34. مجموع الفتاوى/المجلد الرابع والثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
باب الظهار
سئل عن رجل قال لامرأته أنت على مثل أمي وأختي
سئل شيخ الإسلام أَحَمدُ بن تَيميَّة قدسَ الله روحه عن رجل قال لامرأته: أنت على مثل أمي، وأختي؟
فأجاب:
إن كان مقصوده أنت على مثل أمي وأختي في الكرامة فلا شيء عليه. وإن كان مقصوده يشبهها بأمه وأخته في باب النكاح فهذا ظهار، عليه ما على المظاهر، فإذا أمسكها فلا يقربها حتى يكفر كفارة ظهار.
سئل عن رجل تزوج وأراد الدخول الليلة الفلانية وإلا كانت عندي مثل أمي وأختي
وسئل رحمه الله عن رجل تزوج، وأراد الدخول الليلة الفلانية، وإلا كانت عندي مثل أمي وأختي، ولم تتهيأ له ذلك الوقت الذي طلبها فيه، فهل يقع طلاق؟
فأجاب:
لا يقع عليه طلاق قي المذاهب الأربعة، لكن يكون مظاهرا فإذا أراد الدخول فإنه يكفر قبل ذلك. الكفارة التي ذكرها الله في سورة المجادلة فيعتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا.
سئل عن رجل حنق من زوجته فقال إن بقيت أنكحك أنكح أمي تحت ستور الكعبة
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل حنق من زوجته فقال: إن بقيت أنكحك أنكح أمي تحت ستور الكعبة: هل يجوز أن يصالحها؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا نكحها فعليه كفارة الظهار عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، ولا يمسها حتى يُكَفِّر.
سئل عن رجل قال لآخر يا أخي لا تفعل هذه الأمور بين يدي امرأتك قبيح عليك فقال ما هي إلا مثل أمي
وسئل رَحمه الله عن رجلين قال أحدهما لصاحبه: يا أخي، لا تفعل هذه الأمور بين يدي امرأتك، قبيح عليك، فقال: ما هي إلا مثل أمي. فقال: لأي شيء قلت؟ ! سمعت أنها تحرم بهذا اللفظ، ثم كرر على نفسه، وقال: أي والله هي عندي مثل أمي: هل تحرم على الزوج بهذا اللفظ؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إن أراد بقوله: إنها مثل أمي أنها تستر على ولا تهتكني ولا تلومني، كما تفعل الأم مع ولدها، فإنه يؤدب على هذا القول، ولا تحرم عليه امرأته؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلا يقول لامرأته: يا أختي، فأدبه وإن كان جاهلا لم يؤدب على ذلك، وإن استحق العقوبة على ما فعله من المنكر وقال أختك هي؟ ! فلا ينبغي أن يجعل الإنسان امرأته كأمه.
وإن أراد بها عندي مثل أمي. أي في الامتناع عن وطئها، والاستمتاع بها، ونحو ذلك مما يحرم من الأم، فهي مثل أمي التي ليست محلا للاستمتاع بها، فهذا مظاهر يجب عليه ما يجب على المظاهر فلا يحل له أن يطأها حتى يكفر كفارة الظهار فيعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا. وإذا فعل ذلك حل له ذلك باتفاق المسلمين، إلا ينوي أنها محرمة على كأمي، فهذا يكون مظاهرا في مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد. وحكي في مذهب مالك نزاع في ذلك: هل يقع به الثلاث، أم لا؟
والصواب المقطوع به أنه لا يقع به طلاق، ولا يحل له الوطء حتى يكفر باتفاقهم، ولا يقع به الطلاق بذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل قال لامرأته بائن عنه إن رددتك تكوني مثل أمي وأختي
وسئل رَحمه الله عن رجل قال لامرأته بائن عنه إن رددتك تكوني مثل أمي وأختي: هل يجوز أن يردها، وما الذي يجب عليه؟
فأجاب:
في أحد قولي العلماء عليه كفارة ظهار، وإذا ردها في الآخر لا شيء. والأول أحوط.
سئل عن رجل قال في غيظه لزوجته أنت على حرام مثل أمي
وسئل رَحمه الله عن رجل قال في غيظه لزوجته: أنت على حرام مثل أمي.
فأجاب:
هذا مظاهر من امرأته، داخل في قوله: { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } [1]، فهذا إذا أراد إمساك زوجته ووطأها فإنه لا يقربها حتى يكفر هذه الكفارة التي ذكرها الله.
سئل عن رجل قالت له زوجته أنت على حرام مثل أبي وأمي
وسئل رَحمه الله عن رجل قالت له زوجته: أنت على حرام مثل أبي وأمي. وقال لها: أنت على حرام مثل أمي وأختي: فهل يجب عليه الطلاق؟
فأجاب:
لا طلاق بذلك، ولكن إن استمر على النكاح فعلى كل منهما كفارة ظهار قبل أن يجتمعا، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا.
باب ما يلحق من النسب
سئل عن رجل تزوج بنتا بكرا بالغا ودخل بها فوجدها بكرا ثم إنها ولدت ولدا بعد مضي ستة أشهر بعد دخوله بها
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل تزوج بنتا بكرا، بالغا، ودخل بها، فوجدها بكرا، ثم إنها ولدت ولدا بعد مضي ستة أشهر بعد دخوله بها: فهل يلحق به الولد أم لا؟ وأن الزوج حلف بالطلاق منها أن الولد ولده من صلبه: فهل يقع به الطلاق أم لا؟ والولد ابن سوي كامل الخلقة، وعمر سنين. أفتونا مأجورين.
فأجاب رضي الله عنه:
الحمد لله، إذا ولدت لأكثر من ستة أشهر حين دخل بها ولو بلحظة لحقه الولد باتفاق الأئمة. ومثل هذه القصة وقعت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واستدل الصحابة على إمكان كون الولد لستة أشهر بقوله تعالى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } [2]، مع قوله: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [3]، فإذا كان مدة الرضاع من الثلاثين حولين يكون الحمل ستة أشهر، فجمع في الآية أقل الحمل وتمام الرضاع ولو لم يستلحقه، فكيف إذا استلحقه وأقر به؟ ! بل لو استلحق مجهول النسب، وقال: إنه ابني لحقه باتفاق المسلمين، إذا كان ذلك ممكنا، ولم يدع أحد أنه ابنه، كان بارا في يمينه، ولا حنث عليه. والله أعلم.
سئل عن رجل اشترى جارية بكرا وباشرها وهي لا تخرج ولا تدخل وهي حامل منه
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل اشترى جارية بكرا، وباشرها، وهي لا تخرج ولا تدخل، وهي حامل منه، فأخرجها إلى السوق، وينكر ويحلف أنه ما هو ولده.
فأجاب:
إذا اعترف أنه وطئها مثل أن يكون قد أقر بذلك فإن الولد يلحقه، ويجعل هذا الحمل منه إذا وضعت لمدة الإمكان، وليس له أن يبيع الحمل، ولا أمه؛ لكن إذا ادعي الاستبراء ففي قبول قوله وتحليفه نزاع بين العلماء. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج امرأة وأقامت في صحبته خمسة عشر يوما ثم طلقها الطلاق البائن وتزوجت بعده بزوج آخر بعد انقضاء العدة
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج امرأة وأقامت في صحبته خمسة عشر يوما، ثم طلقها الطلاق البائن، وتزوجت بعده بزوج آخر بعد إخبارها بانقضاء العدة من الأول، ثم طلقها الزوج الثاني بعد مدة ست سنين، وجاءت بابنة، وادعت أنها من الزوج الأول: فهل يصح دعواها. ويلزم الزوج الأول، ولم يثبت أنها ولدت البنت، وهذا الزوج والمرأة مقيمان ببلد واحد، وليس لها مانع من دعوي النساء، ولا طالبته بنفقة ولا فرض.
فأجاب:
الحمد لله، لا يلحق هذا الولد الذي هو البنت بمجرد دعواها والحالة هذه باتفاق الأئمة. بل لو ادعت أنها ولدته في حال يلحق به نسبه إذا ولدته وكانت مطلقة وأنكر هو أن تكون ولدته لم تقبل في دعوي الولادة بلا نزاع، حتى تقيم بذلك بينة. ويكفي امرأة واحدة عند أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعند مالك وأحمد في الرواية الأخرى لابد من امرأتين. وأما الشافعي فيحتاج عنده إلى أربع نسوة، ويكفي يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته.
وأما إن كانت الزوجية قائمة ففيها قولان في مذهب أحمد: أحدهما: لا يقبل قولها، كمذهب الشافعي. والثاني: يقبل، كمذهب مالك. وأما إذا انقضت عدتها ومضي لها أكثر الحمل. ثم ادعت وجود حمل من الزوج الأول المطلق، فهذه لا يقبل قولها بلا نزاع، بل لو أخبرت بانقضاء عدتها ثم أتت بولد لستة أشهر فصاعدا ولدون مدة الحمل، فهل يلحقه؟ على قولين مشهورين لأهل العلم. ومذهب أبي حنيفة وأحمد أنه يلحق، وهذا اختيار ابن سريج من أصحاب الشافعي، لكن المشهور من مذهب الشافعي ومالك أنه لا يلحقه.
وهذا النزاع إذا لم تتزوج، فأما إذا تزوجت بعد إخبارها بانقضاء عدتها، ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر، فإن هذا لا يلحق نسبه بالأول قولا واحدا. فإذا عرفت مذهب الأئمة في هذين الأصلين فكيف يلحقه نسبه بدعواها بعد ست سنين. ولو قالت: ولدته ذلك الزمن قبل أن يطلقني لم يقبل قولها أيضا، بل القول مع يمينه أنها لم تلدها على فراشه.
ولو قالت هي: وضعت هذا الحمل قبل أن أتزوج بالثاني، وأنكر الزوج الأول ذلك، فالقول قوله أيضا أنها لم تضعها قبل تزوجها بالثاني، لا سيما مع تأخر دعواها إلى أن تزوجت الثاني، فإن هذا مما يدل على كذبها في دعواها، لا سيما على أصل مالك في تأخر الدعوي الممكنة بغير عذر في هذه المسائل ونحوها.
سئل عمن طلق امرأته ثلاثا وأفتاه مفت بأنه لم يقع الطلاق
وسئل رَحمه الله تعالى عمن طلق امرأته ثلاثا، وأفتاه مفت بأنه لم يقع الطلاق، فقلده الزوج ووطئ زوجته بعد ذلك، وأتت منه بولد، فقيل: إنه ولد زنا.
فأجاب:
من قال ذلك فهو في غاية الجهل والضلالة، والمشاقة لله ورسوله؛ فإن المسلمين متفقون على أن كل نكاح اعتقد الزوج أنه نكاح سائغ إذا وطئ فيه فإنه يلحقه فيه ولده ويتوارثان باتفاق المسلمين، وإن كان ذلك النكاح باطلا في نفس الأمر باتفاق المسلمين، سواء كان الناكح كافرا أو مسلما. وإليهودي إذا تزوج بنت أخيه كان ولده منه يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين وإذا كان ذلك النكاح باطلا باتفاق المسلمين، ومن استحله كان كافرا تجب استتابته. وكذلك المسلم الجاهل لو تزوج امرأة في عدتها كما يفعل جهال الأعراب ووطأها يعتقدها زوجة كان ولده منها يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين. ومثل هذا كثير.
فإن ثبوت النسب لا يفتقر إلى صحة النكاح في نفس الأمر، بل الولد للفراش، كما قال النبي ﷺ: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) فمن طلق امرأته ثلاثا ووطأها يعتقد أنه لم يقع به الطلاق: إما لجهله، وإما لفتوي مفت مخطئ قلده الزوج، وإما لغير ذلك فإنه يلحقه النسب، ويتوارثان بالاتفاق، بل ولا تحسب العدة إلا من حين ترك وطأها، فإنه كان يطؤها يعتقد أنها زوجته، فهي فراش له فلا تعتد منه حتى تترك الفراش.
ومن نكح امرأة نكاحا فاسدا متفقا على فساده، أو مختلفا في فساده أو ملكها ملكا فاسدا متفقا على فساده، أو مختلفا في فساده، أو وطأها يعتقدها زوجته الحرة، أو أمته المملوكة فإن ولده منها يلحقه نسبه، ويتوارثان باتفاق المسلمين. والولد أيضا يكون حرا، وإن كانت الموطوءة مملوكة للغير في نفس الأمر ووطئت بدون إذن سيدها، لكن لما كان الواطئ مغرورا بها زوج بها وقيل: هي حرة، أو بيعت فاشتراها يعتقدها ملكا للبائع، فإنما وطئ من يعتقدها زوجته الحرة، أو أمته المملوكة، فولده منها حر لاعتقاده. وإن كان اعتقاده مخطئا، وبهذا قضي الخلفاء الراشدون، واتفق عليه أئمة المسلمين.
فهؤلاء الذين وطئوا وجاءهم أولاد لو كانوا قد وطئوا في نكاح فاسد متفق على فساده، وكان الطلاق وقع بهم باتفاق المسلمين، وهم وطئوا يعتقدون أن النكاح باق، لإفتاء من أفتاهم، أو لغير ذلك، كان نسب الأولاد بهم لاحقا، ولم يكونوا أولاد زنا، بل يتوارثون باتفاق المسلمين. هذا في المجمع على فساده فكيف في المختلف في فساده؟ وإن كان القول الذي وطئ به قولا ضعيفا، كمن وطئ في نكاح المتعة أو نكاح المرأة نفسها بلا ولي ولا شهود، فإن هذا إذا وطئ فيه يعتقده نكاحا لحقه فيه النسب، فكيف بنكاح مختلف فيه، وقد ظهرت حجة القول بصحته بالكتاب والسنة والقياس، وظهر ضعف القول الذي يناقضه، وعجز أهله عن نصرته بعد البحث التام؛ لانتفاء الحجة الشرعية؟!
فمن قال: إن هذا النكاح أو مثله يكون فيه الولد ولد زنا لا يتوارثان هو وأبوه الوطيء مخالف لإجماع المسلمين. منسلخ من رتبة الدين، فإن كان جاهلا عرف وبين له أن رسول الله ﷺ وخلفاءه الراشدين وسائر أئمة الدين ألحقوا أولاد أهل الجاهلية بآبائهم وإن كانت محرمة بالإجماع، ولم يشترطوا في لحوق النسب أن يكون النكاح جائزا في شرع المسلمين، فإن أصر على مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدي، واتبع غير سبيل المؤمنين، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. فقد ظهر أن من أنكر الفتيا بأنه لا يقع الطلاق وادعي الإجماع على وقوعه، وقال: إن الولد ولد زنا، هو المخالف لإجماع المسلمين، مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله رب العالمين، وإن المفتي بذلك أو القاضي بذلك فعل ما لا يسوغ له بإجماع المسلمين، وليس لأحد المنع من الفتيا بقوله، ولا القضاء بذلك، ولا الحكم بالمنع من ذلك باتفاق المسلمين، والأحكام باطلة بإجماع المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
سئل عن رجل ادعت عليه مطلقته بعد ست سنين ببنت وبعد أن تزوجت بزوج آخر
وسئل رَحمه الله عن رجل ادعت عليه مطلقته بعد ست سنين ببنت، وبعد أن تزوجت بزوج آخر، فألزمه بعض الحكام باليمين، فقال الرجل: أحلف أن هذه ما هي بنتي. فقال الحاكم: ما تحلف إلا أنها ما هي بنتها، فامتنع أن يحلف إلا أنها ما هي بنتي، وكان معه إنسان فقال للحاكم: هذا ما يحل له أن يحلف أنها ما هي بنت هذه المرأة، فضربه الحاكم بالدرة، وأحرق به، فحلف الرجل، فكتب عليه فرض البنت، فهل يصح هذا الفرض؟
فأجاب:
الحمد لله، عليه اليمين أنها لم تلدها في العدة، أو أنها لم تلدها على فراشه، أو أنها لم تلدها في بيته، بحيث أمكن لحوق النسب به. فأما إذا تزوجت بغيره وأمكن أنها ولدتها من الثاني فليس عليه اليمين أنها لم تلدها. وإذا حلفت أنها لم تلدها قبل نكاح الثاني آخرا. وإذا أكره على الإقرار لم يصح إقراره.
سئل عن رجل تزوج بامرأة ولم يدخل بها ولا أصابها فولدت بعد شهرين
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج بامرأة ولم يدخل بها ولا أصابها، فولدت بعد شهرين: فهل يصح النكاح، وهل يلزمه الصداق، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يلحق به الولد باتفاق المسلمين، وكذلك لا يستقر عليه المهر باتفاق المسلمين، لكن للعلماء في العقد قولان: أصحهما أن العقد باطل، كمذهب مالك، وأحمد، وغيرهما. وحينئذ فيجب التفريق بينهما، ولا مهر عليه، ولا نصف مهر، ولا متعة، كسائر العقود الفاسدة إذا حصلت الفرقة فيها قبل الدخول، لكن ينبغي أن يفرق بينهما حاكم يري فساد العقد لقطع النزاع. والقول الثاني: أن العقد صحيح ثم لا يحل له الوطء حتى تضع، كقول أبي حنيفة، وقيل: يجوز له الوطء قبل الوضع، كقول الشافعي، فعلى هذين القولين إذا طلقها قبل الدخول فعليه نصف المهر، لكن هذا النزاع إذا كانت حاملا من وطء شبهة أو سيد أو زوج، فإن النكاح باطل باتفاق المسلمين، ولا مهر عليه إذا فارق قبل الدخول. وأما الحامل من الزنا فلا كلام في صحة نكاحها. والنزاع فيما إذا كان نكاحها طائعا، وأما إذا نكحها مكرها فالنكاح باطل في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.
باب العدد
سئل عن امرأة طلقها زوجها في الثامن والعشرين من ربيع الأول وأن دم الحيض
وسئل رَحمه الله عن امرأة طلقها زوجها في الثامن والعشرين من ربيع الأول، وأن دم الحيض جاءها مرة، ثم تزوجت بعد ذلك في الثالث والعشرين من جمادي الآخر من السنة. وادعت أنها حاضت ثلاث حيض، ولم تكن حاضت إلا مرة، فلما علم الزوج طلقها طلقة واحدة ثانيا في العشر من شعبان من السنة، ثم أرادت أن تزوج بالمطلق الثاني، وادعت أنها آيسة، فهل يقبل قولها، وهل يجوز تزويجها؟
فأجاب:
الإياس لا يثبت بقول المرأة، لكن هذه إذا قالت إنه ارتفع لا تدري ما رفعه فإنها تؤجل سنة، فإن لم تحض فيها زوجت. وإذا طعنت في سن الإياس فلا تحتاج إلى تأجيل. وإن علم أن حيضها ارتفع بمرض أو رضاع كانت في عدة حتى يزول العارض.
فهذه المرأة كان عليها عدتان: عدة للأول، وعدة من وطئ الثاني. ونكاحه فاسد لا يحتاج إلى طلاق، فإذا لم تحض إلا مرة واستمر انقطاع الدم، فإنها تعتد العدتين بالشهور ستة أشهر بعد فراق الثاني إذا كانت آيسة. وإذا كانت مستريبة كان سنة وثلاثة أشهر. وهذا على قول من يقول: إن العدتين لا تتداخلان كمالك، والشافعي، وأحمد وعند أبي حنيفة تتداخل العدتان من رجلين، لكن عنده الإياس حد بالسن وهذا الذي ذكرناه هو أحسن قولي الفقهاء وأسهلهما، وبه قضي عمر وغيره. وأما على القول الآخر فهذه المستريبة تبقي في عدة حتى تطعن في سن الإياس، فتبقي على قولهم تمام خمسين أو ستين سنة لا تتزوج. ولكن في هذا عسر وحرج في الدين وتضييع مصالح المسلمين.
سئل عن رجل تزوج امرأة ولها عنده أربع سنين لم تحض وذكرت أن لها أربع سنين قبل زواجها لم تحض
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج امرأة ولها عنده أربع سنين لم تحض، وذكرت أن لها أربع سنين قبل زواجها لم تحض، فحصل من زوجها الطلاق الثلاث، فكيف يكون تزويجها بالزوج الآخر؟ وكيف تكون العدة وعمرها خمسون سنة؟
فأجاب:
الحمد لله، هذه تعتد عدة الآيسات ثلاثة أشهر في أظهر قولي العلماء؛ فإنها قد عرفت أن حيضها قد انقطع، وقد عرفت أنه قد انقطع انقطاعا مستمرا، بخلاف المستريبة التي لا تدري ما رفع حيضها: هل هو ارتفاع أياس، أو ارتفاع لعارض ثم يعود كالمرض، والرضاع؟ فهذه ثلاثة أنواع.
فما ارتفع لعارض، كالمرض، والرضاع، فإنها تنتظر زوال العارض بلا ريب. ومتى ارتفع لا تدري ما رفعه، فمذهب مالك وأحمد في المنصوص عنه، وقول للشافعي: أنها تعتد عدة الآيسات بعد أن تمكث مدة الحمل، كما قضي بذلك عمر. ومذهب أبي حنيفة والشافعي في الجديد أنها تمكث حتى تطعن في سن الإياس، فتعتد عدة الآيسات. وفي هذا ضرر عظيم عليها؛ فإنها تمكث عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة لا تتزوج. ومثل هذا الحرج مرفوع عن الأمة، وإنما { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ } [4]، فإنهن يعتددن ثلاثة أشهر بنص القرآن، وإجماع الأمة.
لكن العلماء مختلفون: هل للإياس سن لا يكون الدم بعده إلا دم إياس؟ وهل ذلك السن خمسون، أو ستون، أو فيه تفصيل؟ ومتنازعون: هل يعلم الإياس بدون السن؟
وهذه المرأة قد طعنت في سن الإياس على أحد القولين، وهو الخمسون، ولها مدة طويلة لم تحض، وقد ذكرت أنها شربت ما يقطع الدم، والدم يأتي بدواء، فهذه لا ترجو عود الدم إليها، فهي من الآيسات تعتد عدة الآيسات، والله أعلم.
سئل عن امرأة فسخ الحاكم نكاحها عقب الولادة لما ثبت عنده من تضررها
وسئل رَحمه الله عن امرأة فسخ الحاكم نكاحها عقب الولادة، لما ثبت عنده من تضررها بانقطاع نفقة زوجها، وعدم تصرفه الشرعي عليها المدة التي يسوغ فيها فسخ النكاح لمثلها. وبعد ثلاثة شهور من فسخ النكاح رغب فيها من يتزوجها: فهل يجوز أن تعتد بالشهور، إذ أكثر النساء لا يحضن مع الرضاعة أو يستمر بها الضرر إلى حيث ينقضي الرضاع ويعود إليها حيضها، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، بل تبقي في العدة حتى تحيض ثلاث حيض، وإن تأخر ذلك إلى انقضاء مدة الرضاع، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وبذلك قضي عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب بين المهاجرين والأنصار، ولم يخالفهما أحد. فإن أحبت المرأة أن تسترضع لابنها من يرضعه لتحيض، أو تشرب ما تحيض به، فلها ذلك. والله أعلم.
سئل عن امرأة كانت تحيض وهي بكر فلما تزوجت ولدت ستة أولاد ولم تحض بعد ذلك
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة كانت تحيض وهي بكر، فلما تزوجت ولدت ستة أولاد ولم تحض بعد ذلك، ووقعت الفرقة من زوجها وهي مرضع، وأقامت عند أهلها نصف سنة ولم تحض، وجاء رجل يتزوجها غير الزوج الأول، فحضروا عند قاض من القضاة، فسألها عن الحيض، فقالت: لي مدة سنين ما حضت. فقال القاضي: ما يحل لك عندي زواج، فزوجها حاكم آخر ولم يسألها عن الحيض، فبلغ خبرها إلى قاض آخر، فاستحضر الزوج والزوجة، فضرب الرجل مائة جلدة، وقال: زنيت، وطلق عليه، ولم يذكر الزوج الطلاق، فهل يقع به طلاق؟
فأجاب:
إن كان قد ارتفع حيضها بمرض أو رضاع فإنها تتربص حتى يزول العارض وتحيض باتفاق العلماء، وإن كان ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فهذه في أصح قولي العلماء على ما قال عمر: تمكث سنة، ثم تزوج، وهو مذهب أحمد المعروف في مذهبه، وقول للشافعي: وإن كانت في القسم الأول فنكاحها باطل، والذي فرق بينهما أصاب في ذلك، وأصاب في تأديب من فعل ذلك. وإن كانت من القسم الثاني قد زوجها حاكم لم يكن لغيره من الحكام أن يفرق بينهما، ولم يقع بها طلاق، فإن فعل الحاكم لمثل ذلك يجوز في أصح الوجهين.
سئل عن مرضع استبطأت الحيض فتداوت لمجيء الحيض
وسئل رَحمه الله تعالى عن مرضع استبطأت الحيض، فتداوت لمجيء الحيض، فحاضت ثلاث حيض وكانت مطلقة: فهل تنقضي عدتها، أم لا؟
فأجاب:
نعم إذا أتي الحيض المعروف لذلك اعتدت به، كما أنها لو شربت دواء قطع الحيض أو باعد بينه، كان ذلك طهرا. وكما لو جاعت أو تعبت، أو أتت غير ذلك من الأسباب التي تسخن طبعها وتثير الدم فحاضت بذلك. والله أعلم.
سئل عن امرأة شابة لم تبلغ سن الإياس وكانت عادتها أن تحيض فشربت دواء
وسئل رَحمه الله عن امرأة شابة لم تبلغ سن الإياس، وكانت عادتها أن تحيض فشربت دواء، فانقطع عنها الدم واستمر انقطاعه، ثم طلقها زوجها وهي على هذه الحالة: فهل تكون عدتها من حين الطلاق بالشهور، أو تتربص حتى تبلغ سن الآيسات؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إن كانت تعلم أن الدم يأتي فيما بعد فعدتها ثلاثة أشهر. وإن كان يمكن أن يعود الدم ويمكن ألا يعود فإنها تتربص بعد سنة ثم تتزوج، كما قضي به عمر ابن الخطاب في المرأة يرتفع حيضها لا تدري ما رفعه، فإنها تتربص سنة، وهذا مذهب الجمهور، كمالك والشافعي. ومن قال: إنها تدخل في سن الآيسات، فهذا قول ضعيف جدا، مع ما فيه من الضرر الذي لا تأتي الشريعة بمثله، أو تمنع من النكاح وقت حاجتها إليه، ويؤذن لها فيه حين لا تحتاح إليه.
سئل عن رجل مرض مرضا متصلا بموته وله زوجة فأمرها أن تخرج من الدار ثم طلقها ثم أنكر
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل مرض مرضا متصلا بموته، وله زوجة، فأمرها أن تخرج من داخل الدار إلى خارجها، فتوقفت عن الخروج، فقال لها: أنت طالق، فخرجت وحجبت وجهها عنه، فطلبها فدخلت عليه محتجبة فسألها عن احتجابها لما هو؟ فأخبرته بما أوقع من الطلاق، فأنكر، وقال: ما حلفت، ولا طلقت، ومات بعد أيام: فهل يلزمها الطلاق أم عدة الوفاة؟
فأجاب:
عليها عدة الوفاة مع عدة الطلاق، ولها الميراث. هذا إن كان عقله حاضرا حين تكلم بالطلاق، وإن كان عقله غائبا لم يلزمها إلا عدة الوفاة. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج امرأة من مدة ثلاث سنين ورزق منها ولدا له من العمر سنتان وذكرت أنها لما تزوجت لم تحض إلا حيضتين
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج امرأة من مدة ثلاث سنين، ورزق منها ولدا له من العمر سنتان، وذكرت أنها لما تزوجت لم تحض إلا حيضتين، وصدقها الزوج، وكان قد طلقها ثانيا على هذا العقد المذكور: فهل يجوز الطلاق على هذا العقد المفسوخ؟
فأجاب:
إن صدقها الزوج في كونها تزوجت قبل الحيضة الثالثة فالنكاح باطل، وعليه أن يفارقها. وعليها أن تكمل عدة الأول، ثم تعتد من وطء الثاني. فإن كانت حاضت الثالثة قبل أن يطأها الثاني فقد انقضت عدة الأول، ثم إذا فارقها الثاني اعتدت له ثلاث حيض، ثم تزوج من شاءت بنكاح جديد. وولده ولد حلال يلحقه نسبه، وإن كان قد ولد بوطء في عقد فاسد لا يعلم فساده.
فصل المعتدة عدة الوفاة تتربص أربعة أشهر وعشرا
وقال شيخ الإسلام رَحمه الله:
المعتدة عدة الوفاة تتربص أربعة أشهر وعشرا وتجتنب الزينة والطيب في بدنها وثيابها، ولا تتزين، ولا تتطيب، ولا تلبس ثياب الزينة، وتلزم منزلها فلا تخرج بالنهار إلا لحاجة، ولا بالليل إلا لضرورة، ويجوز لها أن تأكل كل ما أباحه الله كالفاكهة واللحم لحم الذكر والأنثي ولها أكل ذلك باتفاق علماء المسلمين، وكذلك شرب ما يباح من الأشربة ويجوز لها أن تلبس ثياب القطن والكتان وغير ذلك مما أباحه الله، وليس عليها أن تصنع ثيابا بيضاء أو غير بيض للعدة، بل يجوز لها لبس المقفص، لكن لا تلبس ما تتزين به المرأة: مثل الأحمر، والأصفر، والأخضر الصافي، والأزرق الصافي، ونحو ذلك، ولا تلبس الحلي مثل الإسورة والخلاخل، والقلايد، ولا تختضب بحناء ولا غيره، ولا يحرم عليها عمل شغل من الأشغال المباحة، مثل التطريز، والخياطة، والغزل، وغير ذلك مما تفعله النساء.
ويجوز لها سائر ما يباح لها في غير العدة: مثل كلام من تحتاج إلى كلامه من الرجال إذا كانت مستترة، وغير ذلك. وهذا الذي ذكرته هو سنة رسول الله ﷺ الذي كان يفعله نساء الصحابة إذا مات أزواجهن ونساؤه ﷺ ولا يحل لهن أن يتزوجن بغيره أبدا لا في العدة ولا بعدها، بخلاف غيرهن، وعلى المسلمين احترامهن كما يحترم الرجل أمه، لكن لا يجوز لغير محرم يخلو بواحدة منهن، ولا يسافر بها. والله أعلم.
سئل عن امرأة معتدة عدة وفاة ولم تعتد في بيتها بل تخرج في ضرورتها الشرعية
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة معتدة عدة وفاة، ولم تعتد في بيتها بل تخرج في ضرورتها الشرعية: فهل يجب عليها إعادة العدة؟ وهل تأثم بذلك؟
فأجاب:
العدة انقضت بمضي أربعة أشهر وعشرا من حين الموت، ولا تقضي العدة. فإن كانت خرجت لأمر يحتاج إليه ولم تبت إلا في منزلها فلا شيء عليها. وإن كانت قد خرجت لغير حاجة وباتت في غير منزلها لغير حاجة، أو باتت في غير ضرورة أو تركت الإحداد، فلتستغفر الله وتتوب إليه من ذلك، ولا إعادة عليها.
سئل عن رجل توفي وقعدت زوجته في عدته أربعين يوما
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل توفي وقعدت زوجته في عدته أربعين يوما، فما قدرت تخالف مرسوم السلطان، ثم سافرت وحضرت إلى القاهرة، ولم تتزين لا بطيب، ولا غيره: فهل تجوز خطبتها، أم لا؟
فأجاب:
العدة تنقضي بعد أربعة أشهر وعشرة أيام، فإن كان قد بقي من هذه شيء فلتتمه في بيتها، ولا تخرج ليلا ولا نهارا إلا لأمر ضروري، وتجتنب الزينة، والطيب في بدنها وثيابها. ولتأكل ما شاءت من حلال، وتشم الفاكهة، وتجتمع بمن يجوز لها الاجتماع به في غير العدة، لكن إن خطبها إنسان لا تجيبه صريحا. والله أعلم.
سئل عن امرأة عزمت على الحج هي وزوجها فمات زوجها في شعبان
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة عزمت على الحج هي وزوجها، فمات زوجها في شعبان: فهل يجوز لها أن تحج؟
فأجاب:
ليس لها أن تسافر في العدة عن الوفاة إلى الحج في مذهب الأئمة الأربعة.
باب الاستبراء
سئل عن رجل اشترى جارية ثم بعد يومين أو ثلاث وطئها قبل أن تحيض ثم باعها بعد عشرة أيام
سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل اشترى جارية، ثم بعد يومين أو ثلاث وطئها قبل أن تحيض ثم باعها بعد عشرة أيام: فهل يجوز للسيد الثاني أن يطأها قبل أن تحيض؟
فأجاب:
لم يكن يحل له وطؤها قبل أن يستبرئها باتفاق الأئمة، كما قال النبي ﷺ: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة). وكذلك المشتري الثاني لا يجوز له وطؤها قبل أن تحيض عنده باتفاق الأئمة، بل لا يجوز في أحد قولي العلماء أن يبيعها الواطئ حتى يستبرئها. وهل عليه استبراء، وعلى المشتري استبراء، أو استبرآن، أو يكفيهما استبراء واحد؟ على قولين. والله أعلم.
باب الرضاع
فصل المحرمات بالرضاع
قال شيخ الإسلام رَحمه الله:
وأما المحرمات بالرضاع فقد قال النبي ﷺ: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وفي لفظ: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة)، وهذا مما اتفق عليه علماء المسلمين، لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء المعروفين.
فإذا ارتضع الطفل من امرأة خمس رضعات في الحولين قبل الفطام صار ولدها باتفاق الأئمة، وصار الرجل الذي در اللبن بوطئه أبا لهذا المرتضع باتفاق الأئمة المشهورين، وهذا يسمي لبن الفحل وقد ثبت ذلك بسنة رسول الله ﷺ، فإن عائشة كانت قد أرضعتها امرأة، وكان لها زوج يقال له: أبو القعيس فجاء أخوه يستأذن عليها، فأبت أن تأذن له، حتى سألت النبي ﷺ فقال لها: (ائذني له فإنه عمك) فقالت عائشة: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل، فقال: (إنه عمك فليلج عليك وقال: يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب).
وإذا صار الرجل والمرأة والدي المرتضع صار كل من أولادهما إخوة المرضع، سواء كانوا من الأب فقط أو من المرأة، أو منهما، أو كانوا أولادا لهما من الرضاعة، فإنهم يصيرون إخوة لهذا المرتضع من الرضاعة، حتى لو كان لرجل امرأتان فأرضعت هذه طفلا، وهذه طفلة كانا أخوين، ولم يجز لأحدهما التزوج بالآخر باتفاق الأئمة الأربعة وجمهور علماء المسلمين. وهذه المسألة سئل عنها ابن عباس فقال: اللقاح واحد، يعني الرجل الذي وطئ المرأتين حتى در اللبن واحد.
ولا فرق باتفاق المسلمين بين أولاد المرأة الذين رضعوا مع الطفل وبين من ولد لها قبل الرضاعة، وبعد الرضاعة باتفاق المسلمين. وما يظنه كثير من الجهال أنه إنما يحرم من رضع معه، هو ضلال على صاحبه إن لم يرجع عنه، فإن أصر على استحلال ذلك استتيب كما يستتاب سائر من أباح الإخوة من الرضاعة، فإن تاب، وإلا قتل.
وإذا كان كذلك فجميع أقارب المرأة أقارب للمرتضع من الرضاعة أولادها إخوته، وأولاد أولادها أولاد إخوته، وآبائها وأمهاتها أجداده، وأخوتها وأخواتها أخواله وخالاته، وكل هؤلاء حرام عليه.
وأما بنات أخواله وخالاته من الرضاع، فحلال كما يحل ذلك من النسب، وأقارب الرجل أقاربه من الرضاع، أولاد أخوته وأولادهم أولاد أخوته. وأخوته أعمامه وعماته، وهن حرام عليه. وحل له بنات عمه وبنات عماته. وأولاد المرتضع بمنزلته، كما أن أولاد المولود بمنزلته فليس لأولاده من النسب ولا رضاع أن يتزوجوا أخوته ولا أخوة أبيه، لا من نسب ولا رضاع لأنهم أعمامهم وعماتهم، وأخوالهم وخالاتهم.
وأما أخوة المرتضع من نسب أو رضاع غير رضاع هذه المرضعة فهم أجانب منها ومن أقاربها، فيجوز لأخوة هؤلاء أن يتزوجوا أولاد المرضعة، كما إذا كان أخ للرجل من أبيه وأخت من أمه، وبالعكس، جاز أن يتزوج أحدهما الآخر، وهو نفسه لا يتزوج واحدا منهما، فكذلك المرتضع هو نفسه لا يتزوج واحدا من أولاد مرضعه، ولا أحدا من أولاد والديه، فإن هؤلاء أخوته من الرضاع، وهؤلاء أخوته من النسب. ويجوز لأخوته من الرضاع أن يتزوجوا أخوته من النسب، كما يجوز لأخوته من أبيه أن يتزوجوا أخوته من أمه، وهذا كله متفق عليه بين العلماء.
ولكن بعض المنتصبين للفتيا قد يغلط في هذه المسائل، لالتباس أمرها على المستفتين، ولا يذكرون ما يسألون عنه بالأسماء والصفات المعتبرة في الشرع، مثل أن يقول: اثنان تراضعا: هل يتزوج هذا بأخت هذا؟ وهذا سؤال مجمل، فالمرتضع نفسه ليس له أن يتزوج من أخوات الآخر اللاتي هن من أمه التي أرضعت، وإن كان له أخوات من غير تلك الأم فهن أجانب من المرتضع فللمرتضع أن يتزوج منهن. وكذلك إذا قيل: طفل وطفلة تراضعا، أو طفلان تراضعا: هل يحل أن يتزوج أحدهما بأخوة الآخر، ويتزوج الأخوات من الجانبين بعضهم لبعض، فجواب ذلك أن أخوة كل من المتراضعين لهم أن يتزوجوا أخوات الآخر، إذا لم يرتضع الخاطب من أم المخطوبة، ولا المخطوبة من أم الخاطب، وهذا متفق عليه بين العلماء وأما المتراضعين فليس لأحدهما أن يتزوج شيئا من أولاد المرضعة، فلا يتزوج هذا بأحد من أخوة الآخر من الأم التي أرضعته أو من الأب صاحب اللبن، ويجوز أن يتزوج كل منهما من أخوة الآخر الذين ليسوا من أولاد أبويه من الرضاعة، فهذا جواب هذه الأقسام.
فإن الرضيع: إما أن يتزوج من إخوة المرتضع الآخر من تلك المرأة أو الرجل، وإما أن يتزوج من إخوة المرتضع الآخر من النسب أو من رضاعة أخري. وإخوة الرضيع إما أن يتزوجوا من هؤلاء، وإما من هؤلاء وإما من هؤلاء. فأخوة الرضيع لهم أن يتزوجوا الجميع أولاد المرضعة وزوجها من نسب أو رضاع ولأخوة هذا أن يتزوجوا بأخوة هذا، بل لأب هذا من النسب أن يتزوج أخته من الرضاع. وأما أولاد المرضعة فلا يتزوج أحد منهن المرتضع، ولا أولاده، ولا يتزوج أحدا من أولاد أخوتها وأخواتها، لا من نسب، ولا من رضاع، فإنه يكون: إما عما وإما خالا، وهذا كله متفق عليه بين العلماء.
ثم الرضاع المحرم فيه ثلاثة أقوال مشهورة هي ثلاث روايات عن أحمد:
أحدها: أنه يحرم كثيره وقليله، وهي مذهب مالك، وأبي حنيفة، لإطلاق القرآن.
والثاني: لا تحرم الرضعة والرضعتان، ويحرم ما فوق ذلك، وهو مذهب طائفة، لقوله ﷺ في الحديث الصحيح: (لا تحرم الرضعة والرضعتان) وروي: (المصة، والمصتان)، وروي (الإملاجة، والإملاجتان)، فنفي التحريم عنهما وبقي الباقي على العموم والمفهوم.
والثالث: أنه لا يحرم إلا خمس رضعات، وهو مذهب الشافعي وظاهر مذهب أحمد، لحديثين صحيحين؛ حديث عائشة: (إن مما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله ﷺ والأمر على ذلك)، ولأمره ﷺ لامرأة أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة أن ترضع سالما مولي أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة خمس رضعات، ليصير محرما لها بذلك.
وعلى هذا، فالرضعة في مذهب الشافعي وأحمد ليست هي الشبعة وهو أن يلتقم الثدي ثم يسيبه ثم يلتقمه ثم يسيبه حتى يشبع، بل إذا أخذ الثدي ثم تركه باختياره فهي رضعة، سواء شبع بها أو لم يشبع إلا برضعات، فإذا التقمه بعد ذلك فرضع ثم تركه فرضعة أخري، وإن تركه بغير اختياره ثم عاد قريبا ففيه نزاع.
سئل ما الذي يحرم من الرضاع وما الذي لا يحرم
وسئل رَحمه الله تعالى:
ما الذي يحرم من الرضاع، وما الذي لا يحرم؟ وما دليل حديث عائشة رضي الله عنها (أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، ولتبينوا جميع التحريم منه؟ وهل للعلماء فيه اختلاف؟ وإن كان لهم اختلاف فما هو الصواب والراجح فيه؟ وهل حكم رضاع الصبي الكبير الذي دون البلوغ أو الذي يبلغ حكمه حكم الصغير الرضيع؛ فإن بعض النسوة يرضعن أولادهن خمس سنين، وأكثر، وأقل؟ وهل يقع تحريم بين المرأة والرجل المتزوجين برضاع بعض قراباتهم لبعض؟ وبينوه بيانًا شافيًا؟
الجواب:
الحمد لله، حديث عائشة حديث صحيح متفق على صحته، وهو متلقي بالقبول؛ فإن الأئمة اتفقوا على العمل به، ولفظه: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، والثاني (يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة).. وقد استثني بعض الفقهاء المستأخرين من هذا العموم صورتين، وبعضهم أكثر من ذلك وهذا خطأ؛ فإنه لا يحتاج أن يستثني من الحديث شيء، ونحن نبين ذلك فنقول:
إذا ارتضع الرضيع من المرأة خمس رضعات في الحولين صارت المرأة أمه وصار زوجها الذي جاء اللبن بوطئه أباه، فصار ابنا لكل منهما من الرضاعة، وحينئذ فيكون جميع أولاد المرأة من هذا الرجل ومن غيره وجميع أولاد الرجل منها ومن غيرها أخوة له، سواء ولدوا قبل الرضاع أو بعده باتفاق الأئمة.
وإذا كان أولادهما أخوته كان أولاد أولادهما أولاد أخوته، فلا يجوز للمرتضع أن يتزوج أحدًا من أولادهما، ولا أولاد أولادهما؛ فإنهم: إما إخوته وإما أولاد إخوته، وذلك يحرم من الولادة. وإخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته من الرضاع، وأبوها وأمها أجداده وجداته من الرضاع، فلا يجوز له أن يتزوج أحدا من إخوتها ولا من أخواتها وإخوة الرجل أعمامه وعماته. وأبو الرجل وأمهاته أجداده وجداته، فلا يتزوج بأعمامه وعماته، ولا بأجداده وجداته، لكن يتزوج بأولاد الأعمام والعمات، فإن جميع أقارب الرجل حرام عليه إلا أولاد الأعمام والعمات، وأولاد الخال والخالات، كما ذكر الله في قوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } [5]، فهؤلاء الأصناف الأربعة هي المباحات من الأقارب، فيبحن من الرضاعة. وإذا كان المرتضع ابنا للمرأة وزوجها فأولاده أولاد أولادهما، ويحرم على أولاده ما يحرم على الأولاد من النسب، فهذه الجهات الثلاث منها تنتشر حرمة الرضاع.
وأما إخوة المرتضع من النسب، وأبوه من النسب وأمه من النسب، فهم أجانب أبيه وأمه وإخوته من الرضاع، ليس بين هؤلاء وهؤلاء صلة لا نسب ولا رضاع؛ لأن الرجل يمكن أن يكون له أخ من أبيه وأخ من أمه ولا نسب بينهما، بل يجوز لأخيه من أبيه أن يتزوج أخاه من أمه، فكيف إذا كان أخ من النسب وأخت من الرضاع، فإنه يجوز لهذا أن يتزوج هذا، ولهذا أن يتزوج بهذا.
وبهذا تزول الشبهة التي تعرض لبعض الناس، فإنه يجوز للمرتضع أن يتزوج أخوه من الرضاعة بأمه من النسب، كما يتزوج بأخته من النسب. ويجوز لأخيه من النسب أن يتزوج أخته من الرضاعة، وهذا لا نظير له في النسب، فإن أخ الرجل من النسب لا يتزوج بأمه من النسب. وأخته من الرضاع ليست بنت أبيه من النسب، ولا ربيبته، فلهذا جاز أن تتزوج به. فيقول من لا يحقق: يحرم في النسب على أخي أن يتزوج أمي، ولا يحرم مثل هذا في الرضاع. وهذا غلط منه، فإن نظير المحرم من النسب أن تتزوج أخته أو أخوه من الرضاعة بابن هذا الأخ أو بأمه من الرضاعة، كما لو ارتضع هو وآخر من امرأة واللبن لفحل، فإنه يحرم على أخته من الرضاعة أن تتزوج أخاه وأخته من الرضاعة، لكونهما أخوين للمرتضع ويحرم عليهما أن يتزوجا أباه وأمه من الرضاعة، لكونهما ولديهما من الرضاعة، لا لكونهما أخوي ولديهما، فمن تدبر هذا ونحوه زالت عنه الشبهة.
وأما رضاع الكبير فإنه لا يحرم في مذهب الأئمة الأربعة، بل لا يحرم إلا رضاع الصغير، كالذي رضع في الحولين. وفيمن رضع قريبا من الحولين نزاع بين الأئمة، لكن مذهب الشافعي وأحمد أنه لا يحرم. فأما الرجل الكبير والمرأة الكبيرة فلا يحرم أحدهما على الآخر برضاع القريب، مثل أن ترضع زوجته لأخيه من النسب، فهنا لا تحرم عليه زوجته، لما تقدم من أنه يجوز لأخيه من النسب أن يتزوج بالتي هي أخته من الرضاعة، ليس بينه وبينها صلة نسب ولا رضاع، وإنما حرمت على أخيه لأنها أمه من الرضاع، وليست أم نفسه من الرضاع، وأم المرتضع من الرضاع لا تكون أما لأخوته من النسب؛ لأنها إنما أرضعت الرضيع ولم ترضع غيره. نعم لو كان للرجل نسوة يطأهن وأرضعت كل واحدة طفلا لم يجز أن يتزوج أحدهما الآخر، ولهذا لما سئل ابن عباس عن ذلك قال: اللقاح واحد. وهذا مذهب الأئمة الأربعة؛ لحديث أبي القعيس الذي في الصحيحين عن عائشة وهو معروف.
وتحرم عليه أم أخيه من النسب؛ لأنها أمه أو امرأة أبيه، وكلاهما حرام عليه. وأما أم أخيه من الرضاعة فليست أمه ولا امرأة أبيه؛ لأن زوجها صاحب اللبن ليس أبا لهذا، لا من النسب، ولا من الرضاعة.
فإذا قال القائل: إن النبي ﷺ قال: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب)، وأم أخيه من النسب حرام، فكذلك من الرضاع. قلنا: هذا تلبيس، وتدليس، فإن الله لم يقل: حرمت عليكم أمهات أخواتكم، وإنما قال: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [6]، وقال تعالي: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء } [7]، فحرم على الرجل أمه، ومنكوحة أبيه وإن لم تكن أمه. وهذه تحرم من الرضاعة، فلا يتزوج أمه من الرضاعة. وأما منكوحة أبيه من الرضاع فالمشهور عند الأئمة أنها تحرم، لكن فيها نزاع لكونها من المحرمات بالصهر، لا بالنسب والولادة. وليس الكلام هنا في تحريمها، فإنه إذا قيل: تحرم منكوحة أبيه من الرضاعة وفينا بعموم الحديث. وأما أم أخيه التي ليست أما ولا منكوحة أب، فهذه لا توجد في النسب، فلا يجوز أن يقال: تحرم من النسب فلا يحرم نظيرها من الرضاعة، فتبقي أم الأم من النسب لأخيه من الرضاعة، أو الأم من الرضاعة لأخيه من النسب، لا نظير لها من الولادة، فلا تحرم. وهذا متفق عليه بين المسلمين. والله أعلم.
سئل عن طفل ارتضع من امرأة مع ولدها رضعة أو بعض رضعة ثم تزوجت برجل آخر فرزقت منه ابنة
وسئل رَحمه الله تعالى عن طفل ارتضع من امرأة مع ولدها رضعة أو بعض رضعة، ثم تزوجت برجل آخر فرزقت منه ابنة: فهل يحل للطفل المرتضع تزويج الابنة على هذه الصورة، أم لا؟ وما دليل مالك رحمه الله وأبي حنيفة في أن المصة الواحدة أو الرضعة الواحدة تحرم، مع ماورد من الأحاديث التي خرجها مسلم في صحيحه، منها أن النبي ﷺ قال: (لا تحرم المصة ولا المصتان)، ومنها: أن النبي ﷺ قال: (لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان)، ومنها: أن رجلا من بني عامر بن صعصعة قال: يا رسول الله، هل تحرم الرضعة الواحدة؟ قال: (لا). ومنها: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما أنزل من القران عشر رضعات معلومات يحرمن نسخت بخمس معلومات، فتوفي رسول الله ﷺ وهن فيما يقرأ من القرآن. وما حجتهما مع هذه الأحاديث الصحيحة؟ !
فأجاب:
هذه المسألة فيها نزاع مشهور في مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه لا يحرم إلا خمس رضعات؛ لحديث عائشة المذكور، وحديث سالم مولى أبي حذيفة لما أمر النبي ﷺ امرأة أبي حذيفة بن عتبة بن أبي ربيعة أن ترضعه خمس رضعات، وهو في الصحيح أيضًا، فيكون مادون ذلك لم يحرم، فيحتاج إلى خمس رضعات.
وقيل: يحرم الثلاث فصاعدا، وهو قول طائفة منهم أبو ثور وغيره وهو رواية عن أحمد. واحتجوا بما في الصحيح: (لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة ولا الإملاجتان). قالوا: مفهومه أن الثلاث تحرم، ولم يحتج هؤلاء بحديث عائشة. قالوا: لأنه لم يثبت أنه قرآن إلا بالتواتر، وليس هذا بمتواتر.
فقال لهم الأولون: معنا حديثان صحيحان مثبتان: أحدهما يتضمن شيء ين حكما، وكونه قرآنا. فما ثبت من الحكم يثبت بالأخبار الصحيحة. وأما ما فيه من كونه قرآنا، فهذا لم نثبته، ولم نتصور أن ذلك قرآن، إنما نسخ رسمه وبقي حكمه.
فقال أولئك: هذا تناقض، وقراءة شاذة عند الشافعي، فإن عنده أن القراءة الشاذة لا يجوز الاستدلال بها، لأنها لم تثبت بالتواتر، كقراءة ابن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وأجابوا عن ذلك بجوابين: أحدهما: أن هذا فيه حديث آخر صحيح. و أيضًا فلم يثبت أنه بقي قرآن لكن بقي حكمه. والثاني: أن هذا الأصل لا يقول به أكثر العلماء، بل مذهب أبي حنيفة، بل ذكر ابن عبد البر إجماع العلماء على أن القراءة الشاذة إذا صح النقل بها عن الصحابة فإنه يجوز الاستدلال بها في الأحكام.
والقول الثاني في المسألة: أنه يحرم قليله وكثيره، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك، وهي رواية ضعيفة عن أحمد. وهؤلاء احتجوا بظاهر قوله: { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ } [8]. وقال: اسم الرضاعة في القرآن مطلق. وأما الأحاديث فمنهم من لم تبلغه. ومنهم من اعتقد أنها ضعيفة. ومنهم من ظن أنها تخالف ظاهر القرآن، واعتقد أنه لا يجوز تخصيص عموم القرآن وتقييد مطلقة بأخبار الآحاد.
فقال الأولون: هذه أخبار صحيحة ثابتة عند أهل العلم بالحديث، وكونها لم تبلغ بعض السلف لا يوجب ذلك ترك العمل بها عند من يعلم صحتها. وأما القرآن فإنه يحتمل أن يقال: فكما أنه قد علم بدليل آخر أن الرضاعة مقيدة بسن مخصوص، فكذلك يعلم أنها مقيدة بقدر مخصوص. وهذا كما أنه علم بالسنة مقدار الفدية في قوله: { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [9]، وإن كان الخبر المروي خبرا واحدا، بل كما تثبت بالسنة أنه لا تنكح المرأة على عمتها ولا تنكح المرأة على خالتها، وهو خبر واحد بظاهر القرآن، واتفق الأئمة على العمل به، وكذلك فسر بالسنة المتواترة وغير المتواترة بحمل قوله: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } [10]، وفسر بالسنة المتواترة أمور من العبادات والكفارات، والحدود: ما هو مطلق من القرآن. فالسنة تفسر القرآن وتبينه، وتدل عليه وتعبر عنه.
والتقييد بالخمس له أصول كثيرة في الشريعة، فإن الإسلام بني على خمس، والصلوات المفروضات خمس، وليس فيما دون خمس صدقة، والأوقاص بين النصب خمس أو عشر، أو خمس عشرة، وأنواع البر خمس، كما قال تعالي: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } [11]، وقال في الكفر: { وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [12]، وأولو العزم، وأمثال ذلك بقدر الرضاع المحرم ليس بغريب في أصول الشريعة.
والرضاع إذا حرم لكونه ينبت اللحم وينشز العظم فيصير نباته به كنباته من الأبوين، وإنما يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة؛ ولهذا لم يحرم رضاع الكبير، لأنه بمنزلة الطعام والشراب. والرضعة والرضعتان ليس لها تأثير كما أنه قد يسقط اعتبارها كما يسقط اعتبار ما دون نصاب السرقة حتى لا تقطع الأيدي بشيء من التافه، واعتباره في نصاب الزكاة فلا يجب فيها شيء إذا كان أقل، ولابد من حد فاصل، فهذا هو التنبيه على مأخذ الأئمة في هذه المسألة. وبسط الكلام فيها يحتاج إلى ورقة أكبر من هذه، وهي من أشهر مسائل النزاع. والنزاع فيها من زمان الصحابة، والصحابة رضي الله عنهم تنازعوا في هذه المسألة والتابعون بعدهم.
وأما إذا شك: هل دخل اللبن في جوف الصبي، أو لم يحصل، فهنا لا نحكم بالتحريم بلا ريب. وإن علم أنه حصل في فمه، فإن حصول اللبن في الفم لا ينشر الحرمة باتفاق المسلمين.
سئل عن أختين ولهما بنات وبنين فإذا أرضع الأختان هذه بنات هذه وهذه بنات هذه فهل يحرمن على البنين أم لا
وسئل رَحمه الله تعالى عن أختين ولهما بنات وبنين، فإذا أرضع الأختان هذه بنات هذه، وهذه بنات هذه، فهل يحرمن على البنين، أم لا؟
فأجاب:
إذا أرضعت المرأة الطفلة خمس رضعات في الحولين صارت بنتا لها، فصار جميع أولاد المُرْضِعة أخوة لهذه المرتَضَعَة ذكورهم وإناثهم من ولد قبل الرضاع، ومن ولد بعده فلا يجوز لأحد من أولاد المُرْضِعة أن يتزوج المرتضَعَة، بل يجوز لأخوة المرتضعة أن يتزوجوا بأولاد المرضعة الذين لم يرتضعوا من أمهن، فالتحريم إنما هو على المرتضعة، لا على أخوتها الذين لم يرتضعوا، فيجوز أن يتزوج أخت أخته إذا كان هو لم يرتضع من أمها وهي لم ترضع من أمه. وأما هذه المرتضعة فلا تتزوج واحدًا من أولاد من أرضعتها. وهذا باتفاق الأئمة.
وأصل هذا أن المرتضعة تصير المرضعة أمها، فيحرم عليها أولادها، وتصير إخوتها وأخواتها أخوالها وخالاتها، ويصير الرجل الذي له اللبن أباها، وأولاده من تلك المرأة وغيرها أخوتها، وإخوة الرجل أعمامها وعماتها، ويصير المرتضع وأولاده وأولاد أولاده أولاد المرضعة، والرجل الذي در اللبن بوطئه. وأما إخوة المرتضع وأخواته وأبوه وأمه من النسب فهم أجانب، لا يحرم عليهم بهذا الرضاع شيء. وهذا كله باتفاق الأئمة الأربعة وإن كان لهم نزاع في غير ذلك.
سئل عن رجل ارتضع مع رجل وجاء لأحدهما بنت فهل للمرتضع أن يتزوج بالبنت
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل ارتضع مع رجل، وجاء لأحدهما بنت: فهل للمرتضع أن يتزوج بالبنت؟
فأجاب:
إذا ارتضع الطفل من المرأة خمس رضعات في الحولين صار ابنا لها، وصار جميع أولادها إخوته الذين ولدتهم قبل الرضاعة والذين ولدتهم بعد الرضاعة. والرضاعة يحرم فيها ما يحرم من الولادة، بسنة رسول الله ﷺ واتفاق الأئمة، فلا يجوز لأحد أن يتزوج بنت الآخر، كما لا يجوز أن يتزوج بنت أخيه من النسب باتفاق الأئمة.
سئل عن رجل له بنات خالة أختان واحدة رضعت معه والأخرى لم ترضع معه فهل يجوز له أن يتزوج التي لم ترضع معه
وسئل رَحمه الله عن رجل له بنات خالة: أختان، واحدة رضعت معه، والأخرى لم ترضع معه: فهل يجوز له أن يتزوج التي لم ترضع معه؟
فأجاب:
إذا ارتضع معها خمس رضعات في الحولين صار ابنا لها، حرم عليه جميع بناتها من ولد قبل الرضاع ومن ولد بعده لأنهن أخواته باتفاق العلماء. ومتى ارتضعت المخطوبة من أم لم يجز لها أن تتزوج واحدا من بني المرضعة. وأما إذا كان الخاطب لم يرتضع من أم المخطوبة، ولا هي رضعت من أمه، فإنه يجوز أن يتزوج أحدهما بالآخر، باتفاق العلماء، وإن كان إخوتها تراضعا. والله أعلم.
سئل عن امرأة استأجرت لبنتها مرضعة يوما أو شهرا ومضت السنون وللمرضعة ولد قبلها فهل يحل لهما الزواج
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة استأجرت لبنتها مرضعة يوما أو شهرا، ومضت السنون، وللمرضعة ولد قبلها: فهل يحل لهما الزواج؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا أرضعتها الداية خمس رضعات في الحولين صارت بنتا لها، فجميع أولاد المرضعة حرام على هذه المرضعة، وإن ولد قبل الرضاع أو بعده. وهذا باتفاق المسلمين. ومن استحل ذلك فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولكن إذا كان للمرتضعة أخوات من النسب جاز لهن أن يتزوجن بأخوتها من الرضاع باتفاق المسلمين. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج امرأة بعد امرأة وقد ارتضع طفل من الأولي وللأب من الثانية بنت فهل للمرتضع أن يتزوج هذه البنت
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج امرأة بعد امرأة، وقد ارتضع طفل من الأولي، وللأب من الثانية بنت: فهل للمرتضع أن يتزوج هذه البنت؟ وإذا تزوجها ودخل بها: فهل يفرق بينهما؟ وهل في ذلك خلاف بين الأئمة؟
فأجاب:
إذا ارتضع الرضاع المحرم لم يجز له أن يتزوج هذه البنت في مذاهب الأئمة الأربعة بلا خلاف بينهم، لأن اللبن للفحل، وقد سئل ابن عباس عن رجل له امرأتان أرضعت إحداهما طفلا والأخرى طفلة: فهل يتزوج أحدهما الآخر؟ فقال: لا. اللقاح واحد. والأصل في ذلك حديث عائشة المتفق عليه قالت: استأذن على أفلح أخو أبي القعيس، وكانت قد أرضعتني امرأة أبي القعيس، فقالت: لا آذن لك حتى استأذن رسول الله فسألته ﷺ فقال: (إنه عمك فليلج عليك، يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة)، وإذا تزوجها ودخل بها فإنه يفرق بينهما بلا خلاف بين الأئمة. والله أعلم.
سئل عن رجل له قرينة لم يتراضع هو وأبوها لكن لهما أخوة صغار تراضعوا فهل يحل له أن يتزوج بها
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل له قرينة لم يتراضع هو وأبوها، لكن لهما أخوة صغار تراضعوا فهل يحل له أن يتزوج بها؟ وإن دخل بها ورزق منها ولدا، فما حكمهم، وما قول العلماء فيهم؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا لم يرتضع هو من أمها ولم ترضع هي من أمه، بل إخوته رضعوا من أمها، وإخوتها رضعوا من أمه، كانت حلالا له باتفاق المسلمين، بمنزلة أخت أخيه من أبيه، فإن الرضاع ينشر الحرمة إلى المرتضع وذريته، وإلى المرضعة وإلى زوجها الذي وطئها حتى صار لها لبن، فتصير المرضعة امرأته، وولدها قبل الرضاع وبعده أخو الرضيع، ويصير الرجل أباه، وولده قبل الرضاع وبعده أخو الرضيع. فأما أخوة المرتضع من النسب وأبوه من النسب فهم أجانب من أبويه من الرضاعة وإخوته من الرضاع. وهذا كله متفق عليه بين المسلمين: إن انتشار الحرمة إلى الرجل، فإن هذه تسمي مسألة الفحل والذي ذكرناه هو مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور الصحابة والتابعين. وكان بعض السلف يقول: لبن الفحل لا يحرم. والنصوص الصحيحة: هي تقرر مذهب الجماعة.
سئل عن أختين أشقاء لإحداهما بنتان وللأخرى ذكر وقد ارتضعت واحدة من البنتين وهي الكبيرة مع الولد
وسئل رَحمه الله عن أختين أشقاء لإحداهما بنتان، وللأخرى ذكر، وقد ارتضعت واحدة من البنتين وهي الكبيرة مع الولد: فهل يجوز له أن يتزوج بالتي لم ترضع؟
فأجاب:
إذا ارتضعت الواحدة من أم الصبي ولم يرتضع هو من أمها جاز له أن يتزوج أختها باتفاق المسلمين.
سئل عن امرأة أودعت بنتها عند امرأة أخيها وغابت وجاءت فقالت أرضعتها فقالت لا وحلفت على ذلك
وسئل رَحمه الله عن امرأة أودعت بنتها عند امرأة أخيها، وغابت، وجاءت، فقالت: أرضعتها؟ فقالت: لا. وحلفت على ذلك، ثم إن ولد أخيها كبر وكبرت بنتها الصغيرة وأختها ارتضعت مع أخيه الذي يريد أن يتزوج بها، فهل يجوز ذلك؟
فأجاب:
إذا كانت البنت لم ترضع من أم الخاطب، ولا الخاطب ارتضع من أمها، جاز أن يتزوج أحدهما بالآخر، وإن كان أخوها وإخوتها من أم الخاطب، فان هذا لا يؤثر بإجماع المسلمين، بل الطفل إذا ارتضع من امرأة صارت أمه وزوجها صاحب اللبن أباه، وصار أولادهما إخوته وأخواته. وأما أخوة المرتضع من النسب وأبوه من النسب وأمه من النسب فهم أجانب يجوز لهم أن يتزوجوا أخواته، كما يجوز من النسب أن تتزوج أخت الرجل من أمه بأخيه من أبيه. وكل هذا متفق عليه بين المسلمين بلا نزاع فيه. والله أعلم.
سئل عن امرأة ذات بعل ولها لبن على غير ولد ولا حمل فأرضعت طفلة لها دون الحولين خمس رضعات متفرقات
وسئل رَحمه الله عن امرأة ذات بعل، ولها لبن على غير ولد ولا حمل، فأرضعت طفلة لها دون الحولين خمس رضعات متفرقات، وهذه المرضعة عمة الرضيعة من النسب، ثم أراد ابن بنت هذه المرضعة أن يتزوج بهذه الرضيعة: فهل يحرم ذلك؟
فأجاب:
أما إذا وطئها زوج، ثم بعد ذلك ثاب لها لبن، فهذا اللبن ينشر الحرمة، فإذا ارتضعت طفلة خمس رضعات صارت بنتها وابن بنتها ابن أختها، وهي خالته، سواء كان الارتضاع مع طفل أو لم يكن. وأما أختها من النسب التي لم ترضع فيحل له أن يتزوج بها. ولو قدر أن هذا اللبن ثاب لامرأة لم تتزوج قط فهذا ينشر الحرمة في مذهب أبي حنيفة، ومالك والشافعي، وهي رواية عن أحمد. وظاهر مذهبه أنه لا ينشر الحرمة. والله أعلم.
سئل عن رجل خطب قريبته فقال والدها هي رضعت معك ونهاه عن التزويج بها فلما توفي أبوه تزوج بها
وسئل شيخ الإِسلام رَحمه الله عن رجل خطب قريبته، فقال والدها: هي رضعت معك، ونهاه عن التزويج بها، فلما توفي أبوه تزوج بها، وكان العدول شهدوا على والدتها أنها أرضعته، ثم بعد ذلك أنكرت، وقالت: ما قلت هذا القول إلا لغرض: فهل يحل تزويجها؟
فأجاب:
إن كانت الأم معروفة بالصدق وذكرت أنها أرضعته خمس رضعات فإنه يقبل قولها في ذلك، فيفرق بينهما إذا تزوجها في أصح قولي العلماء كما ثبت في صحيح البخاري أن النبي ﷺ أمر عقبة بن الحارث أن يفارق امرأته، لما ذكرت الأَمَة السوداء أنها أرضعتهما. وأما إذا شك في صدقها، أو في عدد الرضعات: فإنها تكون من الشبهات، فاجتنابها أولى، ولا يحكم بالتفريق بينهما إلا بحجة توجب ذلك. وإذا رجعت عن الشهادة قبل التزويج لم تحرم الزوجة، لكن إن عرف أنها كاذبة في رجوعها وأنها رجعت لأنه دخل عليها حتى كتمت الشهادة، لم يحل التزويج. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج بامرأة وولد له منها أولاد عديدة ثم ذكر لزوجها أن هذه الزوجة في عصمتك شربت من لبن أمك
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج بامرأة، وولد له منها أولاد عديدة، فلما كان في هذه المدة حضر من نازع الزوجة، وذكر لزوجها أن هذه الزوجة في عصمتك شربت من لبن أمك؟
فأجاب:
إن كان هذا الرجل معروفا بالصدق، وهو خبير بما ذكر، وأخبر أنها رضعت من أم الزوج خمس رضعات في الحولين، رجع إلى قوله في ذلك، وإلا لم يجب الرجوع، وإن كان قد عاين الرضاع. والله أعلم.
سئل عن رجل ارتضع من امرأة وهو طفل صغير على بنت لها ولها أخوات أصغر منها فهل يحرم منهن أحد أم لا
وسئل رَحمه الله عن رجل ارتضع من امرأة وهو طفل صغير على بنت لها، ولها أخوات أصغر منها: فهل يحرم منهن أحد، أم لا؟
فأجاب:
إذا ارتضع من امرأة خمس رضعات في الحولين صار ابنا لتلك المرأة، فجميع الأولاد الذين ولدوا قبل الرضاع، والذين ولدوا بعده، هم إخوة لهذا المرتضع باتفاق المسلمين أيضًا.
سئل عن أختين إحداهما لها ذكر والأخرى أنثي فأرضعت أم الذكر الأنثى
وسئل رَحمه الله عن أختين إحداهما لها ذكر، والأخرى أنثي، فأرضعت أم الذكر الأنثى، ولم ترضع أم أنثي الذكر، ثم جاءت هذه بنات، وهذه ذكور فهل يجوز أن يتزوج أخو المرتضع بالبنت التي ارتضعت بلبن أخيه، أم لا؟ وكذلك هل يتزوج أولاد هذه بأولاد هذه بسوي المرضعين؟
فأجاب:
الحمد لله، الأنثي المرتضعة لا تتزوج أحدا من أولاد المرضعة، لا من ولدها قبل الرضاعة، ولا بعدها. وأما أخوة المرتضعة فيتزوجون من شاؤوا من أولاد المرضعة، فيتزوج كل واحد لم يرتضع بأولاد المرأة التي لم ترضعه، ولم يتزوج بأحد من أولاد من أرضعته. وإذا رضع طفل من أم هذا، أو طفلة من أولاد هذا، لم يجز لأحدهما أن يتزوج أولاد الأخري، ويجوز لإخوة كل من المتراضعين أن يتزوج بإخوة الآخر إذا لم يرضع واحد منها من أم الآخر، والتحريم إنما يثبت في حق المرتضع خاصة، دون من لم يرضع من أخوته، لكن يحرم عليه جميع أولاد المرضعة. والله أعلم.
سئل عن رجل رمد فغسل عينيه بلبن زوجته فهل تحرم عليه
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل رمد فغسل عينيه بلبن زوجته: فهل تحرم عليه إذا حصل لبنها في بطنه؟ ورجل يحب زوجته فلعب معها، فرضع من لبنها: فهل تحرم عليه؟
فأجاب:
الحمد لله، ما غسل عينيه بلبن امرأته يجوز، ولا تحرم بذلك عليه امرأته لوجهين:
أحدهما: أنه كبير. والكبير إذا ارتضع من امرأته أو من غير امرأته لم تنشر بذلك حرمة الرضاع عند الأئمة الأربعة وجماهير العلماء، كما دل على ذلك الكتاب والسنة. وحديث عائشة في قصة سالم مولي أبي حذيفة مختص عندهم بذلك؛ لأجل أنهم تبنوه قبل تحريم التبني.
الثاني: أن حصول اللبن في العين لا ينشر الحرمة، ولا أعلم في هذا نزاعا، ولكن تنازع العلماء في السعوط وهو ما إذا دخل في أنفه، بعد تنازعهم في الوجور، وهو ما يطرح فيه من غير رضاع، وأكثر العلماء على أن الوجور يحرم وهو أشهر الروايتين عن أحمد. وكذلك يحرم السعوط في إحدى الروايتين عنه وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وللشافعي قولان.
والجواب عن المسألة الثانية أن ارتضاعه لا يحرم امرأته في مذهب الأئمة الأربعة.
فصل إذا ارتضع الطفل من امرأة خمس رضعات قبل أن يتم له حولين
وقال شيخ الإسلام رَحمه الله:
إذا ارتضع الطفل من امرأة خمس رضعات قبل أن يتم له حولين، فإنه يصير ولدها، فيحرم عليه كل من ولدها قبل الرضاع وبعده، ويصير زوجها الذي أحبلها در لبنها أباه، فيحرم عليه جميع أولاد ذلك الرجل، فإذا أرضعت امرأته طفلا وطفلة كل واحد خمس رضعات لم يجز أن يتزوج أحدهما بالآخر، بل هما أخوان. والله أعلم.
سئل عن صبي أرضعته كرتين ثم حملت بعد ذلك بعشر سنين وجاءت ببنت وصار الصبي شابا
وسئل رَحمه الله عن صبي أرضعته كرتين، ثم حملت بعد ذلك بعشر سنين، وجاءت ببنت وصار الصبي شابا: فهل له أن يتزوج بتلك البنت، أم لا؟
فأجاب:
إذا ارتضع منها خمس رضعات في حولين فقد صار ابنها، ويحرم عليه كل ما ولدته المرأة، سواء ولدته قبل الرضاع أو بعده باتفاق العلماء، والرضعة أن يلتقم الثدي فيشرب منه ثم يدعه فهذه رضعة. فإذا كان في كرة واحدة قد جري له خمس مرات فهذه خمس رضعات، وإن جري ذلك خمس مرات في كرتين فهو أيضًا خمس رضعات، وليس المراد بالرضعة ما يشربه في نوبة واحدة في شربة؛ فإنها قد ترضعه بالغداة ثم بالعشي ويكون في كل نوبة قد أرضعته رضعات كثيرة. والله أعلم.
سئل عن الصبي إذا رضع من غير أمه وكذلك الصبية إذا رضعت
وسئل رَحمه الله تعالى عن الصبي إذا رضع من غير أمه، وكذلك الصبية إذا رضعت: ماذا يحرم عليه نكاحه بعد ذلك؟ وما حد الرضعة المحرمة؟ وهل للرضاعة بعد الفطام تأثيرا في التحريم؟ وهل تبقي المرأة حرام على من تعدي سنين الرضاعة، أم لا؟
فأجاب:
إذا ارتضع الطفل أو الطفلة من امرأة خمس رضعات في الحولين فقد صار ولدها من الرضاعة، وصار الرجل الذي در اللبن بوطئه أباه من الرضاعة وأخوة المرأة أخواله وخالاته، وأخوة الرجل أعمامه وعماته. وآباؤها أجداده وجداته، وأولاده كل منهما أخوته وأخواته. وكل هؤلاء حرام عليه، فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب. وكذلك أولاد هذا المرتضع يحرمون على أجداده وجداته، وإخوته وأخواته، وأعمامه وعماته، وأخواله وخالاته من الرضاعة. وهذا كله باتفاق المسلمين فيثبت حرمة الرضاع من جهة الأبوين ومن جهة الولد.
وأما أبو المرتضع من النسب وأمهاته وأخوته وأخواته من النسب، فكل هؤلاء أجانب من المرتضعة وأقاربها، باتفاق العلماء، فيجوز لأخيه من النسب أن يتزوج أخته من الرضاعة، ويجوز لجميع أخوة المرتضع أن يتزوجوا بمن شاؤوا من بنات المرضعة، سواء في ذلك التي أرضعت مع الطفل وغيرها. ولا يجوز للمرتضع أن يتزوج أحدا من أولاد المرضعة، لا بمن ولد قبل الرضاع ولا من ولد بعده باتفاق العلماء.
وكثير من الناس يغلط في هذا الموضوع فلا يميز بين إخوة المرتضع من النسب الذين هم أجانب من المرأة وبين أولاد المرتضعة الذين هم أخوته من الرضاع، ويجعل الجميع نوعا واحدًا، وليس كذلك، بل يجوز لهؤلاء أن يتزوجوا من هؤلاء. وأما المرتضع فلا يتزوج أحدا من أولاد المرضعة.
ولو تراضع طفلان فرضع هذا أم هذا ورضعت هذه أم هذا ولم يرضع أحد من أخوتها من أم الآخر حرم على كل منهم أن يتزوج أولاد مرضعته، سواء ولد قبل الرضاعة أو بعدها، ولم يحرم على أخ واحد منهما من النسب أن يتزوج أخت الآخر من الرضاعة.
والرضاعة المحرمة بلا ريب أن يرضع خمس رضعات، فيأخذ الثدي فيشرب منه ثم يدعه، ثم يأخذه فيشرب مرة ثم يدعه، ولو كان ذلك في زمن واحد مثل غدائه وعشائه. وأما دون الخمس فلا يحرم في مذهب الشافعي. وقيل: يحرم القليل والكثير: كقول أبي حنيفة ومالك. وقيل: لا يحرم إلا ثلاث رضعات. والأقوال الثلاثة مروية عن أحمد، لكن الأول أشهر عنه لحديث عائشة الذي في الصحيحين: كان مما نزل في القرآن عشر رضعات يحرمن ثم نسخ ذلك بخمس رضعات، فتوفي رسول الله ﷺ والأمر على ذلك، وفي المسند وغيره أيضًا أنه ﷺ أمر امرأة أن ترضع شخصا خمس رضعات، لتحرم عليه.
والرضاع المحرم ما كان في الحولين، فإن تمام الرضاع حولان كاملان، كما قال تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [13]، وما كان بعد تمام الرضاعة فليس من الرضاعة، ولهذا كان جمهور العلماء والأئمة الأربعة وغيرهم على أن رضاع الكبير لا تأثير له، واحتجوا بما في الصحيحين عن عائشة قالت: دخل على رسول الله ﷺ وعندي رجل، فقال: (من هذا يا عائشة؟). قلت: أخي من الرضاعة قال: (يا عائشة انظرن من إخوانكن؟ إنما الرضاعة من المجاعة). وروي الترمذي عن أم سلمة قالت: قال رسول الله ﷺ: (لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام). ومعنى قوله في الثدي أي: وقته، وهو الحولان، كما جاء في الحديث أن ابني إبراهيم مات في الثدي. أي: وهو في زمن الرضاع. وهذا يقتضي أنه لا رضاع بعد الحولين ولا بعد الفطام وإن كان الفطام قبل تمام الحولين.
وقد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن إرضاع الكبير يحرم. واحتجوا بما في صحيح مسلم وغيره عن زينب بنت أم سلمة أن أم سلمة قالت لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل على، فقالت عائشة: مالك في رسول الله أسوة حسنة؟ ! قالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله، إن سالما يدخل على وهو رجل في نفس أبي حذيفة منه شيء؟ فقال رسول الله ﷺ: (أرضعيه حتى يدخل عليك)، وفي رواية لمالك في الموطأ قال: (أرضعيه خمس رضعات) فكان بمنزلة ولده من الرضاعة. وهذا الحديث أخذت به عائشة وأبي غيرها من أزواج النبي ﷺ أن يأخذن به مع أن عائشة روت عنه قال: (الرضاعة من المجاعة) لكنها رأت الفرق بين أن يقصد رضاعة أو تغذية. فمتى كان المقصود الثاني لم يحرم إلا ما كان قبل الفطام. وهذا هو إرضاع عامة الناس. وأما الأول فيجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرم. وقد يجوز للحاجة ما لا يجوز لغيرها، وهذا قول متوجه.
ولبن الآدميات طاهر عند جمهور العلماء، ولكن شك بعض المتأخرين فقال: هو نجس.
وتنازع العلماء في جواز بيعه منفردا على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل: يجوز بيعه، كمذهب الشافعي. وقيل: لا يجوز، كمذهب أبي حنيفة. وقيل: يجوز بيع لبن الأمة دون لبن الحرة، والله أعلم.
سئل عن امرأتين إحداهما لها ابن وللأخرى بنت فأرضعت أم البنت الابن مرارا ثم مات الابن ثم جاء بعده ابن آخر ولم يرضع مما رضع
وسئل رَحمه الله عن امرأتين إحداهما لها ابن، وللأخرى بنت، فأرضعت أم البنت الابن مرارا، ثم مات الابن، ثم جاء بعده ابن آخر ولم يرضع مما رضع: فهل يجوز له أن يتزوج بالبنت المذكورة، أم تحرم عليه لأجل رضاعة أخيه؟
الجواب:
إذا أراد أخو المرتضع من النسب أن يتزوج أولاد المرضعة جاز ذلك باتفاق الأئمة، سواء كان المرتضع حيا أو ميتا. والله أعلم.
سئل عن رجل له بنت عم ووالد البنت المذكورة قد رضع بأم الرجل المذكور
وسئل رَحمه الله عن رجل له بنت عم، ووالد البنت المذكورة قد رضع بأم الرجل المذكور مع أحد أخواته، وذكرت أم الرجل المذكورة، أنه لما رضعها كان عمره أكثر من حولين، فهل للرجل المذكور أن يتزوج بنت عمه؟
فأجاب:
إن كان الرضاع بعد تمام الحولين لم يحرم شيئًا.
سئل عن امرأة أعطت لامرأة أخرى ولدا وهما في الحمام فلم تشعر إلا وثديها في فم الطفل
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة أعطت لامرأة أخرى ولدا، وهما في الحمام، فلم تشعر المرأة التي أخذت الولد إلا وثديها في فم الصبي، فانتزعته منه في ساعته وما علمت هل ارتضع أم لا، فهل يحرم على الصبي المذكور أن يتزوج من بنات المرأة المذكورة، أم لا؟
فأجاب:
لا يحرم على الصبي المذكور بذلك أن يتزوج واحدة من أولاد هذه المرأة، فإنها ليست أمه، ولا تحرم عليه بالشك عند أحد من الأئمة الأربعة. والله أعلم.
باب النفقات والحضانة
قال شيخ الإسلام رَحمه الله:
في قوله تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } إلى قوله: { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [14]، مع قوله: { وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عليهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } } إلى قوله: { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [15]، وفي ذلك أنواع من الأحكام بعضها مجمع عليه، وبعضها متنازع فيه. وإذا تدبرت كتاب الله تبين أنه يفصل النزاع بين من يحسن الرد إليه وأن من لم يهتد إلى ذلك، فهو إما لعدم استطاعته، فيعذر أو لتفريطه فيلام.
وقوله تعالى: { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } يدل على أن هذا تمام الرضاعة، وما بعد ذلك فهو غذاء من الأغذية. وبهذا يستدل من يقول: الرضاع بعد الحولين بمنزلة رضاع الكبير. وقوله: { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } يدل على أن لفظ الحولين يقع على حول وبعض آخر. وهذا معروف في كلامهم، يقال: لفلان عشرون عاما إذا أكمل ذلك. قال الفرَّاء والزَّجّاج وغيرهما: لما جاز أن يقول حولين ويريد أقل منهما كما قال تعالى: { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } [16] ومعلوم أنه يتعجل في يوم وبعض آخر، وتقول: لم أر فلانا يومين. وإنما تريد يوما وبعض آخر، قال كاملين ليبين أنه لا يجوز أن ينقص منهما، وهذا بمنزلة قوله تعالى: { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [17]، فإن لفظ العشرة يقع على تسعة وبعض العاشر، فيقال: أقمت عشرة أيام، وإن لم يكملها، فقوله هناك كاملة بمنزلة قوله هنا كاملين وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفورا طيبة به نفسه أحد المتصدقين)، فالكامل الذي لم ينقص منه شيء، إذ الكمال ضد النقصان. وأما الموفر فقد قال: أجرهم موفرا، يقال: الموفر للزائد، ويقال: لم يكلم. أي يجرح، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد عن وهب بن منبه: أن الله تعالى قال لموسى: (وماذاك لهوانهم على ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتى سالما موفرا، لم تكلمه الدنيا ولم تكلمه نطعة الهوى). وكان هذا تغيير الصفة، وذاك نقصان القدر.
وذكر أبو الفرج: هل هو عام في جميع الوالدات أو يختص بالمطلقات؟ على قولين. والخصوص قول سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل، في آخرين. والعموم قول أبي سليمان الدمشقي والقاضي أبي يعلي في آخرين.
قال القاضي: ولهذا نقول: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها، سواء كانت مع الزوج، أو مطلقة. قلت: الآية حجة عليهم، فإنها أوجبت للمرضعات رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لا زيادة على ذلك. وهو يقول: تؤجر نفسها بأجرة غير النفقة. والآية لا تدل على هذا، بل إذا كانت الآية عامة دلت على أنها ترضع ولدها مع إنفاق الزوج عليها، كما لو كانت حاملا فإنه ينفق عليها وتدخل نفقة الولد في نفقة الزوجية؛ لأن الولد يتغذي بغذاء أمه. وكذلك في حال الرضاع فإن نفقة الحمل هي نفقة المرتضع. وعلى هذا فلا منافاة بين القولين، فالذين خصوه بالمطلقات أوجبوا نفقة جديدة بسبب الرضاع، كما ذكر في سورة الطلاق وهذا مختص بالمطلقة.
وقوله تعالى: { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [18]، قد علم أن مبدأ الحول من حين الولادة والكمال إلى نظير ذلك. فإذا كان من عاشر المحرم كان الكمال في عاشر المحرم في مثل تلك الساعة، فإن الحول المطلق هو اثنا عشر شهرا من الشهر الهلالي، كما قال تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ } [19]، وهكذا ما ذكره من العدة أربعة أشهر وعشرا، أولها من حين الموت وآخرها إذا مضت عشر بعد نظيره، فإذا كان في منتصف المحرم فآخرها خامس عشر المحرم، وكذلك الأجل المسمي في البيوع وسائر ما يؤجل بالشرع وبالشرط.
وللفقهاء هنا قولان آخران ضعيفان:
أحدهما: قول من يقول: إذا كان في أثناء الشهر، كان جميع الشهور بالعدد، فيكون الحولان ثلثمائة وستين. وعلى هذا القول تزيد المدة اثني عشر يوما، وهو غلط بين.
والقول الثاني: قول من يقول: منها واحد بالعدد، وسائرها بالأهلة. وهذا أقرب، لكن فيه غلط، فإنه على هذا إذا كان المبدأ عاشر المحرم وقد نقص المحرم كان تمامه تاسعه، فيكون التكميل أحد عشر، فيكون المنتهي حادي عشر المحرم، وهو غلط أيضًا.
وظاهر القرآن يدل على أن على الأم إرضاعه؛ لأن قوله: { يُرْضِعْنَ } خبر في معنى الأمر. وهي مسألة نزاع، ولهذا تأولها من ذهب إلى القول الآخر. قال القاضي أبو يعلي: وهذا الأمر انصرف إلى الآباء؛ لأن عليهم الاسترضاع لا على الوالدات، بدليل قوله: { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } [20]، وقوله: { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [21]، فلو كان متحتمًا على الوالدة لم يكن عليه الأجرة.
فيقال: بل القرآن دل على أن للابن على الأم الفعل، وعلى الأب النفقة ولو لم يوجد غيرها تعين عليها، وهي تستحق الأجرة، والأجنبية تستحق الأجرة ولو لم يوجد غيرها.
وقوله تعالى: { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [22]، دليل على أنه يجوز أن يريد إتمام الرضاع ويجوز الفطام قبل ذلك إذا كان مصلحة، وقد بين ذلك بقوله تعالى: { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عليهِمَا } [23]، وذلك يدل على أنه لا يفصل إلا برضا الأبوين، فلو أراد أحدهما الإتمام والآخر الفصال قبل ذلك، كان الأمر لمن أراد الإتمام، لأنه قال تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } [24]، وقوله تعالى: { يُرْضِعْنَ } صيغة خبر، ومعناه: الأمر والتقدير، والوالدة مأمورة بإرضاعه حولين كاملين إذا أريد إتمام الرضاعة، فإذا أرادت الإتمام كانت مأمورة بذلك، وكان على الأب رزقها وكسوتها، وإن أراد الأب الإتمام كان له ذلك، فإنه لم يبح الفصال إلا بتراضيهما جميعا، يدل على ذلك قوله تعالى: { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ }، ولفظه { من } إما أن يقال: هو عام يتناول هذا وهذا ويدخل فيه الذكر والأنثي، فمن أراد الإتمام أرضعن له. وإما أن يقال: قوله تعالى: { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ }، إنما هو المولود له وهو المرضع له، فالأم تلد له وترضع له، كما قال تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } [25]. والأم كالأجير مع المستأجر، فإن أراد الأب الإتمام أرضعن له، وإن أراد ألا يتم فله ذلك وعلى هذا التقدير فمنطوق الآية أمرهن بإرضاعه عند إرادة الأب، ومفهومها أيضًا جواز الفصل بتراضيهما. يبقى إذا أرادت الأم دون الأب مسكوتا عنه، لكن مفهوم قوله تعالى: { عَن تَرَاضٍ } أنه لا يجوز، كما ذكر ذلك مجاهد وغيره، ولكن تناوله قوله تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [26]، فإنها إذا أرضعت تمام الحول فله أرضعت، وكفته بذلك مؤنة الطفل، فلولا رضاعها لاحتاج إلى أن يطعمه شيئا آخر.
ففي هذه الآية بين أن على الأم الإتمام إذا أراد الأب، وفي تلك بين أن على الأب الأجر إذا أبت المرأة، قال مجاهد: التشاور فيما دون الحولين: إن أرادت أن تفطم وأبي فليس لها، وإن أراد هو ولم ترد فليس له ذلك حتى يقع ذلك عن تراض منهما وتشاور، يقول: غير مسيئين إلى أنفسهما ولا رضيعهما.
وقوله تعالى: { إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ } [27]، قال: إذا أسلمتم أيها الآباء إلى أمهات الأولاد أجر ما أرضعن قبل امتناعهن، روي عن مجاهد والسدي وقيل: إذا أسلمتم إلى الظئر أجرها بالمعروف، روي عن سعيد بن جبير ومقاتل، وقرأ ابن كثير { أتيتم } بالقصر. وقوله تعالى: { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [28]، ولم يقل: وعلى الوالد كما قال: { وَالْوَالِدَاتُ } ؛ لأن المرأة هي التي تلده، وأما الأب فلم يلده، بل هو مولود له لكن إذا قرن بينهما قيل: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [29]. فأما مع الإفراد فليس في القرآن تسميته والدا، بل أبا. وفيه بيان أن الولد ولد للأب، لا للأم؛ ولهذا كان عليه نفقته حملا وأجرة رضاعه. وهذا يوافق قوله تعالى: { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ } [30]، فجعله موهوبا للأب. وجعل بيته بيته في قوله: { وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ } [31]، وإذا كان الأب هو المنفق عليه جنينا ورضيعا، والمرأة وعاء، فالولد زرع للأب قال تعالى: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } [32]، فالمرأة هي الأرض المزروعة، والزرع فيها للأب، وقد نهي النبي ﷺ أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره، يريد به النهي عن وطء الحبالى، فإن ماء الوطئ يزيد في الحمل كما يزيد الماء في الزرع، وفي الحديث الآخر الصحيح: (لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له، وكيف يستعبده وهو لا يحل له؟)، وإذا كان الولد للأب وهو زرعه كان هذا مطابقا لقوله ﷺ: (أنت ومالك لأبيك)، وقوله ﷺ: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه)، فقد حصل الولد من كسبه، كما دلت عليه هذه الآية؛ فإن الزرع الذي في الأرض كسب الزارع له الذي بذره وسقاه وأعطي أجرة الأرض، فإن الرجل أعطي المرأة مهرها، وهو أجر الوطء كما قال تعالى: { وَلَا جُنَاحَ عليكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [33]، وهو مطابق لقوله تعالى: { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } [34]، وقد فسر { مَا كَسَبَ } بالولد، فالأم هي الحرث وهي الأرض التي فيها زرع، والأب استأجرها بالمهر كما يستأجر الأرض، وأنفق على الزرع بإنفاقه لما كانت حاملا، ثم أنفق على الرضيع، كما ينفق المستأجر على الزرع والثمر إذا كان مستورا وإذا برز، فالزرع هو الولد، وهو من كسبه.
وهذا يدل على أن للأب أن يأخذ من ماله ما لا يضر به، كما جاءت به السنة، وأن ماله للأب مباح، وإن كان ملكا للابن، فهو مباح للأب أن يملكه وإلا بقي للابن، فإذا مات ولم يتملكه ورث من الابن. وللأب أيضًا أن يستخدم الولد ما لم يضر به. وفي هذا وجوب طاعة الأب على الابن إذا كان العمل مباحا لا يضر بالابن؛ فإنه لو استخدم عبده في معصية أو اعتدي عليه لم يجز فالابن أولي. ونفع الابن له إذا لم يأخذه الأب، بخلاف نفع المملوك فإنه لمالكه، كما أن ماله لو مات لمالكه لا لوارثه.
ودل ما ذكره على أنه لا يجوز للرجل أن يطأ حاملا من غيره، وأنه إذا وطئها كان كسقي الزرع يزيد فيه وينميه ويبقي له شركة في الولد، فيحرم عليه استعباد هذا الولد، فلو ملك أمة حاملا من غيره ووطئها حرم استعباد هذا الولد؛ لأنه سقاه، ولقوله ﷺ: (كيف يستعبده وهو لا يحل له؟). (وكيف يورثه) أي: يجعله موروثا منه (وهو لا يحل له؟) ومن ظن أن المراد: كيف يجعله وارثا، فقد غلط؛ لأن تلك المرأة كانت أمة للواطئ، والعبد لا يجعل وارثًا، إنما يجعل موروثًا. فأما إذا استبرئت المرأة علم أنه لا زرع هناك. ولو كانت بكرا أو عند من لا يطؤها ففيه نزاع. والأظهر جواز الوطء؛ لأنه لا زرع هناك، وظهور براءة الرحم هنا أقوي من براءتها من الاستبراء بحيضة؛ فإن الحامل قد يخرج منها من الدم مثل دم الحيض، وإن كان نادرا. وقد تنازع العلماء هل هو حيض أو لا؟ فالاستبراء ليس دليلا قاطعا على براءة الرحم، بل دليل ظاهر. والبكارة وكونها كانت مملوكة لصبي أو امرأة أدل على البراءة. وإن كان البائع صادقا أو أخبره أنه استبرأها حصل المقصود، واستبراء الصغيرة التي لم تحض والعجوز والآيسة في غاية البعد.
ولهذا اضطرب القائلون هل تستبرأ بشهر، أو شهر ونصف، أو شهرين، أو ثلاثة أشهر؟ وكلها أقوال ضعيفة. وابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يستبرئ البكر، ولا يعرف له مخالف من الصحابة، والنبي ﷺ لم يأمر بالاستبراء إلا في المسبيات، كما قال في سبايا أوطاس: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة)، لم يأمر كل من ورث أمة أو اشتراها أن يستبرئها مع وجود ذلك في زمنه، فعلم أنه أمر بالاستبراء عن الجهل بالحال، لإمكان أن تكون حاملا. وكذلك من ملكت وكان سيدها يطؤها ولم يستبرئها، لكن النبي ﷺ لم يذكر مثل هذا، إذ لم يكن المسلمون يفعلون مثل هذا، لا يرضي لنفسه أحد أن يبيع أمته الحامل منه، بل لا يبيعها إذا وطئها حتى يستبرئها، فلا يحتاج المشتري إلى استبراء ثان.
ولهذا لم ينه عن وطء الحبالى من السادات إذا ملكت ببيع أو هبة؛ لأن هذا لم يكن يقع، بل هذه دخلت في نهيه ﷺ: أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره.
وقوله تعالى: { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [35]، وقال تعالى في تلك الآية: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [36]، يدل على أن هذا الأجر هو رزقهن وكسوتهن بالمعروف إذا لم يكن بينهما مسمي ترجعان إليه. وأجرة المثل إنما تقدر بالمسمى إذا كان هناك مسمي يرجعان إليه، كما في البيع والإجارة لما كان السلعة هي أو مثلها بثمن مسمي وجب ثمن المثل إذا أخذت بغير اختياره، وكما قال النبي ﷺ: (من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق العبد). فهناك أقيم العبد؛ لأنه ومثله يباع في السوق، فتعرف القيمة التي هي السعر في ذلك الوقت، وكذلك الأجير والصانع كما نهي النبي ﷺ في الحديث الصحيح لعلي أن يعطي الجازر من البدن شيئا، وقال: (نحن نعطيه من عندنا). فإن الذبح وقسمة اللحم على المهدي، فعليه أجرة الجازر الذي فعل ذلك، وهو يستحق نظير ما يستحقه مثله إذا عمل ذلك؛ لأن الجزارة معروفة، ولها عادة معروفة. وكذلك سائر الصناعات كالحياكة، والخياطة، والبناء وقد كان من الناس من يخيط بالأجرة على عهده فيستحق هذا الخياط ما يستحقه نظراؤه، وكذلك أجير الخدمة يستحق ما يستحقه نظيره؛ لأن ذلك عادة معروفة عند الناس.
وأما الأم المرضعة فهي نظير سائر الأمهات المرضعات بعد الطلاق وليس لهن عادة مقدرة إلا اعتبار حال الرضاع بما ذكر، وهي إذا كانت حاملا منه وهي مطلقة استحقت نفقتها وكسوتها بالمعروف، وهي في الحقيقة نفقة على الحمل. وهذا أظهر قولي العلماء، كما قال تعالى: { وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عليهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [37].
وللعلماء هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أن هذه النفقة نفقة زوجة معتدة، ولا فرق بين أن تكون حاملا أو حائلا. وهذا قول من يوجب النفقة للبائن كما يوجبها للرجعية، كقول طائفة من السلف والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره، ويروي عن عمر وابن مسعود، ولكن على هذا القول ليس لكونها حاملا تأثير فإنهم ينفقون عليها حتى تنقضي العدة، سواء كانت حاملا أو حائلا.
القول الثاني: أنه ينفق عليها نفقة زوجة، لأجل الحمل كأحد قولي الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد وهذا قول متناقض؛ فإنه إن كان نفقة زوجة فقد وجب لكونها زوجة، لا لأجل الولد. وإن كان لأجل الولد فنفقة الولد تجب مع غير الزوجة، كما يجب عليه أن ينفق على سريته الحامل إذا أعتقها. وهؤلاء يقولون: هل وجبت النفقة للحمل أولها من أجل الحمل؟ على قولين. فإن أرادوا لها من أجل الحمل، أي: لهذه الحامل من أجل حملها فلا فرق. وإن أرادو وهو مرادهم أنه يجب لها نفقة زوجة من أجل الحمل، فهذا تناقض، فإن نفقة الزوجة تجب وإن لم يكن حمل. ونفقة الحمل تجب وإن لم تكن زوجة.
والقول الثالث وهو الصحيح: أن النفقة تجب للحمل، ولها من أجل الحمل؛ لكونها حاملا بولده، فهي نفقة عليه؛ لكونه أباه، لا عليها لكونها زوجة. وهذا قول مالك، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، والقرآن يدل على هذا، فإنه قال تعالى: { وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عليهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [38]، ثم قال تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [39]، وقال هنا: { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [40]، فجعل أجر الإرضاع على من وجبت عليه نفقة الحامل، ومعلوم أن أجر الإرضاع يجب على الأب لكونه أبا، فكذلك نفقة الحامل؛ ولأن نفقة الحامل ورزقها وكسوتها بالمعروف، وقد جعل أجر المرضعة كذلك؛ ولأنه قال: { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } [41]، أي وارث الطفل، فأوجب عليه ما يجب على الأب، وهذا كله يبين أن نفقة الحمل والرضاع من باب نفقة الأب على ابنه، لا من باب نفقة الزوج على زوجته.
وعلى هذا، فلو لم تكن زوجة بل كانت حاملا بوطء شبهة يلحقه نسبه أو كانت حاملا منه وقد أعتقها وجب عليه نفقة الحمل، ؛ كما يجب عليه نفقة الإرضاع، ولو كان الحمل لغيره، كمن وطئ أمة غيره. بنكاح أو شبهة أو إرث فالولد هنا لسيد الأمة، فليس على الواطئ شيء وإن كان زوجا، ولو تزوج عبد حرة فحملت منه فالنسب ها هنا لاحق، لكن الولد حر. والولد الحر لا تجب نفقته على أبيه العبد، ولا أجرة رضاعه، فإن العبد ليس له مال ينفق منه على ولده، وسيده لا حق له في ولده، فإن ولده إما حر، وإما مملوك لسيد الأمة. نعم، لو كانت الحامل أمة والولد حر مثل المغرور الذي اشترى أمة فظهر أنها مستحقة لغير البائع، أو تزوج حرة فظهر أنها أمة، فهنا الولد حر، وإن كانت أمة مملوكة لغير الواطئ، لأنه إنما وطئ من يعتقدها مملوكة له أو زوجة حرة، وبهذا قضت الصحابة لسيد الأمة بشراء الولد وهو نظيره فهنا الآن ينفق على الحامل كما ينفق على المرضعة له. والله سبحانه وتعالى أعلم.
سئل عن رجل كان له زوجة وطلقها ثلاثا وله منها بنت ترضع وقد ألزموه بنفقة العدة
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل كان له زوجة، وطلقها ثلاثا، وله منها بنت ترضع، وقد ألزموه بنفقة العدة: فكم تكون مدة العدة التي لا تحيض فيها لأجل الرضاعة.
فأجاب:
الحمد لله، أما جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد، فعندهم لا نفقة للمعتدة البائن المطلقة ثلاثا. وأما أبو حنيفة فيوجب لها النفقة مادامت في العدة. وإذا كانت ممن تحيض فلاتزال في العدة حتى تحيض ثلاث حيض. والمرضع يتأخر حيضها في الغالب. وأما أجر الرضاع فلها ذلك باتفاق العلماء، كما قال تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [42]، ولا تجب النفقة إلا على الموسر، فأما المعسر فلا نفقة عليه.
سئل عن امرأة مزوجة محتاجة فهل تكون نفقتها واجبة على زوجها أو من صداقها
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة مزوجة محتاجة، فهل تكون نفقتها واجبة على زوجها، أو من صداقها؟
فأجاب:
المزوجة المحتاجة نفقتها على زوجها واجبة من غير صداقها، وأما صداقها المؤخر فيجوز أن تطالبه، وإن أعطاها فحسن، وإن امتنع لم يجبر حتى يقع بينهما فرقة بموت، أو طلاق، أو نحوه، والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج بامرأة ما ينتفع بها ولا تطاوعه في أمر وتطلب منه نفقة وكسوة وقد ضيقت عليه أموره
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل تزوج بامرأة ما ينتفع بها، ولا تطاوعه في أمر، وتطلب منه نفقة وكسوة، وقد ضيقت عليه أموره: فهل تستحق عليه نفقة، وكسوة؟
فأجاب:
إذا لم تمكنه من نفسها، أو خرجت من داره بغير إذنه، فلا نفقة لها ولا كسوة، وكذلك إذا طلب منها أن تسافر معه فلم تفعل فلا نفقة لها ولا كسوة، فحيث كانت ناشزا، عاصية له فيما يجب له عليها طاعته، لم يجب لها نفقة ولا كسوة.
سئل عن المرأة والرجل إذا تحاكما في النفقة والكسوة
وسئل شيخ الإسلام رَحمه الله عن المرأة والرجل إذا تحاكما في النفقة والكسوة، هل القول قولها، أم قول الرجل؟ وهل للحاكم تقدير النفقة والكسوة بشيء معين؟ والمسؤول: بيان حكم هاتين المسألتين بدلائلهما.
فأجاب:
الحمد لله، إذا كانت المرأة مقيمة في بيت زوجها مدة تأكل وتشرب وتكتسي كما جرت به العادة، ثم تنازع الزوجان في ذلك فقالت هي: أنت ما أنفقت على ولا كسوتني، بل حصل ذلك من غيرك، وقال هو: بل النفقة والكسوة كانت مني، ففيها قولان للعلماء:
أحدهما: القول قوله، وهذا هو الصحيح الذي عليه الأكثرون ونظير هذا أن يصدقها تعلم صناعة وتتعلمها ثم يتنازعا فيمن علمها، فيقول هو: أنا علمتها وتقول هي: أنا تعلمتها من غيره، ففيها وجهان في مذهب الشافعي وأحمد، والصحيح من هذا كله أن القول قول من يشهد له العرف والعادة، وهو مذهب مالك. وأبو حنيفة يوافق على أنها لا تستحق عليها شيء ا؛ لأن النفقة تسقط بمضي الزمان عنده، كنفقة الأقارب، وهو قول في مذهب أحمد. وأصحاب هذا القول يقولون: وجبت على طريقة الصلة فتسقط بمضي الزمان، والجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه يقولون: وجبت بطريق المعارضة، فلا تسقط بمضي الزمان.
ولكن إذا تنازعا في قبضها فقال بعض أصحاب الشافعي وأحمد: القول قول المرأة؛ لأن الأصل عدم المقبوض، كما لو تنازعا في قبض الصداق والصواب أنه يرجع في ذلك إلى العرف والعادة، فإذا كانت العادة أن الرجل ينفق على المرأة في بيته ويكسوها وادعت أنه لم يفعل ذلك فالقول قوله مع يمينه، وهذا القول هو الصواب الذي لا يسوغ غيره لأوجه:
أحدها: أن الصحابة والتابعين على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه الراشدين لم يعلم منهم امرأة قبل قولها في ذلك، ولو كان قول المرأة مقبولا في ذلك، لكانت الهمم متوفرة على دعوي النساء، وذلك كما هو الواقع، فعلم أنه كان مستقرا بينهم، أنه لا يقبل قولها.
الثاني: أنه لو كان القول قولها لم يقبل قول الرجل إلا ببينة، فكان يحتاج إلى الإشهاد عليها كلما أطعمها وكساها، وكان تركه ذلك تفريطا منه إذا ترك الإشهاد على الدين المؤجل، ومعلوم أن هذا لم يفعله مسلم على عهد السلف.
الثالث: أن الإشهاد في هذا متعذر أو متعسر فلا يحتاج إليه، كالإشهاد على الوطء، فإنهما لو تنازعا في الوطء وهي ثيب لم يقبل مجرد قولها في عدم الوطء عند الجمهور، مع أن الأصل عدمه، بل إما أن يكون القول قول الرجل، أو يؤمر بإخراج المني، أو يجامعها في مكان وقريب منهما من يعلم ذلك بعد انقضاء الوطء. على ما للعلماء في ذلك من النزاع، فهنا دعواها وافقت الأصل، ولم تقبل لتعذر إقامة البينة على ذلك. والإنفاق في البيوت بهذه المثابة، ولا يكلف الناس الإشهاد على إعطاء النفقة، فإن هذا بدعة في الدين، وحرج على المسلمين، واتباع لغير سبيل المؤمنين.
الرابع: أن العلماء متنازعون: هل يجب تمليك النفقة؟ على قولين. والأظهر أنه لا يجب، ولا يجب أن يفرض لها شيء ا، بل يطعمها ويكسوها بالمعروف. وهذا القول هو الذي دلت عليه سنة رسول الله ﷺ حيث قال في النساء: (لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، كما في المملوك، (وكسوته بالمعروف) وقال: (حقها أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت) كما قال في المماليك: (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس). هذه عادة المسلمين على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه لا يعلم قط أن رجلا فرض لزوجته نفقة، بل يطعمها ويكسوها.
وإذا كان كذلك كان له ولاية الإنفاق عليها، كما له ولاية الإنفاق على رقيقه وبهائمه، وقد قال الله تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء } [43]، وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله: { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } [44]، وقال عمر ابن الخطاب: النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته. ويدل على ذلك قول النبي ﷺ: (اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، وإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، فقد أخبر أن المرأة عانية عند الرجل، والعاني الأسير وأن الرجل أخذها بأمانة الله، فهو مؤتمن عليها، ولهذا أباح الله للرجل بنص القرآن أن يضربها، وإنما يؤدب غيره من له عليه ولاية، فإذا كان الزوج مؤتمنا عليها، وله عليها ولاية، كان القول قوله فيما اؤتمن عليه وولي عليه، كما يقبل قول الولي في الإنفاق على اليتيم، وكما يقبل قول الوكيل والشريك والمضارب والمساقي والمزارع فيما أنفقه على مال الشركة. وإن كان في ذلك معني المعاوضة. وعقد النكاح من جنس المشاركة والمعاوضة، والرجل مؤتمن فيه فقبول قوله في ذلك أولى من قبول قول أحد الشريكين.
وكذلك لو أخذت المرأة نفقتها من ماله بالمعروف، وادعت أنه لم يعطها نفقة قبل قولها مع يمينها في هذه الصورة، لأن الشارع سلطها على ذلك، كما قال النبي ﷺ لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) لما قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
وكذلك لو كان الزوج مسافرا عنها مدة وهي مقيمة في بيت أبيها وادعت أنه لم يترك لها نفقة، ولا أرسل إليها بنفقة، فالقول قولها مع يمينها وأمثال ذلك. فلابد من التفصيل في الماضي مطلقًا في هذا الباب. وهذه المعاني من تدبرها تبين له سر هذه المسألة، فإن قبول قول النساء في عدم النفقة في الماضي فيه من الضرر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، وهو يؤول إلى أن المرأة تقيم مع الزوج خمسين سنة، ثم تدعي نفقة خمسين سنة وكسوتها، وتدعي أن زوجها مع يساره وفقرها لم يطعمها في هذه المدة شيء ا، وهذا مما يتبين الناس كذبها فيه قطعا، وشريعة الإسلام منزهة عن أن يحكم فيها بالكذب والبهتان، والظلم والعدوان.
الوجه الخامس: أن الأصل المستقر في الشريعة أن اليمين مشروعة في جنبة أقوي المتداعيين، سواء ترجح ذلك بالبراءة الأصلية، أو اليد الحسية، أو العادة العملية؛ ولهذا إذا ترجح جانب المدعي كانت اليمين مشروعة في حقه عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد، كالأيمان في القسامة، وكما لو أقام شاهدا عدلا في الأموال فإنه يحكم له بشاهد ويمين، والنبي ﷺ جعل اليمين على المدعي عليه إذا لم يكن مع المدعي حجة ترجح جانبه؛ ولهذا قال جمهور العلماء في الزوجين إذا تنازعا في متاع البيت فإنه يحكم لكل منهما بما جرت العادة باستعماله إياه، فيحكم للمرأة بمتاع النساء وللرجل بمتاع الرجال، وإن كانت اليد الحسية منها ثابتة على هذا وهذا؛ لأنه يعلم بالعادة أن كلا منهما يتصرف في متاع جنسه. وهنا العادة جارية بأن الرجل ينفق على امرأته ويكسوها فإن لم يعلم لها جهة تنفق منها على نفسها أجري الأمر على العادة.
الوجه السادس: أن هذه المرأة لابد أن تكون أكلت واكتست في الزمان الماضي، وذلك إما أن يكون من الزوج، وإما أن يكون من غيره. والأصل عدم غيره، فيكون منه، كما قلنا في أصح الوجهين: إن القول قوله في أنه علمها الصناعة والقراءة التي أصدقها تعليمها؛ لأن الحكم الحادث يضاف إلى السبب المعلوم، كما لو سقط في الماء نجاسة فرئي متغيرا بعد ذلك، وشك هل تغير بالنجاسة أو غيرها؟ فأصح الوجهين أنه يضاف التغير إلى النجاسة. ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ أفتى عدي بن حاتم فيما إذا رمي الصيد وغاب عنه ولم يجد فيه أثرا غير سهمه أنه يأكله؛ لأن الأصل عدم سبب آخر زهقت به نفسه، بخلاف ما إذا تردي في ماء، أو خالط كلبه كلاب أخرى، فإن تلك لأس
باب شاركت في الزهوق، وبسط هذه المسائل له موضع آخر غير هذا.
فصل تقدير الحاكم النفقة والكسوة
وأما تقدير الحاكم النفقة والكسوة، فهذا يكون عند التنازع فيها كما يقدر مهر المثل إذا تنازعا فيه، وكما يقدر مقدار الوطء إذا ادعت المرأة أنه يضربها، فإن الحقوق التي لا يعلم مقدارها إلا بالمعروف متى تنازع فيها الخصمان قدرها ولي الأمر. وأما الرجل إذا كان ينفق على امرأته بالمعروف كما جرت عادة مثله لمثلها، فهذا يكفي، ولا يحتاج إلى تقدير الحاكم. ولو طلبت المرأة أن يفرض لها نفقة يسلمها إليها مع العلم بأنه ينفق عليها بالمعروف فالصحيح من قولي العلماء في هذه الصورة أنه لا يفرض لها نفقة، ولا يجب تمليكها ذلك، كما تقدم، فإن هذا هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار المبني على العدل. والصواب المقطوع به عند جمهور العلماء أن نفقة الزوجة مرجعها إلى العرف، وليست مقدرة بالشرع، بل تختلف باختلاف أحوال البلاد والأزمنة وحال الزوجين وعادتهما، فإن الله تعالى قال: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [45]، وقال النبي ﷺ: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، وقال: (لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف).
في قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء
وقال شيخ الإسلام رَحمه الله:
في قول الله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } إلى قوله: { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عليهنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عليهنَّ دَرَجَةٌ } إلى قوله تعالى: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [46] فجعل المباح أحد أمرين: إمساك بمعروف. أو تسريح بإحسان. وأخبر أن الرجال ليسوا أحق بالرد إلا إذا أرادوا إصلاحا، وجعل لهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وقال تعالى: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [47]، وقال تعالى في الآية الأخرى: { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [48]، وقال تعالى: { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ } [49]، وقوله هنا: { بِالْمَعْرُوفِ }، يدل على أن المرأة لو رضيت بغير المعروف لكان للأولياء العضل، والمعروف تزويج الكفء. وقد يستدل به من يقول: مهر مثلها من المعروف؛ فإن المعروف هو الذي يعرفه أولئك. وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } إلى قوله: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [50]، فقد ذكر أن التراضي بالمعروف، والإمساك بالمعروف، والتسريح بالمعروف، والمعاشرة بالمعروف، وأن لهن وعليهن بالمعروف كما قال: (لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، فهذا المذكور في القرآن هو الواجب العدل في جميع ما يتعلق بالنكاح من أمور النكاح وحقوق الزوجين، فكما أن ما يجب للمرأة عليه من الرزق والكسوة هو بالمعروف، وهو العرف الذي يعرفه الناس في حالهما نوعا وقدرا وصفة، وإن كان ذلك يتنوع بتنوع حالهما من اليسار والإعسار، والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار، والمكان فيضعها في كل بلد مما هو عادة أهل البلد وهو العرف بينهم. وكذلك ما يجب لها عليه من المتعة والعشرة، فعليه أن يبيت عندها، ويطأها بالمعروف، ويختلف ذلك باختلاف حالها وحاله. وهذا أصح القولين في الوطء الواجب أنه مقدر بالمعروف، لا بتقدير من الشرع، قررته في غير هذا الموضع.
والمثال المشهور هو النفقة فإنها مقدرة بالمعروف تتنوع بتنوع حال الزوجين عند جمهور المسلمين. ومنهم من قال: هي مقدرة بالشرع نوعا وقدرا: مدا من حنطة، أو مدا ونصفًا، أو مدين، قياسا على الإطعام الواجب في الكفارة على أصل القياس.
والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علما وعملا قديما وحديثا، فإن القرآن قد دل على ذلك، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لهند امرأة أبي سفيان لما قالت له يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال النبي ﷺ: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فأمرها أن تأخذ الكفاية بالمعروف، ولم يقدر لها نوعا ولا قدرا، ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبين لها القدر والنوع، كما بين فرائض الزكاة والديات. وفي صحيح مسلم عن جابر أن النبي ﷺ قال في خطبته العظيمة بعرفات: (لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف).
وإذا كان الواجب هو الكفاية بالمعروف فمعلوم أن الكفاية بالمعروف تتنوع بحالة الزوجة في حاجتها، ويتنوع الزمان والمكان، ويتنوع حال الزوج في يساره وإعساره، وليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة، ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف، ولا كفاية طعامه كطعامه، ولا طعام البلاد الحارة كالباردة، ولا المعروف في بلاد التمر والشعير، كالمعروف في بلاد الفاكهة والخمير. وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه عن حكيم بن معاوية النميري عن أبيه أنه قال: قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت).
فهذه ثلاثة أحاديث عن النبي ﷺ: أن للزوجة مرة أن تأخذ كفاية ولدها بالمعروف، وقال في الخطبة التي خطبها يوم أكمل الله الدين في أكبر مجمع كان له في الإسلام: (لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، وقال للسائل المستفتي له عن حق الزوجة: (تطعمها إذا أكلت، وتكسوها إذا اكتسيت)، لم يأمر في شيء من ذلك بقدر معين، لكن قيد ذلك بالمعروف تارة، وبالمواساة بالزوج أخرى.
وهكذا قال في نفقة المماليك، ففي الصحيحين عن أبي ذر عن النبي ﷺ قال: (هم إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كفلتموهم فأعينوهم)، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ، قال: (للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق).
ففي الزوجة والمملوك أمره واحد: تارة يذكر أنه يجب الرزق والكسوة بالمعروف، وتارة يأمر بمواساتهم بالنفس، فمن العلماء من جعل المعروف هو الواجب، والمواساة مستحبة. وقد يقال: أحدهما تفسير للآخر، وعلى هذا فالواجب هو الرزق والكسوة بالمعروف في النوع، والقدر، وصفة الإنفاق، وإن كان العلماء قد تنازعوا في ذلك.
أما النوع فلا يتعين أن يعطيها مكيلا كالبر، ولا موزونًا كالخبز، ولا ثمن ذلك كالدراهم، بل يرجع في ذلك إلى العرف، فإذا أعطاها كفايتها بالمعروف مثل أن يكون عادتهم أكل التمر والشعير فيعطيها ذلك.
أو يكون أكل الخبز والإدام فيعطيها ذلك. وإن كانت عادتهم أن يعطيها حبا فتطحنه في البيت فعل ذلك، وإن كان يطحن في الطاحون ويخبز في البيت فعل ذلك. وإن كان يخبز في البيت فعل ذلك. وإن كان يشتري خبزا من السوق فعل ذلك. وكذلك الطبيخ ونحوه فعلى ما هو المعروف، فلا يتعين عليه دراهم، ولا حبات أصلا، لا بشرع، ولا بفرض، فإن تعين ذلك دائما من المنكر ليس من المعروف، وهو مضر به تارة وبها أخرى.
وكذلك القدر لا يتعين مقدار مطرد، بل تتنوع المقادير بتنوع الأوقات.
وأما الإنفاق فقد قيل: إن الواجب تمليكها النفقة، والكسوة. وقيل: لا يجب التمليك، وهو الصواب؛ فإن ذلك ليس هو المعروف، بل عُرْفُ النبي ﷺ والمسلمين إلى يومنا هذا أن الرجل يأتي بالطعام إلى منزله، فيأكل هو وامرأته ومملوكه: تارة جميعا، وتارة أفرادا. ويفضل منه فضل تارة فيدخرونه، ولا يعرف المسلمون أنه يملكها كل يوم دراهم تتصرف فيها تصرف المالك، بل من عاشر امرأة بمثل هذا الفرض كانا عند المسلمين قد تعاشرا بغير المعروف وتضارا في العشرة، وإنما يفعل أحدهما ذلك بصاحبه عند الضرر، لا عند العشرة بالمعروف.
وأيضا، فإن النبي ﷺ أوجب في الزوجة مثل ما أوجب في المملوك. تارة قال: (لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، كما قال في المملوك. وتارة قال: (تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت) كما قال في المملوك. وقد اتفق المسلمون على أنه لا يجب تمليك المملوك نفقته، فعلم أن هذا الكلام لا يقتضي إيجاب التمليك. وإذا تنازع الزوجان فمتى اعترفت الزوجة أنه يطعمها إذا أكل ويكسوها إذا اكتسي وذلك هو المعروف لمثلها في بلدها فلا حق لها سوي ذلك. وإن أنكرت ذلك، أمره الحاكم أن ينفق بالمعروف، بل ولا له أن يأمر بدراهم مقدرة مطلقا، أو حب مقدر مطلقا، لكن يذكر المعروف الذي يليق بهما.
فصل قسم الابتداء والوطء والعشرة والمتعة واجبان
وكذلك قسم الابتداء والوطء والعشرة والمتعة واجبان، كما قد قررناه بأكثر من عشرة أدلة، ومن شك في وجوب ذلك فقد أبعد تأمل الأدلة الشرعية والسياسة الإنسانية. ثم الواجب قيل: مبيت ليلة من أربع ليال، والوطء في كل أربعة أشهر مرة، كما ثبت في المولي والمتزوج أربعا. وقيل: إن الواجب وطؤها بالمعروف، فيقل ويكثر بحسب حاجتها وقدرته، كالقوت سواء.
فصل وكذلك ما عليها من موافقته في المسكن وعشرته ومطاوعته في المتعة
وكذلك ما عليها من موافقته في المسكن وعشرته ومطاوعته في المتعة، فإن ذلك واجب عليها بالاتفاق. عليها أن تسكن معه في أي بلد أو دار إذا كان ذلك بالمعروف ولم تشترط خلافه، وعليها ألا تفارق ذلك بغير أمره إلا لموجب شرعي، فلا تنتقل، ولا تسافر، ولا تخرج من منزله لغير حاجة إلا بإذنه، كما قال النبي ﷺ: (فإنهن عوان عندكم) بمنزلة العبد والأسير، وعليها تمكينه من الاستمتاع بها إذا طلب ذلك، وذلك كله بالمعروف غير المنكر، فليس له أن يستمتع استمتاعا يضر بها ولا يسكنها مسكنا يضر بها، ولا يحبسها حبسا يضر بها.
فصل وتنازع العلماء هل عليها أن تخدمه في مثل فراش المنزل ومناولة الطعام والشراب والخبز
وتنازع العلماء: هل عليها أن تخدمه في مثل فراش المنزل، ومناولة الطعام والشراب والخبز، والطحن، والطعام لمماليكه، وبهائمه: مثل علف دابته ونحو ذلك؟ فمنهم من قال: لا تجب الخدمة. وهذا القول ضعيف، كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء؛ فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف، بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإنسان وصاحبه في المسكن إن لم يعاونه على مصلحة لم يكن قد عاشره بالمعروف. وقيل وهو الصواب وجوب الخدمة، فإن الزوج سيدها في كتاب الله، وهي عانية عنده بسنة رسول الله ﷺ، وعلى العاني والعبد الخدمة؛ ولأن ذلك هو المعروف. ثم من هؤلاء من قال: تجب الخدمة اليسيرة، ومنهم من قال: تجب الخدمة بالمعروف، وهذا هو الصواب، فعليها أن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة.
فصل المعروف فيما له ولها هو موجب العقد المطلق
والمعروف فيما له ولها هو موجب العقد المطلق، فإن العقد المطلق يرجع في موجبه إلى العرف، كما يوجب العقد المطلق في البيع النقد المعروف فإن شرط أحدهما على صاحبه شرطا لا يحرم حلالا ولا يحلل حراما فالمسلمون عند شروطهم؛ فإن موجبات العقود تتلقي من اللفظ تارة. ومن العرف تارة أخرى، لكن كلاهما مقيد بما لم يحرمه الله ورسوله، فإن لكل من العاقدين أن يوجب للآخر على نفسه ما لم يمنعه الله من إيجابه، ولا يمنعه أن يوجب في المعاوضة ما يباح بذله بلا عوض، كعارية البضع، والولاء لغير المعتق، فلا سبيل إلى أن يجب بالشرط، فإنه إذا حرم بذله كيف يجب بالشرط؟ ! فهذه أصول جامعة مع اختصار، والله أعلم.
سئل عن رجل متزوج بامرأة وسافر عنها سنة كاملة ولم يترك عندها شيئا
وسئل عن رجل متزوج بامرأة، وسافر عنها سنة كاملة، ولم يترك عندها شيء ا، ولا لها شيء تنفقه عليها، وهلكت من الجوع، فحضر من يخطبها ودخل بها، وحملت منه، فعلم الحاكم أن الزوج الأول موجود ففرق بينهما ووضعت الحمل من الزوج الثاني، والزوج الثاني ينفق عليها إلى أن صار عمر المولود أربع سنين، ولم يحضر الزوج الأول، ولا عرف له مكان: فهل لها أن تراجع الزوج الثاني، أو تنتظر الأول؟
فأجاب:
إذا تعذرت النفقة من جهته فلها فسخ النكاح، فإذا انقضت عدتها تزوجت بغيره. والفسخ للحاكم، فإذا فسخت هي نفسها لتعذر فسخ الحاكم أو غيره، ففيه نزاع. وأما إذا لم يفسخ الحاكم بل شهد لها أنه قد مات، وتزوجت لأجل ذلك، ولم يمت الزوج، فالنكاح باطل، لكن إذا اعتقد الزوج الثاني أنه صحيح لظنه موت الزوج الأول وانفساخ النكاح أو نحو ذلك، فإنه يلحق به النسب، وعليه المهر، ولا حد عليه، لكن تعتد له حتى تنقضي عدتها منه، ثم بعد ذلك ينفسخ نكاح الأول إن أمكن، وتتزوج بمن شاءت.
سئل عن رجل زوج ابنته لرجل وأراد الزوج السفر إلى بلاده فقال له وكيل الأب في قبول النكاح
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل زوج ابنته لرجل، وأراد الزوج السفر إلى بلاده، فقال له وكيل الأب في قبول النكاح: لا تسافر إما أن تعطي الحال من الصداق وتنتقل بالزوجة، أو ترضي الأب، فسافر ولم يجب إلى ذلك، وهو غائب عن الزوجة المذكورة مدة سنة، ولم يصل منه نفقة: فهل لوالد الزوجة أن يطلب فسخ النكاح؟
فأجاب:
نعم، إذا عرضت المرأة عليه فبذل له تسليمها، وهي ممن يوطأ مثلها وجب عليه النفقة بذلك، فإذا تعذرت النفقة من جهته كان للزوجة المطالبة بالفسخ، إذا كان محجورا عليها على وجهين.
سئل عن رجل تبرع وفرض لأمه على نفسه وهي صحيحة عاقلة في كل يوم درهمين وأذن لها أن تستدين وتنفق عليها وترجع عليه
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل تبرع وفرض لأمه على نفسه وهي صحيحة عاقلة في كل يوم درهمين، وأذن لها أن تستدين وتنفق عليها وترجع عليه، وبقيت مقيمة عنده مدة ولم تستدن لها نفقة، ثم توفيت ولم تترك عليها دينا، وخلفت من الورثة ابنها هذا، وبنتين. ثم توفي ابنها بعدها: فهل يصير ما فرض على نفسه دينا في ذمته يؤخذ من تركته، ويقسم على ورثتها، أم لا؟ وهل إذا حكم حاكم مع قولكم النفقة تسقط بمضي المدة: هل ينفذ حكمه، أم لا؟ وهل يجب استرجاع ما أخذ ورثتها من تركة ولدها بهذا الوجه، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، ليس ذاك دينا لها في ذمته، ولا يقضي من تركته ولا يستحق ورثتها، وما علمت أن أحدا من العلماء قال: إن نفقة القريب تثبت في الذمة لما مضي من الزمان، إلا إذا كان قد استدان عليه النفقة بإذن حاكم، أو أنفق بغير إذن حاكم غير متبرع، وطلب الرجوع بما أنفق، فهذا في رجوعه خلاف. فأما استقرارها في الذمة بمجرد الفرض إما بإنفاق متبرع، أو بكسبه، كما يقال مثله في نفقة الزوجة فما علمت له قائلا، فإذا كان الحكم مخالفًا للإجماع لم يلزم بحكم حاكم، ولمن أخذ منه المال بغير حق أن يرجع بما أخذه. ومذهب أبي حنيفة تسقط بمضي الزمان، وإن قضى بها القاضي، إلا أن يأذن القاضي في الاستدانة؛ لأن للقاضي ولاية عامة، فصار كإذن الغائب. وذكر بعضهم في قضاء القاضي هل يصير به دينا؟ روايتين، لكن حملوا رواية الوجوب على ما إذا أمر بالاستدانة، الإنفاق عليهم، ويرجع بذلك. وكذا إذا كان الزوج موسرا وتمرد وامتنع عن الإنفاق فطلبت المرأة أن يأمرها بالاستدانة فأمرها القاضي بذلك وترجع عليه؛ لأن أمر القاضي كأمره، ولو قضي القاضي لها بالنفقة فأمرها بالاستدانة على الزوج؛ لئلا يبطل حقها في النفقة بموت أحدهما؛ لأن النفقة تسقط بموت أحدهما، فكانت فائدة الأمر بالاستدانة لتأكيد حقها في النفقة؛ لأن القاضي مأمور بإيصال الحق إلى المستحق، وهذه طريقة. لكن لو أمر القريب بالاستدانة ولم يستدن، بل استغنى بنفقة متبرع، أو بكسب له، فقد فهم القاضي شمس الدين أن النفقة تستقر في الذمة بهذه الصورة لإطلاقهم الأمر بالاستدانة من غير اشتراط وجود الاستدانة وغيره. إنما فهم أن الاستدانة لأجل وجود الاستدانة. وأما الإذن في الاستدانة من غير وجودها لا يصير المأذون فيه دينا حتى يستدان.
سئل عن امرأة توفيت وخلفت من الورثة ولدا ذكرا وقد ادعي على أبيه بالصداق والكسوة
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة توفيت، وخلفت من الورثة ولدا ذكرا، وقد ادعي على أبيه بالصداق والكسوة: فهل يلزم الزوج الكسوة الماضية قبل موتها والابن محتاج.
فأجاب:
إذا كان الأمر على ما ذكر فعلى الأب أن يوفيه ما يستحقه، بل لو لم يكن للابن ميراث، وكان محتاجا عاجزا عن الكسوة، فعلى الأب إذا كان موسرا أن ينفق عليه، وعلى زوجته وأولاده الصغار المحتاجين والعاجزين عن الكسب.
سئل عن رجل تزوج بامرأة ودخل بها وهو مستمر النفقة وهي ناشز ثم إن ولدها أخذها وسافر من غير إذن الزوج فماذا يجب عليهما
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج بامرأة ودخل بها، وهو مستمر النفقة، وهي ناشز، ثم إن ولدها أخذها وسافر من غير إذن الزوج، فماذا يجب عليهما؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا سافر بها بغير إذن الزوج، فإنه يعزر على ذلك وتعزر الزوجة إذا كان التخلف يمكنها، ولا نفقة لها من حين سافرت. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج عند قوم مدة سنة ثم جري بينهم كلام فادعوا عليه بكسوة سنة فأخذوها منه ثم ادعوا عليه بالنفقة
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل تزوج عند قوم مدة سنة، ثم جري بينهم كلام، فادعوا عليه بكسوة سنة، فأخذوها منه، ثم ادعوا عليه بالنفقة، وقالوا: هي تحت الحجر، وما أذنا لك أن تنفق عليها: فهل يجوز ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا كان الزوج تسلمها التسليم الشرعي وهو أو أبوه أو نحوهما، يطعمها كما جرت به العادة، لم يكن للأب ولا لها أن تدعي بالنفقة، فإن هذا هو الإنفاق بالمعروف الذي كان على عهد رسول الله ﷺ وأصحابه وسائر المسلمين في كل عصر ومصر، وكذلك نص على ذلك أئمة العلماء، بل من كلف الزوج أن يسلم إلى أبيها دراهم ليشتري لها بها ما يطعمها في كل يوم فقد خرج عن سنة رسول الله ﷺ والمسلمين، وإن كان هذا قد قاله بعض الناس، فكيف إذا كان قد أنفق عليها بإقرار الأب لها بذلك، وتسليمها إليهم، مع أنه لابد لها من الأكل، ثم أراد أن يطلب النفقة، ولا يعتد بما أنفقوا عليها، فإن هذا باطل في الشريعة لا تحتمله أصلا. ومن توهم ذلك معتقدا أن النفقة حق لها كالدين، فلابد أن يقبضه الولي، وهو لم يأذن فيه، كان مخطئا من وجوه:
منها: أن المقصود بالنفقة إطعامها، لاحفظ المال لها. الثاني: أن قبض الولي لها ليس فيه فائدة. الثالث: أن ذلك لا يحتاج إلى إذنه فإنه واجب لها بالشرع، والشارع أوجب الإنفاق عليها، فلو نهي الولي عن ذلك لم يلتفت إليه. الرابع: إقرار لها مع حاجته إلى النفقة إذن عرفي ولا يقال: إنه لم يأمن الزوج على النفقة، لوجهين: أحدهما أن الائتمان بها حصل بالشرع، كما اؤتمن الزوج على بدنها، والقسم لها، وغير ذلك من حقوقها، فإن الرجال قوامون على النساء، والنساء عوان عند الرجال، كما دل على ذلك الكتاب والسنة. الثاني: أن الائتمان العرفي كاللفظي. والله أعلم.
سئل عن رجل حبسته زوجته على كسوتها وصداقها وبقي مدة فهل لها أن تطالبه بنفقتها مدة إقامته في حبسها أم لا
وسئل رَحمه الله عن رجل حبسته زوجته على كسوتها وصداقها، وبقي مدة، فهل لها أن تطالبه بنفقتها مدة إقامته في حبسها، أم لا؟
فأجاب:
إن كان معسرا فحبسته كانت ظالمة له، مانعة له من التمكن منها، فلا تستحق عليه في تلك المدة نفقة. وإن كان لها حق واجب حال، وهو قادر على أدائه فمنعه بعد الطلب الشرعي كان ظالما، فإذا كانت مع هذا باذلة ما يجب عليها وجبت لها النفقة.
سئل عن رجل له زوجة وله مدة سبع سنين لم ينتفع بها لأجل مرضها فهل تستحق عليه نفقة أم لا
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل له زوجة، وله مدة سبع سنين لم ينتفع بها، لأجل مرضها: فهل تستحق عليه نفقة، أم لا؟ فإن لم تكن تستحق وحكم عليه حاكم: فهل يجب عليه إعطاؤه، أم لا؟
فأجاب:
نعم تستحق النفقة في مذهب الأئمة الأربعة.
سئل عن رجل طلق زوجته طلقة واحدة وكانت حاملا فأسقطت فهل تسقط عنه النفقة أم لا
وسئل رَحمه الله عن رجل طلق زوجته طلقة واحدة، وكانت حاملا فأسقطت: فهل تسقط عنه النفقة، أم لا؟
فأجاب:
نعم. إذا ألقت سقطا انقضت به العدة، وسقطت به النفقة وسواء كان قد نفخ فيه الروح أم لا، إذا كان قد تبين فيه خلق الإنسان، فإن لم يتبين ففيه نزاع.
سئل عن رجل طلق زوجته ثلاثا وألزمها بوفاء العدة في مكانها فخرجت منه قبل أن توفي العدة وطلبها الزوج ما وجدها
وسئل رَحمه الله عن رجل طلق زوجته ثلاثا، وألزمها بوفاء العدة في مكانها، فخرجت منه قبل أن توفي العدة، وطلبها الزوج ما وجدها: فهل لها نفقة العدة؟
فأجاب:
لا نفقة لها، وليس لها أن تطالب بنفقة الماضي في مثل هذه العدة في المذاهب الأربعة. والله أعلم.
سئل عن رجل ماتت زوجته وخلفت له ثلاث بنات فأعطاهم لحميه وحماته فهل عليه النفقة
وسئل رَحمه الله عن رجل ماتت زوجته، وخلفت له ثلاث بنات، فأعطاهم لحميه وحماته وقال: روحوا بهم إلى بلدكم، حتى أجيء إليهم، فغاب عنهم ثلاث سنين، فهل على والدهم نفقتهم وكسوتهم في هذه المدة أم لا؟
فأجاب:
ما أنفقوه عليهم بالمعروف بنية الرجوع به على والدهم فلهم الرجوع به عليه، إذا كان ممن تلزمه نفقتهم. والله أعلم.
وسئل رَحمه الله عن رجل وطئ أجنبية حملت منه، ثم بعد ذلك تزوج بها: فهل يجب عليه فرض الولد في تربيته، أم لا؟
فأجاب:
الولد ولد زنا، لا يلحقه نسبه عند الأئمة الأربعة، ولكن لابد أن ينفق عليه المسلمون، فإنه يتيم من اليتامى، ونفقة اليتامى على المسلمين مؤكدة. والله أعلم.
وسئل رَحمه الله عن رجل متزوج بامرأة، ولها ولد من غيره، وله فرض على أبيه تتناوله أمه، والزوج يقوم بالصبي بكلفته ومؤنته مدة سنين، وحين تزوج الرجل كان من الصداق خمسة دنانير حالة، فشارطته على أنها لا تطالبه بها إذا كان ينفق على الولد مادام الصبي عنده، ولم تعين له كلفة، ولا نفقة: فهل له مطالبة أم الصبي بكلفة مدة مقامه عنده؟
فأجاب:
إذا كان الأمر على ما ذكر ولم يوف امرأته بما شرطت له فليس له أن يطالب بما أنفقه على الصبي إذا كان الإنفاق بمعروف، فإنه ليس متبرعا بذلك، سواء أنفق بإذن أمه، أم لا.
سئل عن امرأة تطعم من بيت زوجها بحكم أنها تتعب فيه
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة تطعم من بيت زوجها، بحكم أنها تتعب فيه.
فأجاب:
الحمد لله، تطعم بالمعروف: مثل الخبز، والطبيخ، والفاكهة، ونحو ذلك مما جرت العادة بإطعامه. والله أعلم.
سئل عن رجل عجز عن الكسب ولا له شيء وله زوجة وأولاد فهل يجوز لولده الموسر أن ينفق عليه
وسئل رَحمه الله عن رجل عجز عن الكسب، ولا له شيء، وله زوجة وأولاد، فهل يجوز لولده الموسر أن ينفق عليه، وعلى زوجته، وإخوته الصغار؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، نعم على الولد الموسر أن ينفق على أبيه وزوجة أبيه، وعلى إخوته الصغار، وإن لم يفعل ذلك كان عاقا لأبيه، قاطعا لرحمه مستحقا لعقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة. والله أعلم.
سئل عن رجل له ولد وطلب منه ما يمونه
وسئل رَحمه الله عن رجل له ولد، وطلب منه ما يمونه.
فأجاب:
إذا كان موسرا وأبوه محتاجا فعليه أن يعطيه تمام كفايته وكذلك إخوته إذا كانوا عاجزين عن الكسب، فعليه أن ينفق عليهم إذا كان قادرا على ذلك، ولأبيه أن يأخذ من ماله ما يحتاجه بغير إذن الابن، وليس للابن منعه.
سئل عن رجل له ولد وله مال والوالد فقير وله عائلة وزوجة غير والدة الولد الكبير فهل يجب على ولده نفقة والده ونفقة إخوته وزوجته أم لا
وسئل رَحمه الله عن رجل له ولد، وله مال، والوالد فقير وله عائلة وزوجة غير والدة الولد الكبير، فهل يجب على ولده نفقة والده، ونفقة إخوته وزوجته، أم لا؟
فأجاب:
إذا كان الأب عاجزا عن النفقة، والابن قادرا على الإنفاق عليهم، فعليه الإنفاق عليهم.
سئل عن رجل عاجز عن نفقة بنته وكان غائبا وهي عند أمها وجدتها تنفق عليها مع أنها موسرة وليس عليه فرض
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل عاجز عن نفقة بنته، وكان غائبا وهي عند أمها، وجدتها تنفق عليها، مع أنها موسرة، وليس عليه فرض: فهل لها أن ترجع بالنفقة المدة التي كان عاجزا عن النفقة فيها؟ وهل القول قوله في إعساره إذا لم يعرف له مال، أو قول المدعي؟ وإذا كان مقيما في بلد فيها خيره، ويريد أخذ بنته معه، وهو يسافر سفر نقلة: فيستحق السفر بها، أو تكون الحضانة لأمها؟
فأجاب:
أما المدة التي كان عاجزا عن النفقة فيها فلا نفقة عليه، ولا رجوع لمن أنفق فيها بغير إذنه بغير نزاع بين العلماء، وإنما النزاع فيما إذا أنفق منفق بدون إذنه مع وجوب النفقة على الأب، فقيل: يرجع بما أنفق غير متبرع كما هو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في قول. ولا يجوز حبسه على هذه النفقة، ولا على الرجوع بها حتى يثبت الوجوب بيساره. فإذا اختلفا في اليسار ولم يعرف له مال، فالقول قوله مع يمينه.
وإذا كان مقيما في غير بلد الأم فالحضانة له، لا للأم، وإن كانت الأم أحق بالحضانة في البلد الواحد. وهذا أيضا مذهب الأئمة الأربعة. والله أعلم.
سئل عن رجل له مطلقة وله منها ولد وقد بلغ من العمر سبع سنين وهم يريدون فرضه وقد تزوجت أمه وكفلته جدته
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل له مطلقة، وله منها ولد، وقد بلغ من العمر سبع سنين، وهم يريدون فرضه، وقد تزوجت أمه، وكفلته جدته، ووجهت كفيله وسافروا به إلى الأسكندرية، وغيبوه مدة سبع سنين، وطلب منه فرض السنين الماضية؟
فأجاب:
إذا حكم له حاكم لم يكن لأمه أن تغيبه عنه، وإذا غيبته عنه والحالة هذه لم يكن لها أن تطالبه بالنفقة المفروضة، ولا بما أنفقوه عليه في هذه الحالة. والله أعلم.
سئل عن رجل عليه وقف من جده ثم على ولده وهو يتناول أجرته وله ملك زاد أجرة كثيرة وغيرها والكل معطل وله ولد معسر
وسئل رَحمه الله عن رجل عليه وقف من جده ثم على ولده، وهو يتناول أجرته، وله ملك زاد أجرة كثيرة وغيرها، والكل معطل، وله ولد معسر، وله أهل وأولاد، فطلب ابنه بعض الأماكن ليدوليه فلم يجبه، فهل يجوز له ذلك؟ وهل يجب على الأب أن يؤجرهم وينفق على ولده، أو تجب عليه النفقة مع غني الوالد وإعسار الولد؟
فأجاب:
نعم، عليه نفقة ولده بالمعروف إذا كان الولد فقيرا عاجزا عن الكسب والوالد موسرا، وإذا لم يمكن الإنفاق على الولد إلا بإجارة ما هو متعطل في عقاره، وبعمارة ما يمكن عمارته منه، أو يمكن الولد من أن يؤجر ويعمر ما ينفق منه على نفسه، فعلى الوالد ذلك، بل من كان له عقار لا يعمره ولا يؤجره فهو سفيه مبذر لماله، فينبغي أن يحجر عليه الحاكم لمصلحة نفسه، لئلا يضيع ماله. فأما إذا كان له ولد يتعين ذلك لأجل مصلحته، ومصلحة ولده. والله أعلم.
قوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف
وَقال رَحمه الله تعالى:
قال الله تعالى: { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [51]، فلفظ { الْمَوْلُودِ لَهُ } أجود من لفظ الوالد لوجوه: أنه يعم الوالد وسيد العبد، وأنه يبين أن الولد لأبيه لا لأمه، فيفيد هذا أن الولد لأبيه، كما نقوله نحن من: أن الأب يستبيح مال ولده ومنافعه، وأنه يبين جهة الوجوب عليه، وهو كون الولد له، لا للأم. وأن الأم هي التي ولدته حقيقة دون الأب، فهذه أربعة أوجه؛ ولهذا يقال: ولد لفلان مولود، ولد لي ولد.
وهذه الآية توجب رزق المرتضع على أبيه، لقوله: { وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عليهنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [52]، فأوجب نفقته حملا ورضيعا بواسطة الإنفاق على الحامل والمرضع، فإنه لا يمكن رزقه بدون رزق حامله ومرضعه، فسئلت: فأين نفقة الولد على أبيه بعد فطامه؟ فقلت: دل عليه النص تنبيها، فإنه إذا كان في حال اختفائه وارتضاعه أوجب نفقة من تحمله وترضعه، إذ لا يمكن الإنفاق عليه إلا بذلك، فالإنفاق عليه بعد فصاله إذا كان يباشر الارتزاق بنفسه أولى وأحري، وهذا من حسن الاستدلال.
فقد تضمن الخطاب التنبيه بأن الحكم في المسكوت أولى منه في المنطوق، وتضمن تعليل الحكم بكون النفقة إنما وجبت على الأب لأنه هو الذي له الولد دون الأم، ومن كان الشيء له كانت نفقته عليه؛ ولهذا سمي الولد كسبا في قوله: { وَمَا كَسَبَ } [53]، وفي قوله: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه).
سئل عن رجل له جارية تائبة وتصلي وتصوم أي شيء يلزم سيدها إذا لم يجامعها
وسئل رَحمه الله عن رجل له جارية تائبة، وتصلي وتصوم: أي شيء يلزم سيدها إذا لم يجامعها؟
فأجاب:
إذا كانت محتاجة إلى النكاح فليعفها: إما بأن يطأها، وإما بأن يزوجها لمن يطؤها، ولا يجوز أن يطأها إلا زوج أو سيدها.
سئل عن الصدقة على المحتاجين من الأهل وغيرهم
وسئل رَحمه الله عن الصدقة على المحتاجين من الأهل وغيرهم؟
فأجاب:
إن كان مال الإنسان لا يتسع للأقارب والأباعد فإن نفقة القريب واجبة عليه، فلا يعطي البعيد ما يضر بالقريب. وأما الزكاة والكفارة فيجوز أن يعطي منها القريب الذي لا ينفق عليه. والقريب أولى إذا استوت الحالة.
باب الحضانة
سئل عن رجل له ولد وتوفي ولده وخلف ولدا عمره ثماني سنين والزوجة تطالب الجد بالفرض
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل له ولد، وتوفي ولده، وخلف ولدا عمره ثماني سنين، والزوجة تطالب الجد بالفرض، وبعد ذلك تزوجت وطلقت، ولم يعرف الجد بها وقد أخذت الولد وسافرت، ولا يعلم الجد بها، فهل يلزم الجد فرض، أم لا؟
فأجاب:
إذا تزوجت الأم فلا حضانة لها، وإذا سافرت سفر نقلة فالحضانة للجد دونها، ومن حضنته ولم تكن الحضانة لها وطالبت بالنفقة لم يكن لها ذلك، فإنها ظالمة بالحضانة، فلا تستحق المطالبة بالنفقة، وإن كان الجد عاجزا عن نفقة ابن ابنه لم تجب عليه نفقته.
فصل اليتيم في الآدميين من فقد أباه
وَقَال قدس اللَّه رُوحَه:
اليتيم في الآدميين من فقد أباه؛ لأن أباه الذي يهذبه، ويرزقه، وينصره بموجب الطبع المخلوق؛ ولهذا كان تابعا في الدين لوالده، وكان نفقته عليه وحضانته عليه، والإنفاق هو الرزق. والحضانة هي النصر لأنها الإيواء، ودفع الأذي. فإذا عدم أبوه طمعت النفوس فيه؛ لأن الإنسان ظلوم جهول، والمظلوم عاجز ضعيف، فتقوى جهة الفساد من جهة قوة المقتضي، ومن جهة ضعف المانع، ويتولد عنه فسادان: ضرر اليتيم الذي لا دافع عنه ولا يحسن إليه، وفجور الآدمي الذي لا وازع له.
فلهذا أعظم الله أمر اليتامى في كتابه في آيات كثيرة مثل قوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا وَذِي الْقُرْبَى وَاليتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [54]، وقوله: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلى قوله: { وَآتَي الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَاليتَامَى وَالْمَسَاكِينَ } [55]، وقوله: { قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ واليتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [56]، وقوله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } [57]، وقوله: { وَآتُواْ اليتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتَامَى } إلى قوله: { وَابْتَلُواْ اليتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إليهمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إليهمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عليهمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا } [58]، وقوله: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَاليتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ } [59]، وقوله: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شيئا } إلى قوله: { وَبِذِي الْقُرْبَى وَاليتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [60]، وقوله: { قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عليكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } إلى قوله: { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عليمًا } [61]، وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [62]، وقوله في الأنعام: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } [63]، وقوله: { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَاليتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [64]، وقوله: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } [65]، وقوله: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولا } [66]، وقوله: { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ } [67]، وقوله: { مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَاليتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [68]، وقوله: { فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } [69].
سئل عن رجل له بنت لها سبع سنين ولها والدة متزوجة وقد أخذها بحكم الشرع بحيث أنه ليس لها كافل غيره
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له بنت لها سبع سنين، ولها والدة متزوجة، وقد أخذها بحكم الشرع الشريف بحيث أنه ليس لها كافل غيره، وقد اختارت أم المذكورة أن تأخذها من الرجل بكفالتها إلى مدة معلومة، وهو يخاف أن ترجع عليه فيما بعد بالكسوة والنفقة عند بعض المذاهب، وكيف نسخة ما يكتب بينهما.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، ما دام الولد عندها وهي تنفق عليه، وقد أخذته على أن تنفق عليه من عندها ولا ترجع على الأب، لا نفقة لها باتفاق الأئمة. أي لا ترجع عليه بما أنفقت هذه المدة، لكن لو أرادت أن تطالب بالنفقة في المستقبل فللأب أن يأخذ الولد منها أيضا فإنه لا يجمع لها بين الحضانة في هذه الحال، ومطالبة الأب بالنفقة مع ما ذكرنا بلا نزاع، لكن لو اتفقا على ذلك، فهل يكون العقد بينهما لازما؟ هذا فيه خلاف، والمشهور من مذهب مالك هو لازم، وإذا كان كذلك فلا ضرر للأب في هذا الالتزام. والله أعلم.
فصل مذهب الامام أحمد في حضانة الصغير المميز
وقال الشيخ رحَمه اللَّه تعالى:
الحمد لله الذي نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، ﷺ تسليما كثيرًا.
في مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء في حضانة الصغير المميز: هل هي للأب، أو للأم، أو يخير بينهما؟ فإن كثيرًا من كتب أصحاب أحمد إنما فيها أن الغلام إذ بلغ سبع سنين خير بين أبويه، وأما الجارية فالأب أحق بها وهؤلاء الذين ذكروا هذا كالخرقي وغيره بلغهم بعض نصوص أحمد في هذه المسألة ولم يبلغهم سائر نصوصه، فإن كلام أحمد كثير منتشر جدًا وقل من يضبط جميع نصوصه في كثير من المسائل؛ لكثرة كلامه وانتشاره، وكثرة من كان يأخذ العلم عنه.
وأبو بكر الخلال قد طاف البلاد وجمع من نصوصه في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدًا، وفاته أمور كثيرة ليست في كتبه، وأما ما جمعه من نصوصه فمن أصول الدين مثل: كتاب السنة نحو ثلاث مجلدات، ومثل أصول الفقه، والحديث مثل كتاب العلم الذي جمعه من الكلام على علل الأحاديث مثل كتاب العلل الذي جمعه، ومن كلامه في أعمال القلوب والأخلاق والأدب، ومن كلامه في الرجال والتاريخ، فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس عنه.
والمقصود هنا أن النزاع عنه موجود في المسألتين كلتاهما في مسألة البنت، وفي مسألة الابن، وعنه في الابن ثلاث روايات معروفة، وممن ذكرهن أبو البركات في محرره. وعنه في الجارية روايتين، وممن ذكرهما أبو عبد الله بن تيمية في كتابيه: التلخيص وترغيب القاصد والروايات موجودة بألفاظها ونقلتها وأسانيدها في عدة كتب. وممن ذكر هذه الروايات القاضي أبو يعلي في تعليقه نقل عن أحمد في الغلام: أمه أحق به حتى يستغني عنها، ثم الأب أحق به. فقال في رواية الفضل بن زياد: إذا عقل الغلام واستغني عن الأم فالأب أحق به. وقال في رواية أبي طالب: والأب أحق بالغلام اذا عقل واستغني عن الأم. وهذا الذي نقله القاضي أبو يعلى والثاني وغيرهما هو المنقول عن أبي حنيفة قال: إذا أكل وحده، ولبس وحده، وتوضأ وحده، فالأب أحق به. ونقل ابن المنذر: أنه يخير بين أبويه عن أبي حنيفة وأبي ثور. والأول هو مذهب أبي حنيفة، الموجود في كتب أصحابه وهو إحدى الروايتين عن مالك؛ فإنه نقل عنه ابن وهب: الأم أحق به حتى يثغر، ولكن المشهور عنه أن الأم أحق به مالم يبلغ. وهذه هي الرواية الثانية عن أحمد. وأما المشهور عن أحمد وهو تخيير الغلام بين أبويه فهو مذهب الشافعي، وإسحاق بن راهويه.
وموافقته للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما، وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما، وكان يثني عليهما ويعظمهما، ويرجح أصول مذاهبهما على من ليست أصول مذاهبه كأصول مذاهبهما، ومذهبه أن أصول فقهاء الحديث أصح من أصول غيرهم، والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث في عصرهما، وجمع بينهما بمسجد الخيف فتناظرا في مسألة إجارة بيوت مكة والقصة مشهورة، وذكر أحمد أن الشافعي علا إسحاق بالحجة في موضع، وأن إسحاق علاه بالحجة في موضع. فإن الشافعي كان يبيح البيع والإجارة، وإسحق يمنع منهما، وكانت الحجة مع الشافعي في جواز بيعها، ومع إسحاق في المنع من إجارتها.
والرواية الثالثة عن أحمد: أن الأم أحق بالغلام مطلقا، كمذهب مالك، أخذت من قوله في رواية حنبل: في الرجل يطلق امرأته وله منها أولاد صغار، فالأم أعطف عليهم مقدار ما يعقلون الأدب، فتكون الأم بهم أحق مالم تتزوج، فإذا تزوجت فالأب أحق بولده، غلاما كان، أو جارية. قال الشيخ أبو البركات: فهذه الرواية تدل على أنه إذ كبر وصار يعقل الأدب فإنه يكون مقره أيضا عند الأم، لكن في وقت الأدب وهو النهار يكون عند الأب، وهذه المدونة مذهب مالك بعينه الذي حكيناه. فصار في المسألة ثلاث روايات. ومذهب مالك في التهذيب أن الأم أحق به مالم يبلغ، والأب يتعاهده عندها، وأدبه وبعثه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند أم.
قلت: وحنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان الإمام أحمد عن مسائل مالك وأهل المدينة، كما كان يسأله إسحاق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثوري وغيره، وكما كان يسأله الميموني عن مسائل الأوزاعي، وكما كان يسأله إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن مسائل أبي حنيفة وأصحابه، فإنه كان قد تفقه على مذهب أبي حنيفة، واجتهد في مسائل كثيرة رجح فيها مذهب أهل الحديث، وسأل عن تلك المسائل أحمد وغيره، وشرحها ابراهيم بن يعقوب الجوزجاني إمام مسجد دمشق.
وأما حضانة البنت إذا صارت مميزة فوجدنا عنه روايتين منصوصتين، وقد نقلهما غير واحد من أصحابه كأبي عبد الله بن تيمية وغيره:
إحداهما: أن الأب أحق بها، كما هو موجود في الكتب المعروفة في مذهبه.
والثانية: أن الأم أحق بها. قال في رواية إسحاق بن منصور: يقضي بالجارية للأم والخالة، حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحق بها. وقال في رواية رضا بن يحيي: إن الأم والجدة أحق بالجارية حتى تتزوج. وقال أبو عبد الله في ترغيب القاصد وإن كانت جارية فالأب أحق بها بغير تخيير. وعنه: الأم أحق بها حتى تحيض.
وهذه الرواية الثانية هي نحو مذهب مالك وأبي حنيفة. ففي المدونة مذهب مالك: أن الأم أحق بالولد مالم يبلغ، سواء كان ذكرا أو أنثي فإذا بلغ وهو أنثي نظرت فإذا كانت الأم في حوز ومنعة وتحصن فهي أحق بها أبدا ما لم تنكح، وإن بلغت أربعين سنة. وإن لم تكن في منع وحرز وتحصن، أو كانت غير مرضية في نفسها فللأب أخذها منها، والوصي، وكذلك الأولياء، والوصى كالأب في ذلك إذا أخذ إلى أمانة وتحصن. ومذهب الليث بن سعد نحو ذلك، قال: الأم أحق بالجارية حتى تبلغ إلا أن تكون الأم غير مرضية في نفسها وأدبها لولدها أخذت منها إذا بلغت، إلا أن تكون صغيرة لا يخاف عليها. وقال أبو حنيفة: الأم والجدة أحق بالجارية حتى تحيض، ومن سوي الأم والجدة أحق بها حتى تبلغ حدا تشتهي، ولفظ الحجازي: حتى تستغني، كما في الغلام مطلقا.
وأما التخيير في الجارية فهو قول الشافعي، ولم أجده منقولا لا عن أحمد، ولا عن إسحاق، كما نقل عنهما التخيير في الغلام، ولكن نقل عن الحسن بن صالح بن حيي: أنها تخير إذا كانت كاعبا، والتخيير في الغلام. ومذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وإسحاق للحديث الوارد في ذلك حيث خير النبي ﷺ غلاما بين أبويه، وهي قضية معينة. ولم يرد عنه نص عام في تخيير الولد مطلقا، والحديث الوارد في تخيير الجارية ضعيف مخالف لإجماعهم.
والفرق بين تخيير الغلام والجارية: أن هذا التخيير تخيير شهوة، وتخيير رأي مصلحة، كتخيير من يتصرف لغيره كالإمام والولي، فإن الإمام إذا خير في الأسري بين القتل والاسترقاق والمن والفداء فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين فيكون مصيبا في اجتهاده، حاكما بحكم الله، ويكون له أجران، وقد لا يصيبه فيثاب على استفراغ وسعه ولا يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة، كالذي ينزل أهل حصن على حكمه، كما نزل بنوا قريظة على حكم النبي ﷺ. فلما سأله فيهم بنو عبد الأشهل، قال: (ألا ترضون أن أجعل الأمر إلى سيدكم سعد بن معاذ)، فرضوا بذلك، وطمع من كان يجب استبقاءهم أن سعدا يحابيهم، لما كان بينه وبينهم في الجاهلية من المولاة، فلما أتي سعد حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبي ذراريهم، وتقسم أموالهم، فقال النبي ﷺ: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات)، وهذا يقتضي أنه لو حكم بغير ذلك لم يكن ذلك حكما لله في نفس الأمر. وإن كان لابد من إنقاذه.
ومثل ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث بريدة المشهور قال فيه: (وإذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك). ولهذا قال الفقهاء: إنه إذا حاصر الإمام حصنا فنزلوا على حكم حاكم جاز، إذا كان رجلا حرا، مسلما، عدلا، من أهل الاجتهاد في أمر الجهاد، ولا يحكم إلا بما فيه حظ الإسلام، من قتل، أو رق، أو فداء. وتنازعوا فيما إذا حكم بالمن فأباه الإمام: هل يلزم حكمه أو لا يلزم؟ أو يفرق بين المقاتلة والذرية؟ على ثلاثة أقوال. وإنما تنازعوا في ذلك لظن المنازع أن المن لاحظ فيه للمسلمين.
والمقصود أن تخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير رأي ومصلحة يطلب أي الأمرين كان أرضي لله ورسوله فعله، كما ينظر المجتهد في أدلة المسائل، فأي الدليلين كان أرجح اتبعه، ولكن معني قولنا تخيير أنه لا يتعين فعل واحد من هذه الأمور في كل وقت، بل قد يتعين فعل هذا تارة، وهذا تارة. وقوله في القرآن: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } [70]، يقتضي فعل أحد الأمرين، وذلك لا يمنع تغيير هذا في حال وهذا في حال، كما في قوله: { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } [71]، فتربص أحد الأمرين لا يمتنع بعينه إذا كان الجهاد فرضا علينا بعض الأوقات، فحينئذ يصيبه الله بعذاب بأيدينا، كما في قوله: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عليهمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [72].
ولهذا كان عند جميع العلماء قوله تعالى في المحاربين: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ } [73]، لا يقتضي أن الإمام يخير تخيير مشيئة، ففعل هذه الأربع مسائل كلهم متفقون على أنه يتعين هذا في حال، وهذا في حال. ثم أكثرهم يقولون: تلك الأحوال مضبوطة بالنص، فإن قتلوا تعين قتلهم، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا تعين قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وروي في ذلك حديث مرفوع. ومنهم من يقول: التعيين باجتهاد الإمام كقول مالك، فإذا رأي أن القتل هو المصلحة قتل، وإن لم يكن قد قتل.
ومن هذا الباب تخيير الإمام في الأرض المفتوحة عنوة بين جعلها فيء ا، وبين جعلها غنيمة، كما هو قول الأكثرين كأبي حنيفة، والثوري، وأبي عبيد، وأحمد في المشهور عنه فإنهم قالوا: إن رأي المصلحة جعلها غنيمة قسمها بين الغانمين، كما قسم النبي ﷺ خيبر، وإن رأي أن لا يقسمها جاز، كما لم يقسم النبي ﷺ مكة، مع أنه فتحها عنوة شهدت بذلك الأحاديث الصحيحة، والسيرة المستفيضة، وكما قاله جمهور العلماء؛ ولأن خلفاءه بعده أبو بكر، وعمر، وعثمان فتحوا ما فتحوا من أرض العرب والروم وفارس، كالعراق، والشام، ومصر، وخراسان، ولم يقسم أحد من الخلفاء شيئا من العقار المغنوم بين الغانمين، لا السواد، ولا غير السواد، بل جعل العقار فيء ا للمسلمين داخلا في قوله: { مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } الآية [74]، ولم يستأذنوا في ذلك الغانمين، بل طلب كثير من الغانمين قسم العقار فلم يجيبوهم إلى ذلك، كما طلب بلال من عمر أن يقسم أرض الشام، وطلب منه الزبير أن يقسم أرض مصر، فلم يجيبوهم إلى ذلك، ولم يستطب أحد من الخلفاء أحدا من الغانمين في ذلك.
وهذا مما احتج به من جعل الأرض فيء ا بنفس الفتح، ومن ذلك نص مذهبه كإسماعيل ابن إسحاق، وقالوا الأرض ليست داخلة في الغنيمة، فإن الله حرم على بني إسرائيل المغانم، وملكهم العقار، فعلم أنه ليس في المغانم. وهذا القول هو الذي يذكر رواية عن أحمد، كما ذكر عنه رواية ثالثة كقول الشافعي: إنه يجب قسم العقار، والمنقول؛ لأن الجميع مغنوم، وقال الشافعي: إن مكة لم تفتح عنوة، بل صلحا، فلا يكون على منها حجة. ومن حكي عنه أنه قال: إنها فتحت عنوة كصاحب الوسيط وغيره فقد غلط عليه، وقال: لأن السواد لا أدري ما أقول فيه، إلا أن أظن فيه ظنا مقرونا بعلم، وظن أن عمر استطاب الغانمين، كما روي قيس بن حارثة. وبسط هذا له موضع آخر.
وقول الجمهور أعدل الأقاويل وأشبهها بالكتاب والسنة والأصول، وهم الذين قالوا: نخير الإمام بين الأمرين تخيير رأي ومصلحة لا تخيير شهوة ومشيئة، وهكذا سائر ما يخير فيه ولاة الأمر ومن تصرف لغيره بولاية: كناظر الوقف، ووصى اليتيم، والوكيل المطلق، لا يخيرون تخيير مشيئة وشهوة، بل تخيير اجتهاد ونظر وطلب الجواز الأصلح كالرجل المبتلى بعدوين، وهو مضطر إلى الابتداء بأحدهما. فيبتديء بماله أنفع كالإمام في تولية من يوليه من ولاة الحرب، والحكم، والمال يختار الأصلح فالأصلح للمسلمين (فمن ولي رجلا على عصابة وهو يجد فيهم من هو أرضًا لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين).
وهذا بخلاف من خير بين شيئين فله أن يفعل أيهما شاء كالمكفر إذا خير بين الإطعام والكسوة والعتق، فإنه وإن كان أحد الخصال أفضل فيجوز له فعل المفضول. وكذلك لابس الخف إذا خير بين المسح وبين الغسل، وإن كان أحدهما أفضل. وكذلك المصلي إذا خير بين الصلاة في أول الوقت وآخره، وإن كان أحدهما أفضل. وكذلك تخيير الآكل والشارب بين أنواع الأطعمة والأشربة المباحة، وإن كان نفس الأكل والشرب واجبا عند الضرورة حتى إذا تعين المأكول وجب أكله وإن كان ميتة، فمن اضطر إلى أكل الميته وجب عليه أكلها في المشهور عن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم.
وفي كفارة المجامع في رمضان هل هي على التخيير أو على الترتيب؟ فيها قولان، وهما روايتان عن أحمد، والأكثرون على أنها على الترتيب، لكن الترتيب فيها ثبت بحكاية المجامع، لا بلفظ عام؛ فلهذا أقدم بعض العلماء على أن ألزم بعض الملوك بالصوم عينا، وأن الترتيب فيها ليس شرعا عاما، بل هو من
باب تنقيح المناط، وقدم العتق في حق من يكون عنده أصعب من الصيام كالأعراب وأما من كان العتق أسهل عليه فلا يجب تقديمه.
وكذلك تخيير الحاج بين التمتع والإفراد والقران عند الجمهور الذين يخيرون بين الثلاثة، وتخيير المسافرين بين الفطر والصوم عند الجمهور. وأما من يقول: لا يجوز أن يحج إلا متمتعا، أو أنه يتعين الفطر في السفر كما تقوله طائفة من السلف والخلف من أهل السنة والشيعة فلا يجيء هذا على أصلهم.
وكذلك القصر عند الجمهور الذين يقولون: ليس للمسافر أن يصلي إلا ركعتين ليس له أن يصلي أربعا، فإن النبي ﷺ لم يصل في السفر قط إلا ركعتين، ولا أحد من أصحابه في حياته. وحديث عائشة الذي فيه أنها صلت في حياته السفر أربعا كذب عند حذاق أهل العلم بالحديث. كما قد بسط في موضعه.
إذ المقصود هنا أن التخيير في الشرع نوعان، فمن خير فيما يفعله لغيره بولايته عليه، وبوكالة مطلقة، لم يبح له فيها فعل ماشاء، بل عليه أن يختار الأصلح، وأما من تصرف لنفسه، فتارة يأمره الشارع باختيار ما هو الأصلح بحسب اجتهاده، كما يأمر المجتهد بطلب أقوي الأقاويل وأصلح الأحكام في نفس الأمر. وتارة يبيح له ماشاء من الأنواع التي خير بينها، كما تقدم. هذا إذا كان مكلفا.
وأما الصبي المميز يخير تخيير شهوة حيث ما كان كل من الأبوين نظير الآخر، ولم يضبط في حقه حكم عام للأب أو للأم، فلا يمكن أن يقال: كل أب فهو أصلح للميز من الأم، ولا كل أم هي أصلح له من الأب، بل قد يكون بعض الآباء أصلح، وبعض الأمهات أصلح. وقد يكون الأب أصلح في حال، والأم أصلح في حال. فلم يمكن أن يعين أحدهما في هذا، بخلاف الصغير فإن الأم أصلح له من الأب؛ لأن النساء أرفق بالصغير، وأخبر بتعذيته وحمله وأصبر على ذلك، وأرحم به، فهي أقدر، وأخبر، وأرحم وأصبر في هذا الموضع فعينت الأم في حق الطفل غير المميز بالشرع.
ولكن يبقي تنقيح المناط: هل عينهن الشارع؛ لكون قرابة الأم مقدمة على قرابة الأب في الحضانة، أو لكون النساء أقوم بمقصود الحضانة من الرجال فقط؟ وهذا فيه قولان للعلماء. يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم مثل أم الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، ومثل العمة، والخالة ونحو ذلك هذا فيه قولان هما روايتان عن أحمد وأرجح القولين في الحجة تقديم نساء العصبة، وهو الذي ذكره الخرقي في مختصره في العمة والخالة.
وعلى هذا أم الأب مقدمة على أم الأم. والأخت من الأب مقدمة على الأخت من الأم. والعمة مقدمة على الخالة، كما تقدم. وأقارب الأب من الرجال على أقارب الأم، والأخ للأب أولى من الأخ للأم، والعم أولى من الخال، بل قد قيل: أنه لا حضانة للرجال من أقارب الأم بحال، والحضانة لا تثبت إلا لرجل من العصبة، أو لامرأة وارثة، أو مدلية بعصبة أو وارث، فإن عدموا فالحاكم. وعلى الوجه الثاني فلا حضانة للرجال من أقارب الأم، وهذان الوجهان في مذهب الشافعي وأحمد.
فلو كانت جهات الأقربة راجحة لترجح رجالها ونساؤها، فلما لم يترجح رجالها بالاتفاق فكذلك نساؤها أيضًا؛ لأن مجمع أصول الشرع إنما يقدم أقارب الأب في الميراث والعقد والنفقة وولاية الموت والمال وغير ذلك، ولم يقدم الشارع قرابة الأم في حكم من الأحكام، فمن قدمهن في الحضانة فقد خالف أصول الشريعة، ولكن قدم الأم لأنها امرأة وجنس النساء في الحضانة مقدمات على الرجال. وهذا يقتضي تقديم الجدة أم الأب على الجد. كما قدم الأم على الأب، وتقديم أخواته على إخوته، وعماته على أعمامه، وخالاته على أخواله، هذا هو القياس والاعتبار الصحيح.
وأما تقديم جنس نساء الأم على نساء الأب فمخالف للأصول والعقول؛ ولهذا كان من قال هذا موضع يتناقض ولا يطرد أصله؛ ولهذا تجد لمن لم يضبط أصل الشرع ومقصوده في ذلك أقوالا متناقضة، حتى توجد في الحضانة من الأقوال المتناقضة أكثر مما يوجد في غيرها من هذا الجنس. فمنهم من يقدم أم الأم على أم الأب، كأحد القولين من مذهب أحمد، وهو عند مالك والشافعي وأبي حنيفة. ثم من هؤلاء من يقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، ويقدم الخالة على العمة، كقول الشافعي في الجديد، وطائفة من أصحاب أحمد. وبنوا قولهم على أن الخالات مقدمة على العمات؛ لكونهن من جهة الأم. ثم قالوا في العمات والخالات والأخوات: من كانت لأبوين أولي، ثم من كانت لأب، ثم من كانت لأم.
وهذا الذي قالوه هنا موافق لأصول الشرع، لكن إذا ضم هذا إلى قولهم بتقديم قرابة الأم ظهر التناقض. وهم أيضا قالوا بتقديم أمهات الأب والجد على الخالات والأخوات للأم، وهذا موافق لأصول الشرع، لكنه يناقض هذا الأصل؛ ولهذا لا يوافق القول الآخر أن الخالة والأخت للأم أولى من أم الأب، كقول الشافعي في القديم، وهذا أطرد لأصلهم، لكنه في غاية المناقضة لأصول الشرع.
وطائفة أخرى طردت أصلها فقدمت من الأخوات من كانت لأم على من كانت لأب؛ لقول أبي حنيفة والمزني وابن سريج. وبالغ بعض هؤلاء في طرد قياسه حتى قدم الخالة على الأخت من الأب، لقول زفر، ورواية عن أبي حنيفة، ووافقها ابن سريج ولكن أبو يوسف استشنع ذلك فقدم الأخت من الأب رواه عن أبي حنيفة، وروي عن زفر أنه أمعن في طرد قياسه حتى قال: إن الخالة أولى من الجدة أم الأب.
ويروون عن أبي حنيفة أنه قال: لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنكم إذا أخذتم بمقاييس زفر حرمتم الحلال وحللتم الحرام، وكان يقول: من القياس قياس أقبح من البول في المسجد. وزفر كان معروفا بالإمعان في طرد قياسه إلى الأصل الثابت في الذي قاس عليه، ومن علة الحكم في الأصل وهو جواب سؤال المطالبة، فمن أحكم هذا الأصل استقام قياسه.
كما أن زفرًا اعتقد أن النكاح إلى أجل يبطل فيه التوقيت، ويصح النكاح لازما. وخرج بعضهم ذلك قولا في مذهب أحمد، فكان مضمون هذا القول: أن نكاح المتعة يصح لازما غير موقت، وهو خلاف المنصوص وخلاف إجماع السلف. والأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم أحداث قول يناقض القولين ويتضمن إجماع السلف على الخطأ والعدول عن الصواب، وليس في السلف من يقول في المتعة إلا أنها باطلة، أو تصح مؤجلة. فالقول بلزومها مطلقا خلاف الإجماع.
وسبب هذا القول اعتقادهم أن كل شرط فاسد في النكاح فإنه يبطل وينعقد النكاح لازما، مع إبطال شرط التحليل. وأمثال ذلك. وقد ثبت في الصحيحين عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ أنه قال: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)، فدل النص على أن الوفاء بالشروط في النكاح أولى منه بالوفاء بالشروط في البيع، فإذا كانت الشروط الفاسدة في البيع لا يلزم العقد بدونها، بل إما أن يبطل العقد، وإما أن يثبت الخيار لمن فات غرضه بالاشتراط إذا بطل الشرط، فكيف بالمشروط في النكاح؟
وأصل عمدتهم كون النكاح يصح بدون تقدير الصداق، كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، فقاسوا الذي يشرط فيه نفي المهر على النكاح الذي لم يزل تقدير الصداق فيه، كما فعل أصحاب أبي حنيفة والشافعي، وأكثر متأخرى أصحاب أحمد.
ثم طرد أبو حنيفة قياسه فصحح نكاح الشغار بناء على أنه لا يوجب إشغاره عن المهر. وأما الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد فتكلفوا الفرق بين الشغار وغيره؛ لأن فيه تشريكا في البضع، أو تعليق العقد أو غير ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع. وبين فيه أن كل هذه فروق غير مؤثرة. وأن الصواب مذهب أهل المدينة مالك وغيره، وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته، وعامة أكثر قدماء أصحابه: أن العلة في إفساده بشرط إشغار النكاح عن المهر، وأن النكاح ليس بلازم إذا شرط فيه نفي المهر أو مهر فاسد، فإن الله فرض فيه المهر، فلم يحل لغير الرسول النكاح بلا مهر، فمن تزوج بشرط أنه لا يجب مهر فلم يعتبر الذي أذن الله، فإن الله إنما أباح العقد لمن يبتغي بماله محصنا غير مسافح، كما قال تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } [75]، فمن طلب النكاح بلا مهر فلم يفعل ما أحل الله، وهذا بخلاف من اعتقد أنه لابد من مهر، لكن لم يقدره، كما قال تعالى: { لاَّ جُنَاحَ عليكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } [76]، فهذا نكاح المهر المعروف، وهو مهر المثل.
وهذا هو الفرق بين النكاح وبين البيع، فإن البيع بثمن المثل وهو السعر، أو الإجارة بثمن المثل لا يصح. وقد سلم لهم هذا الأصل الذي قاسوا عليه الشافعي وكثير من أصحاب أحمد في البيع.
وأما الإجارة فأصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم يقولون: يجب أجرة المثل فيما جرت العادة فيه، ومثل ذلك كمن دخل حمام حمامي يدخلها الناس بالكرا، أو يسكن في خان أو حجرة عادتها بذلك، أو دفع طعامه أو خبزه إلى من يطبخ أو يخبز بالأجرة، أو بناية إلى من يعمل بالأجرة، أو ركب دابة مكاري يكاري بالأجرة، أو سفينة ملاح يركب بالأجرة، فإن هذه إجارة عند جمهور العلماء، ويجب فيها أجرة المثل وإن لم يشترط ذلك، فهذه إجارة المثل، وكذلك إذا ابتاع طعاما مثل ما ينقطع به السعر، أو بسعر ما يبيعون الناس، أو بما اشتراه من بلده، أو برقمه، فهذا يجوز في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره. وقد نص أحمد على هذه المسائل ومثلها في غير هذا الموضوع، وأن كثيرًا من متأخرى أصحابه لا يوجد في كتبهم إلا كقول بفساد هذه العقول لقول الشافعي وغيره. وبسط هذه المسائل له مواضع أخر.
والمقصود هنا كان مسائل الحضانة وإن الذين اعتقدوا أن الأم قدمت لتقدم قرابة الأم لما كان أصلهم ضعيفا كانت الفروع اللازمة للأصل الضعيف ضعيفة، وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم، بل الصواب بلا ريب أنها قدمت لكونها امرأة، فتكون المرأة أحق بحضانة الصغير من الرجل فتقدم الأم على الأب، والجدة على الجد، والأخت على الأخ، والخالة على الخال، والعمة على العم. وأما إذا اجتمع امرأة بعيدة ورجل قريب فهذا بسطه في موضع آخر. إذ المقصود هنا ذكر مسألة الصغير المميز، والفرق بين الصبي والصبية.
فتخيير الصبي الذي وردت به السنة أولى من تعيين أحب الأبوين له؛ ولهذا كان تعيين الأب، كما قاله أبو حنيفة وأحمد.. الأم كما قاله مالك وأحمد في رواية، والتخيير تخيير شهوة؛ ولهذا قالوا: إذا اختار الأب مدة ثم اختار الأم فله ذلك، حتى قالوا: متى اختار أحدهما ثم اختار الآخر نقل إليه، وكذلك إن اختار أبدا. وهذا هو قول القائلين بالتخيير الحسن بن صالح، والشافعي، وأحمد بن حنبل وقالوا: إذا اختار الأم كان عندها ليلا، وأما بالنهار فيكون عند الأب، ليعلمه ويؤدبه. هذا هو مذهب الشافعي وأحمد. وكذلك قال مالك، وهو يقول: يكون عندها بلا تخيير، والأب يتعاهده عندها، وأدبه وبعثه للمكتب ولا يبيت إلا عند الأم. قال أصحاب الشافعي وأحمد: إن اختار الأب كان عنده ليلا ونهارا، ولم يمنع من زيارة أمه، ولا تمنع الأم من تمريضه إذا اعتل.
فأما البنت إذا خيرت فكانت عند الأم تارة، وعند الأب تارة أفضي ذلك إلى كثرة بروزها، وتبرجها، وانتقالها من مكان إلى مكان، ولا يبقي الأب موكلا بحفظها، ولا الأم موكلة بحفظها. وقد عرف بالعادة أن ما يتناوب الناس على حفظه ضاع، ومن الأمثال السائرة: لا يصلح القدر بين طباخين.
وأيضًا، فاختيار أحدهما يضعف رغبة الآخر في الإحسان والصيانة فلا يبقي الأب تام الرغبة ولا الأم تامة الرغبة في حفظها، وليس الذكر كالأنثي، كما قالت امرأة عمران: { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } [77]، { إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى } [78]، { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عليها زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ } إلى قوله: { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } [79]، فهذه مريم احتاجت إلى من يكفلها ويحضنها حتى أسرعوا إلى كفالتها، فكيف غيرها من النساء، وهذا أمر معروف بالتجربة أن المرأة تحتاج من الحفظ والصيانة ما لا يحتاج إليه الصبي، وكل ما كان أستر لها وأصون كان أصلح لها.
ولهذا كان لباسها المشروع لباسًا يسترها، ولعن من يلبس لباس الرجال، وقال لأم سلمة في عصابتها: (ليلة لا ليلتين) رواه أبو داود وغيره، وقال في الحديث الصحيح: (صنفان من أهل النار من أمتى لم أرهما بعد: نساء كاسيات، عاريات، مائلات، مميلات، على رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله).
وأيضًا، يأمرون المرأة في الصلاة أن تجمع ولا تجافي بين أعضائها، وتتربع ولا تفترش، وفي الإحرام لا ترفع صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها، وأن لا ترقي فوق الصفا والمروة. كل ذلك لتحقيق سترها وصيانتها، ونهيت أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم، لحاجتها في حفظها إلى الرجال، مع كبرها ومعرفتها. فكيف إذا كانت صغيرة مميزة، وقد بلغت سن ثوران الشهوة فيها، وهي قابلة للانخداع؟ !! وفي الحديث (النساء لحم على وضم إلا ماذب عنه)
فهذا قياس أن مثل هذه الصفة المميزة من أحوج النساء إلى حفظها وصونها، وترددها بين الأبوين مما يخل بذلك من جهة أنها هي لا يجتمع قلبها على مكان معين، ولا يجتمع قلب أحد الأبوين على حفظها. ومن جهة أن تمكينها من اختيار هذا تارة وهذا تارة يخل بكمال حفظها، وهو ذريعة إلى ظهورها وبروزها، فكان الأصلح لها أن تجعل عند أحد الأبوين مطلقًا، لا تمكن من التخيير، كما قال ذلك جمهور علماء المسلمين: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد وغيرهم. وليس في تخييرها نص ولا قياس صحيح، والفرق ظاهر بين تخييرها وتخيير الابن، لا سيما والذكر محبوب مرغوب، والبنت مزهود فيها، فأحد الوالدين قد يزهد فيها مع رغبتها فيه، فكيف زهدها فيه؟ فالأصلح لها لزوم أحدهما، لا التردد بينهما.
ثم هناك يحصل الاجتهاد في تعيين أحدهما، فمن عين الأم كمالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، لابد أن يراعوا مع ذلك صيانة الأم لها؛ ولهذا قالوا: ما ذكره مالك والليث وغيرهما: إذا لم تكن الأم في موضع حرز وتحصين، أو كانت غير مرضية، فللأب أخذها منها، وهذا هو الذي راعاه أحمد في الراوية المشهورة عن أصحابه؛ فإنه إذا كان لابد من رعاية حفظها وصيانتها، وأن للأب أن ينتزعها من الأم إذا لم تكن حافظة لها بلا ريب، فالأب أقدر على حفظها وصيانتها، وهي مميزة لا تحتاج في بدنها إلى أحد، والأب له من الهيبة والحرمة ما ليس للأم.
وأحمد وأصحابه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها في ذلك حرز، فلو قدر أن الأب عاجز عن حفظها وصيانتها، أو مهمل لحفظها وصيانتها، فإنه يقدم الأم في هذه الحالة.
فكل من قدمناه من الأبوين إنما نقدمه إذا حصل به مصلحتها، أو اندفعت به مفسدتها. فأما مع وجود فساد أمرها مع أحدهما فالآخر أولى بها بلا ريب، حتى الصغير إذا اختار أحد أبويه وقدمناه إنما نقدمه بشرط حصول مصلحته وزوال مفسدته.
فلو قدرنا أن الأب ديوث لا يصونه، والأم تصونه، لم نلتفت إلى اختيار الصبي، فإنه ضعيف العقل قد يختار أحدهما لكونه يوافق هواه الفاسد، ويكون الصبي قصده الفجور، ومعاشرة الفجار، وترك ما ينفعه من العلم والدين والأدب والصناعة، فيختار من أبويه من يحصل له معه ما يهواه، والآخر قد يرده ويصلحه، ومتى كان الأمر كذلك فلا ريب أنه لا يمكن من يفسد معه حاله.
والنبي ﷺ قال: (مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، فمتى كان أحد الأبوين يأمره بذلك والآخر لا يأمره كان عند الذي يأمره بذلك دون الآخر؛ لأن ذلك الآمر له هو المطيع لله ورسوله في تربيته، والآخر عاص لله ورسوله، فلا نقدم من يعصي الله فيه على من يطع الله فيه، بل يجب إذا كان أحد الأبوين يفعل معه ما أمر الله به ورسوله، ويترك ما حرم الله ورسوله، والآخر لا يفعل معه الواجب، أو يفعل معه الحرام، قدم من يفعل الواجب، ولو اختار الصبي غيره، بل ذلك العاصي لا ولاية له عليه بحال، بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له عليه، بل إما ترفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب، وإما أن نضم إليه من يقوم معه بالواجب، فإذا كان مع حصوله عند أحد الأبوين لا تحصل طاعة الله ورسوله في حقه، ومع حصوله عند الآخر تحصل، قدم الأول قطعًا.
وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم والنكاح والولاية إن كان الوارث حاجزًا أو عاجزًا، بل هو من جنس الولاية ولاية النكاح والمال التي لابد فيها من القدرة على الواجب وفعله بحسب الإمكان وإذا قدر أن الأب تزوج ضرة، وهي تترك عند ضرة أمها، لا تعمل مصلحتها، بل تؤذيها أو تقصر في مصلحتها، وأمها تعمل مصلحتها ولا تؤذيها، فالحضانة هنا للأم. ولو قدر أن التخيير مشروع، وأنها اختارت الأم فكيف إذا لم يكن كذلك.
ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس له نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقًا، والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقًا، بل مع العدوان والتفريط لا يقدم من يكون كذلك على البر العادل الحسن القائم بالواجب. والله أعلم.
سئل عن رجل له ولد كبير فسافر مع كرائم أمواله في البحرالمالح وله آخر مراهق فأراد تسفيره مع أخيه بغير رضا الوالدة
وسئل رحمه الله عن رجل له ولد كبير، فسافر مع كرائم أمواله في البحرالمالح، وله آخر مراهق من أم أخرى مطلقة منه، ولها أب وأم، والولد عندهم مقيم، فأراد والده أخذه وتسفيره صحبة أخيه بغير رضا الوالدة، وغير رضا الولد، فهل له ذلك؟
فأجاب:
يخير الولد بين أبويه، فإن اختار المقام عند أمه وهي غير مزوجة كان عندها ولم يكن للأب تسفيره، لكن يكون عند أبيه نهارا ليعلمه ويؤدبه وعند أمه ليلا. وإن اختار أن يكون عند الأب كان عنده. وإذا كان عند الأب ورأي من المصلحة له تسفيره ولم يكن في ذلك ضرر على الولد فله ذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج بامرأة ومعها بنت وتوفيت الزوجة وبقيت البنت عنده رباها وقد تعرض بعض الجند لأخذها فهل يجوز ذلك
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج بامرأة، ومعها بنت، وتوفيت الزوجة، وبقيت البنت عنده رباها، وقد تعرض بعض الجند لأخذها: فهل يجوز ذلك؟
الجواب:
ليس للجند عليها ولاية بمجرد ذلك، فإذا لم يكن لها من يستحق الحضانة بالنسب فمن كان أصلح لها حضنها، وزوج أمها محرم لها. وأما الجند فليس محرمًا لها، فإذا كان يحضنها حضانة تصلحها لم تنقل من عنده لأجنبي لا يحل له النظر إليها، والخلوة بها.
فصل إذا كان الابن في حضانة أمه فأنفقت عليه ناوية الرجوع على الأب
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
إذا كان الابن في حضانة أمه، فأنفقت عليه تنوي بذلك الرجوع على الأب، فلها أن ترجع على الأب في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب مالك وأحمد في ظاهر مذهبه، الذي عليه قدماء أصحابه، فإن من أصلهما أن من أدي عن غيره واجبًا رجع عليه، وإن فعله بغير إذن، مثل أن يقضي دينه، أو ينفق على عبده، أو يخشي أن يقتله العدو، وقد قال تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [80]، فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع، ولم يشترط عقدًا ولا إذنا. فإن تبرعت بذلك لم يكن لها أن ترجع. فإذا شرط عليها أنها إن سافرت بالبنت لم يكن لها نفقة ورضيت بذلك فسافرت بها لم يكن لها نفقة، ولو نوت الرجوع؛ لأنها ظالمة متعدية بالسفر به؛ فإنه ليس لها أن تسافر به بغير إذن أبيه، وهو لم يأذن لها في السفر إلا إذا كانت متبرعة بالنفقة، فمتى سافرت وطلبت الرجوع بالنفقة لم يكن لها ذلك. والله أعلم.
كتاب الجنايات
سئل عن القصاص
سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن القصاص.
فأجاب:
القصاص ثابت بين المسلمين باتفاق الأمة، يقتص لله اشمي المسلم من الحبشي المسلم، وللحبشي المسلم من الهاشمي المسلم: في الدماء، والأموال، والأعراض، وغير ذلك. بحيث يجوز القصاص في الأعراض يجوز للرجل أن يقتص. فإذا قال له الهاشمي: يا كلب، قال له: يا كلب! وإذا قال: لعنك الله، قال له: لعنك الله. ويجوز ذلك. وهذا من معني قوله تعالى: { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عليهم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ اليمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [81].
ولو كذب عليه لم يكن له أن يكذب عليه. وكذلك من سب أبا رجل فليس له أن يسب أباه، سواء كان هاشميا أو غير هاشمي، فإن أبا الساب لم يظلمه، وإنما ظلمه الساب { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [82]، ولكن إن سب مسلم أبا مسلم فإنه يعزر على ذلك. فالهاشمي إذا سب أبا مسلم عزر الهاشمي على ذلك.
ومن سب أبا هاشمي عزر على ذلك، ولا يجعل ذلك سبًا للنبي ﷺ؛ ولو سب أباه وجده لم يحمل على النبي ﷺ، فإن اللفظ ليس ظاهرًا في ذلك، إذ الجد المطلق: هو أبو الأب. وإذا سمي العبد جدًا فأجداده كثيرة، فلا يتعين واحد، وسب النبي ﷺ كفر يوجب القتل، فلا يزول الإيمان المتعين بالشك، ولا يباح الدم المعصوم بالشك، لا سيما والغالب من حال المسلم هو أن لا يقصد النبي ﷺ، فلا لفظه ولا حاله يقتضي ذلك، ولا يقبل عليه قول من ادعي أنه قصد الرسول ﷺ بلا حجة. والله أعلم.
سئل عن حكم قتل المتعمد
وسئل شيخ الإسلام عن حكم قتل المتعمد، وما هو: هل إن قتله على مال، أو حقد، أو على أي شيء يكون قتل المتعمد؟ وقال قائل: إن كان قتل على مال فما هو هذا أو على حقد، أو على دين، فما هو متعمد. فقال القائل: فالمتعمد قال: إذا قتله على دين الإسلام لا يكون مسلمًا.
فأجاب:
الحمد لله أما إذا قتله على دين الإسلام مثل ما يقاتل النصراني المسلمين على دينهم فهذا كافر شر من الكافر المعاهد، فإن هذا كافر محارب بمنزلة الكفار الذين يقاتلون النبي ﷺ وأصحابه وهؤلاء مخلدون في جهنم، كتخليد غيرهم من الكفار.
وأما إذا قتله قتلا محرمًا؛ لعداوة، أو مال، أو خصومة، ونحو ذلك فهذا من الكبائر، ولا يكفر بمجرد ذلك عند أهل السنة والجماعة، وإنما يكفر بمثل هذا الخوارج، ولا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد عند أهل السنة والجماعة، خلافًا للمعتزلة الذين يقولون بتخليد فساق الملة. وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عليه وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [83]، وجوابهم: على أنها محمولة على المتعمد لقتله على إيمانه، وأكثر الناس لم يحملوها على هذا، بل قالوا: هذا وعيد مطلق قد فسره قوله تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [84]، وفي ذلك حكاية عن بعض أهل السنة أنه كان في مجلس فيه عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة فقال عمرو: يؤتي بي يوم القيامة فيقال لي: يا عمرو، من أين قلت: إني لا أغفر لقاتل؟ فأقول: أنت يارب قلت: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } [85]. قال: فقلت له: فإن قال لك: فإني قلت: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [86] فمن أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ فسكت عمرو بن عبيد!!
سئل عن القاتل عمدا أو خطأ
وسئل رحمه الله تعالى عن القاتل عمدًا، أو خطأ: هل تدفع الكفارة المذكورة في القرآن { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } [87] أو يطالب بدية القاتل؟
فأجاب:
قتل الخطأ لا يجب فيه إلا الدية والكفارة، ولا إثم فيه. وأما القاتل عمدًا فعليه الإثم، فإذا عفي عنه أولياء المقتول، أو أخذوا الدية، لم يسقط بذلك حق المقتول في الآخرة. وإذا قتلوه ففيه نزاع في مذهب أحمد. والأظهر ألا يسقط، لكن القاتل إذا كثرت حسناته أخذ منه بعضها ما يرضي به المقتول، أو يعوضه الله من عنده إذا تاب القاتل توبة نصوحا.
وقاتل الخطأ تجب عليه الدية بنص القرآن واتفاق الأمة، والدية تجب للمسلم والمعاهد، كما قد دل عليه القرآن، وهو قول السلف والأئمة، ولا يعرف فيه خلاف متقدم، لكن بعض متأخرى الظاهرية زعم أنه الذي لا دية له.
وأما القاتل عمدًا ففيه القود، فإن اصطلحوا على الدية جاز ذلك بالنص والإجماع، فكانت الدية من مال القاتل، بخلاف الخطأ فإن ديته على عاقلته.
وأما الكفارة فجمهور العلماء يقولون: قتل العمد أعظم من أن يكفر، وكذلك قالوا في اليمين الغموس. هذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، كما اتفقوا كلهم على أن الزنا أعظم من أن يكفر فإنما وجبت الكفارة بوطء المظاهر، والوطء في رمضان. وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى، بل تجب الكفارة في العمد، واليمين الغموس. واتفقوا على أن الإثم لا يسقط بمجرد الكفارة.
سئل عن جماعة اشتركوا في قتل رجل وله ورثة صغار وكبار فهل لأولاده الكبار أن يقتلوهم أم لا
وسئل رحمه الله تعالى عن جماعة اشتركوا في قتل رجل، وله ورثة صغار وكبار، فهل لأولاده الكبار أن يقتلوهم، أم لا؟ وإذا وافق ولي الصغار الحاكم أو غيره على القتل مع الكبار، فهل يقتلون، أم لا؟
فأجاب:
إذا اشتركوا في قتله وجب القود على جميعهم باتفاق الأئمة الأربعة، وللورثة أن يقتلوا، ولهم أن يعفوا. فإذا اتفق الكبار من الورثة على قتلهم فلهم ذلك عند أكثر العلماء كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين وكذا إذا وافق ولي الصغار الحاكم أو غيره على القتل مع الكبار فيقتلون.
سئل عن الإنسان يقتل مؤمنا متعمدا أو خطأ وأخذ منه القصاص في الدنيا فهل عليه القصاص في الآخرة
وسئل رحمه الله عن الإنسان يقتل مؤمنًا متعمدًا أو خطأ، وأخذ منه القصاص في الدنيا أولياء المقتول والسلطان، فهل عليه القصاص في الآخرة، أم لا؟ وقد قال تعالى: { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [88].
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما القاتل خطأ فلا يؤخذ منه قصاص، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، لكن الواجب في ذلك الكفارة، ودية مسلمة إلى أهل القتيل، إلا أن يصدقوا. وأما القاتل عمدًا إذا اقتص منه في الدنيا: فهل للمقتول أن يستوفي حقه في الآخرة؟ فيه قولان في مذهب أحمد، وكذلك غيره فيما أظن من يقول: لا حق له عليه؛ لأن الذي عليه استوفي منه في الدنيا. ومنهم من يقول: بل عليه حق، فإن حقه لم يسقط بقتل الورثة، كما لم يسقط حق الله بذلك، وكما لا يسقط حق المظلوم الذي غصب ماله وأعيد إلى ورثته، بل له أن يطالب الظالم بما حرمه من الانتفاع به في حياته. والله أعلم.
سئل عن رجل قتل رجلا عمدا وللمقتول بنت عمرها خمس سنين وزوجته حامل منه وأبناء عم
وسئل رحمه الله عن رجل قتل رجلا عمدًا، وللمقتول بنت عمرها خمس سنين، وزوجته حامل منه، وأبناء عم: فهل يجوز أن يقتص منه قبل بلوغ البنت ووضع الحمل، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، ليس لسائر الورثة قبل وضع الحمل أن يقتصوا منه، إلا عند مالك، فإن عنده للعصبة أن يقتصوا منه قبل ذلك. أما إن وضعت بنتًا أو بنتين بحيث يكون لابني العم نصيب من التركة، كان للعصبة أن يقتصوا قبل بلوغ البنات عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية، ولم يجز لهن القصاص في المشهور عنه، وهو قول الشافعي.
وهل لولي البنات كالحاكم أن يقوم مقامهن في الاستيفاء والصلح على مال؟ روايتان عن أحمد. إحداهما: وهو قول جمهور العلماء جواز ذلك. والثانية: لا يجوز القصاص، كقول الشافعي، لكن إذا كانت البنات محاويج هل لوليهن المصالحة على مال لهن؟ فيه خلاف مشهور في مذهب الشافعي.
سئل عن رجل قتله جماعة وكان اثنان حاضران قتله واتفق الجماعة على قتله وقاضي الناحية عاين الضرب فيه ونواب الولاية
وسئل رحمه الله عن رجل قتله جماعة وكان اثنان حاضران قتله، واتفق الجماعة على قتله، وقاضي الناحية عاين الضرب فيه ونواب الولاية؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا قامت البينة على من ضربه حتى مات واحدًا كان أو أكثر؛ فإن لأولياء الدم أن يقتلوهم كلهم، ولهم أن يقتلوا بعضهم. وإن لم تعلم عين القاتل فلأولياء المقتول أن يحلفوا على واحد بعينه أنه قتله ويحكم لهم بالدم. والله أعلم.
سئل عن جماعة اجتمعوا وتحالفوا على قتل رجل مسلم وقد أخذوا معهم أخرى ما حضروا تحليفهم فهل القصاص عليهم جميعا
وسئل رحمه الله عن جماعة اجتمعوا وتحالفوا على قتل رجل مسلم، وقد أخذوا معهم جماعة أخرى ما حضروا تحليفهم، وتقدموا إلى الشخص وضربوه بالسيف، والدبابيس، ورموه في البحر: فهل القصاص عليهم جميعهم، أم لا؟
فأجاب:
إذا اشتركوا في قتل معصوم بحيث أنهم جميعهم باشروا قتله وجب القود عليهم جميعهم؛ وإن كان بعضهم قد باشر وبعضهم قائم يحرس المباشر، ويعاونه، ففيها قولان: أحدهما: لا يجب القود إلا على المباشر، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، بحيث أنه لابد في فعل كل شخص من أن يكون صالحًا للزهوق. والثاني: يجب على الجميع، وهو قول مالك. وإن كان قتله لغرض خاص مثل أن يكون بينهم عداوة، أو خصومة، أو يكرهونه على فعل لا يبيح قتله فهنا القود لوارثه: إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية. وإن كان الوارث صغيرًا لم يبلغ فلمن له الولاية عليه، وإن لم يكن له ولي فالسلطان وليه، والحاكم نائبه في أحد القولين للعلماء كمذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين. وفي القول الثاني لا حتى يبلغ، وهو مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى.
سئل عمن اتفق على قتله أولاده وجواره ورجل أجنبي فما حكم الله فيهم
وسئل رحمه الله عمن اتفق على قتله أولاده، وجواره، ورجل أجنبي: فما حكم الله فيهم؟
فأجاب:
إذا اشتركوا في قتله جاز قتلهم جميعهم، والأمر في ذلك ليس للمشاركين في قتله، بل لغيرهم من ورثته، فإن كان له أخوة كانوا هم أولياءه، وكانوا أيضًا هم الوارثين لماله، فإن القاتل لا يرث المقتول. وليس للسلطان حق لا في دمه، ولا في ماله، بل الإخوة لهم الخيار؛ إن شاؤوا قتلوا جميع المشتركين في قتله البالغ منهم، وإن شاؤوا قتلوا بعضهم. وهذا باتفاق الأئمة الأربعة. وأما المباشرون لقتله فيجوز قتلهم باتفاق الأئمة.
وأما الذين أعانوا بمثل إدخال الرجل إلى البيت، وحفظ الأبواب، ونحو ذلك، ففي قتلهم قولان للعلماء، ويجوز قتلهم في مذهب مالك وغيره. والممسك يقتل في مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين وغيرهما، ولا ميراث لهما. وإن كان الصغار من أولاده أعانوا أيضًا على قتله لم يكن دمه إليهم، ولا إلى وليهم، بل إلى الأخوة. وأما ميراثهم من ماله ففيه نزاع. والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد أنهم لا يرثون من ماله، والصغار يعاقبون بالتأديب ولا يقتلون، ومذهب أبي حنيفة ومالك: الصغار يرثون من ماله. والله أعلم.
سئل عن رجلين تضاربا وتخانقا فوقع أحدهما فمات فما يجب عليه
وسئل رحمه الله عن رجلين تضاربا وتخانقا، فوقع أحدهما فمات، فما يجب عليه؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا خنقه الخنق الذي يموت به المرء غالبًا وجب القود عليه عند جمهور العلماء كمالك، والشافعي، وأحمد، وصاحبي أبي حنيفة ولو ادعي أن هذا لا يقتل غالبًا لم يقبل منه بغير حجة. فأما إن كان أحدهما قد غشي عليه بعد الخنق، ورفسه الآخر برجله حتى خرج من فمه شيء فمات، فهذا يجب عليه القود بلا ريب، فإن هذا قاتل نفسًا عمدًا، فيجب عليه القود، إذا كان المقتول يكافؤه بأن يكون حرًا مسلمًا، فيسلم إلى ورثة المقتول إن شاؤوا أن يقتلوه، وإن شاؤوا عفوا عنه، وإن شاؤوا أخذوا الدية.
سئل عن رجلين تخاصما وتقابضا فقام واحد ونطح الآخر في أنفه فجري دمه فقام الذي جري دمه خنقه ورفسه برجله في مخاصيه فوقع ميتا
وسئل رحمه الله عن رجلين تخاصما وتقابضا، فقام واحد ونطح الآخر في أنفه، فجري دمه، فقام الذي جري دمه خنقه ورفسه برجله في مخاصيه فوقع ميتًا؟
فأجاب:
يجب القود على الخانق الذي رفس الآخر في أنثييه، فإن مثل هذا الفعل قد يقتل غالبًا، فإن موته بهذا الفعل دليل على أنه فعل به ما يقتل غالبًا، والفعل الذي يقتل غالبًا يجب به القود في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وصاحبي أبي حنيفة، مثل ما لو ضربه في أنثييه حتى مات فيجب القود، ولو خنقه حتى مات وجب القود، فكيف إذا اجتمعا؟ ! وولي المقتول مخير إن شاء قتل، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء عفا عنه، وليس لولي الأمر أن يأخذ من القاتل شيئا لنفسه ولا لبيت المال، وإنما الحق في ذلك لأولياء المقتول.
سئل عمن ضرب رجلا ضربة فمكث زمانا ثم مات والمدة التي مكث فيها كان ضعيفا من الضربة
وسئل رحمه الله عمن ضرب رجلا ضربة فمكث زمانًا ثم مات، والمدة التي مكث فيها كان ضعيفًا من الضربة: مالذي يجب عليه؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا ضربه عدوانا فهذا شبه عمد فيه دية مغلظة، ولا قود فيه، وهذا إن لم يكن موته من الضربة. والله أعلم.
سئل عن رجل يهودي قتله مسلم فهل يقتل به أو ماذا يجب عليه
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل يهودي قتله مسلم، فهل يقتل به، أو ماذا يجب عليه؟
فأجاب:
الحمد لله، لا قصاص عليه عند أئمة المسلمين، ولا يجوز قتل الذمي بغير حق، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (لا يقتل مسلم بكافر)، ولكن تجب عليه الدية. فقيل: الدية الواجبة نصف دية المسلم. وقيل: ثلث ديته. وقيل: يفرق بين العمد والخطأ، فيجب في العمد مثل دية المسلم، ويروي ذلك عن عثمان بن عفان: أن مسلمًا قتل ذميا فغلظ عليه، وأوجب عليه كمال الدية. وفي الخطأ نصف الدية، ففي السنن عن النبي ﷺ: أنه جعل دية الذمي نصف دية المسلم. وعلى كل حال تجب كفارة القتل أيضًا وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.
سئل عن طائفة تسمى العشيرة قيس ويمن يكثر القتل بينهم ولا يبالون به وإذا طلب منهم القاتل أحضروا شخصا غير القاتل يتفقون معه
وسئل رحمه الله عن طائفة تسمى العشيرة قيس ويمن، يكثر القتل بينهم، ولا يبالون به، وإذا طلب منهم القاتل أحضروا شخصًا غير القاتل يتفقون معه على أن يعترف بالقتل عند ولي الأمر، فإذا اعترف جهزوا إلى المتولي من يدعي أنه من قرابة المقتول، ويقول: أنا قد أبريت هذا القاتل مما استحقه عليه، ويجعلون ذلك ذريعة إلى سفك الدماء، وإقامة الفتن، فإذا رأي ولي الأمر وضع دية المقتول الذي لا يعرف قاتله من الطوائف الذين أثبت أسمائهم في الديوان على جميع الطوائف منهم له ذلك أم لا، أو رأي وضع ذلك على أهل محلة القاتل، كما نقل عن بعض الأئمة رضي الله عنهم أو رأي تعزير هؤلاء العشير عند إظهارهم الفتن وسفك الدماء والفساد بوضع مال عليهم يؤخذ منهم، ليكف نفوسهم العادية عن ذلك كله: فهل له ذلك أم لا؟ وهل يثاب على ذلك؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب أيده الله:
الحمد لله، أما إذا عرف القاتل فلا توضع الدية على أهل مكان المقتول باتفاق الأئمة. وأما إذا لم يعرف قاتله لا بينة ولا إقرار، ففي مثل هذا تشرع القسامة. فإذا كان هناك لوث حلف المدعون خمسين يمينًا عند الجمهور مالك، والشافعي، وأحمد كما ثبت عن النبي ﷺ في قصة القتيل الذي وجد بخيبر، فإن لم يحلفوا حلف المدعي عليه، ومذهب أبي حنيفة يحلف المدعي عليهم أولا، فإن مذهبه أن اليمين لا تكون إلا في جانب المدعي عليه، والجمهور يقولون هي في جنب أقوي المتداعيين.
فأما إذا عرف القاتل فإن كان قتله لأخذ مال فهو محارب يقتله الإمام حدًا وليس لأحد أن يعفو عنه، لا أولياء المقتول، ولا غيرهم. وإن قتل لأمر خاص، فهذا أمره إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا عفوا عنه، وللإمام في مذهب مالك أن يجلده مائة، ويحبسه سنة، فهذا التعزير يحصل المقصود. وعلى هذا، فإذا كان أولياء المقتول قد رضوا بقتل صاحبهم فلا أرغم الله إلا بآنافهم. وإذا قيل: توضع الدية في بعض الصور على أهل المكان مع القسامة فالدية لورثة المقتول، لا لبيت المال، ولم يقل أحد من الأئمة أن دية المقتول لبيت المال. وكذلك لا توضع الدية بدون قسامة باتفاق الأئمة. وهؤلاء المعروفون بالفتن والفساد لولي الأمر أن يمسك منهم من عرف بذلك فيحبسه، وله أن ينقله إلى أرض أخرى ليكف بذلك عدوانه، وله أن يعزر أيضًا من ظهر منه الشر ليكف به شره وعدوانه، ففي العقوبات الجارية على سنن العدل والشرع ما يعصم الدماء والأموال، ويغني ولاة الأمور عن وضع جبايات تفسد العباد والبلاد. ومن اتهم بقتل وكان معروفًا بالفجور فلولي الأمر عند طائفة من العلماء أن يعاقبه تعزيرًا على فجوره، وتعزيرًا له، وبهذا وأمثاله يحصل مقصود السياسة العادلة. والله أعلم.
سئل عمن قال أنا ضاربه والله قاتله
وسئل رحمه الله عمن قال: أنا ضاربه، والله قاتله.
فأجاب:
الحمد لله، هذا يؤاخذ بإقراره، ويجب عليه ما يجب على القاتل. وأما قوله: والله قاتله، إن أراد به أن الله قابض روحه، أو أن الله هو المميت كل أحد، وهو خالق أفعال العباد، ونحو ذلك، فهذا لا يندفع عنه موجب القتل بذلك، بل يجب عليه ما يجب على القاتل.
سئل عن رجل راكب فرس مر به دباب ومعه دب فجفل الفرس ورمي راكبه ثم هرب ورمي رجلا فمات
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل راكب فرس، مر به دباب ومعه دب، فجفل الفرس ورمي راكبه، ثم هرب ورمي رجلا فمات؟
فأجاب:
لا ضمان على صاحب الفرس والحالة هذه، لكن الدباب عليه العقوبة. والله أعلم.
سئل عن رجل أخذ له مال فاتهم به رجلا من أهل التهم ذكر ذلك عنده فضربه على تقريره فأقر ثم أنكر فضربه حتى مات فما عليه
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أخذ له مال فاتهم به رجلا من أهل التهم ذكر ذلك عنده فضربه على تقريره فأقر، ثم أنكر، فضربه حتى مات، فما عليه؟ ولم يضربه إلا لأجل ما أخبر عنه بذلك.
فأجاب:
عليه أن يعتق رقبة مؤمنة كفارة، وتجب دية هذا المقتول، إلا أن يصالح ورثته على أقل من ذلك، ولو كان قد فعل به فعلا يقتل غالبًا بلا حق ولا شبهة لوجب القود، ولو كان بحق لم يجب شيء. والله أعلم.
سئل عن رجل جندي وله أقطاع في بلد الريع وقال في البلد قتيل فقالوا الفلاح النصراني هو القاتل
وسئل قدس الله روحه عن رجل جندي وله أقطاع في بلد الريع، وقال: في البلد قتيل، فقالوا: إن الفلاح النصراني الذي هو من الريع هو القاتل، فطلب القاتل إلى ولاة الأمور فلم يوجد، ومسكوا أخا النصراني المتهوم وهو في السجن، ومع ذلك يتطلبون الجندي بإحضار النصراني ولم يكن ضامنًا؟
فأجاب:
إذا كان الجندي لا يعلم حال المتهم ولا هو ضامن له، لم تجز مطالبته لكن إذا كان مطلوبًا بحق وهو يعرف مكانه دل عليه، فإن قال: أنه لا يعرف مكانه فالقول قوله.
سئل عن رجل عثر على سبعة أنف فحصل بينهم خصومة فقاموا بأجمعهم فضربوه إلى أن مات
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل عثر على سبعة أنفس، فحصل بينهم خصومة، فقاموا بأجمعهم ضربوه بحضرة رجلين لا يقربا لهؤلاء ولا لهؤلاء، وعايناه إلى أن مات من ضربهم، فما يلزم السبعة الذين يساعدون على قتله؟
فأجاب:
إذا شهد لأولياء المقتول شاهدان، ولم يثبت عدالتهما، فهذا لوث إذا حلف معه المدعون خمسين يمينًا أيمان القسامه على واحد بعينه حكم لهم بالدم؛ وإن أقسموا على أكثر من واحد ففي القود نزاع. وأما إن ادعوا أن القتل كان خطأ أو شبه عمد مثل أن يضربوه بعصا ضربًا لا يقتل مثله غالبًا، فهنا إذا ادعوا على الجماعة أنهم اشتركوا في ذلك فدعواهم مقبولة، ويستحقون الدية.
سئل عما إذا قال المضروب ما قاتلي إلا فلان فهل يقبل قوله أم لا
وسئل رحمه الله عما إذا قال المضروب: ما قاتلي إلا فلان: فهل يقبل قوله، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، لا يؤخذ بمجرد قوله بلا نزاع، ولكن هل يكون قوله لوثا يحلف معه أولياء المقتول خمسين يمينًا ويستحقون دم المحلوف عليه؟ على قولين مذكورين للعلماء: أحدهما: أنه ليس بلوث، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة. والثاني: أنه لوث، وهو قول مالك.
سئل عن رجلين شربا وكان معهما رجل آخر فضرب واحد صاحبه ضربة بالدبوس فوقع عن فرسه
وسئل رحمه الله عن رجلين شربا، وكان معهما رجل آخر، فلما أرادوا أن يرجعوا إلى بيوتهم تكلما فضرب واحد صاحبه ضربة بالدبوس، فوقع عن فرسه، فوقف عنده ذلك الرجل الذي معهما حتى ركب فرسه وجاء معه إلى منزله، ولم يقف عنده، فوقع عن فرسه ثانية، ثم إنه أصبح ميتًا، فسأل رجل من أصحاب الميت ذلك الرجل خفية، ولم يعلمه بموته، فذكر له قضيتهما، فشهد عليه الشهود بأن فلانًا ضربه ولم يسمع الشهود من الميت، وأن المتهوم لم يظهر نفسه خوف العقوبة، لكي لا يقر على نفسه، وللميت بنت ترضع، وأخوة.
فأجاب:
إن كان الذي شرب الخمر يعلم ما يقول فهذا إذا قتل فهو قاتل يجب عليه القود وعقوبة قاتل النفس باتفاق العلماء. وأما إن كان قد سكر بحيث لا يعلم ما يقول، أو أكثر من ذلك، وقتل: فهل يجب عليه القود، ويسلم إلى أولياء المقتول ليقتلوه إن شاؤوا؟ هذا فيه قولان للعلماء، وفيه روايتان عن أحمد، لكن أكثر الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وكثير من أصحاب أحمد يوجبون عليه القود، كما يوجبونه على الصاحي، فإن لم يشهد بالقتل إلا واحد لم يحكم به إلا أن يحلف مع ذلك أولياء المقتول خمسين يمينًا، وهذا إذا مات بضربه، وكان ضربه عدوانًا محضًا، فأما إن مات مع ضرب الآخر، ففي القود نزاع، وكذلك إن ضربه دفعا لعدوانه عليه، أو ضربه مثل ما ضربه، سواء مات بسبب آخر أو غيره. والله أعلم.
سئل عن رجل واعد آخر على قتل مسلم بمال معين ثم قتله فما يجب عليه في الشرع
وسئل رحمه الله عن رجل واعد آخر على قتل مسلم بمال معين، ثم قتله؛ فما يجب عليه في الشرع؟
فأجاب:
نعم إذا قتله الموعود والحالة هذه وجب القود، وأولياء المقتول بالخيار: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية، وإن أحبوا عفوا. وأما الواعد فيجب أن يعاقب عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل هذا. وعند بعضهم يجب عليه القود.
سئل عن القاتل ولده عمدا لمن ديته
وسئل رحمه الله عن القاتل ولده عمدًا لمن ديته؟
فأجاب:
وأما الوارث كالأب وغيره إذا قتل مورثه عمدًا فإنه لا يرث شيئا من ماله، ولا ديته باتفاق الأئمة، بل تكون ديته كسائر ماله يحرمها القاتل أبا كان أو غيره، ويرثها سائر الورثة غير القاتل.
سئل عن رجل تخاصم مع شخص فراح إلى بيته فحصل له ضعف فلما قارب الوفاة أشهد على نفسه أن قاتله فلان
وسئل رحمه الله عن رجل تخاصم مع شخص، فراح إلى بيته، فحصل له ضعف، فلما قارب الوفاة أشهد على نفسه أن قاتله فلان، فقيل له: كيف قتلك؟ فلم يذكر شيئا. فهل يلزمه شيء، أم لا؟ وليس بهذا المريض أثر قتل ولا ضرب أصلا وقد شهد خلق من العدول أنه لم يضربه، ولا فعل به شيئا؟
فأجاب:
أما بمجرد هذا القول فلا يلزمه شيء بإجماع المسلمين، بل إنما يجب على المدعي عليه اليمين بنفي ما ادعي عليه، إما يمين واحدة عند أكثر العلماء كأبي حنيفة، وأحمد وإما خمسون يمينا كقول الشافعي. والعلماء قد تنازعوا في الرجل إذا كان به أثر القتل كجرح أو أثر ضرب فقال: فلان ضربني عمدًا: هل يكون ذلك لوثا؟ فقال أكثرهم كأبي حنيفة والشافعي وأحمد: ليس بلوث، وقال مالك: هو لوث، فإذا حلف أولياء الدم خمسين يمينًا حكم به. ولو كان القتل خطأ فلا قسامة فيه في أصح الروايتين عن مالك. وهذه الصورة قيل: لم تكن خطأ، فكيف وليس به أثر قتل، وقد شهد الناس بما شهدوا به، فهذه الصورة ليس فيها قسامة بلا ريب على مذهب الأئمة.
سئل عمن اتهم بقتيل فهل يضرب ليقر أم لا
وسئل عمن اتهم بقتيل: فهل يضرب ليقر، أم لا؟
فأجاب:
إن كان هناك لوث وهو ما يغلب على الظن أنه قتله جاز لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقون دمه، وأما ضربه ليقر فلا يجوز إلا مع القرائن التي تدل على أنه قتله، فإن بعض العلماء جوز تقريره بالضرب في هذه الحال، وبعضهم منع من ذلك مطلقًا.
سئل عن أهل قريتين بينهما عداوة في الاعتقاد وخاصم رجل آخر في غنم ضاعت له
وسئل رحمه الله تعالى عن أهل قريتين بينهما عداوة في الاعتقاد. وخاصم رجل آخر في غنم ضاعت له، وقال: ما يكون عوض هذا إلا رقبتك. ثم وجد هذا مقتولا، وأثر الدم أقرب إلى القرية التي منها المتهم، وذكر رجل له قتله؟
فأجاب:
إذا حلف أولياء المقتول خمسين يمينًا أن ذلك المخاصم هو الذي قتله حكم لهم بدمه، وبراءة من سواه، فإنما بينهما من العداوة والخصومة والوعيد بالقتل وأثر الدم وغير ذلك لوث وقرينة وأمارة على أن هذا المتهم هو الذي قتله، فإذا حلفوا مع ذلك أيمان القسامة الشرعية استحقوا دم المتهم، وسلم إليهم برمته، كما قضي بذلك رسول الله ﷺ في قضية الذي قتل بخيبر ولم يجب على أهل البقعة جناية، لا في العادة السلطانية، ولا في حكم الشريعة.
سئل عن شخصين أتهما بقتيل فأمسكا وعوقبا العقوبة المؤلمة فأقر أحدهما ولم يقر الآخر
وسئل رحمه الله تعالى عن شخصين أتهما بقتيل، فأمسكا، وعوقبا العقوبة المؤلمة، فأقر أحدهما على نفسه وعلى رفيقه، ولم يقر الآخر، ولا اعترف بشيء: فهل يقبل قوله، أم لا؟
فأجاب:
إن شهد شاهد مقبول على شخص أنه قتله كان لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينًا ويستحقوا الدم. وكذلك إن كان هناك لوث يغلب على الظن الصدق، وإلا حلف المدعى عليه ولا يؤاخذ بلا حجة.
سئل عمن اتهموا بقتيل فضربوهم واعترف واحد منهم بالعقوبة
وسئل رحمه الله تعالى عمن اتهموا بقتيل فضربوهم، واعترف واحد منهم بالعقوبة: فهل يسري على الباقي؟
فأجاب:
الحمد لله، إن أقر واحد عدل أنه قتله كان لوثا، فلأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينًا، ويستحقوا به الدم. وأما إذا أقر مكرهًا، ولم يتبين صدق إقراره، فهنا لا يترتب عليه حكم، ولا يؤخذ هو به ولا غيره. والله أعلم.
سئل عن سفارة جاءتهم حرامية فقاتلوهم فقتل الحرامية من السفارة رجلا فلاحقوهم وقبضوا عليهم
وسئل رحمه الله عن سفارة جاءتهم حرامية فقاتلوهم، فقتل الحرامية من السفارة رجلا، ثم إن ابن عم المقتول اتبع الحرامية هو وناس من قومه، فلحقهم، وقبضهم وسأل عن القاتل، فعين الحرامية شخصًا منهم، وقالوا: هذا قتل ابن عمك، فقتله، ثم بعد ذلك طلع القاتل أخا ذلك الشخص الذي عينه الحرامية.
فأجاب:
أما المسافر المقتول ظلمًا فيجب على من قتله من الحرامية القود بشروطه، وأما الشخص الثاني المقتول ظلمًا إذا كان معصومًا فإن كان الدال عليه متعمدًا الكذب فعليه القود، وإن كان مخطئًا وجبت الدية على عاقلته إن كان له عاقلة، وإلا فعليه. وأما قاتله فإن لم يتعمد قتله، بل أخطأ فيه، فللورثة أن يطالبوا بالدية له، أو لعاقلته؛ لكن إذا ضمن الدية رجع بها على الدال أو عاقلته، فإنه هو الذي يضاف إليه القتل في مثل هذا؛ ولهذا يجب قتله إذا تعمد الكذب، كما يجب القتل على الشهود إذا رجعوا عن الشهادة، وقالوا: تعمدنا الكذب. والله أعلم.
سئل عن رجل قتل قتيلا وله أب وأم وقد وهبا للقاتل دم ولدهما
وسئل رحمه الله عن رجل قتل قتيلا، وله أب وأم، وقد وهبا للقاتل دم ولدهما، وكتبا عليه حجة أنه لا ينزل بلادهم، ولا يسكن فيها، ومتى سكن في البلاد كان دم ولدهما على القاتل، فإذا سكن، فهل يجوز لهم المطالبة بالدم، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا عفوا عنه بهذا الشرط ولم يف بهذا الشرط لم يكن العفو لازمًا، بل لهم أن يطالبوه بالدية في قول بعض العلماء، وبالدم في قول آخر. وسواء قيل: هذا الشرط صحيح، أم فاسد. وسواء قيل: يفسد العقد بفساده، أو لا يفسد، فإن ذينك القولين مبنيان على هذه الأصول.
سئل عن صبي دون البلوغ جني جناية يجب عليه فيها دية
وسئل رحمه الله تعالى عن صبي دون البلوغ جني جناية يجب عليه فيها دية: مثل أن يكسر سنًا، أو يفقأ عينًا، ونحو ذلك، خطأ: فهل لأولياء ذلك أن يأخذوا دية الجناية من أبي الصبي وحده إن كان موسرًا، أم يطلبوها من عم الصبي أو ابن عمه؟
فأجاب:
الحمد لله، أما إذا فعل ذلك خطأ فديته على عاقلته بلا ريب، كالبالغ وأولى. وإن فعل عمدًا فعمده خطأ عند الجمهور، كأبي حنيفة، ومالك وأحمد في المشهور عنه، والشافعي في أحد قوليه. وفي القول الآخر عنه، وعن أحمد أن عمده إذا كان غير بالغ في ماله.
وأما العاقلة التي تحمل، فهم عصبته، كالعم وبنيه، والأخوة وبنيهم باتفاق العلماء. وأما أبو الرجل وابنه فهو من عاقلته أيضًا عند الجمهور، كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في أظهر الروايتين عنه. وفي الرواية الأخرى وهو قول الشافعي: أبوه وابنه ليسا من العاقلة.
والذي تحمله العاقلة بالاتفاق ما كان فوق ثلث الدية: مثل قلع العين فإنه يجب فيه نصف الدية. وأما دون الثلث كدية السن وهو نصف عشر الدية، ودية الأصبع وهي عشر الدية فهذا لا تحمله العاقلة في مذهب مالك وأحمد، بل هو في ماله عند الشافعي. وعند أبي حنيفة: لا تحمل ما دون دية السن والموضحة، وهو المقدر كأرش الشجة التي دون الموضحة. وإذا وجب على الصبي شيء ولم يكن له مال حمله عنه أبوه في إحدى الروايتين عن أحمد، وروي ذلك عن ابن عباس. وفي الرواية الأخرى وهو قول الأكثرين: أنه في ذمته، وليس على أبيه شيء. والله أعلم.
سئل عن رجل قال لزوجته أسقطي ما في بطنك والإثم علي
وسئل رَحمه الله عن رجل قال لزوجته: أسقطي ما في بطنك والإثم علي، فإذا فعلت هذا، وسمعت منه، فما يجب عليهما من الكفارة؟
فأجاب:
إن فعلت ذلك فعليهما كفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجدا فصيام شهرين متتابعين وعليهما غرة عبد أو أمة لوارثه الذي لم يقتله، لا للأب فإن الأب هو الآمر بقتله، فلا يستحق شيئًا.
سئل عن رجل عدل له جارية اعترف بوطئها وأنها حبلت منه وضربها عمدا فأسقطت
وسئل رَحمه الله عن رجل عدل له جارية اعترف بوطئها بحضرة عدول، وأنها حبلت منه، وأنه سأل بعض الناس عن أشياء تسقط الحمل، وأنه ضرب الجارية ضربا مبرحا على فؤادها فأسقطت عقيب ذلك، وأن الجارية قالت: إنه كان يلطخ ذكره بالقطران ويطؤها حتى يسقطها، وأنه أسقاها السم وغيره من الأشياء المسقطة مكرهة، فما يجب على مالك الجارية بما ذكر؟ وهل هذا مسقط لعدالته، أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، إسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين، وهو من الوأد الذي قال الله فيه: { وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سئلتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [89]، وقد قال: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [90]، ولو قدر أن الشخص أسقط الحمل خطأ مثل أن يضرب المرأة خطأ فتسقط، فعليه غرة عبد أو أمة، بنص النبي ﷺ، واتفاق الأئمة، وتكون قيمة الغرة بقدر عشر دية الأم عند جمهور العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد.
كذلك عليه كفارة القتل عند جمهور الفقهاء، وهو المذكور في قوله تعالى: { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } إلى قوله تعالى: { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ } [91]، وأما إذا تعمد الإسقاط فإنه يعاقب على ذلك عقوبة تردعه عن ذلك، وذلك مما يقدح في دينه وعدالته. والله أعلم.
سئل عن امرأة حامل تعمدت إسقاط الجنين إما بضرب وإما بشرب دواء
وسئل رَحمه الله عن امرأة حامل تعمدت إسقاط الجنين إما بضرب وإما بشرب دواء: فما يجب عليها؟
فأجاب:
يجب عليها بسنة رسول الله ﷺ واتفاق الأئمة غرة عبد أو أمة، تكون هذه الغرة لورثة الجنين، غير أمه، فإن كان له أب كانت الغرة لأبيه، فإن أحب أن يسقط عن المرأة فله ذلك، وتكون قيمة الغرة عشر دية، أو خمسين دينارًا. وعليها أيضا عند أكثر العلماء عتق رقبة، فإن لم تجد صامت شهرين متتابعين، فإن لم تستطع أطعمت ستين مسكينًا.
سئل عن امرأة دفنت ابنها بالحياة حتى مات فإنها كانت مريضة
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة دفنت ابنها بالحياة حتى مات، فإنها كانت مريضة، وهو مريض، فضجرت منه، فما يجب عليها؟
فأجاب:
الحمد للّه، هذا هو الوأد الذي قال الله تعالى فيه: { وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سئلتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [92]، وقال الله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [93]، وفي الصحيحين عن ابن مسعود، عن النبي ﷺ أنه قيل له: أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل للّه ندًا وهو خلقك). قيل: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك). وإذا كان الله قد حرم قتل الولد مع الحاجة وخشية الفقر فلأن يحرم قتله بدون ذلك أولى وأحري. وهذه في قول الجمهور يجب عليها الدية تكون لورثته، ليس لها منها شيء باتفاق الأئمة. وفي وجوب الكفارة عليها قولان. والله أعلم.
سئل عن الرجل يلطم الرجل أو يكلمه أو يسبه هل يجوز أن يفعل به كما فعل
وسئل رحمه الله عن الرجل يلطم الرجل، أو يكلمه، أو يسبه: هل يجوز أن يفعل به كما فعل؟
فأجاب:
وأما القصاص في اللطمة، والضربة ونحو ذلك، فمذهب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين أن القصاص ثابت في ذلك كله وهو المنصوص عن أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي. وذهب كثير من الفقهاء إلى أنه لا يشرع في ذلك قصاص؛ لأن المساواة فيه متعذرة في الغالب، وهذا قول كثير من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والأول أصح، فإن سنة النبي ﷺ مضت بالقصاص في ذلك، وكذلك سنة الخلفاء الراشدين، وقد قال تعالى: { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [94]، وقال تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [95]، ونحو ذلك.
وأما قول القائل: إن المماثلة في هذه الجناية متعذرة، فيقال: لابد لهذه الجناية من عقوبة: إما قصاص، وإما تعزير. فإذا جوز أن يعزر تعزيرًا غير مضبوط الجنس والقدر فلأن يعاقب إلى ماهو أقرب إلى الضبط من ذلك أولى وأحري. والعدل في القصاص معتبر بحسب الإمكان، ومن المعلوم أن الضارب إذا ضرب ضربة مثل ضربته أو قريبا منها كان هذا أقرب إلى العدل من أن يعزر بالضرب بالسوط. فالذي يمنع القصاص في ذلك خوفا من الظلم يبيح ماهو أعظم ظلما مما فر منه. فعلم أنما جاءت به السنة أعدل وأمثل.
وكذلك له أن يسبه كما يسبه، مثل أن يلعنه كما يلعنه. أو يقول: قبحك اللّه، فيقول: قبحك اللّه. أو: أخزاك اللّه، فيقول له: أخزاك اللّه. أو يقول: ياكلب، ياخنزير، فيقول: ياكلب، ياخنزير، فأما إذا كان محرم الجنس مثل تكفيره أو الكذب عليه لم يكن له أن يكفره ولا يكذب عليه. وإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه؛ لأن أباه لم يظلمه.
سئل عمن ضرب غيره فعطل منفعة إصبعه
وسئل رَحمه الله عمن ضرب غيره فعطل منفعة إصبعه.
فأجاب:
إذا تعطلت منفعة إصبعه بالجناية التي اعتدي فيها وجبت دية الإصبع، وهي عشر الدية الكاملة. والله أعلم.
سئل عن اثنين أحدهما حر والآخر عبد حملوا خشبة فوقعت على رجل فمات
وسئل قدسَ الله روحَه عن اثنين: أحدهما حر، والآخر عبد، حملوا خشبة فتهورت منهم الخشبة من غير عمد، فأصابت رجلا، فأقام يومين وتوفي: فما يجب على الحر والعبد؟ وماذا يجب على مالك العبد إذا تغيب العبد؟
فأجاب:
إذا حصل منهما تفريط أو عدوان وجب الضمان عليهما. وإن كان هو المفرط بوقوفه حيث لا يصلح فلا ضمان. وإن لم يحصل تفريط منهما فلا ضمان عليهما. وإن كان بطريق السبب فلا ضمان.
وإذا وجب الضمان عليهما نصفين فنصيب العبد يتعلق برقبته، فإن شاء سيده أن يسلمه في الجناية، وإن شاء أن يفتديه. وإذا افتداه فإنه يفتديه بأقل الأمرين من قيمته وقدر جنايته في مذهب الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وفي الأخرى، وفي مذهب مالك يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ. فأما إن جني العبد وهرب بحيث لا يمكن سيده تسليمه فليس على السيد شيئًا لا أن يختار. والله أعلم.
سئل عن ثلاثة حملوا عامود رخام ثم إن منهم اثنين رموا العامود على الآخر كسروا رجله
وسئل رَحمه الله عن ثلاثة حملوا عامود رخام، ثم إن منهم اثنين رموا العامود على الآخر كسروا رجله، فما يجب عليهم؟
فأجاب:
الحمد للّه، نعم إذ ألقوا عليه عامود الرخام حتى كسروا ساقه وجب ضمان ذلك، لكن من العلماء من يوجب بعيرين من الإبل، كما هو المشهور عن أحمد. ومنهم من يوجب فيه حكومة، وهو أن يقوم المجني عليه كأنه لا كسر به، ثم يقوم مكسورا، فينظر ما نقص من قيمته، فيجب بقسطه. والله أعلم.
سئل عن رجلين تخاصما وتماسكا بالأيدي ولم يضرب أحدهما الآخر ثم بعد اسبوع توفي أحدهما
وسئل رَحمه الله عن رجلين تخاصما وتماسكا بالأيدي، ولم يضرب أحدهما الآخر، وكان أحدهما مريضا، ثم تفارقا في عافية، ثم بعد أسبوع توفي أحدهما، وهرب الآخر قبل موته بثلاثة أيام، فمسك أبو الهارب وألزموه بإحضار ولده، فاعتقد أن الخصم لم يمت، والتزم لأهله أنه مهما تم عليه كان هو القائم به، فلما مات اعتقلوا أباه تسعة أشهر فراضي أبوه أهل الميت بمال، وأبري المتهوم وكل أهله: فهل لهذا الملتزم بالمبلغ أن يرجع على أحد من بني عمه بشيء من المبلغ؟ وهل يبرأ الهارب؟
فأجاب:
إن ثبت أن الهارب قتله خطأ بأن يكون أحدهما مريضا وقد ضربه الآخر ضربا شديدا يزيد في مرضه، وكان سببا في موته، فالدية على العاقلة. فعلى عصبة بني العم وغيرهما أن يتحملوا هذا القدر الذي رضي به أهل القتيل فإنه أخف من الدية، وأما إن لم يثبت شيء من ذلك، لكن أخذ الأب بمجرد إقراره، لم يلزمهم بإقرار الأب شيء، وليس لأهل الدية الذين صالحوا على هذا القدر أن يطالبوا بأكثر منه. والله أعلم.
سئل عن رجل رأى رجلا قتل ثلاثة من المسلمين في شهر رمضان ولحس السيف بفمه وأن ولي الأمر لم يقدر عليه ليقيم عليه الحد
وسئل قدس الله رُوحه عن رجل رأى رجلًا قتل ثلاثة من المسلمين في شهر رمضان، ولحس السيف بفمه. وأن ولي الأمر لم يقدر عليه ليقيم عليه الحد، وأن الذي رآه قد وجده في مكان لم يقدر على مسكه: فهل له أن يقتل القاتل المذكور بغير حق؟ وإذا قتله هل يؤجر على ذلك أو يطالب بدمه؟
فأجاب:
إن كان قاطع طريق قتلهم لأخذ أموالهم وجب قتله، ولا يجوز العفو عنه، وإن كان قتلهم لغرض خاص مثل خصومة بينهم، أو عداوة، فأمره إلى ورثة القتيل: إن أحبوا قتله قتلوه، وإن أحبوا عفوا عنه، وإن أحبوا أخذوا الدية. فلا يجوز قتله إلا بإذن الورثة الأخرىن. وأما إن كان قاطع طريق، فقيل: بإذن الإمام، فمن علم أن الإمام أذن في قتله بدلائل الحال جاز أن يقتله على ذلك، وذلك مثل أن يعرف أن ولاة الأمور يطلبونه ليقتلوه، وأن قتله واجب في الشرع، فهذا يعرف أنهم آذنون في قتله، وإذا وجب قتله كان قاتله مأجورًا في ذلك.
سئل عن رجلين قبض أحدهما لواحد والآخر ضربه فشلت يده
وسئل رَحمه الله عن رجلين قبض أحدهما لواحد، والآخر ضربه فشلت يده.
فأجاب:
الحمد للّه، هذا فيه نزاع. والأظهر أنه يجب على الاثنين القود إن وجب، وإلا فالدية عليهما. والله أعلم.
سئل عن رجل وجد عند امرأته رجلا أجنبيا فقتلها ثم تاب بعد موتها
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل وجد عند امرأته رجلا أجنبيا فقتلها، ثم تاب بعد موتها، وكان له أولاد صغار، فلما كبر أحدهما أراد أداء كفارة القتل، ولم يجد قدرة على العتق، فأراد أن يصوم شهرين متتابعين: فهل تجب الكفارة على القاتل؟ وهل يجزئ قيام الولد بها؟ وإذا كان الولد امرأة فحاضت في زمن الشهرين: هل ينقطع التتابع؟ وإذا غلب على ظنها أن الطهر يحصل في وقت معين: هل يجب عليها الإمساك، أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، إن كان قد وجدهما يفعلان الفاحشة وقتلها فلا شيء عليه في الباطن في أظهر قولي العلماء، وهو أظهر القولين في مذهب أحمد، وإن كان يمكنه دفعه عن وطئها بالكلام، كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (لو أن رجلا اطلع في بيتك ففقأت عينه ما كان عليك شيء)، ونظر رجل مرة في بيته فجعل يتبع عينه بمدري لو أصابته لقلعت عينه، وقال: (إنما جعل الاستئذان من أجل النظر) وقد كان يمكن دفعه بالكلام. وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبيده سيف متلطخ بدم قد قتل امرأته، فجاء أهلها يشكون عليه، فقال الرجل: إني وجدت لكاعا قد تفخذها فضربت ما هنالك بالسيف فأخذ السيف فهزه، ثم أعاده إليه، فقال: إن عاد فعد.
ومن العلماء من قال: يسقط القود عنه إذا كان الزاني محصنا، سواءكان القاتل هو زوج المرأة أو غيره، كما يقوله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد.
والقول الأول إنما مأخذه أنه جني على حرمته فهو كفقء عين الناظر، وكالذي انتزع يده من فم العاض حتى سقطت ثناياه، فأهدر النبي ﷺ دمه، وقال: (يدع يده في فيك فتقضمها كما يقضم الفحل؟!)، وهذا الحديث الأول القول به مذهب الشافعي وأحمد.
ومن العلماء من لم يأخذ به، قال: لأن دفع الصائل يكون بالأسهل. والنص يقدم على هذا القول، وهذا القول فيه نزاع بين السلف والخلف، فقد دخل اللص على عبد الله بن عمر، فأصلت له السيف، قالوا: فلولا أنا نهيناه عنه لضربه، وقد استدل أحمد بن حنبل بفعل ابن عمر هذا مع ما تقدم من الحديثين، وأخذ بذلك.
وأما إن كان الرجل لم يفعل بعد الفاحشة، ولكن وصل لأجل ذلك فهذا فيه نزاع، والأحوط لهذا أن يتوب من القتل من مثل هذه الصورة، وفي وجوب الكفارة عليه نزاع، فإذا كفر فقد فعل الأحوط، فإن الكفارة تجب في قتل الخطأ. وأما قتل العمد فلا كفارة فيه عند الجمهور، كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه. وعليه الكفارة عند الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى.
وإذا مات من عليه الكفارة ولم يكفر فليطعم عنه وليه ستين مسكينا فإنه بدل الصيام الذي عجزت عنه قوته، فإذا أطعم عنه في صيام رمضان فهذا أولي. والمرأة إن صامت شهرين متتابعين لم يقطع الحيض تتابعها، بل تبني بعد الطهر باتفاق الأئمة. والله أعلم.
سئل عن رجل ضرب رجلا بسيف شل يده ثم إنه جاءه ودفع إليه أربعة أفدنه طين سواء مصالحة
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل ضرب رجلا بسيف شل يده، ثم إنه جاءه ودفع إليه أربعة أفدنه طين سواء، مصالحةً، ثم أكلها اثني عشر سنة، ولم يكتب بينه وبينه أبدًا، وحال المضروب ضعيف: فهل يلزم الضارب الدية؟
فأجاب:
إن كان صالحه عن شلل يده على شيء وجب ما اصطلحا عليه، ولم يكن لهذا أن يزيده، ولا لهذا أن ينقصه. وأما إن كان أعطاه شيئًا بلا مصالحة فله أن يطلب تمام حقه. وشلل اليد فيه دية اليد. والله أعلم.
سئل عن رجل ضرب رجلا فتحول حنكه ووقعت أنيابه وخيطوا حنكه بالإبر
وسئل قدسَ الله روحَه عن رجل ضرب رجلا فتحول حنكه، ووقعت أنيابه، وخيطوا حنكه بالإبر، فما يجب؟
فأجاب:
يجب في الأسنان في كل سن نصف عشر الدية خمسون دينارا، أو خمس من الإبل أو ستمائة درهم. ويجب في تحويل الحنك الأرش: يقوم المجني عليه كأنه عبد سليم، ثم يقوم وهو عبد معيب، ثم ينظر تفاوت ما بين القيميين، فيجب بنسبته من الدية. وإذا كانت الضربة مما تقلع الأسنان في العادة فللمجني عليه القصاص، وهو أن يقلع له مثل تلك الأسنان من الضارب.
سئل عن مسلم قتل مسلما متعمدا بغير حق ثم تاب بعد ذلك
وسئل رَحمه الله عن مسلم قتل مسلما متعمدا بغير حق، ثم تاب بعد ذلك: فهل ترجي له التوبة، وينجو من النار، أم لا؟ وهل يجب عليه دية، أم لا؟
فأجاب:
قاتل النفس بغير حق عليه حقان: حق للّه بكونه تعدي حدود الله وانتهك حرماته، فهذا الذنب يغفره الله بالتوبة الصحيحة، كما قال تعالى: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [96]، أي: لمن تاب. وقال: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [97]، وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ: (أن رجلا قتل تسعة وتسعين رجلا، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل عليه، فسأله: هل من توبة؟ فقال: أبعد تسعة وتسعين تكون لك توبة؟ !! فقتله، فكمل به مائة! ثم مكث ما شاء اللّه، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل عليه، فسأله هل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ! ولكن ائت قرية كذا فإن فيها قوما صالحين فاعبد الله معهم، فأدركه الموت في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فبعث الله ملكا يحكم بينهم فأمر أن يقاس فإلى أي القريتين كان أقرب ألحق به، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة فغفر الله له).
والحق الثاني حق الآدميين، فعلى القاتل أن يعطي أولياء المقتول حقهم، فيمكنهم من القصاص، أو يصالحهم بمال، أو يطلب منهم العفو فإذا فعل ذلك فقد أدي ما عليه من حقهم، وذلك من تمام التوبة.
وهل يبقي للمقتول عليه حق يطالبه به يوم القيامة؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره، ومن قال يبقي له؛ فإنه يستكثر القاتل من الحسنات حتى يعطي المقتول من حسناته بقدر حقه، ويبقي له ما يبقي، فإذا استكثر القاتل التائب من الحسنات رجيت له رحمة اللّه، وأنجاه من النار، ولا يقنط من رحمة الله إلا القوم الفاسقون.
سئل عن رجلين اختلفا في قتل النفس عمدا فقال أحدهما إن هذا ذنب لا يغفر وقال الآخر إذا تاب تاب الله عليه
وسئل رحمه الله عن رجلين اختلفا في قتل النفس عمدًا. فقال أحدهما: إن هذا ذنب لا يغفر، وقال الآخر: إذا تاب تاب الله عليه.
فأجاب:
أما حق المظلوم فإنه لا يسقط باستغفار الظالم القاتل، لا في قتل النفس، ولا في سائر مظالم العباد، فإن حق المظلوم لا يسقط بمجرد الاستغفار، لكن تقبل توبة القاتل وغيره من الظلمة؛ فيغفر الله له بالتوبة الحق الذي له. وأما حقوق المظلومين فإن الله يوفيهم إياها: إما من حسنات الظالم، وإما من عنده. والله أعلم.
سئل عمن اتهموه النصارى في قتل نصارى ولم يظهر عليه
وسئل رحمه الله تعالى عمن اتهموه النصارى في قتل نصارى ولم يظهر عليه، فأحضروه إلى النائب بالكرك، وألزموه أن يعاقبه، فعوقب حتى مات ولم يقر بشيء، فما يلزم النصارى الذين التزموا بدمه؟
فأجاب:
يجب عليهم ضمان الذي التزموا دمه إن مات تحت العقوبة بل يعاقبون كما عوقب أيضا كما روي أبو داود في السنن عن النعمان بن بشير أنه قضى نحو ذلك. والله أعلم.
كتاب الحدود
فصل خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابا مطلقا
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابًا مطلقًا، كقوله: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ } [98]، وقوله: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } [99]، وقوله: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ } [100]، وكذلك قوله: { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } [101]، لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادرًا عليه، والعاجزون لا يحب عليهم، وقد علم أن هذا فرض على الكفاية، وهو مثل الجهاد، بل هو نوع من الجهاد. فقوله: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } [102]، وقوله: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } [103]، وقوله: { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ } [104]، ونحو ذلك، هو فرض على الكفاية من القادرين. والقدرة هي السلطان؛ فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه.
والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد، والباقون نوابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها، وعجز من الباقين، أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق؛ ولهذا قال العلماء إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم، فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم، وكذلك لو لم يتفرقوا، لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة، فإن ذلك أيضا إذا اسقط عنه إلزامهم بذلك لم يسقط عنهم القيام بذلك، بل عليهم أن يقيموا ذلك، وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق، أو إضاعته لذلك، لكان ذلك الفرض على القادر عليه.
وقول من قال: لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه. إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل، كما يقول الفقهاء: الأمر إلى الحاكم، إنما هو العادل القادر فإذا كان مضيعا لأموال اليتامي، أو عاجزًا عنها، لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه، وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزًا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه.
والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه. والله أعلم.
باب حد الزنا
سئل عمن زنا بأخته ماذا يجب عليه
سئل شَيخ الإسلام قدس الله روحه عمن زنا بأخته: ماذا يجب عليه؟
فأجاب:
وأما من زنا بأخته مع علمه بتحريم ذلك وجب قتله، والحجة في ذلك ما رواه البراء بن عازب، قال: مر بي خالي أبو بردة، ومعه راية، فقلت: أين تذهب يا خالي! قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى رجل تزوج بامرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه، وأخمس ماله. والله أعلم.
سئل عن امرأة مزوجة بزوج كامل ولها أولاد فتعلقت بشخص من الأطراف أقامت معه على الفجور
وسئل رحمه الله عن امرأة مزوجة بزوج كامل، ولها أولاد، فتعلقت بشخص من الأطراف أقامت معه على الفجور، فلما ظهر أمرها سعت في مفارقة الزوج: فهل بقي لها حق على أولادها بعد هذا الفعل؟ وهل عليهم إثم في قطعها؟ وهل يجوز لمن تحقق ذلك منها قتلها سرا؟ وإن فعل ذلك غيره يأثم؟
فأجاب:
الحمد للّه، الواجب على أولادها وعصبتها أن يمنعوها من المحرمات فإن لم تمتنع إلا بالحبس حبسوها، وإن احتاجت إلى القيد قيدوها. وما ينبغي للولد أن يضرب أمه. وأما برها فليس لهم أن يمنعوها برها، ولا يجوز لهم مقاطعتها بحيث تتمكن بذلك من السوء، بل يمنعوها بحسب قدرتهم. وإن احتاجت إلى رزق وكسوة رزقوها، وكسوها، ولا يجوز لهم إقامة الحد عليها بقتل ولا غيره، وعليهم الإثم في ذلك.
سئل عن بلد فيها جوار سائبات يزنون مع النصارى والمسلمين
وسئل رحمه الله تعالى عن بلد فيها جوارٍ سائبات يزنون مع النصارى والمسلمين.
فأجاب:
وأما على سيد الأمة إذا زنت أن يقيم عليها الحد، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت في الرابعة فليبعها ولو بضفير)، والضفير: الحبل، فإن لم يفعل ما أمره به رسول الله ﷺ كان عاصيا للّه ورسوله. وكان إصراره على المعصية قادحًا في عدالته، فأما إذا كان هو يرسلها لتبغي وتنفق على نفسها من مهر البغاء، أو يأخذ هو شيئًا من ذلك، فهذا ممن لعنه الله ورسوله، وهو فاسق خبيث، آذن في الكبيرة، وآخذ مهر البغي، ولم ينهها عن الفاحشة. ومثل هذا لا يجوز أن يكون معدلًا، بل لا يجوز إقراره بين المسلمين، بل يستحق العقوبة الغليظة حتى يصون إماءه. وأقل العقوبة أن يهجر فلا يسلم عليه، ولا يصلى خلفه إذا أمكنت الصلاة خلف غيره، ولا يستشهد ولا يولى ولاية أصلًا. ومن استحل ذلك فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكان مرتدًا لا ترثه ورثته المسلمون. وإن كان جاهلًا بالتحريم عرف ذلك حتى تقوم عليه الحجة، فإن هذا من المحرمات المجمع عليها.
سئل عمن حلف لولده أنه إن فعل منكرا يقيم عليه الحد فأقر لوالده فضربه مائة جلدة
وسئل رحمه الله تعالى عمن حلف لولده أنه إن فعل منكرًا يقيم عليه الحد، فأقر لوالده فضربه مائة جلدة، وبقي تغريب عام، فهل يجوز في تغريب العام كفارة، أم لا؟
فأجاب:
أنه إذا غربه في الحبس ولو في دار الأب يوفي يمينه، وإن كان مطلقا غير مقيد في موضع معين، فإنه لا يجب القيد، ولا جعله في مكان مظلم. والله أعلم.
سئل عمن وجب عليه حد الزنا فتاب قبل أن يحد فهل يسقط عنه الحد بالتوبة
وسئل عمن وجب عليه حد الزنا فتاب قبل أن يحد: فهل يسقط عنه الحد بالتوبة؟
فأجاب:
إن تاب من الزنا، والسرقة، أو شرب الخمر، قبل أن يرفع إلى الإمام: فالصحيح أن الحد يسقط عنه، كما يسقط من المحاربين بالإجماع إذا تابوا قبل القدرة.
سئل عن رجل أذنب ذنبا يجب عليه حد من الحدود
وسئل رَحمه الله عن رجل أذنب ذنبا يجب عليه حد من الحدود: مثل جلد، أو حصب ثم تاب من ذلك الذنب، وأقلع، واستغفر، ونوي ألا يعود: فهل يجزئه ذلك؟ أو يحتاج مع ذلك إلى أن يأتي إلى ولي الأمر ويعرفه بذنبه ليقيم عليه الحد، أم لا؟ وهل ستره على نفسه وتوبته أفضل، أم لا؟
فأجاب:
إذا تاب توبة صحيحة تاب الله عليه من غير حاجة إلى أن يقر بذنبه حتى يقام عليه الحد، وفي الحديث: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر اللّه، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب اللّه). وفي الأثر أيضا: من أذنب سرًا فليتب سرًا، ومن أذنب علانية فليتب علانية. وقد قال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } الآية [105].
سئل عن إثم المعصية وحد الزنا هل تزاد في الأيام المباركة أم لا
وسئل رَحمه الله عن إثم المعصية، وحد الزنا: هل تزاد في الأيام المباركة، أم لا؟
فأجاب:
نعم، المعاصي في الأيام المفضلة والأمكنة المفضلة تغلظ، وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان.
سئل عن امرأة قوادة تجمع الرجال والنساء وقد ضربت وحبست ثم عادت تفعل ذلك
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة قوادة تجمع الرجال والنساء، وقد ضربت، وحبست، ثم عادت تفعل ذلك، وقد لحق الجيران الضرر بها: فهل لولي الأمر نقلها من بينهم، أم لا؟
فأجاب:
نعم، لولي الأمر كصاحب الشرطة أن يصرف ضررها بما يراه مصلحة: إما بحبسها، وإما بنقلها عن الحرائر، وإما بغير ذلك مما يري فيه المصلحة، وقد كان عمر بن الخطاب يأمر العزاب ألا تسكن بين المتأهلين، وألايسكن المتأهل بين العزاب، وهكذا فعل المهاجرون لما قدموا المدينة على عهد النبي ﷺ، ونفوا شابا خافوا الفتنة به من المدينة إلى البصرة، وثبت في الصحيحين: أن النبي ﷺ نفي المخنثين وأمر بنفيهم من البيوت خشية أن يفسدوا النساء. فالقوادة شر من هؤلاء، والله يعذبها مع أصحابها.
سئل عن الفاعل والمفعول به بعد إدراكهما ما يجب عليهما وما يطهرهما
وسئل عن الفاعل، والمفعول به بعد إدراكهما ما يجب عليهما؟ وما يطهرهما؟ وما ينويان عند الطهارة؟
فأجاب:
أما الفاعل والمفعول به فيجب قتلهما رجما بالحجارة، سواءكانا محصنين أو غير محصنين، لما في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)، ولأن أصحاب النبي ﷺ اتفقوا على قتلهما. وعليهما الاغتسال من الجنابة، وترتفع الجنابة من الاغتسال، لكن لا يطهران من نجاسة الذنب إلا بالتوبة، وهذا معني ما روي أنهما لو اغتسلا بالماء ينويان رفع الجنابة واستباحة الصلاة....
سئل عن قوله في التهذيب من أتي بهيمة فاقتلوا المفعول واقتلوا الفاعل بها
وسئل رحمه الله عن قوله في التهذيب: من أتي بهيمة فاقتلوا المفعول، واقتلوا الفاعل بها: فهل يجب ذلك، أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، هذا فيه حديث، رواه أبو داود في السنن، وهو قوله: (من أتي بهيمة فاقتلوه، واقتلوها)، وهو أحد قولي العلماء، كأحد القولين في مذهب أحمد، ومذهب الشافعي.
باب حد القذف
سئل عمن قذف رجلا لأنه ينظر إلى حريم الناس وهو كاذب عليه
وسئل شيخ الإسلام رَحِمهُ الله عمن قذف رجلا لأنه ينظر إلى حريم الناس، وهو كاذب عليه، فما يجب على القاذف؟
الجواب
إذا كان الأمر على ما ذكر، فإنه يعزر على افترائه على هذا الشخص بما يزجره وأمثاله، إذا طلب المقذوف ذلك.
سئل عن رجل تزوج امرأة من أهل الخير وله مطلقة وشرط إن رد مطلقته كان الصداق حالا
وسئل رَحِمهُ الله تعالى عن رجل تزوج امرأة من أهل الخير وله مطلقة، وشرط إن رد مطلقته كان الصداق حالًا، ثم إنه رد المطلقة، وقذف هو ومطلقته عرض الزوجة، ورموها بالزنا، بأنها كانت حاملًا من الزنا، وطلقها بعد دخوله بها، فما الذي يجب عليهما؟ وهل يقبل قولهما؟ وهل يسقط الصداق، أم لا؟
فأجاب
الحمد لله رب العالمين، أما مطلقته فتحد على قذفها ثمانين جلدة إذا طلبت ذلك المرأة المقذوفة، ولا تقبل لها شهادة أبدًا؛ لأنها فاسقة. وكذلك الرجل عليه ثمانون جلدة إذا طلبت المرأة ذلك، ولاتقبل له شهادة أبدًا، وهو فاسق إذا لم يتب.
وهل له إسقاط الحد باللعان؟ فيه للفقهاء ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل: يلاعن. وقيل: لا يلاعن. وقيل: إن كان ثم ولد يريد نفيه لاعن، وإلا فلا. وصداقها باق عليها لا يسقط باللعان، كما سن ذلك رسول الله ﷺ، وهذا كله باتفاق الأئمة، إلا ما ذكرناه من جواز اللعان ففيه الأقوال الثلاثة: أحدها: لا يلاعن، بل يحد حد القذف، وتسقط شهادته، وهذا مذهب أحمد في أشهر الروايات عنه، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي. والثاني: يلاعن، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في رواية عنه. والثالث: إن كان هناك حمل لاعن، لنفيه، وإلا فلا. وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد. والله أعلم.
سئل عن رجل قال لرجل أنت فاسق شارب الخمر ومنعه من أجرة ملكه الذي يملك انتفاعه شرعا
وسئل عن رجل قال لرجل: أنت فاسق شارب الخمر، ومنعه من أجرة ملكه الذي يملك انتفاعه شرعًا.
فأجاب:
إذا كان المقذوف محصنًا وجب على القاذف حد القذف إذا طلبه المقذوف، وأما شتمه بغير ذلك إذا كان كاذبًا فعليه أن يعزر على ذلك. وأما ضربه وحبسه إذا كان ظالمًا، فإنه يفعل به كما فعل، وما عطله عليه من المنفعة ضمنه.
سئل عن رجل قذف رجلا وقال له أنت علق ولد زنا فما الذي يجب عليه
وسئل رَحِمهُ الله تعالى عن رجل قذف رجلا، وقال له: أنت علق، ولد زنا، فما الذي يجب عليه؟
فأجاب:
إذا قذفه بالزنا أو اللواط كقوله: أنت علق، وكان ذلك الرجل حرًا مسلمًا لم يشتهر عنه ذلك، فعليه حد القذف إذا طلبه المقذوف وهو ثمانون جلدة إن كان القاذف حرًا، وأربعون إن كان رقيقًا عند الأئمة الأربعة.
باب حد السكر
الأشربة المسكرة
قال شيخ الإسلام رضي الله عنه:
أما الأشربة المسكرة، فمذهب جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر العلماء أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام. وهذا مذهب مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد بن حنبل وأصحابه، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، وهو اختيار محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، واختيار طائفة من المشايخ مثل أبي الليث السمرقندي، وغيره وهذا قول الأوزاعي وأصحابه، والليث بن سعد وأصحابه، وإسحاق بن راهويه وأصحابه، وداود بن على وأصحابه وأبي ثور وأصحابه، وابن جرير الطبري وأصحابه وغير هؤلاء من علماء المسلمين وأئمة الدين.
وذهب طائفة من العلماء من أهل الكوفة كالنخعي والشعبي وأبي حنيفة وشريك وغيرهم إلى أن ما أسكر من غير الشجرتين النخل والعنب كنبيذ الحنطة والشعير والذرة والعسل، ولبن الخيل وغير ذلك، فإنما يحرم منه القدر الذي يسكر. وأما القليل الذي لا يسكر فلا يحرم. وأما عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد فهو خمر يحرم قليله وكثيره بإجماع المسلمين.
وأصحاب القول الثاني قالوا: لا يسمى خمرًا إلا ما كان من العنب. وقالوا: إن نبيذ التمر والزبيب إذا كان نيا مسكرًا حرِّم قليله وكثيره ولا يسمي خمرًا، فإن طبخ أدني طبخ حل. وأما عصير العنب إذا طبخ وهو مسكر لم يحل، إلا أن يذهب ثلثاه، ويبقي ثلثه. فأما بعد أن يصير خمرًا فلا يحل وإن طبخ إذا كان مسكرًا بلا نزاع.
والقول الأول الذي عليه جمهور علماء المسلمين هو الصحيح الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، فإن الله تعالى قال في كتابه: { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [106].
واسم الخمر في لغة العرب الذين خوطبوا بالقرآن كان يتناول المسكر من التمر وغيره، ولا يختص بالمسكر من العنب، فإنه قد ثبت بالنقول الصحيحة أن الخمر لما حرمت بالمدينة النبوية وكان تحريمها بعد غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، لم يكن من عصير العنب شيء، فإن المدينة ليس فيها شجر عنب، وإنما كانت خمرهم من التمر. فلما حرمها الله عليهم أراقوها بأمر النبي ﷺ بل وكسروا أوعيتها، وشقوا ظروفها، وكانوا يسمونها خمرًا. فعلم أن اسم الخمر في كتاب الله عام لا يختص بعصير العنب.
فروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة، ما منها شراب العنب. وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: إن الخمر حرمت يومئذ من البسر والتمر. وفي لفظ لمسلم: لقد أنزل الله هذه الآية التي حرم فيها الخمر، وما بالمدينة شراب إلا من تمر وبسر. وفي لفظ للبخاري: وحرمت علينا حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر. وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب من فريخ زهو وتمر فجاءهم آتٍ، فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: يا أنس، قم إلى هذه الجرار فَأَهْرِقْهَا، فأهرقتها.
وقد ثبت عن النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم: أن الخمر يكون من الحنطة والشعير، كما يكون من العنب، ففي الصحيحين عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال على منبر النبي ﷺ: أما بعد، أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل. وروى أهل السنن أبو داود والترمذي وابن ماجه عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: (إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن التمر خمرًا، ومن العسل خمرًا)، زاد أبوداود: (وأنا أنهي عن كل مسكر).
وقد استفاضت الأحاديث عن النبي ﷺ بأن كل مسكر خمر، وهو حرام، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت:
سئل رسول الله ﷺ عن البتع، وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام)، وفي الصحيحين عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع، وهو من العسل ينبذ حتي يشتد قال: فكان رسول الله ﷺ قد أعطي جوامع الكلم بخواتيمه فقال: (كل مسكر حرام). وفي صحيح مسلم عن جابر أن رجلا من حبشان، وحبشان من اليمن سأل النبي ﷺ عن شراب يشربونه بأراضيهم من الذرة يقال له: المزر، فقال: (أمسكر هو؟). قال: نعم. قال: (كل مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال). قالوا: يارسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: (عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار). وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام). وفي رواية له: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام). وعن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) رواه ابن ماجه، والدارقطني، وصححه، وقد روي أهل السنن مثله من حديث جابر ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده. والأحاديث كثيرة صحيحة في هذا الباب.
ولكن عذر من خالفها من أهل العلم أنها لم تبلغهم، وسمعوا أن من الصحابة من شرب النبيذ، وبلغتهم في ذلك آثار، فظنوا أن الذي شربوه كان مسكرًا، وإنما كان الذي تنازع فيه الصحابة هو ما نبذ في الأوعية الصلبة، فإن النبي ﷺ نهي عن الانتباذ في الدباء، وهو القرع، وفي الحنتم وهو ما يصنع من التراب من الفخار، ونهي عن النقير وهو الخشب الذي ينقر، ونهي عن المزفت، وهو الظرف المزفت، وأمرهم أن ينتبذوا في الظروف الموكاة، وهو أن ينقع التمر أو الزبيب في الماء حتي يحلو، فيشرب حلوًا قبل أن يشتد، فهذا حلال باتفاق المسلمين. ونهاهم أن ينتبذوا هذا النبيذ الحلال في تلك الأوعية؛ لأن الشدة تدب في الشراب شيئًا فشيئًا، فيشربه المسلم وهو لا يدري أنه قد اشتد، فيكون قد شرب محرمًا، وأمرهم أن ينتبذوا في الظرف الذي يربطون فمه؛ لأنه إن اشتد الشراب انشق الظرف فلا يشربون مسكرًا.
والنهي عن نبيذ الأوعية القوية فيه أحاديث كثيرة مستفيضة. ثم روي عنه إباحة ذلك، كما في صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب، قال: قال رسول الله ﷺ: (كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكرًا). وفي رواية: (نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفًا لا يحل شيئًا ولا يحرمه، وكل مسكر حرام)، فمن الصحابة والتابعين من لم يثبت عنده النسخ فأخذ بالأحاديث الأول. ومنهم من اعتقد صحة النسخ فأباح الانتباذ في كل وعاء، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي. والنهي عن بعض الأوعية قول مالك. وعن أحمد روايتان.
فلما سمع طائفة من علماء الكوفة أن من السلف من شرب النبيذ ظنوا أنهم شربوا المسكر، فقال طائفة منهم كالشافعي، والنخعي، وأبي حنيفة، وشريك، وابن أبي ليلي، وغيرهم يحل ذلك، كما تقدم. وهم في ذلك مجتهدون، قاصدون للحق، وقد قال النبي ﷺ: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر).
وأما سائر العلماء فقالوا بتلك الأحاديث الصحيحة، وهذا هو الثابت عن الصحابة، وعليه دل القياس الجلي؛ فإن الله تعالى قال: { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [107]، فإن المفسدة التي لأجلها حرم الله سبحانه وتعالى الخمر، هي أنها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء. وهذا أمر تشترك فيه جميع المسكرات، لا فرق في ذلك بين مسكر ومسكر، والله سبحانه وتعالى حرم القليل؛ لأنه يدعو إلى الكثير، وهذا موجود في جميع المسكرات.
سئل عن الخمر والميسر هل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وما هي المنافع
وسئل رحمه الله تعالى عن الخمر والميسر هل { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [108]، وما هي المنافع؟
فأجاب:
هذه الآية أول ما نزل في الخمر، فإنهم سألوا عنها النبي ﷺ فأنزل الله هذه الآية، ولم يحرمها، فأخبرهم أن فيها إثمًا وهو ما يحصل بها من ترك المأمور وفعل المحظور، وفيها منفعة وهو ما يحصل من اللذة، ومنفعة البدن، والتجارة فيها، فكان من الناس من لم يشربها، ومنهم من شرب، ثم بعد هذا شرب قوم الخمر فقاموا يصلون وهم سكارى، فخلطوا في القراءة، فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ
تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [109]، فنهاهم عن شربها قرب الصلاة، فكان منهم من تركها. ثم بعد ذلك أنزل الله تعالى: { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [110]. فحرمها الله في هذه الآية من وجوه متعددة، فقالوا: انتهينا. انتهينا. ومضي حينئذ أمر النبي ﷺ بإراقتها، فكسرت الدنان والظروف، ولعن عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وآكل ثمنها.
سئل هل يجوز شرب قليل ما أسكر كثيره من غير خمر العنب كالصرماء
وسئل رحمه الله تعالى: هل يجوز شرب قليل ما أسكر كثيره من غير خمر العنب، كالصرماء والقمز، والمزر؟ أو لا يحرم إلا القدح الأخير؟
فأجاب:
الحمد لله، قد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى قال: قلت يارسول الله، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع وهو العسل ينبذ حتى يشتد. والمزر وهو من الذرة ينبذ حتى يشتد، قال: وكان رسول الله ﷺ قد أعطي جوامع الكلم، فقال: (كل مسكر حرام). وعن عائشة قالت: سألت رسول الله ﷺ عن البتع، وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام). وفي صحيح مسلم عن جابر أن رجلا من اليمن سأل رسول الله ﷺ عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يقال له: المزر، فقال: (أمسكر هو؟) قال: نعم. فقال: (كل مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال). قالوا: يارسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: (عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار).
ففي هذه الأحاديث الصحيحة أن النبي ﷺ سئل عن أشربة من غير العنب كالمزر وغيره فأجابهم بكلمة جامعة، وقاعدة عامة: (إن كل مسكر حرام)، وهذا يبين أنه أراد كل شراب كان جنسه مسكرًا حرام سواء سكر منه أو لم يسكر، كما في خمر العنب. ولو أراد بالمسكر القدح الأخير فقط لم يكن الشراب كله حرامًا، ولكان بين لهم، فيقول أشربوا منه ولا تسكروا؛ ولأنه سألهم عن المزر: (أمسكر هو؟). فقالوا: نعم. فقال: (كل مسكر حرام). فلما سألهم: (أمسكر هو؟) إنما أراد يسكر كثيره كما يقال: الخبز يشبع، والماء يروي، وإنما يحصل الري والشبع بالكثير منه لا بالقليل. كذلك المسكر إنما يحصل السكر بالكثير منه، فلما قالوا له: هو مسكر. قال: (كل مسكر حرام)، فبين أنه أراد بالمسكر كما يراد بالمشبع والمروي ونحوهما، ولم يرد آخر قدح، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ قال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام). وفي لفظ: (كل مسكر حرام). ومن تأوله على القدح الأخير لا يقول: إنه خمر، والنبي ﷺ جعل كل مسكر حرامًا.
وفي السنن عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: (إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن العسل خمرًا). وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب قال على منبر النبي ﷺ: أما بعد، أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر: ما خامر العقل. والأحاديث في هذا الباب كثيرة عن النبي ﷺ تبين أن الخمر التي حرمها اسم لكل مسكر، سواء كان من العسل، أو التمر، أو الحنطة، أو الشعير، أو لبن الخيل، أو غير ذلك. وفي السنن عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم (كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام). قال الترمذي: حديث حسن، وقد روي أهل السنن عن النبي ﷺ: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) من حديث جابر، وابن عمر، وعمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، وغيرهم، وصححه الدارقطني وغيره، وهذا الذي عليه جماهير أئمة المسلمين من الصحابة، والتابعين، وأئمة الأمصار، والآثار.
ولكن بعض علماء المسلمين سمعوا أن النبي ﷺ رخص في النبيذ، وأن الصحابة كانوا يشربون النبيذ، فظنوا أنه المسكر، وليس كذلك، بل النبيذ الذي شربه النبي ﷺ والصحابة هو أنهم كانوا ينبذون التمر أو الزبيب أو نحو ذلك في الماء حتى يحلو، فيشربه أول يوم، وثاني يوم، وثالث يوم، ولا يشربه بعد ثلاث؛ لئلا تكون الشدة قد بدت فيه، وإذا اشتد قبل ذلك لم يشرب. وقد روي أهل السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (ليشربن ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها). وروي هذا عن النبي ﷺ من أربعة أوجه، وهذا يتناول من شرب هذه الأشربة التي يسمونها الصرما وغير ذلك، والأمر في ذلك واضح؛ فإن خمر العنب قد أجمع المسلمون على تحريم قليلها وكثيرها، ولا فرق في الحس ولا العقل بين خمر العنب والتمر والزبيب والعسل؛ فإن هذا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا يوقع العداوة والبغضاء، وهذا يوقع العداوة والبغضاء.
والله سبحانه قد أمر بالعدل والاعتبار، وهذا هو القياس الشرعي وهو التسوية بين المتماثلين، فلا يفرق الله ورسوله بين شراب مسكر وشراب مسكر فيبيح قليل هذا ولا يبيح قليل هذا، بل يسوي بينهما، وإذا كان قد حرم القليل من أحدهما حرم القليل منهما، فإن القليل يدعو إلى الكثير، وأنه سبحانه أمر باجتناب الخمر؛ ولهذا يؤمر بإراقتها، ويحرم اقتناؤها، وحكم بنجاستها، وأمر بجلد شاربها، كل ذلك حسمًا لمادة الفساد، فكيف يبيح القليل من الأشربة المسكرة. والله أعلم.
سئل عن نبيذ التمر والزبيب والمزر والسوينة التي تعمل من الجزر
وسئل رحمه الله تعالى عن نبيذ التمر، والزبيب، والمزر، والسوينة التي تعمل من الجزر، والذي يعمل من العنب، يسمي النصوح: هل هو حلال؟ وهل يجوز استعمال شيء من هذا، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، كل شراب مسكر فهو خمر، فهو حرام بسنة رسول الله ﷺ المستفيضة عنه باتفاق الصحابة، كما ثبت عنه في الصحيح من حديث أبي موسى: أنه سئل عن شراب يصنع من الذرة يقال له: المزر، وشراب يصنع من العسل يقال له: البتع، وكان قد أوتي النبي ﷺ جوامع الكلم، فقال: (كل مسكر حرام). وفي الصحيحين عن عائشة عنه أنه قال: (كل شراب أسكر فهو حرام)، وفي الصحيح عن ابن عمر عنه أنه قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)، وفي لفظ الصحيح: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، وفي السنن عنه أنه قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، وقد صحح ذلك غير واحد من الحفاظ.
والله عز وجل حرم عصير العنب النيئ إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، لما فيه من الشدة المطربة التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء، وكل ما كانت فيه هذه الشدة المطربة فهو خمر من أي مادة كان: من الحبوب، والثمار، وغير ذلك. وسواء كان نيئًا أو مطبوخًا، لكنه إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه لم يبق مسكرًا، اللهم إلا أن يضاف إليه أفاويه أو نوع آخر.
والأصل في ذلك أن كل ما أسكر فهو حرام وهذا مذهب جماهير العلماء الأئمة، كما قال الشافعي وأحمد وغيرهم، وهذا المسكر يوجب الحد على شاربه، وهو نجس عند الأئمة.
وكذلك الحشيشة المسكرة يجب فيها الحد، وهي نجسة في أصح الوجوه، وقد قيل: إنها طاهرة، وقيل: يفرق بين يابسها ومائعها، والأول الصحيح؛ لأنها تسكر بالاستحالة كالخمر النيئ، بخلاف ما لا يسكر بل يغيب العقل كالبنج، أو يسكر بعد الاستحالة كجوزة الطيب، فإن ذلك ليس بنجس. ومن ظن أن الحشيشة لا تسكر وإنما تغيب العقل بلا لذة فلم يعرف حقيقة أمرها، فإنه لولا ما فيها من اللذة لم يتناولوها ولا أكلوها، بخلاف البنج ونحوه مما لا لذة فيه. والشارع فرق في المحرمات بين ما تشتهيه النفوس وما لا تشتهيه النفوس كالدم والميتة اكتفي فيها بالزاجر الشرعي، فجعل العقوبة فيه التعزير. وأما ما تشتهيه النفوس فجعل فيه مع الزاجر الشرعي زاجرًا طبيعيا وهو الحد، والحشيشة من هذا الباب.
سئل عن النصوح هل هو حلال أم حرام
وسئل رحمه الله عن النصوح: هل هو حلال، أم حرام؟ وهم يقولون: إن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان يعمله. وصورته أن يأخذ ثلاثين رطلا من ماء عنب، ويغلي حتى يبقي ثلثه، فهل هذه صورته؟ وقد نقل من فعل بعض ذلك أنه يسكر، وهو اليوم جهارًا في الأسكندرية ومصر، ونقول لهم: هو حرام، فيقولون: كان على زمن عمر، ولو كان حرامًا لنهي عنه.
فأجاب:
الحمد لله، قد ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي ﷺ في الصحاح والسنن والمسانيد أنه حرم كل مسكر، وجعله خمرًا، كما في صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبي ﷺ أنه قال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، وفي لفظ: (كل مسكر حرام)، وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي ﷺ أنه قال: (كل شراب أسكر فهو حرام). وفي الصحيحين عن أبي موسى، عن النبي ﷺ: أنه سئل عن شراب العسل، يسمي المزر، وكان قد أوتي جوامع الكلم، فقال: (كل مسكر حرام). وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال على المنبر منبر النبي ﷺ إن الله حرم الخمر، وهي من خمسة أشياء: من الحنطة، والشعير، والعنب، والتمر، والزبيب، والخمر ما خامر العقل. و هو في السنن مسند عن ابن عمر، عن النبي ﷺ. وروي عنه من غير وجه أنه قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، وقد صححه طائفة من الحفاظ. والأحاديث في ذلك كثيرة.
فذهب أهل الحجاز، واليمن، ومصر، والشام، والبصرة، وفقهاء الحديث: كمالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم: أن كل ما أسكر كثيره فقليله حرام، وهو خمر عندهم من أي مادة كانت، من الحبوب، والثمار، وغيرها، سواء كان من العنب، أو التمر، أو الحنطة، أو الشعير، أو لبن الخيل، أو غير ذلك، وسواء كان نيا أو مطبوخًا، وسواء ذهب ثلثاه، أو ثلثه، أو نصفه، أو غير ذلك، فمتى كان كثيره مسكرًا حرم قليله بلا نزاع بينهم.
ومع هذا فهم يقولون بما ثبت عن عمر: فإن عمر رضي الله عنه لما قدم الشام، وأراد أن يطبخ للمسلمين شرابًا لا يسكر كثيره طبخ العصير حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، وصار مثل الرب، فأدخل فيه أصبعه فوجده غليظًا، فقال: كأنه الطلا. يعني: الطلا الذي يطلي به الإبل، فسموا ذلك الطلا، فهذا الذي أباحه عمر لم يكن يسكر، وذكر ذلك أبو بكر عبد العزيز بن جعفر صاحب الخلال أنه مباح بإجماع المسلمين، وهذا بناء على أنه لا يسكر ولم يقل أحد من الأئمة المذكورين إنه يباح مع كونه مسكرًا.
ولكن نشأت شبهة من جهة أن هذا المطبوخ قد يسكر؛ لأشياء إما لأن طبخه لم يكن تامًا، فإنهم ذكروا صفة طبخه أنه يغلي عليه أولا حتى يذهب وسخه، ثم يغلي عليه بعد ذلك حتى يذهب ثلثاه، فإذا ذهب ثلثاه والوسخ فيه كان الذاهب منه أقل من الثلثين؛ لأن الوسخ يكون حينئذ من غير الذاهب. وإما من جهة أنه قد يضاف إلى المطبوخ من الأفاويه وغيرها ما يقويه ويشده حتى يصير مسكرًا، فيصير بذلك من باب الخليطين، وقد استفاض عن النبي ﷺ أنه نهي عن الخليطين لتقوية أحدهما صاحبه، كما نهي عن خليط التمر والزبيب، وعن الرطب والتمر، ونحو ذلك.
وللعلماء نزاع في الخليطين، إذا لم يسكر، كما تنازع العلماء في نبيذ الأوعية التي لا يشتد ما فيها بالغليان، وكما تنازعوا في العصير والنبيذ بعد ثلاث. وأما إذا صار الخليطان من المسكر فإنه حرام باتفاق هؤلاء الأئمة. فالذي أباحه عمر من المطبوخ كان صرفا، فإذا خلطه بما قواه وذهب ثلثاه لم يكن ذلك ما أباحه عمر. وربما يكون لبعض البلاد طبيعة يسكر فيها ما ذهب ثلثاه فيحرم إذا أسكر، فإن مناط التحريم هو السكر باتفاق الأئمة. ومن قال: إن عمر أو غيره من الصحابة أباح مسكرًا فقد كذب عليهم.
سئل عمن قال إن خمر العنب والحشيشة يجوز بعضه إذا لم يسكر في مذهب أبو حنيفة
وسئل رحمه الله تعالى عمن قال: إن خمر العنب والحشيشة يجوز بعضه إذا لم يسكر في مذهب الإمام أبي حنيفة: فهل هو صادق في هذه الصورة، أم كاذب في نقله؟ ومن استحل ذلك: هل يكفر، أم لا؟ وذكر أن قليل المزر يجوز شربه فهل حكمه حكم خمر العنب في مذهب الإمام أبي حنيفة؟ أم له حكم آخر كما ادعاه هذا الرجل؟
فأجاب:
الحمد لله، أما الخمر التي هي عصيرالعنب الذي إذا غلا واشتد وقذف بالزبد فيحرم قليلها وكثيرها باتفاق المسلمين، ومن نقل عن أبي حنيفة إباحة قليل ذلك فقد كذب، بل من استحل ذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ولو استحل شرب الخمر بنوع شبهة وقعت لبعض السلف أنه ظن أنها إنما تحرم على العامة، لا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فاتفق الصحابة كعمر وعلى وغيرهما على أن مستحل ذلك يستتاب، فإن أقر بالتحريم جلد، وإن أصر على استحلالها قتل.
بل وأبو حنيفة يحرم القليل والكثير من أشربة أخر، وإن لم يسمها خمرًا، كنبيذ التمر، والزبيب النيئ، فإنه يحرم عنده قليله وكثيره إذا كان مسكرًا، وكذلك المطبوخ من عصير العنب الذي لم يذهب ثلثاه فإنه يحرم عنده قليله إذا كان كثيره يسكر، فهذه الأنواع الأربعة تحرم عنده قليلها وكثيرها، وإن لم يسكر منها.
وإنما وقعت الشبهة في سائر المسكر كالمزر الذي يصنع من القمح ونحوه، فالذي عليه جماهير أئمة المسلمين كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن أهل اليمن قالوا يارسول الله: إن عندنا شرابًا يقال له البتع من العسل، وشرابًا من الذرة يقال له: المزر وكان النبي ﷺ قد أوتي جوامع الكلم فقال: (كل مسكر فهو حرام)، وفي الصحيحين عن عائشة عنه أنه قال: (كل شراب أسكر فهو حرام)، وفي الصحيح أيضًا عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)، وفي السنن من غير وجه عنه أنه قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، واستفاضت الأحاديث بذلك.
فإن الله لما حرم الخمر لم يكن لأهل مدينة النبي ﷺ شراب يشربونه إلا من التمر، فكانت تلك خمرهم، وجاء عن النبي ﷺ: أنه كان يشرب النبيذ والمراد به النبيذ الحلو، وهو أن يوضع التمر أو الزبيب في الماء حتى يحلو ثم يشربه، وكان النبي ﷺ قد نهاهم أن ينتبذوا في القرع والخشب والحجر والظرف المزفت؛ لأنهم إذا انتبذوا فيها دب السكر وهم لا يعلمون فيشرب الرجل مسكرًا، ونهاهم عن الخليطين من التمر والزبيب جميعًا؛ لأن أحدهما يقوي الآخر، ونهاهم عن شرب النبيذ بعد ثلاث؛ لأنه قد يصير فيه السكر والإنسان لا يدري. كل ذلك مبالغة منه ﷺ. فمن اعتقد من العلماء أن النبيذ الذي أرخص فيه يكون مسكرًا يعني من نبيذ العسل، والقمح، ونحو ذلك فقال: يباح أن يتناول منه ما لم يسكر، فقد أخطأ.
وأما جماهير العلماء فعرفوا أن الذي أباحه هو الذي لا يسكر، وهذا القول هو الصحيح في النص، والقياس. أما النص: فالأحاديث الكثيرة فيه. وأما القياس: فلأن جميع الأشربة المسكرة متساوية في كونها تسكر، والمفسدة الموجودة في هذا موجودة في هذا، والله صلى تعالى لا يفرق بين المتماثلين بل التسوية بين هذا وهذا من العدل والقياس الجلي، فتبين أن كل مسكر خمر حرام، والحشيشة المسكرة حرام، ومن استحل السكر منها فقد كفر، بل هي في أصح قولي العلماء نجسة كالخمر، فالخمر كالبول، والحشيشة كالعذرة.
فصل في الحشيشة الملعونة المسكرة
وقال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية:
وأما الحشيشة الملعونة المسكرة، فهي بمنزلة غيرها من المسكرات والمسكر منها حرام باتفاق العلماء، بل كل ما يزيل العقل فإنه يحرم أكله ولو لم يكن مسكرًا، كالبنج، فإن المسكر يجب فيه الحد، وغير المسكر يجب فيه التعزير.
وأما قليل الحشيشة المسكرة، فحرام عند جماهير العلماء، كسائر القليل من المسكرات، وقول النبي ﷺ: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، يتناول ما يسكر. ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولا، أو مشروبًا، أو جامدًا، أو مائعًا. فلو اصطبغ كالخمر كان حرامًا، ولو أماع الحشيشة وشربها كان حرامًا. ونبينا ﷺ بعث بجوامع الكلم فإذا قال كلمة جامعة كانت عامة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها، سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه، أو لم تكن.
فلما قال: (كل مسكر حرام)، تناول ذلك ما كان بالمدينة من خمر التمر وغيرها، وكان يتناول ما كان بأرض اليمن من خمر الحنطة والشعير والعسل وغير ذلك، ودخل في ذلك ما حدث بعده من خمر لبن الخيل الذي يتخذه الترك ونحوهم. فلم يفرق أحد من العلماء بين المسكر من لبن الخيل، والمسكر من الحنطة والشعير، وإن كان أحدهما موجودًا في زمنه كان يعرفه، والآخر لم يكن يعرفه؛ إذ لم يكن بأرض العرب من يتخذ خمرًا من لبن الخيل.
وهذه الحشيشة فإن أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة، حيث ظهرت دولة التتر، وكان ظهورها مع ظهور سيف جنكسخان، لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب سلط الله عليهم العدو، وكانت هذه الحشيشة الملعونة من أعظم المنكرات، وهي شر من الشراب المسكر من بعض الوجوه، والمسكر شر منها من وجه آخر، فإنها مع أنها تسكر آكلها حتى يبقى مصطولا تورث التخنيث والديوثة، وتفسد المزاج، فتجعل الكبير كالسفنجة وتوجب كثرة الأكل، وتورث الجنون، وكثير من الناس صار مجنونًا بسبب أكلها.
ومن الناس من يقول: إنها تغير العقل فلا تسكر كالبنج، وليس كذلك بل تورث نشوة ولذة وطربًا كالخمر، وهذا هو الداعي إلى تناولها، وقليلها يدعو إلى كثيرها كالشراب المسكر، والمعتاد لها يصعب عليه فطامه عنها أكثر من الخمر، فضررها من بعض الوجوه أعظم من الخمر؛ ولهذا قال الفقهاء: إنه يجب فيها الحد، كما يجب في الخمر.
وتنازعوا في نجاستها، على ثلاثة أوجه في مذهب أحمد وغيره، فقيل: هي نجسة. وقيل ليست بنجسة. وقيل: رطبها نجس كالخمر، ويابسها ليس بنجس. والصحيح أن النجاسة تتناول الجميع، كما تتناول النجاسة جامد الخمر ومائعها، فمن سكر من شراب مسكر أو حشيشة مسكرة لم يحل له قربان المسجد حتى يصحو، ولا تصح صلاه حتى يعلم ما يقول، ولابد أن يغسل فمه، ويديه، وثيابه في هذا وهذا، والصلاة فرض عينية، لكن لا تقبل منه حتى يتوب أربعين يومًا، كما قال النبي ﷺ: (من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، فإن عاد فشربها كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال)، قيل: وما طينة الخبال؟ قال: (عصارة أهل النار أو عرق أهل النار).
وأما قول القائل: إن هذه ما فيها آية ولا حديث، فهذا من جهله، فإن القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هي قواعد عامة، وقضايا كلية، تتناول كل ما دخل فيها، وكل ما دخل فيها فهو مذكور في القرآن والحديث باسمه العام، وإلا فلا يمكن ذكر كل شيء باسمه الخاص، فإن الله بعث محمدًا ﷺ إلى جميع الخلق، وقال: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [111]، وقال: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ } [112]، وقال تعالى: { الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ا } [113]، وقال: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [114]، فاسم الناس والعالمين يدخل فيه العرب وغير العرب من الفرس والروم، والهند والبربر، فلو قال قائل: إن محمدًا ما أرسل إلى الترك والهند والبربر؛ لأن الله لم يذكرهم في القرآن كان جاهلا، كما لو قال: إن الله لم يرسله إلى بني تميم، وبني أسد وغطفان، وغير ذلك من قبائل العرب، فإن الله لم يذكر هذه القبائل بأسمائها الخاصة، وكما لو قال: إن الله لم يرسله إلى أبي جهل وعتبة، وشيبة، وغيره من قريش؛ لأن الله لم يذكرهم بأسمائهم الخاصة في القرآن.
وكذلك لما قال: { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } [115]، دخل في الميسر الذي لم تعرفه العرب ولم يعرفه النبي ﷺ، وكل الميسر حرام باتفاق المسلمين، وإن لم يعرفه النبي ﷺ كاللعب بالشطرنج وغيره بالعوض فإنه حرام بإجماع المسلمين، وهو الميسر الذي حرمه الله، ولم يكن على عهد النبي ﷺ. والنرد أيضًا من الميسر الذي حرمه الله، وليس في القرآن ذكر النرد والشطرنج باسم خاص؛ بل لفظ الميسر يعمها وجمهور العلماء على أن النرد والشطرنج محرمان بعوض وغير عوض.
وكذلك قوله: { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } إلى قوله: { إِذَا حَلَفْتُمْ } [116]، وقوله: { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [117]، تناول كل أيمان المسلمين التي كانوا يحلفون بها على عهد النبي ﷺ والتي صاروا يحلفون بها بعد، فلو حلف بالفارسية والتركية والهندية والبربرية باسم الله تعالى بتلك اللغة انعقدت يمينه، ووجبت عليه الكفارة إذا حنث باتفاق العلماء، مع أن اليمين بهذه اللغات لم تكن من أيمان المسلمين على عهد رسول الله ﷺ، وهذا بخلاف من حلف بالمخلوقات كالحلف بالكعبة والملائكة، والمشايخ، والملوك، وغير ذلك فإن هذه ليست من أيمان المسلمين، بل هي شرك، كما قال ﷺ: (من حلف بغير الله فقد أشرك).
وكذلك قال تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا } [118]، يعم كل ما يسمي صعيدًا، ويعم كل ماء: سواء كان من المياه الموجودة في زمن النبي ﷺ أو مما حدث بعده، فلو استخرج قوم عيونًا وكان فيها ماء متغير اللون والريح والطعم وأصل الخلقة، وجب الاغتسال به بلا نزاع نعرفه بين العلماء، وإن لم تكن تلك المياه معروفة عند المسلمين على عهد النبي ﷺ كما قال تعالى: { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [119]، فدخل فيه كل مشرك من العرب وغير العرب، كمشركي الترك، والهند، والبربر، وإن لم يكن هؤلاء ممن قتلوا على عهد النبي ﷺ.
وكذلك قوله تعالى: { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [120]، يدخل فيه جميع أهل الكتاب، وإن لم يكونوا ممن قتلوا على عهد النبي ﷺ، فإن الذين قتلوا على زمانه كانوا من نصاري العرب والروم، وقاتل اليهود قبل نزول هذه الآية، وقد دخل فيها النصاري من القبط، والحبشة، والجركس، والأل، واللاص، والكرج، وغيرهم فهذا وأمثاله نظير عموم القرآن لكل ما دخل في لفظه ومعناه، وإن لم يكن باسمه الخاص.
ولو قدر بأن اللفظ لم يتناوله وكان في معنى ما في القرآن والسنة ألحق به بطريق الاعتبار والقياس، كما دخل اليهود والنصاري والفرس في عموم الآية ودخلت جميع المسكرات في معنى خمر العنب، وأنه بعث محمدًا ﷺ بالكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط والكتاب: القرآن. والميزان: العدل. والقياس الصحيح هو من العدل؛ لأنه لا يفرق بين المتماثلين، بل سوي بينهما، فاستوت السيئات في المعنى الموجب للتحريم، لم يخص أحدها بالتحريم دون الآخر، بل من العدل أن يسوي بينهما، ولو لم يسو بينهما كان تناقضًا، وحكم الله ورسوله منزه عن التناقض. ولو أن الطبيب حمي المريض عن شيء لما فيه من الضرر وأباحه له لخرج عن قانون الطب. والشرع طب القلوب، والأنبياء أطباء القلوب والأديان، ولابد إذا أحل الشرع شيئا منه أن يخص هذا بما يفرق به بينه وبين هذا، حتى يكون فيه معنى خاص بما حرمه دون ما أحله. والله أعلم.
سئل عمن يأكل الحشيشة ما يجب عليه
وسئل رحمه الله تعالى عمن يأكل الحشيشة ما يجب عليه؟
فأجاب:
الحمد لله، هذه الحشيشة الصلبة حرام، سواء سكر منها أو لم يسكر، والسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدًا، لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وأما إن اعتقد ذلك قربة، وقال: هي لقيمة الذكر والفكر، وتحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، وتنفع في الطريق، فهو أعظم وأكبر، فإن هذا من جنس دين النصاري الذين يتقربون بشرب الخمر، ومن جنس من يعتقد الفواحش قربة وطاعة، قال الله تعالى: { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [121]، ومن كان يستحل ذلك جاهلا وقد سمع بعض الفقهاء يقول:
حرموها من غير عقل ونقل ** وحرام تحريم غير الحرام
فإنه ما يعرف الله ورسوله، وأنها محرمة، والسكر منها حرام بالإجماع. وإذا عرف ذلك ولم يقر بتحريم ذلك، فإنه يكون كافرًا مرتدًا، كما تقدم. وكل ما يغيب العقل فإنه حرام وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تغيب العقل حرام بإجماع المسلمين. وأما تعاطي البنج الذي لم يسكر، ولم يغيب العقل، ففيه التعزير.
وأما المحققون من الفقهاء فعلموا أنها مسكرة، وإنما يتناولها الفجار، لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك، والخمر توجب الحركة والخصومة، وهذه توجب الفتور والذلة، وفيها مع ذلك من فساد المزاج والعقل، وفتح باب الشهوة، وما توجبه من الدياثة، مما هي من شر الشراب المسكر، وإنما حدثت في الناس بحدوث التتار.
وعلى تناول القليل منها والكثير حد الشرب، ثمانون سوطًا، أو أربعون. إذا كان مسلمًا يعتقد تحريم المسكر، ويغيب العقل.
وتنازع الفقهاء في نجاستها، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ليست نجسة. والثاني: أن مائعها نجس، وأن جامدها طاهر. والثالث وهو الصحيح: أنها نجسة كالخمر، فهذه تشبه العذرة، وذلك يشبه البول، وكلاهما من الخبائث التي حرمها الله ورسوله. ومن ظهر منه أكل الحشيشة فهو بمنزلة من ظهر منه شرب الخمر، وشر منه من بعض الوجوه، ويهجر، ويعاقب على ذلك، كما يعاقب هذا، للوعيد الوارد في الخمر، مثل قوله ﷺ: (لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، وآكل ثمنها)، ومثل قوله: (من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، فإن عاد وشربها لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، وإن عاد فشربها لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، وإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال)، وهي عصارة أهل النار، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه ﷺ قال: (كل مسكر حرام)، وسئل عن هذه الأشربة وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال ﷺ: (كل مسكر حرام).
سئل عما يجب على آكل الحشيشة ومن ادعي أن أكلها جائز حلال مباح
وسئل رحمه الله تعالى عما يجب على آكل الحشيشة، ومن ادعي أن أكلها جائز حلال مباح.
فأجاب:
أكل هذه الحشيشة الصلبة حرام، وهي من أخبث الخبائث المحرمة، وسواء أكل منها قليلا أو كثيرًا، لكن الكثير المسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدًا، لا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن بين المسلمين. وحكم المرتد شر من حكم اليهودي والنصراني، سواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الفكر والذكر، وأنها تحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، وأنهم لذلك يستعملونها.
وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر تباح للخاصة، متأولا قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } [122]، فلما رفع أمرهم إلى عمر بن الخطاب وتشاور الصحابة فيهم اتفق عمر وعلى وغيرهما من علماء الصحابة رضي الله عنهم على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا. وهكذا حشيشة العشب من اعتقد تحريمها وتناولها فإنه يجلد الحد ثمانين سوطًا، أو أربعين. هذا هو الصواب. وقد توقف بعض الفقهاء في الجلد؛ لأنه ظن أنها مزيلة للعقل، غير مسكرة، كالبنج ونحوه مما يغطي العقل من غير سكر، فإن جميع ذلك حرام باتفاق المسلمين: إن كان مسكرًا ففيه جلد الخمر، وإن لم يكن مسكرًا ففيه التعزير بما دون ذلك، ومن اعتقد حل ذلك كفر وقتل.
والصحيح أن الحشيشة مسكرة كالشراب، فإن آكليها ينشون بها، ويكثرون تناولها، بخلاف البنج وغيره، فإنه لا ينشي، ولا يشتهي. وقاعدة الشريعة أن ما تشتهيه النفوس من المحرمات كالخمر والزنا ففيه الحد، ومالا تشتهيه كالميتة ففيه التعزير. والحشيشة مما يشتهيها آكلوها، ويمتنعون عن تركها، ونصوص التحريم في الكتاب والسنة على من يتناولها كما يتناول غير ذلك، وإنما ظهر في الناس أكلها قريبًا من نحو ظهور التتار، فإنها خرجت، وخرج معها سيف التتار.
سئل عمن يأخذ شيئا من العنب ويضيف إليه أصنافا من العطر ثم يغليه إلى أن ينقص الثلث
وسئل رحمه الله عمن يأخذ شيئا من العنب، ويضيف إليه أصنافًا من العطر ثم يغليه إلى أن ينقص الثلث، ويشرب منه لأجل الدواء، ومتى أكثر شربه أسكر.
فأجاب:
الحمد لله، متى كان كثيره يسكر فهو حرام، وهو خمر، ويحد صاحبه، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ، وعليه جماهير السلف والخلف، كما في صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبي ﷺ قال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، وفي الصحيحين عن عائشة قالت:
سئل رسول الله ﷺ عن البتع وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام)، وفي الصحيح عن أبي موسى، قال: قلت يا رسول الله: أفتنا في شراب كنا نصنعه في اليمن البتع وهو من نبيذ العسل، ينبذ حتى يشتد، فقال: (كل مسكر حرام)، وفي صحيح مسلم عن جابر أن رجلا من حبشان اليمن سأل رسول الله ﷺ عن شراب يصنعونه بأرضهم يقال له: المزر. فقال: (أيسكر؟). قال: نعم. فقال: (كل مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال) قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: (عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار)، وقد روي عن النبي ﷺ من وجوه متعددة: (ما أسكر كثيرة فقليله حرام)، وقد صحح ذلك غير واحد من الحفاظ. والأحاديث في ذلك متعددة.
وإذا طبخ العصير حتى يذهب ثلثه أو نصفه وهو يسكر فهو حرام عند الأئمة الأربعة، بل هو خمر عند مالك والشافعي وأحمد. وأما إن ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فهذا لا يسكر في العادة، إلا إذا انضم إليه ما يقويه، أو لسبب آخر. فمتى أسكر فهو حرام بإجماع المسلمين وهو الطلاء الذي أباحه عمر بن الخطاب للمسلمين. وأما إن أسكر بعدما طبخ وذهب ثلثاه، فهو حرام أيضًا عند مالك، والشافعي، وأحمد.
سئل عن المداومة على شرب الخمر وترك الصلاة وما حكمه في الإصرار على ذلك
وسئل رحمه الله تعالى عن المداومة على شرب الخمر، وترك الصلاة، وما حكمه في الإصرار على ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، أما شارب الخمر، فيجب باتفاق الأئمة أن يجلد الحد إذا ثبت ذلك عليه، وحده أربعون جلدة، أو ثمانون جلدة. فإن جلده ثمانين جاز باتفاق الأئمة، وإن اقتصر على الأربعين ففي الإجزاء نزاع مشهور. فمذهب أبي حنفية ومالك وأحمد في إحدى الروايتين أنه يجب الثمانون. ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى عنه أن الأربعين الثانية تعزير يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، فإن احتاج إلى ذلك لكثرة الشرب أو إصرار الشارب ونحو ذلك فعل، وقد كان عمر بن الخطاب يعزر بأكثر من ذلك، كما روي عنه أنه كان ينفي الشارب عن بلده، ويمثل به بحلق رأسه.
وقد روي من وجوه عن النبي ﷺ قال: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها الثالثة، أو الرابعة، فاقتلوه). فأمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة. وأكثر العلماء لا يوجبون القتل، بل يجعلون هذا الحديث منسوخًا، وهو المشهور من مذاهب الأئمة. وطائفة يقولون: إذا لم ينتهوا عن الشرب إلا بالقتل جاز ذلك، كما في حديث آخر في السنن أنه نهاهم عن أنواع من الأشربة قال: (فإن لم يدعوا ذلك فاقتلوهم). والحق ما تقدم. وقد ثبت في الصحيح أن رجلا كان يدعي حمارًا، وهو كان يشرب الخمر، فكان كلما شرب جلده النبي ﷺ، فلعنه رجل، فقال: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتي به إلى النبي ﷺ؟ فقال: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله)، وهذا يقتضي أنه جلد مع كثرة شربه.
وأما تارك الصلاة فإنه يستحق العقوبة باتفاق الأئمة، وأكثرهم كمالك والشافعي وأحمد يقولون: إنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وهل يقتل كافرًا مرتدًا، أو فاسقًا كغيره من أصحاب الكبائر؟ على قولين. فإذا لم تمكن إقامة الحد على مثل هذا فإنه يعمل معه الممكن، فيهجر، ويوبخ حتى يفعل المفروض، ويترك المحظور، ولا يكون ممن قال الله فيه: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [123]، مع أن إضاعتها تأخيرها عن وقتها، فكيف بتاركها؟ !!
سئل عن رجل عنده حجرة خلفها فلوه فهل يجوز الشرب من لبنها أم لا
وسئل رحمه الله عن رجل عنده حجرة خلفها فلوه، فهل يجوز الشرب من لبنها، أم لا؟
فأجاب:
يجوز الشرب من لبنها؛ إذا لم يصر مسكرًا.
سئل عن رجل اعتاد أن يتناول كل ليلة قبل العصر شيئا من المعاجين مدة سنين
وسئل قدس الله روحه عن رجل اعتاد أن يتناول كل ليلة قبل العصر شيئا من المعاجين مدة سنين. فسئل عن ذلك، فقال: أري فيه أشياء من المنافع: فهل يباح ذلك له أم لا؟
فأجاب:
إن كان ذلك يغيب العقل لم يجز له أكله، فإن كل ما يغيب العقل يحرم باتفاق المسلمين.
سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر فاجلدوه
وسئل رحمه الله عن قوله ﷺ: (من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه): هل لهذا الحديث أصل؟ ومن رواه؟
فأجاب:
نعم. له أصل، وهو مروي من وجوه متعددة، وهو ثابت عند أهل الحديث، لكن أكثر العلماء يقولون: هو منسوخ. وتنازعوا في ناسخه، على عدة أقاويل. ومنهم من يقول: بل حكمه باق. وقيل: بل الوجوب منسوخ، والجواز باق. وقد رواه أحمد، والترمذي، وغيرهما، ولا أعلم أحدًا قدح فيه. والله أعلم.
سئل عمن هش الذرة فأخذ يغلي في قدره ثم ينزله ويعمل عليه قمحا
وسئل رحمه الله عمن هش الذرة فأخذ يغلي في قدره، ثم ينزله ويعمل عليه قمحًا، ويخليه إلى بكرة، ويصفيه، فيكون مما لا يسكر في ذلك اليوم، ثم يخليه يومين أو ثلاثة بعد ذلك فيبقي يسكر: هل يجوز أن يشرب منه في أول يوم أم لا؟
فأجاب:
يجوز شربه ما لم يسكر إلى ثلاثة أيام. فأما إذا أسكر فإنه حرام بنص رسول الله ﷺ، سواء أسكر بعد الثلاثة، أو قبل الثلاثة، ومتى أسكر حرم، فإنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام).
سئل عن الخمر إذا غلي على النار ونقص الثلث هل يجوز استعماله
وسئل رحمه الله تعالى عن الخمر إذا غلي على النار ونقص الثلث: هل يجوز استعماله، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا صار مسكرًا فإنه حرام تجب إراقته، ولا يحل بالطبخ، وأما إذا طبخ قبل أن يصير مسكرًا حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه ولم يسكر فإنه حلال عند جماهير المسلمين. وأما إن طبخ قبل أن يصير مسكرًا حتى ذهب ثلثه أو نصفه، فإن كان مسكرًا فإنه حرام في مذهب الأئمة الأربعة. وإن لم يكن مسكرًا فإنه يستعمل ما لم يسكر إلى ثلاثة أيام.
سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر فاجلدوه
وسئل رحمه الله تعالى عن جماعة من المسلمين رجال كهول وشبان، وهم حجاج مواظبون على أداء ما افترض عليهم من صوم، وصلاة، وعبادة. وفيهم كبير القدر معروفون بالثقة والأمانة بين المسلمين في أقوالهم وأفعالهم، ليس عليهم شيء من ظواهر السوء والفسوق، وقد اجتمعت عقولهم وأذهانهم ورأيهم على أكل الغبيراء، وكان قولهم واعتقادهم فيها أنها معصية وسيئة، غير أنهم مع ذلك يقولون في اعتقادهم بدليل كتاب الله سبحانه وتعالى وهو: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [124]، وذكروا أيضًا أنها حرام، غير أن لهم وردًا بالليل وتعبدات، ويزعمون أنها إذا حصلت نشوتها برؤوسهم تأمرهم بتلك العبادة، ولا تأمرهم بسوء ولا فاحشة، ونسبوا أنه ليس لها ضرر لأحد من خلق الله تعالى كالزنا وشرب الخمر والسرقة، وأنه لا يجب على من أكلها حد من الحدول، إلا أنها تتعلق بمخالفة أمر من أمور الله سبحانه وتعالى والله يغفر ما بين العبد وربه. واجتمع بهم رجل صادق القول، وذكر عنهم ذلك، ووافقهم على أكلها بحكمهم عليه، وحديثهم له، واعترف على نفسه بذلك: فهل يجب على آكلها حد شارب الخمر أم لا؟ أفتونا.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، نعم يجب على آكلها حد شارب الخمر. وهؤلاء القوم ضلال جهال عصاة لله ولرسوله، وكفى برجل جهلا أن يعرف بأن هذا الفعل محرم، وأنه معصية لله ولرسوله، ثم يقول: إنه تطيب له العبادة، وتصلح له حاله!!! ويح هذا القائل! أيظن أن الله سبحانه وتعالى ورسوله ﷺ حرم على الخلق ما ينفعهم، ويصلح لهم؟ نعم، قد يكون في الشيء منفعة وفية مضرة أكثر من منفعته فيحرمه الله سبحانه وتعالى لأن المضرة إذا كانت أكثر من المنفعة بقيت الزيادة مضرة محضة، وصار هذا الرجل كأنه قال لرجل: خذ مني هذا الدرهم وأعطني دينارًا، فجهله يقول له: هو يعطيك درهمًا فخذه، والعقل يقول: إنما يحصل الدرهم بفوات الدينار، وهذا ضرر لا منفعة له، بل جميع ما حرمه الله ورسوله إن ثبت فيه منفعة ما فلابد أن يكون ضرره أكثر.
فهذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها ومستحلوها، الموجبة لسخط الله وسخط رسوله وسخط عباده المؤمنين، المعرضة صاحبها لعقوبة الله، إذا كانت كما يقوله الضالون: من أنها تجمع الهمة، وتدعو إلى العبادة، فإنها مشتملة على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه أضعاف ما فيها من خير، ولا خير فيها، ولكن هي تحلل الرطوبات، فتتصاعد الأبخرة إلى الدماغ، وتورث خيالات فاسدة، فيهون على المرء ما يفعله من عبادة، ويشغله بتلك التخيلات عن إضرار الناس. وهذه رشوة الشيطان يرشو بها المبطلين ليطيعوه فيها، بمنزلة الفضة القليلة في الدرهم المغشوش، وكل منفعة تحصل بهذا السبب فإنها تنقلب مضرة في المآل، ولا يبارك لصاحبها فيها، وإنما هذا نظير السكران بالخمر، فإنها تطيش عقله حتى يسخو بماله، ويتشجع على أقرانه، فيعتقد الغر أنها أورثته السخاء والشجاعة وهو جاهل، وإنما أورثته عدم العقل. ومن لا عقل له لا يعرف قدر النفس والمال، فيجود بجهله، لا عن عقل فيه.
وكذلك هذه الحشيشة المسكرة إذا أضعفت العقل، وفتحت باب الخيال، تبقى العادة فيها مثل العبادات في الدين الباطل دين النصاري، فإن الراهب تجده يجتهد في أنواع العبادة لا يفعلها المسلم الحنيف، فإن دينه باطل، والباطل خفيف؛ ولهذا تجود النفوس في السماع المحرم والعشرة المحرمة بالأموال وحسن الخلق بما لا تجود به في الحق، وما هذا بالذي يبيح تلك المحارم، أو يدعو المؤمن إلى فعله؛ لأن ذلك إنما كان لأن الطبع لما أخذ نصيبه من الحظ المحرم ولم يبال بما بذله عوضًا عن ذلك، وليس في هذا منفعة في دين المرء ولا دنياه، وإنما ذلك لذة ساعة، بمنزلة لذة الزاني حال الفعل، ولذة شفاء الغضب حال القتل، ولذة الخمر حال النشوة، ثم إذا صحا من ذلك وجد عمله باطلا، وذنوبه محيطة به، وقد نقص عليه عقله ودينه وخلقه.
وأين هؤلاء الضلال مما تورثه هذه الملعونة من قلة الغيرة، وزوال الحمية حتى يصير آكلها إما ديوثًا، وإما مأبونا، وإما كلاهما، وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقًا كثيرًا مجانين وتجعل الكبد بمنزلة السفنج، ومن لم يجن منهم فقد أعطته نقص العقل، ولو صحا منها، فإنه لابد أن يكون في عقله خبل، ثم إن كثيرها يسكر حتى يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي وإن كانت لا توجب قوة نفس صاحبها حتى يضارب ويشاتم، فكفي بالرجل شرًا أنها تصده عن ذكر الله وعن الصلاة إذا سكر منها، وقليلها وإن لم يسكر فهو بمنزلة قليل الخمر. ثم إنها تورث من مهانة آكلها، ودناءة نفسه، وانفتاح شهوته، ما لا يورثه الخمر. ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر، وإن كان في الخمر مفسدة ليست فيها وهي الحدة، فهي بالتحريم أولى من الخمر؛ لأن ضرر آكل الحشيشة على نفسه أشد من ضرر الخمر، وضرر شارب الخمر على الناس أشد، إلا أنه في هذه الأزمان لكثرة أكل الحشيشة، صار الضرر الذي منها على الناس أعظم من الخمر، وإنما حرم الله المحارم لأنها تضر أصحابها، وإلا فلو ضرت الناس ولم تضره لم يحرمها، إذ الحاسد يضره حال المحسود، ولم يحرم الله اكتساب المعإلى لدفع تضرر الحاسد. هذا وقد قال رسول الله ﷺ: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)، وهذه مسكرة، ولو لم يشملها لفظ بعينها لكان فيها من المفاسد ما حرمت الخمر لأجلها، مع أن فيها مفاسد أخر غير مفاسد الخمر توجب تحريمها. والله أعلم.
باب التعزير
سئل عن رجل من أمراء المسلمين له مماليك وعنده غلمان فهل له أن يقيم على أحدهم حدا إذا ارتكبه
سئل شيخ الإسلام أبو العباس عن رجل من أمراء المسلمين له مماليك، وعنده غلمان: فهل له أن يقيم على أحدهم حدًا إذا ارتكبه؟ وهل له أن يأمرهم بواجب إذا تركوه كالصلوات الخمس ونحوها؟ وما صفة السوط الذي يعاقبهم به؟
فأجاب:
الحمد لله، الذي يجب عليه أن يأمرهم كلهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر والبغي، وأقل ما يفعل أنه إذا استأجر أجيرًا منهم يشترط عليه ذلك، كما يشترط عليه ما يشترطه من الأعمال، ومتى خرج واحد منهم عن ذلك طرده.
وإذا كان قادرًا على عقوبتهم بحيث يقره السلطان على ذلك في العرف الذي اعتاده الناس وغيره، لا يعاقبهم على ذلك لكونهم تحت حمايته ونحو ذلك، فينبغي له أن يعزرهم على ذلك إذا لم يؤدوا الواجبات ويتركوا المحرمات إلا بالعقوبة، وهو المخاطب بذلك حينئذ، فإنه هو القادر عليه وغيره لا يقدر على ذلك، مراعاة له. فإن لم يستطع أن يقيم هو الواجب ولم يقم غيره بالواجب، صار الجميع مستحقين العقوبة، قال النبي: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)، وقال: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، لاسيما إذا كان يضربهم لما يتركونه من حقوقه، فمن القبيح أن يعاقبهم على حقوقه، ولا يعاقبهم على حقوق الله.
والتأديب يكون بسوط معتدل، وضرب معتدل، ولا يضرب الوجه، وإلا المقاتل.
سئل عن رجل يسفه على والديه فما يجب عليه
وسئل قدس الله روحه عن رجل يسفه على والديه: فما يجب عليه؟
فأجاب:
إذا شتم الرجل أباه واعتدى عليه فإنه يجب أن يعاقب عقوبة بليغة تردعه وأمثاله عن مثل ذلك، بل وأبلغ من ذلك أنه قد ثبت عن النبي ﷺ في الصحيحين أنه قال: (من الكبائر أن يسب الرجل والديه). قالوا: وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: (يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه). فإذا كان النبي ﷺ قد جعل من الكبائر أن يسب الرجل أبا غيره لئلا يسب أباه فكيف إذا سب هو أباه مباشرة، فهذا يستحق العقوبة التي تمنعه عن عقوق الوالدين الذي قرن الله حقهما حيث قال: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [125]، وقال تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [126]، فكيف بسبهما؟ !!
سئل عن رجل كذب عليه بعض المساكين حتى ضربه فهل يجب على ولي الأمر ضرب من ظلمه
وسئل رحمه الله عن رجل من أكابر مقدمي العسكر معروف بالخير والدين، وكذب عليه بعض المساكين، حتى ضربه، وعلقه، وطاف به على حمار، وحبسه بعد ذلك: هل يجب على ولي الأمر ضرب من ظلمه؟
فأجاب:
من كذب عليه وظلمه حتى فعل به ذلك، فإنه تجب عقوبته التي تزجره وأمثاله عن مثل ذلك باتفاق المسلمين، بل جمهور السلف يثبتون القصاص في مثل ذلك، فمن ضرب غيره وجرحه بغير حق فإنه يفعل به كما فعل، كما قال عمر بن الخطاب: أيها الناس، إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن ليعلموكم كتاب الله وسنة نبيكم، ويقسموا بينكم فيء كم، فلا يبلغني أن أحدًا ضربه عامله بغير حق إلا أقدته، فراجعه عمرو بن العاص في ذلك، فقاله لهم: إن رسول الله ﷺ أقاد ممن ظلمه.
سئل عمن شتم رجلا وسبه
وسئل قدس الله روحه عمن شتم رجلا وسبه.
فأجاب:
إذا اعتدى عليه بالشتم والسب فله أن يعتدي عليه بمثل ما اعتدى عليه، فيشتمه إذا لم يكن ذلك محرمًا لعينه كالكذب وأما إن كان محرمًا لعينه كالقذف بغير الزنا فإنه يعزر على ذلك تعزيرًا بليغًا يردعه وأمثاله من السفهاء، ولو عزر على النوع الأول من الشتم جاز، وهو الذي يشرع إذا تكرر سفهه أو عدوانه على من هو أفضل منه. والله أعلم.
سئل عمن شتم رجلا فقال له أنت ملعون ولد زنا
وسئل رحمه الله تعالى عمن شتم رجلا فقال له: أنت ملعون، ولد زنا.
فأجاب:
يجب تعزيره على هذا الكلام، ويجب عليه حد القذف إن لم يقصد بهذه الكلمة ما يقصده كثير من الناس من قصدهم بهذه الكلمة أن المشتوم فعله خبيث كفعل ولد الزنا.
سئل عن سامري ضرب مسلما وشتمه
وسئل رحمه الله عن سامري ضرب مسلمًا وشتمه.
فأجاب:
تجب عقوبته عقوبة بليغة تردعه وأمثاله. والله أعلم.
سئل عن الاستمناء
وسئل رحمه الله عن الاستمناء.
فأجاب:
أما الاستمناء: فالأصل فيه التحريم عند جمهور العلماء، وعلى فاعله التعزير، وليس مثل الزنا. والله أعلم.
سئل عن الاستمناء هل هو حرام أم لا
وسئل رحمه الله تعالى عن الاستمناء هل هو حرام، أم لا؟
فأجاب:
أما الاستمناء باليد فهو حرام عند جمهور العلماء، وهو أصح القولين في مذهب أحمد، وكذلك يعزر من فعله. وفي القول الآخر هو مكروه غير محرم، وأكثرهم لا يبيحونه لخوف العنت ولا غيره، ونقل عن طائفة من الصحابة والتابعين أنهم رخصوا فيه للضرورة، مثل أن يخشى الزنا فلا يعصم منه إلا به، ومثل أن يخاف إن لم يفعله أن يمرض، وهذا قول أحمد وغيره. وأما بدون الضرورة فما علمت أحدًا رخص فيه. والله أعلم.
سئل عن رجل يهيج عليه بدنه فيستمنى بيده وبعض الأوقات يلصق وركيه على ذكره
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل يهيج عليه بدنه فيستمنى بيده، وبعض الأوقات يلصق وركيه على ذكره وهو يعلم أن إزالة هذا بالصوم، لكن يشق عليه؟
فأجاب:
أما ما نزل من الماء بغير اختياره فلا إثم عليه فيه، لكن عليه الغسل إذا أنزل الماء الدافق. وأما إنزاله باختياره بأن يستمني بيده، فهذا حرام عند أكثر العلماء، وهو أحد الروايتين عن أحمد، بل أظهرهما. وفي رواية أنه مكروه، لكن إن اضطر إليه مثل أن يخاف الزنا إن لم يستمن أو يخاف المرض، فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء، وقد رخص في هذه الحال طوائف من السلف والخلف، ونهى عنه آخرون. والله أعلم.
سئل عن رجل جلد ذكره بيده حتى أمنى فما يجب عليه
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل جلد ذكره بيده حتى أمنى: فما يجب عليه؟
فأجاب:
وأما جلد الذكر باليد حتى ينزل فهو حرام عند أكثر الفقهاء مطلقًا، وعند طائفة من الأئمة حرام إلا عند الضرورة مثل أن يخاف العنت، أو يخاف المرض، أو يخاف الزنا، فالاستمناء أصلح.
سئل عن رجل له ولد صغير فاتهم وضرب بالمقارع وخسر والده أربعمائة درهم
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له ولد صغير فاتهم، وضرب بالمقارع، وخسر والده أربعمائة درهم، ثم وجدت السرقة فجاء صاحب السرقة وصالح المتهوم على مائتي درهم: فهل يصح منه إبراء بغير رضي والده إذا كان تحت الحجر؟ وإذا لم يصح فما يجب في دية الضرب؟ وهل لوالده بعد إبراء الصغير أن يطالبه بضرب ولده، أم لا؟
فأجاب:
إذا كان المضروب تحت حجر أبيه لم يصح صلحه ولا إبراءة. وما غرمه أبوه بسبب هذه التهمة الباطلة فله أن يرجع به على من غرمه إياه بعدوانه، سواء أبرأه الابن أو لم يبرئه، فالمضروب يستحق أن يضرب من طلب ضربه من المتهمين له مثل ما ضربه، إذا لم يعرف بالشر قبل ذلك. هكذا ذكره النعمان بن بشير أن ذلك حكم الله ورسوله، رواه أبو داود وغيره، فإنه قال لقوم طلبوا منه أن يضرب رجلا على تهمة: إن شئتم ضربته لكم، فإن ظهر مالكم عنده وإلا ضربتكم مثل ما ضربته. فقالوا: هذا حكمك؟ فقال: هذا حكم الله ورسوله. وهذا في ضرب من لم يعرف بالشر، وأما ضرب من عرف بالشر فذاك مقام آخر.
وقد ثبت القصاص في الضرب واللطم ونحو ذلك عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين. وجاءت به سنة رسول الله ﷺ ونص عليه غير واحد من الأئمة كأحمد ابن حنبل وغيره، وإن كان كثير من الفقهاء لا يرى القصاص في مثل هذا، بل يرى فيه التعزير، فالأول هو الصحيح، ولكن هل للأب أن يستوفي حق القصاص الذي لابنه؟ أم يتركه حتى يبلغ؟ هذا فيه نزاع معروف بين العلماء، وأما إن كان الابن بالغًا فله العقوبات البدنية واستبقاؤها.
باب القطع في السرقة
سئل عن رجل سرق بيته مرارا ثم وجد مملوكا فهل يلزمه ما عدم من البيت
سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل سرق بيته مرارًا، ثم وجد بعد ذلك في بيته مملوك بعد أن أغلق بابه فأخذ فأقر أنه دخل البيت مختلسًا مرارًا عديدة، ولم يقر أنه أخذ شيئا: فهل يلزمه ما عدم لهم من البيت؟ وما الحكم فيه؟
فأجاب:
هذا العبد يعاقب باتفاق المسلمين على ما ثبت عليه من دخول البيت، ويعاقب أيضًا عند كثير من العلماء. فإذا أقر بما تبين أنه أخذ المال مثل أن يدل على موضع المال - أو على من أعطاه إياه، ونحو ذلك، أخذ المال، وأعطى لصاحبه إن كان موجودًا، وغرمه إن كان تالفًا.
ويبنغى للمعاقب له أن يحتال عليه بما يقر به، كما يفعل الحذاق من القضاة والولاة بمن يظهر لهم فجوره حتى يعترف، وأقل ما في ذلك أن يشهد عليهم برد اليمين على المدعي، فإذا حلف رب المال حينئذ حكم لرب المال إذا حلف. وأما الحكم لرب المال بيمينه بما ظهر من اللوث، والأمارات التي يغلب على الظن صدق المدعي، فهذا فيه اجتهاده. وأما في النفوس فالحكم بذلك مذهب أكثر العلماء كالشافعي، وأحمد. والله أعلم.
سئل عن رجل له مملوك ذكر أنه سرق له قماشا وذكر الغلام أنه أودعه عند سيده القديم
وسئل رحمه الله عن رجل له مملوك ذكر أنه سرق له قماشًا، وذكر الغلام أنه أودعه عند سيده القديم في منديل: فهل يقبل قوله في ذلك؟ وما يلزم في ذلك؟
فأجاب:
لا يؤخذ بمجرد قول الغلام باتفاق المسلمين، سواء كان الحاكم بينهما وإلى الحرب، أو قاضي الحكم، بل الذي عليه جمهور الفقهاء في المتهم بسرقة ونحوها أن ينظر في المتهم: فإما أن يكون معروفًا بالفجور، وإما أن يكون مجهول الحال.
فإن كان معروفًا بالبر لم يجز مطالبته ولا عقوبته. وهل يحلف؟ على قولين للعلماء. ومنهم من قال: يعزر من رماه بالتهمة.
وإما أن يكون مجهول الحال فإنه يحبس حتى يكشف أمره. قيل: يحبس شهرًا، وقيل: اجتهاد ولي الأمر، لما في السنن عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله ﷺ حبس في تهمة.
وإن كان قد يكون الرجل معروفًا بالفجور المناسب للتهمة، فقال طائفة من الفقهاء: يضربه الوالي، دون القاضي. وقد ذكر ذلك طوائف من أصحاب مالك، والشافعي، والإمام أحمد. ومن الفقهاء من قال: لا يضرب. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه أمر الزبير بن العوام أن يمس بعض المعاهدين بالعذاب لما كتم إخباره بالمال الذي كان النبي ﷺ قد عاهدهم عليه، وقال له: أين كنز حيى بن أخطب؟ فقال: يا محمد أذهبته النفقات والحروب، فقال: (المال كثير، والعهد قريب من هذا). وقال للزبير: دونك هذا. فمسه الزبير بشيء من العذاب، فدلهم على المال.
وأما إذا ادعى أنه استودع المال فهذا أخف، فإن كان معروفًا بالخير لم يجز إلزامه بالمال باتفاق المسلمين، بل يحلف المدعى عليه، سواء كان الحاكم واليًا، أو قاضيًا.
سئل عما يتعلق بالتهم في المسروقات في ولايته فإن ترك الفحص في ذلك ضاعت الأموال وطمعت الفساق
وسئل رحمه الله تعالى عما يتعلق بالتهم في المسروقات في ولايته، فإن ترك الفحص في ذلك ضاعت الأموال، وطمعت الفساق. وإن وكله إلى غيره ممن هو تحت يده غلب على ظنه أنه يظلم فيها، أو يتحقق أنه لا يفي بالمقصود في ذلك، وإن أقدم وسأل أو أمسك المتهومين وعاقبهم خاف الله تعالى في إقدامه على أمر مشكوك فيه وهو يسأل ضابطًا في هذه الصورة، وفي أمر قاطع الطريق.
فأجاب:
أما التهم في السرقة وقطع الطريق ونحو ذلك فليس له أن يفوضها إلى من يغلب على ظنه أنه يظلم فيها مع إمكان أن يقيم فيها من العدول ما يقدر عليه، وذلك أن الناس في التهم ثلاثة أصناف:
صنف معروف عند الناس بالدين والورع وأنه ليس من أهل التهم، فهذا لا يحبس، ولا يضرب، بل ولا يستحلف في أحد قولي العلماء، بل يؤدب من يتهمه فيما ذكره كثير منهم.
والثاني: من يكون مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور. فهذا يحبس حتى يكشف عن حاله. وقد قيل: يحبس شهرًا. وقيل: يحبس بحسب اجتهاد ولي الأمر. والأصل في ذلك ما روى أبو داود وغيره: أن النبي ﷺ حبس في تهمة، وقد نص على ذلك الأئمة، وذلك أن هذه بمنزلة ما لو ادعى عليه مدع فإنه يحضر مجلس ولى الأمر الحاكم بينهما، وإن كان في ذلك تعويقه عن أشغاله، فكذلك تعويق هذا إلى أن يعلم أمره، ثم إذا سأل عنه ووجد بارًا أطلق.
وإن وجد فاجرًا كان من الصنف الثالث وهو الفاجر الذي قد عرف منه السرقة قبل ذلك، أو عرف بأسباب السرقة مثل أن يكون معروفًا بالقمار، والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال، وليس له مال، ونحو ذلك، فهذا لوث في التهمة؛ ولهذا قالت طائفة من العلماء: إن مثل هذا يمتحن بالضرب يضربه الوالى والقاضي كما قال أشهب صاحب مالك وغيره حتى يقر بالمال. وقالت طائفة: يضربه الوالى، دون القاضي، كما قال ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، كما ذكره القاضيان الماوردي والقاضي أبو يعلى في كتابيهما في الأحكام السلطانية، وهو قول طائفة من المالكية، كما ذكره الطرسوسي وغيره.
ثم المتولى له أن يقصد بضربه مع تقريره عقوبته على فجوره المعروف، فيكون تعزيرًا وتقريرًا، وليس على المتولي أن يرسل جميع المتهومين حتى يأتي أرباب الأموال بالبينة على من سرق، بل قد أنزل على نبيه في قصة كانت تهمة في سرقة قوله تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا } إلى آخر الآيات [127]، وكان سبب ذلك أن قومًا يقال لهم: بنو أبيرق سرقوا لبعض الأنصار طعامًا ودرعين، فجاء صاحب المال يشتكي إلى رسول الله ﷺ، فجاء قوم يزكون المتهمين بالباطل، فكان النبي ﷺ ظن صدق المزكيين فلام صاحب المال، فأنزل الله هذه الآية، ولم يقل النبي ﷺ لصاحب المال: أقم البينة، ولا حلف المتهمين؛ لأن أولئك المتهمين كانوا معروفين بالشر، وظهرت الريبة عليهم.
وهكذا حكم النبي ﷺ بالقسامة في الدماء إذا كان هناك لوث يغلب على الظن صدق المدعين؛ فإن هذه الأمور من الحدود في المصالح العامة، ليست من الحقوق الخاصة، فلولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفك الدماء فيقتل الرجل عدوه خفية، ولا يمكن أولياء المقتول إقامة البينة، واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة، فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين. وقول النبي ﷺ: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه)، هذا فيما لا يمكن من المدعى حجة غير الدعوى فإنه لا يعطى بها شيئا، ولكن يحلف المدعى عليه. فأما إذا أقام شاهدًا بالمال فإن النبي ﷺ قد حكم في المال بشاهد ويمين، وهو قول فقهاء الحجاز وأهل الحديث، كمالك، والشافعي، وأحمد وغيرهم، وإذا كان في دعوى الدم لوث فقد قال النبي ﷺ للمدعين: (أتحلفون خمسين يمينًا وتستحقون دم صاحبكم).
كذلك أمر قطاع الطريق وأمر اللصوص وهو من المصالح العامة التي ليست من الحقوق الخاصة، فإن الناس لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم في المساكن والطرقات إلا بما يزجرهم في قطع هؤلاء، ولا يزجرهم أن يحلف كل منهم؛ ولهذا اتفق الفقهاء على أن قاطع الطريق لأخذ المال يقتل حتمًا، وقتله حد لله، وليس قتله مفوضًا إلى أولياء المقتول، قالوا: لأن هذا لم يقتله لغرض خاص معه، إنما قتله لأجل المال، فلا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره، فقتله مصلحة عامة، فعلى الإمام أن يقيم ذلك.
وكذلك السارق ليس غرضه في مال معين، وإنما غرضه أخذ مال هذا ومال هذا، كذلك كان قطعه حقًا واجبًا لله ليس لرب المال، بل رب المال يأخذ ماله، وتقطع يد السارق، حتى لو قال صاحب المال: أنا أعطيه مإلى لم يسقط عنه القطع، كما قال صفوان للنبي ﷺ: أنا أهبه ردائي، فقال النبي ﷺ: (فهلا فعلت قبل أن تأتي به)، وقال النبي ﷺ: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال). وقال للزبير بن العوام: إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع.
ومما يشبه هذا من ظهر عنده مال يجب عليه إحضاره كالمدين إذا ظهر أنه غيب ماله وأصر على الحبس، وكمن عنده أمانة ولم يردها إلى مستحقها ظهر كذبه، فإنه لا يحلف، لكن يضرب حتى يحضر المال الذي يجب إحضاره، أو يعرف مكانه، كما قال النبي ﷺ للزبير بن العوام عام خيبر في عم حيى بن أخطب، وكان النبي ﷺ صالحهم على أن له الذهب والفضة، فقال لهذا الرجل: (أين كنز حيى بن أخطب؟). فقال: يا محمد، أذهبته النفقات، والحروب، فقال: (المال كثير، والعهد أحدث من هذا). ثم قال: (دونك هذا). فمسه بشيء من العذاب، فدلهم عليه في خربة هناك فهذا لما قال أذهبته النفقات والحروب والعادة تكذبه في ذلك لم يلتفت إليه بل أمر بعقوبته حتى دلهم على المال، فكذلك من أخذ من أموال الناس وادعى ذهابها دعوى تكذبه فيها العادة كان هذا حكمه.
سئل عمن كان له ذهب مخيط في ثوبه فأعطاه للغسال نسيانا فلما رده الغسال إليه بعد غسله وجد مكان الذهب مفتقا
وسئل رحمه الله تعالى عمن كان له ذهب مخيط في ثوبه فأعطاه للغسال نسيانًا، فلما رده الغسال إليه بعد غسله وجد مكان الذهب مفتقًا، ولم يجده، فما الحكم فيه؟
فأجاب:
إما أن يحلف المدعى عليه بما يبريه، وإما أن يحلف المدعى أنه أخذ الذهب بغير حق ويضمنه، فإن كان الغسال معروفًا بالفجور وظهرت الريبة بظهور الفتق جاز ضربه وتعزيره. والله أعلم.
باب حد قطاع الطريق
سئل عن أقوام يقطعون الطريق على المسلمين ويقتلون من يمانعهم عن ماله ويفجرون بحريم المسلمين
وسئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عن أقوام يقطعون الطريق على المسلمين، ويقتلون من يمانعهم عن ماله ويفجرون بحريم المسلمين، ويعذبون كل من يمسكونه من المسلمين من ذكر وأنثى حتى يدلهم على شيء من أموال المسلمين، ثم الإمام بلغه خبرهم، فأمر السلطان بعض الناس أن يروح إليهم، ويمنعهم من قتل المسلمين وأخذ أموالهم، فخرجوا عليه، وقاتلوا المسيرين إليهم، وامتنعوا من طاعة السلطان: فهل يحل قتالهم، أم لا؟ وهل إذا أخذ السلطان من مالهم شيئا وباعه على المسلمين يحل لأحد أن يشتريه؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم: يحل قتال هؤلاء، بل يجب، وإذا أخذ السلطان من أموالهم بإزاء ما أخذوه من أموال المسلمين ولم يعرف مستحقه جاز الشراء منه، وإن كانوا أخذوا شيئا من أموال المسلمين ففي أخذ أموالهم خلاف بين الفقهاء. وإذا قلد السلطان أحد القولين بطريقة ساغ له ذلك.
سئل عن المفسدين في الأرض الذين يستحلون أموال الناس ودماءهم مثل السارق وقاطع الطريق
وسئل رحمه الله تعالى عن المفسدين في الأرض، الذين يستحلون أموال الناس ودماءهم مثل السارق، وقاطع الطريق: هل للإنسان أن يعطيهم شيئا من ماله، أو يقاتلهم؟ وهل إذا قتل رجل أحدًا منهم: فهل يكون ممن ينسب إلى النفال؟ وهل عليه إثم في قتل من طلب قتله؟
فأجاب:
أجمع المسلمون على جواز مقاتلة قطاع الطريق، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد).
فالقطاع إذا طلبوا مال المعصوم لم يجب عليه أن يعطيهم شيئا باتفاق الأئمة، بل يدفعهم بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفعوا إلا بالقتال، فله أن يقاتلهم، فإن قتل كان شهيدًا، وإن قتل واحدًا منهم على هذا الوجه كان دمه هدرًا، وكذلك إذا طلبوا دمه كان له أن يدفعهم ولو بالقتل إجماعًا، لكن الدفع عن المال لا يجب، بل يجوز له أن يعطيهم المال ولا يقاتلهم، وأما الدفع عن النفس ففي وجوبه قولان، هما روايتان عن أحمد.
سئل عن تاجر نصب عليه جماعة وأخذوا مبلغا فحملهم لولي الأمر وعاقبهم حتى أقروا بالمال
وسئل رحمه الله تعالى عن تاجر نصب عليه جماعة، وأخذوا مبلغًا، فحملهم لولي الأمر، وعاقبهم حتى أقروا بالمال، وهم محبوسون على المال، ولم يعطوه شيئا، وهم مصرون على أنهم لا يعطونه شيئا؟
فأجاب:
الحمد لله، هؤلاء من كان المال بيده وامتنع من إعطائه فإنه يضرب حتى يؤدي المال الذي بيده لغيره. ومن كان قد غيب المال وجحد وضعه فإنه يضرب حتى يدل على موضعه. ومن كان متهمًا لا يعرف هل معه من المال شيء أم لا، فإنه يجوز ضربه معاقبة له على ما فعل من الكذب والظلم، ويقرر مع ذلك على المال أين هو. ويطلب منه إحضاره. والله أعلم.
سئل عن ثلاثة من اللصوص أخذ اثنان منهم جمالا والثالث قتل الجمال هل تقتل الثلاثة
وسئل قدس الله روحه ونور ضريحه عن ثلاثة من اللصوص أخذ اثنان منهم جمَّالا، والثالث قتل الجمال: هل تقتل الثلاثة؟
فأجاب:
إذا كان الثلاثة حرامية اجتمعوا ليأخذوا المال بالمحاربة قتل الثلاثة، وإن كان الذي باشر القتل واحدًا منهم. والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
باب الظهار
سئل عن رجل قال لامرأته أنت على مثل أمي وأختي
سئل شيخ الإسلام أَحَمدُ بن تَيميَّة قدسَ الله روحه عن رجل قال لامرأته: أنت على مثل أمي، وأختي؟
فأجاب:
إن كان مقصوده أنت على مثل أمي وأختي في الكرامة فلا شيء عليه. وإن كان مقصوده يشبهها بأمه وأخته في باب النكاح فهذا ظهار، عليه ما على المظاهر، فإذا أمسكها فلا يقربها حتى يكفر كفارة ظهار.
سئل عن رجل تزوج وأراد الدخول الليلة الفلانية وإلا كانت عندي مثل أمي وأختي
وسئل رحمه الله عن رجل تزوج، وأراد الدخول الليلة الفلانية، وإلا كانت عندي مثل أمي وأختي، ولم تتهيأ له ذلك الوقت الذي طلبها فيه، فهل يقع طلاق؟
فأجاب:
لا يقع عليه طلاق قي المذاهب الأربعة، لكن يكون مظاهرا فإذا أراد الدخول فإنه يكفر قبل ذلك. الكفارة التي ذكرها الله في سورة المجادلة فيعتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا.
سئل عن رجل حنق من زوجته فقال إن بقيت أنكحك أنكح أمي تحت ستور الكعبة
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل حنق من زوجته فقال: إن بقيت أنكحك أنكح أمي تحت ستور الكعبة: هل يجوز أن يصالحها؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا نكحها فعليه كفارة الظهار عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، ولا يمسها حتى يُكَفِّر.
سئل عن رجل قال لآخر يا أخي لا تفعل هذه الأمور بين يدي امرأتك قبيح عليك فقال ما هي إلا مثل أمي
وسئل رَحمه الله عن رجلين قال أحدهما لصاحبه: يا أخي، لا تفعل هذه الأمور بين يدي امرأتك، قبيح عليك، فقال: ما هي إلا مثل أمي. فقال: لأي شيء قلت؟ ! سمعت أنها تحرم بهذا اللفظ، ثم كرر على نفسه، وقال: أي والله هي عندي مثل أمي: هل تحرم على الزوج بهذا اللفظ؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إن أراد بقوله: إنها مثل أمي أنها تستر على ولا تهتكني ولا تلومني، كما تفعل الأم مع ولدها، فإنه يؤدب على هذا القول، ولا تحرم عليه امرأته؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلا يقول لامرأته: يا أختي، فأدبه وإن كان جاهلا لم يؤدب على ذلك، وإن استحق العقوبة على ما فعله من المنكر وقال أختك هي؟ ! فلا ينبغي أن يجعل الإنسان امرأته كأمه.
وإن أراد بها عندي مثل أمي. أي في الامتناع عن وطئها، والاستمتاع بها، ونحو ذلك مما يحرم من الأم، فهي مثل أمي التي ليست محلا للاستمتاع بها، فهذا مظاهر يجب عليه ما يجب على المظاهر فلا يحل له أن يطأها حتى يكفر كفارة الظهار فيعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا. وإذا فعل ذلك حل له ذلك باتفاق المسلمين، إلا ينوي أنها محرمة على كأمي، فهذا يكون مظاهرا في مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد. وحكي في مذهب مالك نزاع في ذلك: هل يقع به الثلاث، أم لا؟
والصواب المقطوع به أنه لا يقع به طلاق، ولا يحل له الوطء حتى يكفر باتفاقهم، ولا يقع به الطلاق بذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل قال لامرأته بائن عنه إن رددتك تكوني مثل أمي وأختي
وسئل رَحمه الله عن رجل قال لامرأته بائن عنه إن رددتك تكوني مثل أمي وأختي: هل يجوز أن يردها، وما الذي يجب عليه؟
فأجاب:
في أحد قولي العلماء عليه كفارة ظهار، وإذا ردها في الآخر لا شيء. والأول أحوط.
سئل عن رجل قال في غيظه لزوجته أنت على حرام مثل أمي
وسئل رَحمه الله عن رجل قال في غيظه لزوجته: أنت على حرام مثل أمي.
فأجاب:
هذا مظاهر من امرأته، داخل في قوله: { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } [1]، فهذا إذا أراد إمساك زوجته ووطأها فإنه لا يقربها حتى يكفر هذه الكفارة التي ذكرها الله.
سئل عن رجل قالت له زوجته أنت على حرام مثل أبي وأمي
وسئل رَحمه الله عن رجل قالت له زوجته: أنت على حرام مثل أبي وأمي. وقال لها: أنت على حرام مثل أمي وأختي: فهل يجب عليه الطلاق؟
فأجاب:
لا طلاق بذلك، ولكن إن استمر على النكاح فعلى كل منهما كفارة ظهار قبل أن يجتمعا، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا.
باب ما يلحق من النسب
سئل عن رجل تزوج بنتا بكرا بالغا ودخل بها فوجدها بكرا ثم إنها ولدت ولدا بعد مضي ستة أشهر بعد دخوله بها
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل تزوج بنتا بكرا، بالغا، ودخل بها، فوجدها بكرا، ثم إنها ولدت ولدا بعد مضي ستة أشهر بعد دخوله بها: فهل يلحق به الولد أم لا؟ وأن الزوج حلف بالطلاق منها أن الولد ولده من صلبه: فهل يقع به الطلاق أم لا؟ والولد ابن سوي كامل الخلقة، وعمر سنين. أفتونا مأجورين.
فأجاب رضي الله عنه:
الحمد لله، إذا ولدت لأكثر من ستة أشهر حين دخل بها ولو بلحظة لحقه الولد باتفاق الأئمة. ومثل هذه القصة وقعت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واستدل الصحابة على إمكان كون الولد لستة أشهر بقوله تعالى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } [2]، مع قوله: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [3]، فإذا كان مدة الرضاع من الثلاثين حولين يكون الحمل ستة أشهر، فجمع في الآية أقل الحمل وتمام الرضاع ولو لم يستلحقه، فكيف إذا استلحقه وأقر به؟ ! بل لو استلحق مجهول النسب، وقال: إنه ابني لحقه باتفاق المسلمين، إذا كان ذلك ممكنا، ولم يدع أحد أنه ابنه، كان بارا في يمينه، ولا حنث عليه. والله أعلم.
سئل عن رجل اشترى جارية بكرا وباشرها وهي لا تخرج ولا تدخل وهي حامل منه
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل اشترى جارية بكرا، وباشرها، وهي لا تخرج ولا تدخل، وهي حامل منه، فأخرجها إلى السوق، وينكر ويحلف أنه ما هو ولده.
فأجاب:
إذا اعترف أنه وطئها مثل أن يكون قد أقر بذلك فإن الولد يلحقه، ويجعل هذا الحمل منه إذا وضعت لمدة الإمكان، وليس له أن يبيع الحمل، ولا أمه؛ لكن إذا ادعي الاستبراء ففي قبول قوله وتحليفه نزاع بين العلماء. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج امرأة وأقامت في صحبته خمسة عشر يوما ثم طلقها الطلاق البائن وتزوجت بعده بزوج آخر بعد انقضاء العدة
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج امرأة وأقامت في صحبته خمسة عشر يوما، ثم طلقها الطلاق البائن، وتزوجت بعده بزوج آخر بعد إخبارها بانقضاء العدة من الأول، ثم طلقها الزوج الثاني بعد مدة ست سنين، وجاءت بابنة، وادعت أنها من الزوج الأول: فهل يصح دعواها. ويلزم الزوج الأول، ولم يثبت أنها ولدت البنت، وهذا الزوج والمرأة مقيمان ببلد واحد، وليس لها مانع من دعوي النساء، ولا طالبته بنفقة ولا فرض.
فأجاب:
الحمد لله، لا يلحق هذا الولد الذي هو البنت بمجرد دعواها والحالة هذه باتفاق الأئمة. بل لو ادعت أنها ولدته في حال يلحق به نسبه إذا ولدته وكانت مطلقة وأنكر هو أن تكون ولدته لم تقبل في دعوي الولادة بلا نزاع، حتى تقيم بذلك بينة. ويكفي امرأة واحدة عند أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعند مالك وأحمد في الرواية الأخرى لابد من امرأتين. وأما الشافعي فيحتاج عنده إلى أربع نسوة، ويكفي يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته.
وأما إن كانت الزوجية قائمة ففيها قولان في مذهب أحمد: أحدهما: لا يقبل قولها، كمذهب الشافعي. والثاني: يقبل، كمذهب مالك. وأما إذا انقضت عدتها ومضي لها أكثر الحمل. ثم ادعت وجود حمل من الزوج الأول المطلق، فهذه لا يقبل قولها بلا نزاع، بل لو أخبرت بانقضاء عدتها ثم أتت بولد لستة أشهر فصاعدا ولدون مدة الحمل، فهل يلحقه؟ على قولين مشهورين لأهل العلم. ومذهب أبي حنيفة وأحمد أنه يلحق، وهذا اختيار ابن سريج من أصحاب الشافعي، لكن المشهور من مذهب الشافعي ومالك أنه لا يلحقه.
وهذا النزاع إذا لم تتزوج، فأما إذا تزوجت بعد إخبارها بانقضاء عدتها، ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر، فإن هذا لا يلحق نسبه بالأول قولا واحدا. فإذا عرفت مذهب الأئمة في هذين الأصلين فكيف يلحقه نسبه بدعواها بعد ست سنين. ولو قالت: ولدته ذلك الزمن قبل أن يطلقني لم يقبل قولها أيضا، بل القول مع يمينه أنها لم تلدها على فراشه.
ولو قالت هي: وضعت هذا الحمل قبل أن أتزوج بالثاني، وأنكر الزوج الأول ذلك، فالقول قوله أيضا أنها لم تضعها قبل تزوجها بالثاني، لا سيما مع تأخر دعواها إلى أن تزوجت الثاني، فإن هذا مما يدل على كذبها في دعواها، لا سيما على أصل مالك في تأخر الدعوي الممكنة بغير عذر في هذه المسائل ونحوها.
سئل عمن طلق امرأته ثلاثا وأفتاه مفت بأنه لم يقع الطلاق
وسئل رَحمه الله تعالى عمن طلق امرأته ثلاثا، وأفتاه مفت بأنه لم يقع الطلاق، فقلده الزوج ووطئ زوجته بعد ذلك، وأتت منه بولد، فقيل: إنه ولد زنا.
فأجاب:
من قال ذلك فهو في غاية الجهل والضلالة، والمشاقة لله ورسوله؛ فإن المسلمين متفقون على أن كل نكاح اعتقد الزوج أنه نكاح سائغ إذا وطئ فيه فإنه يلحقه فيه ولده ويتوارثان باتفاق المسلمين، وإن كان ذلك النكاح باطلا في نفس الأمر باتفاق المسلمين، سواء كان الناكح كافرا أو مسلما. وإليهودي إذا تزوج بنت أخيه كان ولده منه يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين وإذا كان ذلك النكاح باطلا باتفاق المسلمين، ومن استحله كان كافرا تجب استتابته. وكذلك المسلم الجاهل لو تزوج امرأة في عدتها كما يفعل جهال الأعراب ووطأها يعتقدها زوجة كان ولده منها يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين. ومثل هذا كثير.
فإن ثبوت النسب لا يفتقر إلى صحة النكاح في نفس الأمر، بل الولد للفراش، كما قال النبي ﷺ: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) فمن طلق امرأته ثلاثا ووطأها يعتقد أنه لم يقع به الطلاق: إما لجهله، وإما لفتوي مفت مخطئ قلده الزوج، وإما لغير ذلك فإنه يلحقه النسب، ويتوارثان بالاتفاق، بل ولا تحسب العدة إلا من حين ترك وطأها، فإنه كان يطؤها يعتقد أنها زوجته، فهي فراش له فلا تعتد منه حتى تترك الفراش.
ومن نكح امرأة نكاحا فاسدا متفقا على فساده، أو مختلفا في فساده أو ملكها ملكا فاسدا متفقا على فساده، أو مختلفا في فساده، أو وطأها يعتقدها زوجته الحرة، أو أمته المملوكة فإن ولده منها يلحقه نسبه، ويتوارثان باتفاق المسلمين. والولد أيضا يكون حرا، وإن كانت الموطوءة مملوكة للغير في نفس الأمر ووطئت بدون إذن سيدها، لكن لما كان الواطئ مغرورا بها زوج بها وقيل: هي حرة، أو بيعت فاشتراها يعتقدها ملكا للبائع، فإنما وطئ من يعتقدها زوجته الحرة، أو أمته المملوكة، فولده منها حر لاعتقاده. وإن كان اعتقاده مخطئا، وبهذا قضي الخلفاء الراشدون، واتفق عليه أئمة المسلمين.
فهؤلاء الذين وطئوا وجاءهم أولاد لو كانوا قد وطئوا في نكاح فاسد متفق على فساده، وكان الطلاق وقع بهم باتفاق المسلمين، وهم وطئوا يعتقدون أن النكاح باق، لإفتاء من أفتاهم، أو لغير ذلك، كان نسب الأولاد بهم لاحقا، ولم يكونوا أولاد زنا، بل يتوارثون باتفاق المسلمين. هذا في المجمع على فساده فكيف في المختلف في فساده؟ وإن كان القول الذي وطئ به قولا ضعيفا، كمن وطئ في نكاح المتعة أو نكاح المرأة نفسها بلا ولي ولا شهود، فإن هذا إذا وطئ فيه يعتقده نكاحا لحقه فيه النسب، فكيف بنكاح مختلف فيه، وقد ظهرت حجة القول بصحته بالكتاب والسنة والقياس، وظهر ضعف القول الذي يناقضه، وعجز أهله عن نصرته بعد البحث التام؛ لانتفاء الحجة الشرعية؟!
فمن قال: إن هذا النكاح أو مثله يكون فيه الولد ولد زنا لا يتوارثان هو وأبوه الوطيء مخالف لإجماع المسلمين. منسلخ من رتبة الدين، فإن كان جاهلا عرف وبين له أن رسول الله ﷺ وخلفاءه الراشدين وسائر أئمة الدين ألحقوا أولاد أهل الجاهلية بآبائهم وإن كانت محرمة بالإجماع، ولم يشترطوا في لحوق النسب أن يكون النكاح جائزا في شرع المسلمين، فإن أصر على مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدي، واتبع غير سبيل المؤمنين، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. فقد ظهر أن من أنكر الفتيا بأنه لا يقع الطلاق وادعي الإجماع على وقوعه، وقال: إن الولد ولد زنا، هو المخالف لإجماع المسلمين، مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله رب العالمين، وإن المفتي بذلك أو القاضي بذلك فعل ما لا يسوغ له بإجماع المسلمين، وليس لأحد المنع من الفتيا بقوله، ولا القضاء بذلك، ولا الحكم بالمنع من ذلك باتفاق المسلمين، والأحكام باطلة بإجماع المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
سئل عن رجل ادعت عليه مطلقته بعد ست سنين ببنت وبعد أن تزوجت بزوج آخر
وسئل رَحمه الله عن رجل ادعت عليه مطلقته بعد ست سنين ببنت، وبعد أن تزوجت بزوج آخر، فألزمه بعض الحكام باليمين، فقال الرجل: أحلف أن هذه ما هي بنتي. فقال الحاكم: ما تحلف إلا أنها ما هي بنتها، فامتنع أن يحلف إلا أنها ما هي بنتي، وكان معه إنسان فقال للحاكم: هذا ما يحل له أن يحلف أنها ما هي بنت هذه المرأة، فضربه الحاكم بالدرة، وأحرق به، فحلف الرجل، فكتب عليه فرض البنت، فهل يصح هذا الفرض؟
فأجاب:
الحمد لله، عليه اليمين أنها لم تلدها في العدة، أو أنها لم تلدها على فراشه، أو أنها لم تلدها في بيته، بحيث أمكن لحوق النسب به. فأما إذا تزوجت بغيره وأمكن أنها ولدتها من الثاني فليس عليه اليمين أنها لم تلدها. وإذا حلفت أنها لم تلدها قبل نكاح الثاني آخرا. وإذا أكره على الإقرار لم يصح إقراره.
سئل عن رجل تزوج بامرأة ولم يدخل بها ولا أصابها فولدت بعد شهرين
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج بامرأة ولم يدخل بها ولا أصابها، فولدت بعد شهرين: فهل يصح النكاح، وهل يلزمه الصداق، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يلحق به الولد باتفاق المسلمين، وكذلك لا يستقر عليه المهر باتفاق المسلمين، لكن للعلماء في العقد قولان: أصحهما أن العقد باطل، كمذهب مالك، وأحمد، وغيرهما. وحينئذ فيجب التفريق بينهما، ولا مهر عليه، ولا نصف مهر، ولا متعة، كسائر العقود الفاسدة إذا حصلت الفرقة فيها قبل الدخول، لكن ينبغي أن يفرق بينهما حاكم يري فساد العقد لقطع النزاع. والقول الثاني: أن العقد صحيح ثم لا يحل له الوطء حتى تضع، كقول أبي حنيفة، وقيل: يجوز له الوطء قبل الوضع، كقول الشافعي، فعلى هذين القولين إذا طلقها قبل الدخول فعليه نصف المهر، لكن هذا النزاع إذا كانت حاملا من وطء شبهة أو سيد أو زوج، فإن النكاح باطل باتفاق المسلمين، ولا مهر عليه إذا فارق قبل الدخول. وأما الحامل من الزنا فلا كلام في صحة نكاحها. والنزاع فيما إذا كان نكاحها طائعا، وأما إذا نكحها مكرها فالنكاح باطل في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.
باب العدد
سئل عن امرأة طلقها زوجها في الثامن والعشرين من ربيع الأول وأن دم الحيض
وسئل رَحمه الله عن امرأة طلقها زوجها في الثامن والعشرين من ربيع الأول، وأن دم الحيض جاءها مرة، ثم تزوجت بعد ذلك في الثالث والعشرين من جمادي الآخر من السنة. وادعت أنها حاضت ثلاث حيض، ولم تكن حاضت إلا مرة، فلما علم الزوج طلقها طلقة واحدة ثانيا في العشر من شعبان من السنة، ثم أرادت أن تزوج بالمطلق الثاني، وادعت أنها آيسة، فهل يقبل قولها، وهل يجوز تزويجها؟
فأجاب:
الإياس لا يثبت بقول المرأة، لكن هذه إذا قالت إنه ارتفع لا تدري ما رفعه فإنها تؤجل سنة، فإن لم تحض فيها زوجت. وإذا طعنت في سن الإياس فلا تحتاج إلى تأجيل. وإن علم أن حيضها ارتفع بمرض أو رضاع كانت في عدة حتى يزول العارض.
فهذه المرأة كان عليها عدتان: عدة للأول، وعدة من وطئ الثاني. ونكاحه فاسد لا يحتاج إلى طلاق، فإذا لم تحض إلا مرة واستمر انقطاع الدم، فإنها تعتد العدتين بالشهور ستة أشهر بعد فراق الثاني إذا كانت آيسة. وإذا كانت مستريبة كان سنة وثلاثة أشهر. وهذا على قول من يقول: إن العدتين لا تتداخلان كمالك، والشافعي، وأحمد وعند أبي حنيفة تتداخل العدتان من رجلين، لكن عنده الإياس حد بالسن وهذا الذي ذكرناه هو أحسن قولي الفقهاء وأسهلهما، وبه قضي عمر وغيره. وأما على القول الآخر فهذه المستريبة تبقي في عدة حتى تطعن في سن الإياس، فتبقي على قولهم تمام خمسين أو ستين سنة لا تتزوج. ولكن في هذا عسر وحرج في الدين وتضييع مصالح المسلمين.
سئل عن رجل تزوج امرأة ولها عنده أربع سنين لم تحض وذكرت أن لها أربع سنين قبل زواجها لم تحض
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج امرأة ولها عنده أربع سنين لم تحض، وذكرت أن لها أربع سنين قبل زواجها لم تحض، فحصل من زوجها الطلاق الثلاث، فكيف يكون تزويجها بالزوج الآخر؟ وكيف تكون العدة وعمرها خمسون سنة؟
فأجاب:
الحمد لله، هذه تعتد عدة الآيسات ثلاثة أشهر في أظهر قولي العلماء؛ فإنها قد عرفت أن حيضها قد انقطع، وقد عرفت أنه قد انقطع انقطاعا مستمرا، بخلاف المستريبة التي لا تدري ما رفع حيضها: هل هو ارتفاع أياس، أو ارتفاع لعارض ثم يعود كالمرض، والرضاع؟ فهذه ثلاثة أنواع.
فما ارتفع لعارض، كالمرض، والرضاع، فإنها تنتظر زوال العارض بلا ريب. ومتى ارتفع لا تدري ما رفعه، فمذهب مالك وأحمد في المنصوص عنه، وقول للشافعي: أنها تعتد عدة الآيسات بعد أن تمكث مدة الحمل، كما قضي بذلك عمر. ومذهب أبي حنيفة والشافعي في الجديد أنها تمكث حتى تطعن في سن الإياس، فتعتد عدة الآيسات. وفي هذا ضرر عظيم عليها؛ فإنها تمكث عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة لا تتزوج. ومثل هذا الحرج مرفوع عن الأمة، وإنما { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ } [4]، فإنهن يعتددن ثلاثة أشهر بنص القرآن، وإجماع الأمة.
لكن العلماء مختلفون: هل للإياس سن لا يكون الدم بعده إلا دم إياس؟ وهل ذلك السن خمسون، أو ستون، أو فيه تفصيل؟ ومتنازعون: هل يعلم الإياس بدون السن؟
وهذه المرأة قد طعنت في سن الإياس على أحد القولين، وهو الخمسون، ولها مدة طويلة لم تحض، وقد ذكرت أنها شربت ما يقطع الدم، والدم يأتي بدواء، فهذه لا ترجو عود الدم إليها، فهي من الآيسات تعتد عدة الآيسات، والله أعلم.
سئل عن امرأة فسخ الحاكم نكاحها عقب الولادة لما ثبت عنده من تضررها
وسئل رَحمه الله عن امرأة فسخ الحاكم نكاحها عقب الولادة، لما ثبت عنده من تضررها بانقطاع نفقة زوجها، وعدم تصرفه الشرعي عليها المدة التي يسوغ فيها فسخ النكاح لمثلها. وبعد ثلاثة شهور من فسخ النكاح رغب فيها من يتزوجها: فهل يجوز أن تعتد بالشهور، إذ أكثر النساء لا يحضن مع الرضاعة أو يستمر بها الضرر إلى حيث ينقضي الرضاع ويعود إليها حيضها، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، بل تبقي في العدة حتى تحيض ثلاث حيض، وإن تأخر ذلك إلى انقضاء مدة الرضاع، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وبذلك قضي عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب بين المهاجرين والأنصار، ولم يخالفهما أحد. فإن أحبت المرأة أن تسترضع لابنها من يرضعه لتحيض، أو تشرب ما تحيض به، فلها ذلك. والله أعلم.
سئل عن امرأة كانت تحيض وهي بكر فلما تزوجت ولدت ستة أولاد ولم تحض بعد ذلك
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة كانت تحيض وهي بكر، فلما تزوجت ولدت ستة أولاد ولم تحض بعد ذلك، ووقعت الفرقة من زوجها وهي مرضع، وأقامت عند أهلها نصف سنة ولم تحض، وجاء رجل يتزوجها غير الزوج الأول، فحضروا عند قاض من القضاة، فسألها عن الحيض، فقالت: لي مدة سنين ما حضت. فقال القاضي: ما يحل لك عندي زواج، فزوجها حاكم آخر ولم يسألها عن الحيض، فبلغ خبرها إلى قاض آخر، فاستحضر الزوج والزوجة، فضرب الرجل مائة جلدة، وقال: زنيت، وطلق عليه، ولم يذكر الزوج الطلاق، فهل يقع به طلاق؟
فأجاب:
إن كان قد ارتفع حيضها بمرض أو رضاع فإنها تتربص حتى يزول العارض وتحيض باتفاق العلماء، وإن كان ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فهذه في أصح قولي العلماء على ما قال عمر: تمكث سنة، ثم تزوج، وهو مذهب أحمد المعروف في مذهبه، وقول للشافعي: وإن كانت في القسم الأول فنكاحها باطل، والذي فرق بينهما أصاب في ذلك، وأصاب في تأديب من فعل ذلك. وإن كانت من القسم الثاني قد زوجها حاكم لم يكن لغيره من الحكام أن يفرق بينهما، ولم يقع بها طلاق، فإن فعل الحاكم لمثل ذلك يجوز في أصح الوجهين.
سئل عن مرضع استبطأت الحيض فتداوت لمجيء الحيض
وسئل رَحمه الله تعالى عن مرضع استبطأت الحيض، فتداوت لمجيء الحيض، فحاضت ثلاث حيض وكانت مطلقة: فهل تنقضي عدتها، أم لا؟
فأجاب:
نعم إذا أتي الحيض المعروف لذلك اعتدت به، كما أنها لو شربت دواء قطع الحيض أو باعد بينه، كان ذلك طهرا. وكما لو جاعت أو تعبت، أو أتت غير ذلك من الأسباب التي تسخن طبعها وتثير الدم فحاضت بذلك. والله أعلم.
سئل عن امرأة شابة لم تبلغ سن الإياس وكانت عادتها أن تحيض فشربت دواء
وسئل رَحمه الله عن امرأة شابة لم تبلغ سن الإياس، وكانت عادتها أن تحيض فشربت دواء، فانقطع عنها الدم واستمر انقطاعه، ثم طلقها زوجها وهي على هذه الحالة: فهل تكون عدتها من حين الطلاق بالشهور، أو تتربص حتى تبلغ سن الآيسات؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إن كانت تعلم أن الدم يأتي فيما بعد فعدتها ثلاثة أشهر. وإن كان يمكن أن يعود الدم ويمكن ألا يعود فإنها تتربص بعد سنة ثم تتزوج، كما قضي به عمر ابن الخطاب في المرأة يرتفع حيضها لا تدري ما رفعه، فإنها تتربص سنة، وهذا مذهب الجمهور، كمالك والشافعي. ومن قال: إنها تدخل في سن الآيسات، فهذا قول ضعيف جدا، مع ما فيه من الضرر الذي لا تأتي الشريعة بمثله، أو تمنع من النكاح وقت حاجتها إليه، ويؤذن لها فيه حين لا تحتاح إليه.
سئل عن رجل مرض مرضا متصلا بموته وله زوجة فأمرها أن تخرج من الدار ثم طلقها ثم أنكر
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل مرض مرضا متصلا بموته، وله زوجة، فأمرها أن تخرج من داخل الدار إلى خارجها، فتوقفت عن الخروج، فقال لها: أنت طالق، فخرجت وحجبت وجهها عنه، فطلبها فدخلت عليه محتجبة فسألها عن احتجابها لما هو؟ فأخبرته بما أوقع من الطلاق، فأنكر، وقال: ما حلفت، ولا طلقت، ومات بعد أيام: فهل يلزمها الطلاق أم عدة الوفاة؟
فأجاب:
عليها عدة الوفاة مع عدة الطلاق، ولها الميراث. هذا إن كان عقله حاضرا حين تكلم بالطلاق، وإن كان عقله غائبا لم يلزمها إلا عدة الوفاة. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج امرأة من مدة ثلاث سنين ورزق منها ولدا له من العمر سنتان وذكرت أنها لما تزوجت لم تحض إلا حيضتين
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج امرأة من مدة ثلاث سنين، ورزق منها ولدا له من العمر سنتان، وذكرت أنها لما تزوجت لم تحض إلا حيضتين، وصدقها الزوج، وكان قد طلقها ثانيا على هذا العقد المذكور: فهل يجوز الطلاق على هذا العقد المفسوخ؟
فأجاب:
إن صدقها الزوج في كونها تزوجت قبل الحيضة الثالثة فالنكاح باطل، وعليه أن يفارقها. وعليها أن تكمل عدة الأول، ثم تعتد من وطء الثاني. فإن كانت حاضت الثالثة قبل أن يطأها الثاني فقد انقضت عدة الأول، ثم إذا فارقها الثاني اعتدت له ثلاث حيض، ثم تزوج من شاءت بنكاح جديد. وولده ولد حلال يلحقه نسبه، وإن كان قد ولد بوطء في عقد فاسد لا يعلم فساده.
فصل المعتدة عدة الوفاة تتربص أربعة أشهر وعشرا
وقال شيخ الإسلام رَحمه الله:
المعتدة عدة الوفاة تتربص أربعة أشهر وعشرا وتجتنب الزينة والطيب في بدنها وثيابها، ولا تتزين، ولا تتطيب، ولا تلبس ثياب الزينة، وتلزم منزلها فلا تخرج بالنهار إلا لحاجة، ولا بالليل إلا لضرورة، ويجوز لها أن تأكل كل ما أباحه الله كالفاكهة واللحم لحم الذكر والأنثي ولها أكل ذلك باتفاق علماء المسلمين، وكذلك شرب ما يباح من الأشربة ويجوز لها أن تلبس ثياب القطن والكتان وغير ذلك مما أباحه الله، وليس عليها أن تصنع ثيابا بيضاء أو غير بيض للعدة، بل يجوز لها لبس المقفص، لكن لا تلبس ما تتزين به المرأة: مثل الأحمر، والأصفر، والأخضر الصافي، والأزرق الصافي، ونحو ذلك، ولا تلبس الحلي مثل الإسورة والخلاخل، والقلايد، ولا تختضب بحناء ولا غيره، ولا يحرم عليها عمل شغل من الأشغال المباحة، مثل التطريز، والخياطة، والغزل، وغير ذلك مما تفعله النساء.
ويجوز لها سائر ما يباح لها في غير العدة: مثل كلام من تحتاج إلى كلامه من الرجال إذا كانت مستترة، وغير ذلك. وهذا الذي ذكرته هو سنة رسول الله ﷺ الذي كان يفعله نساء الصحابة إذا مات أزواجهن ونساؤه ﷺ ولا يحل لهن أن يتزوجن بغيره أبدا لا في العدة ولا بعدها، بخلاف غيرهن، وعلى المسلمين احترامهن كما يحترم الرجل أمه، لكن لا يجوز لغير محرم يخلو بواحدة منهن، ولا يسافر بها. والله أعلم.
سئل عن امرأة معتدة عدة وفاة ولم تعتد في بيتها بل تخرج في ضرورتها الشرعية
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة معتدة عدة وفاة، ولم تعتد في بيتها بل تخرج في ضرورتها الشرعية: فهل يجب عليها إعادة العدة؟ وهل تأثم بذلك؟
فأجاب:
العدة انقضت بمضي أربعة أشهر وعشرا من حين الموت، ولا تقضي العدة. فإن كانت خرجت لأمر يحتاج إليه ولم تبت إلا في منزلها فلا شيء عليها. وإن كانت قد خرجت لغير حاجة وباتت في غير منزلها لغير حاجة، أو باتت في غير ضرورة أو تركت الإحداد، فلتستغفر الله وتتوب إليه من ذلك، ولا إعادة عليها.
سئل عن رجل توفي وقعدت زوجته في عدته أربعين يوما
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل توفي وقعدت زوجته في عدته أربعين يوما، فما قدرت تخالف مرسوم السلطان، ثم سافرت وحضرت إلى القاهرة، ولم تتزين لا بطيب، ولا غيره: فهل تجوز خطبتها، أم لا؟
فأجاب:
العدة تنقضي بعد أربعة أشهر وعشرة أيام، فإن كان قد بقي من هذه شيء فلتتمه في بيتها، ولا تخرج ليلا ولا نهارا إلا لأمر ضروري، وتجتنب الزينة، والطيب في بدنها وثيابها. ولتأكل ما شاءت من حلال، وتشم الفاكهة، وتجتمع بمن يجوز لها الاجتماع به في غير العدة، لكن إن خطبها إنسان لا تجيبه صريحا. والله أعلم.
سئل عن امرأة عزمت على الحج هي وزوجها فمات زوجها في شعبان
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة عزمت على الحج هي وزوجها، فمات زوجها في شعبان: فهل يجوز لها أن تحج؟
فأجاب:
ليس لها أن تسافر في العدة عن الوفاة إلى الحج في مذهب الأئمة الأربعة.
باب الاستبراء
سئل عن رجل اشترى جارية ثم بعد يومين أو ثلاث وطئها قبل أن تحيض ثم باعها بعد عشرة أيام
سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل اشترى جارية، ثم بعد يومين أو ثلاث وطئها قبل أن تحيض ثم باعها بعد عشرة أيام: فهل يجوز للسيد الثاني أن يطأها قبل أن تحيض؟
فأجاب:
لم يكن يحل له وطؤها قبل أن يستبرئها باتفاق الأئمة، كما قال النبي ﷺ: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة). وكذلك المشتري الثاني لا يجوز له وطؤها قبل أن تحيض عنده باتفاق الأئمة، بل لا يجوز في أحد قولي العلماء أن يبيعها الواطئ حتى يستبرئها. وهل عليه استبراء، وعلى المشتري استبراء، أو استبرآن، أو يكفيهما استبراء واحد؟ على قولين. والله أعلم.
باب الرضاع
فصل المحرمات بالرضاع
قال شيخ الإسلام رَحمه الله:
وأما المحرمات بالرضاع فقد قال النبي ﷺ: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وفي لفظ: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة)، وهذا مما اتفق عليه علماء المسلمين، لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء المعروفين.
فإذا ارتضع الطفل من امرأة خمس رضعات في الحولين قبل الفطام صار ولدها باتفاق الأئمة، وصار الرجل الذي در اللبن بوطئه أبا لهذا المرتضع باتفاق الأئمة المشهورين، وهذا يسمي لبن الفحل وقد ثبت ذلك بسنة رسول الله ﷺ، فإن عائشة كانت قد أرضعتها امرأة، وكان لها زوج يقال له: أبو القعيس فجاء أخوه يستأذن عليها، فأبت أن تأذن له، حتى سألت النبي ﷺ فقال لها: (ائذني له فإنه عمك) فقالت عائشة: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل، فقال: (إنه عمك فليلج عليك وقال: يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب).
وإذا صار الرجل والمرأة والدي المرتضع صار كل من أولادهما إخوة المرضع، سواء كانوا من الأب فقط أو من المرأة، أو منهما، أو كانوا أولادا لهما من الرضاعة، فإنهم يصيرون إخوة لهذا المرتضع من الرضاعة، حتى لو كان لرجل امرأتان فأرضعت هذه طفلا، وهذه طفلة كانا أخوين، ولم يجز لأحدهما التزوج بالآخر باتفاق الأئمة الأربعة وجمهور علماء المسلمين. وهذه المسألة سئل عنها ابن عباس فقال: اللقاح واحد، يعني الرجل الذي وطئ المرأتين حتى در اللبن واحد.
ولا فرق باتفاق المسلمين بين أولاد المرأة الذين رضعوا مع الطفل وبين من ولد لها قبل الرضاعة، وبعد الرضاعة باتفاق المسلمين. وما يظنه كثير من الجهال أنه إنما يحرم من رضع معه، هو ضلال على صاحبه إن لم يرجع عنه، فإن أصر على استحلال ذلك استتيب كما يستتاب سائر من أباح الإخوة من الرضاعة، فإن تاب، وإلا قتل.
وإذا كان كذلك فجميع أقارب المرأة أقارب للمرتضع من الرضاعة أولادها إخوته، وأولاد أولادها أولاد إخوته، وآبائها وأمهاتها أجداده، وأخوتها وأخواتها أخواله وخالاته، وكل هؤلاء حرام عليه.
وأما بنات أخواله وخالاته من الرضاع، فحلال كما يحل ذلك من النسب، وأقارب الرجل أقاربه من الرضاع، أولاد أخوته وأولادهم أولاد أخوته. وأخوته أعمامه وعماته، وهن حرام عليه. وحل له بنات عمه وبنات عماته. وأولاد المرتضع بمنزلته، كما أن أولاد المولود بمنزلته فليس لأولاده من النسب ولا رضاع أن يتزوجوا أخوته ولا أخوة أبيه، لا من نسب ولا رضاع لأنهم أعمامهم وعماتهم، وأخوالهم وخالاتهم.
وأما أخوة المرتضع من نسب أو رضاع غير رضاع هذه المرضعة فهم أجانب منها ومن أقاربها، فيجوز لأخوة هؤلاء أن يتزوجوا أولاد المرضعة، كما إذا كان أخ للرجل من أبيه وأخت من أمه، وبالعكس، جاز أن يتزوج أحدهما الآخر، وهو نفسه لا يتزوج واحدا منهما، فكذلك المرتضع هو نفسه لا يتزوج واحدا من أولاد مرضعه، ولا أحدا من أولاد والديه، فإن هؤلاء أخوته من الرضاع، وهؤلاء أخوته من النسب. ويجوز لأخوته من الرضاع أن يتزوجوا أخوته من النسب، كما يجوز لأخوته من أبيه أن يتزوجوا أخوته من أمه، وهذا كله متفق عليه بين العلماء.
ولكن بعض المنتصبين للفتيا قد يغلط في هذه المسائل، لالتباس أمرها على المستفتين، ولا يذكرون ما يسألون عنه بالأسماء والصفات المعتبرة في الشرع، مثل أن يقول: اثنان تراضعا: هل يتزوج هذا بأخت هذا؟ وهذا سؤال مجمل، فالمرتضع نفسه ليس له أن يتزوج من أخوات الآخر اللاتي هن من أمه التي أرضعت، وإن كان له أخوات من غير تلك الأم فهن أجانب من المرتضع فللمرتضع أن يتزوج منهن. وكذلك إذا قيل: طفل وطفلة تراضعا، أو طفلان تراضعا: هل يحل أن يتزوج أحدهما بأخوة الآخر، ويتزوج الأخوات من الجانبين بعضهم لبعض، فجواب ذلك أن أخوة كل من المتراضعين لهم أن يتزوجوا أخوات الآخر، إذا لم يرتضع الخاطب من أم المخطوبة، ولا المخطوبة من أم الخاطب، وهذا متفق عليه بين العلماء وأما المتراضعين فليس لأحدهما أن يتزوج شيئا من أولاد المرضعة، فلا يتزوج هذا بأحد من أخوة الآخر من الأم التي أرضعته أو من الأب صاحب اللبن، ويجوز أن يتزوج كل منهما من أخوة الآخر الذين ليسوا من أولاد أبويه من الرضاعة، فهذا جواب هذه الأقسام.
فإن الرضيع: إما أن يتزوج من إخوة المرتضع الآخر من تلك المرأة أو الرجل، وإما أن يتزوج من إخوة المرتضع الآخر من النسب أو من رضاعة أخري. وإخوة الرضيع إما أن يتزوجوا من هؤلاء، وإما من هؤلاء وإما من هؤلاء. فأخوة الرضيع لهم أن يتزوجوا الجميع أولاد المرضعة وزوجها من نسب أو رضاع ولأخوة هذا أن يتزوجوا بأخوة هذا، بل لأب هذا من النسب أن يتزوج أخته من الرضاع. وأما أولاد المرضعة فلا يتزوج أحد منهن المرتضع، ولا أولاده، ولا يتزوج أحدا من أولاد أخوتها وأخواتها، لا من نسب، ولا من رضاع، فإنه يكون: إما عما وإما خالا، وهذا كله متفق عليه بين العلماء.
ثم الرضاع المحرم فيه ثلاثة أقوال مشهورة هي ثلاث روايات عن أحمد:
أحدها: أنه يحرم كثيره وقليله، وهي مذهب مالك، وأبي حنيفة، لإطلاق القرآن.
والثاني: لا تحرم الرضعة والرضعتان، ويحرم ما فوق ذلك، وهو مذهب طائفة، لقوله ﷺ في الحديث الصحيح: (لا تحرم الرضعة والرضعتان) وروي: (المصة، والمصتان)، وروي (الإملاجة، والإملاجتان)، فنفي التحريم عنهما وبقي الباقي على العموم والمفهوم.
والثالث: أنه لا يحرم إلا خمس رضعات، وهو مذهب الشافعي وظاهر مذهب أحمد، لحديثين صحيحين؛ حديث عائشة: (إن مما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله ﷺ والأمر على ذلك)، ولأمره ﷺ لامرأة أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة أن ترضع سالما مولي أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة خمس رضعات، ليصير محرما لها بذلك.
وعلى هذا، فالرضعة في مذهب الشافعي وأحمد ليست هي الشبعة وهو أن يلتقم الثدي ثم يسيبه ثم يلتقمه ثم يسيبه حتى يشبع، بل إذا أخذ الثدي ثم تركه باختياره فهي رضعة، سواء شبع بها أو لم يشبع إلا برضعات، فإذا التقمه بعد ذلك فرضع ثم تركه فرضعة أخري، وإن تركه بغير اختياره ثم عاد قريبا ففيه نزاع.
سئل ما الذي يحرم من الرضاع وما الذي لا يحرم
وسئل رَحمه الله تعالى:
ما الذي يحرم من الرضاع، وما الذي لا يحرم؟ وما دليل حديث عائشة رضي الله عنها (أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، ولتبينوا جميع التحريم منه؟ وهل للعلماء فيه اختلاف؟ وإن كان لهم اختلاف فما هو الصواب والراجح فيه؟ وهل حكم رضاع الصبي الكبير الذي دون البلوغ أو الذي يبلغ حكمه حكم الصغير الرضيع؛ فإن بعض النسوة يرضعن أولادهن خمس سنين، وأكثر، وأقل؟ وهل يقع تحريم بين المرأة والرجل المتزوجين برضاع بعض قراباتهم لبعض؟ وبينوه بيانًا شافيًا؟
الجواب:
الحمد لله، حديث عائشة حديث صحيح متفق على صحته، وهو متلقي بالقبول؛ فإن الأئمة اتفقوا على العمل به، ولفظه: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، والثاني (يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة).. وقد استثني بعض الفقهاء المستأخرين من هذا العموم صورتين، وبعضهم أكثر من ذلك وهذا خطأ؛ فإنه لا يحتاج أن يستثني من الحديث شيء، ونحن نبين ذلك فنقول:
إذا ارتضع الرضيع من المرأة خمس رضعات في الحولين صارت المرأة أمه وصار زوجها الذي جاء اللبن بوطئه أباه، فصار ابنا لكل منهما من الرضاعة، وحينئذ فيكون جميع أولاد المرأة من هذا الرجل ومن غيره وجميع أولاد الرجل منها ومن غيرها أخوة له، سواء ولدوا قبل الرضاع أو بعده باتفاق الأئمة.
وإذا كان أولادهما أخوته كان أولاد أولادهما أولاد أخوته، فلا يجوز للمرتضع أن يتزوج أحدًا من أولادهما، ولا أولاد أولادهما؛ فإنهم: إما إخوته وإما أولاد إخوته، وذلك يحرم من الولادة. وإخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته من الرضاع، وأبوها وأمها أجداده وجداته من الرضاع، فلا يجوز له أن يتزوج أحدا من إخوتها ولا من أخواتها وإخوة الرجل أعمامه وعماته. وأبو الرجل وأمهاته أجداده وجداته، فلا يتزوج بأعمامه وعماته، ولا بأجداده وجداته، لكن يتزوج بأولاد الأعمام والعمات، فإن جميع أقارب الرجل حرام عليه إلا أولاد الأعمام والعمات، وأولاد الخال والخالات، كما ذكر الله في قوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } [5]، فهؤلاء الأصناف الأربعة هي المباحات من الأقارب، فيبحن من الرضاعة. وإذا كان المرتضع ابنا للمرأة وزوجها فأولاده أولاد أولادهما، ويحرم على أولاده ما يحرم على الأولاد من النسب، فهذه الجهات الثلاث منها تنتشر حرمة الرضاع.
وأما إخوة المرتضع من النسب، وأبوه من النسب وأمه من النسب، فهم أجانب أبيه وأمه وإخوته من الرضاع، ليس بين هؤلاء وهؤلاء صلة لا نسب ولا رضاع؛ لأن الرجل يمكن أن يكون له أخ من أبيه وأخ من أمه ولا نسب بينهما، بل يجوز لأخيه من أبيه أن يتزوج أخاه من أمه، فكيف إذا كان أخ من النسب وأخت من الرضاع، فإنه يجوز لهذا أن يتزوج هذا، ولهذا أن يتزوج بهذا.
وبهذا تزول الشبهة التي تعرض لبعض الناس، فإنه يجوز للمرتضع أن يتزوج أخوه من الرضاعة بأمه من النسب، كما يتزوج بأخته من النسب. ويجوز لأخيه من النسب أن يتزوج أخته من الرضاعة، وهذا لا نظير له في النسب، فإن أخ الرجل من النسب لا يتزوج بأمه من النسب. وأخته من الرضاع ليست بنت أبيه من النسب، ولا ربيبته، فلهذا جاز أن تتزوج به. فيقول من لا يحقق: يحرم في النسب على أخي أن يتزوج أمي، ولا يحرم مثل هذا في الرضاع. وهذا غلط منه، فإن نظير المحرم من النسب أن تتزوج أخته أو أخوه من الرضاعة بابن هذا الأخ أو بأمه من الرضاعة، كما لو ارتضع هو وآخر من امرأة واللبن لفحل، فإنه يحرم على أخته من الرضاعة أن تتزوج أخاه وأخته من الرضاعة، لكونهما أخوين للمرتضع ويحرم عليهما أن يتزوجا أباه وأمه من الرضاعة، لكونهما ولديهما من الرضاعة، لا لكونهما أخوي ولديهما، فمن تدبر هذا ونحوه زالت عنه الشبهة.
وأما رضاع الكبير فإنه لا يحرم في مذهب الأئمة الأربعة، بل لا يحرم إلا رضاع الصغير، كالذي رضع في الحولين. وفيمن رضع قريبا من الحولين نزاع بين الأئمة، لكن مذهب الشافعي وأحمد أنه لا يحرم. فأما الرجل الكبير والمرأة الكبيرة فلا يحرم أحدهما على الآخر برضاع القريب، مثل أن ترضع زوجته لأخيه من النسب، فهنا لا تحرم عليه زوجته، لما تقدم من أنه يجوز لأخيه من النسب أن يتزوج بالتي هي أخته من الرضاعة، ليس بينه وبينها صلة نسب ولا رضاع، وإنما حرمت على أخيه لأنها أمه من الرضاع، وليست أم نفسه من الرضاع، وأم المرتضع من الرضاع لا تكون أما لأخوته من النسب؛ لأنها إنما أرضعت الرضيع ولم ترضع غيره. نعم لو كان للرجل نسوة يطأهن وأرضعت كل واحدة طفلا لم يجز أن يتزوج أحدهما الآخر، ولهذا لما سئل ابن عباس عن ذلك قال: اللقاح واحد. وهذا مذهب الأئمة الأربعة؛ لحديث أبي القعيس الذي في الصحيحين عن عائشة وهو معروف.
وتحرم عليه أم أخيه من النسب؛ لأنها أمه أو امرأة أبيه، وكلاهما حرام عليه. وأما أم أخيه من الرضاعة فليست أمه ولا امرأة أبيه؛ لأن زوجها صاحب اللبن ليس أبا لهذا، لا من النسب، ولا من الرضاعة.
فإذا قال القائل: إن النبي ﷺ قال: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب)، وأم أخيه من النسب حرام، فكذلك من الرضاع. قلنا: هذا تلبيس، وتدليس، فإن الله لم يقل: حرمت عليكم أمهات أخواتكم، وإنما قال: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [6]، وقال تعالي: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء } [7]، فحرم على الرجل أمه، ومنكوحة أبيه وإن لم تكن أمه. وهذه تحرم من الرضاعة، فلا يتزوج أمه من الرضاعة. وأما منكوحة أبيه من الرضاع فالمشهور عند الأئمة أنها تحرم، لكن فيها نزاع لكونها من المحرمات بالصهر، لا بالنسب والولادة. وليس الكلام هنا في تحريمها، فإنه إذا قيل: تحرم منكوحة أبيه من الرضاعة وفينا بعموم الحديث. وأما أم أخيه التي ليست أما ولا منكوحة أب، فهذه لا توجد في النسب، فلا يجوز أن يقال: تحرم من النسب فلا يحرم نظيرها من الرضاعة، فتبقي أم الأم من النسب لأخيه من الرضاعة، أو الأم من الرضاعة لأخيه من النسب، لا نظير لها من الولادة، فلا تحرم. وهذا متفق عليه بين المسلمين. والله أعلم.
سئل عن طفل ارتضع من امرأة مع ولدها رضعة أو بعض رضعة ثم تزوجت برجل آخر فرزقت منه ابنة
وسئل رَحمه الله تعالى عن طفل ارتضع من امرأة مع ولدها رضعة أو بعض رضعة، ثم تزوجت برجل آخر فرزقت منه ابنة: فهل يحل للطفل المرتضع تزويج الابنة على هذه الصورة، أم لا؟ وما دليل مالك رحمه الله وأبي حنيفة في أن المصة الواحدة أو الرضعة الواحدة تحرم، مع ماورد من الأحاديث التي خرجها مسلم في صحيحه، منها أن النبي ﷺ قال: (لا تحرم المصة ولا المصتان)، ومنها: أن النبي ﷺ قال: (لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان)، ومنها: أن رجلا من بني عامر بن صعصعة قال: يا رسول الله، هل تحرم الرضعة الواحدة؟ قال: (لا). ومنها: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما أنزل من القران عشر رضعات معلومات يحرمن نسخت بخمس معلومات، فتوفي رسول الله ﷺ وهن فيما يقرأ من القرآن. وما حجتهما مع هذه الأحاديث الصحيحة؟ !
فأجاب:
هذه المسألة فيها نزاع مشهور في مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه لا يحرم إلا خمس رضعات؛ لحديث عائشة المذكور، وحديث سالم مولى أبي حذيفة لما أمر النبي ﷺ امرأة أبي حذيفة بن عتبة بن أبي ربيعة أن ترضعه خمس رضعات، وهو في الصحيح أيضًا، فيكون مادون ذلك لم يحرم، فيحتاج إلى خمس رضعات.
وقيل: يحرم الثلاث فصاعدا، وهو قول طائفة منهم أبو ثور وغيره وهو رواية عن أحمد. واحتجوا بما في الصحيح: (لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة ولا الإملاجتان). قالوا: مفهومه أن الثلاث تحرم، ولم يحتج هؤلاء بحديث عائشة. قالوا: لأنه لم يثبت أنه قرآن إلا بالتواتر، وليس هذا بمتواتر.
فقال لهم الأولون: معنا حديثان صحيحان مثبتان: أحدهما يتضمن شيء ين حكما، وكونه قرآنا. فما ثبت من الحكم يثبت بالأخبار الصحيحة. وأما ما فيه من كونه قرآنا، فهذا لم نثبته، ولم نتصور أن ذلك قرآن، إنما نسخ رسمه وبقي حكمه.
فقال أولئك: هذا تناقض، وقراءة شاذة عند الشافعي، فإن عنده أن القراءة الشاذة لا يجوز الاستدلال بها، لأنها لم تثبت بالتواتر، كقراءة ابن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وأجابوا عن ذلك بجوابين: أحدهما: أن هذا فيه حديث آخر صحيح. و أيضًا فلم يثبت أنه بقي قرآن لكن بقي حكمه. والثاني: أن هذا الأصل لا يقول به أكثر العلماء، بل مذهب أبي حنيفة، بل ذكر ابن عبد البر إجماع العلماء على أن القراءة الشاذة إذا صح النقل بها عن الصحابة فإنه يجوز الاستدلال بها في الأحكام.
والقول الثاني في المسألة: أنه يحرم قليله وكثيره، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك، وهي رواية ضعيفة عن أحمد. وهؤلاء احتجوا بظاهر قوله: { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ } [8]. وقال: اسم الرضاعة في القرآن مطلق. وأما الأحاديث فمنهم من لم تبلغه. ومنهم من اعتقد أنها ضعيفة. ومنهم من ظن أنها تخالف ظاهر القرآن، واعتقد أنه لا يجوز تخصيص عموم القرآن وتقييد مطلقة بأخبار الآحاد.
فقال الأولون: هذه أخبار صحيحة ثابتة عند أهل العلم بالحديث، وكونها لم تبلغ بعض السلف لا يوجب ذلك ترك العمل بها عند من يعلم صحتها. وأما القرآن فإنه يحتمل أن يقال: فكما أنه قد علم بدليل آخر أن الرضاعة مقيدة بسن مخصوص، فكذلك يعلم أنها مقيدة بقدر مخصوص. وهذا كما أنه علم بالسنة مقدار الفدية في قوله: { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [9]، وإن كان الخبر المروي خبرا واحدا، بل كما تثبت بالسنة أنه لا تنكح المرأة على عمتها ولا تنكح المرأة على خالتها، وهو خبر واحد بظاهر القرآن، واتفق الأئمة على العمل به، وكذلك فسر بالسنة المتواترة وغير المتواترة بحمل قوله: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } [10]، وفسر بالسنة المتواترة أمور من العبادات والكفارات، والحدود: ما هو مطلق من القرآن. فالسنة تفسر القرآن وتبينه، وتدل عليه وتعبر عنه.
والتقييد بالخمس له أصول كثيرة في الشريعة، فإن الإسلام بني على خمس، والصلوات المفروضات خمس، وليس فيما دون خمس صدقة، والأوقاص بين النصب خمس أو عشر، أو خمس عشرة، وأنواع البر خمس، كما قال تعالي: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } [11]، وقال في الكفر: { وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [12]، وأولو العزم، وأمثال ذلك بقدر الرضاع المحرم ليس بغريب في أصول الشريعة.
والرضاع إذا حرم لكونه ينبت اللحم وينشز العظم فيصير نباته به كنباته من الأبوين، وإنما يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة؛ ولهذا لم يحرم رضاع الكبير، لأنه بمنزلة الطعام والشراب. والرضعة والرضعتان ليس لها تأثير كما أنه قد يسقط اعتبارها كما يسقط اعتبار ما دون نصاب السرقة حتى لا تقطع الأيدي بشيء من التافه، واعتباره في نصاب الزكاة فلا يجب فيها شيء إذا كان أقل، ولابد من حد فاصل، فهذا هو التنبيه على مأخذ الأئمة في هذه المسألة. وبسط الكلام فيها يحتاج إلى ورقة أكبر من هذه، وهي من أشهر مسائل النزاع. والنزاع فيها من زمان الصحابة، والصحابة رضي الله عنهم تنازعوا في هذه المسألة والتابعون بعدهم.
وأما إذا شك: هل دخل اللبن في جوف الصبي، أو لم يحصل، فهنا لا نحكم بالتحريم بلا ريب. وإن علم أنه حصل في فمه، فإن حصول اللبن في الفم لا ينشر الحرمة باتفاق المسلمين.
سئل عن أختين ولهما بنات وبنين فإذا أرضع الأختان هذه بنات هذه وهذه بنات هذه فهل يحرمن على البنين أم لا
وسئل رَحمه الله تعالى عن أختين ولهما بنات وبنين، فإذا أرضع الأختان هذه بنات هذه، وهذه بنات هذه، فهل يحرمن على البنين، أم لا؟
فأجاب:
إذا أرضعت المرأة الطفلة خمس رضعات في الحولين صارت بنتا لها، فصار جميع أولاد المُرْضِعة أخوة لهذه المرتَضَعَة ذكورهم وإناثهم من ولد قبل الرضاع، ومن ولد بعده فلا يجوز لأحد من أولاد المُرْضِعة أن يتزوج المرتضَعَة، بل يجوز لأخوة المرتضعة أن يتزوجوا بأولاد المرضعة الذين لم يرتضعوا من أمهن، فالتحريم إنما هو على المرتضعة، لا على أخوتها الذين لم يرتضعوا، فيجوز أن يتزوج أخت أخته إذا كان هو لم يرتضع من أمها وهي لم ترضع من أمه. وأما هذه المرتضعة فلا تتزوج واحدًا من أولاد من أرضعتها. وهذا باتفاق الأئمة.
وأصل هذا أن المرتضعة تصير المرضعة أمها، فيحرم عليها أولادها، وتصير إخوتها وأخواتها أخوالها وخالاتها، ويصير الرجل الذي له اللبن أباها، وأولاده من تلك المرأة وغيرها أخوتها، وإخوة الرجل أعمامها وعماتها، ويصير المرتضع وأولاده وأولاد أولاده أولاد المرضعة، والرجل الذي در اللبن بوطئه. وأما إخوة المرتضع وأخواته وأبوه وأمه من النسب فهم أجانب، لا يحرم عليهم بهذا الرضاع شيء. وهذا كله باتفاق الأئمة الأربعة وإن كان لهم نزاع في غير ذلك.
سئل عن رجل ارتضع مع رجل وجاء لأحدهما بنت فهل للمرتضع أن يتزوج بالبنت
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل ارتضع مع رجل، وجاء لأحدهما بنت: فهل للمرتضع أن يتزوج بالبنت؟
فأجاب:
إذا ارتضع الطفل من المرأة خمس رضعات في الحولين صار ابنا لها، وصار جميع أولادها إخوته الذين ولدتهم قبل الرضاعة والذين ولدتهم بعد الرضاعة. والرضاعة يحرم فيها ما يحرم من الولادة، بسنة رسول الله ﷺ واتفاق الأئمة، فلا يجوز لأحد أن يتزوج بنت الآخر، كما لا يجوز أن يتزوج بنت أخيه من النسب باتفاق الأئمة.
سئل عن رجل له بنات خالة أختان واحدة رضعت معه والأخرى لم ترضع معه فهل يجوز له أن يتزوج التي لم ترضع معه
وسئل رَحمه الله عن رجل له بنات خالة: أختان، واحدة رضعت معه، والأخرى لم ترضع معه: فهل يجوز له أن يتزوج التي لم ترضع معه؟
فأجاب:
إذا ارتضع معها خمس رضعات في الحولين صار ابنا لها، حرم عليه جميع بناتها من ولد قبل الرضاع ومن ولد بعده لأنهن أخواته باتفاق العلماء. ومتى ارتضعت المخطوبة من أم لم يجز لها أن تتزوج واحدا من بني المرضعة. وأما إذا كان الخاطب لم يرتضع من أم المخطوبة، ولا هي رضعت من أمه، فإنه يجوز أن يتزوج أحدهما بالآخر، باتفاق العلماء، وإن كان إخوتها تراضعا. والله أعلم.
سئل عن امرأة استأجرت لبنتها مرضعة يوما أو شهرا ومضت السنون وللمرضعة ولد قبلها فهل يحل لهما الزواج
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة استأجرت لبنتها مرضعة يوما أو شهرا، ومضت السنون، وللمرضعة ولد قبلها: فهل يحل لهما الزواج؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا أرضعتها الداية خمس رضعات في الحولين صارت بنتا لها، فجميع أولاد المرضعة حرام على هذه المرضعة، وإن ولد قبل الرضاع أو بعده. وهذا باتفاق المسلمين. ومن استحل ذلك فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولكن إذا كان للمرتضعة أخوات من النسب جاز لهن أن يتزوجن بأخوتها من الرضاع باتفاق المسلمين. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج امرأة بعد امرأة وقد ارتضع طفل من الأولي وللأب من الثانية بنت فهل للمرتضع أن يتزوج هذه البنت
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج امرأة بعد امرأة، وقد ارتضع طفل من الأولي، وللأب من الثانية بنت: فهل للمرتضع أن يتزوج هذه البنت؟ وإذا تزوجها ودخل بها: فهل يفرق بينهما؟ وهل في ذلك خلاف بين الأئمة؟
فأجاب:
إذا ارتضع الرضاع المحرم لم يجز له أن يتزوج هذه البنت في مذاهب الأئمة الأربعة بلا خلاف بينهم، لأن اللبن للفحل، وقد سئل ابن عباس عن رجل له امرأتان أرضعت إحداهما طفلا والأخرى طفلة: فهل يتزوج أحدهما الآخر؟ فقال: لا. اللقاح واحد. والأصل في ذلك حديث عائشة المتفق عليه قالت: استأذن على أفلح أخو أبي القعيس، وكانت قد أرضعتني امرأة أبي القعيس، فقالت: لا آذن لك حتى استأذن رسول الله فسألته ﷺ فقال: (إنه عمك فليلج عليك، يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة)، وإذا تزوجها ودخل بها فإنه يفرق بينهما بلا خلاف بين الأئمة. والله أعلم.
سئل عن رجل له قرينة لم يتراضع هو وأبوها لكن لهما أخوة صغار تراضعوا فهل يحل له أن يتزوج بها
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل له قرينة لم يتراضع هو وأبوها، لكن لهما أخوة صغار تراضعوا فهل يحل له أن يتزوج بها؟ وإن دخل بها ورزق منها ولدا، فما حكمهم، وما قول العلماء فيهم؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا لم يرتضع هو من أمها ولم ترضع هي من أمه، بل إخوته رضعوا من أمها، وإخوتها رضعوا من أمه، كانت حلالا له باتفاق المسلمين، بمنزلة أخت أخيه من أبيه، فإن الرضاع ينشر الحرمة إلى المرتضع وذريته، وإلى المرضعة وإلى زوجها الذي وطئها حتى صار لها لبن، فتصير المرضعة امرأته، وولدها قبل الرضاع وبعده أخو الرضيع، ويصير الرجل أباه، وولده قبل الرضاع وبعده أخو الرضيع. فأما أخوة المرتضع من النسب وأبوه من النسب فهم أجانب من أبويه من الرضاعة وإخوته من الرضاع. وهذا كله متفق عليه بين المسلمين: إن انتشار الحرمة إلى الرجل، فإن هذه تسمي مسألة الفحل والذي ذكرناه هو مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور الصحابة والتابعين. وكان بعض السلف يقول: لبن الفحل لا يحرم. والنصوص الصحيحة: هي تقرر مذهب الجماعة.
سئل عن أختين أشقاء لإحداهما بنتان وللأخرى ذكر وقد ارتضعت واحدة من البنتين وهي الكبيرة مع الولد
وسئل رَحمه الله عن أختين أشقاء لإحداهما بنتان، وللأخرى ذكر، وقد ارتضعت واحدة من البنتين وهي الكبيرة مع الولد: فهل يجوز له أن يتزوج بالتي لم ترضع؟
فأجاب:
إذا ارتضعت الواحدة من أم الصبي ولم يرتضع هو من أمها جاز له أن يتزوج أختها باتفاق المسلمين.
سئل عن امرأة أودعت بنتها عند امرأة أخيها وغابت وجاءت فقالت أرضعتها فقالت لا وحلفت على ذلك
وسئل رَحمه الله عن امرأة أودعت بنتها عند امرأة أخيها، وغابت، وجاءت، فقالت: أرضعتها؟ فقالت: لا. وحلفت على ذلك، ثم إن ولد أخيها كبر وكبرت بنتها الصغيرة وأختها ارتضعت مع أخيه الذي يريد أن يتزوج بها، فهل يجوز ذلك؟
فأجاب:
إذا كانت البنت لم ترضع من أم الخاطب، ولا الخاطب ارتضع من أمها، جاز أن يتزوج أحدهما بالآخر، وإن كان أخوها وإخوتها من أم الخاطب، فان هذا لا يؤثر بإجماع المسلمين، بل الطفل إذا ارتضع من امرأة صارت أمه وزوجها صاحب اللبن أباه، وصار أولادهما إخوته وأخواته. وأما أخوة المرتضع من النسب وأبوه من النسب وأمه من النسب فهم أجانب يجوز لهم أن يتزوجوا أخواته، كما يجوز من النسب أن تتزوج أخت الرجل من أمه بأخيه من أبيه. وكل هذا متفق عليه بين المسلمين بلا نزاع فيه. والله أعلم.
سئل عن امرأة ذات بعل ولها لبن على غير ولد ولا حمل فأرضعت طفلة لها دون الحولين خمس رضعات متفرقات
وسئل رَحمه الله عن امرأة ذات بعل، ولها لبن على غير ولد ولا حمل، فأرضعت طفلة لها دون الحولين خمس رضعات متفرقات، وهذه المرضعة عمة الرضيعة من النسب، ثم أراد ابن بنت هذه المرضعة أن يتزوج بهذه الرضيعة: فهل يحرم ذلك؟
فأجاب:
أما إذا وطئها زوج، ثم بعد ذلك ثاب لها لبن، فهذا اللبن ينشر الحرمة، فإذا ارتضعت طفلة خمس رضعات صارت بنتها وابن بنتها ابن أختها، وهي خالته، سواء كان الارتضاع مع طفل أو لم يكن. وأما أختها من النسب التي لم ترضع فيحل له أن يتزوج بها. ولو قدر أن هذا اللبن ثاب لامرأة لم تتزوج قط فهذا ينشر الحرمة في مذهب أبي حنيفة، ومالك والشافعي، وهي رواية عن أحمد. وظاهر مذهبه أنه لا ينشر الحرمة. والله أعلم.
سئل عن رجل خطب قريبته فقال والدها هي رضعت معك ونهاه عن التزويج بها فلما توفي أبوه تزوج بها
وسئل شيخ الإِسلام رَحمه الله عن رجل خطب قريبته، فقال والدها: هي رضعت معك، ونهاه عن التزويج بها، فلما توفي أبوه تزوج بها، وكان العدول شهدوا على والدتها أنها أرضعته، ثم بعد ذلك أنكرت، وقالت: ما قلت هذا القول إلا لغرض: فهل يحل تزويجها؟
فأجاب:
إن كانت الأم معروفة بالصدق وذكرت أنها أرضعته خمس رضعات فإنه يقبل قولها في ذلك، فيفرق بينهما إذا تزوجها في أصح قولي العلماء كما ثبت في صحيح البخاري أن النبي ﷺ أمر عقبة بن الحارث أن يفارق امرأته، لما ذكرت الأَمَة السوداء أنها أرضعتهما. وأما إذا شك في صدقها، أو في عدد الرضعات: فإنها تكون من الشبهات، فاجتنابها أولى، ولا يحكم بالتفريق بينهما إلا بحجة توجب ذلك. وإذا رجعت عن الشهادة قبل التزويج لم تحرم الزوجة، لكن إن عرف أنها كاذبة في رجوعها وأنها رجعت لأنه دخل عليها حتى كتمت الشهادة، لم يحل التزويج. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج بامرأة وولد له منها أولاد عديدة ثم ذكر لزوجها أن هذه الزوجة في عصمتك شربت من لبن أمك
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج بامرأة، وولد له منها أولاد عديدة، فلما كان في هذه المدة حضر من نازع الزوجة، وذكر لزوجها أن هذه الزوجة في عصمتك شربت من لبن أمك؟
فأجاب:
إن كان هذا الرجل معروفا بالصدق، وهو خبير بما ذكر، وأخبر أنها رضعت من أم الزوج خمس رضعات في الحولين، رجع إلى قوله في ذلك، وإلا لم يجب الرجوع، وإن كان قد عاين الرضاع. والله أعلم.
سئل عن رجل ارتضع من امرأة وهو طفل صغير على بنت لها ولها أخوات أصغر منها فهل يحرم منهن أحد أم لا
وسئل رَحمه الله عن رجل ارتضع من امرأة وهو طفل صغير على بنت لها، ولها أخوات أصغر منها: فهل يحرم منهن أحد، أم لا؟
فأجاب:
إذا ارتضع من امرأة خمس رضعات في الحولين صار ابنا لتلك المرأة، فجميع الأولاد الذين ولدوا قبل الرضاع، والذين ولدوا بعده، هم إخوة لهذا المرتضع باتفاق المسلمين أيضًا.
سئل عن أختين إحداهما لها ذكر والأخرى أنثي فأرضعت أم الذكر الأنثى
وسئل رَحمه الله عن أختين إحداهما لها ذكر، والأخرى أنثي، فأرضعت أم الذكر الأنثى، ولم ترضع أم أنثي الذكر، ثم جاءت هذه بنات، وهذه ذكور فهل يجوز أن يتزوج أخو المرتضع بالبنت التي ارتضعت بلبن أخيه، أم لا؟ وكذلك هل يتزوج أولاد هذه بأولاد هذه بسوي المرضعين؟
فأجاب:
الحمد لله، الأنثي المرتضعة لا تتزوج أحدا من أولاد المرضعة، لا من ولدها قبل الرضاعة، ولا بعدها. وأما أخوة المرتضعة فيتزوجون من شاؤوا من أولاد المرضعة، فيتزوج كل واحد لم يرتضع بأولاد المرأة التي لم ترضعه، ولم يتزوج بأحد من أولاد من أرضعته. وإذا رضع طفل من أم هذا، أو طفلة من أولاد هذا، لم يجز لأحدهما أن يتزوج أولاد الأخري، ويجوز لإخوة كل من المتراضعين أن يتزوج بإخوة الآخر إذا لم يرضع واحد منها من أم الآخر، والتحريم إنما يثبت في حق المرتضع خاصة، دون من لم يرضع من أخوته، لكن يحرم عليه جميع أولاد المرضعة. والله أعلم.
سئل عن رجل رمد فغسل عينيه بلبن زوجته فهل تحرم عليه
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل رمد فغسل عينيه بلبن زوجته: فهل تحرم عليه إذا حصل لبنها في بطنه؟ ورجل يحب زوجته فلعب معها، فرضع من لبنها: فهل تحرم عليه؟
فأجاب:
الحمد لله، ما غسل عينيه بلبن امرأته يجوز، ولا تحرم بذلك عليه امرأته لوجهين:
أحدهما: أنه كبير. والكبير إذا ارتضع من امرأته أو من غير امرأته لم تنشر بذلك حرمة الرضاع عند الأئمة الأربعة وجماهير العلماء، كما دل على ذلك الكتاب والسنة. وحديث عائشة في قصة سالم مولي أبي حذيفة مختص عندهم بذلك؛ لأجل أنهم تبنوه قبل تحريم التبني.
الثاني: أن حصول اللبن في العين لا ينشر الحرمة، ولا أعلم في هذا نزاعا، ولكن تنازع العلماء في السعوط وهو ما إذا دخل في أنفه، بعد تنازعهم في الوجور، وهو ما يطرح فيه من غير رضاع، وأكثر العلماء على أن الوجور يحرم وهو أشهر الروايتين عن أحمد. وكذلك يحرم السعوط في إحدى الروايتين عنه وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وللشافعي قولان.
والجواب عن المسألة الثانية أن ارتضاعه لا يحرم امرأته في مذهب الأئمة الأربعة.
فصل إذا ارتضع الطفل من امرأة خمس رضعات قبل أن يتم له حولين
وقال شيخ الإسلام رَحمه الله:
إذا ارتضع الطفل من امرأة خمس رضعات قبل أن يتم له حولين، فإنه يصير ولدها، فيحرم عليه كل من ولدها قبل الرضاع وبعده، ويصير زوجها الذي أحبلها در لبنها أباه، فيحرم عليه جميع أولاد ذلك الرجل، فإذا أرضعت امرأته طفلا وطفلة كل واحد خمس رضعات لم يجز أن يتزوج أحدهما بالآخر، بل هما أخوان. والله أعلم.
سئل عن صبي أرضعته كرتين ثم حملت بعد ذلك بعشر سنين وجاءت ببنت وصار الصبي شابا
وسئل رَحمه الله عن صبي أرضعته كرتين، ثم حملت بعد ذلك بعشر سنين، وجاءت ببنت وصار الصبي شابا: فهل له أن يتزوج بتلك البنت، أم لا؟
فأجاب:
إذا ارتضع منها خمس رضعات في حولين فقد صار ابنها، ويحرم عليه كل ما ولدته المرأة، سواء ولدته قبل الرضاع أو بعده باتفاق العلماء، والرضعة أن يلتقم الثدي فيشرب منه ثم يدعه فهذه رضعة. فإذا كان في كرة واحدة قد جري له خمس مرات فهذه خمس رضعات، وإن جري ذلك خمس مرات في كرتين فهو أيضًا خمس رضعات، وليس المراد بالرضعة ما يشربه في نوبة واحدة في شربة؛ فإنها قد ترضعه بالغداة ثم بالعشي ويكون في كل نوبة قد أرضعته رضعات كثيرة. والله أعلم.
سئل عن الصبي إذا رضع من غير أمه وكذلك الصبية إذا رضعت
وسئل رَحمه الله تعالى عن الصبي إذا رضع من غير أمه، وكذلك الصبية إذا رضعت: ماذا يحرم عليه نكاحه بعد ذلك؟ وما حد الرضعة المحرمة؟ وهل للرضاعة بعد الفطام تأثيرا في التحريم؟ وهل تبقي المرأة حرام على من تعدي سنين الرضاعة، أم لا؟
فأجاب:
إذا ارتضع الطفل أو الطفلة من امرأة خمس رضعات في الحولين فقد صار ولدها من الرضاعة، وصار الرجل الذي در اللبن بوطئه أباه من الرضاعة وأخوة المرأة أخواله وخالاته، وأخوة الرجل أعمامه وعماته. وآباؤها أجداده وجداته، وأولاده كل منهما أخوته وأخواته. وكل هؤلاء حرام عليه، فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب. وكذلك أولاد هذا المرتضع يحرمون على أجداده وجداته، وإخوته وأخواته، وأعمامه وعماته، وأخواله وخالاته من الرضاعة. وهذا كله باتفاق المسلمين فيثبت حرمة الرضاع من جهة الأبوين ومن جهة الولد.
وأما أبو المرتضع من النسب وأمهاته وأخوته وأخواته من النسب، فكل هؤلاء أجانب من المرتضعة وأقاربها، باتفاق العلماء، فيجوز لأخيه من النسب أن يتزوج أخته من الرضاعة، ويجوز لجميع أخوة المرتضع أن يتزوجوا بمن شاؤوا من بنات المرضعة، سواء في ذلك التي أرضعت مع الطفل وغيرها. ولا يجوز للمرتضع أن يتزوج أحدا من أولاد المرضعة، لا بمن ولد قبل الرضاع ولا من ولد بعده باتفاق العلماء.
وكثير من الناس يغلط في هذا الموضوع فلا يميز بين إخوة المرتضع من النسب الذين هم أجانب من المرأة وبين أولاد المرتضعة الذين هم أخوته من الرضاع، ويجعل الجميع نوعا واحدًا، وليس كذلك، بل يجوز لهؤلاء أن يتزوجوا من هؤلاء. وأما المرتضع فلا يتزوج أحدا من أولاد المرضعة.
ولو تراضع طفلان فرضع هذا أم هذا ورضعت هذه أم هذا ولم يرضع أحد من أخوتها من أم الآخر حرم على كل منهم أن يتزوج أولاد مرضعته، سواء ولد قبل الرضاعة أو بعدها، ولم يحرم على أخ واحد منهما من النسب أن يتزوج أخت الآخر من الرضاعة.
والرضاعة المحرمة بلا ريب أن يرضع خمس رضعات، فيأخذ الثدي فيشرب منه ثم يدعه، ثم يأخذه فيشرب مرة ثم يدعه، ولو كان ذلك في زمن واحد مثل غدائه وعشائه. وأما دون الخمس فلا يحرم في مذهب الشافعي. وقيل: يحرم القليل والكثير: كقول أبي حنيفة ومالك. وقيل: لا يحرم إلا ثلاث رضعات. والأقوال الثلاثة مروية عن أحمد، لكن الأول أشهر عنه لحديث عائشة الذي في الصحيحين: كان مما نزل في القرآن عشر رضعات يحرمن ثم نسخ ذلك بخمس رضعات، فتوفي رسول الله ﷺ والأمر على ذلك، وفي المسند وغيره أيضًا أنه ﷺ أمر امرأة أن ترضع شخصا خمس رضعات، لتحرم عليه.
والرضاع المحرم ما كان في الحولين، فإن تمام الرضاع حولان كاملان، كما قال تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [13]، وما كان بعد تمام الرضاعة فليس من الرضاعة، ولهذا كان جمهور العلماء والأئمة الأربعة وغيرهم على أن رضاع الكبير لا تأثير له، واحتجوا بما في الصحيحين عن عائشة قالت: دخل على رسول الله ﷺ وعندي رجل، فقال: (من هذا يا عائشة؟). قلت: أخي من الرضاعة قال: (يا عائشة انظرن من إخوانكن؟ إنما الرضاعة من المجاعة). وروي الترمذي عن أم سلمة قالت: قال رسول الله ﷺ: (لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام). ومعنى قوله في الثدي أي: وقته، وهو الحولان، كما جاء في الحديث أن ابني إبراهيم مات في الثدي. أي: وهو في زمن الرضاع. وهذا يقتضي أنه لا رضاع بعد الحولين ولا بعد الفطام وإن كان الفطام قبل تمام الحولين.
وقد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن إرضاع الكبير يحرم. واحتجوا بما في صحيح مسلم وغيره عن زينب بنت أم سلمة أن أم سلمة قالت لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل على، فقالت عائشة: مالك في رسول الله أسوة حسنة؟ ! قالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله، إن سالما يدخل على وهو رجل في نفس أبي حذيفة منه شيء؟ فقال رسول الله ﷺ: (أرضعيه حتى يدخل عليك)، وفي رواية لمالك في الموطأ قال: (أرضعيه خمس رضعات) فكان بمنزلة ولده من الرضاعة. وهذا الحديث أخذت به عائشة وأبي غيرها من أزواج النبي ﷺ أن يأخذن به مع أن عائشة روت عنه قال: (الرضاعة من المجاعة) لكنها رأت الفرق بين أن يقصد رضاعة أو تغذية. فمتى كان المقصود الثاني لم يحرم إلا ما كان قبل الفطام. وهذا هو إرضاع عامة الناس. وأما الأول فيجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرم. وقد يجوز للحاجة ما لا يجوز لغيرها، وهذا قول متوجه.
ولبن الآدميات طاهر عند جمهور العلماء، ولكن شك بعض المتأخرين فقال: هو نجس.
وتنازع العلماء في جواز بيعه منفردا على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل: يجوز بيعه، كمذهب الشافعي. وقيل: لا يجوز، كمذهب أبي حنيفة. وقيل: يجوز بيع لبن الأمة دون لبن الحرة، والله أعلم.
سئل عن امرأتين إحداهما لها ابن وللأخرى بنت فأرضعت أم البنت الابن مرارا ثم مات الابن ثم جاء بعده ابن آخر ولم يرضع مما رضع
وسئل رَحمه الله عن امرأتين إحداهما لها ابن، وللأخرى بنت، فأرضعت أم البنت الابن مرارا، ثم مات الابن، ثم جاء بعده ابن آخر ولم يرضع مما رضع: فهل يجوز له أن يتزوج بالبنت المذكورة، أم تحرم عليه لأجل رضاعة أخيه؟
الجواب:
إذا أراد أخو المرتضع من النسب أن يتزوج أولاد المرضعة جاز ذلك باتفاق الأئمة، سواء كان المرتضع حيا أو ميتا. والله أعلم.
سئل عن رجل له بنت عم ووالد البنت المذكورة قد رضع بأم الرجل المذكور
وسئل رَحمه الله عن رجل له بنت عم، ووالد البنت المذكورة قد رضع بأم الرجل المذكور مع أحد أخواته، وذكرت أم الرجل المذكورة، أنه لما رضعها كان عمره أكثر من حولين، فهل للرجل المذكور أن يتزوج بنت عمه؟
فأجاب:
إن كان الرضاع بعد تمام الحولين لم يحرم شيئًا.
سئل عن امرأة أعطت لامرأة أخرى ولدا وهما في الحمام فلم تشعر إلا وثديها في فم الطفل
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة أعطت لامرأة أخرى ولدا، وهما في الحمام، فلم تشعر المرأة التي أخذت الولد إلا وثديها في فم الصبي، فانتزعته منه في ساعته وما علمت هل ارتضع أم لا، فهل يحرم على الصبي المذكور أن يتزوج من بنات المرأة المذكورة، أم لا؟
فأجاب:
لا يحرم على الصبي المذكور بذلك أن يتزوج واحدة من أولاد هذه المرأة، فإنها ليست أمه، ولا تحرم عليه بالشك عند أحد من الأئمة الأربعة. والله أعلم.
باب النفقات والحضانة
قال شيخ الإسلام رَحمه الله:
في قوله تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } إلى قوله: { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [14]، مع قوله: { وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عليهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } } إلى قوله: { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [15]، وفي ذلك أنواع من الأحكام بعضها مجمع عليه، وبعضها متنازع فيه. وإذا تدبرت كتاب الله تبين أنه يفصل النزاع بين من يحسن الرد إليه وأن من لم يهتد إلى ذلك، فهو إما لعدم استطاعته، فيعذر أو لتفريطه فيلام.
وقوله تعالى: { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } يدل على أن هذا تمام الرضاعة، وما بعد ذلك فهو غذاء من الأغذية. وبهذا يستدل من يقول: الرضاع بعد الحولين بمنزلة رضاع الكبير. وقوله: { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } يدل على أن لفظ الحولين يقع على حول وبعض آخر. وهذا معروف في كلامهم، يقال: لفلان عشرون عاما إذا أكمل ذلك. قال الفرَّاء والزَّجّاج وغيرهما: لما جاز أن يقول حولين ويريد أقل منهما كما قال تعالى: { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } [16] ومعلوم أنه يتعجل في يوم وبعض آخر، وتقول: لم أر فلانا يومين. وإنما تريد يوما وبعض آخر، قال كاملين ليبين أنه لا يجوز أن ينقص منهما، وهذا بمنزلة قوله تعالى: { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [17]، فإن لفظ العشرة يقع على تسعة وبعض العاشر، فيقال: أقمت عشرة أيام، وإن لم يكملها، فقوله هناك كاملة بمنزلة قوله هنا كاملين وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفورا طيبة به نفسه أحد المتصدقين)، فالكامل الذي لم ينقص منه شيء، إذ الكمال ضد النقصان. وأما الموفر فقد قال: أجرهم موفرا، يقال: الموفر للزائد، ويقال: لم يكلم. أي يجرح، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد عن وهب بن منبه: أن الله تعالى قال لموسى: (وماذاك لهوانهم على ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتى سالما موفرا، لم تكلمه الدنيا ولم تكلمه نطعة الهوى). وكان هذا تغيير الصفة، وذاك نقصان القدر.
وذكر أبو الفرج: هل هو عام في جميع الوالدات أو يختص بالمطلقات؟ على قولين. والخصوص قول سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل، في آخرين. والعموم قول أبي سليمان الدمشقي والقاضي أبي يعلي في آخرين.
قال القاضي: ولهذا نقول: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها، سواء كانت مع الزوج، أو مطلقة. قلت: الآية حجة عليهم، فإنها أوجبت للمرضعات رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لا زيادة على ذلك. وهو يقول: تؤجر نفسها بأجرة غير النفقة. والآية لا تدل على هذا، بل إذا كانت الآية عامة دلت على أنها ترضع ولدها مع إنفاق الزوج عليها، كما لو كانت حاملا فإنه ينفق عليها وتدخل نفقة الولد في نفقة الزوجية؛ لأن الولد يتغذي بغذاء أمه. وكذلك في حال الرضاع فإن نفقة الحمل هي نفقة المرتضع. وعلى هذا فلا منافاة بين القولين، فالذين خصوه بالمطلقات أوجبوا نفقة جديدة بسبب الرضاع، كما ذكر في سورة الطلاق وهذا مختص بالمطلقة.
وقوله تعالى: { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [18]، قد علم أن مبدأ الحول من حين الولادة والكمال إلى نظير ذلك. فإذا كان من عاشر المحرم كان الكمال في عاشر المحرم في مثل تلك الساعة، فإن الحول المطلق هو اثنا عشر شهرا من الشهر الهلالي، كما قال تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ } [19]، وهكذا ما ذكره من العدة أربعة أشهر وعشرا، أولها من حين الموت وآخرها إذا مضت عشر بعد نظيره، فإذا كان في منتصف المحرم فآخرها خامس عشر المحرم، وكذلك الأجل المسمي في البيوع وسائر ما يؤجل بالشرع وبالشرط.
وللفقهاء هنا قولان آخران ضعيفان:
أحدهما: قول من يقول: إذا كان في أثناء الشهر، كان جميع الشهور بالعدد، فيكون الحولان ثلثمائة وستين. وعلى هذا القول تزيد المدة اثني عشر يوما، وهو غلط بين.
والقول الثاني: قول من يقول: منها واحد بالعدد، وسائرها بالأهلة. وهذا أقرب، لكن فيه غلط، فإنه على هذا إذا كان المبدأ عاشر المحرم وقد نقص المحرم كان تمامه تاسعه، فيكون التكميل أحد عشر، فيكون المنتهي حادي عشر المحرم، وهو غلط أيضًا.
وظاهر القرآن يدل على أن على الأم إرضاعه؛ لأن قوله: { يُرْضِعْنَ } خبر في معنى الأمر. وهي مسألة نزاع، ولهذا تأولها من ذهب إلى القول الآخر. قال القاضي أبو يعلي: وهذا الأمر انصرف إلى الآباء؛ لأن عليهم الاسترضاع لا على الوالدات، بدليل قوله: { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } [20]، وقوله: { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [21]، فلو كان متحتمًا على الوالدة لم يكن عليه الأجرة.
فيقال: بل القرآن دل على أن للابن على الأم الفعل، وعلى الأب النفقة ولو لم يوجد غيرها تعين عليها، وهي تستحق الأجرة، والأجنبية تستحق الأجرة ولو لم يوجد غيرها.
وقوله تعالى: { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [22]، دليل على أنه يجوز أن يريد إتمام الرضاع ويجوز الفطام قبل ذلك إذا كان مصلحة، وقد بين ذلك بقوله تعالى: { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عليهِمَا } [23]، وذلك يدل على أنه لا يفصل إلا برضا الأبوين، فلو أراد أحدهما الإتمام والآخر الفصال قبل ذلك، كان الأمر لمن أراد الإتمام، لأنه قال تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } [24]، وقوله تعالى: { يُرْضِعْنَ } صيغة خبر، ومعناه: الأمر والتقدير، والوالدة مأمورة بإرضاعه حولين كاملين إذا أريد إتمام الرضاعة، فإذا أرادت الإتمام كانت مأمورة بذلك، وكان على الأب رزقها وكسوتها، وإن أراد الأب الإتمام كان له ذلك، فإنه لم يبح الفصال إلا بتراضيهما جميعا، يدل على ذلك قوله تعالى: { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ }، ولفظه { من } إما أن يقال: هو عام يتناول هذا وهذا ويدخل فيه الذكر والأنثي، فمن أراد الإتمام أرضعن له. وإما أن يقال: قوله تعالى: { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ }، إنما هو المولود له وهو المرضع له، فالأم تلد له وترضع له، كما قال تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } [25]. والأم كالأجير مع المستأجر، فإن أراد الأب الإتمام أرضعن له، وإن أراد ألا يتم فله ذلك وعلى هذا التقدير فمنطوق الآية أمرهن بإرضاعه عند إرادة الأب، ومفهومها أيضًا جواز الفصل بتراضيهما. يبقى إذا أرادت الأم دون الأب مسكوتا عنه، لكن مفهوم قوله تعالى: { عَن تَرَاضٍ } أنه لا يجوز، كما ذكر ذلك مجاهد وغيره، ولكن تناوله قوله تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [26]، فإنها إذا أرضعت تمام الحول فله أرضعت، وكفته بذلك مؤنة الطفل، فلولا رضاعها لاحتاج إلى أن يطعمه شيئا آخر.
ففي هذه الآية بين أن على الأم الإتمام إذا أراد الأب، وفي تلك بين أن على الأب الأجر إذا أبت المرأة، قال مجاهد: التشاور فيما دون الحولين: إن أرادت أن تفطم وأبي فليس لها، وإن أراد هو ولم ترد فليس له ذلك حتى يقع ذلك عن تراض منهما وتشاور، يقول: غير مسيئين إلى أنفسهما ولا رضيعهما.
وقوله تعالى: { إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ } [27]، قال: إذا أسلمتم أيها الآباء إلى أمهات الأولاد أجر ما أرضعن قبل امتناعهن، روي عن مجاهد والسدي وقيل: إذا أسلمتم إلى الظئر أجرها بالمعروف، روي عن سعيد بن جبير ومقاتل، وقرأ ابن كثير { أتيتم } بالقصر. وقوله تعالى: { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [28]، ولم يقل: وعلى الوالد كما قال: { وَالْوَالِدَاتُ } ؛ لأن المرأة هي التي تلده، وأما الأب فلم يلده، بل هو مولود له لكن إذا قرن بينهما قيل: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [29]. فأما مع الإفراد فليس في القرآن تسميته والدا، بل أبا. وفيه بيان أن الولد ولد للأب، لا للأم؛ ولهذا كان عليه نفقته حملا وأجرة رضاعه. وهذا يوافق قوله تعالى: { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ } [30]، فجعله موهوبا للأب. وجعل بيته بيته في قوله: { وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ } [31]، وإذا كان الأب هو المنفق عليه جنينا ورضيعا، والمرأة وعاء، فالولد زرع للأب قال تعالى: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } [32]، فالمرأة هي الأرض المزروعة، والزرع فيها للأب، وقد نهي النبي ﷺ أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره، يريد به النهي عن وطء الحبالى، فإن ماء الوطئ يزيد في الحمل كما يزيد الماء في الزرع، وفي الحديث الآخر الصحيح: (لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له، وكيف يستعبده وهو لا يحل له؟)، وإذا كان الولد للأب وهو زرعه كان هذا مطابقا لقوله ﷺ: (أنت ومالك لأبيك)، وقوله ﷺ: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه)، فقد حصل الولد من كسبه، كما دلت عليه هذه الآية؛ فإن الزرع الذي في الأرض كسب الزارع له الذي بذره وسقاه وأعطي أجرة الأرض، فإن الرجل أعطي المرأة مهرها، وهو أجر الوطء كما قال تعالى: { وَلَا جُنَاحَ عليكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [33]، وهو مطابق لقوله تعالى: { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } [34]، وقد فسر { مَا كَسَبَ } بالولد، فالأم هي الحرث وهي الأرض التي فيها زرع، والأب استأجرها بالمهر كما يستأجر الأرض، وأنفق على الزرع بإنفاقه لما كانت حاملا، ثم أنفق على الرضيع، كما ينفق المستأجر على الزرع والثمر إذا كان مستورا وإذا برز، فالزرع هو الولد، وهو من كسبه.
وهذا يدل على أن للأب أن يأخذ من ماله ما لا يضر به، كما جاءت به السنة، وأن ماله للأب مباح، وإن كان ملكا للابن، فهو مباح للأب أن يملكه وإلا بقي للابن، فإذا مات ولم يتملكه ورث من الابن. وللأب أيضًا أن يستخدم الولد ما لم يضر به. وفي هذا وجوب طاعة الأب على الابن إذا كان العمل مباحا لا يضر بالابن؛ فإنه لو استخدم عبده في معصية أو اعتدي عليه لم يجز فالابن أولي. ونفع الابن له إذا لم يأخذه الأب، بخلاف نفع المملوك فإنه لمالكه، كما أن ماله لو مات لمالكه لا لوارثه.
ودل ما ذكره على أنه لا يجوز للرجل أن يطأ حاملا من غيره، وأنه إذا وطئها كان كسقي الزرع يزيد فيه وينميه ويبقي له شركة في الولد، فيحرم عليه استعباد هذا الولد، فلو ملك أمة حاملا من غيره ووطئها حرم استعباد هذا الولد؛ لأنه سقاه، ولقوله ﷺ: (كيف يستعبده وهو لا يحل له؟). (وكيف يورثه) أي: يجعله موروثا منه (وهو لا يحل له؟) ومن ظن أن المراد: كيف يجعله وارثا، فقد غلط؛ لأن تلك المرأة كانت أمة للواطئ، والعبد لا يجعل وارثًا، إنما يجعل موروثًا. فأما إذا استبرئت المرأة علم أنه لا زرع هناك. ولو كانت بكرا أو عند من لا يطؤها ففيه نزاع. والأظهر جواز الوطء؛ لأنه لا زرع هناك، وظهور براءة الرحم هنا أقوي من براءتها من الاستبراء بحيضة؛ فإن الحامل قد يخرج منها من الدم مثل دم الحيض، وإن كان نادرا. وقد تنازع العلماء هل هو حيض أو لا؟ فالاستبراء ليس دليلا قاطعا على براءة الرحم، بل دليل ظاهر. والبكارة وكونها كانت مملوكة لصبي أو امرأة أدل على البراءة. وإن كان البائع صادقا أو أخبره أنه استبرأها حصل المقصود، واستبراء الصغيرة التي لم تحض والعجوز والآيسة في غاية البعد.
ولهذا اضطرب القائلون هل تستبرأ بشهر، أو شهر ونصف، أو شهرين، أو ثلاثة أشهر؟ وكلها أقوال ضعيفة. وابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يستبرئ البكر، ولا يعرف له مخالف من الصحابة، والنبي ﷺ لم يأمر بالاستبراء إلا في المسبيات، كما قال في سبايا أوطاس: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة)، لم يأمر كل من ورث أمة أو اشتراها أن يستبرئها مع وجود ذلك في زمنه، فعلم أنه أمر بالاستبراء عن الجهل بالحال، لإمكان أن تكون حاملا. وكذلك من ملكت وكان سيدها يطؤها ولم يستبرئها، لكن النبي ﷺ لم يذكر مثل هذا، إذ لم يكن المسلمون يفعلون مثل هذا، لا يرضي لنفسه أحد أن يبيع أمته الحامل منه، بل لا يبيعها إذا وطئها حتى يستبرئها، فلا يحتاج المشتري إلى استبراء ثان.
ولهذا لم ينه عن وطء الحبالى من السادات إذا ملكت ببيع أو هبة؛ لأن هذا لم يكن يقع، بل هذه دخلت في نهيه ﷺ: أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره.
وقوله تعالى: { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [35]، وقال تعالى في تلك الآية: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [36]، يدل على أن هذا الأجر هو رزقهن وكسوتهن بالمعروف إذا لم يكن بينهما مسمي ترجعان إليه. وأجرة المثل إنما تقدر بالمسمى إذا كان هناك مسمي يرجعان إليه، كما في البيع والإجارة لما كان السلعة هي أو مثلها بثمن مسمي وجب ثمن المثل إذا أخذت بغير اختياره، وكما قال النبي ﷺ: (من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق العبد). فهناك أقيم العبد؛ لأنه ومثله يباع في السوق، فتعرف القيمة التي هي السعر في ذلك الوقت، وكذلك الأجير والصانع كما نهي النبي ﷺ في الحديث الصحيح لعلي أن يعطي الجازر من البدن شيئا، وقال: (نحن نعطيه من عندنا). فإن الذبح وقسمة اللحم على المهدي، فعليه أجرة الجازر الذي فعل ذلك، وهو يستحق نظير ما يستحقه مثله إذا عمل ذلك؛ لأن الجزارة معروفة، ولها عادة معروفة. وكذلك سائر الصناعات كالحياكة، والخياطة، والبناء وقد كان من الناس من يخيط بالأجرة على عهده فيستحق هذا الخياط ما يستحقه نظراؤه، وكذلك أجير الخدمة يستحق ما يستحقه نظيره؛ لأن ذلك عادة معروفة عند الناس.
وأما الأم المرضعة فهي نظير سائر الأمهات المرضعات بعد الطلاق وليس لهن عادة مقدرة إلا اعتبار حال الرضاع بما ذكر، وهي إذا كانت حاملا منه وهي مطلقة استحقت نفقتها وكسوتها بالمعروف، وهي في الحقيقة نفقة على الحمل. وهذا أظهر قولي العلماء، كما قال تعالى: { وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عليهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [37].
وللعلماء هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أن هذه النفقة نفقة زوجة معتدة، ولا فرق بين أن تكون حاملا أو حائلا. وهذا قول من يوجب النفقة للبائن كما يوجبها للرجعية، كقول طائفة من السلف والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره، ويروي عن عمر وابن مسعود، ولكن على هذا القول ليس لكونها حاملا تأثير فإنهم ينفقون عليها حتى تنقضي العدة، سواء كانت حاملا أو حائلا.
القول الثاني: أنه ينفق عليها نفقة زوجة، لأجل الحمل كأحد قولي الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد وهذا قول متناقض؛ فإنه إن كان نفقة زوجة فقد وجب لكونها زوجة، لا لأجل الولد. وإن كان لأجل الولد فنفقة الولد تجب مع غير الزوجة، كما يجب عليه أن ينفق على سريته الحامل إذا أعتقها. وهؤلاء يقولون: هل وجبت النفقة للحمل أولها من أجل الحمل؟ على قولين. فإن أرادوا لها من أجل الحمل، أي: لهذه الحامل من أجل حملها فلا فرق. وإن أرادو وهو مرادهم أنه يجب لها نفقة زوجة من أجل الحمل، فهذا تناقض، فإن نفقة الزوجة تجب وإن لم يكن حمل. ونفقة الحمل تجب وإن لم تكن زوجة.
والقول الثالث وهو الصحيح: أن النفقة تجب للحمل، ولها من أجل الحمل؛ لكونها حاملا بولده، فهي نفقة عليه؛ لكونه أباه، لا عليها لكونها زوجة. وهذا قول مالك، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، والقرآن يدل على هذا، فإنه قال تعالى: { وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عليهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [38]، ثم قال تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [39]، وقال هنا: { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [40]، فجعل أجر الإرضاع على من وجبت عليه نفقة الحامل، ومعلوم أن أجر الإرضاع يجب على الأب لكونه أبا، فكذلك نفقة الحامل؛ ولأن نفقة الحامل ورزقها وكسوتها بالمعروف، وقد جعل أجر المرضعة كذلك؛ ولأنه قال: { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } [41]، أي وارث الطفل، فأوجب عليه ما يجب على الأب، وهذا كله يبين أن نفقة الحمل والرضاع من باب نفقة الأب على ابنه، لا من باب نفقة الزوج على زوجته.
وعلى هذا، فلو لم تكن زوجة بل كانت حاملا بوطء شبهة يلحقه نسبه أو كانت حاملا منه وقد أعتقها وجب عليه نفقة الحمل، ؛ كما يجب عليه نفقة الإرضاع، ولو كان الحمل لغيره، كمن وطئ أمة غيره. بنكاح أو شبهة أو إرث فالولد هنا لسيد الأمة، فليس على الواطئ شيء وإن كان زوجا، ولو تزوج عبد حرة فحملت منه فالنسب ها هنا لاحق، لكن الولد حر. والولد الحر لا تجب نفقته على أبيه العبد، ولا أجرة رضاعه، فإن العبد ليس له مال ينفق منه على ولده، وسيده لا حق له في ولده، فإن ولده إما حر، وإما مملوك لسيد الأمة. نعم، لو كانت الحامل أمة والولد حر مثل المغرور الذي اشترى أمة فظهر أنها مستحقة لغير البائع، أو تزوج حرة فظهر أنها أمة، فهنا الولد حر، وإن كانت أمة مملوكة لغير الواطئ، لأنه إنما وطئ من يعتقدها مملوكة له أو زوجة حرة، وبهذا قضت الصحابة لسيد الأمة بشراء الولد وهو نظيره فهنا الآن ينفق على الحامل كما ينفق على المرضعة له. والله سبحانه وتعالى أعلم.
سئل عن رجل كان له زوجة وطلقها ثلاثا وله منها بنت ترضع وقد ألزموه بنفقة العدة
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل كان له زوجة، وطلقها ثلاثا، وله منها بنت ترضع، وقد ألزموه بنفقة العدة: فكم تكون مدة العدة التي لا تحيض فيها لأجل الرضاعة.
فأجاب:
الحمد لله، أما جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد، فعندهم لا نفقة للمعتدة البائن المطلقة ثلاثا. وأما أبو حنيفة فيوجب لها النفقة مادامت في العدة. وإذا كانت ممن تحيض فلاتزال في العدة حتى تحيض ثلاث حيض. والمرضع يتأخر حيضها في الغالب. وأما أجر الرضاع فلها ذلك باتفاق العلماء، كما قال تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [42]، ولا تجب النفقة إلا على الموسر، فأما المعسر فلا نفقة عليه.
سئل عن امرأة مزوجة محتاجة فهل تكون نفقتها واجبة على زوجها أو من صداقها
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة مزوجة محتاجة، فهل تكون نفقتها واجبة على زوجها، أو من صداقها؟
فأجاب:
المزوجة المحتاجة نفقتها على زوجها واجبة من غير صداقها، وأما صداقها المؤخر فيجوز أن تطالبه، وإن أعطاها فحسن، وإن امتنع لم يجبر حتى يقع بينهما فرقة بموت، أو طلاق، أو نحوه، والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج بامرأة ما ينتفع بها ولا تطاوعه في أمر وتطلب منه نفقة وكسوة وقد ضيقت عليه أموره
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل تزوج بامرأة ما ينتفع بها، ولا تطاوعه في أمر، وتطلب منه نفقة وكسوة، وقد ضيقت عليه أموره: فهل تستحق عليه نفقة، وكسوة؟
فأجاب:
إذا لم تمكنه من نفسها، أو خرجت من داره بغير إذنه، فلا نفقة لها ولا كسوة، وكذلك إذا طلب منها أن تسافر معه فلم تفعل فلا نفقة لها ولا كسوة، فحيث كانت ناشزا، عاصية له فيما يجب له عليها طاعته، لم يجب لها نفقة ولا كسوة.
سئل عن المرأة والرجل إذا تحاكما في النفقة والكسوة
وسئل شيخ الإسلام رَحمه الله عن المرأة والرجل إذا تحاكما في النفقة والكسوة، هل القول قولها، أم قول الرجل؟ وهل للحاكم تقدير النفقة والكسوة بشيء معين؟ والمسؤول: بيان حكم هاتين المسألتين بدلائلهما.
فأجاب:
الحمد لله، إذا كانت المرأة مقيمة في بيت زوجها مدة تأكل وتشرب وتكتسي كما جرت به العادة، ثم تنازع الزوجان في ذلك فقالت هي: أنت ما أنفقت على ولا كسوتني، بل حصل ذلك من غيرك، وقال هو: بل النفقة والكسوة كانت مني، ففيها قولان للعلماء:
أحدهما: القول قوله، وهذا هو الصحيح الذي عليه الأكثرون ونظير هذا أن يصدقها تعلم صناعة وتتعلمها ثم يتنازعا فيمن علمها، فيقول هو: أنا علمتها وتقول هي: أنا تعلمتها من غيره، ففيها وجهان في مذهب الشافعي وأحمد، والصحيح من هذا كله أن القول قول من يشهد له العرف والعادة، وهو مذهب مالك. وأبو حنيفة يوافق على أنها لا تستحق عليها شيء ا؛ لأن النفقة تسقط بمضي الزمان عنده، كنفقة الأقارب، وهو قول في مذهب أحمد. وأصحاب هذا القول يقولون: وجبت على طريقة الصلة فتسقط بمضي الزمان، والجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه يقولون: وجبت بطريق المعارضة، فلا تسقط بمضي الزمان.
ولكن إذا تنازعا في قبضها فقال بعض أصحاب الشافعي وأحمد: القول قول المرأة؛ لأن الأصل عدم المقبوض، كما لو تنازعا في قبض الصداق والصواب أنه يرجع في ذلك إلى العرف والعادة، فإذا كانت العادة أن الرجل ينفق على المرأة في بيته ويكسوها وادعت أنه لم يفعل ذلك فالقول قوله مع يمينه، وهذا القول هو الصواب الذي لا يسوغ غيره لأوجه:
أحدها: أن الصحابة والتابعين على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه الراشدين لم يعلم منهم امرأة قبل قولها في ذلك، ولو كان قول المرأة مقبولا في ذلك، لكانت الهمم متوفرة على دعوي النساء، وذلك كما هو الواقع، فعلم أنه كان مستقرا بينهم، أنه لا يقبل قولها.
الثاني: أنه لو كان القول قولها لم يقبل قول الرجل إلا ببينة، فكان يحتاج إلى الإشهاد عليها كلما أطعمها وكساها، وكان تركه ذلك تفريطا منه إذا ترك الإشهاد على الدين المؤجل، ومعلوم أن هذا لم يفعله مسلم على عهد السلف.
الثالث: أن الإشهاد في هذا متعذر أو متعسر فلا يحتاج إليه، كالإشهاد على الوطء، فإنهما لو تنازعا في الوطء وهي ثيب لم يقبل مجرد قولها في عدم الوطء عند الجمهور، مع أن الأصل عدمه، بل إما أن يكون القول قول الرجل، أو يؤمر بإخراج المني، أو يجامعها في مكان وقريب منهما من يعلم ذلك بعد انقضاء الوطء. على ما للعلماء في ذلك من النزاع، فهنا دعواها وافقت الأصل، ولم تقبل لتعذر إقامة البينة على ذلك. والإنفاق في البيوت بهذه المثابة، ولا يكلف الناس الإشهاد على إعطاء النفقة، فإن هذا بدعة في الدين، وحرج على المسلمين، واتباع لغير سبيل المؤمنين.
الرابع: أن العلماء متنازعون: هل يجب تمليك النفقة؟ على قولين. والأظهر أنه لا يجب، ولا يجب أن يفرض لها شيء ا، بل يطعمها ويكسوها بالمعروف. وهذا القول هو الذي دلت عليه سنة رسول الله ﷺ حيث قال في النساء: (لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، كما في المملوك، (وكسوته بالمعروف) وقال: (حقها أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت) كما قال في المماليك: (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس). هذه عادة المسلمين على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه لا يعلم قط أن رجلا فرض لزوجته نفقة، بل يطعمها ويكسوها.
وإذا كان كذلك كان له ولاية الإنفاق عليها، كما له ولاية الإنفاق على رقيقه وبهائمه، وقد قال الله تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء } [43]، وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله: { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } [44]، وقال عمر ابن الخطاب: النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته. ويدل على ذلك قول النبي ﷺ: (اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، وإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، فقد أخبر أن المرأة عانية عند الرجل، والعاني الأسير وأن الرجل أخذها بأمانة الله، فهو مؤتمن عليها، ولهذا أباح الله للرجل بنص القرآن أن يضربها، وإنما يؤدب غيره من له عليه ولاية، فإذا كان الزوج مؤتمنا عليها، وله عليها ولاية، كان القول قوله فيما اؤتمن عليه وولي عليه، كما يقبل قول الولي في الإنفاق على اليتيم، وكما يقبل قول الوكيل والشريك والمضارب والمساقي والمزارع فيما أنفقه على مال الشركة. وإن كان في ذلك معني المعاوضة. وعقد النكاح من جنس المشاركة والمعاوضة، والرجل مؤتمن فيه فقبول قوله في ذلك أولى من قبول قول أحد الشريكين.
وكذلك لو أخذت المرأة نفقتها من ماله بالمعروف، وادعت أنه لم يعطها نفقة قبل قولها مع يمينها في هذه الصورة، لأن الشارع سلطها على ذلك، كما قال النبي ﷺ لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) لما قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
وكذلك لو كان الزوج مسافرا عنها مدة وهي مقيمة في بيت أبيها وادعت أنه لم يترك لها نفقة، ولا أرسل إليها بنفقة، فالقول قولها مع يمينها وأمثال ذلك. فلابد من التفصيل في الماضي مطلقًا في هذا الباب. وهذه المعاني من تدبرها تبين له سر هذه المسألة، فإن قبول قول النساء في عدم النفقة في الماضي فيه من الضرر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، وهو يؤول إلى أن المرأة تقيم مع الزوج خمسين سنة، ثم تدعي نفقة خمسين سنة وكسوتها، وتدعي أن زوجها مع يساره وفقرها لم يطعمها في هذه المدة شيء ا، وهذا مما يتبين الناس كذبها فيه قطعا، وشريعة الإسلام منزهة عن أن يحكم فيها بالكذب والبهتان، والظلم والعدوان.
الوجه الخامس: أن الأصل المستقر في الشريعة أن اليمين مشروعة في جنبة أقوي المتداعيين، سواء ترجح ذلك بالبراءة الأصلية، أو اليد الحسية، أو العادة العملية؛ ولهذا إذا ترجح جانب المدعي كانت اليمين مشروعة في حقه عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد، كالأيمان في القسامة، وكما لو أقام شاهدا عدلا في الأموال فإنه يحكم له بشاهد ويمين، والنبي ﷺ جعل اليمين على المدعي عليه إذا لم يكن مع المدعي حجة ترجح جانبه؛ ولهذا قال جمهور العلماء في الزوجين إذا تنازعا في متاع البيت فإنه يحكم لكل منهما بما جرت العادة باستعماله إياه، فيحكم للمرأة بمتاع النساء وللرجل بمتاع الرجال، وإن كانت اليد الحسية منها ثابتة على هذا وهذا؛ لأنه يعلم بالعادة أن كلا منهما يتصرف في متاع جنسه. وهنا العادة جارية بأن الرجل ينفق على امرأته ويكسوها فإن لم يعلم لها جهة تنفق منها على نفسها أجري الأمر على العادة.
الوجه السادس: أن هذه المرأة لابد أن تكون أكلت واكتست في الزمان الماضي، وذلك إما أن يكون من الزوج، وإما أن يكون من غيره. والأصل عدم غيره، فيكون منه، كما قلنا في أصح الوجهين: إن القول قوله في أنه علمها الصناعة والقراءة التي أصدقها تعليمها؛ لأن الحكم الحادث يضاف إلى السبب المعلوم، كما لو سقط في الماء نجاسة فرئي متغيرا بعد ذلك، وشك هل تغير بالنجاسة أو غيرها؟ فأصح الوجهين أنه يضاف التغير إلى النجاسة. ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ أفتى عدي بن حاتم فيما إذا رمي الصيد وغاب عنه ولم يجد فيه أثرا غير سهمه أنه يأكله؛ لأن الأصل عدم سبب آخر زهقت به نفسه، بخلاف ما إذا تردي في ماء، أو خالط كلبه كلاب أخرى، فإن تلك لأس
باب شاركت في الزهوق، وبسط هذه المسائل له موضع آخر غير هذا.
فصل تقدير الحاكم النفقة والكسوة
وأما تقدير الحاكم النفقة والكسوة، فهذا يكون عند التنازع فيها كما يقدر مهر المثل إذا تنازعا فيه، وكما يقدر مقدار الوطء إذا ادعت المرأة أنه يضربها، فإن الحقوق التي لا يعلم مقدارها إلا بالمعروف متى تنازع فيها الخصمان قدرها ولي الأمر. وأما الرجل إذا كان ينفق على امرأته بالمعروف كما جرت عادة مثله لمثلها، فهذا يكفي، ولا يحتاج إلى تقدير الحاكم. ولو طلبت المرأة أن يفرض لها نفقة يسلمها إليها مع العلم بأنه ينفق عليها بالمعروف فالصحيح من قولي العلماء في هذه الصورة أنه لا يفرض لها نفقة، ولا يجب تمليكها ذلك، كما تقدم، فإن هذا هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار المبني على العدل. والصواب المقطوع به عند جمهور العلماء أن نفقة الزوجة مرجعها إلى العرف، وليست مقدرة بالشرع، بل تختلف باختلاف أحوال البلاد والأزمنة وحال الزوجين وعادتهما، فإن الله تعالى قال: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [45]، وقال النبي ﷺ: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، وقال: (لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف).
في قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء
وقال شيخ الإسلام رَحمه الله:
في قول الله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } إلى قوله: { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عليهنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عليهنَّ دَرَجَةٌ } إلى قوله تعالى: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [46] فجعل المباح أحد أمرين: إمساك بمعروف. أو تسريح بإحسان. وأخبر أن الرجال ليسوا أحق بالرد إلا إذا أرادوا إصلاحا، وجعل لهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وقال تعالى: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [47]، وقال تعالى في الآية الأخرى: { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [48]، وقال تعالى: { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ } [49]، وقوله هنا: { بِالْمَعْرُوفِ }، يدل على أن المرأة لو رضيت بغير المعروف لكان للأولياء العضل، والمعروف تزويج الكفء. وقد يستدل به من يقول: مهر مثلها من المعروف؛ فإن المعروف هو الذي يعرفه أولئك. وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } إلى قوله: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [50]، فقد ذكر أن التراضي بالمعروف، والإمساك بالمعروف، والتسريح بالمعروف، والمعاشرة بالمعروف، وأن لهن وعليهن بالمعروف كما قال: (لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، فهذا المذكور في القرآن هو الواجب العدل في جميع ما يتعلق بالنكاح من أمور النكاح وحقوق الزوجين، فكما أن ما يجب للمرأة عليه من الرزق والكسوة هو بالمعروف، وهو العرف الذي يعرفه الناس في حالهما نوعا وقدرا وصفة، وإن كان ذلك يتنوع بتنوع حالهما من اليسار والإعسار، والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار، والمكان فيضعها في كل بلد مما هو عادة أهل البلد وهو العرف بينهم. وكذلك ما يجب لها عليه من المتعة والعشرة، فعليه أن يبيت عندها، ويطأها بالمعروف، ويختلف ذلك باختلاف حالها وحاله. وهذا أصح القولين في الوطء الواجب أنه مقدر بالمعروف، لا بتقدير من الشرع، قررته في غير هذا الموضع.
والمثال المشهور هو النفقة فإنها مقدرة بالمعروف تتنوع بتنوع حال الزوجين عند جمهور المسلمين. ومنهم من قال: هي مقدرة بالشرع نوعا وقدرا: مدا من حنطة، أو مدا ونصفًا، أو مدين، قياسا على الإطعام الواجب في الكفارة على أصل القياس.
والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علما وعملا قديما وحديثا، فإن القرآن قد دل على ذلك، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لهند امرأة أبي سفيان لما قالت له يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال النبي ﷺ: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فأمرها أن تأخذ الكفاية بالمعروف، ولم يقدر لها نوعا ولا قدرا، ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبين لها القدر والنوع، كما بين فرائض الزكاة والديات. وفي صحيح مسلم عن جابر أن النبي ﷺ قال في خطبته العظيمة بعرفات: (لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف).
وإذا كان الواجب هو الكفاية بالمعروف فمعلوم أن الكفاية بالمعروف تتنوع بحالة الزوجة في حاجتها، ويتنوع الزمان والمكان، ويتنوع حال الزوج في يساره وإعساره، وليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة، ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف، ولا كفاية طعامه كطعامه، ولا طعام البلاد الحارة كالباردة، ولا المعروف في بلاد التمر والشعير، كالمعروف في بلاد الفاكهة والخمير. وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه عن حكيم بن معاوية النميري عن أبيه أنه قال: قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت).
فهذه ثلاثة أحاديث عن النبي ﷺ: أن للزوجة مرة أن تأخذ كفاية ولدها بالمعروف، وقال في الخطبة التي خطبها يوم أكمل الله الدين في أكبر مجمع كان له في الإسلام: (لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، وقال للسائل المستفتي له عن حق الزوجة: (تطعمها إذا أكلت، وتكسوها إذا اكتسيت)، لم يأمر في شيء من ذلك بقدر معين، لكن قيد ذلك بالمعروف تارة، وبالمواساة بالزوج أخرى.
وهكذا قال في نفقة المماليك، ففي الصحيحين عن أبي ذر عن النبي ﷺ قال: (هم إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كفلتموهم فأعينوهم)، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ، قال: (للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق).
ففي الزوجة والمملوك أمره واحد: تارة يذكر أنه يجب الرزق والكسوة بالمعروف، وتارة يأمر بمواساتهم بالنفس، فمن العلماء من جعل المعروف هو الواجب، والمواساة مستحبة. وقد يقال: أحدهما تفسير للآخر، وعلى هذا فالواجب هو الرزق والكسوة بالمعروف في النوع، والقدر، وصفة الإنفاق، وإن كان العلماء قد تنازعوا في ذلك.
أما النوع فلا يتعين أن يعطيها مكيلا كالبر، ولا موزونًا كالخبز، ولا ثمن ذلك كالدراهم، بل يرجع في ذلك إلى العرف، فإذا أعطاها كفايتها بالمعروف مثل أن يكون عادتهم أكل التمر والشعير فيعطيها ذلك.
أو يكون أكل الخبز والإدام فيعطيها ذلك. وإن كانت عادتهم أن يعطيها حبا فتطحنه في البيت فعل ذلك، وإن كان يطحن في الطاحون ويخبز في البيت فعل ذلك. وإن كان يخبز في البيت فعل ذلك. وإن كان يشتري خبزا من السوق فعل ذلك. وكذلك الطبيخ ونحوه فعلى ما هو المعروف، فلا يتعين عليه دراهم، ولا حبات أصلا، لا بشرع، ولا بفرض، فإن تعين ذلك دائما من المنكر ليس من المعروف، وهو مضر به تارة وبها أخرى.
وكذلك القدر لا يتعين مقدار مطرد، بل تتنوع المقادير بتنوع الأوقات.
وأما الإنفاق فقد قيل: إن الواجب تمليكها النفقة، والكسوة. وقيل: لا يجب التمليك، وهو الصواب؛ فإن ذلك ليس هو المعروف، بل عُرْفُ النبي ﷺ والمسلمين إلى يومنا هذا أن الرجل يأتي بالطعام إلى منزله، فيأكل هو وامرأته ومملوكه: تارة جميعا، وتارة أفرادا. ويفضل منه فضل تارة فيدخرونه، ولا يعرف المسلمون أنه يملكها كل يوم دراهم تتصرف فيها تصرف المالك، بل من عاشر امرأة بمثل هذا الفرض كانا عند المسلمين قد تعاشرا بغير المعروف وتضارا في العشرة، وإنما يفعل أحدهما ذلك بصاحبه عند الضرر، لا عند العشرة بالمعروف.
وأيضا، فإن النبي ﷺ أوجب في الزوجة مثل ما أوجب في المملوك. تارة قال: (لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، كما قال في المملوك. وتارة قال: (تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت) كما قال في المملوك. وقد اتفق المسلمون على أنه لا يجب تمليك المملوك نفقته، فعلم أن هذا الكلام لا يقتضي إيجاب التمليك. وإذا تنازع الزوجان فمتى اعترفت الزوجة أنه يطعمها إذا أكل ويكسوها إذا اكتسي وذلك هو المعروف لمثلها في بلدها فلا حق لها سوي ذلك. وإن أنكرت ذلك، أمره الحاكم أن ينفق بالمعروف، بل ولا له أن يأمر بدراهم مقدرة مطلقا، أو حب مقدر مطلقا، لكن يذكر المعروف الذي يليق بهما.
فصل قسم الابتداء والوطء والعشرة والمتعة واجبان
وكذلك قسم الابتداء والوطء والعشرة والمتعة واجبان، كما قد قررناه بأكثر من عشرة أدلة، ومن شك في وجوب ذلك فقد أبعد تأمل الأدلة الشرعية والسياسة الإنسانية. ثم الواجب قيل: مبيت ليلة من أربع ليال، والوطء في كل أربعة أشهر مرة، كما ثبت في المولي والمتزوج أربعا. وقيل: إن الواجب وطؤها بالمعروف، فيقل ويكثر بحسب حاجتها وقدرته، كالقوت سواء.
فصل وكذلك ما عليها من موافقته في المسكن وعشرته ومطاوعته في المتعة
وكذلك ما عليها من موافقته في المسكن وعشرته ومطاوعته في المتعة، فإن ذلك واجب عليها بالاتفاق. عليها أن تسكن معه في أي بلد أو دار إذا كان ذلك بالمعروف ولم تشترط خلافه، وعليها ألا تفارق ذلك بغير أمره إلا لموجب شرعي، فلا تنتقل، ولا تسافر، ولا تخرج من منزله لغير حاجة إلا بإذنه، كما قال النبي ﷺ: (فإنهن عوان عندكم) بمنزلة العبد والأسير، وعليها تمكينه من الاستمتاع بها إذا طلب ذلك، وذلك كله بالمعروف غير المنكر، فليس له أن يستمتع استمتاعا يضر بها ولا يسكنها مسكنا يضر بها، ولا يحبسها حبسا يضر بها.
فصل وتنازع العلماء هل عليها أن تخدمه في مثل فراش المنزل ومناولة الطعام والشراب والخبز
وتنازع العلماء: هل عليها أن تخدمه في مثل فراش المنزل، ومناولة الطعام والشراب والخبز، والطحن، والطعام لمماليكه، وبهائمه: مثل علف دابته ونحو ذلك؟ فمنهم من قال: لا تجب الخدمة. وهذا القول ضعيف، كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء؛ فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف، بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإنسان وصاحبه في المسكن إن لم يعاونه على مصلحة لم يكن قد عاشره بالمعروف. وقيل وهو الصواب وجوب الخدمة، فإن الزوج سيدها في كتاب الله، وهي عانية عنده بسنة رسول الله ﷺ، وعلى العاني والعبد الخدمة؛ ولأن ذلك هو المعروف. ثم من هؤلاء من قال: تجب الخدمة اليسيرة، ومنهم من قال: تجب الخدمة بالمعروف، وهذا هو الصواب، فعليها أن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة.
فصل المعروف فيما له ولها هو موجب العقد المطلق
والمعروف فيما له ولها هو موجب العقد المطلق، فإن العقد المطلق يرجع في موجبه إلى العرف، كما يوجب العقد المطلق في البيع النقد المعروف فإن شرط أحدهما على صاحبه شرطا لا يحرم حلالا ولا يحلل حراما فالمسلمون عند شروطهم؛ فإن موجبات العقود تتلقي من اللفظ تارة. ومن العرف تارة أخرى، لكن كلاهما مقيد بما لم يحرمه الله ورسوله، فإن لكل من العاقدين أن يوجب للآخر على نفسه ما لم يمنعه الله من إيجابه، ولا يمنعه أن يوجب في المعاوضة ما يباح بذله بلا عوض، كعارية البضع، والولاء لغير المعتق، فلا سبيل إلى أن يجب بالشرط، فإنه إذا حرم بذله كيف يجب بالشرط؟ ! فهذه أصول جامعة مع اختصار، والله أعلم.
سئل عن رجل متزوج بامرأة وسافر عنها سنة كاملة ولم يترك عندها شيئا
وسئل عن رجل متزوج بامرأة، وسافر عنها سنة كاملة، ولم يترك عندها شيء ا، ولا لها شيء تنفقه عليها، وهلكت من الجوع، فحضر من يخطبها ودخل بها، وحملت منه، فعلم الحاكم أن الزوج الأول موجود ففرق بينهما ووضعت الحمل من الزوج الثاني، والزوج الثاني ينفق عليها إلى أن صار عمر المولود أربع سنين، ولم يحضر الزوج الأول، ولا عرف له مكان: فهل لها أن تراجع الزوج الثاني، أو تنتظر الأول؟
فأجاب:
إذا تعذرت النفقة من جهته فلها فسخ النكاح، فإذا انقضت عدتها تزوجت بغيره. والفسخ للحاكم، فإذا فسخت هي نفسها لتعذر فسخ الحاكم أو غيره، ففيه نزاع. وأما إذا لم يفسخ الحاكم بل شهد لها أنه قد مات، وتزوجت لأجل ذلك، ولم يمت الزوج، فالنكاح باطل، لكن إذا اعتقد الزوج الثاني أنه صحيح لظنه موت الزوج الأول وانفساخ النكاح أو نحو ذلك، فإنه يلحق به النسب، وعليه المهر، ولا حد عليه، لكن تعتد له حتى تنقضي عدتها منه، ثم بعد ذلك ينفسخ نكاح الأول إن أمكن، وتتزوج بمن شاءت.
سئل عن رجل زوج ابنته لرجل وأراد الزوج السفر إلى بلاده فقال له وكيل الأب في قبول النكاح
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل زوج ابنته لرجل، وأراد الزوج السفر إلى بلاده، فقال له وكيل الأب في قبول النكاح: لا تسافر إما أن تعطي الحال من الصداق وتنتقل بالزوجة، أو ترضي الأب، فسافر ولم يجب إلى ذلك، وهو غائب عن الزوجة المذكورة مدة سنة، ولم يصل منه نفقة: فهل لوالد الزوجة أن يطلب فسخ النكاح؟
فأجاب:
نعم، إذا عرضت المرأة عليه فبذل له تسليمها، وهي ممن يوطأ مثلها وجب عليه النفقة بذلك، فإذا تعذرت النفقة من جهته كان للزوجة المطالبة بالفسخ، إذا كان محجورا عليها على وجهين.
سئل عن رجل تبرع وفرض لأمه على نفسه وهي صحيحة عاقلة في كل يوم درهمين وأذن لها أن تستدين وتنفق عليها وترجع عليه
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل تبرع وفرض لأمه على نفسه وهي صحيحة عاقلة في كل يوم درهمين، وأذن لها أن تستدين وتنفق عليها وترجع عليه، وبقيت مقيمة عنده مدة ولم تستدن لها نفقة، ثم توفيت ولم تترك عليها دينا، وخلفت من الورثة ابنها هذا، وبنتين. ثم توفي ابنها بعدها: فهل يصير ما فرض على نفسه دينا في ذمته يؤخذ من تركته، ويقسم على ورثتها، أم لا؟ وهل إذا حكم حاكم مع قولكم النفقة تسقط بمضي المدة: هل ينفذ حكمه، أم لا؟ وهل يجب استرجاع ما أخذ ورثتها من تركة ولدها بهذا الوجه، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، ليس ذاك دينا لها في ذمته، ولا يقضي من تركته ولا يستحق ورثتها، وما علمت أن أحدا من العلماء قال: إن نفقة القريب تثبت في الذمة لما مضي من الزمان، إلا إذا كان قد استدان عليه النفقة بإذن حاكم، أو أنفق بغير إذن حاكم غير متبرع، وطلب الرجوع بما أنفق، فهذا في رجوعه خلاف. فأما استقرارها في الذمة بمجرد الفرض إما بإنفاق متبرع، أو بكسبه، كما يقال مثله في نفقة الزوجة فما علمت له قائلا، فإذا كان الحكم مخالفًا للإجماع لم يلزم بحكم حاكم، ولمن أخذ منه المال بغير حق أن يرجع بما أخذه. ومذهب أبي حنيفة تسقط بمضي الزمان، وإن قضى بها القاضي، إلا أن يأذن القاضي في الاستدانة؛ لأن للقاضي ولاية عامة، فصار كإذن الغائب. وذكر بعضهم في قضاء القاضي هل يصير به دينا؟ روايتين، لكن حملوا رواية الوجوب على ما إذا أمر بالاستدانة، الإنفاق عليهم، ويرجع بذلك. وكذا إذا كان الزوج موسرا وتمرد وامتنع عن الإنفاق فطلبت المرأة أن يأمرها بالاستدانة فأمرها القاضي بذلك وترجع عليه؛ لأن أمر القاضي كأمره، ولو قضي القاضي لها بالنفقة فأمرها بالاستدانة على الزوج؛ لئلا يبطل حقها في النفقة بموت أحدهما؛ لأن النفقة تسقط بموت أحدهما، فكانت فائدة الأمر بالاستدانة لتأكيد حقها في النفقة؛ لأن القاضي مأمور بإيصال الحق إلى المستحق، وهذه طريقة. لكن لو أمر القريب بالاستدانة ولم يستدن، بل استغنى بنفقة متبرع، أو بكسب له، فقد فهم القاضي شمس الدين أن النفقة تستقر في الذمة بهذه الصورة لإطلاقهم الأمر بالاستدانة من غير اشتراط وجود الاستدانة وغيره. إنما فهم أن الاستدانة لأجل وجود الاستدانة. وأما الإذن في الاستدانة من غير وجودها لا يصير المأذون فيه دينا حتى يستدان.
سئل عن امرأة توفيت وخلفت من الورثة ولدا ذكرا وقد ادعي على أبيه بالصداق والكسوة
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة توفيت، وخلفت من الورثة ولدا ذكرا، وقد ادعي على أبيه بالصداق والكسوة: فهل يلزم الزوج الكسوة الماضية قبل موتها والابن محتاج.
فأجاب:
إذا كان الأمر على ما ذكر فعلى الأب أن يوفيه ما يستحقه، بل لو لم يكن للابن ميراث، وكان محتاجا عاجزا عن الكسوة، فعلى الأب إذا كان موسرا أن ينفق عليه، وعلى زوجته وأولاده الصغار المحتاجين والعاجزين عن الكسب.
سئل عن رجل تزوج بامرأة ودخل بها وهو مستمر النفقة وهي ناشز ثم إن ولدها أخذها وسافر من غير إذن الزوج فماذا يجب عليهما
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج بامرأة ودخل بها، وهو مستمر النفقة، وهي ناشز، ثم إن ولدها أخذها وسافر من غير إذن الزوج، فماذا يجب عليهما؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا سافر بها بغير إذن الزوج، فإنه يعزر على ذلك وتعزر الزوجة إذا كان التخلف يمكنها، ولا نفقة لها من حين سافرت. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج عند قوم مدة سنة ثم جري بينهم كلام فادعوا عليه بكسوة سنة فأخذوها منه ثم ادعوا عليه بالنفقة
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل تزوج عند قوم مدة سنة، ثم جري بينهم كلام، فادعوا عليه بكسوة سنة، فأخذوها منه، ثم ادعوا عليه بالنفقة، وقالوا: هي تحت الحجر، وما أذنا لك أن تنفق عليها: فهل يجوز ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا كان الزوج تسلمها التسليم الشرعي وهو أو أبوه أو نحوهما، يطعمها كما جرت به العادة، لم يكن للأب ولا لها أن تدعي بالنفقة، فإن هذا هو الإنفاق بالمعروف الذي كان على عهد رسول الله ﷺ وأصحابه وسائر المسلمين في كل عصر ومصر، وكذلك نص على ذلك أئمة العلماء، بل من كلف الزوج أن يسلم إلى أبيها دراهم ليشتري لها بها ما يطعمها في كل يوم فقد خرج عن سنة رسول الله ﷺ والمسلمين، وإن كان هذا قد قاله بعض الناس، فكيف إذا كان قد أنفق عليها بإقرار الأب لها بذلك، وتسليمها إليهم، مع أنه لابد لها من الأكل، ثم أراد أن يطلب النفقة، ولا يعتد بما أنفقوا عليها، فإن هذا باطل في الشريعة لا تحتمله أصلا. ومن توهم ذلك معتقدا أن النفقة حق لها كالدين، فلابد أن يقبضه الولي، وهو لم يأذن فيه، كان مخطئا من وجوه:
منها: أن المقصود بالنفقة إطعامها، لاحفظ المال لها. الثاني: أن قبض الولي لها ليس فيه فائدة. الثالث: أن ذلك لا يحتاج إلى إذنه فإنه واجب لها بالشرع، والشارع أوجب الإنفاق عليها، فلو نهي الولي عن ذلك لم يلتفت إليه. الرابع: إقرار لها مع حاجته إلى النفقة إذن عرفي ولا يقال: إنه لم يأمن الزوج على النفقة، لوجهين: أحدهما أن الائتمان بها حصل بالشرع، كما اؤتمن الزوج على بدنها، والقسم لها، وغير ذلك من حقوقها، فإن الرجال قوامون على النساء، والنساء عوان عند الرجال، كما دل على ذلك الكتاب والسنة. الثاني: أن الائتمان العرفي كاللفظي. والله أعلم.
سئل عن رجل حبسته زوجته على كسوتها وصداقها وبقي مدة فهل لها أن تطالبه بنفقتها مدة إقامته في حبسها أم لا
وسئل رَحمه الله عن رجل حبسته زوجته على كسوتها وصداقها، وبقي مدة، فهل لها أن تطالبه بنفقتها مدة إقامته في حبسها، أم لا؟
فأجاب:
إن كان معسرا فحبسته كانت ظالمة له، مانعة له من التمكن منها، فلا تستحق عليه في تلك المدة نفقة. وإن كان لها حق واجب حال، وهو قادر على أدائه فمنعه بعد الطلب الشرعي كان ظالما، فإذا كانت مع هذا باذلة ما يجب عليها وجبت لها النفقة.
سئل عن رجل له زوجة وله مدة سبع سنين لم ينتفع بها لأجل مرضها فهل تستحق عليه نفقة أم لا
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل له زوجة، وله مدة سبع سنين لم ينتفع بها، لأجل مرضها: فهل تستحق عليه نفقة، أم لا؟ فإن لم تكن تستحق وحكم عليه حاكم: فهل يجب عليه إعطاؤه، أم لا؟
فأجاب:
نعم تستحق النفقة في مذهب الأئمة الأربعة.
سئل عن رجل طلق زوجته طلقة واحدة وكانت حاملا فأسقطت فهل تسقط عنه النفقة أم لا
وسئل رَحمه الله عن رجل طلق زوجته طلقة واحدة، وكانت حاملا فأسقطت: فهل تسقط عنه النفقة، أم لا؟
فأجاب:
نعم. إذا ألقت سقطا انقضت به العدة، وسقطت به النفقة وسواء كان قد نفخ فيه الروح أم لا، إذا كان قد تبين فيه خلق الإنسان، فإن لم يتبين ففيه نزاع.
سئل عن رجل طلق زوجته ثلاثا وألزمها بوفاء العدة في مكانها فخرجت منه قبل أن توفي العدة وطلبها الزوج ما وجدها
وسئل رَحمه الله عن رجل طلق زوجته ثلاثا، وألزمها بوفاء العدة في مكانها، فخرجت منه قبل أن توفي العدة، وطلبها الزوج ما وجدها: فهل لها نفقة العدة؟
فأجاب:
لا نفقة لها، وليس لها أن تطالب بنفقة الماضي في مثل هذه العدة في المذاهب الأربعة. والله أعلم.
سئل عن رجل ماتت زوجته وخلفت له ثلاث بنات فأعطاهم لحميه وحماته فهل عليه النفقة
وسئل رَحمه الله عن رجل ماتت زوجته، وخلفت له ثلاث بنات، فأعطاهم لحميه وحماته وقال: روحوا بهم إلى بلدكم، حتى أجيء إليهم، فغاب عنهم ثلاث سنين، فهل على والدهم نفقتهم وكسوتهم في هذه المدة أم لا؟
فأجاب:
ما أنفقوه عليهم بالمعروف بنية الرجوع به على والدهم فلهم الرجوع به عليه، إذا كان ممن تلزمه نفقتهم. والله أعلم.
وسئل رَحمه الله عن رجل وطئ أجنبية حملت منه، ثم بعد ذلك تزوج بها: فهل يجب عليه فرض الولد في تربيته، أم لا؟
فأجاب:
الولد ولد زنا، لا يلحقه نسبه عند الأئمة الأربعة، ولكن لابد أن ينفق عليه المسلمون، فإنه يتيم من اليتامى، ونفقة اليتامى على المسلمين مؤكدة. والله أعلم.
وسئل رَحمه الله عن رجل متزوج بامرأة، ولها ولد من غيره، وله فرض على أبيه تتناوله أمه، والزوج يقوم بالصبي بكلفته ومؤنته مدة سنين، وحين تزوج الرجل كان من الصداق خمسة دنانير حالة، فشارطته على أنها لا تطالبه بها إذا كان ينفق على الولد مادام الصبي عنده، ولم تعين له كلفة، ولا نفقة: فهل له مطالبة أم الصبي بكلفة مدة مقامه عنده؟
فأجاب:
إذا كان الأمر على ما ذكر ولم يوف امرأته بما شرطت له فليس له أن يطالب بما أنفقه على الصبي إذا كان الإنفاق بمعروف، فإنه ليس متبرعا بذلك، سواء أنفق بإذن أمه، أم لا.
سئل عن امرأة تطعم من بيت زوجها بحكم أنها تتعب فيه
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة تطعم من بيت زوجها، بحكم أنها تتعب فيه.
فأجاب:
الحمد لله، تطعم بالمعروف: مثل الخبز، والطبيخ، والفاكهة، ونحو ذلك مما جرت العادة بإطعامه. والله أعلم.
سئل عن رجل عجز عن الكسب ولا له شيء وله زوجة وأولاد فهل يجوز لولده الموسر أن ينفق عليه
وسئل رَحمه الله عن رجل عجز عن الكسب، ولا له شيء، وله زوجة وأولاد، فهل يجوز لولده الموسر أن ينفق عليه، وعلى زوجته، وإخوته الصغار؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، نعم على الولد الموسر أن ينفق على أبيه وزوجة أبيه، وعلى إخوته الصغار، وإن لم يفعل ذلك كان عاقا لأبيه، قاطعا لرحمه مستحقا لعقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة. والله أعلم.
سئل عن رجل له ولد وطلب منه ما يمونه
وسئل رَحمه الله عن رجل له ولد، وطلب منه ما يمونه.
فأجاب:
إذا كان موسرا وأبوه محتاجا فعليه أن يعطيه تمام كفايته وكذلك إخوته إذا كانوا عاجزين عن الكسب، فعليه أن ينفق عليهم إذا كان قادرا على ذلك، ولأبيه أن يأخذ من ماله ما يحتاجه بغير إذن الابن، وليس للابن منعه.
سئل عن رجل له ولد وله مال والوالد فقير وله عائلة وزوجة غير والدة الولد الكبير فهل يجب على ولده نفقة والده ونفقة إخوته وزوجته أم لا
وسئل رَحمه الله عن رجل له ولد، وله مال، والوالد فقير وله عائلة وزوجة غير والدة الولد الكبير، فهل يجب على ولده نفقة والده، ونفقة إخوته وزوجته، أم لا؟
فأجاب:
إذا كان الأب عاجزا عن النفقة، والابن قادرا على الإنفاق عليهم، فعليه الإنفاق عليهم.
سئل عن رجل عاجز عن نفقة بنته وكان غائبا وهي عند أمها وجدتها تنفق عليها مع أنها موسرة وليس عليه فرض
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل عاجز عن نفقة بنته، وكان غائبا وهي عند أمها، وجدتها تنفق عليها، مع أنها موسرة، وليس عليه فرض: فهل لها أن ترجع بالنفقة المدة التي كان عاجزا عن النفقة فيها؟ وهل القول قوله في إعساره إذا لم يعرف له مال، أو قول المدعي؟ وإذا كان مقيما في بلد فيها خيره، ويريد أخذ بنته معه، وهو يسافر سفر نقلة: فيستحق السفر بها، أو تكون الحضانة لأمها؟
فأجاب:
أما المدة التي كان عاجزا عن النفقة فيها فلا نفقة عليه، ولا رجوع لمن أنفق فيها بغير إذنه بغير نزاع بين العلماء، وإنما النزاع فيما إذا أنفق منفق بدون إذنه مع وجوب النفقة على الأب، فقيل: يرجع بما أنفق غير متبرع كما هو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في قول. ولا يجوز حبسه على هذه النفقة، ولا على الرجوع بها حتى يثبت الوجوب بيساره. فإذا اختلفا في اليسار ولم يعرف له مال، فالقول قوله مع يمينه.
وإذا كان مقيما في غير بلد الأم فالحضانة له، لا للأم، وإن كانت الأم أحق بالحضانة في البلد الواحد. وهذا أيضا مذهب الأئمة الأربعة. والله أعلم.
سئل عن رجل له مطلقة وله منها ولد وقد بلغ من العمر سبع سنين وهم يريدون فرضه وقد تزوجت أمه وكفلته جدته
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل له مطلقة، وله منها ولد، وقد بلغ من العمر سبع سنين، وهم يريدون فرضه، وقد تزوجت أمه، وكفلته جدته، ووجهت كفيله وسافروا به إلى الأسكندرية، وغيبوه مدة سبع سنين، وطلب منه فرض السنين الماضية؟
فأجاب:
إذا حكم له حاكم لم يكن لأمه أن تغيبه عنه، وإذا غيبته عنه والحالة هذه لم يكن لها أن تطالبه بالنفقة المفروضة، ولا بما أنفقوه عليه في هذه الحالة. والله أعلم.
سئل عن رجل عليه وقف من جده ثم على ولده وهو يتناول أجرته وله ملك زاد أجرة كثيرة وغيرها والكل معطل وله ولد معسر
وسئل رَحمه الله عن رجل عليه وقف من جده ثم على ولده، وهو يتناول أجرته، وله ملك زاد أجرة كثيرة وغيرها، والكل معطل، وله ولد معسر، وله أهل وأولاد، فطلب ابنه بعض الأماكن ليدوليه فلم يجبه، فهل يجوز له ذلك؟ وهل يجب على الأب أن يؤجرهم وينفق على ولده، أو تجب عليه النفقة مع غني الوالد وإعسار الولد؟
فأجاب:
نعم، عليه نفقة ولده بالمعروف إذا كان الولد فقيرا عاجزا عن الكسب والوالد موسرا، وإذا لم يمكن الإنفاق على الولد إلا بإجارة ما هو متعطل في عقاره، وبعمارة ما يمكن عمارته منه، أو يمكن الولد من أن يؤجر ويعمر ما ينفق منه على نفسه، فعلى الوالد ذلك، بل من كان له عقار لا يعمره ولا يؤجره فهو سفيه مبذر لماله، فينبغي أن يحجر عليه الحاكم لمصلحة نفسه، لئلا يضيع ماله. فأما إذا كان له ولد يتعين ذلك لأجل مصلحته، ومصلحة ولده. والله أعلم.
قوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف
وَقال رَحمه الله تعالى:
قال الله تعالى: { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [51]، فلفظ { الْمَوْلُودِ لَهُ } أجود من لفظ الوالد لوجوه: أنه يعم الوالد وسيد العبد، وأنه يبين أن الولد لأبيه لا لأمه، فيفيد هذا أن الولد لأبيه، كما نقوله نحن من: أن الأب يستبيح مال ولده ومنافعه، وأنه يبين جهة الوجوب عليه، وهو كون الولد له، لا للأم. وأن الأم هي التي ولدته حقيقة دون الأب، فهذه أربعة أوجه؛ ولهذا يقال: ولد لفلان مولود، ولد لي ولد.
وهذه الآية توجب رزق المرتضع على أبيه، لقوله: { وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عليهنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [52]، فأوجب نفقته حملا ورضيعا بواسطة الإنفاق على الحامل والمرضع، فإنه لا يمكن رزقه بدون رزق حامله ومرضعه، فسئلت: فأين نفقة الولد على أبيه بعد فطامه؟ فقلت: دل عليه النص تنبيها، فإنه إذا كان في حال اختفائه وارتضاعه أوجب نفقة من تحمله وترضعه، إذ لا يمكن الإنفاق عليه إلا بذلك، فالإنفاق عليه بعد فصاله إذا كان يباشر الارتزاق بنفسه أولى وأحري، وهذا من حسن الاستدلال.
فقد تضمن الخطاب التنبيه بأن الحكم في المسكوت أولى منه في المنطوق، وتضمن تعليل الحكم بكون النفقة إنما وجبت على الأب لأنه هو الذي له الولد دون الأم، ومن كان الشيء له كانت نفقته عليه؛ ولهذا سمي الولد كسبا في قوله: { وَمَا كَسَبَ } [53]، وفي قوله: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه).
سئل عن رجل له جارية تائبة وتصلي وتصوم أي شيء يلزم سيدها إذا لم يجامعها
وسئل رَحمه الله عن رجل له جارية تائبة، وتصلي وتصوم: أي شيء يلزم سيدها إذا لم يجامعها؟
فأجاب:
إذا كانت محتاجة إلى النكاح فليعفها: إما بأن يطأها، وإما بأن يزوجها لمن يطؤها، ولا يجوز أن يطأها إلا زوج أو سيدها.
سئل عن الصدقة على المحتاجين من الأهل وغيرهم
وسئل رَحمه الله عن الصدقة على المحتاجين من الأهل وغيرهم؟
فأجاب:
إن كان مال الإنسان لا يتسع للأقارب والأباعد فإن نفقة القريب واجبة عليه، فلا يعطي البعيد ما يضر بالقريب. وأما الزكاة والكفارة فيجوز أن يعطي منها القريب الذي لا ينفق عليه. والقريب أولى إذا استوت الحالة.
باب الحضانة
سئل عن رجل له ولد وتوفي ولده وخلف ولدا عمره ثماني سنين والزوجة تطالب الجد بالفرض
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل له ولد، وتوفي ولده، وخلف ولدا عمره ثماني سنين، والزوجة تطالب الجد بالفرض، وبعد ذلك تزوجت وطلقت، ولم يعرف الجد بها وقد أخذت الولد وسافرت، ولا يعلم الجد بها، فهل يلزم الجد فرض، أم لا؟
فأجاب:
إذا تزوجت الأم فلا حضانة لها، وإذا سافرت سفر نقلة فالحضانة للجد دونها، ومن حضنته ولم تكن الحضانة لها وطالبت بالنفقة لم يكن لها ذلك، فإنها ظالمة بالحضانة، فلا تستحق المطالبة بالنفقة، وإن كان الجد عاجزا عن نفقة ابن ابنه لم تجب عليه نفقته.
فصل اليتيم في الآدميين من فقد أباه
وَقَال قدس اللَّه رُوحَه:
اليتيم في الآدميين من فقد أباه؛ لأن أباه الذي يهذبه، ويرزقه، وينصره بموجب الطبع المخلوق؛ ولهذا كان تابعا في الدين لوالده، وكان نفقته عليه وحضانته عليه، والإنفاق هو الرزق. والحضانة هي النصر لأنها الإيواء، ودفع الأذي. فإذا عدم أبوه طمعت النفوس فيه؛ لأن الإنسان ظلوم جهول، والمظلوم عاجز ضعيف، فتقوى جهة الفساد من جهة قوة المقتضي، ومن جهة ضعف المانع، ويتولد عنه فسادان: ضرر اليتيم الذي لا دافع عنه ولا يحسن إليه، وفجور الآدمي الذي لا وازع له.
فلهذا أعظم الله أمر اليتامى في كتابه في آيات كثيرة مثل قوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا وَذِي الْقُرْبَى وَاليتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [54]، وقوله: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلى قوله: { وَآتَي الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَاليتَامَى وَالْمَسَاكِينَ } [55]، وقوله: { قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ واليتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [56]، وقوله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } [57]، وقوله: { وَآتُواْ اليتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتَامَى } إلى قوله: { وَابْتَلُواْ اليتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إليهمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إليهمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عليهمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا } [58]، وقوله: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَاليتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ } [59]، وقوله: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شيئا } إلى قوله: { وَبِذِي الْقُرْبَى وَاليتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [60]، وقوله: { قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عليكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } إلى قوله: { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عليمًا } [61]، وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [62]، وقوله في الأنعام: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } [63]، وقوله: { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَاليتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [64]، وقوله: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } [65]، وقوله: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولا } [66]، وقوله: { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ } [67]، وقوله: { مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَاليتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [68]، وقوله: { فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } [69].
سئل عن رجل له بنت لها سبع سنين ولها والدة متزوجة وقد أخذها بحكم الشرع بحيث أنه ليس لها كافل غيره
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له بنت لها سبع سنين، ولها والدة متزوجة، وقد أخذها بحكم الشرع الشريف بحيث أنه ليس لها كافل غيره، وقد اختارت أم المذكورة أن تأخذها من الرجل بكفالتها إلى مدة معلومة، وهو يخاف أن ترجع عليه فيما بعد بالكسوة والنفقة عند بعض المذاهب، وكيف نسخة ما يكتب بينهما.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، ما دام الولد عندها وهي تنفق عليه، وقد أخذته على أن تنفق عليه من عندها ولا ترجع على الأب، لا نفقة لها باتفاق الأئمة. أي لا ترجع عليه بما أنفقت هذه المدة، لكن لو أرادت أن تطالب بالنفقة في المستقبل فللأب أن يأخذ الولد منها أيضا فإنه لا يجمع لها بين الحضانة في هذه الحال، ومطالبة الأب بالنفقة مع ما ذكرنا بلا نزاع، لكن لو اتفقا على ذلك، فهل يكون العقد بينهما لازما؟ هذا فيه خلاف، والمشهور من مذهب مالك هو لازم، وإذا كان كذلك فلا ضرر للأب في هذا الالتزام. والله أعلم.
فصل مذهب الامام أحمد في حضانة الصغير المميز
وقال الشيخ رحَمه اللَّه تعالى:
الحمد لله الذي نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، ﷺ تسليما كثيرًا.
في مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء في حضانة الصغير المميز: هل هي للأب، أو للأم، أو يخير بينهما؟ فإن كثيرًا من كتب أصحاب أحمد إنما فيها أن الغلام إذ بلغ سبع سنين خير بين أبويه، وأما الجارية فالأب أحق بها وهؤلاء الذين ذكروا هذا كالخرقي وغيره بلغهم بعض نصوص أحمد في هذه المسألة ولم يبلغهم سائر نصوصه، فإن كلام أحمد كثير منتشر جدًا وقل من يضبط جميع نصوصه في كثير من المسائل؛ لكثرة كلامه وانتشاره، وكثرة من كان يأخذ العلم عنه.
وأبو بكر الخلال قد طاف البلاد وجمع من نصوصه في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدًا، وفاته أمور كثيرة ليست في كتبه، وأما ما جمعه من نصوصه فمن أصول الدين مثل: كتاب السنة نحو ثلاث مجلدات، ومثل أصول الفقه، والحديث مثل كتاب العلم الذي جمعه من الكلام على علل الأحاديث مثل كتاب العلل الذي جمعه، ومن كلامه في أعمال القلوب والأخلاق والأدب، ومن كلامه في الرجال والتاريخ، فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس عنه.
والمقصود هنا أن النزاع عنه موجود في المسألتين كلتاهما في مسألة البنت، وفي مسألة الابن، وعنه في الابن ثلاث روايات معروفة، وممن ذكرهن أبو البركات في محرره. وعنه في الجارية روايتين، وممن ذكرهما أبو عبد الله بن تيمية في كتابيه: التلخيص وترغيب القاصد والروايات موجودة بألفاظها ونقلتها وأسانيدها في عدة كتب. وممن ذكر هذه الروايات القاضي أبو يعلي في تعليقه نقل عن أحمد في الغلام: أمه أحق به حتى يستغني عنها، ثم الأب أحق به. فقال في رواية الفضل بن زياد: إذا عقل الغلام واستغني عن الأم فالأب أحق به. وقال في رواية أبي طالب: والأب أحق بالغلام اذا عقل واستغني عن الأم. وهذا الذي نقله القاضي أبو يعلى والثاني وغيرهما هو المنقول عن أبي حنيفة قال: إذا أكل وحده، ولبس وحده، وتوضأ وحده، فالأب أحق به. ونقل ابن المنذر: أنه يخير بين أبويه عن أبي حنيفة وأبي ثور. والأول هو مذهب أبي حنيفة، الموجود في كتب أصحابه وهو إحدى الروايتين عن مالك؛ فإنه نقل عنه ابن وهب: الأم أحق به حتى يثغر، ولكن المشهور عنه أن الأم أحق به مالم يبلغ. وهذه هي الرواية الثانية عن أحمد. وأما المشهور عن أحمد وهو تخيير الغلام بين أبويه فهو مذهب الشافعي، وإسحاق بن راهويه.
وموافقته للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما، وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما، وكان يثني عليهما ويعظمهما، ويرجح أصول مذاهبهما على من ليست أصول مذاهبه كأصول مذاهبهما، ومذهبه أن أصول فقهاء الحديث أصح من أصول غيرهم، والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث في عصرهما، وجمع بينهما بمسجد الخيف فتناظرا في مسألة إجارة بيوت مكة والقصة مشهورة، وذكر أحمد أن الشافعي علا إسحاق بالحجة في موضع، وأن إسحاق علاه بالحجة في موضع. فإن الشافعي كان يبيح البيع والإجارة، وإسحق يمنع منهما، وكانت الحجة مع الشافعي في جواز بيعها، ومع إسحاق في المنع من إجارتها.
والرواية الثالثة عن أحمد: أن الأم أحق بالغلام مطلقا، كمذهب مالك، أخذت من قوله في رواية حنبل: في الرجل يطلق امرأته وله منها أولاد صغار، فالأم أعطف عليهم مقدار ما يعقلون الأدب، فتكون الأم بهم أحق مالم تتزوج، فإذا تزوجت فالأب أحق بولده، غلاما كان، أو جارية. قال الشيخ أبو البركات: فهذه الرواية تدل على أنه إذ كبر وصار يعقل الأدب فإنه يكون مقره أيضا عند الأم، لكن في وقت الأدب وهو النهار يكون عند الأب، وهذه المدونة مذهب مالك بعينه الذي حكيناه. فصار في المسألة ثلاث روايات. ومذهب مالك في التهذيب أن الأم أحق به مالم يبلغ، والأب يتعاهده عندها، وأدبه وبعثه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند أم.
قلت: وحنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان الإمام أحمد عن مسائل مالك وأهل المدينة، كما كان يسأله إسحاق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثوري وغيره، وكما كان يسأله الميموني عن مسائل الأوزاعي، وكما كان يسأله إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن مسائل أبي حنيفة وأصحابه، فإنه كان قد تفقه على مذهب أبي حنيفة، واجتهد في مسائل كثيرة رجح فيها مذهب أهل الحديث، وسأل عن تلك المسائل أحمد وغيره، وشرحها ابراهيم بن يعقوب الجوزجاني إمام مسجد دمشق.
وأما حضانة البنت إذا صارت مميزة فوجدنا عنه روايتين منصوصتين، وقد نقلهما غير واحد من أصحابه كأبي عبد الله بن تيمية وغيره:
إحداهما: أن الأب أحق بها، كما هو موجود في الكتب المعروفة في مذهبه.
والثانية: أن الأم أحق بها. قال في رواية إسحاق بن منصور: يقضي بالجارية للأم والخالة، حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحق بها. وقال في رواية رضا بن يحيي: إن الأم والجدة أحق بالجارية حتى تتزوج. وقال أبو عبد الله في ترغيب القاصد وإن كانت جارية فالأب أحق بها بغير تخيير. وعنه: الأم أحق بها حتى تحيض.
وهذه الرواية الثانية هي نحو مذهب مالك وأبي حنيفة. ففي المدونة مذهب مالك: أن الأم أحق بالولد مالم يبلغ، سواء كان ذكرا أو أنثي فإذا بلغ وهو أنثي نظرت فإذا كانت الأم في حوز ومنعة وتحصن فهي أحق بها أبدا ما لم تنكح، وإن بلغت أربعين سنة. وإن لم تكن في منع وحرز وتحصن، أو كانت غير مرضية في نفسها فللأب أخذها منها، والوصي، وكذلك الأولياء، والوصى كالأب في ذلك إذا أخذ إلى أمانة وتحصن. ومذهب الليث بن سعد نحو ذلك، قال: الأم أحق بالجارية حتى تبلغ إلا أن تكون الأم غير مرضية في نفسها وأدبها لولدها أخذت منها إذا بلغت، إلا أن تكون صغيرة لا يخاف عليها. وقال أبو حنيفة: الأم والجدة أحق بالجارية حتى تحيض، ومن سوي الأم والجدة أحق بها حتى تبلغ حدا تشتهي، ولفظ الحجازي: حتى تستغني، كما في الغلام مطلقا.
وأما التخيير في الجارية فهو قول الشافعي، ولم أجده منقولا لا عن أحمد، ولا عن إسحاق، كما نقل عنهما التخيير في الغلام، ولكن نقل عن الحسن بن صالح بن حيي: أنها تخير إذا كانت كاعبا، والتخيير في الغلام. ومذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وإسحاق للحديث الوارد في ذلك حيث خير النبي ﷺ غلاما بين أبويه، وهي قضية معينة. ولم يرد عنه نص عام في تخيير الولد مطلقا، والحديث الوارد في تخيير الجارية ضعيف مخالف لإجماعهم.
والفرق بين تخيير الغلام والجارية: أن هذا التخيير تخيير شهوة، وتخيير رأي مصلحة، كتخيير من يتصرف لغيره كالإمام والولي، فإن الإمام إذا خير في الأسري بين القتل والاسترقاق والمن والفداء فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين فيكون مصيبا في اجتهاده، حاكما بحكم الله، ويكون له أجران، وقد لا يصيبه فيثاب على استفراغ وسعه ولا يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة، كالذي ينزل أهل حصن على حكمه، كما نزل بنوا قريظة على حكم النبي ﷺ. فلما سأله فيهم بنو عبد الأشهل، قال: (ألا ترضون أن أجعل الأمر إلى سيدكم سعد بن معاذ)، فرضوا بذلك، وطمع من كان يجب استبقاءهم أن سعدا يحابيهم، لما كان بينه وبينهم في الجاهلية من المولاة، فلما أتي سعد حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبي ذراريهم، وتقسم أموالهم، فقال النبي ﷺ: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات)، وهذا يقتضي أنه لو حكم بغير ذلك لم يكن ذلك حكما لله في نفس الأمر. وإن كان لابد من إنقاذه.
ومثل ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث بريدة المشهور قال فيه: (وإذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك). ولهذا قال الفقهاء: إنه إذا حاصر الإمام حصنا فنزلوا على حكم حاكم جاز، إذا كان رجلا حرا، مسلما، عدلا، من أهل الاجتهاد في أمر الجهاد، ولا يحكم إلا بما فيه حظ الإسلام، من قتل، أو رق، أو فداء. وتنازعوا فيما إذا حكم بالمن فأباه الإمام: هل يلزم حكمه أو لا يلزم؟ أو يفرق بين المقاتلة والذرية؟ على ثلاثة أقوال. وإنما تنازعوا في ذلك لظن المنازع أن المن لاحظ فيه للمسلمين.
والمقصود أن تخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير رأي ومصلحة يطلب أي الأمرين كان أرضي لله ورسوله فعله، كما ينظر المجتهد في أدلة المسائل، فأي الدليلين كان أرجح اتبعه، ولكن معني قولنا تخيير أنه لا يتعين فعل واحد من هذه الأمور في كل وقت، بل قد يتعين فعل هذا تارة، وهذا تارة. وقوله في القرآن: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } [70]، يقتضي فعل أحد الأمرين، وذلك لا يمنع تغيير هذا في حال وهذا في حال، كما في قوله: { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } [71]، فتربص أحد الأمرين لا يمتنع بعينه إذا كان الجهاد فرضا علينا بعض الأوقات، فحينئذ يصيبه الله بعذاب بأيدينا، كما في قوله: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عليهمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [72].
ولهذا كان عند جميع العلماء قوله تعالى في المحاربين: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ } [73]، لا يقتضي أن الإمام يخير تخيير مشيئة، ففعل هذه الأربع مسائل كلهم متفقون على أنه يتعين هذا في حال، وهذا في حال. ثم أكثرهم يقولون: تلك الأحوال مضبوطة بالنص، فإن قتلوا تعين قتلهم، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا تعين قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وروي في ذلك حديث مرفوع. ومنهم من يقول: التعيين باجتهاد الإمام كقول مالك، فإذا رأي أن القتل هو المصلحة قتل، وإن لم يكن قد قتل.
ومن هذا الباب تخيير الإمام في الأرض المفتوحة عنوة بين جعلها فيء ا، وبين جعلها غنيمة، كما هو قول الأكثرين كأبي حنيفة، والثوري، وأبي عبيد، وأحمد في المشهور عنه فإنهم قالوا: إن رأي المصلحة جعلها غنيمة قسمها بين الغانمين، كما قسم النبي ﷺ خيبر، وإن رأي أن لا يقسمها جاز، كما لم يقسم النبي ﷺ مكة، مع أنه فتحها عنوة شهدت بذلك الأحاديث الصحيحة، والسيرة المستفيضة، وكما قاله جمهور العلماء؛ ولأن خلفاءه بعده أبو بكر، وعمر، وعثمان فتحوا ما فتحوا من أرض العرب والروم وفارس، كالعراق، والشام، ومصر، وخراسان، ولم يقسم أحد من الخلفاء شيئا من العقار المغنوم بين الغانمين، لا السواد، ولا غير السواد، بل جعل العقار فيء ا للمسلمين داخلا في قوله: { مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } الآية [74]، ولم يستأذنوا في ذلك الغانمين، بل طلب كثير من الغانمين قسم العقار فلم يجيبوهم إلى ذلك، كما طلب بلال من عمر أن يقسم أرض الشام، وطلب منه الزبير أن يقسم أرض مصر، فلم يجيبوهم إلى ذلك، ولم يستطب أحد من الخلفاء أحدا من الغانمين في ذلك.
وهذا مما احتج به من جعل الأرض فيء ا بنفس الفتح، ومن ذلك نص مذهبه كإسماعيل ابن إسحاق، وقالوا الأرض ليست داخلة في الغنيمة، فإن الله حرم على بني إسرائيل المغانم، وملكهم العقار، فعلم أنه ليس في المغانم. وهذا القول هو الذي يذكر رواية عن أحمد، كما ذكر عنه رواية ثالثة كقول الشافعي: إنه يجب قسم العقار، والمنقول؛ لأن الجميع مغنوم، وقال الشافعي: إن مكة لم تفتح عنوة، بل صلحا، فلا يكون على منها حجة. ومن حكي عنه أنه قال: إنها فتحت عنوة كصاحب الوسيط وغيره فقد غلط عليه، وقال: لأن السواد لا أدري ما أقول فيه، إلا أن أظن فيه ظنا مقرونا بعلم، وظن أن عمر استطاب الغانمين، كما روي قيس بن حارثة. وبسط هذا له موضع آخر.
وقول الجمهور أعدل الأقاويل وأشبهها بالكتاب والسنة والأصول، وهم الذين قالوا: نخير الإمام بين الأمرين تخيير رأي ومصلحة لا تخيير شهوة ومشيئة، وهكذا سائر ما يخير فيه ولاة الأمر ومن تصرف لغيره بولاية: كناظر الوقف، ووصى اليتيم، والوكيل المطلق، لا يخيرون تخيير مشيئة وشهوة، بل تخيير اجتهاد ونظر وطلب الجواز الأصلح كالرجل المبتلى بعدوين، وهو مضطر إلى الابتداء بأحدهما. فيبتديء بماله أنفع كالإمام في تولية من يوليه من ولاة الحرب، والحكم، والمال يختار الأصلح فالأصلح للمسلمين (فمن ولي رجلا على عصابة وهو يجد فيهم من هو أرضًا لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين).
وهذا بخلاف من خير بين شيئين فله أن يفعل أيهما شاء كالمكفر إذا خير بين الإطعام والكسوة والعتق، فإنه وإن كان أحد الخصال أفضل فيجوز له فعل المفضول. وكذلك لابس الخف إذا خير بين المسح وبين الغسل، وإن كان أحدهما أفضل. وكذلك المصلي إذا خير بين الصلاة في أول الوقت وآخره، وإن كان أحدهما أفضل. وكذلك تخيير الآكل والشارب بين أنواع الأطعمة والأشربة المباحة، وإن كان نفس الأكل والشرب واجبا عند الضرورة حتى إذا تعين المأكول وجب أكله وإن كان ميتة، فمن اضطر إلى أكل الميته وجب عليه أكلها في المشهور عن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم.
وفي كفارة المجامع في رمضان هل هي على التخيير أو على الترتيب؟ فيها قولان، وهما روايتان عن أحمد، والأكثرون على أنها على الترتيب، لكن الترتيب فيها ثبت بحكاية المجامع، لا بلفظ عام؛ فلهذا أقدم بعض العلماء على أن ألزم بعض الملوك بالصوم عينا، وأن الترتيب فيها ليس شرعا عاما، بل هو من
باب تنقيح المناط، وقدم العتق في حق من يكون عنده أصعب من الصيام كالأعراب وأما من كان العتق أسهل عليه فلا يجب تقديمه.
وكذلك تخيير الحاج بين التمتع والإفراد والقران عند الجمهور الذين يخيرون بين الثلاثة، وتخيير المسافرين بين الفطر والصوم عند الجمهور. وأما من يقول: لا يجوز أن يحج إلا متمتعا، أو أنه يتعين الفطر في السفر كما تقوله طائفة من السلف والخلف من أهل السنة والشيعة فلا يجيء هذا على أصلهم.
وكذلك القصر عند الجمهور الذين يقولون: ليس للمسافر أن يصلي إلا ركعتين ليس له أن يصلي أربعا، فإن النبي ﷺ لم يصل في السفر قط إلا ركعتين، ولا أحد من أصحابه في حياته. وحديث عائشة الذي فيه أنها صلت في حياته السفر أربعا كذب عند حذاق أهل العلم بالحديث. كما قد بسط في موضعه.
إذ المقصود هنا أن التخيير في الشرع نوعان، فمن خير فيما يفعله لغيره بولايته عليه، وبوكالة مطلقة، لم يبح له فيها فعل ماشاء، بل عليه أن يختار الأصلح، وأما من تصرف لنفسه، فتارة يأمره الشارع باختيار ما هو الأصلح بحسب اجتهاده، كما يأمر المجتهد بطلب أقوي الأقاويل وأصلح الأحكام في نفس الأمر. وتارة يبيح له ماشاء من الأنواع التي خير بينها، كما تقدم. هذا إذا كان مكلفا.
وأما الصبي المميز يخير تخيير شهوة حيث ما كان كل من الأبوين نظير الآخر، ولم يضبط في حقه حكم عام للأب أو للأم، فلا يمكن أن يقال: كل أب فهو أصلح للميز من الأم، ولا كل أم هي أصلح له من الأب، بل قد يكون بعض الآباء أصلح، وبعض الأمهات أصلح. وقد يكون الأب أصلح في حال، والأم أصلح في حال. فلم يمكن أن يعين أحدهما في هذا، بخلاف الصغير فإن الأم أصلح له من الأب؛ لأن النساء أرفق بالصغير، وأخبر بتعذيته وحمله وأصبر على ذلك، وأرحم به، فهي أقدر، وأخبر، وأرحم وأصبر في هذا الموضع فعينت الأم في حق الطفل غير المميز بالشرع.
ولكن يبقي تنقيح المناط: هل عينهن الشارع؛ لكون قرابة الأم مقدمة على قرابة الأب في الحضانة، أو لكون النساء أقوم بمقصود الحضانة من الرجال فقط؟ وهذا فيه قولان للعلماء. يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم مثل أم الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، ومثل العمة، والخالة ونحو ذلك هذا فيه قولان هما روايتان عن أحمد وأرجح القولين في الحجة تقديم نساء العصبة، وهو الذي ذكره الخرقي في مختصره في العمة والخالة.
وعلى هذا أم الأب مقدمة على أم الأم. والأخت من الأب مقدمة على الأخت من الأم. والعمة مقدمة على الخالة، كما تقدم. وأقارب الأب من الرجال على أقارب الأم، والأخ للأب أولى من الأخ للأم، والعم أولى من الخال، بل قد قيل: أنه لا حضانة للرجال من أقارب الأم بحال، والحضانة لا تثبت إلا لرجل من العصبة، أو لامرأة وارثة، أو مدلية بعصبة أو وارث، فإن عدموا فالحاكم. وعلى الوجه الثاني فلا حضانة للرجال من أقارب الأم، وهذان الوجهان في مذهب الشافعي وأحمد.
فلو كانت جهات الأقربة راجحة لترجح رجالها ونساؤها، فلما لم يترجح رجالها بالاتفاق فكذلك نساؤها أيضًا؛ لأن مجمع أصول الشرع إنما يقدم أقارب الأب في الميراث والعقد والنفقة وولاية الموت والمال وغير ذلك، ولم يقدم الشارع قرابة الأم في حكم من الأحكام، فمن قدمهن في الحضانة فقد خالف أصول الشريعة، ولكن قدم الأم لأنها امرأة وجنس النساء في الحضانة مقدمات على الرجال. وهذا يقتضي تقديم الجدة أم الأب على الجد. كما قدم الأم على الأب، وتقديم أخواته على إخوته، وعماته على أعمامه، وخالاته على أخواله، هذا هو القياس والاعتبار الصحيح.
وأما تقديم جنس نساء الأم على نساء الأب فمخالف للأصول والعقول؛ ولهذا كان من قال هذا موضع يتناقض ولا يطرد أصله؛ ولهذا تجد لمن لم يضبط أصل الشرع ومقصوده في ذلك أقوالا متناقضة، حتى توجد في الحضانة من الأقوال المتناقضة أكثر مما يوجد في غيرها من هذا الجنس. فمنهم من يقدم أم الأم على أم الأب، كأحد القولين من مذهب أحمد، وهو عند مالك والشافعي وأبي حنيفة. ثم من هؤلاء من يقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، ويقدم الخالة على العمة، كقول الشافعي في الجديد، وطائفة من أصحاب أحمد. وبنوا قولهم على أن الخالات مقدمة على العمات؛ لكونهن من جهة الأم. ثم قالوا في العمات والخالات والأخوات: من كانت لأبوين أولي، ثم من كانت لأب، ثم من كانت لأم.
وهذا الذي قالوه هنا موافق لأصول الشرع، لكن إذا ضم هذا إلى قولهم بتقديم قرابة الأم ظهر التناقض. وهم أيضا قالوا بتقديم أمهات الأب والجد على الخالات والأخوات للأم، وهذا موافق لأصول الشرع، لكنه يناقض هذا الأصل؛ ولهذا لا يوافق القول الآخر أن الخالة والأخت للأم أولى من أم الأب، كقول الشافعي في القديم، وهذا أطرد لأصلهم، لكنه في غاية المناقضة لأصول الشرع.
وطائفة أخرى طردت أصلها فقدمت من الأخوات من كانت لأم على من كانت لأب؛ لقول أبي حنيفة والمزني وابن سريج. وبالغ بعض هؤلاء في طرد قياسه حتى قدم الخالة على الأخت من الأب، لقول زفر، ورواية عن أبي حنيفة، ووافقها ابن سريج ولكن أبو يوسف استشنع ذلك فقدم الأخت من الأب رواه عن أبي حنيفة، وروي عن زفر أنه أمعن في طرد قياسه حتى قال: إن الخالة أولى من الجدة أم الأب.
ويروون عن أبي حنيفة أنه قال: لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنكم إذا أخذتم بمقاييس زفر حرمتم الحلال وحللتم الحرام، وكان يقول: من القياس قياس أقبح من البول في المسجد. وزفر كان معروفا بالإمعان في طرد قياسه إلى الأصل الثابت في الذي قاس عليه، ومن علة الحكم في الأصل وهو جواب سؤال المطالبة، فمن أحكم هذا الأصل استقام قياسه.
كما أن زفرًا اعتقد أن النكاح إلى أجل يبطل فيه التوقيت، ويصح النكاح لازما. وخرج بعضهم ذلك قولا في مذهب أحمد، فكان مضمون هذا القول: أن نكاح المتعة يصح لازما غير موقت، وهو خلاف المنصوص وخلاف إجماع السلف. والأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم أحداث قول يناقض القولين ويتضمن إجماع السلف على الخطأ والعدول عن الصواب، وليس في السلف من يقول في المتعة إلا أنها باطلة، أو تصح مؤجلة. فالقول بلزومها مطلقا خلاف الإجماع.
وسبب هذا القول اعتقادهم أن كل شرط فاسد في النكاح فإنه يبطل وينعقد النكاح لازما، مع إبطال شرط التحليل. وأمثال ذلك. وقد ثبت في الصحيحين عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ أنه قال: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)، فدل النص على أن الوفاء بالشروط في النكاح أولى منه بالوفاء بالشروط في البيع، فإذا كانت الشروط الفاسدة في البيع لا يلزم العقد بدونها، بل إما أن يبطل العقد، وإما أن يثبت الخيار لمن فات غرضه بالاشتراط إذا بطل الشرط، فكيف بالمشروط في النكاح؟
وأصل عمدتهم كون النكاح يصح بدون تقدير الصداق، كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، فقاسوا الذي يشرط فيه نفي المهر على النكاح الذي لم يزل تقدير الصداق فيه، كما فعل أصحاب أبي حنيفة والشافعي، وأكثر متأخرى أصحاب أحمد.
ثم طرد أبو حنيفة قياسه فصحح نكاح الشغار بناء على أنه لا يوجب إشغاره عن المهر. وأما الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد فتكلفوا الفرق بين الشغار وغيره؛ لأن فيه تشريكا في البضع، أو تعليق العقد أو غير ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع. وبين فيه أن كل هذه فروق غير مؤثرة. وأن الصواب مذهب أهل المدينة مالك وغيره، وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته، وعامة أكثر قدماء أصحابه: أن العلة في إفساده بشرط إشغار النكاح عن المهر، وأن النكاح ليس بلازم إذا شرط فيه نفي المهر أو مهر فاسد، فإن الله فرض فيه المهر، فلم يحل لغير الرسول النكاح بلا مهر، فمن تزوج بشرط أنه لا يجب مهر فلم يعتبر الذي أذن الله، فإن الله إنما أباح العقد لمن يبتغي بماله محصنا غير مسافح، كما قال تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } [75]، فمن طلب النكاح بلا مهر فلم يفعل ما أحل الله، وهذا بخلاف من اعتقد أنه لابد من مهر، لكن لم يقدره، كما قال تعالى: { لاَّ جُنَاحَ عليكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } [76]، فهذا نكاح المهر المعروف، وهو مهر المثل.
وهذا هو الفرق بين النكاح وبين البيع، فإن البيع بثمن المثل وهو السعر، أو الإجارة بثمن المثل لا يصح. وقد سلم لهم هذا الأصل الذي قاسوا عليه الشافعي وكثير من أصحاب أحمد في البيع.
وأما الإجارة فأصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم يقولون: يجب أجرة المثل فيما جرت العادة فيه، ومثل ذلك كمن دخل حمام حمامي يدخلها الناس بالكرا، أو يسكن في خان أو حجرة عادتها بذلك، أو دفع طعامه أو خبزه إلى من يطبخ أو يخبز بالأجرة، أو بناية إلى من يعمل بالأجرة، أو ركب دابة مكاري يكاري بالأجرة، أو سفينة ملاح يركب بالأجرة، فإن هذه إجارة عند جمهور العلماء، ويجب فيها أجرة المثل وإن لم يشترط ذلك، فهذه إجارة المثل، وكذلك إذا ابتاع طعاما مثل ما ينقطع به السعر، أو بسعر ما يبيعون الناس، أو بما اشتراه من بلده، أو برقمه، فهذا يجوز في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره. وقد نص أحمد على هذه المسائل ومثلها في غير هذا الموضوع، وأن كثيرًا من متأخرى أصحابه لا يوجد في كتبهم إلا كقول بفساد هذه العقول لقول الشافعي وغيره. وبسط هذه المسائل له مواضع أخر.
والمقصود هنا كان مسائل الحضانة وإن الذين اعتقدوا أن الأم قدمت لتقدم قرابة الأم لما كان أصلهم ضعيفا كانت الفروع اللازمة للأصل الضعيف ضعيفة، وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم، بل الصواب بلا ريب أنها قدمت لكونها امرأة، فتكون المرأة أحق بحضانة الصغير من الرجل فتقدم الأم على الأب، والجدة على الجد، والأخت على الأخ، والخالة على الخال، والعمة على العم. وأما إذا اجتمع امرأة بعيدة ورجل قريب فهذا بسطه في موضع آخر. إذ المقصود هنا ذكر مسألة الصغير المميز، والفرق بين الصبي والصبية.
فتخيير الصبي الذي وردت به السنة أولى من تعيين أحب الأبوين له؛ ولهذا كان تعيين الأب، كما قاله أبو حنيفة وأحمد.. الأم كما قاله مالك وأحمد في رواية، والتخيير تخيير شهوة؛ ولهذا قالوا: إذا اختار الأب مدة ثم اختار الأم فله ذلك، حتى قالوا: متى اختار أحدهما ثم اختار الآخر نقل إليه، وكذلك إن اختار أبدا. وهذا هو قول القائلين بالتخيير الحسن بن صالح، والشافعي، وأحمد بن حنبل وقالوا: إذا اختار الأم كان عندها ليلا، وأما بالنهار فيكون عند الأب، ليعلمه ويؤدبه. هذا هو مذهب الشافعي وأحمد. وكذلك قال مالك، وهو يقول: يكون عندها بلا تخيير، والأب يتعاهده عندها، وأدبه وبعثه للمكتب ولا يبيت إلا عند الأم. قال أصحاب الشافعي وأحمد: إن اختار الأب كان عنده ليلا ونهارا، ولم يمنع من زيارة أمه، ولا تمنع الأم من تمريضه إذا اعتل.
فأما البنت إذا خيرت فكانت عند الأم تارة، وعند الأب تارة أفضي ذلك إلى كثرة بروزها، وتبرجها، وانتقالها من مكان إلى مكان، ولا يبقي الأب موكلا بحفظها، ولا الأم موكلة بحفظها. وقد عرف بالعادة أن ما يتناوب الناس على حفظه ضاع، ومن الأمثال السائرة: لا يصلح القدر بين طباخين.
وأيضًا، فاختيار أحدهما يضعف رغبة الآخر في الإحسان والصيانة فلا يبقي الأب تام الرغبة ولا الأم تامة الرغبة في حفظها، وليس الذكر كالأنثي، كما قالت امرأة عمران: { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } [77]، { إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى } [78]، { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عليها زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ } إلى قوله: { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } [79]، فهذه مريم احتاجت إلى من يكفلها ويحضنها حتى أسرعوا إلى كفالتها، فكيف غيرها من النساء، وهذا أمر معروف بالتجربة أن المرأة تحتاج من الحفظ والصيانة ما لا يحتاج إليه الصبي، وكل ما كان أستر لها وأصون كان أصلح لها.
ولهذا كان لباسها المشروع لباسًا يسترها، ولعن من يلبس لباس الرجال، وقال لأم سلمة في عصابتها: (ليلة لا ليلتين) رواه أبو داود وغيره، وقال في الحديث الصحيح: (صنفان من أهل النار من أمتى لم أرهما بعد: نساء كاسيات، عاريات، مائلات، مميلات، على رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله).
وأيضًا، يأمرون المرأة في الصلاة أن تجمع ولا تجافي بين أعضائها، وتتربع ولا تفترش، وفي الإحرام لا ترفع صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها، وأن لا ترقي فوق الصفا والمروة. كل ذلك لتحقيق سترها وصيانتها، ونهيت أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم، لحاجتها في حفظها إلى الرجال، مع كبرها ومعرفتها. فكيف إذا كانت صغيرة مميزة، وقد بلغت سن ثوران الشهوة فيها، وهي قابلة للانخداع؟ !! وفي الحديث (النساء لحم على وضم إلا ماذب عنه)
فهذا قياس أن مثل هذه الصفة المميزة من أحوج النساء إلى حفظها وصونها، وترددها بين الأبوين مما يخل بذلك من جهة أنها هي لا يجتمع قلبها على مكان معين، ولا يجتمع قلب أحد الأبوين على حفظها. ومن جهة أن تمكينها من اختيار هذا تارة وهذا تارة يخل بكمال حفظها، وهو ذريعة إلى ظهورها وبروزها، فكان الأصلح لها أن تجعل عند أحد الأبوين مطلقًا، لا تمكن من التخيير، كما قال ذلك جمهور علماء المسلمين: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد وغيرهم. وليس في تخييرها نص ولا قياس صحيح، والفرق ظاهر بين تخييرها وتخيير الابن، لا سيما والذكر محبوب مرغوب، والبنت مزهود فيها، فأحد الوالدين قد يزهد فيها مع رغبتها فيه، فكيف زهدها فيه؟ فالأصلح لها لزوم أحدهما، لا التردد بينهما.
ثم هناك يحصل الاجتهاد في تعيين أحدهما، فمن عين الأم كمالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، لابد أن يراعوا مع ذلك صيانة الأم لها؛ ولهذا قالوا: ما ذكره مالك والليث وغيرهما: إذا لم تكن الأم في موضع حرز وتحصين، أو كانت غير مرضية، فللأب أخذها منها، وهذا هو الذي راعاه أحمد في الراوية المشهورة عن أصحابه؛ فإنه إذا كان لابد من رعاية حفظها وصيانتها، وأن للأب أن ينتزعها من الأم إذا لم تكن حافظة لها بلا ريب، فالأب أقدر على حفظها وصيانتها، وهي مميزة لا تحتاج في بدنها إلى أحد، والأب له من الهيبة والحرمة ما ليس للأم.
وأحمد وأصحابه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها في ذلك حرز، فلو قدر أن الأب عاجز عن حفظها وصيانتها، أو مهمل لحفظها وصيانتها، فإنه يقدم الأم في هذه الحالة.
فكل من قدمناه من الأبوين إنما نقدمه إذا حصل به مصلحتها، أو اندفعت به مفسدتها. فأما مع وجود فساد أمرها مع أحدهما فالآخر أولى بها بلا ريب، حتى الصغير إذا اختار أحد أبويه وقدمناه إنما نقدمه بشرط حصول مصلحته وزوال مفسدته.
فلو قدرنا أن الأب ديوث لا يصونه، والأم تصونه، لم نلتفت إلى اختيار الصبي، فإنه ضعيف العقل قد يختار أحدهما لكونه يوافق هواه الفاسد، ويكون الصبي قصده الفجور، ومعاشرة الفجار، وترك ما ينفعه من العلم والدين والأدب والصناعة، فيختار من أبويه من يحصل له معه ما يهواه، والآخر قد يرده ويصلحه، ومتى كان الأمر كذلك فلا ريب أنه لا يمكن من يفسد معه حاله.
والنبي ﷺ قال: (مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، فمتى كان أحد الأبوين يأمره بذلك والآخر لا يأمره كان عند الذي يأمره بذلك دون الآخر؛ لأن ذلك الآمر له هو المطيع لله ورسوله في تربيته، والآخر عاص لله ورسوله، فلا نقدم من يعصي الله فيه على من يطع الله فيه، بل يجب إذا كان أحد الأبوين يفعل معه ما أمر الله به ورسوله، ويترك ما حرم الله ورسوله، والآخر لا يفعل معه الواجب، أو يفعل معه الحرام، قدم من يفعل الواجب، ولو اختار الصبي غيره، بل ذلك العاصي لا ولاية له عليه بحال، بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له عليه، بل إما ترفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب، وإما أن نضم إليه من يقوم معه بالواجب، فإذا كان مع حصوله عند أحد الأبوين لا تحصل طاعة الله ورسوله في حقه، ومع حصوله عند الآخر تحصل، قدم الأول قطعًا.
وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم والنكاح والولاية إن كان الوارث حاجزًا أو عاجزًا، بل هو من جنس الولاية ولاية النكاح والمال التي لابد فيها من القدرة على الواجب وفعله بحسب الإمكان وإذا قدر أن الأب تزوج ضرة، وهي تترك عند ضرة أمها، لا تعمل مصلحتها، بل تؤذيها أو تقصر في مصلحتها، وأمها تعمل مصلحتها ولا تؤذيها، فالحضانة هنا للأم. ولو قدر أن التخيير مشروع، وأنها اختارت الأم فكيف إذا لم يكن كذلك.
ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس له نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقًا، والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقًا، بل مع العدوان والتفريط لا يقدم من يكون كذلك على البر العادل الحسن القائم بالواجب. والله أعلم.
سئل عن رجل له ولد كبير فسافر مع كرائم أمواله في البحرالمالح وله آخر مراهق فأراد تسفيره مع أخيه بغير رضا الوالدة
وسئل رحمه الله عن رجل له ولد كبير، فسافر مع كرائم أمواله في البحرالمالح، وله آخر مراهق من أم أخرى مطلقة منه، ولها أب وأم، والولد عندهم مقيم، فأراد والده أخذه وتسفيره صحبة أخيه بغير رضا الوالدة، وغير رضا الولد، فهل له ذلك؟
فأجاب:
يخير الولد بين أبويه، فإن اختار المقام عند أمه وهي غير مزوجة كان عندها ولم يكن للأب تسفيره، لكن يكون عند أبيه نهارا ليعلمه ويؤدبه وعند أمه ليلا. وإن اختار أن يكون عند الأب كان عنده. وإذا كان عند الأب ورأي من المصلحة له تسفيره ولم يكن في ذلك ضرر على الولد فله ذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل تزوج بامرأة ومعها بنت وتوفيت الزوجة وبقيت البنت عنده رباها وقد تعرض بعض الجند لأخذها فهل يجوز ذلك
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج بامرأة، ومعها بنت، وتوفيت الزوجة، وبقيت البنت عنده رباها، وقد تعرض بعض الجند لأخذها: فهل يجوز ذلك؟
الجواب:
ليس للجند عليها ولاية بمجرد ذلك، فإذا لم يكن لها من يستحق الحضانة بالنسب فمن كان أصلح لها حضنها، وزوج أمها محرم لها. وأما الجند فليس محرمًا لها، فإذا كان يحضنها حضانة تصلحها لم تنقل من عنده لأجنبي لا يحل له النظر إليها، والخلوة بها.
فصل إذا كان الابن في حضانة أمه فأنفقت عليه ناوية الرجوع على الأب
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
إذا كان الابن في حضانة أمه، فأنفقت عليه تنوي بذلك الرجوع على الأب، فلها أن ترجع على الأب في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب مالك وأحمد في ظاهر مذهبه، الذي عليه قدماء أصحابه، فإن من أصلهما أن من أدي عن غيره واجبًا رجع عليه، وإن فعله بغير إذن، مثل أن يقضي دينه، أو ينفق على عبده، أو يخشي أن يقتله العدو، وقد قال تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [80]، فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع، ولم يشترط عقدًا ولا إذنا. فإن تبرعت بذلك لم يكن لها أن ترجع. فإذا شرط عليها أنها إن سافرت بالبنت لم يكن لها نفقة ورضيت بذلك فسافرت بها لم يكن لها نفقة، ولو نوت الرجوع؛ لأنها ظالمة متعدية بالسفر به؛ فإنه ليس لها أن تسافر به بغير إذن أبيه، وهو لم يأذن لها في السفر إلا إذا كانت متبرعة بالنفقة، فمتى سافرت وطلبت الرجوع بالنفقة لم يكن لها ذلك. والله أعلم.
كتاب الجنايات
سئل عن القصاص
سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن القصاص.
فأجاب:
القصاص ثابت بين المسلمين باتفاق الأمة، يقتص لله اشمي المسلم من الحبشي المسلم، وللحبشي المسلم من الهاشمي المسلم: في الدماء، والأموال، والأعراض، وغير ذلك. بحيث يجوز القصاص في الأعراض يجوز للرجل أن يقتص. فإذا قال له الهاشمي: يا كلب، قال له: يا كلب! وإذا قال: لعنك الله، قال له: لعنك الله. ويجوز ذلك. وهذا من معني قوله تعالى: { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عليهم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ اليمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [81].
ولو كذب عليه لم يكن له أن يكذب عليه. وكذلك من سب أبا رجل فليس له أن يسب أباه، سواء كان هاشميا أو غير هاشمي، فإن أبا الساب لم يظلمه، وإنما ظلمه الساب { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [82]، ولكن إن سب مسلم أبا مسلم فإنه يعزر على ذلك. فالهاشمي إذا سب أبا مسلم عزر الهاشمي على ذلك.
ومن سب أبا هاشمي عزر على ذلك، ولا يجعل ذلك سبًا للنبي ﷺ؛ ولو سب أباه وجده لم يحمل على النبي ﷺ، فإن اللفظ ليس ظاهرًا في ذلك، إذ الجد المطلق: هو أبو الأب. وإذا سمي العبد جدًا فأجداده كثيرة، فلا يتعين واحد، وسب النبي ﷺ كفر يوجب القتل، فلا يزول الإيمان المتعين بالشك، ولا يباح الدم المعصوم بالشك، لا سيما والغالب من حال المسلم هو أن لا يقصد النبي ﷺ، فلا لفظه ولا حاله يقتضي ذلك، ولا يقبل عليه قول من ادعي أنه قصد الرسول ﷺ بلا حجة. والله أعلم.
سئل عن حكم قتل المتعمد
وسئل شيخ الإسلام عن حكم قتل المتعمد، وما هو: هل إن قتله على مال، أو حقد، أو على أي شيء يكون قتل المتعمد؟ وقال قائل: إن كان قتل على مال فما هو هذا أو على حقد، أو على دين، فما هو متعمد. فقال القائل: فالمتعمد قال: إذا قتله على دين الإسلام لا يكون مسلمًا.
فأجاب:
الحمد لله أما إذا قتله على دين الإسلام مثل ما يقاتل النصراني المسلمين على دينهم فهذا كافر شر من الكافر المعاهد، فإن هذا كافر محارب بمنزلة الكفار الذين يقاتلون النبي ﷺ وأصحابه وهؤلاء مخلدون في جهنم، كتخليد غيرهم من الكفار.
وأما إذا قتله قتلا محرمًا؛ لعداوة، أو مال، أو خصومة، ونحو ذلك فهذا من الكبائر، ولا يكفر بمجرد ذلك عند أهل السنة والجماعة، وإنما يكفر بمثل هذا الخوارج، ولا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد عند أهل السنة والجماعة، خلافًا للمعتزلة الذين يقولون بتخليد فساق الملة. وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عليه وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [83]، وجوابهم: على أنها محمولة على المتعمد لقتله على إيمانه، وأكثر الناس لم يحملوها على هذا، بل قالوا: هذا وعيد مطلق قد فسره قوله تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [84]، وفي ذلك حكاية عن بعض أهل السنة أنه كان في مجلس فيه عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة فقال عمرو: يؤتي بي يوم القيامة فيقال لي: يا عمرو، من أين قلت: إني لا أغفر لقاتل؟ فأقول: أنت يارب قلت: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } [85]. قال: فقلت له: فإن قال لك: فإني قلت: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [86] فمن أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ فسكت عمرو بن عبيد!!
سئل عن القاتل عمدا أو خطأ
وسئل رحمه الله تعالى عن القاتل عمدًا، أو خطأ: هل تدفع الكفارة المذكورة في القرآن { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } [87] أو يطالب بدية القاتل؟
فأجاب:
قتل الخطأ لا يجب فيه إلا الدية والكفارة، ولا إثم فيه. وأما القاتل عمدًا فعليه الإثم، فإذا عفي عنه أولياء المقتول، أو أخذوا الدية، لم يسقط بذلك حق المقتول في الآخرة. وإذا قتلوه ففيه نزاع في مذهب أحمد. والأظهر ألا يسقط، لكن القاتل إذا كثرت حسناته أخذ منه بعضها ما يرضي به المقتول، أو يعوضه الله من عنده إذا تاب القاتل توبة نصوحا.
وقاتل الخطأ تجب عليه الدية بنص القرآن واتفاق الأمة، والدية تجب للمسلم والمعاهد، كما قد دل عليه القرآن، وهو قول السلف والأئمة، ولا يعرف فيه خلاف متقدم، لكن بعض متأخرى الظاهرية زعم أنه الذي لا دية له.
وأما القاتل عمدًا ففيه القود، فإن اصطلحوا على الدية جاز ذلك بالنص والإجماع، فكانت الدية من مال القاتل، بخلاف الخطأ فإن ديته على عاقلته.
وأما الكفارة فجمهور العلماء يقولون: قتل العمد أعظم من أن يكفر، وكذلك قالوا في اليمين الغموس. هذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، كما اتفقوا كلهم على أن الزنا أعظم من أن يكفر فإنما وجبت الكفارة بوطء المظاهر، والوطء في رمضان. وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى، بل تجب الكفارة في العمد، واليمين الغموس. واتفقوا على أن الإثم لا يسقط بمجرد الكفارة.
سئل عن جماعة اشتركوا في قتل رجل وله ورثة صغار وكبار فهل لأولاده الكبار أن يقتلوهم أم لا
وسئل رحمه الله تعالى عن جماعة اشتركوا في قتل رجل، وله ورثة صغار وكبار، فهل لأولاده الكبار أن يقتلوهم، أم لا؟ وإذا وافق ولي الصغار الحاكم أو غيره على القتل مع الكبار، فهل يقتلون، أم لا؟
فأجاب:
إذا اشتركوا في قتله وجب القود على جميعهم باتفاق الأئمة الأربعة، وللورثة أن يقتلوا، ولهم أن يعفوا. فإذا اتفق الكبار من الورثة على قتلهم فلهم ذلك عند أكثر العلماء كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين وكذا إذا وافق ولي الصغار الحاكم أو غيره على القتل مع الكبار فيقتلون.
سئل عن الإنسان يقتل مؤمنا متعمدا أو خطأ وأخذ منه القصاص في الدنيا فهل عليه القصاص في الآخرة
وسئل رحمه الله عن الإنسان يقتل مؤمنًا متعمدًا أو خطأ، وأخذ منه القصاص في الدنيا أولياء المقتول والسلطان، فهل عليه القصاص في الآخرة، أم لا؟ وقد قال تعالى: { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [88].
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما القاتل خطأ فلا يؤخذ منه قصاص، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، لكن الواجب في ذلك الكفارة، ودية مسلمة إلى أهل القتيل، إلا أن يصدقوا. وأما القاتل عمدًا إذا اقتص منه في الدنيا: فهل للمقتول أن يستوفي حقه في الآخرة؟ فيه قولان في مذهب أحمد، وكذلك غيره فيما أظن من يقول: لا حق له عليه؛ لأن الذي عليه استوفي منه في الدنيا. ومنهم من يقول: بل عليه حق، فإن حقه لم يسقط بقتل الورثة، كما لم يسقط حق الله بذلك، وكما لا يسقط حق المظلوم الذي غصب ماله وأعيد إلى ورثته، بل له أن يطالب الظالم بما حرمه من الانتفاع به في حياته. والله أعلم.
سئل عن رجل قتل رجلا عمدا وللمقتول بنت عمرها خمس سنين وزوجته حامل منه وأبناء عم
وسئل رحمه الله عن رجل قتل رجلا عمدًا، وللمقتول بنت عمرها خمس سنين، وزوجته حامل منه، وأبناء عم: فهل يجوز أن يقتص منه قبل بلوغ البنت ووضع الحمل، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، ليس لسائر الورثة قبل وضع الحمل أن يقتصوا منه، إلا عند مالك، فإن عنده للعصبة أن يقتصوا منه قبل ذلك. أما إن وضعت بنتًا أو بنتين بحيث يكون لابني العم نصيب من التركة، كان للعصبة أن يقتصوا قبل بلوغ البنات عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية، ولم يجز لهن القصاص في المشهور عنه، وهو قول الشافعي.
وهل لولي البنات كالحاكم أن يقوم مقامهن في الاستيفاء والصلح على مال؟ روايتان عن أحمد. إحداهما: وهو قول جمهور العلماء جواز ذلك. والثانية: لا يجوز القصاص، كقول الشافعي، لكن إذا كانت البنات محاويج هل لوليهن المصالحة على مال لهن؟ فيه خلاف مشهور في مذهب الشافعي.
سئل عن رجل قتله جماعة وكان اثنان حاضران قتله واتفق الجماعة على قتله وقاضي الناحية عاين الضرب فيه ونواب الولاية
وسئل رحمه الله عن رجل قتله جماعة وكان اثنان حاضران قتله، واتفق الجماعة على قتله، وقاضي الناحية عاين الضرب فيه ونواب الولاية؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا قامت البينة على من ضربه حتى مات واحدًا كان أو أكثر؛ فإن لأولياء الدم أن يقتلوهم كلهم، ولهم أن يقتلوا بعضهم. وإن لم تعلم عين القاتل فلأولياء المقتول أن يحلفوا على واحد بعينه أنه قتله ويحكم لهم بالدم. والله أعلم.
سئل عن جماعة اجتمعوا وتحالفوا على قتل رجل مسلم وقد أخذوا معهم أخرى ما حضروا تحليفهم فهل القصاص عليهم جميعا
وسئل رحمه الله عن جماعة اجتمعوا وتحالفوا على قتل رجل مسلم، وقد أخذوا معهم جماعة أخرى ما حضروا تحليفهم، وتقدموا إلى الشخص وضربوه بالسيف، والدبابيس، ورموه في البحر: فهل القصاص عليهم جميعهم، أم لا؟
فأجاب:
إذا اشتركوا في قتل معصوم بحيث أنهم جميعهم باشروا قتله وجب القود عليهم جميعهم؛ وإن كان بعضهم قد باشر وبعضهم قائم يحرس المباشر، ويعاونه، ففيها قولان: أحدهما: لا يجب القود إلا على المباشر، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، بحيث أنه لابد في فعل كل شخص من أن يكون صالحًا للزهوق. والثاني: يجب على الجميع، وهو قول مالك. وإن كان قتله لغرض خاص مثل أن يكون بينهم عداوة، أو خصومة، أو يكرهونه على فعل لا يبيح قتله فهنا القود لوارثه: إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية. وإن كان الوارث صغيرًا لم يبلغ فلمن له الولاية عليه، وإن لم يكن له ولي فالسلطان وليه، والحاكم نائبه في أحد القولين للعلماء كمذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين. وفي القول الثاني لا حتى يبلغ، وهو مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى.
سئل عمن اتفق على قتله أولاده وجواره ورجل أجنبي فما حكم الله فيهم
وسئل رحمه الله عمن اتفق على قتله أولاده، وجواره، ورجل أجنبي: فما حكم الله فيهم؟
فأجاب:
إذا اشتركوا في قتله جاز قتلهم جميعهم، والأمر في ذلك ليس للمشاركين في قتله، بل لغيرهم من ورثته، فإن كان له أخوة كانوا هم أولياءه، وكانوا أيضًا هم الوارثين لماله، فإن القاتل لا يرث المقتول. وليس للسلطان حق لا في دمه، ولا في ماله، بل الإخوة لهم الخيار؛ إن شاؤوا قتلوا جميع المشتركين في قتله البالغ منهم، وإن شاؤوا قتلوا بعضهم. وهذا باتفاق الأئمة الأربعة. وأما المباشرون لقتله فيجوز قتلهم باتفاق الأئمة.
وأما الذين أعانوا بمثل إدخال الرجل إلى البيت، وحفظ الأبواب، ونحو ذلك، ففي قتلهم قولان للعلماء، ويجوز قتلهم في مذهب مالك وغيره. والممسك يقتل في مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين وغيرهما، ولا ميراث لهما. وإن كان الصغار من أولاده أعانوا أيضًا على قتله لم يكن دمه إليهم، ولا إلى وليهم، بل إلى الأخوة. وأما ميراثهم من ماله ففيه نزاع. والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد أنهم لا يرثون من ماله، والصغار يعاقبون بالتأديب ولا يقتلون، ومذهب أبي حنيفة ومالك: الصغار يرثون من ماله. والله أعلم.
سئل عن رجلين تضاربا وتخانقا فوقع أحدهما فمات فما يجب عليه
وسئل رحمه الله عن رجلين تضاربا وتخانقا، فوقع أحدهما فمات، فما يجب عليه؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا خنقه الخنق الذي يموت به المرء غالبًا وجب القود عليه عند جمهور العلماء كمالك، والشافعي، وأحمد، وصاحبي أبي حنيفة ولو ادعي أن هذا لا يقتل غالبًا لم يقبل منه بغير حجة. فأما إن كان أحدهما قد غشي عليه بعد الخنق، ورفسه الآخر برجله حتى خرج من فمه شيء فمات، فهذا يجب عليه القود بلا ريب، فإن هذا قاتل نفسًا عمدًا، فيجب عليه القود، إذا كان المقتول يكافؤه بأن يكون حرًا مسلمًا، فيسلم إلى ورثة المقتول إن شاؤوا أن يقتلوه، وإن شاؤوا عفوا عنه، وإن شاؤوا أخذوا الدية.
سئل عن رجلين تخاصما وتقابضا فقام واحد ونطح الآخر في أنفه فجري دمه فقام الذي جري دمه خنقه ورفسه برجله في مخاصيه فوقع ميتا
وسئل رحمه الله عن رجلين تخاصما وتقابضا، فقام واحد ونطح الآخر في أنفه، فجري دمه، فقام الذي جري دمه خنقه ورفسه برجله في مخاصيه فوقع ميتًا؟
فأجاب:
يجب القود على الخانق الذي رفس الآخر في أنثييه، فإن مثل هذا الفعل قد يقتل غالبًا، فإن موته بهذا الفعل دليل على أنه فعل به ما يقتل غالبًا، والفعل الذي يقتل غالبًا يجب به القود في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وصاحبي أبي حنيفة، مثل ما لو ضربه في أنثييه حتى مات فيجب القود، ولو خنقه حتى مات وجب القود، فكيف إذا اجتمعا؟ ! وولي المقتول مخير إن شاء قتل، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء عفا عنه، وليس لولي الأمر أن يأخذ من القاتل شيئا لنفسه ولا لبيت المال، وإنما الحق في ذلك لأولياء المقتول.
سئل عمن ضرب رجلا ضربة فمكث زمانا ثم مات والمدة التي مكث فيها كان ضعيفا من الضربة
وسئل رحمه الله عمن ضرب رجلا ضربة فمكث زمانًا ثم مات، والمدة التي مكث فيها كان ضعيفًا من الضربة: مالذي يجب عليه؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا ضربه عدوانا فهذا شبه عمد فيه دية مغلظة، ولا قود فيه، وهذا إن لم يكن موته من الضربة. والله أعلم.
سئل عن رجل يهودي قتله مسلم فهل يقتل به أو ماذا يجب عليه
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل يهودي قتله مسلم، فهل يقتل به، أو ماذا يجب عليه؟
فأجاب:
الحمد لله، لا قصاص عليه عند أئمة المسلمين، ولا يجوز قتل الذمي بغير حق، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (لا يقتل مسلم بكافر)، ولكن تجب عليه الدية. فقيل: الدية الواجبة نصف دية المسلم. وقيل: ثلث ديته. وقيل: يفرق بين العمد والخطأ، فيجب في العمد مثل دية المسلم، ويروي ذلك عن عثمان بن عفان: أن مسلمًا قتل ذميا فغلظ عليه، وأوجب عليه كمال الدية. وفي الخطأ نصف الدية، ففي السنن عن النبي ﷺ: أنه جعل دية الذمي نصف دية المسلم. وعلى كل حال تجب كفارة القتل أيضًا وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.
سئل عن طائفة تسمى العشيرة قيس ويمن يكثر القتل بينهم ولا يبالون به وإذا طلب منهم القاتل أحضروا شخصا غير القاتل يتفقون معه
وسئل رحمه الله عن طائفة تسمى العشيرة قيس ويمن، يكثر القتل بينهم، ولا يبالون به، وإذا طلب منهم القاتل أحضروا شخصًا غير القاتل يتفقون معه على أن يعترف بالقتل عند ولي الأمر، فإذا اعترف جهزوا إلى المتولي من يدعي أنه من قرابة المقتول، ويقول: أنا قد أبريت هذا القاتل مما استحقه عليه، ويجعلون ذلك ذريعة إلى سفك الدماء، وإقامة الفتن، فإذا رأي ولي الأمر وضع دية المقتول الذي لا يعرف قاتله من الطوائف الذين أثبت أسمائهم في الديوان على جميع الطوائف منهم له ذلك أم لا، أو رأي وضع ذلك على أهل محلة القاتل، كما نقل عن بعض الأئمة رضي الله عنهم أو رأي تعزير هؤلاء العشير عند إظهارهم الفتن وسفك الدماء والفساد بوضع مال عليهم يؤخذ منهم، ليكف نفوسهم العادية عن ذلك كله: فهل له ذلك أم لا؟ وهل يثاب على ذلك؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب أيده الله:
الحمد لله، أما إذا عرف القاتل فلا توضع الدية على أهل مكان المقتول باتفاق الأئمة. وأما إذا لم يعرف قاتله لا بينة ولا إقرار، ففي مثل هذا تشرع القسامة. فإذا كان هناك لوث حلف المدعون خمسين يمينًا عند الجمهور مالك، والشافعي، وأحمد كما ثبت عن النبي ﷺ في قصة القتيل الذي وجد بخيبر، فإن لم يحلفوا حلف المدعي عليه، ومذهب أبي حنيفة يحلف المدعي عليهم أولا، فإن مذهبه أن اليمين لا تكون إلا في جانب المدعي عليه، والجمهور يقولون هي في جنب أقوي المتداعيين.
فأما إذا عرف القاتل فإن كان قتله لأخذ مال فهو محارب يقتله الإمام حدًا وليس لأحد أن يعفو عنه، لا أولياء المقتول، ولا غيرهم. وإن قتل لأمر خاص، فهذا أمره إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا عفوا عنه، وللإمام في مذهب مالك أن يجلده مائة، ويحبسه سنة، فهذا التعزير يحصل المقصود. وعلى هذا، فإذا كان أولياء المقتول قد رضوا بقتل صاحبهم فلا أرغم الله إلا بآنافهم. وإذا قيل: توضع الدية في بعض الصور على أهل المكان مع القسامة فالدية لورثة المقتول، لا لبيت المال، ولم يقل أحد من الأئمة أن دية المقتول لبيت المال. وكذلك لا توضع الدية بدون قسامة باتفاق الأئمة. وهؤلاء المعروفون بالفتن والفساد لولي الأمر أن يمسك منهم من عرف بذلك فيحبسه، وله أن ينقله إلى أرض أخرى ليكف بذلك عدوانه، وله أن يعزر أيضًا من ظهر منه الشر ليكف به شره وعدوانه، ففي العقوبات الجارية على سنن العدل والشرع ما يعصم الدماء والأموال، ويغني ولاة الأمور عن وضع جبايات تفسد العباد والبلاد. ومن اتهم بقتل وكان معروفًا بالفجور فلولي الأمر عند طائفة من العلماء أن يعاقبه تعزيرًا على فجوره، وتعزيرًا له، وبهذا وأمثاله يحصل مقصود السياسة العادلة. والله أعلم.
سئل عمن قال أنا ضاربه والله قاتله
وسئل رحمه الله عمن قال: أنا ضاربه، والله قاتله.
فأجاب:
الحمد لله، هذا يؤاخذ بإقراره، ويجب عليه ما يجب على القاتل. وأما قوله: والله قاتله، إن أراد به أن الله قابض روحه، أو أن الله هو المميت كل أحد، وهو خالق أفعال العباد، ونحو ذلك، فهذا لا يندفع عنه موجب القتل بذلك، بل يجب عليه ما يجب على القاتل.
سئل عن رجل راكب فرس مر به دباب ومعه دب فجفل الفرس ورمي راكبه ثم هرب ورمي رجلا فمات
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل راكب فرس، مر به دباب ومعه دب، فجفل الفرس ورمي راكبه، ثم هرب ورمي رجلا فمات؟
فأجاب:
لا ضمان على صاحب الفرس والحالة هذه، لكن الدباب عليه العقوبة. والله أعلم.
سئل عن رجل أخذ له مال فاتهم به رجلا من أهل التهم ذكر ذلك عنده فضربه على تقريره فأقر ثم أنكر فضربه حتى مات فما عليه
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أخذ له مال فاتهم به رجلا من أهل التهم ذكر ذلك عنده فضربه على تقريره فأقر، ثم أنكر، فضربه حتى مات، فما عليه؟ ولم يضربه إلا لأجل ما أخبر عنه بذلك.
فأجاب:
عليه أن يعتق رقبة مؤمنة كفارة، وتجب دية هذا المقتول، إلا أن يصالح ورثته على أقل من ذلك، ولو كان قد فعل به فعلا يقتل غالبًا بلا حق ولا شبهة لوجب القود، ولو كان بحق لم يجب شيء. والله أعلم.
سئل عن رجل جندي وله أقطاع في بلد الريع وقال في البلد قتيل فقالوا الفلاح النصراني هو القاتل
وسئل قدس الله روحه عن رجل جندي وله أقطاع في بلد الريع، وقال: في البلد قتيل، فقالوا: إن الفلاح النصراني الذي هو من الريع هو القاتل، فطلب القاتل إلى ولاة الأمور فلم يوجد، ومسكوا أخا النصراني المتهوم وهو في السجن، ومع ذلك يتطلبون الجندي بإحضار النصراني ولم يكن ضامنًا؟
فأجاب:
إذا كان الجندي لا يعلم حال المتهم ولا هو ضامن له، لم تجز مطالبته لكن إذا كان مطلوبًا بحق وهو يعرف مكانه دل عليه، فإن قال: أنه لا يعرف مكانه فالقول قوله.
سئل عن رجل عثر على سبعة أنف فحصل بينهم خصومة فقاموا بأجمعهم فضربوه إلى أن مات
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل عثر على سبعة أنفس، فحصل بينهم خصومة، فقاموا بأجمعهم ضربوه بحضرة رجلين لا يقربا لهؤلاء ولا لهؤلاء، وعايناه إلى أن مات من ضربهم، فما يلزم السبعة الذين يساعدون على قتله؟
فأجاب:
إذا شهد لأولياء المقتول شاهدان، ولم يثبت عدالتهما، فهذا لوث إذا حلف معه المدعون خمسين يمينًا أيمان القسامه على واحد بعينه حكم لهم بالدم؛ وإن أقسموا على أكثر من واحد ففي القود نزاع. وأما إن ادعوا أن القتل كان خطأ أو شبه عمد مثل أن يضربوه بعصا ضربًا لا يقتل مثله غالبًا، فهنا إذا ادعوا على الجماعة أنهم اشتركوا في ذلك فدعواهم مقبولة، ويستحقون الدية.
سئل عما إذا قال المضروب ما قاتلي إلا فلان فهل يقبل قوله أم لا
وسئل رحمه الله عما إذا قال المضروب: ما قاتلي إلا فلان: فهل يقبل قوله، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، لا يؤخذ بمجرد قوله بلا نزاع، ولكن هل يكون قوله لوثا يحلف معه أولياء المقتول خمسين يمينًا ويستحقون دم المحلوف عليه؟ على قولين مذكورين للعلماء: أحدهما: أنه ليس بلوث، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة. والثاني: أنه لوث، وهو قول مالك.
سئل عن رجلين شربا وكان معهما رجل آخر فضرب واحد صاحبه ضربة بالدبوس فوقع عن فرسه
وسئل رحمه الله عن رجلين شربا، وكان معهما رجل آخر، فلما أرادوا أن يرجعوا إلى بيوتهم تكلما فضرب واحد صاحبه ضربة بالدبوس، فوقع عن فرسه، فوقف عنده ذلك الرجل الذي معهما حتى ركب فرسه وجاء معه إلى منزله، ولم يقف عنده، فوقع عن فرسه ثانية، ثم إنه أصبح ميتًا، فسأل رجل من أصحاب الميت ذلك الرجل خفية، ولم يعلمه بموته، فذكر له قضيتهما، فشهد عليه الشهود بأن فلانًا ضربه ولم يسمع الشهود من الميت، وأن المتهوم لم يظهر نفسه خوف العقوبة، لكي لا يقر على نفسه، وللميت بنت ترضع، وأخوة.
فأجاب:
إن كان الذي شرب الخمر يعلم ما يقول فهذا إذا قتل فهو قاتل يجب عليه القود وعقوبة قاتل النفس باتفاق العلماء. وأما إن كان قد سكر بحيث لا يعلم ما يقول، أو أكثر من ذلك، وقتل: فهل يجب عليه القود، ويسلم إلى أولياء المقتول ليقتلوه إن شاؤوا؟ هذا فيه قولان للعلماء، وفيه روايتان عن أحمد، لكن أكثر الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وكثير من أصحاب أحمد يوجبون عليه القود، كما يوجبونه على الصاحي، فإن لم يشهد بالقتل إلا واحد لم يحكم به إلا أن يحلف مع ذلك أولياء المقتول خمسين يمينًا، وهذا إذا مات بضربه، وكان ضربه عدوانًا محضًا، فأما إن مات مع ضرب الآخر، ففي القود نزاع، وكذلك إن ضربه دفعا لعدوانه عليه، أو ضربه مثل ما ضربه، سواء مات بسبب آخر أو غيره. والله أعلم.
سئل عن رجل واعد آخر على قتل مسلم بمال معين ثم قتله فما يجب عليه في الشرع
وسئل رحمه الله عن رجل واعد آخر على قتل مسلم بمال معين، ثم قتله؛ فما يجب عليه في الشرع؟
فأجاب:
نعم إذا قتله الموعود والحالة هذه وجب القود، وأولياء المقتول بالخيار: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية، وإن أحبوا عفوا. وأما الواعد فيجب أن يعاقب عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل هذا. وعند بعضهم يجب عليه القود.
سئل عن القاتل ولده عمدا لمن ديته
وسئل رحمه الله عن القاتل ولده عمدًا لمن ديته؟
فأجاب:
وأما الوارث كالأب وغيره إذا قتل مورثه عمدًا فإنه لا يرث شيئا من ماله، ولا ديته باتفاق الأئمة، بل تكون ديته كسائر ماله يحرمها القاتل أبا كان أو غيره، ويرثها سائر الورثة غير القاتل.
سئل عن رجل تخاصم مع شخص فراح إلى بيته فحصل له ضعف فلما قارب الوفاة أشهد على نفسه أن قاتله فلان
وسئل رحمه الله عن رجل تخاصم مع شخص، فراح إلى بيته، فحصل له ضعف، فلما قارب الوفاة أشهد على نفسه أن قاتله فلان، فقيل له: كيف قتلك؟ فلم يذكر شيئا. فهل يلزمه شيء، أم لا؟ وليس بهذا المريض أثر قتل ولا ضرب أصلا وقد شهد خلق من العدول أنه لم يضربه، ولا فعل به شيئا؟
فأجاب:
أما بمجرد هذا القول فلا يلزمه شيء بإجماع المسلمين، بل إنما يجب على المدعي عليه اليمين بنفي ما ادعي عليه، إما يمين واحدة عند أكثر العلماء كأبي حنيفة، وأحمد وإما خمسون يمينا كقول الشافعي. والعلماء قد تنازعوا في الرجل إذا كان به أثر القتل كجرح أو أثر ضرب فقال: فلان ضربني عمدًا: هل يكون ذلك لوثا؟ فقال أكثرهم كأبي حنيفة والشافعي وأحمد: ليس بلوث، وقال مالك: هو لوث، فإذا حلف أولياء الدم خمسين يمينًا حكم به. ولو كان القتل خطأ فلا قسامة فيه في أصح الروايتين عن مالك. وهذه الصورة قيل: لم تكن خطأ، فكيف وليس به أثر قتل، وقد شهد الناس بما شهدوا به، فهذه الصورة ليس فيها قسامة بلا ريب على مذهب الأئمة.
سئل عمن اتهم بقتيل فهل يضرب ليقر أم لا
وسئل عمن اتهم بقتيل: فهل يضرب ليقر، أم لا؟
فأجاب:
إن كان هناك لوث وهو ما يغلب على الظن أنه قتله جاز لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقون دمه، وأما ضربه ليقر فلا يجوز إلا مع القرائن التي تدل على أنه قتله، فإن بعض العلماء جوز تقريره بالضرب في هذه الحال، وبعضهم منع من ذلك مطلقًا.
سئل عن أهل قريتين بينهما عداوة في الاعتقاد وخاصم رجل آخر في غنم ضاعت له
وسئل رحمه الله تعالى عن أهل قريتين بينهما عداوة في الاعتقاد. وخاصم رجل آخر في غنم ضاعت له، وقال: ما يكون عوض هذا إلا رقبتك. ثم وجد هذا مقتولا، وأثر الدم أقرب إلى القرية التي منها المتهم، وذكر رجل له قتله؟
فأجاب:
إذا حلف أولياء المقتول خمسين يمينًا أن ذلك المخاصم هو الذي قتله حكم لهم بدمه، وبراءة من سواه، فإنما بينهما من العداوة والخصومة والوعيد بالقتل وأثر الدم وغير ذلك لوث وقرينة وأمارة على أن هذا المتهم هو الذي قتله، فإذا حلفوا مع ذلك أيمان القسامة الشرعية استحقوا دم المتهم، وسلم إليهم برمته، كما قضي بذلك رسول الله ﷺ في قضية الذي قتل بخيبر ولم يجب على أهل البقعة جناية، لا في العادة السلطانية، ولا في حكم الشريعة.
سئل عن شخصين أتهما بقتيل فأمسكا وعوقبا العقوبة المؤلمة فأقر أحدهما ولم يقر الآخر
وسئل رحمه الله تعالى عن شخصين أتهما بقتيل، فأمسكا، وعوقبا العقوبة المؤلمة، فأقر أحدهما على نفسه وعلى رفيقه، ولم يقر الآخر، ولا اعترف بشيء: فهل يقبل قوله، أم لا؟
فأجاب:
إن شهد شاهد مقبول على شخص أنه قتله كان لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينًا ويستحقوا الدم. وكذلك إن كان هناك لوث يغلب على الظن الصدق، وإلا حلف المدعى عليه ولا يؤاخذ بلا حجة.
سئل عمن اتهموا بقتيل فضربوهم واعترف واحد منهم بالعقوبة
وسئل رحمه الله تعالى عمن اتهموا بقتيل فضربوهم، واعترف واحد منهم بالعقوبة: فهل يسري على الباقي؟
فأجاب:
الحمد لله، إن أقر واحد عدل أنه قتله كان لوثا، فلأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينًا، ويستحقوا به الدم. وأما إذا أقر مكرهًا، ولم يتبين صدق إقراره، فهنا لا يترتب عليه حكم، ولا يؤخذ هو به ولا غيره. والله أعلم.
سئل عن سفارة جاءتهم حرامية فقاتلوهم فقتل الحرامية من السفارة رجلا فلاحقوهم وقبضوا عليهم
وسئل رحمه الله عن سفارة جاءتهم حرامية فقاتلوهم، فقتل الحرامية من السفارة رجلا، ثم إن ابن عم المقتول اتبع الحرامية هو وناس من قومه، فلحقهم، وقبضهم وسأل عن القاتل، فعين الحرامية شخصًا منهم، وقالوا: هذا قتل ابن عمك، فقتله، ثم بعد ذلك طلع القاتل أخا ذلك الشخص الذي عينه الحرامية.
فأجاب:
أما المسافر المقتول ظلمًا فيجب على من قتله من الحرامية القود بشروطه، وأما الشخص الثاني المقتول ظلمًا إذا كان معصومًا فإن كان الدال عليه متعمدًا الكذب فعليه القود، وإن كان مخطئًا وجبت الدية على عاقلته إن كان له عاقلة، وإلا فعليه. وأما قاتله فإن لم يتعمد قتله، بل أخطأ فيه، فللورثة أن يطالبوا بالدية له، أو لعاقلته؛ لكن إذا ضمن الدية رجع بها على الدال أو عاقلته، فإنه هو الذي يضاف إليه القتل في مثل هذا؛ ولهذا يجب قتله إذا تعمد الكذب، كما يجب القتل على الشهود إذا رجعوا عن الشهادة، وقالوا: تعمدنا الكذب. والله أعلم.
سئل عن رجل قتل قتيلا وله أب وأم وقد وهبا للقاتل دم ولدهما
وسئل رحمه الله عن رجل قتل قتيلا، وله أب وأم، وقد وهبا للقاتل دم ولدهما، وكتبا عليه حجة أنه لا ينزل بلادهم، ولا يسكن فيها، ومتى سكن في البلاد كان دم ولدهما على القاتل، فإذا سكن، فهل يجوز لهم المطالبة بالدم، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا عفوا عنه بهذا الشرط ولم يف بهذا الشرط لم يكن العفو لازمًا، بل لهم أن يطالبوه بالدية في قول بعض العلماء، وبالدم في قول آخر. وسواء قيل: هذا الشرط صحيح، أم فاسد. وسواء قيل: يفسد العقد بفساده، أو لا يفسد، فإن ذينك القولين مبنيان على هذه الأصول.
سئل عن صبي دون البلوغ جني جناية يجب عليه فيها دية
وسئل رحمه الله تعالى عن صبي دون البلوغ جني جناية يجب عليه فيها دية: مثل أن يكسر سنًا، أو يفقأ عينًا، ونحو ذلك، خطأ: فهل لأولياء ذلك أن يأخذوا دية الجناية من أبي الصبي وحده إن كان موسرًا، أم يطلبوها من عم الصبي أو ابن عمه؟
فأجاب:
الحمد لله، أما إذا فعل ذلك خطأ فديته على عاقلته بلا ريب، كالبالغ وأولى. وإن فعل عمدًا فعمده خطأ عند الجمهور، كأبي حنيفة، ومالك وأحمد في المشهور عنه، والشافعي في أحد قوليه. وفي القول الآخر عنه، وعن أحمد أن عمده إذا كان غير بالغ في ماله.
وأما العاقلة التي تحمل، فهم عصبته، كالعم وبنيه، والأخوة وبنيهم باتفاق العلماء. وأما أبو الرجل وابنه فهو من عاقلته أيضًا عند الجمهور، كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في أظهر الروايتين عنه. وفي الرواية الأخرى وهو قول الشافعي: أبوه وابنه ليسا من العاقلة.
والذي تحمله العاقلة بالاتفاق ما كان فوق ثلث الدية: مثل قلع العين فإنه يجب فيه نصف الدية. وأما دون الثلث كدية السن وهو نصف عشر الدية، ودية الأصبع وهي عشر الدية فهذا لا تحمله العاقلة في مذهب مالك وأحمد، بل هو في ماله عند الشافعي. وعند أبي حنيفة: لا تحمل ما دون دية السن والموضحة، وهو المقدر كأرش الشجة التي دون الموضحة. وإذا وجب على الصبي شيء ولم يكن له مال حمله عنه أبوه في إحدى الروايتين عن أحمد، وروي ذلك عن ابن عباس. وفي الرواية الأخرى وهو قول الأكثرين: أنه في ذمته، وليس على أبيه شيء. والله أعلم.
سئل عن رجل قال لزوجته أسقطي ما في بطنك والإثم علي
وسئل رَحمه الله عن رجل قال لزوجته: أسقطي ما في بطنك والإثم علي، فإذا فعلت هذا، وسمعت منه، فما يجب عليهما من الكفارة؟
فأجاب:
إن فعلت ذلك فعليهما كفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجدا فصيام شهرين متتابعين وعليهما غرة عبد أو أمة لوارثه الذي لم يقتله، لا للأب فإن الأب هو الآمر بقتله، فلا يستحق شيئًا.
سئل عن رجل عدل له جارية اعترف بوطئها وأنها حبلت منه وضربها عمدا فأسقطت
وسئل رَحمه الله عن رجل عدل له جارية اعترف بوطئها بحضرة عدول، وأنها حبلت منه، وأنه سأل بعض الناس عن أشياء تسقط الحمل، وأنه ضرب الجارية ضربا مبرحا على فؤادها فأسقطت عقيب ذلك، وأن الجارية قالت: إنه كان يلطخ ذكره بالقطران ويطؤها حتى يسقطها، وأنه أسقاها السم وغيره من الأشياء المسقطة مكرهة، فما يجب على مالك الجارية بما ذكر؟ وهل هذا مسقط لعدالته، أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، إسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين، وهو من الوأد الذي قال الله فيه: { وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سئلتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [89]، وقد قال: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [90]، ولو قدر أن الشخص أسقط الحمل خطأ مثل أن يضرب المرأة خطأ فتسقط، فعليه غرة عبد أو أمة، بنص النبي ﷺ، واتفاق الأئمة، وتكون قيمة الغرة بقدر عشر دية الأم عند جمهور العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد.
كذلك عليه كفارة القتل عند جمهور الفقهاء، وهو المذكور في قوله تعالى: { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } إلى قوله تعالى: { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ } [91]، وأما إذا تعمد الإسقاط فإنه يعاقب على ذلك عقوبة تردعه عن ذلك، وذلك مما يقدح في دينه وعدالته. والله أعلم.
سئل عن امرأة حامل تعمدت إسقاط الجنين إما بضرب وإما بشرب دواء
وسئل رَحمه الله عن امرأة حامل تعمدت إسقاط الجنين إما بضرب وإما بشرب دواء: فما يجب عليها؟
فأجاب:
يجب عليها بسنة رسول الله ﷺ واتفاق الأئمة غرة عبد أو أمة، تكون هذه الغرة لورثة الجنين، غير أمه، فإن كان له أب كانت الغرة لأبيه، فإن أحب أن يسقط عن المرأة فله ذلك، وتكون قيمة الغرة عشر دية، أو خمسين دينارًا. وعليها أيضا عند أكثر العلماء عتق رقبة، فإن لم تجد صامت شهرين متتابعين، فإن لم تستطع أطعمت ستين مسكينًا.
سئل عن امرأة دفنت ابنها بالحياة حتى مات فإنها كانت مريضة
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة دفنت ابنها بالحياة حتى مات، فإنها كانت مريضة، وهو مريض، فضجرت منه، فما يجب عليها؟
فأجاب:
الحمد للّه، هذا هو الوأد الذي قال الله تعالى فيه: { وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سئلتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [92]، وقال الله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [93]، وفي الصحيحين عن ابن مسعود، عن النبي ﷺ أنه قيل له: أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل للّه ندًا وهو خلقك). قيل: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك). وإذا كان الله قد حرم قتل الولد مع الحاجة وخشية الفقر فلأن يحرم قتله بدون ذلك أولى وأحري. وهذه في قول الجمهور يجب عليها الدية تكون لورثته، ليس لها منها شيء باتفاق الأئمة. وفي وجوب الكفارة عليها قولان. والله أعلم.
سئل عن الرجل يلطم الرجل أو يكلمه أو يسبه هل يجوز أن يفعل به كما فعل
وسئل رحمه الله عن الرجل يلطم الرجل، أو يكلمه، أو يسبه: هل يجوز أن يفعل به كما فعل؟
فأجاب:
وأما القصاص في اللطمة، والضربة ونحو ذلك، فمذهب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين أن القصاص ثابت في ذلك كله وهو المنصوص عن أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي. وذهب كثير من الفقهاء إلى أنه لا يشرع في ذلك قصاص؛ لأن المساواة فيه متعذرة في الغالب، وهذا قول كثير من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والأول أصح، فإن سنة النبي ﷺ مضت بالقصاص في ذلك، وكذلك سنة الخلفاء الراشدين، وقد قال تعالى: { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [94]، وقال تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [95]، ونحو ذلك.
وأما قول القائل: إن المماثلة في هذه الجناية متعذرة، فيقال: لابد لهذه الجناية من عقوبة: إما قصاص، وإما تعزير. فإذا جوز أن يعزر تعزيرًا غير مضبوط الجنس والقدر فلأن يعاقب إلى ماهو أقرب إلى الضبط من ذلك أولى وأحري. والعدل في القصاص معتبر بحسب الإمكان، ومن المعلوم أن الضارب إذا ضرب ضربة مثل ضربته أو قريبا منها كان هذا أقرب إلى العدل من أن يعزر بالضرب بالسوط. فالذي يمنع القصاص في ذلك خوفا من الظلم يبيح ماهو أعظم ظلما مما فر منه. فعلم أنما جاءت به السنة أعدل وأمثل.
وكذلك له أن يسبه كما يسبه، مثل أن يلعنه كما يلعنه. أو يقول: قبحك اللّه، فيقول: قبحك اللّه. أو: أخزاك اللّه، فيقول له: أخزاك اللّه. أو يقول: ياكلب، ياخنزير، فيقول: ياكلب، ياخنزير، فأما إذا كان محرم الجنس مثل تكفيره أو الكذب عليه لم يكن له أن يكفره ولا يكذب عليه. وإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه؛ لأن أباه لم يظلمه.
سئل عمن ضرب غيره فعطل منفعة إصبعه
وسئل رَحمه الله عمن ضرب غيره فعطل منفعة إصبعه.
فأجاب:
إذا تعطلت منفعة إصبعه بالجناية التي اعتدي فيها وجبت دية الإصبع، وهي عشر الدية الكاملة. والله أعلم.
سئل عن اثنين أحدهما حر والآخر عبد حملوا خشبة فوقعت على رجل فمات
وسئل قدسَ الله روحَه عن اثنين: أحدهما حر، والآخر عبد، حملوا خشبة فتهورت منهم الخشبة من غير عمد، فأصابت رجلا، فأقام يومين وتوفي: فما يجب على الحر والعبد؟ وماذا يجب على مالك العبد إذا تغيب العبد؟
فأجاب:
إذا حصل منهما تفريط أو عدوان وجب الضمان عليهما. وإن كان هو المفرط بوقوفه حيث لا يصلح فلا ضمان. وإن لم يحصل تفريط منهما فلا ضمان عليهما. وإن كان بطريق السبب فلا ضمان.
وإذا وجب الضمان عليهما نصفين فنصيب العبد يتعلق برقبته، فإن شاء سيده أن يسلمه في الجناية، وإن شاء أن يفتديه. وإذا افتداه فإنه يفتديه بأقل الأمرين من قيمته وقدر جنايته في مذهب الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وفي الأخرى، وفي مذهب مالك يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ. فأما إن جني العبد وهرب بحيث لا يمكن سيده تسليمه فليس على السيد شيئًا لا أن يختار. والله أعلم.
سئل عن ثلاثة حملوا عامود رخام ثم إن منهم اثنين رموا العامود على الآخر كسروا رجله
وسئل رَحمه الله عن ثلاثة حملوا عامود رخام، ثم إن منهم اثنين رموا العامود على الآخر كسروا رجله، فما يجب عليهم؟
فأجاب:
الحمد للّه، نعم إذ ألقوا عليه عامود الرخام حتى كسروا ساقه وجب ضمان ذلك، لكن من العلماء من يوجب بعيرين من الإبل، كما هو المشهور عن أحمد. ومنهم من يوجب فيه حكومة، وهو أن يقوم المجني عليه كأنه لا كسر به، ثم يقوم مكسورا، فينظر ما نقص من قيمته، فيجب بقسطه. والله أعلم.
سئل عن رجلين تخاصما وتماسكا بالأيدي ولم يضرب أحدهما الآخر ثم بعد اسبوع توفي أحدهما
وسئل رَحمه الله عن رجلين تخاصما وتماسكا بالأيدي، ولم يضرب أحدهما الآخر، وكان أحدهما مريضا، ثم تفارقا في عافية، ثم بعد أسبوع توفي أحدهما، وهرب الآخر قبل موته بثلاثة أيام، فمسك أبو الهارب وألزموه بإحضار ولده، فاعتقد أن الخصم لم يمت، والتزم لأهله أنه مهما تم عليه كان هو القائم به، فلما مات اعتقلوا أباه تسعة أشهر فراضي أبوه أهل الميت بمال، وأبري المتهوم وكل أهله: فهل لهذا الملتزم بالمبلغ أن يرجع على أحد من بني عمه بشيء من المبلغ؟ وهل يبرأ الهارب؟
فأجاب:
إن ثبت أن الهارب قتله خطأ بأن يكون أحدهما مريضا وقد ضربه الآخر ضربا شديدا يزيد في مرضه، وكان سببا في موته، فالدية على العاقلة. فعلى عصبة بني العم وغيرهما أن يتحملوا هذا القدر الذي رضي به أهل القتيل فإنه أخف من الدية، وأما إن لم يثبت شيء من ذلك، لكن أخذ الأب بمجرد إقراره، لم يلزمهم بإقرار الأب شيء، وليس لأهل الدية الذين صالحوا على هذا القدر أن يطالبوا بأكثر منه. والله أعلم.
سئل عن رجل رأى رجلا قتل ثلاثة من المسلمين في شهر رمضان ولحس السيف بفمه وأن ولي الأمر لم يقدر عليه ليقيم عليه الحد
وسئل قدس الله رُوحه عن رجل رأى رجلًا قتل ثلاثة من المسلمين في شهر رمضان، ولحس السيف بفمه. وأن ولي الأمر لم يقدر عليه ليقيم عليه الحد، وأن الذي رآه قد وجده في مكان لم يقدر على مسكه: فهل له أن يقتل القاتل المذكور بغير حق؟ وإذا قتله هل يؤجر على ذلك أو يطالب بدمه؟
فأجاب:
إن كان قاطع طريق قتلهم لأخذ أموالهم وجب قتله، ولا يجوز العفو عنه، وإن كان قتلهم لغرض خاص مثل خصومة بينهم، أو عداوة، فأمره إلى ورثة القتيل: إن أحبوا قتله قتلوه، وإن أحبوا عفوا عنه، وإن أحبوا أخذوا الدية. فلا يجوز قتله إلا بإذن الورثة الأخرىن. وأما إن كان قاطع طريق، فقيل: بإذن الإمام، فمن علم أن الإمام أذن في قتله بدلائل الحال جاز أن يقتله على ذلك، وذلك مثل أن يعرف أن ولاة الأمور يطلبونه ليقتلوه، وأن قتله واجب في الشرع، فهذا يعرف أنهم آذنون في قتله، وإذا وجب قتله كان قاتله مأجورًا في ذلك.
سئل عن رجلين قبض أحدهما لواحد والآخر ضربه فشلت يده
وسئل رَحمه الله عن رجلين قبض أحدهما لواحد، والآخر ضربه فشلت يده.
فأجاب:
الحمد للّه، هذا فيه نزاع. والأظهر أنه يجب على الاثنين القود إن وجب، وإلا فالدية عليهما. والله أعلم.
سئل عن رجل وجد عند امرأته رجلا أجنبيا فقتلها ثم تاب بعد موتها
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل وجد عند امرأته رجلا أجنبيا فقتلها، ثم تاب بعد موتها، وكان له أولاد صغار، فلما كبر أحدهما أراد أداء كفارة القتل، ولم يجد قدرة على العتق، فأراد أن يصوم شهرين متتابعين: فهل تجب الكفارة على القاتل؟ وهل يجزئ قيام الولد بها؟ وإذا كان الولد امرأة فحاضت في زمن الشهرين: هل ينقطع التتابع؟ وإذا غلب على ظنها أن الطهر يحصل في وقت معين: هل يجب عليها الإمساك، أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، إن كان قد وجدهما يفعلان الفاحشة وقتلها فلا شيء عليه في الباطن في أظهر قولي العلماء، وهو أظهر القولين في مذهب أحمد، وإن كان يمكنه دفعه عن وطئها بالكلام، كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (لو أن رجلا اطلع في بيتك ففقأت عينه ما كان عليك شيء)، ونظر رجل مرة في بيته فجعل يتبع عينه بمدري لو أصابته لقلعت عينه، وقال: (إنما جعل الاستئذان من أجل النظر) وقد كان يمكن دفعه بالكلام. وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبيده سيف متلطخ بدم قد قتل امرأته، فجاء أهلها يشكون عليه، فقال الرجل: إني وجدت لكاعا قد تفخذها فضربت ما هنالك بالسيف فأخذ السيف فهزه، ثم أعاده إليه، فقال: إن عاد فعد.
ومن العلماء من قال: يسقط القود عنه إذا كان الزاني محصنا، سواءكان القاتل هو زوج المرأة أو غيره، كما يقوله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد.
والقول الأول إنما مأخذه أنه جني على حرمته فهو كفقء عين الناظر، وكالذي انتزع يده من فم العاض حتى سقطت ثناياه، فأهدر النبي ﷺ دمه، وقال: (يدع يده في فيك فتقضمها كما يقضم الفحل؟!)، وهذا الحديث الأول القول به مذهب الشافعي وأحمد.
ومن العلماء من لم يأخذ به، قال: لأن دفع الصائل يكون بالأسهل. والنص يقدم على هذا القول، وهذا القول فيه نزاع بين السلف والخلف، فقد دخل اللص على عبد الله بن عمر، فأصلت له السيف، قالوا: فلولا أنا نهيناه عنه لضربه، وقد استدل أحمد بن حنبل بفعل ابن عمر هذا مع ما تقدم من الحديثين، وأخذ بذلك.
وأما إن كان الرجل لم يفعل بعد الفاحشة، ولكن وصل لأجل ذلك فهذا فيه نزاع، والأحوط لهذا أن يتوب من القتل من مثل هذه الصورة، وفي وجوب الكفارة عليه نزاع، فإذا كفر فقد فعل الأحوط، فإن الكفارة تجب في قتل الخطأ. وأما قتل العمد فلا كفارة فيه عند الجمهور، كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه. وعليه الكفارة عند الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى.
وإذا مات من عليه الكفارة ولم يكفر فليطعم عنه وليه ستين مسكينا فإنه بدل الصيام الذي عجزت عنه قوته، فإذا أطعم عنه في صيام رمضان فهذا أولي. والمرأة إن صامت شهرين متتابعين لم يقطع الحيض تتابعها، بل تبني بعد الطهر باتفاق الأئمة. والله أعلم.
سئل عن رجل ضرب رجلا بسيف شل يده ثم إنه جاءه ودفع إليه أربعة أفدنه طين سواء مصالحة
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل ضرب رجلا بسيف شل يده، ثم إنه جاءه ودفع إليه أربعة أفدنه طين سواء، مصالحةً، ثم أكلها اثني عشر سنة، ولم يكتب بينه وبينه أبدًا، وحال المضروب ضعيف: فهل يلزم الضارب الدية؟
فأجاب:
إن كان صالحه عن شلل يده على شيء وجب ما اصطلحا عليه، ولم يكن لهذا أن يزيده، ولا لهذا أن ينقصه. وأما إن كان أعطاه شيئًا بلا مصالحة فله أن يطلب تمام حقه. وشلل اليد فيه دية اليد. والله أعلم.
سئل عن رجل ضرب رجلا فتحول حنكه ووقعت أنيابه وخيطوا حنكه بالإبر
وسئل قدسَ الله روحَه عن رجل ضرب رجلا فتحول حنكه، ووقعت أنيابه، وخيطوا حنكه بالإبر، فما يجب؟
فأجاب:
يجب في الأسنان في كل سن نصف عشر الدية خمسون دينارا، أو خمس من الإبل أو ستمائة درهم. ويجب في تحويل الحنك الأرش: يقوم المجني عليه كأنه عبد سليم، ثم يقوم وهو عبد معيب، ثم ينظر تفاوت ما بين القيميين، فيجب بنسبته من الدية. وإذا كانت الضربة مما تقلع الأسنان في العادة فللمجني عليه القصاص، وهو أن يقلع له مثل تلك الأسنان من الضارب.
سئل عن مسلم قتل مسلما متعمدا بغير حق ثم تاب بعد ذلك
وسئل رَحمه الله عن مسلم قتل مسلما متعمدا بغير حق، ثم تاب بعد ذلك: فهل ترجي له التوبة، وينجو من النار، أم لا؟ وهل يجب عليه دية، أم لا؟
فأجاب:
قاتل النفس بغير حق عليه حقان: حق للّه بكونه تعدي حدود الله وانتهك حرماته، فهذا الذنب يغفره الله بالتوبة الصحيحة، كما قال تعالى: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [96]، أي: لمن تاب. وقال: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [97]، وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ: (أن رجلا قتل تسعة وتسعين رجلا، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل عليه، فسأله: هل من توبة؟ فقال: أبعد تسعة وتسعين تكون لك توبة؟ !! فقتله، فكمل به مائة! ثم مكث ما شاء اللّه، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل عليه، فسأله هل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ! ولكن ائت قرية كذا فإن فيها قوما صالحين فاعبد الله معهم، فأدركه الموت في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فبعث الله ملكا يحكم بينهم فأمر أن يقاس فإلى أي القريتين كان أقرب ألحق به، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة فغفر الله له).
والحق الثاني حق الآدميين، فعلى القاتل أن يعطي أولياء المقتول حقهم، فيمكنهم من القصاص، أو يصالحهم بمال، أو يطلب منهم العفو فإذا فعل ذلك فقد أدي ما عليه من حقهم، وذلك من تمام التوبة.
وهل يبقي للمقتول عليه حق يطالبه به يوم القيامة؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره، ومن قال يبقي له؛ فإنه يستكثر القاتل من الحسنات حتى يعطي المقتول من حسناته بقدر حقه، ويبقي له ما يبقي، فإذا استكثر القاتل التائب من الحسنات رجيت له رحمة اللّه، وأنجاه من النار، ولا يقنط من رحمة الله إلا القوم الفاسقون.
سئل عن رجلين اختلفا في قتل النفس عمدا فقال أحدهما إن هذا ذنب لا يغفر وقال الآخر إذا تاب تاب الله عليه
وسئل رحمه الله عن رجلين اختلفا في قتل النفس عمدًا. فقال أحدهما: إن هذا ذنب لا يغفر، وقال الآخر: إذا تاب تاب الله عليه.
فأجاب:
أما حق المظلوم فإنه لا يسقط باستغفار الظالم القاتل، لا في قتل النفس، ولا في سائر مظالم العباد، فإن حق المظلوم لا يسقط بمجرد الاستغفار، لكن تقبل توبة القاتل وغيره من الظلمة؛ فيغفر الله له بالتوبة الحق الذي له. وأما حقوق المظلومين فإن الله يوفيهم إياها: إما من حسنات الظالم، وإما من عنده. والله أعلم.
سئل عمن اتهموه النصارى في قتل نصارى ولم يظهر عليه
وسئل رحمه الله تعالى عمن اتهموه النصارى في قتل نصارى ولم يظهر عليه، فأحضروه إلى النائب بالكرك، وألزموه أن يعاقبه، فعوقب حتى مات ولم يقر بشيء، فما يلزم النصارى الذين التزموا بدمه؟
فأجاب:
يجب عليهم ضمان الذي التزموا دمه إن مات تحت العقوبة بل يعاقبون كما عوقب أيضا كما روي أبو داود في السنن عن النعمان بن بشير أنه قضى نحو ذلك. والله أعلم.
كتاب الحدود
فصل خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابا مطلقا
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابًا مطلقًا، كقوله: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ } [98]، وقوله: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } [99]، وقوله: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ } [100]، وكذلك قوله: { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } [101]، لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادرًا عليه، والعاجزون لا يحب عليهم، وقد علم أن هذا فرض على الكفاية، وهو مثل الجهاد، بل هو نوع من الجهاد. فقوله: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } [102]، وقوله: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } [103]، وقوله: { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ } [104]، ونحو ذلك، هو فرض على الكفاية من القادرين. والقدرة هي السلطان؛ فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه.
والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد، والباقون نوابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها، وعجز من الباقين، أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق؛ ولهذا قال العلماء إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم، فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم، وكذلك لو لم يتفرقوا، لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة، فإن ذلك أيضا إذا اسقط عنه إلزامهم بذلك لم يسقط عنهم القيام بذلك، بل عليهم أن يقيموا ذلك، وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق، أو إضاعته لذلك، لكان ذلك الفرض على القادر عليه.
وقول من قال: لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه. إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل، كما يقول الفقهاء: الأمر إلى الحاكم، إنما هو العادل القادر فإذا كان مضيعا لأموال اليتامي، أو عاجزًا عنها، لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه، وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزًا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه.
والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه. والله أعلم.
باب حد الزنا
سئل عمن زنا بأخته ماذا يجب عليه
سئل شَيخ الإسلام قدس الله روحه عمن زنا بأخته: ماذا يجب عليه؟
فأجاب:
وأما من زنا بأخته مع علمه بتحريم ذلك وجب قتله، والحجة في ذلك ما رواه البراء بن عازب، قال: مر بي خالي أبو بردة، ومعه راية، فقلت: أين تذهب يا خالي! قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى رجل تزوج بامرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه، وأخمس ماله. والله أعلم.
سئل عن امرأة مزوجة بزوج كامل ولها أولاد فتعلقت بشخص من الأطراف أقامت معه على الفجور
وسئل رحمه الله عن امرأة مزوجة بزوج كامل، ولها أولاد، فتعلقت بشخص من الأطراف أقامت معه على الفجور، فلما ظهر أمرها سعت في مفارقة الزوج: فهل بقي لها حق على أولادها بعد هذا الفعل؟ وهل عليهم إثم في قطعها؟ وهل يجوز لمن تحقق ذلك منها قتلها سرا؟ وإن فعل ذلك غيره يأثم؟
فأجاب:
الحمد للّه، الواجب على أولادها وعصبتها أن يمنعوها من المحرمات فإن لم تمتنع إلا بالحبس حبسوها، وإن احتاجت إلى القيد قيدوها. وما ينبغي للولد أن يضرب أمه. وأما برها فليس لهم أن يمنعوها برها، ولا يجوز لهم مقاطعتها بحيث تتمكن بذلك من السوء، بل يمنعوها بحسب قدرتهم. وإن احتاجت إلى رزق وكسوة رزقوها، وكسوها، ولا يجوز لهم إقامة الحد عليها بقتل ولا غيره، وعليهم الإثم في ذلك.
سئل عن بلد فيها جوار سائبات يزنون مع النصارى والمسلمين
وسئل رحمه الله تعالى عن بلد فيها جوارٍ سائبات يزنون مع النصارى والمسلمين.
فأجاب:
وأما على سيد الأمة إذا زنت أن يقيم عليها الحد، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت في الرابعة فليبعها ولو بضفير)، والضفير: الحبل، فإن لم يفعل ما أمره به رسول الله ﷺ كان عاصيا للّه ورسوله. وكان إصراره على المعصية قادحًا في عدالته، فأما إذا كان هو يرسلها لتبغي وتنفق على نفسها من مهر البغاء، أو يأخذ هو شيئًا من ذلك، فهذا ممن لعنه الله ورسوله، وهو فاسق خبيث، آذن في الكبيرة، وآخذ مهر البغي، ولم ينهها عن الفاحشة. ومثل هذا لا يجوز أن يكون معدلًا، بل لا يجوز إقراره بين المسلمين، بل يستحق العقوبة الغليظة حتى يصون إماءه. وأقل العقوبة أن يهجر فلا يسلم عليه، ولا يصلى خلفه إذا أمكنت الصلاة خلف غيره، ولا يستشهد ولا يولى ولاية أصلًا. ومن استحل ذلك فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكان مرتدًا لا ترثه ورثته المسلمون. وإن كان جاهلًا بالتحريم عرف ذلك حتى تقوم عليه الحجة، فإن هذا من المحرمات المجمع عليها.
سئل عمن حلف لولده أنه إن فعل منكرا يقيم عليه الحد فأقر لوالده فضربه مائة جلدة
وسئل رحمه الله تعالى عمن حلف لولده أنه إن فعل منكرًا يقيم عليه الحد، فأقر لوالده فضربه مائة جلدة، وبقي تغريب عام، فهل يجوز في تغريب العام كفارة، أم لا؟
فأجاب:
أنه إذا غربه في الحبس ولو في دار الأب يوفي يمينه، وإن كان مطلقا غير مقيد في موضع معين، فإنه لا يجب القيد، ولا جعله في مكان مظلم. والله أعلم.
سئل عمن وجب عليه حد الزنا فتاب قبل أن يحد فهل يسقط عنه الحد بالتوبة
وسئل عمن وجب عليه حد الزنا فتاب قبل أن يحد: فهل يسقط عنه الحد بالتوبة؟
فأجاب:
إن تاب من الزنا، والسرقة، أو شرب الخمر، قبل أن يرفع إلى الإمام: فالصحيح أن الحد يسقط عنه، كما يسقط من المحاربين بالإجماع إذا تابوا قبل القدرة.
سئل عن رجل أذنب ذنبا يجب عليه حد من الحدود
وسئل رَحمه الله عن رجل أذنب ذنبا يجب عليه حد من الحدود: مثل جلد، أو حصب ثم تاب من ذلك الذنب، وأقلع، واستغفر، ونوي ألا يعود: فهل يجزئه ذلك؟ أو يحتاج مع ذلك إلى أن يأتي إلى ولي الأمر ويعرفه بذنبه ليقيم عليه الحد، أم لا؟ وهل ستره على نفسه وتوبته أفضل، أم لا؟
فأجاب:
إذا تاب توبة صحيحة تاب الله عليه من غير حاجة إلى أن يقر بذنبه حتى يقام عليه الحد، وفي الحديث: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر اللّه، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب اللّه). وفي الأثر أيضا: من أذنب سرًا فليتب سرًا، ومن أذنب علانية فليتب علانية. وقد قال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } الآية [105].
سئل عن إثم المعصية وحد الزنا هل تزاد في الأيام المباركة أم لا
وسئل رَحمه الله عن إثم المعصية، وحد الزنا: هل تزاد في الأيام المباركة، أم لا؟
فأجاب:
نعم، المعاصي في الأيام المفضلة والأمكنة المفضلة تغلظ، وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان.
سئل عن امرأة قوادة تجمع الرجال والنساء وقد ضربت وحبست ثم عادت تفعل ذلك
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة قوادة تجمع الرجال والنساء، وقد ضربت، وحبست، ثم عادت تفعل ذلك، وقد لحق الجيران الضرر بها: فهل لولي الأمر نقلها من بينهم، أم لا؟
فأجاب:
نعم، لولي الأمر كصاحب الشرطة أن يصرف ضررها بما يراه مصلحة: إما بحبسها، وإما بنقلها عن الحرائر، وإما بغير ذلك مما يري فيه المصلحة، وقد كان عمر بن الخطاب يأمر العزاب ألا تسكن بين المتأهلين، وألايسكن المتأهل بين العزاب، وهكذا فعل المهاجرون لما قدموا المدينة على عهد النبي ﷺ، ونفوا شابا خافوا الفتنة به من المدينة إلى البصرة، وثبت في الصحيحين: أن النبي ﷺ نفي المخنثين وأمر بنفيهم من البيوت خشية أن يفسدوا النساء. فالقوادة شر من هؤلاء، والله يعذبها مع أصحابها.
سئل عن الفاعل والمفعول به بعد إدراكهما ما يجب عليهما وما يطهرهما
وسئل عن الفاعل، والمفعول به بعد إدراكهما ما يجب عليهما؟ وما يطهرهما؟ وما ينويان عند الطهارة؟
فأجاب:
أما الفاعل والمفعول به فيجب قتلهما رجما بالحجارة، سواءكانا محصنين أو غير محصنين، لما في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)، ولأن أصحاب النبي ﷺ اتفقوا على قتلهما. وعليهما الاغتسال من الجنابة، وترتفع الجنابة من الاغتسال، لكن لا يطهران من نجاسة الذنب إلا بالتوبة، وهذا معني ما روي أنهما لو اغتسلا بالماء ينويان رفع الجنابة واستباحة الصلاة....
سئل عن قوله في التهذيب من أتي بهيمة فاقتلوا المفعول واقتلوا الفاعل بها
وسئل رحمه الله عن قوله في التهذيب: من أتي بهيمة فاقتلوا المفعول، واقتلوا الفاعل بها: فهل يجب ذلك، أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، هذا فيه حديث، رواه أبو داود في السنن، وهو قوله: (من أتي بهيمة فاقتلوه، واقتلوها)، وهو أحد قولي العلماء، كأحد القولين في مذهب أحمد، ومذهب الشافعي.
باب حد القذف
سئل عمن قذف رجلا لأنه ينظر إلى حريم الناس وهو كاذب عليه
وسئل شيخ الإسلام رَحِمهُ الله عمن قذف رجلا لأنه ينظر إلى حريم الناس، وهو كاذب عليه، فما يجب على القاذف؟
الجواب
إذا كان الأمر على ما ذكر، فإنه يعزر على افترائه على هذا الشخص بما يزجره وأمثاله، إذا طلب المقذوف ذلك.
سئل عن رجل تزوج امرأة من أهل الخير وله مطلقة وشرط إن رد مطلقته كان الصداق حالا
وسئل رَحِمهُ الله تعالى عن رجل تزوج امرأة من أهل الخير وله مطلقة، وشرط إن رد مطلقته كان الصداق حالًا، ثم إنه رد المطلقة، وقذف هو ومطلقته عرض الزوجة، ورموها بالزنا، بأنها كانت حاملًا من الزنا، وطلقها بعد دخوله بها، فما الذي يجب عليهما؟ وهل يقبل قولهما؟ وهل يسقط الصداق، أم لا؟
فأجاب
الحمد لله رب العالمين، أما مطلقته فتحد على قذفها ثمانين جلدة إذا طلبت ذلك المرأة المقذوفة، ولا تقبل لها شهادة أبدًا؛ لأنها فاسقة. وكذلك الرجل عليه ثمانون جلدة إذا طلبت المرأة ذلك، ولاتقبل له شهادة أبدًا، وهو فاسق إذا لم يتب.
وهل له إسقاط الحد باللعان؟ فيه للفقهاء ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل: يلاعن. وقيل: لا يلاعن. وقيل: إن كان ثم ولد يريد نفيه لاعن، وإلا فلا. وصداقها باق عليها لا يسقط باللعان، كما سن ذلك رسول الله ﷺ، وهذا كله باتفاق الأئمة، إلا ما ذكرناه من جواز اللعان ففيه الأقوال الثلاثة: أحدها: لا يلاعن، بل يحد حد القذف، وتسقط شهادته، وهذا مذهب أحمد في أشهر الروايات عنه، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي. والثاني: يلاعن، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في رواية عنه. والثالث: إن كان هناك حمل لاعن، لنفيه، وإلا فلا. وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد. والله أعلم.
سئل عن رجل قال لرجل أنت فاسق شارب الخمر ومنعه من أجرة ملكه الذي يملك انتفاعه شرعا
وسئل عن رجل قال لرجل: أنت فاسق شارب الخمر، ومنعه من أجرة ملكه الذي يملك انتفاعه شرعًا.
فأجاب:
إذا كان المقذوف محصنًا وجب على القاذف حد القذف إذا طلبه المقذوف، وأما شتمه بغير ذلك إذا كان كاذبًا فعليه أن يعزر على ذلك. وأما ضربه وحبسه إذا كان ظالمًا، فإنه يفعل به كما فعل، وما عطله عليه من المنفعة ضمنه.
سئل عن رجل قذف رجلا وقال له أنت علق ولد زنا فما الذي يجب عليه
وسئل رَحِمهُ الله تعالى عن رجل قذف رجلا، وقال له: أنت علق، ولد زنا، فما الذي يجب عليه؟
فأجاب:
إذا قذفه بالزنا أو اللواط كقوله: أنت علق، وكان ذلك الرجل حرًا مسلمًا لم يشتهر عنه ذلك، فعليه حد القذف إذا طلبه المقذوف وهو ثمانون جلدة إن كان القاذف حرًا، وأربعون إن كان رقيقًا عند الأئمة الأربعة.
باب حد السكر
الأشربة المسكرة
قال شيخ الإسلام رضي الله عنه:
أما الأشربة المسكرة، فمذهب جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر العلماء أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام. وهذا مذهب مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد بن حنبل وأصحابه، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، وهو اختيار محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، واختيار طائفة من المشايخ مثل أبي الليث السمرقندي، وغيره وهذا قول الأوزاعي وأصحابه، والليث بن سعد وأصحابه، وإسحاق بن راهويه وأصحابه، وداود بن على وأصحابه وأبي ثور وأصحابه، وابن جرير الطبري وأصحابه وغير هؤلاء من علماء المسلمين وأئمة الدين.
وذهب طائفة من العلماء من أهل الكوفة كالنخعي والشعبي وأبي حنيفة وشريك وغيرهم إلى أن ما أسكر من غير الشجرتين النخل والعنب كنبيذ الحنطة والشعير والذرة والعسل، ولبن الخيل وغير ذلك، فإنما يحرم منه القدر الذي يسكر. وأما القليل الذي لا يسكر فلا يحرم. وأما عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد فهو خمر يحرم قليله وكثيره بإجماع المسلمين.
وأصحاب القول الثاني قالوا: لا يسمى خمرًا إلا ما كان من العنب. وقالوا: إن نبيذ التمر والزبيب إذا كان نيا مسكرًا حرِّم قليله وكثيره ولا يسمي خمرًا، فإن طبخ أدني طبخ حل. وأما عصير العنب إذا طبخ وهو مسكر لم يحل، إلا أن يذهب ثلثاه، ويبقي ثلثه. فأما بعد أن يصير خمرًا فلا يحل وإن طبخ إذا كان مسكرًا بلا نزاع.
والقول الأول الذي عليه جمهور علماء المسلمين هو الصحيح الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، فإن الله تعالى قال في كتابه: { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [106].
واسم الخمر في لغة العرب الذين خوطبوا بالقرآن كان يتناول المسكر من التمر وغيره، ولا يختص بالمسكر من العنب، فإنه قد ثبت بالنقول الصحيحة أن الخمر لما حرمت بالمدينة النبوية وكان تحريمها بعد غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، لم يكن من عصير العنب شيء، فإن المدينة ليس فيها شجر عنب، وإنما كانت خمرهم من التمر. فلما حرمها الله عليهم أراقوها بأمر النبي ﷺ بل وكسروا أوعيتها، وشقوا ظروفها، وكانوا يسمونها خمرًا. فعلم أن اسم الخمر في كتاب الله عام لا يختص بعصير العنب.
فروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة، ما منها شراب العنب. وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: إن الخمر حرمت يومئذ من البسر والتمر. وفي لفظ لمسلم: لقد أنزل الله هذه الآية التي حرم فيها الخمر، وما بالمدينة شراب إلا من تمر وبسر. وفي لفظ للبخاري: وحرمت علينا حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر. وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب من فريخ زهو وتمر فجاءهم آتٍ، فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: يا أنس، قم إلى هذه الجرار فَأَهْرِقْهَا، فأهرقتها.
وقد ثبت عن النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم: أن الخمر يكون من الحنطة والشعير، كما يكون من العنب، ففي الصحيحين عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال على منبر النبي ﷺ: أما بعد، أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل. وروى أهل السنن أبو داود والترمذي وابن ماجه عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: (إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن التمر خمرًا، ومن العسل خمرًا)، زاد أبوداود: (وأنا أنهي عن كل مسكر).
وقد استفاضت الأحاديث عن النبي ﷺ بأن كل مسكر خمر، وهو حرام، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت:
سئل رسول الله ﷺ عن البتع، وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام)، وفي الصحيحين عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع، وهو من العسل ينبذ حتي يشتد قال: فكان رسول الله ﷺ قد أعطي جوامع الكلم بخواتيمه فقال: (كل مسكر حرام). وفي صحيح مسلم عن جابر أن رجلا من حبشان، وحبشان من اليمن سأل النبي ﷺ عن شراب يشربونه بأراضيهم من الذرة يقال له: المزر، فقال: (أمسكر هو؟). قال: نعم. قال: (كل مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال). قالوا: يارسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: (عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار). وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام). وفي رواية له: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام). وعن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) رواه ابن ماجه، والدارقطني، وصححه، وقد روي أهل السنن مثله من حديث جابر ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده. والأحاديث كثيرة صحيحة في هذا الباب.
ولكن عذر من خالفها من أهل العلم أنها لم تبلغهم، وسمعوا أن من الصحابة من شرب النبيذ، وبلغتهم في ذلك آثار، فظنوا أن الذي شربوه كان مسكرًا، وإنما كان الذي تنازع فيه الصحابة هو ما نبذ في الأوعية الصلبة، فإن النبي ﷺ نهي عن الانتباذ في الدباء، وهو القرع، وفي الحنتم وهو ما يصنع من التراب من الفخار، ونهي عن النقير وهو الخشب الذي ينقر، ونهي عن المزفت، وهو الظرف المزفت، وأمرهم أن ينتبذوا في الظروف الموكاة، وهو أن ينقع التمر أو الزبيب في الماء حتي يحلو، فيشرب حلوًا قبل أن يشتد، فهذا حلال باتفاق المسلمين. ونهاهم أن ينتبذوا هذا النبيذ الحلال في تلك الأوعية؛ لأن الشدة تدب في الشراب شيئًا فشيئًا، فيشربه المسلم وهو لا يدري أنه قد اشتد، فيكون قد شرب محرمًا، وأمرهم أن ينتبذوا في الظرف الذي يربطون فمه؛ لأنه إن اشتد الشراب انشق الظرف فلا يشربون مسكرًا.
والنهي عن نبيذ الأوعية القوية فيه أحاديث كثيرة مستفيضة. ثم روي عنه إباحة ذلك، كما في صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب، قال: قال رسول الله ﷺ: (كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكرًا). وفي رواية: (نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفًا لا يحل شيئًا ولا يحرمه، وكل مسكر حرام)، فمن الصحابة والتابعين من لم يثبت عنده النسخ فأخذ بالأحاديث الأول. ومنهم من اعتقد صحة النسخ فأباح الانتباذ في كل وعاء، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي. والنهي عن بعض الأوعية قول مالك. وعن أحمد روايتان.
فلما سمع طائفة من علماء الكوفة أن من السلف من شرب النبيذ ظنوا أنهم شربوا المسكر، فقال طائفة منهم كالشافعي، والنخعي، وأبي حنيفة، وشريك، وابن أبي ليلي، وغيرهم يحل ذلك، كما تقدم. وهم في ذلك مجتهدون، قاصدون للحق، وقد قال النبي ﷺ: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر).
وأما سائر العلماء فقالوا بتلك الأحاديث الصحيحة، وهذا هو الثابت عن الصحابة، وعليه دل القياس الجلي؛ فإن الله تعالى قال: { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [107]، فإن المفسدة التي لأجلها حرم الله سبحانه وتعالى الخمر، هي أنها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء. وهذا أمر تشترك فيه جميع المسكرات، لا فرق في ذلك بين مسكر ومسكر، والله سبحانه وتعالى حرم القليل؛ لأنه يدعو إلى الكثير، وهذا موجود في جميع المسكرات.
سئل عن الخمر والميسر هل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وما هي المنافع
وسئل رحمه الله تعالى عن الخمر والميسر هل { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [108]، وما هي المنافع؟
فأجاب:
هذه الآية أول ما نزل في الخمر، فإنهم سألوا عنها النبي ﷺ فأنزل الله هذه الآية، ولم يحرمها، فأخبرهم أن فيها إثمًا وهو ما يحصل بها من ترك المأمور وفعل المحظور، وفيها منفعة وهو ما يحصل من اللذة، ومنفعة البدن، والتجارة فيها، فكان من الناس من لم يشربها، ومنهم من شرب، ثم بعد هذا شرب قوم الخمر فقاموا يصلون وهم سكارى، فخلطوا في القراءة، فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ
تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [109]، فنهاهم عن شربها قرب الصلاة، فكان منهم من تركها. ثم بعد ذلك أنزل الله تعالى: { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [110]. فحرمها الله في هذه الآية من وجوه متعددة، فقالوا: انتهينا. انتهينا. ومضي حينئذ أمر النبي ﷺ بإراقتها، فكسرت الدنان والظروف، ولعن عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وآكل ثمنها.
سئل هل يجوز شرب قليل ما أسكر كثيره من غير خمر العنب كالصرماء
وسئل رحمه الله تعالى: هل يجوز شرب قليل ما أسكر كثيره من غير خمر العنب، كالصرماء والقمز، والمزر؟ أو لا يحرم إلا القدح الأخير؟
فأجاب:
الحمد لله، قد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى قال: قلت يارسول الله، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع وهو العسل ينبذ حتى يشتد. والمزر وهو من الذرة ينبذ حتى يشتد، قال: وكان رسول الله ﷺ قد أعطي جوامع الكلم، فقال: (كل مسكر حرام). وعن عائشة قالت: سألت رسول الله ﷺ عن البتع، وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام). وفي صحيح مسلم عن جابر أن رجلا من اليمن سأل رسول الله ﷺ عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يقال له: المزر، فقال: (أمسكر هو؟) قال: نعم. فقال: (كل مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال). قالوا: يارسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: (عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار).
ففي هذه الأحاديث الصحيحة أن النبي ﷺ سئل عن أشربة من غير العنب كالمزر وغيره فأجابهم بكلمة جامعة، وقاعدة عامة: (إن كل مسكر حرام)، وهذا يبين أنه أراد كل شراب كان جنسه مسكرًا حرام سواء سكر منه أو لم يسكر، كما في خمر العنب. ولو أراد بالمسكر القدح الأخير فقط لم يكن الشراب كله حرامًا، ولكان بين لهم، فيقول أشربوا منه ولا تسكروا؛ ولأنه سألهم عن المزر: (أمسكر هو؟). فقالوا: نعم. فقال: (كل مسكر حرام). فلما سألهم: (أمسكر هو؟) إنما أراد يسكر كثيره كما يقال: الخبز يشبع، والماء يروي، وإنما يحصل الري والشبع بالكثير منه لا بالقليل. كذلك المسكر إنما يحصل السكر بالكثير منه، فلما قالوا له: هو مسكر. قال: (كل مسكر حرام)، فبين أنه أراد بالمسكر كما يراد بالمشبع والمروي ونحوهما، ولم يرد آخر قدح، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ قال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام). وفي لفظ: (كل مسكر حرام). ومن تأوله على القدح الأخير لا يقول: إنه خمر، والنبي ﷺ جعل كل مسكر حرامًا.
وفي السنن عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: (إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن العسل خمرًا). وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب قال على منبر النبي ﷺ: أما بعد، أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر: ما خامر العقل. والأحاديث في هذا الباب كثيرة عن النبي ﷺ تبين أن الخمر التي حرمها اسم لكل مسكر، سواء كان من العسل، أو التمر، أو الحنطة، أو الشعير، أو لبن الخيل، أو غير ذلك. وفي السنن عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم (كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام). قال الترمذي: حديث حسن، وقد روي أهل السنن عن النبي ﷺ: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) من حديث جابر، وابن عمر، وعمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، وغيرهم، وصححه الدارقطني وغيره، وهذا الذي عليه جماهير أئمة المسلمين من الصحابة، والتابعين، وأئمة الأمصار، والآثار.
ولكن بعض علماء المسلمين سمعوا أن النبي ﷺ رخص في النبيذ، وأن الصحابة كانوا يشربون النبيذ، فظنوا أنه المسكر، وليس كذلك، بل النبيذ الذي شربه النبي ﷺ والصحابة هو أنهم كانوا ينبذون التمر أو الزبيب أو نحو ذلك في الماء حتى يحلو، فيشربه أول يوم، وثاني يوم، وثالث يوم، ولا يشربه بعد ثلاث؛ لئلا تكون الشدة قد بدت فيه، وإذا اشتد قبل ذلك لم يشرب. وقد روي أهل السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (ليشربن ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها). وروي هذا عن النبي ﷺ من أربعة أوجه، وهذا يتناول من شرب هذه الأشربة التي يسمونها الصرما وغير ذلك، والأمر في ذلك واضح؛ فإن خمر العنب قد أجمع المسلمون على تحريم قليلها وكثيرها، ولا فرق في الحس ولا العقل بين خمر العنب والتمر والزبيب والعسل؛ فإن هذا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا يوقع العداوة والبغضاء، وهذا يوقع العداوة والبغضاء.
والله سبحانه قد أمر بالعدل والاعتبار، وهذا هو القياس الشرعي وهو التسوية بين المتماثلين، فلا يفرق الله ورسوله بين شراب مسكر وشراب مسكر فيبيح قليل هذا ولا يبيح قليل هذا، بل يسوي بينهما، وإذا كان قد حرم القليل من أحدهما حرم القليل منهما، فإن القليل يدعو إلى الكثير، وأنه سبحانه أمر باجتناب الخمر؛ ولهذا يؤمر بإراقتها، ويحرم اقتناؤها، وحكم بنجاستها، وأمر بجلد شاربها، كل ذلك حسمًا لمادة الفساد، فكيف يبيح القليل من الأشربة المسكرة. والله أعلم.
سئل عن نبيذ التمر والزبيب والمزر والسوينة التي تعمل من الجزر
وسئل رحمه الله تعالى عن نبيذ التمر، والزبيب، والمزر، والسوينة التي تعمل من الجزر، والذي يعمل من العنب، يسمي النصوح: هل هو حلال؟ وهل يجوز استعمال شيء من هذا، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، كل شراب مسكر فهو خمر، فهو حرام بسنة رسول الله ﷺ المستفيضة عنه باتفاق الصحابة، كما ثبت عنه في الصحيح من حديث أبي موسى: أنه سئل عن شراب يصنع من الذرة يقال له: المزر، وشراب يصنع من العسل يقال له: البتع، وكان قد أوتي النبي ﷺ جوامع الكلم، فقال: (كل مسكر حرام). وفي الصحيحين عن عائشة عنه أنه قال: (كل شراب أسكر فهو حرام)، وفي الصحيح عن ابن عمر عنه أنه قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)، وفي لفظ الصحيح: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، وفي السنن عنه أنه قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، وقد صحح ذلك غير واحد من الحفاظ.
والله عز وجل حرم عصير العنب النيئ إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، لما فيه من الشدة المطربة التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء، وكل ما كانت فيه هذه الشدة المطربة فهو خمر من أي مادة كان: من الحبوب، والثمار، وغير ذلك. وسواء كان نيئًا أو مطبوخًا، لكنه إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه لم يبق مسكرًا، اللهم إلا أن يضاف إليه أفاويه أو نوع آخر.
والأصل في ذلك أن كل ما أسكر فهو حرام وهذا مذهب جماهير العلماء الأئمة، كما قال الشافعي وأحمد وغيرهم، وهذا المسكر يوجب الحد على شاربه، وهو نجس عند الأئمة.
وكذلك الحشيشة المسكرة يجب فيها الحد، وهي نجسة في أصح الوجوه، وقد قيل: إنها طاهرة، وقيل: يفرق بين يابسها ومائعها، والأول الصحيح؛ لأنها تسكر بالاستحالة كالخمر النيئ، بخلاف ما لا يسكر بل يغيب العقل كالبنج، أو يسكر بعد الاستحالة كجوزة الطيب، فإن ذلك ليس بنجس. ومن ظن أن الحشيشة لا تسكر وإنما تغيب العقل بلا لذة فلم يعرف حقيقة أمرها، فإنه لولا ما فيها من اللذة لم يتناولوها ولا أكلوها، بخلاف البنج ونحوه مما لا لذة فيه. والشارع فرق في المحرمات بين ما تشتهيه النفوس وما لا تشتهيه النفوس كالدم والميتة اكتفي فيها بالزاجر الشرعي، فجعل العقوبة فيه التعزير. وأما ما تشتهيه النفوس فجعل فيه مع الزاجر الشرعي زاجرًا طبيعيا وهو الحد، والحشيشة من هذا الباب.
سئل عن النصوح هل هو حلال أم حرام
وسئل رحمه الله عن النصوح: هل هو حلال، أم حرام؟ وهم يقولون: إن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان يعمله. وصورته أن يأخذ ثلاثين رطلا من ماء عنب، ويغلي حتى يبقي ثلثه، فهل هذه صورته؟ وقد نقل من فعل بعض ذلك أنه يسكر، وهو اليوم جهارًا في الأسكندرية ومصر، ونقول لهم: هو حرام، فيقولون: كان على زمن عمر، ولو كان حرامًا لنهي عنه.
فأجاب:
الحمد لله، قد ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي ﷺ في الصحاح والسنن والمسانيد أنه حرم كل مسكر، وجعله خمرًا، كما في صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبي ﷺ أنه قال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، وفي لفظ: (كل مسكر حرام)، وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي ﷺ أنه قال: (كل شراب أسكر فهو حرام). وفي الصحيحين عن أبي موسى، عن النبي ﷺ: أنه سئل عن شراب العسل، يسمي المزر، وكان قد أوتي جوامع الكلم، فقال: (كل مسكر حرام). وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال على المنبر منبر النبي ﷺ إن الله حرم الخمر، وهي من خمسة أشياء: من الحنطة، والشعير، والعنب، والتمر، والزبيب، والخمر ما خامر العقل. و هو في السنن مسند عن ابن عمر، عن النبي ﷺ. وروي عنه من غير وجه أنه قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، وقد صححه طائفة من الحفاظ. والأحاديث في ذلك كثيرة.
فذهب أهل الحجاز، واليمن، ومصر، والشام، والبصرة، وفقهاء الحديث: كمالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم: أن كل ما أسكر كثيره فقليله حرام، وهو خمر عندهم من أي مادة كانت، من الحبوب، والثمار، وغيرها، سواء كان من العنب، أو التمر، أو الحنطة، أو الشعير، أو لبن الخيل، أو غير ذلك، وسواء كان نيا أو مطبوخًا، وسواء ذهب ثلثاه، أو ثلثه، أو نصفه، أو غير ذلك، فمتى كان كثيره مسكرًا حرم قليله بلا نزاع بينهم.
ومع هذا فهم يقولون بما ثبت عن عمر: فإن عمر رضي الله عنه لما قدم الشام، وأراد أن يطبخ للمسلمين شرابًا لا يسكر كثيره طبخ العصير حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، وصار مثل الرب، فأدخل فيه أصبعه فوجده غليظًا، فقال: كأنه الطلا. يعني: الطلا الذي يطلي به الإبل، فسموا ذلك الطلا، فهذا الذي أباحه عمر لم يكن يسكر، وذكر ذلك أبو بكر عبد العزيز بن جعفر صاحب الخلال أنه مباح بإجماع المسلمين، وهذا بناء على أنه لا يسكر ولم يقل أحد من الأئمة المذكورين إنه يباح مع كونه مسكرًا.
ولكن نشأت شبهة من جهة أن هذا المطبوخ قد يسكر؛ لأشياء إما لأن طبخه لم يكن تامًا، فإنهم ذكروا صفة طبخه أنه يغلي عليه أولا حتى يذهب وسخه، ثم يغلي عليه بعد ذلك حتى يذهب ثلثاه، فإذا ذهب ثلثاه والوسخ فيه كان الذاهب منه أقل من الثلثين؛ لأن الوسخ يكون حينئذ من غير الذاهب. وإما من جهة أنه قد يضاف إلى المطبوخ من الأفاويه وغيرها ما يقويه ويشده حتى يصير مسكرًا، فيصير بذلك من باب الخليطين، وقد استفاض عن النبي ﷺ أنه نهي عن الخليطين لتقوية أحدهما صاحبه، كما نهي عن خليط التمر والزبيب، وعن الرطب والتمر، ونحو ذلك.
وللعلماء نزاع في الخليطين، إذا لم يسكر، كما تنازع العلماء في نبيذ الأوعية التي لا يشتد ما فيها بالغليان، وكما تنازعوا في العصير والنبيذ بعد ثلاث. وأما إذا صار الخليطان من المسكر فإنه حرام باتفاق هؤلاء الأئمة. فالذي أباحه عمر من المطبوخ كان صرفا، فإذا خلطه بما قواه وذهب ثلثاه لم يكن ذلك ما أباحه عمر. وربما يكون لبعض البلاد طبيعة يسكر فيها ما ذهب ثلثاه فيحرم إذا أسكر، فإن مناط التحريم هو السكر باتفاق الأئمة. ومن قال: إن عمر أو غيره من الصحابة أباح مسكرًا فقد كذب عليهم.
سئل عمن قال إن خمر العنب والحشيشة يجوز بعضه إذا لم يسكر في مذهب أبو حنيفة
وسئل رحمه الله تعالى عمن قال: إن خمر العنب والحشيشة يجوز بعضه إذا لم يسكر في مذهب الإمام أبي حنيفة: فهل هو صادق في هذه الصورة، أم كاذب في نقله؟ ومن استحل ذلك: هل يكفر، أم لا؟ وذكر أن قليل المزر يجوز شربه فهل حكمه حكم خمر العنب في مذهب الإمام أبي حنيفة؟ أم له حكم آخر كما ادعاه هذا الرجل؟
فأجاب:
الحمد لله، أما الخمر التي هي عصيرالعنب الذي إذا غلا واشتد وقذف بالزبد فيحرم قليلها وكثيرها باتفاق المسلمين، ومن نقل عن أبي حنيفة إباحة قليل ذلك فقد كذب، بل من استحل ذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ولو استحل شرب الخمر بنوع شبهة وقعت لبعض السلف أنه ظن أنها إنما تحرم على العامة، لا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فاتفق الصحابة كعمر وعلى وغيرهما على أن مستحل ذلك يستتاب، فإن أقر بالتحريم جلد، وإن أصر على استحلالها قتل.
بل وأبو حنيفة يحرم القليل والكثير من أشربة أخر، وإن لم يسمها خمرًا، كنبيذ التمر، والزبيب النيئ، فإنه يحرم عنده قليله وكثيره إذا كان مسكرًا، وكذلك المطبوخ من عصير العنب الذي لم يذهب ثلثاه فإنه يحرم عنده قليله إذا كان كثيره يسكر، فهذه الأنواع الأربعة تحرم عنده قليلها وكثيرها، وإن لم يسكر منها.
وإنما وقعت الشبهة في سائر المسكر كالمزر الذي يصنع من القمح ونحوه، فالذي عليه جماهير أئمة المسلمين كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن أهل اليمن قالوا يارسول الله: إن عندنا شرابًا يقال له البتع من العسل، وشرابًا من الذرة يقال له: المزر وكان النبي ﷺ قد أوتي جوامع الكلم فقال: (كل مسكر فهو حرام)، وفي الصحيحين عن عائشة عنه أنه قال: (كل شراب أسكر فهو حرام)، وفي الصحيح أيضًا عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)، وفي السنن من غير وجه عنه أنه قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، واستفاضت الأحاديث بذلك.
فإن الله لما حرم الخمر لم يكن لأهل مدينة النبي ﷺ شراب يشربونه إلا من التمر، فكانت تلك خمرهم، وجاء عن النبي ﷺ: أنه كان يشرب النبيذ والمراد به النبيذ الحلو، وهو أن يوضع التمر أو الزبيب في الماء حتى يحلو ثم يشربه، وكان النبي ﷺ قد نهاهم أن ينتبذوا في القرع والخشب والحجر والظرف المزفت؛ لأنهم إذا انتبذوا فيها دب السكر وهم لا يعلمون فيشرب الرجل مسكرًا، ونهاهم عن الخليطين من التمر والزبيب جميعًا؛ لأن أحدهما يقوي الآخر، ونهاهم عن شرب النبيذ بعد ثلاث؛ لأنه قد يصير فيه السكر والإنسان لا يدري. كل ذلك مبالغة منه ﷺ. فمن اعتقد من العلماء أن النبيذ الذي أرخص فيه يكون مسكرًا يعني من نبيذ العسل، والقمح، ونحو ذلك فقال: يباح أن يتناول منه ما لم يسكر، فقد أخطأ.
وأما جماهير العلماء فعرفوا أن الذي أباحه هو الذي لا يسكر، وهذا القول هو الصحيح في النص، والقياس. أما النص: فالأحاديث الكثيرة فيه. وأما القياس: فلأن جميع الأشربة المسكرة متساوية في كونها تسكر، والمفسدة الموجودة في هذا موجودة في هذا، والله صلى تعالى لا يفرق بين المتماثلين بل التسوية بين هذا وهذا من العدل والقياس الجلي، فتبين أن كل مسكر خمر حرام، والحشيشة المسكرة حرام، ومن استحل السكر منها فقد كفر، بل هي في أصح قولي العلماء نجسة كالخمر، فالخمر كالبول، والحشيشة كالعذرة.
فصل في الحشيشة الملعونة المسكرة
وقال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية:
وأما الحشيشة الملعونة المسكرة، فهي بمنزلة غيرها من المسكرات والمسكر منها حرام باتفاق العلماء، بل كل ما يزيل العقل فإنه يحرم أكله ولو لم يكن مسكرًا، كالبنج، فإن المسكر يجب فيه الحد، وغير المسكر يجب فيه التعزير.
وأما قليل الحشيشة المسكرة، فحرام عند جماهير العلماء، كسائر القليل من المسكرات، وقول النبي ﷺ: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، يتناول ما يسكر. ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولا، أو مشروبًا، أو جامدًا، أو مائعًا. فلو اصطبغ كالخمر كان حرامًا، ولو أماع الحشيشة وشربها كان حرامًا. ونبينا ﷺ بعث بجوامع الكلم فإذا قال كلمة جامعة كانت عامة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها، سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه، أو لم تكن.
فلما قال: (كل مسكر حرام)، تناول ذلك ما كان بالمدينة من خمر التمر وغيرها، وكان يتناول ما كان بأرض اليمن من خمر الحنطة والشعير والعسل وغير ذلك، ودخل في ذلك ما حدث بعده من خمر لبن الخيل الذي يتخذه الترك ونحوهم. فلم يفرق أحد من العلماء بين المسكر من لبن الخيل، والمسكر من الحنطة والشعير، وإن كان أحدهما موجودًا في زمنه كان يعرفه، والآخر لم يكن يعرفه؛ إذ لم يكن بأرض العرب من يتخذ خمرًا من لبن الخيل.
وهذه الحشيشة فإن أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة، حيث ظهرت دولة التتر، وكان ظهورها مع ظهور سيف جنكسخان، لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب سلط الله عليهم العدو، وكانت هذه الحشيشة الملعونة من أعظم المنكرات، وهي شر من الشراب المسكر من بعض الوجوه، والمسكر شر منها من وجه آخر، فإنها مع أنها تسكر آكلها حتى يبقى مصطولا تورث التخنيث والديوثة، وتفسد المزاج، فتجعل الكبير كالسفنجة وتوجب كثرة الأكل، وتورث الجنون، وكثير من الناس صار مجنونًا بسبب أكلها.
ومن الناس من يقول: إنها تغير العقل فلا تسكر كالبنج، وليس كذلك بل تورث نشوة ولذة وطربًا كالخمر، وهذا هو الداعي إلى تناولها، وقليلها يدعو إلى كثيرها كالشراب المسكر، والمعتاد لها يصعب عليه فطامه عنها أكثر من الخمر، فضررها من بعض الوجوه أعظم من الخمر؛ ولهذا قال الفقهاء: إنه يجب فيها الحد، كما يجب في الخمر.
وتنازعوا في نجاستها، على ثلاثة أوجه في مذهب أحمد وغيره، فقيل: هي نجسة. وقيل ليست بنجسة. وقيل: رطبها نجس كالخمر، ويابسها ليس بنجس. والصحيح أن النجاسة تتناول الجميع، كما تتناول النجاسة جامد الخمر ومائعها، فمن سكر من شراب مسكر أو حشيشة مسكرة لم يحل له قربان المسجد حتى يصحو، ولا تصح صلاه حتى يعلم ما يقول، ولابد أن يغسل فمه، ويديه، وثيابه في هذا وهذا، والصلاة فرض عينية، لكن لا تقبل منه حتى يتوب أربعين يومًا، كما قال النبي ﷺ: (من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، فإن عاد فشربها كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال)، قيل: وما طينة الخبال؟ قال: (عصارة أهل النار أو عرق أهل النار).
وأما قول القائل: إن هذه ما فيها آية ولا حديث، فهذا من جهله، فإن القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هي قواعد عامة، وقضايا كلية، تتناول كل ما دخل فيها، وكل ما دخل فيها فهو مذكور في القرآن والحديث باسمه العام، وإلا فلا يمكن ذكر كل شيء باسمه الخاص، فإن الله بعث محمدًا ﷺ إلى جميع الخلق، وقال: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [111]، وقال: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ } [112]، وقال تعالى: { الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ا } [113]، وقال: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [114]، فاسم الناس والعالمين يدخل فيه العرب وغير العرب من الفرس والروم، والهند والبربر، فلو قال قائل: إن محمدًا ما أرسل إلى الترك والهند والبربر؛ لأن الله لم يذكرهم في القرآن كان جاهلا، كما لو قال: إن الله لم يرسله إلى بني تميم، وبني أسد وغطفان، وغير ذلك من قبائل العرب، فإن الله لم يذكر هذه القبائل بأسمائها الخاصة، وكما لو قال: إن الله لم يرسله إلى أبي جهل وعتبة، وشيبة، وغيره من قريش؛ لأن الله لم يذكرهم بأسمائهم الخاصة في القرآن.
وكذلك لما قال: { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } [115]، دخل في الميسر الذي لم تعرفه العرب ولم يعرفه النبي ﷺ، وكل الميسر حرام باتفاق المسلمين، وإن لم يعرفه النبي ﷺ كاللعب بالشطرنج وغيره بالعوض فإنه حرام بإجماع المسلمين، وهو الميسر الذي حرمه الله، ولم يكن على عهد النبي ﷺ. والنرد أيضًا من الميسر الذي حرمه الله، وليس في القرآن ذكر النرد والشطرنج باسم خاص؛ بل لفظ الميسر يعمها وجمهور العلماء على أن النرد والشطرنج محرمان بعوض وغير عوض.
وكذلك قوله: { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } إلى قوله: { إِذَا حَلَفْتُمْ } [116]، وقوله: { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [117]، تناول كل أيمان المسلمين التي كانوا يحلفون بها على عهد النبي ﷺ والتي صاروا يحلفون بها بعد، فلو حلف بالفارسية والتركية والهندية والبربرية باسم الله تعالى بتلك اللغة انعقدت يمينه، ووجبت عليه الكفارة إذا حنث باتفاق العلماء، مع أن اليمين بهذه اللغات لم تكن من أيمان المسلمين على عهد رسول الله ﷺ، وهذا بخلاف من حلف بالمخلوقات كالحلف بالكعبة والملائكة، والمشايخ، والملوك، وغير ذلك فإن هذه ليست من أيمان المسلمين، بل هي شرك، كما قال ﷺ: (من حلف بغير الله فقد أشرك).
وكذلك قال تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا } [118]، يعم كل ما يسمي صعيدًا، ويعم كل ماء: سواء كان من المياه الموجودة في زمن النبي ﷺ أو مما حدث بعده، فلو استخرج قوم عيونًا وكان فيها ماء متغير اللون والريح والطعم وأصل الخلقة، وجب الاغتسال به بلا نزاع نعرفه بين العلماء، وإن لم تكن تلك المياه معروفة عند المسلمين على عهد النبي ﷺ كما قال تعالى: { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [119]، فدخل فيه كل مشرك من العرب وغير العرب، كمشركي الترك، والهند، والبربر، وإن لم يكن هؤلاء ممن قتلوا على عهد النبي ﷺ.
وكذلك قوله تعالى: { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [120]، يدخل فيه جميع أهل الكتاب، وإن لم يكونوا ممن قتلوا على عهد النبي ﷺ، فإن الذين قتلوا على زمانه كانوا من نصاري العرب والروم، وقاتل اليهود قبل نزول هذه الآية، وقد دخل فيها النصاري من القبط، والحبشة، والجركس، والأل، واللاص، والكرج، وغيرهم فهذا وأمثاله نظير عموم القرآن لكل ما دخل في لفظه ومعناه، وإن لم يكن باسمه الخاص.
ولو قدر بأن اللفظ لم يتناوله وكان في معنى ما في القرآن والسنة ألحق به بطريق الاعتبار والقياس، كما دخل اليهود والنصاري والفرس في عموم الآية ودخلت جميع المسكرات في معنى خمر العنب، وأنه بعث محمدًا ﷺ بالكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط والكتاب: القرآن. والميزان: العدل. والقياس الصحيح هو من العدل؛ لأنه لا يفرق بين المتماثلين، بل سوي بينهما، فاستوت السيئات في المعنى الموجب للتحريم، لم يخص أحدها بالتحريم دون الآخر، بل من العدل أن يسوي بينهما، ولو لم يسو بينهما كان تناقضًا، وحكم الله ورسوله منزه عن التناقض. ولو أن الطبيب حمي المريض عن شيء لما فيه من الضرر وأباحه له لخرج عن قانون الطب. والشرع طب القلوب، والأنبياء أطباء القلوب والأديان، ولابد إذا أحل الشرع شيئا منه أن يخص هذا بما يفرق به بينه وبين هذا، حتى يكون فيه معنى خاص بما حرمه دون ما أحله. والله أعلم.
سئل عمن يأكل الحشيشة ما يجب عليه
وسئل رحمه الله تعالى عمن يأكل الحشيشة ما يجب عليه؟
فأجاب:
الحمد لله، هذه الحشيشة الصلبة حرام، سواء سكر منها أو لم يسكر، والسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدًا، لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وأما إن اعتقد ذلك قربة، وقال: هي لقيمة الذكر والفكر، وتحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، وتنفع في الطريق، فهو أعظم وأكبر، فإن هذا من جنس دين النصاري الذين يتقربون بشرب الخمر، ومن جنس من يعتقد الفواحش قربة وطاعة، قال الله تعالى: { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [121]، ومن كان يستحل ذلك جاهلا وقد سمع بعض الفقهاء يقول:
حرموها من غير عقل ونقل ** وحرام تحريم غير الحرام
فإنه ما يعرف الله ورسوله، وأنها محرمة، والسكر منها حرام بالإجماع. وإذا عرف ذلك ولم يقر بتحريم ذلك، فإنه يكون كافرًا مرتدًا، كما تقدم. وكل ما يغيب العقل فإنه حرام وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تغيب العقل حرام بإجماع المسلمين. وأما تعاطي البنج الذي لم يسكر، ولم يغيب العقل، ففيه التعزير.
وأما المحققون من الفقهاء فعلموا أنها مسكرة، وإنما يتناولها الفجار، لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك، والخمر توجب الحركة والخصومة، وهذه توجب الفتور والذلة، وفيها مع ذلك من فساد المزاج والعقل، وفتح باب الشهوة، وما توجبه من الدياثة، مما هي من شر الشراب المسكر، وإنما حدثت في الناس بحدوث التتار.
وعلى تناول القليل منها والكثير حد الشرب، ثمانون سوطًا، أو أربعون. إذا كان مسلمًا يعتقد تحريم المسكر، ويغيب العقل.
وتنازع الفقهاء في نجاستها، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ليست نجسة. والثاني: أن مائعها نجس، وأن جامدها طاهر. والثالث وهو الصحيح: أنها نجسة كالخمر، فهذه تشبه العذرة، وذلك يشبه البول، وكلاهما من الخبائث التي حرمها الله ورسوله. ومن ظهر منه أكل الحشيشة فهو بمنزلة من ظهر منه شرب الخمر، وشر منه من بعض الوجوه، ويهجر، ويعاقب على ذلك، كما يعاقب هذا، للوعيد الوارد في الخمر، مثل قوله ﷺ: (لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، وآكل ثمنها)، ومثل قوله: (من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، فإن عاد وشربها لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، وإن عاد فشربها لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، وإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال)، وهي عصارة أهل النار، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه ﷺ قال: (كل مسكر حرام)، وسئل عن هذه الأشربة وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال ﷺ: (كل مسكر حرام).
سئل عما يجب على آكل الحشيشة ومن ادعي أن أكلها جائز حلال مباح
وسئل رحمه الله تعالى عما يجب على آكل الحشيشة، ومن ادعي أن أكلها جائز حلال مباح.
فأجاب:
أكل هذه الحشيشة الصلبة حرام، وهي من أخبث الخبائث المحرمة، وسواء أكل منها قليلا أو كثيرًا، لكن الكثير المسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدًا، لا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن بين المسلمين. وحكم المرتد شر من حكم اليهودي والنصراني، سواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الفكر والذكر، وأنها تحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، وأنهم لذلك يستعملونها.
وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر تباح للخاصة، متأولا قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } [122]، فلما رفع أمرهم إلى عمر بن الخطاب وتشاور الصحابة فيهم اتفق عمر وعلى وغيرهما من علماء الصحابة رضي الله عنهم على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا. وهكذا حشيشة العشب من اعتقد تحريمها وتناولها فإنه يجلد الحد ثمانين سوطًا، أو أربعين. هذا هو الصواب. وقد توقف بعض الفقهاء في الجلد؛ لأنه ظن أنها مزيلة للعقل، غير مسكرة، كالبنج ونحوه مما يغطي العقل من غير سكر، فإن جميع ذلك حرام باتفاق المسلمين: إن كان مسكرًا ففيه جلد الخمر، وإن لم يكن مسكرًا ففيه التعزير بما دون ذلك، ومن اعتقد حل ذلك كفر وقتل.
والصحيح أن الحشيشة مسكرة كالشراب، فإن آكليها ينشون بها، ويكثرون تناولها، بخلاف البنج وغيره، فإنه لا ينشي، ولا يشتهي. وقاعدة الشريعة أن ما تشتهيه النفوس من المحرمات كالخمر والزنا ففيه الحد، ومالا تشتهيه كالميتة ففيه التعزير. والحشيشة مما يشتهيها آكلوها، ويمتنعون عن تركها، ونصوص التحريم في الكتاب والسنة على من يتناولها كما يتناول غير ذلك، وإنما ظهر في الناس أكلها قريبًا من نحو ظهور التتار، فإنها خرجت، وخرج معها سيف التتار.
سئل عمن يأخذ شيئا من العنب ويضيف إليه أصنافا من العطر ثم يغليه إلى أن ينقص الثلث
وسئل رحمه الله عمن يأخذ شيئا من العنب، ويضيف إليه أصنافًا من العطر ثم يغليه إلى أن ينقص الثلث، ويشرب منه لأجل الدواء، ومتى أكثر شربه أسكر.
فأجاب:
الحمد لله، متى كان كثيره يسكر فهو حرام، وهو خمر، ويحد صاحبه، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ، وعليه جماهير السلف والخلف، كما في صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبي ﷺ قال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، وفي الصحيحين عن عائشة قالت:
سئل رسول الله ﷺ عن البتع وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام)، وفي الصحيح عن أبي موسى، قال: قلت يا رسول الله: أفتنا في شراب كنا نصنعه في اليمن البتع وهو من نبيذ العسل، ينبذ حتى يشتد، فقال: (كل مسكر حرام)، وفي صحيح مسلم عن جابر أن رجلا من حبشان اليمن سأل رسول الله ﷺ عن شراب يصنعونه بأرضهم يقال له: المزر. فقال: (أيسكر؟). قال: نعم. فقال: (كل مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال) قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: (عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار)، وقد روي عن النبي ﷺ من وجوه متعددة: (ما أسكر كثيرة فقليله حرام)، وقد صحح ذلك غير واحد من الحفاظ. والأحاديث في ذلك متعددة.
وإذا طبخ العصير حتى يذهب ثلثه أو نصفه وهو يسكر فهو حرام عند الأئمة الأربعة، بل هو خمر عند مالك والشافعي وأحمد. وأما إن ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فهذا لا يسكر في العادة، إلا إذا انضم إليه ما يقويه، أو لسبب آخر. فمتى أسكر فهو حرام بإجماع المسلمين وهو الطلاء الذي أباحه عمر بن الخطاب للمسلمين. وأما إن أسكر بعدما طبخ وذهب ثلثاه، فهو حرام أيضًا عند مالك، والشافعي، وأحمد.
سئل عن المداومة على شرب الخمر وترك الصلاة وما حكمه في الإصرار على ذلك
وسئل رحمه الله تعالى عن المداومة على شرب الخمر، وترك الصلاة، وما حكمه في الإصرار على ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، أما شارب الخمر، فيجب باتفاق الأئمة أن يجلد الحد إذا ثبت ذلك عليه، وحده أربعون جلدة، أو ثمانون جلدة. فإن جلده ثمانين جاز باتفاق الأئمة، وإن اقتصر على الأربعين ففي الإجزاء نزاع مشهور. فمذهب أبي حنفية ومالك وأحمد في إحدى الروايتين أنه يجب الثمانون. ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى عنه أن الأربعين الثانية تعزير يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، فإن احتاج إلى ذلك لكثرة الشرب أو إصرار الشارب ونحو ذلك فعل، وقد كان عمر بن الخطاب يعزر بأكثر من ذلك، كما روي عنه أنه كان ينفي الشارب عن بلده، ويمثل به بحلق رأسه.
وقد روي من وجوه عن النبي ﷺ قال: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها الثالثة، أو الرابعة، فاقتلوه). فأمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة. وأكثر العلماء لا يوجبون القتل، بل يجعلون هذا الحديث منسوخًا، وهو المشهور من مذاهب الأئمة. وطائفة يقولون: إذا لم ينتهوا عن الشرب إلا بالقتل جاز ذلك، كما في حديث آخر في السنن أنه نهاهم عن أنواع من الأشربة قال: (فإن لم يدعوا ذلك فاقتلوهم). والحق ما تقدم. وقد ثبت في الصحيح أن رجلا كان يدعي حمارًا، وهو كان يشرب الخمر، فكان كلما شرب جلده النبي ﷺ، فلعنه رجل، فقال: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتي به إلى النبي ﷺ؟ فقال: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله)، وهذا يقتضي أنه جلد مع كثرة شربه.
وأما تارك الصلاة فإنه يستحق العقوبة باتفاق الأئمة، وأكثرهم كمالك والشافعي وأحمد يقولون: إنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وهل يقتل كافرًا مرتدًا، أو فاسقًا كغيره من أصحاب الكبائر؟ على قولين. فإذا لم تمكن إقامة الحد على مثل هذا فإنه يعمل معه الممكن، فيهجر، ويوبخ حتى يفعل المفروض، ويترك المحظور، ولا يكون ممن قال الله فيه: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [123]، مع أن إضاعتها تأخيرها عن وقتها، فكيف بتاركها؟ !!
سئل عن رجل عنده حجرة خلفها فلوه فهل يجوز الشرب من لبنها أم لا
وسئل رحمه الله عن رجل عنده حجرة خلفها فلوه، فهل يجوز الشرب من لبنها، أم لا؟
فأجاب:
يجوز الشرب من لبنها؛ إذا لم يصر مسكرًا.
سئل عن رجل اعتاد أن يتناول كل ليلة قبل العصر شيئا من المعاجين مدة سنين
وسئل قدس الله روحه عن رجل اعتاد أن يتناول كل ليلة قبل العصر شيئا من المعاجين مدة سنين. فسئل عن ذلك، فقال: أري فيه أشياء من المنافع: فهل يباح ذلك له أم لا؟
فأجاب:
إن كان ذلك يغيب العقل لم يجز له أكله، فإن كل ما يغيب العقل يحرم باتفاق المسلمين.
سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر فاجلدوه
وسئل رحمه الله عن قوله ﷺ: (من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه): هل لهذا الحديث أصل؟ ومن رواه؟
فأجاب:
نعم. له أصل، وهو مروي من وجوه متعددة، وهو ثابت عند أهل الحديث، لكن أكثر العلماء يقولون: هو منسوخ. وتنازعوا في ناسخه، على عدة أقاويل. ومنهم من يقول: بل حكمه باق. وقيل: بل الوجوب منسوخ، والجواز باق. وقد رواه أحمد، والترمذي، وغيرهما، ولا أعلم أحدًا قدح فيه. والله أعلم.
سئل عمن هش الذرة فأخذ يغلي في قدره ثم ينزله ويعمل عليه قمحا
وسئل رحمه الله عمن هش الذرة فأخذ يغلي في قدره، ثم ينزله ويعمل عليه قمحًا، ويخليه إلى بكرة، ويصفيه، فيكون مما لا يسكر في ذلك اليوم، ثم يخليه يومين أو ثلاثة بعد ذلك فيبقي يسكر: هل يجوز أن يشرب منه في أول يوم أم لا؟
فأجاب:
يجوز شربه ما لم يسكر إلى ثلاثة أيام. فأما إذا أسكر فإنه حرام بنص رسول الله ﷺ، سواء أسكر بعد الثلاثة، أو قبل الثلاثة، ومتى أسكر حرم، فإنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام).
سئل عن الخمر إذا غلي على النار ونقص الثلث هل يجوز استعماله
وسئل رحمه الله تعالى عن الخمر إذا غلي على النار ونقص الثلث: هل يجوز استعماله، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا صار مسكرًا فإنه حرام تجب إراقته، ولا يحل بالطبخ، وأما إذا طبخ قبل أن يصير مسكرًا حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه ولم يسكر فإنه حلال عند جماهير المسلمين. وأما إن طبخ قبل أن يصير مسكرًا حتى ذهب ثلثه أو نصفه، فإن كان مسكرًا فإنه حرام في مذهب الأئمة الأربعة. وإن لم يكن مسكرًا فإنه يستعمل ما لم يسكر إلى ثلاثة أيام.
سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر فاجلدوه
وسئل رحمه الله تعالى عن جماعة من المسلمين رجال كهول وشبان، وهم حجاج مواظبون على أداء ما افترض عليهم من صوم، وصلاة، وعبادة. وفيهم كبير القدر معروفون بالثقة والأمانة بين المسلمين في أقوالهم وأفعالهم، ليس عليهم شيء من ظواهر السوء والفسوق، وقد اجتمعت عقولهم وأذهانهم ورأيهم على أكل الغبيراء، وكان قولهم واعتقادهم فيها أنها معصية وسيئة، غير أنهم مع ذلك يقولون في اعتقادهم بدليل كتاب الله سبحانه وتعالى وهو: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [124]، وذكروا أيضًا أنها حرام، غير أن لهم وردًا بالليل وتعبدات، ويزعمون أنها إذا حصلت نشوتها برؤوسهم تأمرهم بتلك العبادة، ولا تأمرهم بسوء ولا فاحشة، ونسبوا أنه ليس لها ضرر لأحد من خلق الله تعالى كالزنا وشرب الخمر والسرقة، وأنه لا يجب على من أكلها حد من الحدول، إلا أنها تتعلق بمخالفة أمر من أمور الله سبحانه وتعالى والله يغفر ما بين العبد وربه. واجتمع بهم رجل صادق القول، وذكر عنهم ذلك، ووافقهم على أكلها بحكمهم عليه، وحديثهم له، واعترف على نفسه بذلك: فهل يجب على آكلها حد شارب الخمر أم لا؟ أفتونا.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، نعم يجب على آكلها حد شارب الخمر. وهؤلاء القوم ضلال جهال عصاة لله ولرسوله، وكفى برجل جهلا أن يعرف بأن هذا الفعل محرم، وأنه معصية لله ولرسوله، ثم يقول: إنه تطيب له العبادة، وتصلح له حاله!!! ويح هذا القائل! أيظن أن الله سبحانه وتعالى ورسوله ﷺ حرم على الخلق ما ينفعهم، ويصلح لهم؟ نعم، قد يكون في الشيء منفعة وفية مضرة أكثر من منفعته فيحرمه الله سبحانه وتعالى لأن المضرة إذا كانت أكثر من المنفعة بقيت الزيادة مضرة محضة، وصار هذا الرجل كأنه قال لرجل: خذ مني هذا الدرهم وأعطني دينارًا، فجهله يقول له: هو يعطيك درهمًا فخذه، والعقل يقول: إنما يحصل الدرهم بفوات الدينار، وهذا ضرر لا منفعة له، بل جميع ما حرمه الله ورسوله إن ثبت فيه منفعة ما فلابد أن يكون ضرره أكثر.
فهذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها ومستحلوها، الموجبة لسخط الله وسخط رسوله وسخط عباده المؤمنين، المعرضة صاحبها لعقوبة الله، إذا كانت كما يقوله الضالون: من أنها تجمع الهمة، وتدعو إلى العبادة، فإنها مشتملة على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه أضعاف ما فيها من خير، ولا خير فيها، ولكن هي تحلل الرطوبات، فتتصاعد الأبخرة إلى الدماغ، وتورث خيالات فاسدة، فيهون على المرء ما يفعله من عبادة، ويشغله بتلك التخيلات عن إضرار الناس. وهذه رشوة الشيطان يرشو بها المبطلين ليطيعوه فيها، بمنزلة الفضة القليلة في الدرهم المغشوش، وكل منفعة تحصل بهذا السبب فإنها تنقلب مضرة في المآل، ولا يبارك لصاحبها فيها، وإنما هذا نظير السكران بالخمر، فإنها تطيش عقله حتى يسخو بماله، ويتشجع على أقرانه، فيعتقد الغر أنها أورثته السخاء والشجاعة وهو جاهل، وإنما أورثته عدم العقل. ومن لا عقل له لا يعرف قدر النفس والمال، فيجود بجهله، لا عن عقل فيه.
وكذلك هذه الحشيشة المسكرة إذا أضعفت العقل، وفتحت باب الخيال، تبقى العادة فيها مثل العبادات في الدين الباطل دين النصاري، فإن الراهب تجده يجتهد في أنواع العبادة لا يفعلها المسلم الحنيف، فإن دينه باطل، والباطل خفيف؛ ولهذا تجود النفوس في السماع المحرم والعشرة المحرمة بالأموال وحسن الخلق بما لا تجود به في الحق، وما هذا بالذي يبيح تلك المحارم، أو يدعو المؤمن إلى فعله؛ لأن ذلك إنما كان لأن الطبع لما أخذ نصيبه من الحظ المحرم ولم يبال بما بذله عوضًا عن ذلك، وليس في هذا منفعة في دين المرء ولا دنياه، وإنما ذلك لذة ساعة، بمنزلة لذة الزاني حال الفعل، ولذة شفاء الغضب حال القتل، ولذة الخمر حال النشوة، ثم إذا صحا من ذلك وجد عمله باطلا، وذنوبه محيطة به، وقد نقص عليه عقله ودينه وخلقه.
وأين هؤلاء الضلال مما تورثه هذه الملعونة من قلة الغيرة، وزوال الحمية حتى يصير آكلها إما ديوثًا، وإما مأبونا، وإما كلاهما، وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقًا كثيرًا مجانين وتجعل الكبد بمنزلة السفنج، ومن لم يجن منهم فقد أعطته نقص العقل، ولو صحا منها، فإنه لابد أن يكون في عقله خبل، ثم إن كثيرها يسكر حتى يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي وإن كانت لا توجب قوة نفس صاحبها حتى يضارب ويشاتم، فكفي بالرجل شرًا أنها تصده عن ذكر الله وعن الصلاة إذا سكر منها، وقليلها وإن لم يسكر فهو بمنزلة قليل الخمر. ثم إنها تورث من مهانة آكلها، ودناءة نفسه، وانفتاح شهوته، ما لا يورثه الخمر. ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر، وإن كان في الخمر مفسدة ليست فيها وهي الحدة، فهي بالتحريم أولى من الخمر؛ لأن ضرر آكل الحشيشة على نفسه أشد من ضرر الخمر، وضرر شارب الخمر على الناس أشد، إلا أنه في هذه الأزمان لكثرة أكل الحشيشة، صار الضرر الذي منها على الناس أعظم من الخمر، وإنما حرم الله المحارم لأنها تضر أصحابها، وإلا فلو ضرت الناس ولم تضره لم يحرمها، إذ الحاسد يضره حال المحسود، ولم يحرم الله اكتساب المعإلى لدفع تضرر الحاسد. هذا وقد قال رسول الله ﷺ: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)، وهذه مسكرة، ولو لم يشملها لفظ بعينها لكان فيها من المفاسد ما حرمت الخمر لأجلها، مع أن فيها مفاسد أخر غير مفاسد الخمر توجب تحريمها. والله أعلم.
باب التعزير
سئل عن رجل من أمراء المسلمين له مماليك وعنده غلمان فهل له أن يقيم على أحدهم حدا إذا ارتكبه
سئل شيخ الإسلام أبو العباس عن رجل من أمراء المسلمين له مماليك، وعنده غلمان: فهل له أن يقيم على أحدهم حدًا إذا ارتكبه؟ وهل له أن يأمرهم بواجب إذا تركوه كالصلوات الخمس ونحوها؟ وما صفة السوط الذي يعاقبهم به؟
فأجاب:
الحمد لله، الذي يجب عليه أن يأمرهم كلهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر والبغي، وأقل ما يفعل أنه إذا استأجر أجيرًا منهم يشترط عليه ذلك، كما يشترط عليه ما يشترطه من الأعمال، ومتى خرج واحد منهم عن ذلك طرده.
وإذا كان قادرًا على عقوبتهم بحيث يقره السلطان على ذلك في العرف الذي اعتاده الناس وغيره، لا يعاقبهم على ذلك لكونهم تحت حمايته ونحو ذلك، فينبغي له أن يعزرهم على ذلك إذا لم يؤدوا الواجبات ويتركوا المحرمات إلا بالعقوبة، وهو المخاطب بذلك حينئذ، فإنه هو القادر عليه وغيره لا يقدر على ذلك، مراعاة له. فإن لم يستطع أن يقيم هو الواجب ولم يقم غيره بالواجب، صار الجميع مستحقين العقوبة، قال النبي: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)، وقال: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، لاسيما إذا كان يضربهم لما يتركونه من حقوقه، فمن القبيح أن يعاقبهم على حقوقه، ولا يعاقبهم على حقوق الله.
والتأديب يكون بسوط معتدل، وضرب معتدل، ولا يضرب الوجه، وإلا المقاتل.
سئل عن رجل يسفه على والديه فما يجب عليه
وسئل قدس الله روحه عن رجل يسفه على والديه: فما يجب عليه؟
فأجاب:
إذا شتم الرجل أباه واعتدى عليه فإنه يجب أن يعاقب عقوبة بليغة تردعه وأمثاله عن مثل ذلك، بل وأبلغ من ذلك أنه قد ثبت عن النبي ﷺ في الصحيحين أنه قال: (من الكبائر أن يسب الرجل والديه). قالوا: وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: (يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه). فإذا كان النبي ﷺ قد جعل من الكبائر أن يسب الرجل أبا غيره لئلا يسب أباه فكيف إذا سب هو أباه مباشرة، فهذا يستحق العقوبة التي تمنعه عن عقوق الوالدين الذي قرن الله حقهما حيث قال: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [125]، وقال تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [126]، فكيف بسبهما؟ !!
سئل عن رجل كذب عليه بعض المساكين حتى ضربه فهل يجب على ولي الأمر ضرب من ظلمه
وسئل رحمه الله عن رجل من أكابر مقدمي العسكر معروف بالخير والدين، وكذب عليه بعض المساكين، حتى ضربه، وعلقه، وطاف به على حمار، وحبسه بعد ذلك: هل يجب على ولي الأمر ضرب من ظلمه؟
فأجاب:
من كذب عليه وظلمه حتى فعل به ذلك، فإنه تجب عقوبته التي تزجره وأمثاله عن مثل ذلك باتفاق المسلمين، بل جمهور السلف يثبتون القصاص في مثل ذلك، فمن ضرب غيره وجرحه بغير حق فإنه يفعل به كما فعل، كما قال عمر بن الخطاب: أيها الناس، إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن ليعلموكم كتاب الله وسنة نبيكم، ويقسموا بينكم فيء كم، فلا يبلغني أن أحدًا ضربه عامله بغير حق إلا أقدته، فراجعه عمرو بن العاص في ذلك، فقاله لهم: إن رسول الله ﷺ أقاد ممن ظلمه.
سئل عمن شتم رجلا وسبه
وسئل قدس الله روحه عمن شتم رجلا وسبه.
فأجاب:
إذا اعتدى عليه بالشتم والسب فله أن يعتدي عليه بمثل ما اعتدى عليه، فيشتمه إذا لم يكن ذلك محرمًا لعينه كالكذب وأما إن كان محرمًا لعينه كالقذف بغير الزنا فإنه يعزر على ذلك تعزيرًا بليغًا يردعه وأمثاله من السفهاء، ولو عزر على النوع الأول من الشتم جاز، وهو الذي يشرع إذا تكرر سفهه أو عدوانه على من هو أفضل منه. والله أعلم.
سئل عمن شتم رجلا فقال له أنت ملعون ولد زنا
وسئل رحمه الله تعالى عمن شتم رجلا فقال له: أنت ملعون، ولد زنا.
فأجاب:
يجب تعزيره على هذا الكلام، ويجب عليه حد القذف إن لم يقصد بهذه الكلمة ما يقصده كثير من الناس من قصدهم بهذه الكلمة أن المشتوم فعله خبيث كفعل ولد الزنا.
سئل عن سامري ضرب مسلما وشتمه
وسئل رحمه الله عن سامري ضرب مسلمًا وشتمه.
فأجاب:
تجب عقوبته عقوبة بليغة تردعه وأمثاله. والله أعلم.
سئل عن الاستمناء
وسئل رحمه الله عن الاستمناء.
فأجاب:
أما الاستمناء: فالأصل فيه التحريم عند جمهور العلماء، وعلى فاعله التعزير، وليس مثل الزنا. والله أعلم.
سئل عن الاستمناء هل هو حرام أم لا
وسئل رحمه الله تعالى عن الاستمناء هل هو حرام، أم لا؟
فأجاب:
أما الاستمناء باليد فهو حرام عند جمهور العلماء، وهو أصح القولين في مذهب أحمد، وكذلك يعزر من فعله. وفي القول الآخر هو مكروه غير محرم، وأكثرهم لا يبيحونه لخوف العنت ولا غيره، ونقل عن طائفة من الصحابة والتابعين أنهم رخصوا فيه للضرورة، مثل أن يخشى الزنا فلا يعصم منه إلا به، ومثل أن يخاف إن لم يفعله أن يمرض، وهذا قول أحمد وغيره. وأما بدون الضرورة فما علمت أحدًا رخص فيه. والله أعلم.
سئل عن رجل يهيج عليه بدنه فيستمنى بيده وبعض الأوقات يلصق وركيه على ذكره
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل يهيج عليه بدنه فيستمنى بيده، وبعض الأوقات يلصق وركيه على ذكره وهو يعلم أن إزالة هذا بالصوم، لكن يشق عليه؟
فأجاب:
أما ما نزل من الماء بغير اختياره فلا إثم عليه فيه، لكن عليه الغسل إذا أنزل الماء الدافق. وأما إنزاله باختياره بأن يستمني بيده، فهذا حرام عند أكثر العلماء، وهو أحد الروايتين عن أحمد، بل أظهرهما. وفي رواية أنه مكروه، لكن إن اضطر إليه مثل أن يخاف الزنا إن لم يستمن أو يخاف المرض، فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء، وقد رخص في هذه الحال طوائف من السلف والخلف، ونهى عنه آخرون. والله أعلم.
سئل عن رجل جلد ذكره بيده حتى أمنى فما يجب عليه
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل جلد ذكره بيده حتى أمنى: فما يجب عليه؟
فأجاب:
وأما جلد الذكر باليد حتى ينزل فهو حرام عند أكثر الفقهاء مطلقًا، وعند طائفة من الأئمة حرام إلا عند الضرورة مثل أن يخاف العنت، أو يخاف المرض، أو يخاف الزنا، فالاستمناء أصلح.
سئل عن رجل له ولد صغير فاتهم وضرب بالمقارع وخسر والده أربعمائة درهم
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له ولد صغير فاتهم، وضرب بالمقارع، وخسر والده أربعمائة درهم، ثم وجدت السرقة فجاء صاحب السرقة وصالح المتهوم على مائتي درهم: فهل يصح منه إبراء بغير رضي والده إذا كان تحت الحجر؟ وإذا لم يصح فما يجب في دية الضرب؟ وهل لوالده بعد إبراء الصغير أن يطالبه بضرب ولده، أم لا؟
فأجاب:
إذا كان المضروب تحت حجر أبيه لم يصح صلحه ولا إبراءة. وما غرمه أبوه بسبب هذه التهمة الباطلة فله أن يرجع به على من غرمه إياه بعدوانه، سواء أبرأه الابن أو لم يبرئه، فالمضروب يستحق أن يضرب من طلب ضربه من المتهمين له مثل ما ضربه، إذا لم يعرف بالشر قبل ذلك. هكذا ذكره النعمان بن بشير أن ذلك حكم الله ورسوله، رواه أبو داود وغيره، فإنه قال لقوم طلبوا منه أن يضرب رجلا على تهمة: إن شئتم ضربته لكم، فإن ظهر مالكم عنده وإلا ضربتكم مثل ما ضربته. فقالوا: هذا حكمك؟ فقال: هذا حكم الله ورسوله. وهذا في ضرب من لم يعرف بالشر، وأما ضرب من عرف بالشر فذاك مقام آخر.
وقد ثبت القصاص في الضرب واللطم ونحو ذلك عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين. وجاءت به سنة رسول الله ﷺ ونص عليه غير واحد من الأئمة كأحمد ابن حنبل وغيره، وإن كان كثير من الفقهاء لا يرى القصاص في مثل هذا، بل يرى فيه التعزير، فالأول هو الصحيح، ولكن هل للأب أن يستوفي حق القصاص الذي لابنه؟ أم يتركه حتى يبلغ؟ هذا فيه نزاع معروف بين العلماء، وأما إن كان الابن بالغًا فله العقوبات البدنية واستبقاؤها.
باب القطع في السرقة
سئل عن رجل سرق بيته مرارا ثم وجد مملوكا فهل يلزمه ما عدم من البيت
سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل سرق بيته مرارًا، ثم وجد بعد ذلك في بيته مملوك بعد أن أغلق بابه فأخذ فأقر أنه دخل البيت مختلسًا مرارًا عديدة، ولم يقر أنه أخذ شيئا: فهل يلزمه ما عدم لهم من البيت؟ وما الحكم فيه؟
فأجاب:
هذا العبد يعاقب باتفاق المسلمين على ما ثبت عليه من دخول البيت، ويعاقب أيضًا عند كثير من العلماء. فإذا أقر بما تبين أنه أخذ المال مثل أن يدل على موضع المال - أو على من أعطاه إياه، ونحو ذلك، أخذ المال، وأعطى لصاحبه إن كان موجودًا، وغرمه إن كان تالفًا.
ويبنغى للمعاقب له أن يحتال عليه بما يقر به، كما يفعل الحذاق من القضاة والولاة بمن يظهر لهم فجوره حتى يعترف، وأقل ما في ذلك أن يشهد عليهم برد اليمين على المدعي، فإذا حلف رب المال حينئذ حكم لرب المال إذا حلف. وأما الحكم لرب المال بيمينه بما ظهر من اللوث، والأمارات التي يغلب على الظن صدق المدعي، فهذا فيه اجتهاده. وأما في النفوس فالحكم بذلك مذهب أكثر العلماء كالشافعي، وأحمد. والله أعلم.
سئل عن رجل له مملوك ذكر أنه سرق له قماشا وذكر الغلام أنه أودعه عند سيده القديم
وسئل رحمه الله عن رجل له مملوك ذكر أنه سرق له قماشًا، وذكر الغلام أنه أودعه عند سيده القديم في منديل: فهل يقبل قوله في ذلك؟ وما يلزم في ذلك؟
فأجاب:
لا يؤخذ بمجرد قول الغلام باتفاق المسلمين، سواء كان الحاكم بينهما وإلى الحرب، أو قاضي الحكم، بل الذي عليه جمهور الفقهاء في المتهم بسرقة ونحوها أن ينظر في المتهم: فإما أن يكون معروفًا بالفجور، وإما أن يكون مجهول الحال.
فإن كان معروفًا بالبر لم يجز مطالبته ولا عقوبته. وهل يحلف؟ على قولين للعلماء. ومنهم من قال: يعزر من رماه بالتهمة.
وإما أن يكون مجهول الحال فإنه يحبس حتى يكشف أمره. قيل: يحبس شهرًا، وقيل: اجتهاد ولي الأمر، لما في السنن عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله ﷺ حبس في تهمة.
وإن كان قد يكون الرجل معروفًا بالفجور المناسب للتهمة، فقال طائفة من الفقهاء: يضربه الوالي، دون القاضي. وقد ذكر ذلك طوائف من أصحاب مالك، والشافعي، والإمام أحمد. ومن الفقهاء من قال: لا يضرب. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه أمر الزبير بن العوام أن يمس بعض المعاهدين بالعذاب لما كتم إخباره بالمال الذي كان النبي ﷺ قد عاهدهم عليه، وقال له: أين كنز حيى بن أخطب؟ فقال: يا محمد أذهبته النفقات والحروب، فقال: (المال كثير، والعهد قريب من هذا). وقال للزبير: دونك هذا. فمسه الزبير بشيء من العذاب، فدلهم على المال.
وأما إذا ادعى أنه استودع المال فهذا أخف، فإن كان معروفًا بالخير لم يجز إلزامه بالمال باتفاق المسلمين، بل يحلف المدعى عليه، سواء كان الحاكم واليًا، أو قاضيًا.
سئل عما يتعلق بالتهم في المسروقات في ولايته فإن ترك الفحص في ذلك ضاعت الأموال وطمعت الفساق
وسئل رحمه الله تعالى عما يتعلق بالتهم في المسروقات في ولايته، فإن ترك الفحص في ذلك ضاعت الأموال، وطمعت الفساق. وإن وكله إلى غيره ممن هو تحت يده غلب على ظنه أنه يظلم فيها، أو يتحقق أنه لا يفي بالمقصود في ذلك، وإن أقدم وسأل أو أمسك المتهومين وعاقبهم خاف الله تعالى في إقدامه على أمر مشكوك فيه وهو يسأل ضابطًا في هذه الصورة، وفي أمر قاطع الطريق.
فأجاب:
أما التهم في السرقة وقطع الطريق ونحو ذلك فليس له أن يفوضها إلى من يغلب على ظنه أنه يظلم فيها مع إمكان أن يقيم فيها من العدول ما يقدر عليه، وذلك أن الناس في التهم ثلاثة أصناف:
صنف معروف عند الناس بالدين والورع وأنه ليس من أهل التهم، فهذا لا يحبس، ولا يضرب، بل ولا يستحلف في أحد قولي العلماء، بل يؤدب من يتهمه فيما ذكره كثير منهم.
والثاني: من يكون مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور. فهذا يحبس حتى يكشف عن حاله. وقد قيل: يحبس شهرًا. وقيل: يحبس بحسب اجتهاد ولي الأمر. والأصل في ذلك ما روى أبو داود وغيره: أن النبي ﷺ حبس في تهمة، وقد نص على ذلك الأئمة، وذلك أن هذه بمنزلة ما لو ادعى عليه مدع فإنه يحضر مجلس ولى الأمر الحاكم بينهما، وإن كان في ذلك تعويقه عن أشغاله، فكذلك تعويق هذا إلى أن يعلم أمره، ثم إذا سأل عنه ووجد بارًا أطلق.
وإن وجد فاجرًا كان من الصنف الثالث وهو الفاجر الذي قد عرف منه السرقة قبل ذلك، أو عرف بأسباب السرقة مثل أن يكون معروفًا بالقمار، والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال، وليس له مال، ونحو ذلك، فهذا لوث في التهمة؛ ولهذا قالت طائفة من العلماء: إن مثل هذا يمتحن بالضرب يضربه الوالى والقاضي كما قال أشهب صاحب مالك وغيره حتى يقر بالمال. وقالت طائفة: يضربه الوالى، دون القاضي، كما قال ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، كما ذكره القاضيان الماوردي والقاضي أبو يعلى في كتابيهما في الأحكام السلطانية، وهو قول طائفة من المالكية، كما ذكره الطرسوسي وغيره.
ثم المتولى له أن يقصد بضربه مع تقريره عقوبته على فجوره المعروف، فيكون تعزيرًا وتقريرًا، وليس على المتولي أن يرسل جميع المتهومين حتى يأتي أرباب الأموال بالبينة على من سرق، بل قد أنزل على نبيه في قصة كانت تهمة في سرقة قوله تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا } إلى آخر الآيات [127]، وكان سبب ذلك أن قومًا يقال لهم: بنو أبيرق سرقوا لبعض الأنصار طعامًا ودرعين، فجاء صاحب المال يشتكي إلى رسول الله ﷺ، فجاء قوم يزكون المتهمين بالباطل، فكان النبي ﷺ ظن صدق المزكيين فلام صاحب المال، فأنزل الله هذه الآية، ولم يقل النبي ﷺ لصاحب المال: أقم البينة، ولا حلف المتهمين؛ لأن أولئك المتهمين كانوا معروفين بالشر، وظهرت الريبة عليهم.
وهكذا حكم النبي ﷺ بالقسامة في الدماء إذا كان هناك لوث يغلب على الظن صدق المدعين؛ فإن هذه الأمور من الحدود في المصالح العامة، ليست من الحقوق الخاصة، فلولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفك الدماء فيقتل الرجل عدوه خفية، ولا يمكن أولياء المقتول إقامة البينة، واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة، فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين. وقول النبي ﷺ: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه)، هذا فيما لا يمكن من المدعى حجة غير الدعوى فإنه لا يعطى بها شيئا، ولكن يحلف المدعى عليه. فأما إذا أقام شاهدًا بالمال فإن النبي ﷺ قد حكم في المال بشاهد ويمين، وهو قول فقهاء الحجاز وأهل الحديث، كمالك، والشافعي، وأحمد وغيرهم، وإذا كان في دعوى الدم لوث فقد قال النبي ﷺ للمدعين: (أتحلفون خمسين يمينًا وتستحقون دم صاحبكم).
كذلك أمر قطاع الطريق وأمر اللصوص وهو من المصالح العامة التي ليست من الحقوق الخاصة، فإن الناس لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم في المساكن والطرقات إلا بما يزجرهم في قطع هؤلاء، ولا يزجرهم أن يحلف كل منهم؛ ولهذا اتفق الفقهاء على أن قاطع الطريق لأخذ المال يقتل حتمًا، وقتله حد لله، وليس قتله مفوضًا إلى أولياء المقتول، قالوا: لأن هذا لم يقتله لغرض خاص معه، إنما قتله لأجل المال، فلا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره، فقتله مصلحة عامة، فعلى الإمام أن يقيم ذلك.
وكذلك السارق ليس غرضه في مال معين، وإنما غرضه أخذ مال هذا ومال هذا، كذلك كان قطعه حقًا واجبًا لله ليس لرب المال، بل رب المال يأخذ ماله، وتقطع يد السارق، حتى لو قال صاحب المال: أنا أعطيه مإلى لم يسقط عنه القطع، كما قال صفوان للنبي ﷺ: أنا أهبه ردائي، فقال النبي ﷺ: (فهلا فعلت قبل أن تأتي به)، وقال النبي ﷺ: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال). وقال للزبير بن العوام: إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع.
ومما يشبه هذا من ظهر عنده مال يجب عليه إحضاره كالمدين إذا ظهر أنه غيب ماله وأصر على الحبس، وكمن عنده أمانة ولم يردها إلى مستحقها ظهر كذبه، فإنه لا يحلف، لكن يضرب حتى يحضر المال الذي يجب إحضاره، أو يعرف مكانه، كما قال النبي ﷺ للزبير بن العوام عام خيبر في عم حيى بن أخطب، وكان النبي ﷺ صالحهم على أن له الذهب والفضة، فقال لهذا الرجل: (أين كنز حيى بن أخطب؟). فقال: يا محمد، أذهبته النفقات، والحروب، فقال: (المال كثير، والعهد أحدث من هذا). ثم قال: (دونك هذا). فمسه بشيء من العذاب، فدلهم عليه في خربة هناك فهذا لما قال أذهبته النفقات والحروب والعادة تكذبه في ذلك لم يلتفت إليه بل أمر بعقوبته حتى دلهم على المال، فكذلك من أخذ من أموال الناس وادعى ذهابها دعوى تكذبه فيها العادة كان هذا حكمه.
سئل عمن كان له ذهب مخيط في ثوبه فأعطاه للغسال نسيانا فلما رده الغسال إليه بعد غسله وجد مكان الذهب مفتقا
وسئل رحمه الله تعالى عمن كان له ذهب مخيط في ثوبه فأعطاه للغسال نسيانًا، فلما رده الغسال إليه بعد غسله وجد مكان الذهب مفتقًا، ولم يجده، فما الحكم فيه؟
فأجاب:
إما أن يحلف المدعى عليه بما يبريه، وإما أن يحلف المدعى أنه أخذ الذهب بغير حق ويضمنه، فإن كان الغسال معروفًا بالفجور وظهرت الريبة بظهور الفتق جاز ضربه وتعزيره. والله أعلم.
باب حد قطاع الطريق
سئل عن أقوام يقطعون الطريق على المسلمين ويقتلون من يمانعهم عن ماله ويفجرون بحريم المسلمين
وسئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عن أقوام يقطعون الطريق على المسلمين، ويقتلون من يمانعهم عن ماله ويفجرون بحريم المسلمين، ويعذبون كل من يمسكونه من المسلمين من ذكر وأنثى حتى يدلهم على شيء من أموال المسلمين، ثم الإمام بلغه خبرهم، فأمر السلطان بعض الناس أن يروح إليهم، ويمنعهم من قتل المسلمين وأخذ أموالهم، فخرجوا عليه، وقاتلوا المسيرين إليهم، وامتنعوا من طاعة السلطان: فهل يحل قتالهم، أم لا؟ وهل إذا أخذ السلطان من مالهم شيئا وباعه على المسلمين يحل لأحد أن يشتريه؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم: يحل قتال هؤلاء، بل يجب، وإذا أخذ السلطان من أموالهم بإزاء ما أخذوه من أموال المسلمين ولم يعرف مستحقه جاز الشراء منه، وإن كانوا أخذوا شيئا من أموال المسلمين ففي أخذ أموالهم خلاف بين الفقهاء. وإذا قلد السلطان أحد القولين بطريقة ساغ له ذلك.
سئل عن المفسدين في الأرض الذين يستحلون أموال الناس ودماءهم مثل السارق وقاطع الطريق
وسئل رحمه الله تعالى عن المفسدين في الأرض، الذين يستحلون أموال الناس ودماءهم مثل السارق، وقاطع الطريق: هل للإنسان أن يعطيهم شيئا من ماله، أو يقاتلهم؟ وهل إذا قتل رجل أحدًا منهم: فهل يكون ممن ينسب إلى النفال؟ وهل عليه إثم في قتل من طلب قتله؟
فأجاب:
أجمع المسلمون على جواز مقاتلة قطاع الطريق، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد).
فالقطاع إذا طلبوا مال المعصوم لم يجب عليه أن يعطيهم شيئا باتفاق الأئمة، بل يدفعهم بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفعوا إلا بالقتال، فله أن يقاتلهم، فإن قتل كان شهيدًا، وإن قتل واحدًا منهم على هذا الوجه كان دمه هدرًا، وكذلك إذا طلبوا دمه كان له أن يدفعهم ولو بالقتل إجماعًا، لكن الدفع عن المال لا يجب، بل يجوز له أن يعطيهم المال ولا يقاتلهم، وأما الدفع عن النفس ففي وجوبه قولان، هما روايتان عن أحمد.
سئل عن تاجر نصب عليه جماعة وأخذوا مبلغا فحملهم لولي الأمر وعاقبهم حتى أقروا بالمال
وسئل رحمه الله تعالى عن تاجر نصب عليه جماعة، وأخذوا مبلغًا، فحملهم لولي الأمر، وعاقبهم حتى أقروا بالمال، وهم محبوسون على المال، ولم يعطوه شيئا، وهم مصرون على أنهم لا يعطونه شيئا؟
فأجاب:
الحمد لله، هؤلاء من كان المال بيده وامتنع من إعطائه فإنه يضرب حتى يؤدي المال الذي بيده لغيره. ومن كان قد غيب المال وجحد وضعه فإنه يضرب حتى يدل على موضعه. ومن كان متهمًا لا يعرف هل معه من المال شيء أم لا، فإنه يجوز ضربه معاقبة له على ما فعل من الكذب والظلم، ويقرر مع ذلك على المال أين هو. ويطلب منه إحضاره. والله أعلم.
سئل عن ثلاثة من اللصوص أخذ اثنان منهم جمالا والثالث قتل الجمال هل تقتل الثلاثة
وسئل قدس الله روحه ونور ضريحه عن ثلاثة من اللصوص أخذ اثنان منهم جمَّالا، والثالث قتل الجمال: هل تقتل الثلاثة؟
فأجاب:
إذا كان الثلاثة حرامية اجتمعوا ليأخذوا المال بالمحاربة قتل الثلاثة، وإن كان الذي باشر القتل واحدًا منهم. والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق