجميع، أو لا يعم. فعلم أن استيلاء الشريك الواهب على نصيبه وتصرفه فيه لا يمنع الحوز ابتداء، ولا يمنعه دوامًا باتفاق المسلمين.
سئل عمن وهب ربع مكان فتبين أقل من ذلك
وسئل عمن وهب ربع مكان، فتبين أقل من ذلك، هل تبطل الهبة؟
فأجاب:
لا تبطل.
وسئل عن رجل له بنتان ومطلقة حامل وكتب لابنتيه ألفي دينار
وسئل رحمه الله عن رجل له بنتان، ومطلقة حامل، وكتب لابنتيه ألفي دينار، وأربع أملاك، ثم بعد ذلك ولد للمطلقة ولد ذكر، ولم يكتب له شيئًا، ثم بعد ذلك توفي الوالد وخلف موجودًا خارجا عما كتبه لبنتيه، وقسم الموجود بينهم على حكم الفريضة الشرعية: فهل يفسخ ما كتب للبنات، أم لا؟
فأجاب:
هذه المسألة فيها نزاع بين أهل العلم: إن كان قد ملك البنات تمليكًا تاما مقبوضًا. فأما أن يكون كتب لهن في ذمته ألفي دينار من غير إقباض، أو أعطاهن شيئًا ولم يقبضه لهن، فهذا العقد مفسوخ، ويقسم الجميع بين الذكر والأنثيين. وأما مع حصول القبض، ففيه نزاع. وقد روي أن سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده، فلما مات ولد له حمل، فأمر أبو بكر وعمر أن يعطي الحمل نصيبه من الميراث، فلهذا ينبغي أن يفعل بهذا كذلك؛ فإن النبي ﷺ قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، وقال: (إني لا أشهد على جور) لمن أراد تخصيص بعض أولاده بالعَطِيةِ. وعلى البنات أن يتقين الله ويعطين الابن حقه.
وقول النبي ﷺ للذي خصص بعض أولاده: (أشْهِد على هذا غيري) تهديدًا له؛ فإنه قال: اردده، وقد رده ذلك الرجل. وأما إذا وصى لهن بعد موته فهي غير لازمة باتفاق العلماء. والصحيح من قولي العلماء أن هذا الذي خص بناته بالعطية دون حمله يجب عليه أن يرد ذلك في حياته، كما أمر النبي ﷺ، وإن مات ولم يرده رد بعد موته على أصح القولين أيضا؛ طاعة لله ولرسوله، واتباعا للعدل الذي أمر به؛ واقتداء بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ولا يحل للذي فضل أن يأخذ الفضل، بل عليه أن يقاسم إخوته في جميع المال بالعدل الذي أمر الله به. والله سبحانه وتعالى أعلم.
سئل عن رجل له جارية فأذن لولده أن يستمتع بالجارية
وسئل عن رجل له جارية، فأذن لولده أن يستمتع بالجارية المذكورة، ويطأها ولم يصدر منه تمليك له بالجارية، ولا هبة، ولا غير ذلك، وأن الجارية حصل لها ولد من ولد مالك الجارية المذكورة. فهل يكون الإذن في الاستمتاع والوطء تمليكًا للولد؟ وهل يكون الولد حرًا، وتكون الجارية أم ولد لولد مالك الجارية فيحرم بيعها للمالك والد الصبي الآذن لولده في استمتاعها ووطئها؟
الجواب:
الحمد لله. هذه المسألة تبنى على أصلين:
أحدهما: صفة العقود. ومذهب مالك وأحمد في المشهور من مذهبه وغيرهما أن البيع والهبة والإجارة لا تفتقر إلى صيغة، بل يثبت ذلك بالمعاطاة، فما عده الناس بيعا أو هبة أو إجارة فهو كذلك. ومذهب الشافعي المشهور اعتبار الصيغة، إلا في مواضع مستثناة. وحيث كان ذلك بالصيغة فليس لذلك عند الجمهور صيغة محدودة في الشرع، بل المرجع في الصيغة المفيدة لذلك إلى عرف الخطاب. وهذا مذهب الجمهور، ولذلك صححوا الهبة بمثل قوله: أعمرتك هذه الدار، وأطعمتك هذا الطعام، وحملتك على هذه الدابة، ونحو ذلك مما يفهم منه أهل الخطاب به الهبة. وتجهيز المرأة بجهازها إلى بيت زوجها تمليك، كما أفتى به أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما.
وذلك أن الله ذكر البيع والإجارة والعطية مطلقا في كتابه، ليس لها حد في اللغة ولا الشرع فيرجع فيها إلى العرف. والمقصود بالخطاب إفهام المعاني، فأي لفظ دل عليه مقصود العقد انعقد به. وعلى هذا قاعدة الناس إذا اشترى أحد لابنه أمة، وقال: خذها لك استمتع بها ونحو ذلك كان هذا تمليكا عندهم.
وأيضا، فمن كان يعلم أن الأمة لا توطأ إلا بملك إذا أذن لابنه في الاستمتاع بها لا يكون مقصوده إلا تمليكها؛ فإن كان قد حصل ما يدل على التمليك على قول جمهور العلماء وهو أصح قوليهم كان الابن واطئا في ملكه، وولده حر لاحق النسب، والأمة أم ولد له، لا تباع، ولا توهب ولا تورث. وأما إن قدر أن الأب لم يصدر منه تمليك بحال، واعتقد الابن أنه قد ملكها، كان ولده أيضا حرًا، ونسبه لاحق، ولا حد عليه. وإن اعتقد الابن أيضا أنه لم يملكها ولكن وطئها بالإذن، فهذا ينبني على الأصل الثاني فإن العلماء اختلفوا فيمن وطئ أمة غيره بإذنه. قال مالك: يملكها بالقيمة حبلت أو لم تحبل. وقال الثلاثة: لا يملكها بذلك. فعلى قول مالك: هي أيضا ملك للولد، وأم ولد له، وولده حر. وعلى قول الثلاثة: الأمة لا تصير أم ولد، لكن الولد هل يصير حرًا مثل أن يطأ جارية امرأته بإذنها؟ فيه عن أحمد روايتان: إحداهما: لا يكون حرًا، وهذا مذهب أبي حنيفة، وإن ظن أنها حلال له. الثاني: أن الولد يكون حرًا، وهذا هو الصحيح إذا ظن الواطئ أنها حلال، فهو المنصوص عن الشافعي وأحمد في المرتهن، فإذا وطئ الأمة المرهونة بإذن الراهن، وظن أن ذلك جائز، فإن ولده ينعقد حرًا؛ لأجل الشبهة؛فإن شبه الاعتقاد أو الملك يسقط الحد باتفاق الأئمة. فكذلك يؤثر في حرية الولد ونسبه، كما لو وطئها في نكاح فاسد، أو مالك فاسد، فإن الولد يكون حرًا باتفاق الأئمة. وأبو حنيفة يخالفهما في هذا، ويقول: الولد مملوك. وأما مالك فعنده أن الواطئ قد ملك الجارية بالوطء المأذون فيه.
وهل على هذا الواطئ بالإذن قيمة الولد؟ فيه قولان للشافعي: أحدهما وهو المنصوص عن أحمد: أنه لا تلزمه قيمته؛ لأنه وطئ بإذن المالك، فهو كما لو أتلف ماله بإذنه. والثاني: تلزمه قيمته، وهو قول بعض أصحاب أحمد. ومن أصحاب الشافعي من زعم أن هذا مذهبه قولا واحدًا. وأما المهر فلا يلزمه في مذهب أحمد ومالك وغيرهما. وللشافعي فيه قولان أحدهما: يلزمه كما هو مذهب أبي حنيفة. وكل موضع لا تصير الأمة أم ولد فإنه يجوز بيعها.
سئل عن امرأة تصدقت على ولدها في حال صحتها وسلامتها
وسئل عن امرأة تصدقت على ولدها في حال صحتها وسلامتها بحصة من كل ما يحتمل القسمة، من مدة تزيد على عشر سنين، وماتت المتصدقة، ثم تصدق المتصدق عليه بجميع ما تصدقت به والدته عليه على ولده في حياته، وثبت ذلك جميعه بعد وفاة المتصدقة الأولى عند بعض القضاة، وحكم به: فهل لبقية الورثة أن تبطل ذلك بحكم استمراره بالسكنى بعد تسليمه لولدها المتصدق عليه أم لا؟
فأجاب رحمه الله:
إذا كانت هذه الصدقة لم تخرج عن يد المتصدق حتى مات بطلت باتفاق الأئمة في أقوالهم المشهورة. وإذا أثبت الحاكم ذلك لم يكن إثباته لذلك العقد موجبا لصحته. وأما الحكم بصحته وله ورثة والحالة هذه فلا يفعل ذلك حاكم عالم، إلا أن تكون القضية ليست على هذه الصفة، فلا يكون حينئذ حاكمًا. وإما أن تكون الصدقة قد أخرجها المتصدق عن يده إلى من تصدق عليه، وسلمها التسليم الشرعي، فهذه مسألة معروفة عند العلماء، فإن لم يكن المعطي أعطي بقية الأولاد مثل ذلك، وإلا وجب عليه أن يرد ذلك، أو يعطي الباقين مثل ذلك؛ لما ثبت في الصحيح عن النعمان بن بشير قال: نحلني أبي غلاما، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضي حتى تشهد رسول الله ﷺ، فأتيت النبي ﷺ، وقلت: إني نحلت ابني غلاما، وإن أمه قالت: لا أرضي حتى تشهد رسول الله ﷺ قال: (لك ولد غيره؟ ). قلت: نعم. قال: (فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ ). قلت: لا. قال: (أشهد على هذا غيري). وفي رواية: (لا تشهدني؛ فإني لا أشهد على جور، واتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم. اردده) فرده. والله أعلم.
سئل عن دار لرجل وأنه تصدق منها بالنصف والربع
وسئل عن دار لرجل، وأنه تصدق منها بالنصف والربع على ولده لصلبه، والباقي وهو الربع تصدق به على أخته شقيقته، ثم بعد ذلك توفي ولده الذي كان تصدق عليه بالنصف والربع، ثم إن المتصدق تصدق بجميع الدار على ابنته: فهل تصح الصدقة الأخيرة، ويبطل ما تصدق به أم لا؟
فأجاب:
إذا كان قد ملك أخته الربع تمليكا مقبوضًا، وملك ابنه الثلاثة أرباع، فملك الأخت ينتقل إلى ورثتها، لا إلى البنت، وليس للمالك أن ينقله إلى ابنته. والله أعلم.
سئل عن امرأة ماتت ولها أب وأم وزوج وهي رشيدة
وسئل رحمه الله تعالى عن امرأة ماتت ولها أب وأم وزوج وهي رشيدة، وقد أخذ أبوها القماش، ولم يعط الورثة شيئًا؟
فأجاب:
لا يقبل منه ذلك، بل ما كان في يدها من المال فهو لها ينتقل إلى ورثتها. وإن كان هو اشتراه وجهزها به على الوجه المعتاد في الجهاز فهو تمليك لها. فليس له الرجوع بعد موتها.
سئل هل لمن أهدي كلب صيد
وسئل: هل لمن أهدي كلب صيد فأهدي للمهدي عوضا هل له أكل هذه الهدية؟
فأجاب:
إذا أعطي الكلب المعلم، ولم يكن من نيته أن يأخذ عوضا ولا قصد بالهدية الثواب، بل إكرامًا للمهدي إليه، ثم إن المهدي إليه أعطاه شيئًا، فلا بأس.
سئل عما إذا وهب لإنسان شيئا ثم رجع فيه
وسئل رحمه الله تعالى عما إذا وهب لإنسان شيئًا ثم رجع فيه: هل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (ليس لواهب أن يرجع في هبته، إلا الوالد فيما وهبه لولده). وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، إلا أن يكون المقصود بالهبة المعاوضة؛ مثل من يعطي رجلا عطية ليعاوضه عليها، أو يقضي له حاجة: فهذا إذا لم يوف بالشرط المعروف لفظًا أو عرفا فله أن يرجع في هبته أو قدرها. والله أعلم.
سئل عن الرجل يهب الرجل شيئا ثم يحصل بينهما شنئان
وسئل عن الرجل يهب الرجل شيئًا: إما ابتداء، أو يكون دينا عليه، ثم يحصل بينهما شنئان فيرجع في هبته: فهل له ذلك؟ وإذا أنكر الهبة وحلف الموهوب له أنه لا يستحق الواهب في ذمته شيئًا: هل يحنث أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، ليس لواهب أن يرجع في هبته، غير الوالد، إلا أن تكون الهبة على جهة المعاوضة لفظا أو عرفا، فإذا كانت لأجل عوض ولم يحصل فللواهب الرجوع فيها. والله أعلم.
سئل عمن وهب لابنه هبة ثم تصرف فيها وادعى أنها ملكه
وسئل عمن وهب لابنه هبة، ثم تصرف فيها وادعي أنها ملكه: فهل يتضمن هذا الرجوع في الهبة أم لا؟
فأجاب:
نعم، يتضمن ذلك الرجوع. والله أعلم.
سئل عن رجل وهب لإنسان فرسا ثم بعد ذلك بمدة طلب منه أجرتها
وسئل عن رجل وهب لإنسان فرسا، ثم بعد ذلك بمدة طلب الواهب منه أجرتها، فقال له: ما أقدر على شيء، وإلا فرسك خذها. قال الواهب: ما آخذها إلا أن تعطيني أجرتها: فهل يجوز ذلك، وتجوز له أجرة أم لا؟
فأجاب:
إذا أعاد إليه العين الموهوبة فلا شيء له غير ذلك، وليس له المطالبة بأجرتها، ولا مطالبته بالضمان؛ فإنه كان ضامنا لها وكان يطعمها بانتفاعه بها مقابلة لذلك.
سئل عن رجل قدم لأمير مملوكا على سبيل التعويض
وسئل رحمه الله عن رجل قدم لأمير مملوكًا على سبيل التعويض المعروف بين الناس من غير مبايعة، فمكث الغلام عند الأمير مدة سنة يخدمه، ثم مات الأمير: فهل لصاحب المملوك التعلق على ورثة الأمير بوجه؛ بثمن، أو أجرة خدمة، أو بحال من الأحوال؟
فأجاب:
نعم إذا وهبه بشرط الثواب لفظا أو عرفا فله أن يرجع في الموهوب، ما لم يحصل له الثواب الذي استحقه، إذا كان الموهوب باقيا؛ وإن كان تالفا فله قيمته أو الثواب. والثواب هنا هو العوض المشروط على الموهوب.
سئل عن رجل أهدى الأمير هدية لطلب حاجة
وسئل عن رجل أهدي الأمير هدية لطلب حاجة، أو التقرب أو للاشتغال بالخدمة عنده، أو ما أشبه ذلك: فهل يجوز أخذ هذه الهدية على هذه الصورة أم لا؟ وإن أخذ الهدية انبعثت النفس إلى قضاء الشغل، وإن لم يأخذ لم تنبعث النفس في قضاء الشغل: فهل يجوز أخذها وقضاء شغله، أو لا يأخذ ولا يقضي؟ ورجل مسموع القول عند مخدومه إذا أعطوه شيئًا للأكل أو هدية لغير قضاء حاجة: فهل يجوز أخذها؟ وإن ردها على المهدي انكسر خاطره: فهل يحل أخذ هذا أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، في سنن أبي داود وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: (من شفع لأخيه شفاعة فأهدي له هدية فقبلها فقد أتي بابا عظيما من أبواب الربا).
وسئل ابن مسعود عن السُّحت؟ فقال: هو أن تشفع لأخيك شفاعة فيهدي لك هداية فتقبلها. فقال له: أرأيت إن كانت هدية في باطل؟ فقال: ذلك كفر { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [67]
ولهذا قال العلماء: إن من أهدي هدية لولي أمر ليفعل معه ما لا يجوز، كان حراما على المهدي والمهدي إليه. وهذه من الرشوة التي قال فيها النبي ﷺ: (لعن الله الراشي والمرتشي)، والرشوة تسمى البرطيل. والبرطيل في اللغة: هو الحجر المستطيل فاه. فأما إذا أهدي له هدية ليكف ظلمه عنه، أو ليعطيه حقه الواجب، كانت هذه الهدية حراما على الآخذ، وجاز للدافع أن يدفعها إليه، كما كان النبي ﷺ يقول: (إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارًا). قيل: يا رسول الله، فلم تعطيهم؟ قال: (يأبون إلا أن يسألوني، ويأبي الله لي البخل).
ومثل ذلك إعطاء من أعتق وكتم عتقه، أو أسر خبرا، أو كان ظالما للناس فأعطاء هؤلاء: جائز للمعطي، حرام عليهم أخذه. وأما الهدية في الشفاعة؛ مثل أن يشفع لرجل عند ولي أمر ليرفع عنه مظلمة، أو يوصل إليه حقه، أو يوليه ولاية يستحقها، أو يستخدمه في الجند المقاتلة وهو مستحق لذلك أو يعطيه من المال الموقوف على الفقراء أو الفقهاء أو القراء أو النساك أو غيرهم وهو من أهل الاستحقاق. ونحو هذه الشفاعة التي فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرم، فهذه أيضا لا يجوز فيها قبول الهدية، ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه، أو دفع الظلم عنه. هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الأكبار.
وقد رخص بعض المتأخرىن من الفقهاء في ذلك، وجعل هذا من باب الجعالة، وهذا مخالف للسنة وأقوال الصحابة والأئمة، فهو غلط؛ لأن مثل هذا العمل هو من المصالح العامة التي يكون القيام بها فرضا؛ إما على الأعيان، وإما على الكفاية، ومتى شرع أخذ الجعل على مثل هذا لزم أن تكون الولاية وإعطاء أموال الفيء والصدقات وغيرها لمن يبذل في ذلك، ولزم أن يكون كف الظلم عمن يبذل في ذلك، والذي لا يبذل لا يولي، ولا يعطي، ولا يكف عنه الظلم، وإن كان أحق وأنفع للمسلمين من هذا. والمنفعة في هذا ليست لهذا الباذل حتى يؤخد منه الجعل على الآبق والشارد. وإنما المنفعة لعموم الناس؛ أعني المسلمين؛ فإنه يجب أن يولي في كل مرتبة أصلح من يقدر عليها، وأن يرزق من رزق المقاتلة والأئمة والمؤذنين وأهل العلم الذين هم أحق الناس وأنفعهم للمسلمين. وهذا واجب على الإمام، وعلى الأمة أن يعاونوه على ذلك، فأخذ جعل من شخص معين على ذلك يفضي إلى أن تطلب هذه الأمور بالعوض، ونفس طلب الولايات منهي عنه، فكيف بالعوض؟ ولزم أن من كان ممكنا فيها يولي ويعطي وإن كان غيره أحق وأولي، بل يلزم تولية الجاهل والفاسق والفاجر وترك العالم العادل القادر وأن يرزق في ديوان المقاتلة الفاسق، والجبان العاجز عن القتال، وترك العدل الشجاع النافع للمسلمين. وفساد مثل هذا كثير.
وإذا أخذ وشفع لمن لا يستحق وغيره أولي، فليس له أن يأخذ ولا يشفع، وتركهما خير. وإذا أخذ وشفع لمن هو الأحق الأولى وترك من لا يستحق، فحينئذ ترك الشفاعة والأخذ أضر من الشفاعة لمن لا يستحق. ويقال لهذا الشافع الذي له الحاجة التي تقبل بها الشفاعة: يجب عليك أن تكون ناصحا لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. ولو لم يكن لك هذا الجاه والمال، فكيف إذا كان لك هذا الجاه والمال؟ فأنت عليك أن تنصح المشفوع إليه فتبين له من يستحق الولاية والاستخدام والعطاء، ومن لا يستحق ذلك، وتنصح للمسلمين بفعل مثل ذلك، وتنصح لله ولرسوله بطاعته؛ فإن هذا من أعظم طاعته، وتنفع هذا المستحق بمعاونته على ذلك، كما عليك أن تصلي، وتصوم، وتجاهد في سبيل الله.
وأما الرجل المسموع الكلام، فإذا أكل قدرا زائدا عن الضيافة الشرعية فلابد له أن يكافئ المطعم بمثل ذلك، أو لا يأكل القدر الزائد، وإلا فقبوله الضيافة الزائدة مثل قبوله للهدية، وهو من جنس الشاهد، والشافع إذا أدي الشهادة وقام بالشفاعة؛ لضيافة أو جعل؛ فإن هذا من أسباب الفساد. والله أعلم.
سئل عن رجل قدم لبعض الأكابر غلاما
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل قدم لبعض الأكابر غلاما، والعادة جارية أنه إذا قدم يعطي ثمنه أو نظير الثمن، فلم يعط شيئًا، وتزوج وجاءه أولاد، وتوفي: فهل أولاده أحرار أم لا؟ وهل يرث أولاد مالك الأصل صاحب العهدة أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا كانت العادة الجارية بالتعويض وأعطاه على هذا الشرط فإنه يستحق أحد الأمرين: إما التعويض، وإما الرجوع في الموهوب.
وأما المملوك، فإنه إذا لم يعتقه الموهوب له فإنه يكون باقيا على ملكه. وأما أولاده فيتبعون أمهم، فإن كانت حرة فهم أحرار، وإن كانت مملوكة فهم ملك لمالكها، لا لمالك الأب؛ إذ الأولاد في المذاهب الأربعة وغيرها يتبعون أمهم في الحرية والرق، ويتبعون أباهم في النسب والولاء.
وإذا لم يرجع الواهب حتى فات الرجوع فله أن يطالب الموهوب له بالتعويض إن كان حيا، وفي تركته إن كان ميتًا؛ كسائر الديون، وإن كان قد عتق وله أولاد من حرة فهم أحرار.
سئل عن رجل اشترى عبدا ووهبه شيئا حتى أثرى العبد
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل اشترى عبدًا ووهبه شيئًا حتى أثري العبد، ثم ظهر أن العبد كان حرًا: فهل يأخذ منه ما وهبه ظنًا منه أنه عبد؟
فأجاب:
نعم، له أخذه.
سئل عن رجل طلق زوجته وسألها الصلح فصالحها
وسئل عن رجل طلق زوجته، وسألها الصلح، فصالحها، وكتب لها دينارين. فقال لها: هبيني الدينار الواحد، فوهبته، ثم طلقها: فهل لها الرجوع في الهبة والحال هذه؟
فأجاب:
نعم، لها أن ترجع فيما وهبته والحال هذه، فإنه سألها الهبة، وطلقها مع ذلك، وهي لم تطلب نفسها أن يأخذ مالها بسؤالها ويطلقها. والله أعلم.
سئل عن رجل وهب لزوجته ألف درهم وكتب بها حجة
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل وهب لزوجته ألف درهم، وكتب عليه بها حجة، ولم يقبضها شيئًا، وماتت، وقد طالبه ورثتها بالمبلغ: فهل له أن يرجع في الهبة؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا لم يكن لها في ذمته شيء قبل ذلك لا هذا المبلغ، ولا ما يصلح أن يكون هذا المبلغ عوضًا عنه؛ مثل أن يكون قد أخذ بعض جهازها وصالحها عن قيمته بهذا المبلغ، ونحو ذلك فإنه لا يستحق ورثتها شيئًا من هذا الدين في نفس الأمر، فإن كان إقرارًا فله أن يحلفهم أنهم لا يعلمون أن باطن هذا الإقرار يخالف ظاهره، وإذا قامت بينة على المقر والمقر له بأن هذا الإقرار تلجئة فلا حقيقة له. ولو كان قيمة ما أقر به من مالها أقل من هذا المبلغ فصالحها على أكثر من قيمته، ففي لزوم هذه الزيادة نزاع بين العلماء، تبطله طوائف من أصحاب الشافعي وأحمد، ويصححه أبو حنيفة، وهو قياس قول أحمد وغيره، وهو الصحيح. والله أعلم.
سئل عن رجل عليه دين وله مال
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل عليه دين، وله مال يستغرقه الدين، ويفضل عليه من الدين، وأوهب في مرض موته لمملوك معتوق من ذلك المال: فهل لأهل الدين استرجاعه أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم، إذا كان عليه دين مستغرق لماله فليس له في مرض الموت أن يتبرع لأحد بهبة، لا محاباة، ولا إبراء من دين، إلا بإجازة الغرماء، بل ليس للورثة حق إلا بعد وفاء الدين. وهذا باتفاق المسلمين، كما أن النبي ﷺ قضي بالدين قبل الوصية، والتبرع في مرض الموت كالوصية باتفاق الأئمة الأربعة.
سئل عن رجل مات وخلف
وسئل عن رجل مات وخلف ولدين ذكرين، وبنتًا، وزوجة، وقسم عليهم الميراث؛ ثم إن لهم أختًا بالمشرق: فلما قدمت تطلب ميراثها فوجدت الولدين ماتا، والزوجة أيضًا، ووجدت الموجود عند أختها، فلما ادعت عليها، وألزمت بذلك، فخافت من القطيعة بينهما، فأشهدت على نفسها بأنها أبرأتها، فلما حصل الإبراء منها حلف زوجها بالطلاق أن أختها لا تجيءإليها، ولا هي تروح لها، والمذكورة لم تهبها المال إلا لتحصيل الصلة والمودة بينهما، ولم يحصل غرضها، فهل لها الرجوع في الهبة؟ وهل يمنع الإبراء أن تدعي بذلك وتطلب أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا كانت قد قالت عند الهبة: أنا أهب أختي لتعينني على أموري، ونتعاون أنا وهي في بلاد الغربة. أو قالت لها أختها: هبيني هذا الميراث، قالت: ما أوهبك إلا لتخدميني في بلاد الغربة، ثم أوهبتها، أو جري بينهما من الاتفاق ما يشبه ذلك؛ بحيث وهبتها لأجل منفعة تحصل لها منها، فإذا لم يحصل لها الغرض فلها أن تفسخ الهبة، وترجع فيها. فالعوض في مثل هذه الهبة فيه قولان في مذهب أحمد وغيره. قيل: إن منفعته تكون بقدر قيمة ذلك. والله أعلم.
سئل عن امرأة لها زوج ولها عليه صداق
وسئل عن امرأة لها زوج، ولها عليه صداق، فلما حضرتها الوفاة أحضرت شاهد عدل وجماعة نسوة، وأشهدت على نفسها أنها أبرأته من الصداق: فهل يصح هذا الإبراء أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إن كان الصداق ثابتًا عليه إلى أن مرضت مرض الموت لم يصح ذلك إلا بإجازة الورثة الباقين. وأما إن كانت أبرأته في الصحة جاز ذلك، وثبت بشاهد ويمين عند مالك والشافعي وأحمد. وثبت أيضا بشهادة امرأتين ويمين عند مالك، وقول في مذهب أحمد. وإن أقرت في مرضها أنها أبرأته في الصحة لم يقبل هذا الإقرار عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما، ويقبل عند الشافعي. وقد قال النبي ﷺ: (إن الله قد أعطي كل ذي حظ حظه، فلا وصية لوارث). وليس للمريض أن يخص الوارث بأكثر مما أعطاه الله.
سئل عن رجل خص بعض الأولاد على بعض
وسئل رحمه الله عن رجل خص بعض الأولاد على بعض؟
فأجاب:
ليس له في حال مرضه أن يخص أحدًا منهم بأكثر من قدر ميراثه باتفاق المسلمين، وإذا فعل ذلك فلباقي الورثة رده وأخذ حقوقهم، بل لو فعل ذلك في صحته لم يجز ذلك في أصح قولي العلماء، بل عليه أن يرده كما أمر النبي ﷺ أن يرده حيًا وميتًا. ويرده المخصص بعد موته.
سئل عن رجل أعطى بعض أولاده شيئا ولم يعط الآخر
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أعطي بعض أولاده شيئًا ولم يعط الآخر؛ لكون الأول طائعا له: فهل له بر من أطاعه، وحرمان من عصاه، وحلف الذي لم يعطه بالطلاق أنه لا يكلم أباه إن لم يواسيه: فهل له مخرج؟ وهل اليمين بالطلاق تجري مجري الأيمان أم لا؟
فأجاب:
على الرجل أن يعدل بين أولاده، كما أمر الله ورسوله، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لبشير بن سعد لما نحل ابنه النعمان نحلا، وأتي النبي ﷺ ليشهده على ذلك، فقال له: (اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)، وقال: (لا تشهدني على هذا؛ فإني لا أشهد على جور)، وقال له: (اردده) فرده بشير. وقال له على سبيل التهديد: (أشهد على هذا غيري).
لكن إذا خص أحدهما بسبب شرعي؛ مثل أن يكون محتاجا مطيعا لله، والآخر غني عاص يستعين بالمال على المعصية، فإذا أعطي من أمر الله بإعطائه ومنع من أمر الله بمنعه فقد أحسن.
وأما الذي حلف أنه لا يكلم أباه، فأيما يمين من أيمان المسلمين حلف بها الرجل فعليه إذا حنث كفارة يمين. وأي يمين حلف عليها ورأي الحنث خيرا من الإصرار عليها فإنه يكفر عن يمينه ويحنث، كما دل عليه الكتاب والسنة وسواء حلف باسم الله، أو بالنذر، أو بالطلاق، أو العتاق، أو الظهار، أو الحرام، كقوله: إن فعلت كذا فمالى صدقة، وعلى عشر حجج، وعلى صوم سنة، ونسائي طوالق، وعبيدي أحرار، ونحو ذلك، فكل ما كان من أيمان المسلمين أجزأت فيه كفارة.
وما لم يكن من أيمان المسلمين، كالحلف بالكعبة، والمشايخ والملوك والآباء؛ فإنها أيمان محرمة، غير منعقدة، ولا حرمة لها. وليس في شرع الله ورسوله إلا يمينان: يمين منعقدة، ففيها الكفارة. ويمين غير منعقدة، فلا شيء فيها إذا حنث. ومن أثبت من العلماء يمينا منعقدة غير مكفرة، فقوله ضعيف، مخالف للكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس الجلي. والله أعلم.
سئل عن رجل نحل البنات دون الذكور
وسئل عن رجل له أولاد ذكور، وإناث. فنحل البنات دون الذكور قبل وفاته: فهل يبقي في ذمته شيء أم لا؟
فأجاب:
لا يحل له أن ينحل بعض أولاده دون بعض، بل عليه أن يعدل بينهم، كما أمر النبي ﷺ حيث قال: (اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)، وكان رجل قد نحل بعض أولاده؛ وطلب أن يشهد فقال: (إني لا أشهد على جور)، وأمره برد ذلك، فإن كان ذلك بالكلام ولم يسلم إلى البنات ما أعطاهم حتى مات أو مرض مرض الموت فهذا مردود باتفاق الأئمة، وإن كان فيه خلاف شاذ. وإن كان قد أقبضهم في الصحة، ففي رده قولان للعلماء. والله أعلم.
سئل عن رجل ترك أولادا وتزوج الإناث قبل موت أبيهم فأخذوا الجهاز
وسئل عن رجل ترك أولادا ذكورا وإناثا، وتزوج الإناث قبل موت أبيهم فأخذوا الجهاز جملة كثيرة. ثم لما مات الرجل لم يرث الذكور إلا شيئًا يسيرًا، فهل على البنات أن يتحاصوا هم والذكور في الميراث والذي معهم أو لا؟
فأجاب:
يجب على الرجل أن يسوي بين أولاده في العطية، ولا يجوز أن يفضل بعضا على بعض كما أمر النبي ﷺ بذلك، حيث نهي عن الجور في التفضيل، وأمر برده. فإن فعل ومات قبل العدل كان الواجب على من فضل أن يتبع العدل بين إخوته؛ فيقتسمون جميع المال الأول والآخر على كتاب الله تعالى: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } [68]. والله أعلم.
سئل عن رجل وهب لأولاده مماليك
وسئل ر حمه الله تعالى عن رجل وهب لأولاده مماليك ثم قصد عتقهم: فهل الأفضل استرجاعهم منهم وعتقهم، أو إبقاؤهم في يد الأولاد؟
فأجاب:
الحمد لله، إن كان أولاده محتاجين إلى المماليك فتركهم لأولاده أفضل من استرجاعهم وعتقهم، بل صلة ذي الرحم المحتاج أفضل من العتق؛ كما ثبت في الصحيح؛ أن ميمونة زوج النبي ﷺ أعتقت جارية لها فذكرت ذلك للنبي ﷺ فقال: (لو أعطيتها أخوالك كان خيرا لك)، فإذا كان النبي ﷺ قد فضل إعطاء الخال على العتق فكيف الأولاد المحتاجون؟ وأما إن كان الأولاد مستعنين عن بعضهم فعتقه حسن، وله أن يرجع في هذه الهبة عند الشافعي وأحمد وغيرهما، ولا يرجع فيها عند أبي حنيفة. والله أعلم.
سئل عن رجل توفيت زوجته وخلفت أولادا
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل توفيت زوجته، وخلفت أولادًا، وموجودا تحت يده، وليس له قدرة أن يتزوج: فهل له أن يشتري من موجود الأولاد جارية تخدمهم، ويطؤها، ويتزوج من مالهم؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا لم يكن ذلك مضرا بأولاده، فله أن يتملك من مالهم ما يشتري به أمة يطؤها وتخدمهم. والله أعلم.
سئل عن امرأة أعطاها زوجها حقوقها في حال حياته
وسئل عن امرأة أعطاها زوجها حقوقها في حال حياته، ولها منه أولاد، وأعطاها مبلغا عن صداقها لتنفع به نفسها وأولادها. فإن ادعي عليها أحد وأراد أن يحلفها: فهل يجوز لها أن تحلف لنفي الظلم عنها؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا وهب لأولاده منها ما وهبه، وقبض ذلك، ولم يكن فيه ظلم لأحد، كان ذلك هبة صحيحة، ولم يكن لأحد أن ينتزعه منها. وإذا كان قد جعل نصيب الأولاد إليها حيا وميتا، وهي أهل لم يكن لأحد نزعه منها. وإذا حلفت، تحلف أن عندها للميت شيء. والله أعلم.
سئل عن رجل تصدق على ولده بصدقة
وسئل عن رجل تصدق على ولده بصدقة، ونزلها في كتاب زوجته، وقد ضعف حال الوالد، وجفاه ولده: فهل له الرجوع في هبته أم لا؟
فأجاب:
إذا كان قد أعطاه للمرأة في صداق زوجته، لم يكن للإنسان أن يرجع فيه باتفاق العلماء.
سئل عن رجل أعطى أولاده الكبار شيئا
وسئل عن رجل أعطي أولاده الكبار شيئًا، ثم أعطي لأولاده الصغار نظيره، ثم إنه قال: اشتروا بالريع ملكا، أوقفوه على الجميع بعد أن قبضوا ما أعطاهم: فهل يكون ذلك رجوعا أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يزول ملك الولدين المملكين بما ذكر؛ إذ ليس ذلك رجوعا في الهبة، ولو كان رجوعا في الهبة لم يجز له الرجوع في مثل هذه الهبة؛ فإنه إذا أعطي الولدين الأخرىن ما عدل به بينهما وبين الباقين فليس له أن يرجع عن العدل الذي أمره الله به ورسوله. كيف وقد قال النبي ﷺ: (اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم)، وقال: (إني لا أشهد على جور)، وقال في التفضيل: (اردده)، وقال على سبيل التهديد للمفضل: (أشهد على هذا غيري). والله أعلم.
سئل عن رجل ملك بنته ملكا ثم ماتت
وسئل عن رجل ملك بنته ملكا، ثم ماتت، وخلفت والدها وولدها: فهل يجوز للرجل أن يرجع فيما كتبه لبنته أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، ما ملكته البنت ملكا تاما مقبوضا وماتت انتقل إلى ورثتها، فلأبيها السدس، والباقي لابنها، إذا لم يكن لها وارث، وليس له الرجوع بعد موت البنت فيما ملكها بالاتفاق.
سئل عن رجل وهب لابنته مصاغا
وسئل عن رجل وهب لابنته مصاغا، لم يتعلق به حق لأحد، وحلف بالطلاق ألا يأخذ منها شيئًا منه، واحتاج أن يأخذ منها شيئًا: فهل له أن يرجع في هبته أم لا؟ وإن أعطته شيئًا من طيب نفسها هل يحنث أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، له أن يرجع فيما وهبه لها، لكنه إن فعل المحلوف عليه حنث. فإن كان قصده ألا يأخذ شيئًا بغير طيب قلبها، أو بغير إذنها، فإن طابت نفسها أو أذنت لم يحنث.
سئل عن رجل له أولاد وهب لهم ماله
وسئل عن رجل له أولاد وهب لهم ماله، ووهب أحدهم نصيبه لولده، وقد رجع الوالد الأول فيما وهبه لأولاده، فردوا عليه، إلا الذي وهبه لولده امتنع: فهل يلزمه أن ينتزعه من ولده، ويسلمه لوالده؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا كان قد وهب لولده شيئًا ولم يتعلق به حق الغير؛ مثل أن يكون قد صار عليه دين، أو زوجوه لأجل ذلك، فله أن يرجع في ذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل ماتت والدته
وسئل عن رجل ماتت والدته، وخلفته ووالده وكريمته، ثم ماتت كريمته، فأراد والده أن يزوجه، فقال: ما أزوجك حتى تملكني ما ورثته عن والدتك، فملكه ذلك، وتصدق عليه بالربع بشهود، ثم بعد ذلك مرض والده مرضا غيب عقله، فرجع فيما تصدق به على ولده، وأوقفها على زوجته وولده وابنته، ولم يذكر ولده، وانتسخ كتاب الوقف مرتين: فهل له أن يخصص أولاده، ويخرج ولده من جميع إرث والدته؟
فأجاب:
إن كان الأب قد أعطي ابنه شيئًا عوضا عما أخذه له، فليس له أن يرجع بذلك بلا نزاع بين العلماء. وأما إن كان تصدق به عليه صدقة لله ففي رجوعه عليه قولان للعلماء. أحدهما: لا يرجع. والثاني: يرجع، عند مالك والشافعي وأحمد. ومتى رجع وعقله غائب، أو أوقف وعقله غائب أو عقد عقدًا، لم يصح رجوعه ولا وقفه؛ إذا كان مغيبا عقله بمرض، بلا نزاع بين العلماء.
سئل عن رجل سرق له مبلغ
وسئل عن رجل سرق له مبلغ، فظن في أحد أولاده أنه هو أخذه، ثم صار يدعو عليه، وهجره، وهو بريء، ولم يكن أخذ شيئًا: فهل يؤجر الولد بدعاء والده عليه؟
فأجاب:
نعم إذا كان الولد مظلوما، فإن الله يكفر عنه بما يظلمه، ويؤجره على صبره، ويأثم من يدعو على غيره عدوانا.
وسئل عن رجل خلف شيئا من الدنيا وتقاسمه أولاده
وسئل رحمه الله عن رجل خلف شيئًا من الدنيا، وتقاسمه أولاده، وأعطوا أمهم كتابها وثمنها، وبعد قليل وجد الأولاد مع أمهم شيئًا يجيء ثلث الوراثة. فقالوا: من أين لك هذا المال؟ فقالت: لما كان أبوكم مريضًا طلبت منه شيئًا فأعطاني ثلث ماله، فأخذوا المال من أمهم، وقالوا: ما أعطاك أبونا شيئًا: فهل يجب رد المال إليها؟
فأجاب:
ما أعطى المريض في مرض الموت لوراثه فإنه لا ينفذ إلا بإجازة الورثة، فما أعطاه المريض لامرأته فهو كسائر ماله، إلا أن يجيز ذلك باقي الورثة. وينبغي للأولاد أن يقروا أمهم، ويجيزوا ذلك لها، لكن لا يجبرون على ذلك، بل تقسم جميع التركة، قال النبي ﷺ: (لا وصية لوارث).
كتاب الوصايا
سئل عمن قال يدفع هذا المال إلى يتامى فلان في مرض موته
سئل رحمه الله تعالى عمن قال: يدفع هذا المال إلى يتامى فلان في مرض موته، ولم يعرف أهذا إقرار؟ أو وصية؟
فأجاب:
إن كان هناك قرينة تبين مراده هل هو إقرار أو وصية عمل بها، وإن لم يعرف: فما كان محكوما له به لم يزل عن ملكه بلفظ مجمل، بل يجعل وصية..
سئل عن مودع مرض مودعه
وسئل عن مودع مرض مودعه فقال له: أما يعرف ابنك بهذه الوديعة؟ فقال: فلان الأسير يجيء ما يقدر على شيء يعود عليه؛ وقصد بذلك أن يكون موصدا له، ولم يزد على ذلك، فإذا خرج من الثلث هل يجوز أن يصرفه في مصالح ذلك الأسير؟
فأجاب:
تنعقد الوصية بكل لفظ يدل على ذلك، كما إذا فهمت المخاطبة من الموصي، ويبقي قبول الوصية في التصرف فيها موقوفا على قبول الموصى له لفظا أو عرفا وعلى إذنه في التصرف فيها، على قبول الموصى له لفظا أو عرفا، وعلى إذنه في التصرف أو إذن الشارع ويجوز صرف مال الأسير في فكاكه بلا إذنه. والله أعلم.
سئل عن رجل كتب وصيته وذكر فيها مالا لزوجته في ذمته
وسئل عن رجل كتب وصيته، وذكر في وصيته: أن في ذمته لزوجته مائة درهم، ولم تكن زوجته تعلم أن لها في ذمته شيئا: فهل يجوز لوصيه بعد موته دفع الدراهم لزوجته بغير يمين، إذا كان قد أقر لها من غير استحقاق؟
فأجاب:
لا يحل لها أن تأخذ من ذلك شيئا؛ فإن هذا يكون وصية لوارث لا يجوز له وصيته بإجماع المسلمين، إلا بإجازة بقية الورثة، وأما في الحكم فلا تعطي شيئا حتى تصدقه على الإقرار في مرض الموت، وإلا كان باطلا عند أكثر العلماء، وإذا صدقته على الإقرار فادعى الوصي أو بعض الورثة أن هذا الإقرار من غير استحقاق كما جرت عادة بعض الناس أنه يجعل الإنشاء إقرارا فإن ذلك بمنزلة أن يدعي في الإقرار أنه أقر قبل القبض. ومثل ذلك قد تنازع العلماء في التحليف عليه. والصحيح أنه يحلف. والصحيح أنها لا تعطي شيئا حتى تحلف.
سئل عن امرأة أعتقت جارية دون البلوغ
وسئل عن امرأة أعتقت جارية دون البلوغ، وكتبت لها أموالها، ولم تزل تحت يدها إلى حال وفاتها أي السيدة المعتقة وخلفت ورثة: فهل يصح تمليكها للجارية؟ أم للورثة انتزاعها؟ أو بعضها؟
فأجاب:
الحمد لله، أما مجرد التمليك بدون القبض الشرعي فلا يلزم به عقد الهبة، بل للوارث أن ينتزع ذلك، وكذلك إن كانت هبة تلجئه بحيث توهب في الظاهر وتقبض مع اتفاق الواهب والموهوب له على أنه ينتزعه منه إذا شاء، ونحو ذلك من الحيل التي تجعل طريقا إلى منع الوارث أو الغريم حقوقهم، فإذا كان الأمر كذلك، كانت أيضًا هبة باطلة. والله أعلم.
سئل عمن أشهد على أبيه أن عنده ثلاثمائة في حجة عن فلانة
وسئل عمن أشهد على أبيه أن عنده ثلاثمائة في حجة عن فلانة، فقال ورثتها: لا يخرج إلا بثلثها، فقال المشهود عليه: أمي تبرع بها. فما الحكم؟
فأجاب:
مجرد هذا الإشهاد لا يوجب أن يكون هذا المال تركة مخلفة يستحق الورثة ثلثيها؛ لاحتمال ألا يكون من مال المرأة، ولاحتمال أن يكون حجة الإسلام الخارجة من صلب التركة. والله أعلم.
سئل عن رجل تصدق على ابنته لصلبه
وسئل رحمه الله عن رجل تصدق على ابنته لصلبه، وأسند وصيته لرجل فآجره مدة ثلاثين سنة؛ وقد توفي الوصي المذكور. ورشد من كان وصية عليها، ولم ترض الموصى عليها بعد رشدها بإجارة الوصي، وأن الوصي أجر ذلك بغير قيمة المثل: فهل تنفسخ الإجارة وتتصرف في ملكها عادة الملاك؟
فأجاب:
لها أن تفسخ هذه الإجارة بلا نزاع بين العلماء، وإنما النزاع هل تقع باطلة من أصلها؟ أو مضمونة على المؤجر؟ والله أعلم.
سئل عن رجل أوصى لأولاده بسهام مختلفة
وسئل عن رجل أوصى لأولاده بسهام مختلفة، وأشهد عليه عند وفاته بذلك فهل تنفذ هذه الوصية؟ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، لا يجوز للمريض تخصيص بعض أولاده بعطية منجزة، ولا وصية بعد الموت، ولا أن يقر له بشيء في ذمته، وإذا فعل ذلك لم يجز تنفيذه بدون إجازة بقية الورثة. وهذا كله باتفاق المسلمين، ولا يجوز لأحد من الشهود أن يشهد على ذلك شهادة يعين بها على الظلم، وهذا التخصيص من الكبائر الموجبة للنار، حتى قد روي أهل السنن ما يدل على الوعيد الشديد لمن فعل ذلك؛ لأنه كالمتسبب في الشحناء وعدم الاتحاد بين ذريته، لاسيما في حقه، فإنه يتسبب في عقوقه وعدم بره.
سئل عن رجل له زرع ونخل فأوصى بالإنفاق من ثلث الوصية
وسئل عن رجل له زرع ونخل. فقال عند موته لأهله: أنفقوا من ثلثي على الفقراء والمساكين إلى أن يولد لولدي ولد فيكون لهم. فهل تصح هذه الوصية أم لا؟
فأجاب:
نعم تصح هذه الوصية؛ فإن الوصية لولد الولد الذين لا يرثون جائزة، كما وصى الزبير بن العوام لولد عبد الله بن الزبير. والوصية تصح للمعدوم بالمعدوم، فيكون الريع للفقراء إلى أن يحدث ولد الولد فيكون لهم. والله أعلم.
سئل عن رجل أوصى لأولاده الذكور دون الإناث
وسئل عن رجل أوصى لأولاده الذكور بتخصيص ملك دون الإناث، وأثبته على يد الحاكم قبل وفاته: فهل يجوز ذلك؟
فأجاب:
لا يجوز أن يخص بعض أولاده دون بعض في وصيته ولا مرض موته باتفاق العلماء، ولا يجوز له على أصح قولي العلماء أن يخص بعضهم بالعطية في صحته أيضًا، بل عليه أن يعدل بينهم، ويرد الفضل، كما أمر النبي ﷺ بشير بن سعيد حيث قال له: (اردده)، فرده، وقال: (إني لا أشهد على جور). وقال له على سبيل التهديد: (أشهد على هذا غيري). ولا يجوز للولد الذي فضل أن يأخذ الفضل، بل عليه أن يرد ذلك في حياة الظالم الجائر، وبعد موته، كما يرد في حياته في أصح قولي العلماء.
سئل عن امرأة وصت لطفلة تحت نظر أبيها
وسئل رحمه الله عن امرأة وصت لطفلة تحت نظر أبيها بمبلغ من ثلث مالها، وتوفىت الموصية، وقبل للطفلة والدها الوصية المذكورة بعد وفاتها، وادعى لها عند الحاكم بما وصت الموصية، وقامت البينة بوفاتها وعليها، بما نسب إليها من الإيصاء، وعلى والدها بقبول الوصية لابنته، وتوقف الحاكم عن الحكم للطفلة بما ثبت لها عنده بالبينة، لتعذر حلفها لصغر سنها: فهل يحلف والدها؟ أو يوقف الحكم إلى البلوغ ويحلفها؟ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يحلف والدها؛ لأنه غير مستحق، ولا يوقف الحكم إلى بلوغها وحلفها، بل يحكم لها بذلك بلا نزاع بين العلماء، ما لم يثبت معارض، بل أبلغ من هذا لو ثبت لصبي أو لمجنون حق على غائب عنه من دين عن مبيع، أو بدل قرض، أو أرش جناية، أو غير ذلك مما لو كان مستحقا بالغا عاقلا: يحلف على عدم الإبراء، أو الاستيفاء في أحد قولي العلماء، ويحكم به للصبي والمجنون، ولا يحلف وليه، كما قد نص عليه العلماء. ولهذا لو ادعى مدع على صبي أو مجنون جناية أو حقا لم يحكم له، ولا يحلف الصبي والمجنون. وإن كان البالغ العاقل لا يقول إلا بيمين، ولها نظائر. هذا فيما يشرع فيه اليمين بالاتفاق، أو على أحد قولي العلماء. فكيف بالوصية التي لم يذكر العلماء تحليف الموصى له فيها، وإنما أخذ به بعض الناس. والوصية تكون للحمل باتفاق العلماء، ويستحقها إذا ولد حيا، ولم يقل مسلم: إنها تؤخر إلى حين بلوغه. ولا يحلف. والله أعلم.
سئل عن امرأة وصت وصايا في حال مرضها
وسئل عن امرأة وصت وصايا في حال مرضها، ولزوجها ولأخيها بشيء، ثم بعد مدة طويلة وضعت ولدا ذكرا، وبعد ذلك توفىت: فهل يبطل حكم الوصية؟
فأجاب:
أما ما زاد على ثلث التركة فهو للوارث، والولد اليتيم لا يتبرع بشيء من ماله. فأما الزوج الوارث فالوصية له باطلة؛ لأنه وارث. وأما الأخ فالوصية له صحيحة؛ لأنه مع الولد ليس بوارث، وإن كان عند الوصية وارثا. فينظر ما وصت به للأخ والناس، فإن وسعه الثلث وإلا قسم بينهم على قدر وصاياها.
سئل عن امرأة ماتت ولم يكن لها وارث سوى ابن أخت لأم
وسئل رحمه الله عن امرأة ماتت ولم يكن لها وارث سوي ابن أخت لأم، وقد أوصت بصدقة أكثر من الثلث: فهل للوصى أن ينفذ ذلك ويعطي ما بقي لابن أختها؟
فأجاب:
يعطي الموصى له الثلث، وما زاد عن ذلك إن أجازه الوارث جاز، وإلا بطل. وابن الأخت يرث المال كله عند من يقول بتوريث ذوي الأرحام، وهو الوارث في هذه المسألة عندهم. وهو مذهب جمهور السلف، وأبي حنيفة، وأحمد، وطوائف من أصحاب الشافعي. وهو قول في مذهب مالك إذا فسد بيت المال. والله أعلم.
سئل عن رجل مات وخلف ستة أولاد ذكور
وسئل عن رجل مات، وخلف ستة أولاد ذكور، وابن ابن، وبنت ابن، ووصى لابن ابنه بمثل نصيب أولاده، ولبنت ابنه بثلث ما بقي من الثلث بعد أن كان يعطي ابن ابنه نصيبه. فكم يكون نصيب كل واحد من أولاده؟
فأجاب:
الحمد لله، ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة أن هذه المسألة تصح من ستين، لكل ابن ثمانية، ولصاحب الوصية ثلث ما بقي بعد الثلث اثني عشر، ثلث ذلك أربعة. ولها طرق يعمل بها.
وجواب هذه المسألة معروف في كتب العلم.
سئل عن رجل توفي وله مال كثير
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل توفي، وله مال كثير، وله ولد صغير، وأوصى في حال مرضه أن يباع فرسه الفلاني، ويعطي ثمنه كله لمن يحج عنه حجة الإسلام. وبيعت بتسعمائة درهم. فأراد الحاكم أن يستأجر إنسانا أجنبيا ليحج بهذا المقدار، فجاء رجل غيره فقال: أنا أحج بأربعمائة. فهل يجوز ذلك؟ أو يتعين ما أوصى به؟
فأجاب:
الحمد لله، بل يجب إخراج جميع ما أوصىبه إن كان يخرج من ثلثه، وإن كان لا يخرج من ثلثه لم يجب على الورثة إخراج ما زاد على الثلث، إلا أن يكون واجبا عليه بحيث لا يحصل حجة الإسلام. والله أعلم.
سئل عن رجل خلف أولادا وأوصى لأخته كل يوم بدرهم
وسئل عن رجل خلف أولادا، وأوصى لأخته كل يوم بدرهم، فأعطيت ذلك حتى نفد المال، ولم يبق من التركة إلا عقار مغله كل سنة ستمائة درهم: فهل تعطى ذلك؟ أو درهما كما أوصى لها؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا لم يكن ما بقي متسعا لأن تعطى منه كل يوم درهما، ويبقي للورثة درهم، فلا تعطى إلا ما يبقى معه للورثة الثلثان، لا يزاد على مقدار الثلث شيء إلا بإجازة الورثة المستحقين، إذا كان المجيز بالغا رشيدا أهلا للتبرع. وإن لم يكن المجيز كذلك، أو لم يجز، لم تعط شيئا. ولو لم يخلف الميت إلا العقار فإنها تعطي من مغله أقل الأمرين من الدرهم الموصى به أو ثلث المغل، فإن كان المغل أقل من ثلاثة دراهم كل يوم لم تعط إلا ثلث ذلك، فلو كان درهما أعطيت ثلث درهم فقط، وإن أخذت زيادة على مقدار ثلث المغل استرجع منها ذلك، وليس في ذلك نزاع بين العلماء. والله أعلم.
سئل عن امرأة توفيت وخلفت أباها
وسئل عن امرأة توفيت، وخلفت أباها، وعمها أخا أبيها شقيقه، وجدتها، وكان أبوها قد رشدها قبل أن يزوجها، ثم إنها أوصت في مرض موتها لزوجها بالنصف. ولعمها بالنصف الآخر، ولم توص لأبيها وجدتها بشيء: فهل تصح هذه الوصية؟
فأجاب:
أما الوصية للعم صحيحة، لكن لا ينفذ فيما زاد على الثلث إلا بإجازة، والوصية للزوج لا ينفذ شيء منها إلا بإجازة الورثة. وإذا لم تجز الورثة بما زاد على الثلث كان للزوج نصف الباقي بعد هذه الوصية التي هي الثلث، وللجدة السدس، وللأب الباقي، وهو الثلث.
سئل عن امرأة أوصت قبل موتها بأشياء
وسئل رحمه الله عن امرأة أوصت قبل موتها بخمسة أيام بأشياء: من حج، وقراءة، وصدقة: فهل تنفذ الوصية؟
فأجاب:
إذا أوصت بأن يخرج من ثلث مالها ما يصرف في قربة لله وطاعته وجب تنفيذ وصيتها، وإن كان في مرض الموت. وأما إن كان الموصى به أكثر من الثلث كان الزائد موقوفا، فإن أجازه الورثة جاز، وإلا بطل. وإن وصت بشيء في غير طاعة لم تنفذ وصيتها.
سئل عن رجل أوصى زوجته عند موته
وسئل عن رجل أوصى زوجته عند موته أنها لا توهب شيئا من متاع الدنيا لمن يقرأ القرآن ويهدي له، وقد ادعى أن في صدره قرآنا يكفيه، ولم تكن زوجته تعلم بأنه كان يحفظ القرآن: فهل أصاب فيما أوصى؟ وقد قصدت الزوجة الموصى إليها أنها تعطي شيئا لمن يستحقه يستعين به على سبيل الهدية: ويقرأ جزءا من القرآن ويهديه لميتها: فهل يفسح لها في ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، تنفذ وصيته؛ فإن إعطاء أجرة لمن يقرأ القرآن ويهديه للميت بدعة، لم ينقل عن أحد من السلف، وإنما تكلم العلماء فيمن يقرأ لله ويهدي للميت. وفيمن يعطي أجرة على تعليم القرآن وجوه. فأما الاستئجار على القراءة وإهدائها فهذا لم ينقل عن أحد من الأئمة، ولا أذن في ذلك؛ فإن القراءة إذا كانت بأجرة كانت معاوضة، فلا يكون فيها أجر، ولا يصل إلى الميت شيء، وإنما يصل إليه العمل الصالح، والاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة وإنما تكلموا في الاستئجار على التعليم لكن هذه المرأة إذا أرادت نفع زوجها فلتتصدق عنه بما تريد الاستئجار به، فإن الصدقة تصل إلى الميت باتفاق الأئمة، وينفعه الله بها. وإن تصدقت بذلك على قوم من قراء القرآن الفقراء ليستغنوا بذلك عن قراءتهم حصل من الأجر بقدر ما أعينوا على القراءة، وينفع الله الميت بذلك. والله أعلم.
سئل عن مسجد لرجل وعليه وقف والوقف عليه حكر
وسئل عن مسجد لرجل، وعليه وقف، والوقف عليه حكر، وأوصى قبل وفاته أن يخرج من الثلث ويشتري الحكر الذي للوقف، فتعذر مشتراه، لأن الحكر وقف، وله ورثة وهم ضعفاء الحال، وقد وافقهم الوصي على شيء من الثلث لعمارة المسجد: فهل إذا تأخر من الثلث شيء للأيتام يتعلق في ذمة الوصي؟
فأجاب:
بل على الوصي أن يخرج جميع الثلث كما أوصاه الميت، ولا يدع للورثة شيئا، ثم إن أمكن شراء الأرض التي عينها الموصى اشتراها ووقفها، وإلا اشترى مكانا آخر ووقف على الجهة التي وصى بها الموصي، كما ذكره العلماء فيما إذا قال: بيعوا غلامي من زيد، وتصدقوا بثمنه. فامتنع فلان من شرائه، فإنه يباع من غيره ويتصدق بثمنه، فالوصية بشراء معين والتصدق به لوقف كالوصية ببيع معين والتصدق بثمنه؛ لأن الموصى له هنا جهة الصدقة والوقف، وهي باقية، والتعيين إذا فات قام بدله مقامه، كما لو أتلف الوقف متلف، أو أتلف الموصى به متلف، فإن بدلهما يقوم مقامهما في ذلك، فيفرق بين الموصى به والموقوف؛ وبين بدل الموصى له والموقوف عليه؛ فإنه لو وصى لزيد لم يكن لغيره، ولو وصى أن يعتق عبده المعين، أو نذر عتق عبد معين فمات المعين لم يقم غيره مقامه.
وتنازع الفقهاء إذا وصى أن يحج عنه فلان بكذا فامتنع ذلك المعين من الحج، وكان الحج تطوعا: فهل يحج عنه أم لا؟ على قولين، هما وجهان في مذهب أحمد وغيره؛ لأن الحج مقصود في نفسه، ويقع المعين مقصودا، فمن الفقهاء من غلب جانب التعيين. ومنهم من قال: بل الحج مقصود أيضًا كما أن الصدقة والوقف مقصود، وتعيين الحج كتعيين الموقوف والمتصدق به، فإذا فات التعيين أقيم بدله، كما يقام في الصدقة والوقف.
سئل عن رجل أوصى في مرضه المتصل بموته
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أوصى في مرضه المتصل بموته بأن يباع شراب في حانوت العطر قيمته مائة وخمسون درهما، يضاف ذلك إلى ثلاثمائة درهم من ماله، وأن يشتري بذلك عقار، ويجعل وقفا على مصالح مسجد لإمامه ومؤذنه وزيته. وكتب ذلك قبل مرضه؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا أوصى أن يباع شيء معين من ماله من عقار أو منقول، يضم إلى ثمنه شيء آخر قدره من ماله، ويصرف ذلك في وقف شرعي، جاز. وإذا كان ذلك يخرج من الثلث أخرج، وإن لم ترض الورثة، وما أعطاه للورثة في مرض موته أن أعطي أحدا منهم زيادة على قدر ميراثه لم يجز إلا بإجازة الورثة، وإن أعطي كل إنسان شيئا معينا بقدر حقه أو بعض حقه، ففيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره: أحدهما: له ذلك، وهو مذهب الشافعي. والثاني: ليس له ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة. وإذا قيل: إن له ذلك بحسب ميراث أحدهم؛ فإن عطية المريض في مرض الموت المخوف بمنزلة وصيته بعد موته في مثل ذلك باتفاق الأئمة. والله أعلم.
باب الموصى إليه
سئل عن وصي على أيتام بوكالة شرعية
وسئل رحمه الله تعالى عن وصى على أيتام بوكالة شرعية، وللأيتام دار، فباعها وكيل الوصي من قبل أن ينظرها، وقبض الثمن، ثم زيد فيها: فهل له أن يقبل الزيادة؟ أم لا؟
فأجاب:
إن كان الوكيل باعها بثمن المثل، وقد رؤيت له صح البيع. وإن لم تر له، فيه نزاع. وإن باعها بدون ثمن المثل فقد فرط في الوصية، ويرجع عليه بما فرط فيه، أو يفسخ البيع، إذا لم يبذل له تمام المثل. والله أعلم.
سئل عن رجل جليل القدر وأوصى بأمور
وسئل عن رجل جليل القدر، له تعلقات كثيرة مع الناس، وأوصى بأمور، فجاء رجل إلى وصيه في حياة الموصي، وقال: يا فلان، جئتك في حياة فلان الموصى بمال، فلي عنده كذا، وكذا. فذكر الوصي ذلك للموصي، فقال الموصي: من ادعى بعد موتي على شيئا فحلفه وأعطه بلا بينة: فهل يجوز أو يجب على الوصي فعل ذلك مع يمين المدعي؟
فأجاب:
نعم، يجب على الوصي تسليم ما ادعاه هذا المدعي إذا حلف عليه، وسواء كان يخرج من الثلث أو لا، أما إذا كان يخرج من الثلث كان أسوأ الأحوال، كما يكون هذا الموصى متبرعًا بهذا الإعطاء. ولو وصى لمعين إذا فعل فعلا، أو وصى لمطلق موصوف، فكل من الوصيتين جائز باتفاق الأئمة، فإنهم لا ينازعون في جواز الوصية بالمجهول، ولم يتنازعوا في جواز الإقرار بالمجهول؛ ولهذا لا يقع شبهة لأحد في أنه إذا خرج من الثلث وجب تسليمه وإنما قد تقع الشبهة فيما إذا لم يخرج من الثلث. والصواب المقطوع به أنه يجب تسليم ذلك من رأس المال؛ لأن الدين مقدم على الوصايا؛ فإن هذا الكلام مفهومه رد اليمين على المدعي، والأمر بتسليم ما حلف عليه.
لكن رد اليمين هل هو كالإقرار؟ أو كالبينة؟ فيه للعلماء قولان. فإذا قيل: هو كالإقرار صار هذا إقرار لهذا المدعي، غايته أنه أقر بموصوف أو بمجهول، وكل من هذين إقرار يصح باتفاق العلماء؛ مع أن هذا الشخص المعين ليس الإقرار له إقرارا بمجهول؛ فإنه هو سبب اللفظ العام، وسبب اللفظ العام مراد فيه قطعا، كأنه قال: هذا الشخص المعين إن حلف على ما ادعاه فأعطوه إياه. ومثل هذه الصفة جائزة باتفاق العلماء، واجب تنفيذها. وإن قيل: إن الرد كالبينة صار حلف المدعي مع نكول المدعي عليه بينة، ويصير المدعي قد أقام بينة على ما ادعاه، ومثل هذا يجب تسليم ما ادعاه إليه بلا ريب هذا على أصل من لا يقضي برد اليمين على المدعي؛ كمالك، والشافعي، وأحد القولين في مذهب الإمام أحمد.
وأما عند من يقضي بالنكول كأبي حنيفة وأحمد في أشهر الروايتين عنه، فالأمر عنده أوكد؛ فإنه إذا رضي الخصمان فحلف المدعي كان جائزا عندهم، وكان من النكول أيضًا، فالرجل الذي قد علم أن بينه وبين الناس معاملات متعددة منها ما هو بغير بينة، وعليه حقوق قد لا يعلم أربابها، ولا مقدارها، لا تكون مثل هذه الصفة منه تبرعا، بل تكون وصية بواجب، والوصية بواجب لآدمي تكون من رأس المال باتفاق المسلمين، وذلك أنه إذا علم أن عليه حقا، وشك في أدائه لم يكن له أن يحلف، بل إذا حلف المدعي عليه وأعطاه فقد فعل الواجب، فإذا كان عليه حق لا يعلم عين صاحبه كان عليه أن يفعل ما تبرأ به زمته فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها، وكمن عليه دين لأحد رجلين لا يعلم عين المستحق، فإذا قال: من حلف منكما فهو له ونحو ذلك، فقد أدى الواجب.
وأيضًا، فإنه إذا ادعى عليه بأمر لا يعلم ثبوته ولا انتفاءه لم يكن له أن يحلف على نفيه يمين بت؛ لأن ذلك حلف على ما لا يعلم، بل عليه أن يفعل ما يغلب على ظنه، وإذا أخبره من يصدقه بأمر بني عليه، وإذا رد اليمين على المدعي عند اشتباه الحال عليه فقد فعل ما يجب عليه؛ فإنه لو نهاهم عن إعطائه قد يكون ظالما مانعا المستحق، وإن أمر بإعطاء كل مدع أفضي إلى أن يدعي الإنسان بما لا يستحقه، وذلك تبرع، فإذا أمر بتحليفه وإعطائه فقد فعل ما يجب عليه حيث بني الأمر على ما يغلب على ظنه أن تبرأ ذمته منه، فإن كان قد فعل الواجب أخرج ذلك من رأس المال.
سئل عن وصي على أولاد أخيه
وسئل رحمه الله تعالى عن وصى على أولاد أخيه، وتوفى، وخلف أولادا، وضعوا أيديهم على موجود والدهم: فهل يلزم أولاد الوصي المتوفي الخروج عن ذلك، والدعوى عليهم؟
فأجاب:
إذا عرف أن مال اليتامى كان مختلطا بمال الرجل، فإنه ينظر كم خرج من مال اليتامى نفقة وغيرها، ويطلب الباقي وما أشبه ذلك، ويرجع فيه إلى العرف المطرد.
سئل عن رجل وصي على مال يتيم وقد قارض فيه
وسئل عن رجل وصى على مال يتيم، وقد قارض فيه مدة ثلاث سنين، وقد ربح فيه فائدة من وجه حل: فهل يحل للوصى أن يأخذ من الفائدة شيئا؟ أو هي لليتيم خاصة؟
فأجاب:
الربح كله لليتيم، لكن إن كان الوصي فقيرا وقد عمل في المال فله أن يأخذ أقل الأمرين من أجرة مثله أو كفايته، فلا يأخذ فوق أجرة عمله وإن كانت الأجرة أكثر من كفايته لم يأخذ أكثر منها.
سئل عن وصي تحت يده أيتام أطفال ووالدتهم حامل
وسئل رحمه الله عن وصى تحت يده أيتام أطفال، ووالدتهم حامل: فهل يعطي الأطفال نفقة، والذي يخدم الأطفال، والوالدة إذا أخذت صداقها: فهل يجوز أن تأكل الأطفال ووالدتهم ومن يخدمهم جميع المال؟
فأجاب:
أما الزوجة فتعطي قبل وضع الحمل. وأما سائر الورثة فإن أخرت قسمة التركة إلى حين الوضع فينفق على اليتامى بالمعروف، ولا بأس أن يختلط مالهم بمال الأم، ويكون خبزهم جميعا، وطبخهم جميعا، إذا كان ذلك مصلحة لليتامى، فإن الصحابة سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك فأنزل الله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } [69]. وأما الحمل فإن أخرت فلا كلام، وإن عجلت أخر له نصيب ذكر احتىاطًا.
وهل تستحق الزوجة نفقة لأجل الحمل الذي في بطنها وسكنى؟ على ثلاثة أقوال للعلماء:
أحدها: لا نفقة لها، ولا سكنى، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، والشافعي في قول.
والثاني: لها النفقة والسكنى، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقول طائفة.
والثالث: لها السكنى، دون النفقة، كما نقل عن مالك والشافعي في قول.
سئل عن يتيمة حضر من يرغب في تزويجها
وسئل رحمه الله عن يتيمة حضر من يرغب في تزويجها، ولها أملاك: فهل يجوز للوصى أن يبيع من عقارها شيئا، ويصرف ثمنه في جهاز وقماش لها، وحلي يصلح لمثلها أم لا؟
فأجاب:
نعم، للولي أن يبيع من عقارها ما يجهزها به، ويجهزها الجهاز المعروف، والحلي المعروف.
سئل عن وصي على أختيه وقد كبرتا
وسئل عن وصى على أختيه، وقد كبرتا، وولديهما؛ وآنس منهما الرشد: فهل يحتاج إلى إثبات عند الحاكم؟ أو إلى شهود؟
فأجاب:
إذا آنس الوصي منهم الرشد دفع إليهم المال، ولا يحتاج إلى شهود، بل يقر برشدهم، ويسلم إليهم المال، وذلك جائز بغير إذن الحاكم، لكن له إثبات ذلك عند الحاكم. والله أعلم.
سئل عن وصي قضى دينا عن الموصى بغير ثبوت
وسئل عن وصى قضي دينا عن الموصى بغير ثبوت عند الحاكم، وعوض عن الغائب بدون قيمة المثل: فهل للورثة فسخ ذلك؟
فأجاب:
ليس للوصى أن يقضي ما يدعي من الدين إلا بمستند شرعي، بل ولا بمجرد دعوي من المدعي، فإنه ضامن له. ولا يجوز له التعويض إلا بقيمة المثل، وما عوضه بدون القيمة بما لا يتغابن الناس به، فإما أن يضمن ما نقص من حق الورثة، وإما أن يفسخ التعويض ويوفي الغريم حقه. والمستند الشرعي متعدد؛ مثل إقرار الميت، أو إقرار من يقبل إقراره عليه، مثل وكيله إذا أقر بما وكله فيه، ويدخل في ذلك ديوان الأمير، وأستاذ داره؛ مثل شاهد يحلف معه المدعي، ومثل خط الميت الذي يعلم أنه خطه وغير ذلك.
سئل عن نصراني توفي وخلف تركة وأوصى وصيته
وسئل عن نصراني توفي وخلف تركة، وأوصى وصيته، وظهرت عليه ديون بمساطر وغير مساطر: فهل للوصي أن يعطي أرباب الديون بغير ثبوت على يد حاكم؟
فأجاب:
إذا كان الميت ممن يكتب ما عليه للناس في دفتر ونحوه، وله كاتب يكتب بإذنه ما عليه ونحوه، فإنه يرجع في ذلك إلى الكتاب الذي بخطه أو خط وكيله، فما كان مكتوبا وليس عليه علامة الوفاء كان بمنزلة إقرار الميت به، فالخط في مثل ذلك كاللفظ، وإقرار الوكيل فيما وكل فيه بلفظه أو خطه المعتبر مقبول، ولكن على صاحب الدين اليمين بالاستحقاق، أو نفي البراءة، كما لو ثبت الدين بإقرار لفظي. وأما إعطاء المدعي ما يدعيه بمجرد قوله الذي لا فرق فيه بين دعواه ودعوي غيره فلا يجوز. والله أعلم.
سئل عن الوصي ونحوه إذا كان بعض مال الوصي مشتركا
وسئل رحمه الله تعالى عن الوصي ونحوه إذا كان بعض مال الوصي مشتركا بينه وبين وصى عليه وللموصى فيه نصيب؛ وباع الشركاء أنصباءهم أو اكتروه للوصي، واحتاج الولي أن يبيع نصيب اليتيم، أو يكريه معهم: فهل يجوز له الشراء؟
فأجاب:
يجوز له الشراء؛ لأن الشركاء غير متهمين في بيع نصيبهم، ولأن الشركاء إذا عينوا الوصي تعين عن غيره في نصيب اليتيم دخل ضرورة، ويشهد له المعني، قال الله تعالى: { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } [70]
سئل عن وصي يتيم وهو يتجر له ولنفسه بماله
وسئل رحمه الله تعالى عن وصى يتيم، وهو يتجر له ولنفسه بماله، فاشترى لليتيم صنفا، ثم باعه واشترى له بثمنه، ثم بعد ذلك اشترى المذكور، ومات ولم يعين: هل هو لأحدهما أو لهما. فهل يكون الصنف لورثة الوصي أم لليتيم؟
فأجاب:
إذا علم أنه لم يشتره إلا بماله وحده، وبمال اليتيم وحده، فإنه لأحدهما: ينظر في ذلك: هل يمكن علمه بأن يعرف مقدار مال اليتيم. ومقدار مال نفسه. وينظر دفاتر الحساب، وما كتبه بخطه، ونحو ذلك، وإن كان مال اليتيم متميزا بأن يكون ما اشتراه بكتبه ونحو ذلك كان مما لم يكتبه لنفسه، فإن تعذر معرفة المستحق من كل وجه كان فيه للفقهاء ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يقسم بينهما كقول أبي حنيفة، كما لو تداعيا عينا يدهما عليها.
والثاني: يوقف الأمر حتى يصطلحا؛ كقول الشافعي؛ لأن المستحق أحدهما لا بعينه.
والثالث: وهو مذهب أحمد أنه يقرع بينهما، فمن أصابته القرعة حلف وأخذ، لما في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي ﷺ، ليس لواحد منهما بينة، فقال النبي ﷺ: استهما عليه، رواه أبو داود والنسائي. وفي لفظ لأبي داود: (إذا كره الاثنان اليمين، أو استحباها فليستهما عليه) رواه البخاري، ولفظه: أن النبي ﷺ عرض على قوم اليمين فأسرعوا، فأمر أن يسهم بينهم أيهم يحلف. والله أعلم.
سئل عن أيتام تحت الحجر ولهم وصى وكفيل ولأمهم زوج
وسئل رحمه الله تعالى عن أيتام تحت الحجر؛ ولهم وصى وكفيل ولأمهم زوج أجنبي: فهل له عليهم حكم؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، ليس لزوج الأم عليهم حكم في أبدانهم ولا أموالهم، بل الأم المزوجة بالأجنبي لا حضانة لها لئلا يحضنهم الأجنبي؛ فإن الزوجة تحت أمر الزوج، فأسقط الشارع حضانتها؛ لئلا يكونوا في حضانة أجنبي، وإنما الحضانة لأم الأم، أو لغيرها من الأقارب. وأما المال فأمره إلى الوصي. والنكاح للعصبة.
سئل عن رجل حضرته الوفاة فأوصى وصية بحضرته
وسئل عن رجل حضرته الوفاة فأوصى وصية بحضرته: أن هذه الدار نصفها للحرم الشريف، ونصفها لمملوكي سنقر المعتوق الحر، ولم يكن له وارث سوي ابن أستاذه، وأن الوصي قال لابن أستاذه: هذا ما يجوز للمسلمين منعه، فخلي كلام الوصي وباعه وتصرف فيها تصرف المالك: فهل يصح بيعه؟
فأجاب:
إذ كانت الوصية تخرج من الثلث وجب تنفيذها، ولم يكن للورثة إبطالها، فإن جحدوها فله تحليفهم، ومتى شهد له شاهد بقول الوصي أو غيره فله أن يحلف مع شاهده ويأخذ حصته.
سئل عن رجل تحت حجر بطريق شرعي وأن الوصي توفي
وسئل رحمه الله عن رجل تحت حجر بطريق شرعي، وأن الوصي توفي إلى رحمة الله تعالى، وترك ولده، وإن ولده قد وضع يده على ما ترك والده، وعلى ما كان والده وضع يده عليه من مال المحجور عليه، وإن اليتيم طلب الحساب من ولد الوصي فهل له ذلك، وأن ولده ادعى أن والده أقبض بعض مال محجوره لزيد وهو لا يستحق إقباض ذلك شرعا، وأنه بإشهاد عليهما، ثم إن ذلك القابض الذي أقبضه الوصي ادعى أنه أقبض ذلك المال لليتيم: فهل تجوز هذه الشهادة على اليتيم المحجور عليه ما ذكر؟ أم لا؟ وهل له أن يرجع على مال الوصي بما أقبضه من ماله لمن لا يستحق إقباضه شرعا؟ وهل لولد الوصي الرجوع عن ما أقبضه والده بغير مستند شرعي؟ وما الحكم في ذلك؟
فأجاب رحمه الله:
إذا مات الوصي ولم يعرف أن مال اليتيم قد ذهب بغير تفريط فهو باق بحكم يوجب إبقائه في تركة الميت، لكن هل يكون دينا يحاص الغرماء؟ أو يكون أمانة يؤخذ من أصل المال؟ فيه نزاع. وإذا ادعى الوارث رده إليه لم يقبل بمجرد قوله.
وأما إذا كان الوصي قد أقبضه لغيره، وذلك الغير أقبضه لليتيم، فإن ثبت ذلك وكان الإقباض مما يسوغ، فقد برئت ذمة الوصي في ذلك، مثل أن يكون اليتيم قد رشد. فسلم إليه ماله بعد أنه آنس الرشد، وإن لم يثبت ذلك عند الحاكم، فإن ذلك الحجر عنه لا يحتاج إلى ثبوت الحاكم ولا حكمه، بل متى آنس الوصي منه الرشد فعليه أن يدفع إليه ماله، كما قال الله تعالى: { وَابْتَلُواْ اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إليهمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إليهمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عليهمْ وَكَفَي بِاللهِ حَسِيبًا } [71].
وأما إن كان الوصي قد سلم المال من لا يجوز تسليمه إليه فهو ضامن له، ثم إن كان المال وصل إلى اليتيم الباين رشده فقد برئت ذمة الوصي، كما تبرأ ذمة كل غاصب يوصل المال إلى مستحقه، ولو كان بغير فعل الغاصب، ولا تعد؛ مثل أن يأخذه المالك قهرا، أو يخلصه له بعض الناس، أو تطيره إليه الريح، فإن أنكر اليتيم بعد إيناس الرشد وصوله إليه من جهة ذلك القابض الذي ليس بوكيل للوصى فالقول قوله مع يمينه، وأما إن أنكر إقباض الوصي أو وكيله لأحد: فهل يقبل قوله؟ أو قول الوصي؟ فيه نزاع مشهور بين العلماء.
سئل عن وصي تحت يده مال لأيتام
وسئل رحمه الله عن وصى تحت يده مال لأيتام: فهل يجوز أن يخرج من ماله حصته، ومن مالهم حصته، وينفقه عليهم وعليه؟
فأجاب:
ينفق على اليتيم بالمعروف، وإذا كان خلط طعامه بطعام الرجل أصلح لليتيم فعل ذلك، كما قال تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } [72]، فإن الصحابة كانوا لما توعد الله على من يأكل مال اليتيم بالعذاب العظيم يميزون طعام اليتيم عن طعامهم، فيفسد، فسألوا عن ذلك النبي ﷺ؛ فأنزل الله هذه الآية.
سئل عن أيتام تحت يد وصي ولهم أخ من أم وقد باع الوصي حصته
وسئل رحمه الله عن أيتام تحت يد وصي، ولهم أخ من أم، وقد باع الوصي حصته على إخوته، وذكر الملك كان واقعا، ولم تعلم الأيتام ببيعه لما باعه الوصي منه إليهم: فهل يجوز البيع أم لا؟
فأجاب:
بيع العقار ليس للوصى أن يفعله إلا لحاجة أو مصلحة راجحة بينة؛ وإذا ذكر أنه باعه للاستهدام لم يكن له أن يشتريه لليتيم الآخر؛ لأن في ذلك ضررا لليتيم الآخر إن كان صادقا، وضررا للأول إن كان كاذبا.
سئل عن رجل له جارية وله منها أولاد خمسة
وسئل رحمه الله عن رجل له جارية، وله منها أولاد خمسة، وأودع عند إنسان دراهم، وقال له: إن أنا مت تعطيها الدراهم، ثم إنه مات، فأخذت من الوصي بعض الدراهم، ثم إن أولادها طلبوها إلى الحاكم، وطلبوا منها الدراهم، فأعطتهم إياها، واعترفت أنها أخذتها من الموصي، ثم إنهم طلبوا الوصي بجملة المال وادعوا أن الذي أقرت به أنه منها لم يكن منه، إلا كان بعد أن أكرهوها على ذلك: فالقول قول المرأة أنه من المبلغ أم لا؟
فأجاب:
القول قول المستودع الموصى إليه في قدر المال مع يمينه، والقول قوله: أنه دفع إلى المرأة ما دفع إذا صدقته على ذلك، والقول قول كل منهما مع يمينه أنه ليس عنده أكثر من ذلك. والوصية لأم الولد وصية صحيحة إذا كانت تخرج من الثلث؛ ولهذه المرأة أن تأخذ ما وصى لها به إذا كان دون الثلث، فإن أنكر الوارث الوصية فلها عليه اليمين، وإن شهد لها شاهد عدل وحلفت مع شاهدها حكم لها بذلك، وإذا خرج المال عن يد الوصي وشهد لها قبلت شهادته لها.
وإذا كانت كتمت أولا ما عند الوصي لتأخذ منه ما وصى لها به كان ذلك عذرا لها في الباطن، وإن لم يقم لها بذلك بينة. فإن من علم أنه يستحق مالا في باطن ذلك وأخذه كان متأولا في ذلك، مع اختلاف العلماء في مسائل هذا الباب. والله أعلم.
سئل عن وصي نزل عن وصيته عند الحاكم
وسئل رحمه الله عن وصي نزل عن وصيته عند الحاكم، وسلم المال إلى الحاكم، وطلب منه أن يأذن له في محضر ليسلمه: فهل يجب ذلك على الحاكم؟
فأجاب:
إذا كان محتاجا إلى ذلك لدفع ضرر عن نفسه فعلى الحاكم إجابته إلى ذلك؛ فإن المقصود بالحكم إيصال الحقوق إلى مستحقيها، ودفع العدوان، وهو يعود إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإلزام بذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل وصى لرجلين على ولده
وسئل رحمه الله عن رجل وصى لرجلين على ولده، ثم إنهما اجتهدا في ثبوت الوصية: فهل لهم أن يأخذوا من مال اليتيم ما غرموا على ثبوتها؟
فأجاب:
إذا كانا متبرعين بالوصية فما أنفقاه على إثباتها بالمعروف، فهو من مال اليتيم. والله أعلم.
كتاب الفرائض
سئل عن رجل توفي صاحب له في الجهاد
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل توفي صاحب له في الجهاد، فجمع تركته في مدة ثلاث سنين بعد تعب: فهل يجب له على ذلك أجرة؟
فأجاب:
إن كان وصيا فله أقل الأمرين من أجرة مثله، أو كفايته وإن كان مكرها على هذا العمل فله أجرة مثله، وإن عمل متبرعا فلا شيء له من الأجرة، بل أجره على الله، وإن عمل ما يجب غير متبرع، ففي وجوب أجره نزاع. والأظهر الوجوب.
سئل عن امرأة توفى زوجها وخلف أولادا
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن امرأة توفى زوجها، وخلف أولادًا؟
فأجاب:
للزوجة الصداق، والباقى في ذمته، حكمها فيه حكم سائر الغرماء، وما بقى بعد الدين والوصية النافذة إن كان هناك وصية فلها ثمنه مع الأولاد.
سئل عن امرأة ماتت وخلفت زوجا وأبوين
وسئل رحمه الله عن امرأة ماتت، وخلفت زوجا وأبوين، وقد احتاط الأب على التركة، وذكر أنها غير رشيدة. فهل للزوج ميراث منها؟
فأجاب:
ما خلفته هذه المرأة فلزوجها نصفه، ولأبيها الثلث والباقي للأم. وهو السدس في مذهب الأئمة الأربعة، سواء كانت رشيدة أم غير رشيدة.
سئل عن امرأة ماتت عن أبوين، وزوج وأربعة أولاد ذكور وأنثى
وسئل رحمه الله تعالى عن امرأة ماتت عن أبوين، وزوج، وأربعة أولاد ذكور، وأنثى. فقال الزوج لجماعة شهود: اشهدوا، على أن نصيبي هو ستة لأبوي زوجتي، وأولادها المذكورين بالفريضة الشرعية، فما خص كل واحد منهم؟
فأجاب:
إذا كان قد ملكه نصيبه الذي هو ستة أسهم لسائر الورثة على الفريضة الشرعية، والباقي ثمانية عشر سهما: للأبوين ثمانية أسهم، وأولاده عشرة أسهم، فترد تلك الستة على هذه الثمانية عشر سهما، ويقسم الجميع بينهم على ثمانية عشر سهما، كما يرد الفاضل عن ذوي السهام بينهم، عند من يقول بالرد؛ فإن نصيب الوارث جعله لهم بمنزلة النصيب المردود بينهم.
سئل عن امرأة ماتت ولها زوج وجدة وإخوة أشقاء وابن
وسئل عن امرأة ماتت، ولها زوج، وجدة، وإخوة أشقاء، وابن: فما يستحق كل واحد من الميراث؟
فأجاب:
للزوج الربع، وللجدة السدس، وللابن الباقي، ولا شيء للأخوة باتفاق الأئمة.
سئل عن امرأة توفيت وخلفت زوجا وابنتين ووالدتها وأختين أشقاء
وسئل عن امرأة توفيت، وخلفت زوجا، وابنتين، ووالدتها، وأختين أشقاء: فهل ترث الأخوات؟
فأجاب:
يفرض للزوج الربع، وللأم السدس، وللبنتين الثلثان. أصلها من اثنى عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر، وأما الأخوات فلا شيء لهن مع البنات؛ لأن الأخوات مع البنات عصبة، ولم يفضل للعصبة شيء، هذا مذهب الأئمة الأربعة.
سئل عن امرأة ماتت وخلفت زوجا وأما وأختا شقيقة وأختا لأب وأخا وأختا لأم
وسئل عن امرأة ماتت، وخلفت زوجا، وأما، وأختا شقيقة، وأختا لأب وأخا وأختا لأم؟
فأجاب:
المسألة على عشرة أسهم، أصلها من ستة، وتعول إلى عشرة وتسمى ذات الفروخ لكثرة عولها. للزوج النصف، وللأم السدس سهم وللشقيقة ثلاثة، وللأخت من الأب السدس تكملة الثلثين، ولولدي الأم الثلث سهمان. فالمجموع عشرة أسهم. وهذا باتفاق الأئمة الأربعة.
سئل عن امرأة ماتت وخلفت زوجا وبنتا وأما وأختا
وسئل رحمه الله عن امرأة ماتت، وخلفت زوجا، وبنتا، وأما، وأختا من أم فما يستحق كل واحد منهم؟
فأجاب:
هذه الفريضة تقسم على أحد عشر: للبنت ستة أسهم، وللزوج ثلاثة أسهم؛ وللأم سهمان، ولا شيء للأخت من الأم؛ فإنها تسقط بالبنت باتفاق الأئمة كلهم. وهذا على قول من يقول بالرد كأبي حنيفة، وأحمد.
ومن لا يقول بالرد؛ كمالك، والشافعي، فيقسم عندهم على اثنى عشر سهما؛ للبنت ستة، وللزوج ثلاثة، وللأم سهمان، والسهم الثاني عشر لبيت المال.
فصل في أن النصوص شاملة لجميع الأحكام
والمقصود هنا أن النصوص شاملة لجميع الأحكام. ونحن نبين ذلك فيما هو من أشكل الأشياء، لننبه به على ما سواه، والفرائض من أشكلها. فنقول: النص والقياس وهما الكتاب، والميزان دلا على أن الثلث يختص به ولد الأم، كما هو قول على، ومن وافقه، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، وروى حرب التشريك، وهو قول زيد ومن وافقه، وقول مالك والشافعي، واختلف في ذلك عن عمر وعثمان، وغيرهما من الصحابة.
حتى قيل: إنه اختلف فيها عن جميع الصحابة إلا عليًا، وزيدًا، فإن عليًا لم يختلف عنه أنه لم يشرك، وزيد لم يختلف عنه أنه يشرك.
قال العنبري: القياس ما قال على، والاستحسان ما قال زيد. قال: قال العنبري: هذه وساطة مليحة، وعبارة صحيحة.
فيقال: النص والقياس دلا على ما قال على. أما النص فقوله تعالى: { فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ } [73] والمراد به: ولد الأم، وإذا أدخلنا فيهم ولد الأبوين، لم يشتركوا في الثلث، بل زاحمهم غيرهم.
وإن قيل: إن ولد الأبوين منهم وأنهم من ولد الأم، فهو غلط، والله تعالى قال: { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } الآية.
وفي قراءة سعد وابن مسعود: من الأم، والمراد به ولد الأم بالإجماع. ودل على ذلك قوله: { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ }، وولد الأبوين والأب في آية في قوله: { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ } [74]، فجعل لها النصف، وله جميع المال، وهكذا حكم ولد الأبوين.
ثم قال: { وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ }، وهذا حكم ولد الأبوين؛ لا الأم، باتفاق المسلمين.
فدل ذكره تعالى لهذا الحكم في هذه الآية، وكذلك الحكم في تلك الآية على أن أحد الصنفين غير الآخر. وإذا كان النص قد أعطى ولد الأم الثلث فمن نقصهم منه فقد ظلمهم. وولد الأبوين جنس آخر.
وقد قال النبي ﷺ: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر)
وهذا يقتضي أنه إذا لم تبق الفرائض شيئًا لم يكن للعصبة شيء، وهنا لم تبق الفرائض شيئًا.
وأما قول القائل: إن أباهم كان حمارًا، فقد اشتركوا في الأم. فقول فاسد حسًا، وشرعًا.
أما الحس: فلأن الأب لو كان حمارًا لكانت الأم أتانًا، ولم يكونوا من بني آدم. وإذا قيل: مراده أن وجوده كعدمه، فيقال: هذا باطل فإن الوجود لا يكون معدومًا.
وأما الشرع: فلأن الله حكم في ولد الأبوين، بخلاف حكمه في ولد الأم وإذا قيل: فالأب إذا لم ينفعهم لم يضرهم؟
قيل: بلى، قد يضرهم، كما ينفعهم؛ بدليل ما لو كان ولد الأم واحدا وولد الأبوين كثيرين؛ فإن ولد الأم وحده يأخذ السدس، والباقي يكون لهم كله، ولولا الأب لتشاركوا هم وذاك الواحد في الثلث، وإذا جاز أن يكون وجود الأب ينفعهم جاز أن يحرمهم، فعلم أنه يضرهم.
وأيضًا، فأصول الفرائض مبنية على أن القرابة المتصلة، ذكر وأنثى، لا تفرق أحكامها. فالأخ من الأبوين لا يكون كأخ من أب، ولا كأخ من أم، ولا يعطي بقرابة الأم وحدها، كما لا يعطي بقرابة الأب وحده، بل القرابة المشتركة من الأبوين؛ وإنما يفرد إذا كان قرابة لأم منفردا، مثل ابني عم. أحدهما أخ لأم، فهنا ذهب الجمهور إلى أن للأخ لأم السدس، ويشتركان في الباقي، وهو مأثور عن علي، وروي عن شريح: أنه جعل الجميع للأخ من الأم، كما لو كان ابن عم لأبوين، والجمهور يقولون: كلاهما في بنوة العم سواء هما ابن عم من أبوين أو من أب والأخوة من الأم مستقلة ليست مقترنة، حتى يجعل كابن عم لأبوين.
ومما يبين الحكم في مسألة المشتركة أن لو كان فيهن أخوات من أب لفرض لهن الثلثان، وعالت الفريضة، فلو كان معهن أخوهن سقطن، ويسمى الأخ المشؤوم، فلما صرن بوجوده يصرن عصبة. صار تارة ينفعهن، وتارة يضرهن، ولم يجعل وجوده كعدمه في حالة الضر. كذلك قرابة الأب لما الأخوة بها عصبة صار ينفعهم تارة ويضرهم أخرى. فهذا مجرى العصوبة، فإن العصبة تارة يحوز المال كله، وتارة يحوز أكثره، وتارة أقله، وتارة لا يبقى له شيء، وهو إذا استغرقت الفرائض المال. فمن جعل العصبة تأخذ مع استغراق الفرائض المال فقد خرج عن الأصول المنصوصة في الفرائض.
وقول القائل: هو استحسان. يقال: هذا استحسان يخالف الكتاب والميزان؛ فإنه ظلم للأخوة من الأم؛ حيث يؤخذ حقهم فيعطاه غيرهم.
والمنازعون في هذه المسألة ليس معهم حجة إلا أنه قول زيد. فقد روي عن عمر: أنه حكم بها فعمل بذلك من عمل من أهل المدينة وغيرها، كما عملوا بمثل ذلك في ميراث الجد والأخوة. وعملوا بقول زيد في غير ذلك من الفرائض تقليدًا له، وإن كان النص والقياس مع من خالفه. وبعضهم يحتج لذلك بقوله: (أفرضكم زيد). وهو حديث ضعيف، لا أصل له. ولم يكن زيد على عهد النبي ﷺ معروفا بالفرائض. حتى أبو عبيدة لم يصح فيه إلا قوله: (لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح).
وكذلك اتباعهم لزيد في الجد، مع أن جمهور الصحابة على خلافه. فجمهور الصحابة موافقون للصديق في أن الجد كالأب، يحجب الأخوة، وهو مروي عن بضعة عشر من الصحابة، ومذهب أبي حنيفة، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي، وأحمد. اختاره أبو حفص البرمكي من أصحابه، وحكاه بعضهم رواية عن أحمد. وأما المورثون للأخوة مع الجد فهم على وابن مسعود وزيد، ولكل واحد قول انفرد به. وعمر بن الخطاب كان متوقفا في أمره. والصواب بلا ريب قول الصديق؛ لأدلة متعددة، ذكرناها في غير هذا الموضع.
وأما العمريتان، فليس في القرآن ما يدل على أن للأم الثلث مع الأب والزوج، بل إنما أعطاها الله الثلث إذ ورثت المال هي والأب، فكان القرآن قد دل على أن ما رثته هي والأب تأخذ ثلثه، والأب ثلثيه، واستدل بهذا أكابر الصحابة؛ كعمر، وعثمان، وعلى وابن مسعود، وزيد وجمهور العلماء، على أن ما يبقى بعد فرض الزوجين، يكونان فيه أثلاثًا، قياسا على جميع المال، إذا اشتركا فيه، وكما يشتركان فيما يبقى بعد الدين، والوصية.
ومفهوم القرآن ينفي أن تأخذ الأم الثلث مطلقا، فمن أعطاها الثلث مطلقا حتى مع الزوجة، فقد خالف مفهوم القرآن.
وأما الجمهور فقد عملوا بالمفهوم، فلم يجعلوا ميراثها إذا ورثه أبوه كميراثها إذا لم يرث؛ بل إن ورثه أبوه فلأمه الثلث مطلقًا، وأما إذا لم يرثه أبوه، بل ورثه من دون الأب؛ كالجد، والعم، والأخ، فهي بالثلث أولى فإنها إذا أخذت الثلث مع الأب فمع غيره من العصبة أولى.
فدل القرآن على أنه إذا لم يرثه إلا الأم والأب، أو عصبة غير الأب، سوى الابن؛ فلأمه الثلث، وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، وأما الابن فإنه أقوى من الأب، فلها معه السدس. وإذا كان مع العصبة ذو فرض فالبنات والأخوات قد أعطوا الأم معهن السدس، والأخت الواحدة إذا كانت هي والأم، فالأم تأخذ الثلث مع الذكر من الأخوة، فمع الأنثى أولى.
وإنما الحجب عن الثلث إلى السدس بالأخوة، والواحد ليس إخوة. فإذا كانت مع الأخ الواحد تأخذ الثلث، فمع العم وغيره بطريق الأولى.
وفي الجد نزاع، يروي عن ابن مسعود والجمهور على أنها مع الجد تأخذ ثلث المال، وهو الصواب؛ لأن الجد أبعد منها، وهو محجوب بالأب، فلا يحجبها عن شيء من حقها، ومحض القياس أن الأب مع الأم، كالبنت مع الابن، والأخت مع الأخ؛ لأنهما ذكر وأنثى، من جنس واحد، هما عصبة. وقد أعطيت الزوجة نصف ما يعطاه الزوج؛ لأنهما ذكر وأنثى من جنس.
وأما دلالة الكتاب على ميراث الأم، فإن الله يقول: { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } [75]، فالله تعالى فرض لها بشرطين: ألا يكون له ولد. وأن يرثه أبوه، فكان في هذا دلالة على أنها لا تعطى الثلث مطلقًا، مع عدم الولد، وهذا مما يدل على صحة قول أكابر الصحابة، والجمهور الذين يقولون: لا تعطى في العمريتين زوج وأبوان، وزوجة وأبوان ثلث جميع المال.
قال ابن عباس وموافقوه: فإنها لو أعطيت الثلث هنا، لكانت تعطاه مع عدم الولد مطلقا، وهو خلاف ما دل عليه القرآن. وقد روى عنه أنه قال لزيد: أفي كتاب الله ثلث ما بقى؟ أي ليس في كتاب الله إلا سدس وثلث. فيقال: وليس في كتاب الله إعطاؤها الثلث مطلقا، فكيف يعطيها مع الزوجين الثلث؟ بل في كتاب الله ما يمنع إعطاؤها الثلث مع الأب وأحد الزوجين، فإنه لو كان كذلك كان يقول: فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث، فإنها على هذا التقدير تستحق الثلث مطلقًا، فلما خص الثلث ببعض الحال، علم أنها لا تستحق مطلقًا. فهذا مفهوم المخالفة، الذي يسمى دليل الخطاب، يدل على بطلان قول من أعطاها الثلث، إلا العمريتين ولا وجه لإعطائها الثلث مع مخالفته للإجماع.
إلى أن قال: فإن قوله: { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } [76]، دل على أن لها الثلث، والباقي للأب بقوله: { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ }، فإنه لما جعل الميراث ميراثا بينهما، ثم أخرج نصيبها، دل على أن الباقي نصيبه. وإذا أعطى الأب الباقي معها لم يلزم أن يعطى غيره مثل ما أعطى.
وإنما أعطينا سائر العصبة بقوله: { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ } [77]، وبقوله: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَإلى مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } [78]، وبقول النبي ﷺ: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقى فلأولى رجل ذكر)
فصل في ميراث الأخوات مع البنات وأنهن عصبة
وأما ميراث الأخوات مع البنات، وأنهن عصبة، كما قال: { وَلَهُ أُخْتٌ } الذي هو قول جمهور الصحابة والعلماء فقد دل عليه القرآن والسنة أيضًا، فإن قوله تعالى: { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ } [79]، فدل على أن الأخت ترث النصف مع عدم الولد. وأنه هو يرث المال كله مع عدم ولدها.
وذلك يقتضى أن الأخت مع الولد لا يكون لها النصف مما ترك، إذ لو كان كذلك لكان لها النصف، سواء كان له ولد، أو لم يكن له، فكان ذكر الولد تدليسا وعبثا مضرا، وكلام الله منزه عن ذلك.
ومن هذا قوله تعالى: { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } [80]، وقوله: { فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } [81]، وإذا علم أنها مع الولد لا ترث النصف، فالولد إما ذكر وإما أنثى.
أما الذكر فإنه يسقطها كما يسقط الأخ بطريق الأولى؛ بدليل قوله: { وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ } [82]، فلم يثبت له الإرث المطلق إلا إذا لم يكن لها ولد، والإرث المطلق هو حوز جميع المال، فدل ذلك على أنه إذا كان لها ولد لم يحز المال، بل إما أن يسقط، وإما أن يأخذ بعضه. فيبقى إذا كان لها ولد، فإما ابن، وإما بنت. والقرآن قد بين أن البنت إنما تأخذ النصف، فدل على أن البنت لا تمنعه النصف الآخر، إذا لم يكن إلا بنت، وأخ. ولما كان فتيا الله إنما هو في الكلالة، والكلالة من لا والد له، ولا ولد، علم أن من ليس له ولد ووالد، ليس هذا حكمه.
ولما كان قد بين تعالى أن الأخ يحوز المال مال الأخت فيكون لها عصبة، كان الأب أن يكون له عصبة بطريق الأولى، وإذا كان الأب والأخ عصبة، فالابن بطريق الأولى، وقد قال تعالى: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالي مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } [83].
ودل أيضًا قول النبي ﷺ: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقى فلأولى رجل ذكر): أن ما بقى بعد الفرائض لا يرثه إلا العصبة، وقد علم أن الابن أقرب، ثم الأب، ثم الجد، ثم الأخوة. وقضى النبي ﷺ أن أولاد بني الأم يتوارثون، دون بني العَلات. فالأخ للأبوين أولى من الأخ للأب، وابن الابن يقوم مقام الابن، وكذلك كل بني أب أدنى هم أقرب من بني الأب الذي هو أعلى منه، وأقربهم إلى الأب الأعلى، فهو أقرب إلى الميت. وإذا استوى في الدرجة فمن كان لأبوين أولى ممن كان للأب.
فلما دل القرآن على أن للأخت النصف مع عدم الولد، وأنه مع ذكور ولد يكون الابن عاصبا يحجب الأخت، كما يحجب أخاها.
بقى الأخت مع إناث الولد، ليس في القرآن ما ينفي ميراث الأخت في هذه الحال. بقى مع البنت: إما أن تسقط، وإما أن يكون لها النصف، وإما أن تكون عصبة. ولا وجه لسقوطها؛ فإنها لا تزاحم البنت. وأخوها لا يسقط. فلا تسقط هي، ولو سقطت بمن هو أبعد منها من الأقارب، والبعيد لا يسقط القريب، ولأنها كانت تساوي البنت مع اجتماعهما، والبنت أولى منها، فلا تساوي بها؛ فإنه لو فرض لها النصف لنقصت البنت عن النصف كزوج وبنت، فلو فرض لها النصف لعالت فنقصت البنت عن النصف، والإخوة لا يزاحمون الأولاد بفرض ولا تعصيب؛ فإن الأولاد أولى منهم.
والله إنما أعطاها النصف، إذا كان الميت كلالة. فلما بطل سقوطها وفرضها لم يبق إلا أن تكون عصبة أولى من البعيد، كالعم وابن العم، وهذا قول الجمهور.
وقد دل عليه حديث البخاري عن ابن مسعود لما ذكر له أن أبا موسى وسلمان بن ربيعة قال في بنت وبنت ابن وأخت: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فإنه سيتابعنا. فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، لأقضين فيها بقضاء رسول الله ﷺ، (للبنت النصف، وبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقى للأخت)، فدل ذلك أن الأخوات مع البنات عصبة، والأخت تكون عصبة بغيرها، وهو أخوها. فلا يمتنع أن تكون عصبة مع البنت.
وقوله ﷺ: (ألحقوا الفرائض بأهلها.. ) إلخ فهذا عام خص منه المعتقة، والملاعنة، والملتقطة؛ لقوله ﷺ: (تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه)، وإذا كان عاما مخصوصا، خصت منه هذه الصورة بما ذكر من الأدلة.
فصل في ميراث البنتين
وأما ميراث البنتين فقد قال تعالى: { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } [84].
فدل القرآن على أن البنت لها مع أخيها الذكر الثلث، ولها وحدها النصف ولما فوق اثنتين الثلثان. بقيت البنت إذا كان لها مع الذكر الثلث لا الربع، فأن يكون لها مع الأنثى الثلث لا الربع أولى وأحرى، ولأنه قال: { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ }، فقيد النصف بكونها واحدة، فدل بمفهومه على أنه لا يكون لها إلا مع هذا الوصف، بخلاف قوله: { فَإِن كُنَّ نِسَاء }، ذكر ضمير كُنَّ ونِسَاء وذلك جمع، لم يمكن أن يقال: اثنتين؛ لأن ضمير الجمع لا يختص باثنتين، ولأن الحكم لا يختص باثنتين، فلزم أن يقال: { فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } ؛ لأنه قد عرف حكم الثنتين، وعرف حكم الواحدة، وإذا كانت واحدة فلها النصف، ولما فوق الثنتين الثلثان، امتنع أن يكون للبنتين أكثر من الثلثين، فلا يكون لهما جميع المال لكل واحدة النصف، فإن الثلاث ليس لهن إلا الثلثان، فكيف الثلاثة؟ ولا يكفيها النصف؛ لأنه لها بشرط أن تكون واحدة، فلا يكون لها إذا لم تكن واحدة.
وهذه الدلالة تظهر من قراءة النصب { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً }، فإن هذا خبر كان، تقديره: فإن كانت بنتا واحدة أي مفردة ليس معها غيرها { فَلَهَا النِّصْفُ } فلا يكون لها ذلك إذا كان معها غيرها، فانتفي النصف وانتفي الجميع، فلم يبق إلا الثلثان. وهذه دلالة من الآية.
وأيضًا، فإن الله لما قال في الأخوات: { فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } [85]، كان دليلا على أن البنتين أولى بالثلثين من الأختين.
وأيضًا، فسنة رسول الله ﷺ لما أعطى ابنتي سعد بن الربيع الثلثين، وأمهما الثمن، والعم ما بقي. وهذا إجماع لا يصح فيه خلاف عن ابن عباس.
ودلت آية الولد على أن حكم ما فوق الاثنين حكم الاثنتين، فكذلك قال في الأخوات: { فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } ولم يذكر ما فوقهما، فإنه إذا كانت الثنتان يستحقان الثلثين فما فوقهما بطريق الأولى والأحرى، بخلاف آية البنات؛ فإنه لم يدل قوله: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } [86] إلا على أن لها الثلث مع أخيها، وإذا كن اثنتين لم يستحقوا الثلث، فصار بيانه في كل من الآيتين من أحسن البيان؛ لما دل الكلام الأول على ميراث البنتين دون ما زاد على ذلك بين بعد ذلك ميراث ما زاد على البنتين في آية الصيف لما دل الكلام على ميراث الأختين، وكان ذلك دال بطريق الأولى على ميراث الثلاثة أو الأربعة، وما زاد لم يحتج أن يذكر ما زاد على الأختين. فهناك ذكر ما فوق البنتين دون البنتين، وفي الآية الأخرى ذكر البنتين دون ما فوقهما لما يقتضيه حسن البيان في كل موضوع.
ولما بين حكم الأخت الواحدة، والأخ الواحد وحكم الأختين فصاعدًا، بقى بيان الابنتين فصاعدًا من الصنفين، ليكون البيان مستوعبا للأقسام. ولفظ الأخوة وسائر جميع ألفاظ الجمع قد يعني به الجنس من غير قصد القدر منه، فيتناول الاثنين فصاعدًا. وقد يعني به الثالثة فصاعدًا. وفي هذه الآية إنما عني به العدد مطلقًا؛لأنه بين الواحدة قبل ذلك، ولأن ما ذكره من الأحكام في الفرائض فرق فيه بين الواحد والعدد، وسوى فيه بين مراتب العدد الاثنين والثلاثة، وقد صرح بذلك في قوله: { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ } إلى قوله { فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ } [87]، فقوله: { كَانُوَا } ضمير جمع وقوله: { أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ }، أي من أخ وأخت، ثم قال: { فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ } فذكرهم بصيغة الجمع المضمر، وهو قوله: { فَهُمْ } والمظهر، وهو قوله: { شُرَكَاء }.
فدل على أن صيغة الجمع في آيات الفرائض تناولت العدد مطلقا: الاثنين فصاعدًا؛ لقوله: { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } [88]، وقوله: { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } وقوله: { وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاء } [89]
فصل في ميراث الجدة والجدات
وأما الجدة فكما قال الصديق: ليس لها في كتاب الله شيء؛ فإن الأم المذكورة في كتاب الله مقيدة بقيود توجب اختصاص الحكم بالأم الدنيا، فالجدة وإن سميت أما لم تدخل في لفظ الأم المذكورة في الفرائض، فأدخلت في لفظ الأمهات في قوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [90]، ولكن رسول الله ﷺ أعطاها السدس. فثبت ميراثها بسنة رسول الله ﷺ؛ ولم ينقل عنه لفظ عام في الجدات، بل ورث الجدة التي سألته، فلما جاءت الثانية أبا بكر جعلها شريكة الأولى في السدس.
وقد تنازع الناس في الجدات فقيل: لا يرث الاثنتان؛ أم الأم، وأم الأب؛ كقول مالك، وأبي ثور. وقيل: لا يرث إلا ثلاث؛ هاتان، وأم الجد؛ لما روى إبراهيم النخعي: أن النبي ﷺ قال: (ورث ثلاث جدات: جدتيك من قبل أبيك، وجدتك من قبل أمك) وهذا مرسل حسن؛ فإن مراسيل إبراهيم من أحسن المراسيل. فأخذ به أحمد. ولم يرد في النص إلا توريث هؤلاء.
وقيل: بل يرث جنس الجدات المدليات بوارث، وهو قول الأكثرين؛ كأبي حنيفة، والشافعي، وغيرهما، وهو وجه في مذهب أحمد. وهذا القول أرجح؛ لأن لفظ النص وإن لم يرد في كل جدة، فالصديق لما جاءته الثانية قال لها: لم يكن السدس التي أعطى إلا لغيرك؛ ولكن هي لو خلت به فهو لها. فورث الثانية، والنص إنما كان في غيرها.
ولأنه لا نزاع أن من علت بالأمومة ورثت، فترث أم أم الأب، وأم أم الأم بالاتفاق، فيبقى أم أبي الجد. أي فرق بينها وبين أم الجد؟ وإن فرق بين أم الأب وأم الجد. ومعلوم أن أبا الجد يقوم مقام الجد، بل هو جد أعلا، كذلك الجد كالأب، فأي وصف يفرق بين أم أم الأب، وأم أبي الجد؟
يبين ذلك أن أم أم الميت وأم أبيه بالنسبة إليه سواء؛ فكذلك أم أم أبيه وأم أبي أبيه بالنسبة إلى أبيه سواء، فوجب اشتراكهما في الميراث.
وأيضًا، فهؤلاء جعلوا أم أم الأم وإن زادت أمومتها ترث، وأم أبي الأب لا ترث. ورجحوا الجدة من جهة الأم على الجدة من جهة الأب. وهذا ضعيف، فلم تكن أم الأم أولى به من أم الأب، وأقارب الأم لم يقدموا في شيء من الأحكام، بل أقارب الأب أولى في جميع الأحكام، فكذلك في الحضانة.
والصحيح أنها لا تسقط بابنها أي الأب كما هو أظهر الروايتين عن أحمد؛ لحديث ابن مسعود، ولأنها ولو أدلت به فهي لا ترث ميراثه، بل هي معه كولد الأم مع الأم لم يسقطوا بها.
وقول من قال: من أدلى بشخص سقط به، باطل طردًا وعكسا؛ باطل طردا بولد الأم مع الأم، وعكسا بولد الابن مع عمهم، وولد الأخ مع عمهم. وأمثال ذلك مما فيه سقوط شخص بمن لم يدل به، وإنما العلة أنه يرث ميراثه، فكل من ورث ميراث شخص سقط به إذا كان أقرب منه، والجدات يقمن مقام الأم فيسقطن بها وإن لم يدلين بها.
وأما كون بنات الابن مع البنت لهن السدس تكملة الثلثين، وكذلك الأخوات من الأب مع أخت الأبوين؛ فلأن الله قال: { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [91]، وقد علم أن الخطاب تناول ولد النبين دون ولد البنات، وأن قوله: { أَوْلاَدِكُمْ } يتناول من ينسب إلى الميت، وهم ولده وولد ابنته، وأنه متناولهم على الترتيب، يدخل فيه ولد النبين عند عدم ولد الصلب، لما قد عرف من أن ما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر، والابن أقرب من ابن الابن، فإذا لم تكن إلا بنت فلها النصف، وبقى من نصيب البنات السدس، فإذا كان هنا بنات ابن فإنهن يستحققن الجميع لولا البنت، فإذا أخذت النصف فالباقى لهن.
وكذلك في الأخت من الأبوين مع الأخت من الأب، أخبر ابن مسعود: أن النبي ﷺ قضى للبنت بالنصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين. وأما إذا استكملت البنات الثلثين لم يبق فرض، فإن كان هناك عصبة من ولد النبين فالمال له، لأنه أولى ذكر، وإن كان معه أو فوقه عصبها عند جمهور الصحابة والعلماء كالأربعة وغيرهم. وأما ابن مسعود فإنه يسقطها؛ لأنها لا ترث مفردة.
والنزاع في الأخت للأب مع أخيها إذا استكمل البنات الثلثين. فالجمهور يجعلون البنات عصبة مع إخوانهن، يقتسمون الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين، سواء زاد ميراثهن بالتعصيب أو نقص، وتوريثهن هنا أقوى، وقول ابن مسعود معروف في نقصانهن.
فصل فيمن عمي موتهم والمفقود
وفي من عمي موتهم فلم يعرف أيهم مات أولًا، فالنزاع مشهور فيهم. والأشبه بأصول الشريعة أنه لا يرث بعضهم من بعض، بل يرث كل واحد ورثته الأحياء، وهو قول الجمهور، وهو قول في مذهب أحمد، لكن خلاف المشهور في مذهبه، وذلك لأن المجهول كالمعدوم في الأصول، كالملتقط لما جهل حال المالك كان المجهول كالمعدوم، فصار مالكا لما التقطه، لعدم العلم بالملك.
وكذلك المفقود، قد أخذ أحمد بأقوال الصحابة الذين جعلوا المجهول كالمعدوم، فجعلوها زوجة الثاني ما دام الأول مجهولا باطنا وظاهرًا، كما في اللقط، فإذا علم صار النكاح موقوفا على إجازته ورده، فخير بين امرأته والمهر. فإن اختار امرأته كانت زوجته، وبطل نكاح الثاني، ولم يحتج إلى طلاقه.
والمقصود هنا أن أحمد تبع الصحابة الذين جعلوا المجهول كالمعدوم، وهنا إذا كان أحدهما قد مات قبل الآخر فذاك مجهول، والمجهول كالمعدوم فيكون تقدم أحدهما على الآخر معدوما فلا يرث أحدهما صاحبه.
وأيضًا، فالميراث جعل للحي ليكون خليفة للميت ينتفع بماله.
سئل عن رجل توفي وله عم شقيق وله أخت من أبيه
وسئل رَحمه الله عن رجل توفي، وله عم شقيق، وله أخت من أبيه: فما الميراث؟
فأجاب:
للأخت النصف، والباقي للعم، وذلك باتفاق المسلمين.
سئل عن أمراة ماتت وخلفت من الورثة بنتا وأخا من أمها وابن عم
وسئل عن أمراة ماتت، وخلفت من الورثة بنتا، وأخا من أمها، وابن عم فما يخص كل واحد؟
فأجاب:
للبنت النصف، ولابن العم الباقي، ولا شيء للأخ من الأم، لكن إذا حضر القسمة فينبغي أن يرضخ له. والبنت تسقط الأخ من الأم في مذهب الأئمة الأربعة. والله أعلم.
سئل عن امرأة ماتت عن زوج وأب وأم وولدين أنثى وذكر
وسئل رَحمه الله عن امرأة ماتت عن زوج، وأب، وأم، وولدين أنثى وذكر ثم بعد وفاتها توفي والدها وترك أباه، وأخته، وجده، وجدته؟
فأجاب:
للزوج الربع، وللأبوين السدسان، وهو الثلث، والباقي للولدين أثلاثا؛ ثم ما تركه الأب فلجدته سدسه، ولأبيه الباقي، ولاشيء لأخته، ولا جده، بل كلاهما يسقط بالأب.
سئل عن رجل له أولاد وكسب جارية وأولدها
وسئل رَحمه الله عن رجل له أولاد، وكسب جارية، وأولدها، فولدت ذكرا، فعتقها، وتزوجت، ورزقت أولادا، فتوفي الشخص، فخص ابنه الذي من الجارية دارا، وقد توفي: فهل يخص إخوته من أمه شيء مع إخوته الذين من أبيه؟
فأجاب:
للأم السدس، ولأخوته من الأم الثلث، والباقي لأخوته من أبيه، للذكر مثل حظ الأنثيين. والله أعلم.
سئل عن امرأة ماتت وخلفت زوجا وابن أخت
وسئل رَحمه الله عن امرأة ماتت، وخلفت زوجا، وابن أخت؟
فأجاب:
للزوج النصف، وأما ابن الأخت ففي أحد الأقوال له الباقي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأحمد في المشهور عنه وطائفة من أصحاب الشافعي.
وفي القول الثاني: الباقي لبيت المال، وهو قول كثير من أصحاب الشافعي، وأحمد في إحدى الروايات.
وأصل هذه المسألة: تنازع العلماء في ذوي الأرحام الذين لا فرض لهم، ولا تعصيب. فمذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية: أن من لا وارث له بفرض ولا تعصيب يكون ماله لبيت مال المسلمين. ومذهب أكثر السلف وأبي حنيفة، والثوري، وإسحاق، وأحمد في المشهور عنه، يكون الباقي لذوي الأرحام { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [92]، ولقول النبي ﷺ: (الخال وارث من لا وارث له، يرث ماله، ويفك عانه)
سئل عن رجل مات وترك زوجة وأختا لأبويه وثلاث بنات أخ لأبويه
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل مات، وترك زوجة، وأختا لأبويه، وثلاث بنات أخ لأبويه: فهل لبنات الأخ معهن شيء؟ وما يخص كل واحدة منهن؟
فأجاب:
للزوجة الربع، وللأخت لأبوين النصف، ولا شيء لبنات الأخ. والربع الثاني إن كان هناك عصبة فهو للعصبة، وإلا فهو مردود على الأخت على أحد قولي العلماء، وعلى الآخر هو لبيت المال.
سئل عن رجل مات وخلف بنتا وله أولاد أخ من أبيه
وسئل شيخ الإسلام رَحِمهُ الله عن رجل مات، وخلف بنتا، وله أولاد أخ من أبيه، وهم صغار، وله ابن عم راجل، وله بنت عم، وله أخ من أمه، وليس هو من أولاد أعمامه: فمن يأخذ المال؟ ومن يكون ولي البنت؟
فأجاب:
أما الميراث فنصفه للبنت، ونصفه لأبناء الأخ. وأما حضانة الجارية فهي لبنت العم، دون العم من الأم، ودون ابن العم الذي ليس بمحرم وله الولاية على المال الذي لليتيمة لوصى أو نوابه.
سئل عمن ترك ابنتين وعمه أخا أبيه من أمه
وسئل عمن ترك ابنتين، وعمه أخا أبيه من أمه: فما الحكم؟
فأجاب:
إذا مات الميت وترك بنتيه، وأخاه من أمه، فلا شيء لأخيه لأمه باتفاق الأئمة، بل للبنتين الثلثان، والباقي للعصبة، إن كان له عصبة، وإلا فهو مردود على البنتين، أو بيت المال.
سئل الشيخ عن رجل توفي وخلف أخا له وأختين شقيقين وبنتين وزوجة
وسئل الشيخ رَحِمهُ الله عن رجل توفي وخلف أخا له؛ وأختين شقيقين؛ وبنتين، وزوجة وخلف موجودا. وكان الأخ المذكور غائبا، فما تكون القسمة؟
فأجاب:
للزوجة الثمن وللبنتين الثلثان، وللأخوة خمسة قراريط، بين الأخ والأخت أثلاثا. فتحصل للزوجة ثلاثة قراريط، ولكل بنت ثمانية قراريط، وللأخ ثلاثة قراريط وثلث، وللأخت قيراط وثلثا قيراط.
سئل عن رجل له خالة ماتت وخلفت موجودا، ولم يكن لها وارث
وسئل عن رجل له خالة ماتت وخلفت موجودًا، ولم يكن لها وارث: فهل يرثها ابن أختها؟
فأجاب:
هذا في أحد قولي العلماء هو الوارث، وفي الآخر بيت المال الشرعي.
سئل عن رجل كانت له بنت عم وابن عم
وسئل عن رجل كانت له بنت عم، وابن عم، فتوفيت بنت العم، وتركت بنتا، ثم توفي ابن العم المذكور، وترك ولدين، فبقى الولدان وبنت بنت العم المتوفية، ثم توفيت البنت، وتركت أولاد عم: فمن يستحق الميراث؛ أولاد ابن العم من الأم، أم أولاد عمها؟
الجواب:
مذهب الإمام أحمد وغيره ممن يقول بالتنزيل كما نقل نحو ذلك عن الصحابة والتابعين، وهو قول الجمهور فتنزيل كل واحد من ذوي الأرحام منزلة من أدلى به، قريبا كان أو بعيدا، ولا يعتبر القرب إلى الوارث، ثم اتحدت الجهة، فإن أولاد العم لهم ثلثا المال وأولاد ابن عم الأم ثلث المال، فإن أولئك ينتهي أمرهم إلى الأم. وإذا وجد أم مع أب، أو مع جد، كان للأم الثلث، والباقي له. والله أعلم.
سئل عن رجل خلف زوجة وثلاثة أولاد ذكور منها ثم مات أحدهم
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل خلف زوجة، وثلاثة أولاد ذكور منها. ثم مات أحدهم وخلف أمه، وأخويه. ثم مات الآخر، وخلف أمه، وأخاه. ثم مات الثالث، وخلف أمه وابنا له: فما يحصل للأم من تركته؟
فأجاب:
للزوجة من تركة الميت الأول الثمن، والباقي للإخوة الذين هم أولاد الميت، ثم الأخ الأول لأمه سدس تركته، والباقي لأخويه. والأخ الثاني لأمه ثلث تركته، والباقي لأخيه، والأخ الثالث لأمه سدس التركة، والباقي لابنه.
سئل عن رجلين إخوة لأب وكانت أم أحدهما أم ولد
وسئل رَحمه الله عن رجلين إخوة لأب وكانت أم أحدهما أم ولد، تزوجت بإنسان، ورزقت منه اثنين، وكان ابن الأم المذكورة تزوج ورزق ولدًا، ومات وخلف ولده، فورث أباه، ثم مات الولد، وكان قد مات أخوه من أبيه في حياته، وخلف ابنا، فلما مات الولد خلف أخوه اثنين، وهم إخوة أبيه من أمه، وخلف ابن عم من أبيه: فما الذي يخص إخوة أبيه؟ وما الذي يخص ابن عمه؟
فأجاب:
الحمد للّه، الميراث جميعه لابن عمه من الأب، وأما إخوة أبيه من الأم فلا ميراث لهما، وهذا باتفاق المسلمين، لكن ينبغي للميت أن يوصى لقرابته الذين لا يرثونه، فإذا لم يوص فينبغي إذا حضروا القسمة أن يعطوا منه، كما قال تعالى: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا } [93]
سئل عن رجل توفي وخلف ابنين وبنتين وزوجة وابن أخ
وسئل عن رجل توفي، وخلف ابنين، وبنتين، وزوجة، وابن أخ. فتوفي الابنان، وأخذت الزوجة ما خصها، وتزوجت بأجنبى، وبقى نصيب الذكرين ما قسم، وأن الزوجة حبلت من الزوج الجديد، فأراد بقية الورثة قسمة الموجود، فمنع البقية إلى حيث تلد الزوجة. فهل يكون لها إذا ولدت مشاركة في الموجود؟
فأجاب:
الحمد للّه، الميت الأول لزوجته الثمن، والباقي لبنيه وبناته للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا شيء لابن الأخ، فيكون للزوجة ثلاثة قراريط، ولكل ابن سبعة قراريط، وللبنتين سبعة قراريط.
ثم الابن الأول لما مات خلف أخاه وأختين وأمه، والأخ الثاني خلف أختيه وأمه وابن عمه. والحمل إن كان موجودًا عند موت أحدهما ورثا منه؛ لأنه أخوه من أمه. وينبغي لزوج المرأة أن يكف عن وطئها من حين موت هذا. وهذا كما أمر بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه إذا لم يطأها وولدته، علم أنه كان موجودًا وقت الموت، وإذا وطئها وتأخر الحمل اشتبه، لكن من أراد من الورثة أن يعطي حقه أعطى الثلثين ووقف للحمل نصيب، وهو الثلث. والله أعلم.
سئل عن يتيم له موجود تحت أمين الحكم
وسئل رَحمه الله عن يتيم له موجود تحت أمين الحكم، وأن عمه تعمد قتله حسدًا فقتله، وثبت عليه ذلك. فما الذي يجب عليه شرعا، وما حكم الله في قسم ميراثه، من وقف وغيره، وله من الورثة والدة، وأخ من أمه، وجد لأمه، وأولاد القاتل؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، أما الميراث من المال فإنه لورثته، والقاتل لا يرث شيئًا باتفاق الأئمة، بل للأم الثلث، والأخ من الأم السدس والباقي لابن العم، ولا شيء للجد أبي الأم.
وأما الوقف فيرجع فيه إلى شرط الواقف الموافق للشرع.
وأما دم المقتول فإنه لورثته، وهم الأم، والأخ، وابن العم القاتل في مذهب الشافعي، وأحمد وغيرهما.
ومذهب مالك أنهم إن اختلفوا، فأرادت الأم أمرًا، وابن العم أمرًا، فإنه يقدم ما أراده ابن العم، وهو ذو العصبية في إحدى الروايات التي اختارها كثير من أصحابه. وفي الثانية وهي رواية ابن القاسم التي عليها العمل عند المغاربة: أن الأمر أمر من طلب الدم، سواء كان هو العاصب، أو ذات الفرض. والرواية الثالثة كمذهب الشافعي: أن من عفا من الورثة صح عفوه، وصار حق الباقين في الدية.
لكن ابن العم، هل يقتل أباه؟ هذا فيه قولان أيضًا: أحدهما: لا يقتله؛ كمذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه. وفي الثاني: يقتله؛ كقول مالك، وهو قول في مذهب أحمد، لكن القود ثبت للمقتول، ثم انتقل إلى الورث، لكن كره مالك له قتله، ومن وجب له القود فله أن يعفو، وله أن يأخذ الدية، وإذا عفا بعض المستحق للقود سقط، وكان حق الباقين في الدية. وله أن يأخذ الدية بغير رضا القاتل في مذهب الشافعي وأحمد في المشهور، وفي رواية أخرى: لا يأخذ الدية إلا برضا القاتل، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.
وإذا سقط القود عن قاتل العمد، فإنه يضرب مائة جلدة، ويحبس سنة عند مالك، وطائفة من أهل العلم، دون الباقين.
سئل عن قوله جدتي أمه وأبي جده وأنا عمة له وهو خالي
وسئل عَن قَولِهِ:
جدتي أمه وأبي جده ** وأنا عمة له وهو خالي
أفتنا يا إمام رحمك اللّ ** ه ويكفيك حادثات الليالي
فأجاب رحمه الله:
رجل زوج ابنه أم بنته ** وأتى البنت بالنكاح الحلال
فأتت منه ببنت قالت الشع ** ر قالت لابن هاتيك خالي
رجل تزوج امرأة وتزوج ابنه بأمها، ولد له بنت، ولابنه ابن، فبنته هي المخاطبة بالشعر فجدتها أم أمها هي أم ابن الابن زوجة الابن وأبوها جد ابن ابنه، وهي عمته أخت أبيه من الأب، وهو خالها أخو أمها من الأم. والله أعلم.
سئل عن قوله ما بال قوم غدوا قد مات ميتهم فأصبحوا يقسمون المال والحللا
وسئل رَحِمَه الله عن قوله: ما بال قوم غدوا قد مات ميتهم ** فأصبحوا يقسمون المال والحللا فقالت امرأة من غير عترتهم ** ألا أخبركم أعجوبة مثلا في البطن مني جنين دام يشكركم ** فأخروا القسم حتى تعرفوا الحملا فإن يكن ذكرا لم يعط خردلة ** وإن يكن غيره أنثى فقد فضلا بالنصف حقا يقينا ليس ينكره ** من كان يعرف فرض الله لا زللا إني ذكرت لكم أمري بلا كذب ** فلا أقول لكم جهلا ولا مثلا
فأجاب:
زوج، وأم، واثنان من ولد الأم، وحمل من الأب، والمرأة الحامل ليست أم الميت، بل هي زوجة أبيها. فللزوج النصف، وللأم السدس ولولد الأم الثلث. فإن كان الحمل ذكرًا فهو أخ من أب فلا شيء له باتفاق العلماء. وإن كان الحمل أنثى فهو أخت من أب، فيفرض لها النصف، وهو فاضل عن السهام. فأصلها من ستة، وتعول إلى تسعة.
وأما إن كان الحمل من أم الميت، فهكذا الجواب في أحد قولي العلماء من الصحابة، ومن بعدهم، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه. وعلى القول الآخر: إن كان الحمل ذكرًا يشارك ولد الأم، كواحد منهم، ولا يسقط، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في رواية عنه.
سئل عن امرأة مزوجة وزوجها في مرض مزمن
وسئل الشّيخ رَحمه الله عن امرأة مزوجة، ولزوجها ثلاث شهور، وهو في مرض مزمن، فطلب منها شرابًا فأبطأت عليه، فنفر منها. وقال لها: أنت طالق ثلاثة، وهي مقيمة عنده تخدمه، وبعد عشرين يوما توفي الزوج: فهل يقع الطلاق؟ وهل إذا حلف على حكم هذه الصورة يحنث؟ وهل للوارث أن يمنعها الإرث؟
فأجاب:
أما الطلاق فإنه يقع إن كان عاقلا مختارًا، لكن ترثه عند جمهور أئمة الإسلام، وهو مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة، والشافعي في القول القديم، كما قضى به عثمان بن عفان في امرأة عبد الرحمن بن عوف. فإنه طلقها في مرض موته، فورثها منه عثمان. وعليها أن تعتد أبعد الأجلين؛ من عدة الطلاق، أو عدة الوفاة. وأما إن كان عقله قد زال فلا طلاق عليه.
سئل عن رجل طلق زوجته طلقة واحدة في مرضه الذي مات فيه
وسئل رَحمه الله عن رجل طلق زوجته طلقة واحدة قبل الدخول بها، في مرضه الذي مات فيه: فهل يكون ذلك طلاق الفار؟ ويعامل بنقيض قصده؟ وترثه الزوجة، وتستكمل جميع صداقها عليه؟ أم لا ترث وتأخذ نصف الصداق، والحالة هذه؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، هذه المسألة مبنية على مسألة المطلق بعد الدخول في مرض الموت. والذي عليه جمهور السلف والخلف: توريثها؛ كما قضى بذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه لامرأة عبد الرحمن بن عوف؛ تماضر بنت الأصبغ، وقد كان طلقها في مرضه، وهذا مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة والشافعي في القديم.
ثم على هذا، هل ترث بعد انقضاء العدة؟ والمطلقة قبل الدخول؟ على قولين للعلماء: أصحهما أنها ترث أيضًا، وهو مذهب مالك، وأحمد في المشهور عنه، وقول للشافعي؛ لأنه قد روي أن عثمان ورثها بعد انقضاء العدة؛ ولأن هذه إنما ورثت لتعلق حقها بالتركة لما مرض مرض الموت، وصار محجورًا عليه في حقها، وحق سائر الورثة، بحيث لا يملك التبرع لوارث، ولا يملكه لغير وارث بزيادة على الثلث، كما لا يملك ذلك بعد الموت، فلما كان تصرفه في مرض موته بالنسبة إلى الورثة كتصرفه بعد الموت لا يملك قطع إرثها، فكذلك لا يملك بعد مرضه، وهذا هو طلاق الفار المشهور بهذا الاسم عند العلماء وهو القول الصحيح الذي أفتى به.
سئل عن امرأة مزوجة وزوجها في مرض مزمن
وسئل رَحمه الله عن رجل زوج ابنته، وكتب الصداق عليه، ثم إن الزوج مرض بعد ذلك، فحين قوى عليه المرض فقبل موته بثلاثة أيام طلق الزوجة؛ ليمنعها من الميراث: فهل يقع هذا الطلاق؟ وما الذي يجب لها في تركته؟
فأجاب:
هذه المطلقة إن كانت مطلقة طلاقا رجعيًا، ومات زوجها، وهي في العدة ورثته باتفاق المسلمين، وإن كان الطلاق بائنا كالمطلقة ثلاثًا، ورثته أيضًا عند جماهير أئمة الإسلام، وبه قضى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه لما طلق عبد الرحمن بن عوف زوجته بنت الأصبغ الكلبية، طلقها ثلاثا في مرض موته، فشاور عثمان الصحابة فأشاروا على أنها ترث منه، ولم يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك خلاف.
وإنما ظهر الخلاف في خلافة ابن الزبير، فإنه قال: لو كنت أنا لم أورثها، وابن الزبير قد انعقد الإجماع قبل أن يصير من أهل الاجتهاد، وإلى ذلك ذهب أئمة التابعين، ومن بعدهم، وهو مذهب أهل العراق؛ كالثوري، وأبي حنيفة، وأصحابه، ومذهب أهل المدينة؛ كمالك، وأصحابه، ومذهب فقهاء الحديث؛ كأحمد بن حنبل، وأمثاله، وهو القول القديم للشافعي، وفي الجديد وافق ابن الزبير؛ لأن الطلاق واقع بحيث لو ماتت هي لم يرثها هو بالاتفاق، فكذلك لا ترثه هي، ولأنها حرمت عليه بالطلاق، فلا يحل له وطؤها، ولا الاستمتاع بها، فتكون أجنبية، فلا ترث.
والجمهور قالوا: إن المريض مرض الموت قد تعلق الورثة بماله من حين المرض، وصار محجورًا عليه بالنسبة إليهم، فلا يتصرف في مرض موته من التبرعات، إلا ما يتصرفه بعد موته، فليس له في مرض الموت أن يحرم بعض الورثة ميراثه، ويخص بعضهم بالإرث، كما ليس له ذلك بعد الموت، وليس له أن يتبرع لأجنبي بما زاد على الثلث في مرض موته، كما لا يملك ذلك بعد الموت.
وفي الحديث: (من قطع ميراثا قطع الله ميراثه من الجنة)، وإذا كان كذلك فليس له بعد المرض أن يقطع حقها من الإرث، لا بطلاق، ولا غيره. وإن وقع الطلاق بالنسبة له، إذ له أن يقطع نفسه منها، ولا يقطع حقها منه. وعلى هذا القول ففي وجوب العدة نزاع. هل تعتد عدة الطلاق أو عدة الوفاة؟ أو أطولهما؟ على ثلاثة أقوال: أظهرها أنها تعتد أبعد الأجلين، وكذلك هل يكمل لها المهر؟ قولان: أظهرهما أنه يكمل لها المهر أيضًا؛ فإنه من حقوقها التي تستقر، كما تستحق الإرث.
سئل عن رجل تزوج بامرأتين إحداهما مسلمة والأخرى كتابية
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج بامرأتين: إحداهما مسلمة، والأخرى كتابية، ثم قال: إحداكما طالق، ومات قبل البيان، فلمن تكون التركة من بعده؟ وأيهما تعتد عدة الطلاق؟
فأجاب:
هذه المسألة فيها تفصيل ونزاع بين العلماء. فمنهم من فرق بين أن يطلق معينة وينساها، أو يجهل عينها؛ وبين أن يطلق مبهمة، ويموت قبل تمييزها بتعيينه أو تعريفه.
ثم منهم من يقول: يقع الطلاق بالجميع؛ كقول مالك. ومنهم من يقول لا يقع إلا بواحدة؛ كقول الثلاثة، وإذا قدر تعيينها، ولم تعين، فهل تقسم التركة بين المطلقة وغيرها، كما يقوله أبو حنيفة؟ أو يوقف الأمر حتى يصطلحا كما يقول الشافعي؟ أو يقرع بين المطلقة وغيرها كما يقول أحمد وغيره من فقهاء الحديث؟ على ثلاثة أقوال.
والقرعة بعد الموت هي قرعة على المال؛ فلهذا قال بها من لم ير القرعة في المطلقات. والصحيح في هذه المسألة سواء كانت المطلقة مبهمة أو مجهولة أن يقرع بين الزوجتين، فإذا خرجت القرعة على المسلمة لم ترث هي ولا الذمية شيئًا، أما هي فلأنها مطلقة، وأما الذمية فإن الكافر لا يرث المسلم، وإن خرجت القرعة على الذمية ورثت المسلمة ميراث زوجة كاملة. هذا إذا كان الطلاق طلاقا محرما للميراث، مثل أن يبينها في حال صحته.
فأما إن كان الطلاق رجعيا في الصحة والمرض، ومات قبل انقضاء العدة فهذه زوجته ترث، وعليها عدة الوفاة باتفاق الأئمة، وتنقضى بذلك عدتها عند جمهورهم؛ كمالك والشافعي، وأبي حنيفة، وهو قول أحمد في إحدى الروايتين. والمشهور عنه أنها تعتد أطول الأجلين من مدة الوفاة والطلاق. وإن كان الطلاق بائنا في مرض الموت فإن جمهور العلماء على أن البائنة في مرض الموت ترث، إذا كان طلقها طلاقا فيه قصد حرمانها الميراث. هذا قول مالك. وهو يرثها وإن انقضت عدتها وتزوجت، وهو مذهب أبي حنيفة وهو يرثها ما دامت في العدة، وهو المشهور عنه، ما لم تتزوج. وللشافعي ثلاثة أقوال كذلك، لكن قوله الجديد: أنها لا ترث.
وأما إذا لم يتهم بقصد حرمانها، فالأكثرون على أنها لا ترث، فعلى هذا لا ترث هذه المرأة؛ لأن مثل هذا الطلاق الذي لم يعين فيه، لا يظهر فيه قصد الحرمان، ومن ورثها مطلقًا كأحمد في إحدى الروايتين فالحكم عنده كذلك.
وإذا ورثت المبتوتة فقيل: تعتد أبعد الأجلين، وهو ظاهر مذهب أحمد، وقول أبي حنيفة، ومحمد. وقيل: تعتد عدة الطلاق فقط، وهو قول مالك، والشافعي المشهور عنه، ورواية عن أحمد، وقول للشافعي.
وأما صورة أنها لم تتبين المطلقة، فإحداهما وجبت عليها عدة الوفاة، والأخرى عدة الطلاق، وكل منهما وجبت عليه إحدى العدتين، فاشتبه الواجب بغيره؛ فلهذا كان الأظهر هنا وجوب العدتين على كل منهما؛ لأن الذمة لا تبرأ من أداء الواجب إلا بذلك.
سئل عن رجل توفي وخلف مستولدة له
وسئل رحمه الله عن رجل توفي، وخلف مستولدة له، ثم بعد ذلك توفيت المستولدة، وخلفت ولدًا ذكرًا، وبنتين، فهل للبنات ولاء مع الذكر؟ وهل يرثن معه شيئًا؟
فأجاب:
هذا فيه روايتان عن أحمد، إحداهما وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي: أن الولاء يختص بالذكور. والثانية: أن الولاء مشترك بين النبين، والبنات، للذكر مثل حظ الأنثيين. والله أعلم.
سئل عن رجل له جارية وله ولد فزنى بالجارية وهي تزني مع غيره
وسئل رَحمه الله عن رجل له جارية، وله ولد، فزنى بالجارية، وهي تزني مع غيره، فجاءت بولد ونسبته إلى ولده، فاستلحقه، ورضي السيد. فهل يرث إذا مات مستلحقه؟ أم لا؟
فأجاب:
إن كان الولد استلحقه في حياته، وقال: هذا ابني، لحقه النسب، وكان من أولاده، إذا لم يكن له أب يعرف غيره. وكذلك إن علم أن الجارية كانت ملكا للابن، فإن (الولد للفراش، وللعاهر الحجر).
سئل عمن له والدة ولها جارية فواقعها بغير إذن والدته
وسئل رَحمه الله عمن له والدة، ولها جارية؛ فواقعها بغير إذن والدته، فحملت منه، فولدت غلاما، وملكهما، ويريد أن يبيع ولده من الزنا؟
فأجاب:
هذا ينبغي له أن يعتقه باتفاق العلماء، بل قد تنازع العلماء، هل يعتق عليه من غير إعتاق؟ على قولين:
أحدهما: أنه يعتق عليه، وهو مذهب أبي حنيفة، وقول القاضي أبي يعلى من أصحاب أحمد، ولكن مع هذا لا يرث هذا لهذا، ولا هذا لهذا.
والثاني: لا يعتق عليه، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في المنصوص عنه. والله أعلم.
سئل عن رجل له جارية وله ولد فزنى بالجارية وهي تزني مع غيره
وسئل رَحمه الله عن رجل أعطى لزوجته من صداقها جارية، فأعتقتها، ثم بعد مدة وَطِئ الجارية، فولدت ابنًا، وولدت زوجته بنتًا، وتوفي: فهل يرث الابن الذي من الجارية مع بنت زوجته؟
فأجاب:
إذا كان قد وطئ الجارية المعتقة بغير نكاح، وهو يعلم أن الوطء حرام فولده ولد زنا، لا يرث هذا الواطئ، ولا يرثه الواطئ، في مذهب الأئمة الأربعة. والله أعلم.
باب العتق
سئل عن عتق ولد الزنا
سئل عَن عتق وَلَد الزّنَا؟
فأجاب:
يجوز عتق ولد الزنا، ويثاب بعتقه. والله أعلم.
سئل عن رجل قرشي تزوج بجارية مملوكة فأولدها ولدا
وسئل الشيخ رَحمه الله عن رجل قرشي: تزوج بجارية مملوكة، فأولدها ولدا. هل يكون الولد حرا؟ أم يكون عبدا مملوكا؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، إذا تزوج الرجل المرأة، وعلم أنها مملوكة. فإن ولدها منه مملوك لسيدها باتفاق الأئمة؛ فإن الولد يتبع أباه في النسب والولاء، ويتبع أمه في الحرية والرق.
فإن كان الولد ممن يسترق جنسه بالاتفاق، فهو رقيق بالاتفاق، وإن كان ممن تنازع الفقهاء في رقه، وقع النزاع في رقه، كالعرب.
والصحيح أنه يجوز استرقاق العرب والعجم؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله ﷺ يقولها فيهم، سمعت رسول الله ﷺ يقول: (هم أشد أمتى على الرجال). وجاءت صدقاتهم فقال النبي ﷺ: (هذه صدقات قومنا). قال: وكانت سبية منهم عند عائشة، فقال النبي ﷺ: (اعتقيها فإنها من ولد إسماعيل).
وفي لفظ لمسلم: ثلاث خلال سمعتهن من رسول الله ﷺ في بني تميم، لا أزال أحبهم بعدها، كان على عائشة محرر، فقال رسول الله ﷺ: (اعتقي من هؤلاء). وجاءت صدقاتهم فقال: (هذه صدقات قومي)، وقال: (هم أشد الناس قتلا في الملاحم).
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أبي أيوب الأنصاري، عن النبي ﷺ قال: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل). ففي هذا الحديث أن بني إسماعيل يعتقون. فدل على ثبوت الرق عليهم، كما أمر عائشة أن تعتق عن المحرر الذي كان عليها من بني إسماعيل. وفيه: من بني تميم لأنهم من ولد إسماعيل.
وفي صحيح البخاري عن مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة: أن رسول الله ﷺ قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم النبي ﷺ: (معي من ترون، وأحب الحديث إلى أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين، إما المال، وإما السبي وقد كنت استأنيت بكم)، وكان انتظرهم رسول الله ﷺ بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبين لهم أن رسول الله ﷺ غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: فإنا نختار سبينا؛ فقام رسول الله ﷺ في المسلمين؛ وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: (أما بعد، فإن إخوانكم قد جاؤونا تائبين، وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل). فقال الناس: طيبنا ذلك يا رسول الله. فقال رسول الله ﷺ: (إنا لا ندري من أذن في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم)، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله ﷺ فأخبروه أنهم قد طيبوا، وأذنوا. ففي هذا الحديث الصحيح أنه سبي نساء هوازن، وهم عرب، وقسمهم بين الغانمين. فصاروا رقيقا لهم؛ ثم بعد ذلك طلب أخذهم منهم، إما تبرعا، وإما معاوضة، وقد جاء في الحديث أنه أعتقهم، كما في حديث عمر لما اعتكف وبلغه أن النبي ﷺ أعتق السبي، فأعتق جارية كانت عنده والمسلمون كانو يطؤون ذلك السبي بملك اليمين، كما في سبي أوطاس، وهو من سبي هوازن، فإن النبي ﷺ قال فيه: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة).
وفي المسند للإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قسم رسول الله ﷺ سبايا بني المصطلق، فوقعت جويرية بنت الحارث لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، كاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، فأتت رسول الله ﷺ وقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، وجئتك أستعينك على كتابتي، فقال رسول الله ﷺ: (هل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول اللّّه؟ قال: (أقضي كتابتك، وأتزوجك). قالت: نعم، يا رسول الله، قال: (قد فعلت)، قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله ﷺ تزوج جويرية بنت الحارث، فأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فقد عتق بتزوجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، وما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها. وهذه الأحاديث ونحوها مشهورة، بل متواترة: أن النبي ﷺ كان يسبي العرب وكذلك خلفاؤه بعده، كما قال الأئمة وغيرهم: سبى النبي ﷺ العرب، وسبى أبو بكر بني ناحية، وكان يطارد العرب بذلك الاسترقاق، وقد قال الله لهم: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ } [94]، وفي حديث أبي سعيد وغيره: أنها نزلت في المسبيات، أباح الله لهم وطأها بملك اليمين.
وإذا سبيت واسترقت بدون زوجها جاز وطؤها بلا ريب، وإنما فيه خلاف شاذ في مذهب أحمد، وحكى الخلاف في مذهب مالك. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة إذا وقعت في ملك ولها زوج مقيم بدار الحرب، أن نكاح زوجها قد انفسخ، وحل لمالكها وطؤها بعد الاستبراء، وأما إذا سبيت مع زوجها ففيه نزاع بين أهل العلم.
ومعلوم أن عامة السبي الذي كان يسبيه النبي ﷺ كان في الحرب، وقد قاتل أهل الكتاب، فإنه خرج لقتال النصارى عام تبوك، ولم يجر بينهم قتال، وقد بعث إليهم السرية التي أمر عليها زيد، ثم جعفر، ثم عبد الله بن رواحة. ومع هذا فكان في النصارى العرب، والروم. وكذلك قاتل اليهود بخيبر والنضير وقينقاع؛ وكان في يهود العرب، وبنو إسرائيل. وكذلك يهود اليمن، كان فيهم العرب، وبنو إسرائيل.
وأيضًا، فسبب الاسترقاق هو الكفر بشرط الحرب، فالحر المسلم لا يسترق بحال، والمعاهد لا يسترق، والكفر مع المحاربة موجود في كل كافر، فجاز استرقاقه، كما يجوز قتاله، فكل ما أباح قتل المقاتلة أباح سبي الذرية؛ وهذا حكم عام في العرب والعجم، وهذا مذهب مالك والشافعي في الجديد من قوليه، وأحمد.
وأما أبو حنيفة فلا يجوز استرقاق العرب، كما لا يجوز ضرب الجزية عليهم؛ لأن العرب اختصوا بشرف النسب؛ لكون النبي ﷺ منهم، واختص كفارهم بفرط عدوانه؛ فصار ذلك مانعا من قبول الجزية، كما أن المرتد لا تؤخذ منه الجزية؛ للتغليظ؛ ولما حصل له من الشرف بالإسلام السابق. واحتج بما روي عن عمر أنه قال: ليس على عربي ملك.
والذين نازعوه لهم قولان في جواز استرقاق من لا تقبل منه الجزية، هما روايتان عن أحمد.
إحداهما: أن الاسترقاق كأخذ الجزية، فمن لم تؤخذ منه الجزية لا يسترق، وهذا مذهب أبي حنيفة وغيره وهو اختيار الخرقي، والقاضي وغيرهما من أصحاب أحمد، وهو قول الاصطخري من أصحاب الشافعي. وعند أبي حنيفة تقبل الجزية من كل كافر، إلا من مشركي العرب، وهو رواية عن أحمد. فعلى هذا لا يجوز استرقاق مشركي العرب؛ لكون الجزية لا تؤخذ منهم، ويجوز استرقاق مشركي العجم، وهو قول الشافعي؛ بناء على قوله: إن العرب لا يسترقون.
والرواية الأخرى عن أحمد: أن الجزية لا تقبل إلا من أهل الكتاب، والمجوس، كمذهب الشافعي. فعلى هذا القول في مذهب أحمد: لا يجوز استرقاق أحد من المشركين، لا من العرب، ولا من غيرهم كاختيار الخرقي، والقاضي وغيرهما. وهذان القولان في مذهب أحمد لا يمنع فيه الرق؛ لأجل النسب، لكن لأجل الدين. فإذا سبي عربية فأسلمت استرقها، وإن لم تسلم أجبرها على الإسلام. وعلى هذا يحملون ما كان النبي ﷺ والصحابة يفعلونه من استرقاق العرب.
وأما الرقيق الوثني، فلا يجوز إقراره عندهم برق، كما يجوز بجزية. وهذا كما أن الصحابة سبوا العربيات والوثنيات؛ ووطؤوهم؛ وقد قال النبي ﷺ: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة). ثم الأئمة الأربعة متفقون على أن الوطأ إنما كان بعد الإسلام؛ وأن وطء الوثنية لا يجوز، كما لا يجوز تزويجها.
والقول الثاني: أنه يجوز استرقاق من لا تؤخذ منهم الجزية من أهل الأوثان، وهو مذهب الشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى؛ بناء على أن الصحابة استرقوهم؛ ولم نعلم أنهم أجبروهم على الإسلام؛ ولأنه لا يجوز قتلهم، فلابد من استرقاقهم، والرق فيه من الغل ما ليس في أخذ الجزية. وقد تبين مما ذكرناه أن الصحيح جواز استرقاق العرب.
وأما الأثر المذكور عن عمر إذا كان صحيحا صريحا في محل النزاع فقد خالفه أبو بكر وعلى؛ فإنهم سبوا العرب. ويحتمل أن يكون قول عمر محمولا على أن العرب أسلموا قبل أن يسترق رجالهم، فلا يضرب عليهم رق، كما أن قريشا أسلموا كلهم فلم يضرب عليهم رق؛ لأجل إسلامهم، لا لأجل النسب، ولم تتمكن الصحابة من سبي نساء قريش، كما تمكنوا من سبي نساء طوائف من العرب؛ ولهذا لم يسترق منهم أحد، ولم يحفظ عن النبي ﷺ في النهي عن سبيهم شيء.
وأما إذا تزوج العربي مملوكة فنكاح الحر للمملوكة لا يجوز إلا بشرطين: خوف العنت، وعدم الطول إلى نكاح حرة، في مذهب مالك والشافعي وأحمد. وعللوا ذلك بأن تزوجه يفضي إلى استرقاق ولده، فلا يجوز للحر العربي ولا العجمي أن يتزوج مملوكة إلا لضرورة، وإذا تزوجها للضرورة كان ولده مملوكا. وأما أبو حنيفة فالمانع عنده أن تكون تحته حرة، وهو يفرق في الاسترقاق بين العربي وغيره.
وأما إذا وطئ الأمة بزنا فإن ولدها مملوك لسيدها بالاتفاق، وإن كان أبوه عربيا؛ لأن النسب غير لاحق. وأما إذا وطئها بنكاح، وهو يعتقدها حرة، أو استبرأها فوطئها يظنها مملوكته، فهنا ولده حر، سواء كان عربيا أو عجميا. وهذا يسمى المغرور. فولد المغرور من النكاح أو البيع حر؛ لاعتقاده أنه وطئ زوجة حرة، أو مملوكته. وعليه الفداء لسيد الأمة كما قضت بذلك الصحابة؛ لأنه فوت سيد الأمة ملكهم، فكان عليه الضمان. وفي ذلك تفريع ونزاع ليس هذا موضعه. والله أعلم.
سئل عن رجل له مملوك هرب فلما رجع قتل نفسه
وسئل شيخ الإسلام رَحِمهُ الله عن رجل له مملوك هرب، ثم رجع، فلما رجع أخفي سكينته، وقتل نفسه: فهل يأثم سيده؟ وهل تجوز عليه صلاة؟
فأجاب:
الحمد للّه، لم يكن له أن يقتل نفسه، وإن كان سيده قد ظلمه، واعتدى عليه، بل كان عليه إذا لم يمكنه دفع الظلم عن نفسه أن يصبر إلى أن يفرج الله، فإن كان سيده ظلمه حتى فعل ذلك؛ مثل أن يقتر عليه في النفقة، أو يعتدي عليه في الاستعمال، أو يضربه بغير حق، أو يريد به فاحشة، ونحو ذلك؛ فإن على سيده من الوزر بقدر ما نسب إليه من المعصية.
ولم يصل النبي ﷺ على من قتل نفسه، فقال لأصحابه: (صلوا عليه)، فيجوز لعموم الناس أن يصلوا عليه. وأما أئمة الدين الذين يقتدي بهم فإذا تركوا الصلاة عليه زجرًا لغيره اقتداء بالنبي ﷺ فهذا حق. والله أعلم.
سئل عن مماليك ضمنوا رجلا وكانوا مماليك إنسان وهو مسلم نجس ببلاد التتر
وسئل رَحمه الله تعالى عن مماليك ضمنوا رجلا، وكانوا مماليك إنسان، وهو مسلم نجس ببلاد التتر، وهم متفقون على طاعة الله ورسوله، يطلبون الحج ويصلون، ويزكون ويتصدقون، وهو غلب عليه العصيان، يمنعهم عن طاعة الله ورسوله، فلم تطب لهم مخالفة الله ورسوله، وهو قاطع طريق، وشارب خمر، وزان، وتارك للصلاة، وقاتل النفس التي حرم الله، ويطلبون منه البيع فلم يبعهم ويطلبون العتق فلم يعتقهم، وكلما تلفظوا له بشيء من ذلك ضربهم، ويسجنهم فيموتوا جوعا، فاتفقوا وهربوا إلى مصر طالبين طاعة الله ورسوله، فمنهم اليوم حجاج، فهل في طاعة الله ورسوله نص لأجل أبقهم؟
فأجاب:
إذا كانوا كما ذكروا يمنعهم ذلك الرجل من فعل ما أمر الله ورسوله، ويكرههم على فعل ما نهي الله عنه ورسوله، كان خروجهم من تحت يده جائزًا، بل واجبا. وقد أحسنوا فيما فعلوا، فإنه لا حرمة لمن يكون كذلك، إذ لو كان في طاعة المسلمين، فكيف إذا كان في طاعة التتر؟ فإنه يجب قتاله، وإن كان مسلما. وهؤلاء المهاجرون الذين فروا بأنفسهم قد أحسنوا في ذلك، والعبد إذا هاجر من أرض الحرب فإنه حر، ولا حكم عليه لأحد.
سئل عن نائب أخذ من مال مخدومه مبلغا واشترى به مماليك
وسئل عن نائب أخذ من مال مخدومه مبلغا، واشترى به مماليك، فقيل له: لأي شيء تأخذ مال أستاذك، وتشتري به مماليك؟ فقال: اشتراها له، وهي باقية على ملكه، ثم أعتقها جميعها. وادعى في العتق أنها مماليكه، وهو اليوم معسر عن قيمة ثمنهم. فهل يصح العتق؟
فأجاب:
إذا اشترى مماليك للرجل بإذنه، فهم كذلك للرجل، وإذا أعتقهم بغير إذن المالك لم يصح عتقه. وإن اشتراهم بمال الرجل بغير إذنه فلصاحب المال أن يأخذهم، وله أن يغرم هذا الغاصب ماله. وإذا أعتقهم هذا المشتري فلصاحب المال أن يأخذهم، ويكون العتق باطلا. والله أعلم.
(آخر المجلد الحادي والثلاثين )
=============
=============
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق