جوامع تتضمن امتثال المأمور به والوعيد على المعصية بتركه
الوجه التاسع
أن الكلمات الجوامع التي في القرآن تتضمن امتثال المأمور به والوعيد على المعصية بتركه: مثل قوله تعالى لنبيه { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ } [1]
= وقال: { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } [2] وقال: { قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ } [3] وقال { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } [4]
=وقال: { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } [5]
= وقال: { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [6] وقال: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [7] إلى أمثال هذه النصوص التي يوصي فيها باتباع ما أمر ويبين أن الاستقامة في ذلك وأنه لم يأمر إلا بذلك وأنه إن ترك ذلك كان عليه العذاب ونحو ذلك مما يبين أن اتباع الأمر أصل عام وأن اجتناب المنهي عنه فرع خاص.
===
عامة ما ذم الله به المشركين هو الشرك
الوجه العاشر
أن عامة ما ذم الله به المشركين في القرآن من الدين المنهي عنه إنما هو الشرك والتحريم وكذلك حكي عنهم في قوله: { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } [1] وذلك في النحل وفي الزخرف { وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم } [2]
= وقال: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ } [3]
وقال: { قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلا قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ } [4]
= وقال: { مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } [5]
= وقال: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } [6].
= وأما من ترك المأمور به فقد ذمهم الله كما ذمهم على ترك الإيمان به وبأسمائه وآياته وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار وترك الصلاة والزكاة والجهاد وغير ذلك من الأعمال.
= والشرك قد تقدم أن أصله ترك المأمور به من عبادة الله واتباع رسله. وتحريم الحلال فيه ترك ما أمروا به من الاستعانة به على عبادته. ولما كان أصل المنهي عنه الذي فعلوه الشرك
=والتحريم روي في الحديث: «بعثت بالحنيفية السمحة» فالحنيفية ضد الشرك.
= والسماحة ضد الحجر والتضييق
= وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه: «إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا».
= وظهر أثر هذين الذنبين في المنحرفة من العلماء والعباد والملوك والعامة بتحريم ما أحله الله تعالى والتدين بنوع شرك لم يشرعه الله تعالى والأول يكثر في المتفقهة والمتورعة والثاني يكثر في المتصوفة والمتفقرة. فتبين بذلك أن ما ذمه الله تعالى وعاقب عليه من ترك الواجبات أكثر مما ذمه الله وعاقب عليه من فعل المحرمات.
======
خلق الله الخلق لعبادته
الوجه الحادي عشر
أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [1] وذلك هو أصل ما أمرهم به على ألسن الرسل كما قال نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب: { اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [2]. وقال: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } إلى قوله: { إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [3] وقال لموسى: { إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } [4] وقال المسيح: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } [5]. والإسلام: هو الاستسلام لله وحده وهو أصل عبادته وحده وذلك يجمع معرفته ومحبته والخضوع له وهذا المعنى الذي خلق الله له الخلق هو: أمر وجودي من باب المأمور به ثم الأمر بعد ذلك بما هو كمال ما خلق له. وأما المنهي عنه: فإما مانع من أصل ما خلق له وإما من كمال ما خلق له نهوا عن الإشراك لأنه مانع من الأصل وهو ظلم في الربوبية كما قال تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [6] ومنعوا عن ظلم بعضهم بعضا في النفوس والأموال والأبضاع والأعراض لأنه مانع من كمال ما خلق له. فظهر أن فعل المأمور به أصل وهو المقصود وأن ترك المنهي عنه فرع وهو التابع. وقال تعالى: { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [7] لأن الشرك منع الأصل فلم يك في النفس استعداد للفلاح في الآخرة بخلاف ما دونه فإن مع المغفور له أصل الإيمان الذي هو سبب السعادة.
======
مقصود النهي ترك المنهي عنه
الوجه الثاني عشر
أن مقصود النهي ترك المنهي عنه والمقصود منه عدم المنهي عنه والعدم لا خير فيه إلا إذا تضمن حفظ موجود وإلا فلا خير في لا شيء وهذا معلوم بالعقل والحس لكن من الأشياء ما يكون وجوده مضرا بغيره فيطلب عدمه لصلاح الغير كما يطلب عدم القتل لبقاء النفس وعدم الزنا لصلاح النسل وعدم الردة لصلاح الإيمان فكل ما نهي عنه إنما طلب عدمه لصلاح أمر موجود. وأما المأمور به فهو أمر موجود والموجود يكون خيرا ونافعا ومطلوبا لنفسه بل لا بد في كل موجود من منفعة ما أو خير ما فلا يكون الموجود شرا محضا فإن الموجود خلقه الله تعالى والله لم يخلق شيئا إلا لحكمة وتلك الحكمة وجه خير بخلاف المعدوم فإنه لا شيء، ولهذا قال سبحانه: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [1] ؛ وقال: { صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [2] فالموجود: إما خير محض أو فيه خير والمعدوم: إما أنه لا خير فيه بحال أو خيره حفظ الموجود وسلامته. والمأمور به قد طلب وجوده والمنهي عنه قد طلب عدمه فعلم أن المطلوب بالأمر أكمل وأشرف من المطلوب بالنهي وأنه هو الأصل المقصود المراد لذاته وأنه هو الذي يكون عدمه شرا محضا.
=======
المأمور به هو الأمور التي يصلح بها العبد ويكمل
الوجه الثالث عشر
أن المأمور به هو الأمور التي يصلح بها العبد ويكمل والمنهي عنه هو ما يفسد به وينقص، فإن المأمور به من العلم والإيمان، وإرادة وجه الله تعالى وحده، ومحبته والإنابة إليه، ورحمة الخلق والإحسان إليهم، والشجاعة التي هي القوة والقدرة والصبر الذي يعود إلى القوة والإمساك والحبس إلى غير ذلك كل هذه من الصفات والأخلاق والأعمال التي يصلح بها العبد ويكمل ولا يكون صلاح الشيء وكماله إلا في أمور وجودية قائمة به لكن قد يحتاج إلى عدم ما ينافيها فيحتاج إلى العدم بالعرض فعلم أن المأمور به أصل والمنهي عنه تبع فرع.
=======
المطلوب بالأمر وجود المأمور به
الوجه الرابع عشر
أن الناس اتفقوا على أن المطلوب بالأمر وجود المأمور به وإن لزم من ذلك عدم ضده ويقول الفقهاء: الأمر بالشيء نهي عن ضده فإن ذلك متنازع فيه. والتحقيق أنه منهي عنه بطريق اللازم وقد يقصده الآمر وقد لا يقصده وأما المطلوب بالنهي فقد قيل: إنه نفس عدم المنهي عنه. وقيل: ليس كذلك، لأن العدم ليس مقدورا ولا مقصودا بل المطلوب فعل ضد المنهي عنه وهو الامتناع وهو أمر وجودي. والتحقيق: أن مقصود الناهي قد يكون نفس عدم المنهي عنه، وقد يكون فعل ضده، وذلك العدم عدم خاص مقيد يمكن أن يكون مقدورا بفعل ضده فيكون فعل الضد طريقا إلى مطلوب الناهي وإن لم يكن نفس المقصود وذلك أن الناهي إنما نهى عن الشيء لما فيه من الفساد فالمقصود عدمه كما ينهى عن قتل النفس وشرب الخمر وإنما نهى لابتلاء المكلف وامتحانه كما نهى قوم طالوت عن الشرب إلا بملء الكف فالمقصود هنا طاعتهم وانقيادهم وهو أمر وجودي وإذا كان وجوديا فهو الطاعة التي هي من جنس فعل المأمور به فصار المنهي عنه إنما هو تابع للمأمور به، فإن مقصوده إما عدم ما يضر المأمور به أو جزء من أجزاء المأمور به وإذا كان إما حاويا للمأمور به، أو فرعا منه: ثبت أن المأمور به أكمل وأشرف وهو المقصود الأول.
========
الأمر أصل والنهي فرع
الوجه الخامس عشر
أن الأمر أصل والنهي فرع، فإن النهي نوع من الأمر، إذ الأمر هو الطلب والاستدعاء والاقتضاء وهذا يدخل فيه طلب الفعل وطلب الترك لكن خص النهي باسم خاص كما جرت عادة العرب أن الجنس إذا كان له نوعان أحدهما يتميز بصفة كمال أو نقص أفردوه باسم وأبقوا الاسم العام على النوع الآخر كما يقال: مسلم، ومنافق. ويقال نبي ورسول. ولهذا تنازع الفقهاء: لو قال لها: إذا خالفت أمري فأنت طالق فعصت نهيه هل يحنث؟ على ثلاثة أوجه لأصحابنا وغيرهم: أحدها: يحنث لأن ذلك مخالفة لأمره في العرف ولأن النهي نوع من الأمر.
والثاني: لا يحنث لعدم الدخول فيه في اللغة كما زعموا. والثالث: يفرق بين العالم بحقيقة الأمر والنهي وغير العالم. والأول هو الصواب. فكل من عصى النهي فقد عصى الأمر لأن الأمر استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء والناهي مستدع من النهي فعلا: إما بطريق القصد أو بطريق اللزوم فإن كان نوعا منه فالأمر أعم والأعم أفضل وإن لم يكن نوعا منه فهو أشرف القسمين، ولهذا اتفق العلماء على تقديمه على النهي وبذلك جاء الكتاب والسنة قال تعالى: { يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ } [1] وقال: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } [2].
=====
لم يأمر الله بأمر إلا وقد خلق سببه ومقتضيه في جبلة العبد
الوجه السادس عشر
أن الله لم يأمر بأمر إلا وقد خلق سببه ومقتضيه في جبلة العبد وجعله محتاجا إليه وفيه صلاحه وكماله، فإنه أمر بالإيمان به وكل مولود يولد على الفطرة فالقلوب فيها أقوى الأسباب لمعرفة باريها والإقرار به وأمر بالعلم والصدق والعدل، وصلة الأرحام وأداء الأمانة وغير ذلك من الأمور التي في القلوب معرفتها ومحبتها، ولهذا سميت معروفا ونهى عن الكفر الذي هو أصل الجهل والظلم وعن الكذب والظلم والبخل والجبن وغير ذلك من الأمور التي تنكرها القلوب وإن ما يفعل الآدمي الشر المنهي عنه لجهله به أو لحاجته إليه بمعنى أنه يشتهيه ويلتذ بوجوده أو يستضر بعدمه والجهل عدم العلم فما كان من المنهي عنه سببه الجهل فلعدم فعل المأمور به من العلم وما كان سببه الحاجة من شهوة أو نفرة فلعدم المأمور به الذي يقتضي حاجته مثل أن يزني لعدم استعفافه بالنكاح المباح أو يأكل الطعام الحرام لعدم استعفافه بما أمر به من المباح وإلا فإذا فعل المأمور به الذي يغنيه عن الحرام لم يقع فيه. فثبت أن المأمور به خلق الله في العبد سببه ومقتضيه وأن المنهي عنه إنما يقع لعدم الفعل المأمور به المانع عنه فثبت بذلك أن المأمور به في خلقته ما يقتضيه وما يحتاج إليه وبه صلاحه بمنزلة الأكل للجسد بل هو من جهة المأمور به وبمنزلة النكاح للنوع، وهو من المأمور به. والمنهي عنه ليس فيه سببه إلا لعدم المأمور به فكان وجوده لعدم المأمور به فكان عدم المأمور به أضر عليه من وجود المنهي عنه، لتضرره به من وجهين وفي تركه أشد استحقاقا للذم والعقاب، لوجود مقتضيه فيه المعين له عليه. والمنهي عنه ليس فيه مقتضيه في الأصل إلا مع عدم المأمور به وأما عدمه فلا يقتضيه إلا بفعل المأمور به فهذا هذا.
=======
فعل الحسنات يوجب ترك السيئات
الوجه السابع عشر
أن فعل الحسنات يوجب ترك السيئات وليس مجرد ترك السيئات يوجب فعل الحسنات، لأن ترك السيئات مع مقتضيها لا يكون إلا بحسنة وفعل الحسنات عند عدم مقتضيها لا يقف على ترك السيئة وذلك يؤجر لأنه ترك السيئات مع مقتضيها وذلك لأن الله خلق ابن آدم هماما حارثا كما قال النبي ﷺ: «أصدق الأسماء حارث وهمام» والحارث: العامل الكاسب والهمام: الكثير الهم.
وهذا معنى قولهم: متحرك بالإرادة والهم والإرادة لا تكون إلا بشعور وإحساس فهو حساس متحرك بالإرادة دائما. ولهذا جاء في الحديث: «للقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا» و«مثل القلب مثل ريشة ملقاة بأرض فلاة » و«ما من قلب من قلوب العباد إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن» وإذا كان كذلك فعدم إحساسه وحركته ممتنع فإن لم يكن إحساسه وحركته من الحسنات المأمور بها أو المباحات وإلا كان من السيئات المنهي عنها فصار فعل الحسنات يتضمن الأمرين فهو أشرف وأفضل. وذلك لأن من فعل ما أمر به من الإيمان والعمل الصالح: قد يمتنع بذلك عما نهي عنه من أحد وجهين: إما من جهة اجتماعهما فإن الإيمان ضد الكفر، والعمل الصالح ضد السيئ فلا يكون مصدقا مكذبا محبا مبغضا.
وإما من جهة اقتضاء الحسنة ترك السيئة، كما قال تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } [1] وهذا محسوس، فإن الإنسان إذا قرأ القرآن وتدبره كان ذلك من أقوى الأسباب المانعة له من المعاصي أو بعضها وكذلك الصوم جنة وكذلك نفس الإيمان بتحريم المحرمات وبعذاب الله عليها بصد القلب عن إرادتها. فالحسنات إما ضد السيئات، وإما مانعة منها فهي إما ضد وإما صد. وإنما تكون السيئات عند ضعف الحسنات المانعة منها كما قال النبي ﷺ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» فإن كمال الإيمان وحقيقته يمنع ذلك فلا يقع إلا عند نوع ضعف في الإيمان يزيل كماله. وأما ترك السيئات: فإما أن يراد به مجرد عدمها فالعدم المحض لا ينافي شيئا ولا يقتضيه بل الخالي القلب متعرض للسيئات أكثر من تعرضه للحسنات. وإما أن يراد به الامتناع من فعلها، فهذا الامتناع لا يكون إلا مع اعتقاد قبحها وقصد تركها وهذا الاعتقاد والاقتصاد حسنتان مأمور بهما وهما من أعظم الحسنات. فثبت بذلك أن وجود الحسنات يمنع السيئات وأن عدم السيئات لا يوجب الحسنات فصار في وجود الحسنات الأمران بخلاف مجرد عدم السيئات فليس فيه إلا أمر واحد وهذا هو المقصود.//
فعل الحسنات موجب للحسنات أيضا
الوجه الثامن عشر
أن فعل الحسنات موجب للحسنات أيضا، فإن الإيمان يقتضي الأعمال الصالحة والعمل الصالح يدعو إلى نظيره وغير نظيره، كما قيل: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها. وأما عدم السيئة فلا يقتضي عدم سيئة إلا إذا كان امتناعا فيكون من باب الحسنات كما تقدم وما اقتضى فرعا أفضل مما لا يقتضي فرعا له وهذا من نمط الذي قبله.//
ترجيح الوجود على العدم إذا علم أنه حسنة
الوجه التاسع عشر
ترجيح الوجود على العدم إذا علم أنه حسنة وأما المختلط والمشتبه عليه فقد يكون الإمساك خيرا له ليبقى مع الفطرة فهذا حال المهتدي والضال وحال فإذا قام المقتضي للكفر والفسوق والعصيان في قلبه من الشبهات والشهوات لم يزل هذا الحس والحركة إلا بما يزيله أو يشتغل عنه من إيمان وصلاح كالعلم الذي يزيل الشبهة، والقصد الذي يمنع الشهوة وهذا أمر يجده المرء في نفسه وهو في كل شيء، فإن ما وجد مقتضيه فلا يزول إلا بوجود منافيه. فإن قيل: فقد يزول ذلك بمباح.
=============
بعث الله الرسل وأنزل الكتب بالكلم الطيب والعمل الصالح
الوجه العشرون
أن الله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب في العلوم والأعمال بالكلم الطيب والعمل الصالح بالهدى ودين الحق وذلك بالأمور الموجودة في العقائد والأعمال فأمرهم في الاعتقادات بالاعتقادات المفصلة في أسماء الله وصفاته: وسائر ما يحتاج إليه من الوعد والوعيد وفي الأعمال بالعبادات المتنوعة من أصناف العبادات الباطنة والظاهرة. وأما في النفي فجاءت بالنفي المجمل والنهي عما يضر المأمور به فالكتب الإلهية وشرائع الرسل ممتلئة من الإثبات فيما يعلم ويعمل. وأما المعطلة من المتفلسفة ونحوهم: فيغلب عليهم النفي والنهي، فإنهم في عقائدهم الغالب عليهم السلب: ليس بكذا ليس بكذا ليس بكذا؛ وفي الأفعال الغالب عليهم الذم والترك: من الزهد الفاسد والورع الفاسد: لا يفعل لا يفعل لا يفعل من غير أن يأتوا بأعمال صالحة يعملها الرجل تنفعه وتمنع ما يضره من الأعمال الفاسدة، ولهذا كان غالب من سلك طرائقهم بطالا متعطلا معطلا في عقائده وأعماله. واتباع الرسل في العلم والهدى والصلاح والخير في عقائدهم وأعمالهم وهذا بين في أن الذي جاءت به الرسل يغلب عليه الأمر والإثبات وطريق الكافرين من المعطلة ونحوهم يغلب عليه النهي والنفي وهذا من أوضح الأدلة على ترجيح الأمر والإثبات على النهي والنفي.//
======
النفي والنهي لا يستقل بنفسه بل لا بد أن يسبقه ثبوت
الوجه الحادي والعشرون
أن النفي والنهي لا يستقل بنفسه بل لا بد أن يسبقه ثبوت وأمر بخلاف الأمر والإثبات فإنه يستقل بنفسه وهذا لأن الإنسان لا يمكنه أن يتصور المعدوم ابتداء ولا يقصد المعدوم ابتداء وقد قررت هذا فيما تقدم وبينت أن الإنسان لا يمكنه أن يتصور المعدوم إلا بتوسط تصور الموجود فإذا لم يمكنه تصوره لم يمكنه قصده بطريق الأولى، فإن القصد والإرادة مسبوق بالشعور والتصور والأمر في القصد والإرادة أوكد منه في الشعور والعلم فإن الإنسان يتصور الموجود والمعدوم ويخبر عنهما وأما إرادة المعدوم فلا يتصور من كل وجه وإنما إرادة عدم الشيء هي بغضه وكراهته فإن الإنسان إما أن يريد وجود الشيء أو عدمه أو لا يريد وجوده ولا عدمه فالأول هو أصل الإرادة والمحبة. وأما الثاني وهو إرادة عدمه فهو بغضه وكراهته وذلك مسبوق بتصور المبغض المكروه فصار البغض والكراهة للشيء المقتضي لتركه الذي هو مقصود الناهي وهو المطلوب من المنهي فرعا من جهتين: من جهة أن تصوره فرع على تصور المحبوب المراد المأمور به وأن قصد عدمه الذي هو بغضه وكراهته فرع على إرادة وجود المأمور به الذي هو حبه وإرادته وذلك لأن الإنسان إذا علم عدم شيء وأخبر عن عدمه مثل قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله وقولنا: لا نبي بعد محمد وقولنا: ليس المسيح بإله ولا رب وقولنا: ذلك الكتاب لا ريب فيه إلى أمثال ذلك حتى ينتهي التمثيل إلى قول القائل: ليس الجبل ياقوتا ولا البحر زئبقا ونحو ذلك فإن هذه الجمل الخبرية النافية التي هي قضايا سلبية لولا تصور النفي والمنفي عنه لما أمكنه الإخبار بالنفي والحكم فلا بد أن يتصور النفي والمنفي عنه مثل تصور الجبل والياقوت. والمنفي هو عدم محض ونفس الإنسان التي هي الشاعرة العالمة المدركة بقواها وآلاتها لم تجد العدم ولم تفقهه ولم تصادفه ولم تحسه بشيء من حواسها الباطنة ولا الظاهرة ولا شعرت إلا بموجود لكن لما شعرت بموجود أخذ العقل والخيال يقدر في النفس أمورا تابعة لتلك الأمور الموجودة إما أمور مركبة وإما مشابهة لها فإنه أدرك الياقوت وأدرك الجبل ثم ركب في خياله جبل ياقوت وعرف جنس النبوة وعرف الزمان المتأخر عن مبعث محمد ﷺ ثم قدر نبيا في هذا الزمان المتأخر وعرف الإله والألوهية الثابتة لله رب العالمين ثم قدر وجودها بغيره من الموجودات. ثم المؤمن ينفي هذا المقدر من ألوهية غير الله تعالى ونبوة أحد بعد محمد ﷺ والكافر قد يعتقد ثبوت هذا القدر فيرى ثبوت الألوهية للشمس، أو القمر، أو الكواكب أو الملائكة أو النبيين أو بعضهم، أو الصالحين أو بعضهم، أو غيرهم من البشر أو الأوثان المصنوعة مثلا لبعض هذه الآلهة المتخذة من دون الله سبحانه فالمقصود أن الإنسان لم يمكنه تصور عدم شيء ولا الإخبار به إلا بعد أن يتصور وجودا قاس به عليه، وقدر به شيئا آخر، ثم نفى ذلك المقيس المقدر به، ثم أثبته والفرع المقيس المقدر تبع للأصل المقيس عليه المقدر به فلا يتصور العدم إلا بطريق القياس والتمثيل والتفريع لا بطريق الاستقلال والحقيقة والتأصيل وإن كان بعض الموجودات لا يمكن الناس أو بعضهم أن يتصوره في الدنيا إلا بطريق القياس أو التمثيل لكن من الموجودات ما يدركه الإنسان حقيقة وتأويلا، ومنها ما يدركه قياسا أو تمثيلا، كمدركات المنام. وأما المعدوم فلا يدركه إلا قياسا أو تمثيلا، إذ ليس له حقيقة ينالها الحي المدرك وتباشرها الذوات الشاعرة، إذ حقيقة كل شيء في الخارج عين ماهيته. وأما ما يقدر في العقل من الماهيات والحقائق فقد يكون له حقيقة في الوجود الخارجي العيني الكوني، وقد لا يكون وهكذا الأمر في القصد والحب والإرادة من جهتين: من جهة أن المقصود المحبوب أو المكروه المبغض لا يتصور حبه ولا بغضه إلا بعد نوع من الشعور به والشعور في الموجود أصل، وفي المعدوم فرع فالحب والبغض الذي يتبعه أولى بذلك. ومن جهة أن الإنسان إنما يحب ما يلائمه ويناسبه وله به لذة ونعيم ونفسه لا تلائم العدم المحض والنفي الصرف، ولا تناسبه، ولا له في العدم المحض لذة ولا سرور ولا نعمة ولا نعيم ولا خير أصلا، ولا فائدة قطعا، بل محبة العدم المحض كعدم المحبة واللذة بالعدم المحض كعدم اللذة وما ليس شيء أصلا كيف يكون فيه منفعة أو لذة أو خير؟ ولكن نفسه تحب ما لها فيه منفعة ولذة مثل محبة اللبن عند ولادته، ولغير ذلك من الأغذية ثم لما يلتذ به من منكوح ونحوه ثم ما يلتذ به من شرف ورياسة ونحو ذلك ثم ما يلتذ به من العقل والعلم والإيمان ويحب ما يدفع عنه المضرة من اللباس والمساكن والخير الذي يقيه عدوه من الحر والبرد والآدميين المؤذين، والدواب المؤذية وغير ذلك فيحب وجود ما ينفعه وعدم ما يضره. والنافع له إنما هو أمر موجود كما تقدم وأما الضار له فتارة يراد به عدم النافع فإن أكثر ما يضره عدم النافع. وعدم النافع إنما يقصد بوجود النافع. وتارة يضره أمر موجود فذلك الذي يضره لم يبغض منه إلا مضرته له ومضرته له إزالة نعيمه أو تحصيل عذابه. فإن قيل: ما ذكرته معارض، فإن القرآن من أوله إلى آخره يأمر بالتقوى ويحض عليها حتى لم يذكر في القرآن شيء أكثر منها وهي وصية الله إلى الأولين والآخرين وهي شعار الأولياء وأول دعوة الأنبياء وأهل أصحاب العاقبة، وأهل المقعد الصدق إلى غير ذلك من صفاتها. والتقوى هي ترك المنهي عنه وقد قال سهل بن عبد الله: أعمال البر يعملها البر والفاجر ولن يصبر عن الآثام إلا صديق.
وفي تعظيم الورع وأهله، والزهد وذويه، ما يضيق هذا الموضع عن ذكره؛ وانما ذلك عائد إلى ترك المحرمات والمكروهات وفضول المباحات، وهي بقسم المنهي عنه أشبه منها بقسم المأمور به، والناس يذكرون من فضائل أهل هذا الورع ومناقبهم ما لا يذكرون عن غيرهم.
فنقول: هذا السؤال مؤلف من شيئين: جهل بحقيقة التقوى والورع والزهد. وجهل بجهة حمد ذلك.
فنقول أولا: ومن الذى قال إن التقوى مجرد ترك السيئات؛ بل التقوى كما فسرها الأولون والآخرون فعل ما أمرت به وترك ما نهيت عنه. كما قال طلق بن حبيب: لما وقعت الفتنة اتقوها بالتقوى. قالوا: وما التقوى. قال إن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله ؛ وان تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عذاب الله. وقد قال تعإلى في أكبر سورة في القرآن: { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [1] إلى آخرها. فوصف المتقين بفعل المأمور به من الإ يمان، والعمل الصالح من إقام الصلاة وايتاء الزكاة وقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [2]. وقال: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [3] وهذه الاية عظيمة جليله القدر من أعظم آى القرآن واجمعه لامر الدين؛ وقد «روي أن النبي ﷺ: سئل عن خصال الايمان فنزلت» وفي الترمذي، عن فاطمة بنت قيس عنه ﷺ أنه قال: «إن في المال حقا سوى الزكاة وقرأ هذه الآية».
وقد دلت على أمور:
أحدها: أنه أخبر أن الفاعلين لهذه الأمور هم المتقون، وعامة هذه الأمور فعل مأمور به.
الثاني: أنه أخبر أن هذه الأ مور هي البر، وأهلها هم الصادقون يعنى في قوله آمنا وعامتها أمور وجودية هي أفعال مأمور بها، فعلم أن المأمور به أدخل في البر والتقوى والايمان من عدم المنهي عنه وبهذه الاسماء الثلاثة استحقت الجنة كما قال تعإلى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [4]. وقال: { أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [5] { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } [6]. وقال: { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ } [7]. وهذه الخصال المذكورة في الآية قد دلت على وجوبها، لأنه أخبر أن أهلها هم الذين صدقوا في قولهم، وهم المتقون، والصدق واجب والإيمان واجب إيجاب حقوق سوى الزكاة؛ وقوله: { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا } [8] وقوله لبنى اسرائيل: { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا } [9] وقوله: { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [10] وقوله: { وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [11] في سبحان والروم فاتيان ذى القربى حقه صله الرحم والمسكين اطعام الجائع وابن السبيل قرى الضيف وفي الرقاب فكاك العانى واليتيم نوع من اطعام الفقير.
وفي البخارى عن النبي ﷺ: «عودوا المريض واطعموا الجائع وفكوا العاني»؛ وفي الحديث الذى أفتى به أحمد «لو صدق السائل ما أفلح من رده»؛ وأيضا فالرسول مثل نوح، وهود، وصالح، وشعيب، فاتحة دعواهم في هود أن { اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [12]، وفي الشعراء ألا تتقون { فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ } [13]، وقال تعإلى: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } [14]، وقال تعإلى: { بَلَى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [15]، وقال تعإلى: { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [16]، وقال: { فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [17]. فقد بين أن الوفاء بالعهود من التقوى التى يحبها الله، والوفاء بالعهود هو جملة المأمور به، فان الواجب إما بالشرع أو بالشرط، وكل ذلك فعل مأمور به، وذلك وفاء بعهد الله وعهد العبيد، وذلك أن التقوى إما تقوى الله وإما تقوى عذابه، كما قال: { فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [18] { وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [19] ؛ فالتقوى اتقاء المحذور بفعل المأمور به وبترك المنهي عنه وهو بالأول أكثر وإنما سمى ذلك تقوى لأن ترك المأمور به وفعل المنهي عنه سبب الأمن من ذم الله وسخط الله وعذاب الله، فالباعث عليه خوف الإثم، بخلاف ما فيه منفعة وليس في تركه مضرة، فإن هذا هو المستحب الذى له أن يفعله، وله أن لا يفعله فذكر ذلك باسم التقوى ليبين وجوب ذلك، وأن صاحبه متعرض للعذاب بترك التقوى.
ونقول ثانيا إنه حيث عبر بالتقوى عن ترك المنهي إن قيل ذلك كما في قوله: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى } [20] قال بعض السلف: البر ما أمرت به والتقوى ما نهيت عنه فلا يكون ذلك إلا مقرونا بفعل المأمور به كما ذكر معها البر وكما في قول نوح: { أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } [21] وذلك لأن هذه التقوى مستلزمة لفعل المأمور به.
ونقول ثالثا: إن أكثر بنى آدم قد يفعل بعض المأمور به ولا يترك المنهي عنه إلا الصديقون، كما قال سهل؛ لأن المأمور به له مقتضى في النفس وأما ترك المنهي عنه إلى خلاف الهوى ومجاهدة النفس فهو أصعب وأشق، فقل أهله ولا يمكن أحدا أن يفعله إلا مع فعل المأمور به، لا تتصور تقوى وهي فعل ترك قط؛ فان من ترك الشرك واتباع الهوى المضل واتباع الشهوات المحرمات فلابد أن يفعل من المأمور به أمورا كثيرة تصده عن ذلك فتقواهم تحفظ لهم حسناتهم التى أمروا بها وتمنعهم من السيئات التى تضرهم بخلاف من فعل ما أمر به وما نهي عنه مثلا؛ فان وجود المنهي عنه يفسد عليه من المأمور به ما يفسد، فلا يسلم له، ولهذا كانت العاقبة للتقوى، كما قال تعإلى: { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [22]، { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [23]، { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [24].
وذلك لأن المتقين بمنزلة من أكل الطعام النافع واتقى الأطعمة المؤذية فصح جسمه، وكانت عاقبته سليمة. وغير المتقى بمنزلة من خلط من الأطعمة فإنه وإن إغتذى بها لكن تلك التخاليط قد تورثه أمراضا، إما مؤذية وإما مهلكة ومع هذا فلا يقول عاقل إن حاجته وانتفاعه بترك المضر من الاغذية أكثر من حاجته وانتفاعه بالأغذية النافعة بل حاجته وانتفاعه بالأغذية التى تناولها أعظم من انتفاعه بما تركه منها، بحيث لو لم يتناول غذاء قط لهلك قطعا، وأما إذا تناول النافع والضار فقد يرجى له السلامة وقد يخاف عليه العطب، وإذا تناول النافع دون الضار حصلت له الصحة والسلامة.
فالأول: نظير من ترك المأمور به، والثاني: نظير من فعل المأمور به والمنهي عنه وهو المخلط الذى خلط عملا صالحا وآخر سيئا، والثالث: نظير المتقى الذى فعل ما أمر به واجتنب ما نهي عنه فعظم أمر التقوى لتضمنها السلامة مع الكرامة لا لأجل السلامة فقط فإنه ليس في الآخرة دارا إلا الجنة أو النار، فمن سلم من النار دخل الجنة، ومن لم ينعم عذب فليس في الآدميين من يسلم من العذاب، والنعيم جميعا. فتدبر هذا فكل خصلة قد أمر الله بها أو أثنى عليها ففيها فعل المأمور به ولابد تضمنا او استلزاما، وحمدها لنيل الخير عن الشر والثواب عن العقاب.
وكذلك الورع المشروع والزهد المشروع من نوع التقوى الشرعية، ولكن قد غلط بعض الناس في ذلك فأما الورع المشروع المستحب الذى بعث الله به محمدا ﷺ فهو اتقاء من يخاف أن يكون سببا للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التى تشبه الواجب وترك المحرمات والمشتبهات التى تشبه الحرام وإن ادخلت فيها المكروهات قلت نخاف أن تكون سبب للنقص والعذاب.
وأما الورع الواجب فهو اتقاء ما يكون سببا للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم والفرق بينهما فيما اشتبه أمن الواجب هو أم ليس منه؛ وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه فأما ما لا ريب في حله فليس تركه من الورع وما لا ريب في سقوطه فليس فعله من الورع. وقولي عند عدم المعارض: الراجح فإنه قد لا يترك الحرام البين أوالمشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة والجماعة والحج والغزو وكذلك قد لا يؤدى الواجب البين، أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم اثما من تركه مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه.
والأصل في الورع المشتبه قول النبي ﷺ: «الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن ترك الشبهات استبرأ عرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك ان يواقعه»، في الصحيحين وفي السنن قوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، وقوله: «البر ما اطمأنت اليه النفس وسكن اليه القلب»، وقوله في صحيح مسلم في رواية: «البر حسن الخلق والاثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس» وأنه رأى على فراشه تمرة فقال: «لو لا انى اخاف ان تكون من تمر الصدقة لأكلتها».
وأما في الواجبات لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات: أحدها: اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام، لا في أداء الواجب وهذ يبتلى به كثير من المتدينة المتورعة ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكإذبة، وعن الدرهم فيه شبهة، لكونه من مال ظالم ومعاملة فاسدة ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدنيا ومع هذا يترك أمورا واجبة عليه إما عينا وإما كفاية، وقد تعينت عليه، من صلة رحم؛ وحق جار؛ ومسكين وصاحب ويتيم وابن سبيل؛ وحق مسلم وذى سلطان وذى علم وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر وعن الجهاد في سبيل الله؛ إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعإلى بل من جهة التكليف ونحو ذلك.
وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار؛ فإن ورع الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس، تورعوا عن الظلم وعن ما اعتقدوه ظلما من مخالطة الظلمة في زعمهم، حتى تركوا الواجبات الكبار، من الجمعة والجماعة، والحج والجهاد ونصيحة المسلمين والرحمة لهم، وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة، كالأئمة الأربعة، وصار حالهم يذكر في اعتقاده أهل السنة والجماعة.
الجهة الثانية: من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه فينبغى أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة وبالعلم لا بالهوى وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن اشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوى تحريمها واشتباهها عنده ويكون بعضهم في أوهام وظنون كإذبة فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد فيكون صاحبه ممن قال الله تعإلى فيه: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ } [25]، وهذ حال أهل الوسوسة في النجاسات فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين وضعف عقل وعلم. وكذلك ورع قوم يعدون غالب أموال الناس محرمة أو مشتبهه أو كلها وآل الأمر ببعضهم إلى إحلالها لذى سلطان لأنه مستحق لها وإلى أنه لا يقطع بها يد السارق ولا يحكم فيها بالأموال المغصوبة.
وقد أنكر حال هؤلاء الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره وذم المتنطعين في الورع. وقد روي مسلم في صحيحه عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثا.
وورع أهل البدع كثير منه من هذا الباب بل ورع اليهود والنصارى والكفار عن واجبات دين الاسلام من هذا الباب وكذلك ما ذمه الله تعإلى في القرآن من ورعهم عما حرمو ولم يحرمه الله تعإلى كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
ومن هذا الباب الورع الذى ذمه الرسول ﷺ في الحديث الذى في الصحيح، لما ترخص في اشياء فبلغه ان اقواما تنزهوا عنها فقال: «ما بال رجال يتنزهون عن اشياء اترخص فيها والله انى لأرجو أن اكون اعلمهم بالله واخشاهم» وفي رواية: «اخشاهم وأعلمهم بحدوده له» وكذلك حديث صاحب القبلة.
ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم.
الثالثة: جهة المعارض الراجح. هذا أصعب من الذى قبله؛ فإن الشيء قد يكون جهة فساده يقتضى تركه فيلحظه المتورع؛ ولا لحظ ما يعارضه من الصلاح الراجح؛ وبالعكس فهذا هذا. وقد تبين أن من جعل الورع الترك فقط وأدخل في هذا الورع أفعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم وأعرض عما فوتوه بورعهم من الحسنات الراجحة، فإن الذى فاته من دين الإسلام أعظم مما أدركه فإنه قد يعيب أقوامًا هم إلى النجاة والسعادة أقرب.
وهذه القاعدة منفعتها لهذا الضرب وأمثاله كثيرة، فإنه ينتفع بها أهل الورع الناقص أو الفاسد؛ وكذلك أهل الزهد الناقص أوالفاسد فإن الزهد المشروع الذي به أمر الله ورسوله هو عدم الرغبة فيما لا ينفع من فضول المباح، فترك فضول المباح الذى لا ينفع في الدين زهد وليس بورع، ولا ريب أن الحرص والرغبة في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا من المال والسلطان مضر كما روي الترمذي عن كعب بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «ما ذئبان جائعان ارسلا في زريبة غنم بافسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» قال الترمذي حديث حسن صحيح فذم النبي ﷺ الحرص على المال والشرف وهو الرياسة والسلطان وأخبر ان ذلك يفسد الدين مثل أو فوق افساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم.
وهذا دليل على أن هذا الحرص إنما ذم لأنه يفسد الدين الذى هو الإيمان والعمل والصالح فكان ترك هذا الحرص لصالح العمل وهذان هما المذكوران في قوله تعإلى: { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ } [26]، وهما اللذان ذكرهما الله في سورة القصص حيث افتتحها بأمر فرعون وذكر علوه في الارض وهو الرياسة والشرف والسلطان ثم ذكر في آخرها قارون وما أوتيه من الأموال وذكر عاقبة سلطان هذا وعاقبة مال هذا ثم قال: { تِلْكَ الدَّارُ الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا } [27]
كحال فرعون وقارون؛ فإن جمع الأموال من غير إنفاقها في مواضعها المأمور بها وأخذها من غير وجهها هو من نوع الفساد وكذلك الإنسان إذا اختار السلطان لنفسه بغير العدل والحق لا يحصل الإ بفساد وظلم وأما نفس وجود السلطان والمال الذى يبتغى به وجه الله والقيام بالحق والدار الآخرة ويستعان به على طاعة الله، ولا يفتر القلب عن محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله كما كان النبي ﷺ وأبو بكر وعمر ولا يصده عن ذكر الله فهذا من أكبر نعم الله تعإلى على عبده إذا كان كذلك. ولكن قل أن تجد ذا سلطان أو مال الا وهو مبطأ مثبط عن طاعة الله ومحبته متبع هواه فيما آتاه الله وفيه نكول حال الحرب والقتال في سبيل الله والامر بالمعروف والنهي عن المنكر فبهذه الخصال يكتسب المهانة والذم دنيا واخرى.
وقد قال تعإلى لنبيه وأصحابه: { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } [28]
فأخبر أنهم هم الأعلون وهم مع ذلك لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا وقال تعإلى: { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ } [29] ؛ { إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } [30]،
وقال: { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاما } [31] ؛ فالشرف والمال لا يحمد مطلقا ولا يذم مطلقا بل يحمد منه ما أعان على طاعة الله؛ وقد يكون ذلك واجبا وهو ما لابد منه في فعل الواجبات، وقد يكون مستحبا؛ وإنما يحمد إذا كان بهذه النية ويذم ما استعين به على معصية الله أو صد عن الواجبات فهذا محرم.
وينتقص منه ما شغل عن المستحبات وأوقع في المكروهات والله أعلم كما جاء في الحديث: «من طلب هذا المال استغناء عن الناس واستعفافا عن المسالة وعودا على جاره الضعيف والأرملة والمسكين لقى الله تعإلى ووجهه كالقمر ليلة البدر ومن طلبه مرائيا مفاخرا مكاثرا لقى الله وهو عليه غضبان»، وقال: «التاجر الامين الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين»، وقال: «نعم المال الصالح للرجل الصالح».
واعلم أن الورع لا ينفع صاحبه فيكون له ثواب إلا بفعل المأمور به من الإخلاص أما في الورع بفعل المأمور به فظاهر فإن الله تعإلى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه؛ وإما بترك المنهي عنه الذى يسميه بعض الناس ورعا فإنه إذا ترك السيئات لغير وجه الله لم يثب عليها وإن لم يعاقب عليها، وإن تركها لوجه الله اثيب عليها؛ ولا يكون ذلك إلا بما يقوم بقلبه من رجاء رحمة الله أو خشية عذابه، ورجاء رحمته وخشية عذابه من الأمور الوجودية المأمور بها فتبين أن الورع لا يكون عملا صالحا الإ بفعل المأمور به من الرجاء والخشية والإ فمجرد الترك العدمى لا ثواب فيه. وأما الزهد الذى هو ضد الرغبة فإنما يحمد حمدا مطلقا وتذم الرغبة لترك العمل للآخرة قال تعإلى: { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النَّارُ } [32]، وقال: { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [33]، وقال: { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا } [34]، فمن لم يرد الدار الآخرة قولا وعملا وإيثارا ومحبة ورغبة وإنابة فلا خلاق له في الآخرة ولا فائدة له في الدار الدنيا بل هو كافر ملعون مشتت معذب لكن قد ينتفع بزهده في الدنيا بنوع من الراحة العاجلة وهو زهد غير مشروع وقد يستضر بما يفوته من لذات الدنيا وإن كان غير زاهد فلا راحة له في هذا.
فمن زهد لطلب راحة الدنيا أو رغب لطلب لذاتها لم يكن واحد منهما في عمل صالح ولا هو محمود في الشرع على ذلك ولكن قد يترجح هذا تارة وهذا تارة في مصلحة الدنيا كما تترجح صناعة على صناعة وتجارة على تجارة وذلك أن لذات الدنيا لا تنال غالبا إلا بنوع من التعب فقد تترجح تارة لذة الترك على تعب الطلب وقد يترجح تعب الطلب على لذة الترك فلا حمد على ترك الدنيا لغير عمل الآخرة كما لا حمد لطلبها لغير عمل الآخرة.
فثبت أن مجرد الزهد في الدنيا لا حمد فيه كما لا حمد على الرغبة فيها وإنما الحمد على إرادة الله والدار الآخرة والذم على إرادة الدنيا المانعة من إرادة ذلك كما تقدم؛ وكما في قوله تعإلى: { إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخرة فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } [35]، ولهذا جرت عادة أهل المعرفة بتسمية هذا الطالب المريد فان أول الخير إرادة الله ورسوله والدار الآخرة؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «إنما الاعمال بالنيات»، فثبت أن الزهد الواجب هو ترك ما يمنع عن الواجب من إرادة الله والدار الآخرة والزهد المستحب هو ما يشغل عن المستحب من أعمال المقربين والصديقين، فظهر بذلك أن المطلوب بالزهد فعل المأمور به من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لولا كون الدنيا تشغل عن عبادة الله والدار الآخرة لم يشرع الزهد فيها بل كان يكون فعله وتركه سواء أو يرجح هذا أو يرجح هذا ترجيحا دنيويا.
الثاني: أنه إذا قدر أن شخصين أحدهما يريد الآخرة ويريد الدنيا والآخر زاهد في الدنيا والآخرة لكان الأول منهما مؤمنا محمودا والثاني كافرا ملعونا مع أن الثاني زاهد في الدنيا والأول طالب لها لكن امتاز الأول بفعل مأمور مع أرتكاب محظور والثاني لم يكن معه ذلك المأمور به فثبت أن فعل المأمور به من إرادة الآخرة ينفع والزهد بدون فعل هذا المأمور لا ينفع.
الثالث: المحمود في الكتاب والسنة إنما هو إرادة الدار الآخرة والمذموم إنما هو من ترك إرادة الدار الآخرة واشتغل بإرادة الدنيا عنها، فاما مجرد مدح ترك الدنيا فليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا تنظر إلى كثرة ذم الناس الدنيا ذما غير دينى فإن أكثر العامة إنما يذمونها لعدم حصول أغراضهم منها فإنها لم تصف لاحد قط ولو نال منها ما عساه أن ينال وما امتلأت دار حبرة الا امتلات عبرة فالعقلاء يذمون الجهال الذين يركنون اليها ويظنون بقاء الرياسة والمال وتناول الشهوات فيها وهم مع هذا يحتاجون إلى ما لابد لهم منه منها وأكثرهم طالب لما يذمه منها، وهؤلاء حقيقة ذمهم لها ذم دنيوى لما فيها من الضرر الدنيوي، كما يذم العقلاء التجارة والصناعة التى لا ربح فيها بل فيها تعب وكما تذم معاشرة من يضرك ولا ينفعك في التزويج بسيئة الخلق ونحو ذلك من الأمور التى لا تعود مضرتها ومنفعتها إلا إلى الدنيا أيضا ولا ريب أن ما فيه ضرر في الدنيا مذموم إذا لم يكن نافعا في الآخرة كإضاعة المال والعبادات الشاقة التى لم يأمر الله بها ولا رسوله وما فيه منفعة في الدنيا مذموم إذا كان ضارا في الآخرة كنيل اللذات وإدراك الشهوات المحرمة وكذلك اللذات والشهوات المباحات إذا حصل للعبد بها وهنا وتأخيرا في أمر الآخرة وطلبها وما كان مضرا في الدنيا والآخرة فهو شر وشدة، وما كان نافعا في الآخرة فهو محمود وإن كان ضارا في الدنيا كإذهاب النفوس والأموال في الجهاد في سبيل الله؛ وكذلك ما لم يكن ضارا في الدنيا مثل كثير من العبادات، وما كان نافعا في الدنيا والآخرة فهو محمود أيضا فالأقسام سبعة.
فما كان نافعا في الآخرة فهو محمود سواء ضر في الدنيا أو نفع، أو لم ينفع ولم يضر؛ وما كان ضارا في الآخرة فهو مذموم وإن كان نافعا في الدنيا أو ضارا أو لا نافعا ولا ضارا، وبقى ثلاثة أقسام ما كان نافعا في الدنيا غير ضار في الآخرة وضارا في الدنيا غير نافع في الآخرة والنافع محمود والضار مذموم؛ والقسم الثالث فيه قولان قيل لا حمد فيه ولا ذم وقيل بل هو مذموم فأكثر ذم الناس للدنيا ليس من جهة شغلها لهم عن الآخرة وإنما هو من جهة ما يلحقهم من الضرر فيها وهي مذمومة من ذلك الوجه، وأعلى وجوه الذم هو ما شغل عن الآخرة ولكن الإنسان قد يعدد المصائب وينسى النعم فقد يذم أمورا كثيرة لمضرة تلحه ويكون فيها منافع كثيرة لا يذكرها وهذا الذم من نوع الهلع والجزع كما قال تعإلى: { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ } [36]، وانما الذم المحقق هو ما يشغل عن مصلحة الآخرة من الواجب، والنقص هو ما يشغل عن مصلحتها المستحبة ويذم ما ترجحت مضرته على منفعته فيها فهذه ثلاثة أمور هي فصل الخطاب فقد تبين أن المحمود فيها وجودى أو عدمى وقد يقع الغلط في الزهد من وجوه كما وقع في الورع:
أحدها: أن قوما زهدوا فيما ينفعهم بلا مضرة فوقعوا به في ترك واجبات أو مستحبات كمن ترك النساء واللحم ونحو ذلك، وقد قال ﷺ: «لكنى أصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتى فليس منى».
والثاني: أن زهد هذا أوقعه في فعل محظورات كمن ترك تناول ما أبيح له من المال والمنفعة واحتاج إلى ذلك فأخذه من حرام أو سأل الناس المسألة المحرمة أو استشرف إليهم والاستشراف مكروه.
والثالث: من زهد زهد الكسل والبطالة والراحة لا لطلب الدار الآخرة بالعمل الصالح والعلم النافع، فإن العبد إذا كان زاهدا بطالا
فسد أعظم فساد، فهؤلاء لا يعمرون الدنيا ولا الآخرة كما قال عبدالله بن مسعود: إنى لأكره أن أرى الرجل بطالا ليس في أمر الدنيا ولا في أمر الآخرة وهؤلاء من أهل النار، وكما قال النبي ﷺ في الحديث الذى رواه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار عن النبي ﷺ قال: «اهل النار خمسة»، فذكر منهم «الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلا ولا مالا».
فمن ترك بزهده حسنات مأمور بها كان ما تركه خيرا من زهده أو فعل سيئات منهيا عنها أو دخل في الكسل والبطالات فهو من الاخسرين أعمالا { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [37] ومن زهد فيما يشغله عن الواجبات أو يوقعه في المحرمات فهو من المقتصدين أصحاب اليمين.
ومن زهد فيما يشغله عن المستحبات والدرجات فهو من المقدمين السابقين.
فهذه جملة مختصرة في الزهد، وقد تبين المطلوب الأول إنما هو فعل المأمور به لأنه يعين عليه وهذا هو المقصود هنا والله أعلم. واحذر ان تغتر بزهد الكافرين والمبتدعين فإن الفاسق المؤمن الذى يريد الآخرة ويريد الدنيا خير من زهاد أهل البدع وزهاد الكفار إما لفساد عقدهم، وإما لفساد قصدهم وإما لفسادهما جميعا.
======
الحسنات سبب للتحليل دينا وكونا
الوجه الثاني والعشرون
أن الحسنات سبب للتحليل دينا وكونا والسيئات سبب للتحريم دينا وكونا، فإن التحريم قد يكون حمية، وقد يكون عقوبة والإحلال قد يكون سعة، وقد يكون عقوبة وفتنة قال تعالى: { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } [1] فأباح بهيمة الأنعام في حال كونهم غير محلي الصيد وهو اعتقاد تحريم ذلك واجتنابه. وقال: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِير } إلى قوله: { وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [2] وقد ثبت أنها نزلت عشية عرفة في حجة الوداع فأكمل الله الدين بإيجابه لما أوجبه من الواجبات التي آخرها الحج وتحريمه للمحرمات المذكورة في هذه الآية هذا من جهة شرعه ومن جهة الفعل الذي هو تقويته وإعانته ونصره يئس الذين كفروا من ديننا وحج النبي ﷺ حجة الإسلام فلما أكملوا الدين قال عقب ذلك: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } [3] إلى قوله: { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } [4] فكان إحلاله الطيبات يوم أكمل الدين فأكمله تحريما وتحليلا لما أكملوه امتثالا.
وقال: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [5] الآية وهي بينة في الإصلاح والتقوى والإحسان موجبة لرفع الحرج وإن المؤمن العامل الصالحات المحسن لا حرج عليه ولا جناح فيما طعم فإن فيه عونا له وقوة على الإيمان والعمل الصالح والإحسان: ومن سواهم على الحرج والجناح، لأن النعم إنما خلقها الله ليستعان بها على الطاعة والآية مدنية وهي من آخر ما نزل من القرآن وقال تعالى عن إبراهيم: { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [6]، وقال: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [7]،
وقال: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ } [8]. وقال. { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [9].
وأما الطرف الآخر فقال تعالى: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } [10]، وقال: َعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } إلى قوله: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [11]، وقال تعالى: { واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ } [12]، إلى آخر الآيات.
وأما كون الإحلال والإعطاء فتنة فقوله: { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [13]، { وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [14] الآيات، { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [15]، { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [16]، { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ } [17]، إلى قوله: { كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } [18].
ويختلف التحليل والتحريم باعتبار النية كما قال تعالى: { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا } [19]، وقال: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ } [20].
وقد كتبت في قاعدة العهود والعقود- القاعدة في العهود الدينية في القواعد المطلقة والقاعدة في العقود الدنيوية في القواعد الفقهية، وفي كتاب النذر أيضا - أن ما وجب بالشرع إن نذره العبد أو عاهد الله عليه أو بايع عليه الرسول أو الإمام أو تحالف عليه جماعة فإن هذه العهود والمواثيق تقتضي له وجوبا ثانيا غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول فتكون واجبة من وجهين بحيث يستحق تاركها من العقوبة ما يستحقه ناقض العهد والميثاق وما يستحقه عاصي الله ورسوله. هذا هو التحقيق. ومن قال من أصحاب أحمد: إنه إذا نذر واجبا فهو بعد النذر كما كان قبل النذر بخلاف نذر المستحب فليس كما قال بل النذر إذا كان يوجب فعل المستحب فإيجابه لفعل الواجب أولى وليس هذا من باب تحصيل الحاصل بل هما وجوبان من نوعين لكل نوع حكم غير حكم الآخر مثل الجدة إذا كانت أم أم أم وأم أب أب فإن فيها شيئين كل منهما تستحق به السدس.
وكذلك من قال من أصحاب أحمد: إن الشروط التي هي من مقتضى العقد لا يصح اشتراطها أو قد تفسده حتى قال بعض أصحاب الشافعي: إذا قال: زوجتك على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان كان النكاح فاسدا، لأنه شرط فيه الطلاق. فهذا كلام فاسد جدا، فإن العقود إنما وجبت موجباتها لإيجاب المتعاقدين لها على أنفسهما ومطلق العقد له معنى مفهوم فإذا أطلق كانا قد أوجبا ما هو المفهوم منه، فإن موجب العقد هو واجب بالعقد كموجب النذر لم يوجبه الشارع ابتداء وإنما أوجب الوفاء بالعقود كما أوجب الوفاء بالنذر فإذا كان له موجب معلوم بلفظ مطلق أو يعرف المتعاقدان إيجابه بلفظ خاص: كان هذا من باب عطف الخاص على العام فيكون قد أوجبه مرتين أو جعل له إيجابا خاصا يستغنى به عن الإيجاب العام.
وفي القرآن من هذا نظائر مثل قوله: { مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } [21]، وقوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [22]، ومثل قوله: { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } [23]، وقوله: { قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ } [24]، وقوله: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } [25]، وقوله: { الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } [26]، فإن الله أعلن عهده الذي أمرهم به من بعد ما أخذ عليهم الميثاق بالوفاء به فاجتمع فيه الوجهان: العهدي، والميثاقي. وفي القرآن من العهود والمواثيق على ما وجب بأمر الله شيء كثير فمن ذلك قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } [27] الآية وقوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا } [28]، إلى آخر الكلام وقوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } [29]، وقوله: { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } [30] الآية إلى قوله: { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ } [31] فإن قوله: { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى } [32]، بعد ذكره للإيمان يقتضي أنه الوفاء بموجب العقود في المعاملات ونحوها كما قال في آية البيع: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } [33]، فأداء الأمانة هو الوفاء بموجب العقود في المعاملات من القبض والتسليم، فإن ذلك واجب بعقده فقط ثم قال بعده: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ } [34]، فعهد الله ما عهده إليهم وأيمانهم ما عقدوه من الأيمان.
وسبب نزولها قصة الأشعث بن قيس التي في الصحيحين في محاكمته مع اليهودي حين قال النبي ﷺ: «من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» وأنزل الله هذه الآية فإن ذلك المال كان يجب تسليمه إلى مستحقه بموجب عهده فإذا حلف بعد هذا على استحقاقه دون مستحقه فقد صار عاصيا من وجهين نظير قوله: { الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } [35]، وضدهم الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق وقوله: { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا } [36] الآية قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمر أن يأخذ الميثاق على أمته: إن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.
ومعلوم أن محمدا إذا بعثه الله برسالة عامة وجب الإيمان به ونصرته على كل من بلغته دعوته وإن لم يكن قد أخذ عليه ميثاق بذلك وقد أخذ عليهم الميثاق بما هو واجب بأمر الله بلا ميثاق وقوله تعالى: { فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ } [37] إلى قوله: { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } [38] الآيات فهذا ميثاق أخذه الله.==
تنازع الناس في الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه
وقال رحمه الله:
تنازع الناس في الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه؟ وهل يكون نهيا عن ضده؟ مع اتفاقهم على أن فعل المأمور لا يكون إلا مع فعل لوازمه وترك ضده.
ومنشأ النزاع أن الآمر بالفعل قد لا يكون مقصوده اللوازم ولا ترك الضد، ولهذا إذا عاقب المكلف لا يعاقبه إلا على ترك المأمور فقط لا يعاقبه على ترك لوازمه وفعل ضده.
وهذه المسألة هي الملقبة: بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد غلط فيها بعض الناس فقسموا ذلك: إلى ما لا يقدر المكلف عليه، كالصحة في الأعضاء والعدد في الجمعة، ونحو ذلك مما لا يكون قادرا على تحصيله. وإلى ما يقدر عليه كقطع المسافة في الحج وغسل جزء من الرأس في الوضوء وإمساك جزء من الليل في الصيام ونحو ذلك. فقالوا: ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب. وهذا التقسيم خطأ، فإن هذه الأمور التي ذكروها هي شرط في الوجوب فلا يتم الواجب إلا بها وما لا يتم الواجب إلا به يجب على العبد فعله باتفاق المسلمين سواء كان مقدورا عليه أو لا كالاستطاعة في الحج واكتساب نصاب الزكاة، فإن العبد إذا كان مستطيعا للحج وجب عليه الحج وإذا كان مالكا لنصاب الزكاة وجبت عليه الزكاة فالوجوب لا يتم إلا بذلك فلا يجب عليه تحصيل استطاعة الحج ولا ملك النصاب، ولهذا من يقول: إن الاستطاعة في الحج ملك المال - كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد - فلا يوجبون عليه الاكتساب ولم يتنازعوا إلا فيما إذا بذلت له الاستطاعة إما بذل الحج وإما بذل المال له من ولده.
وفيه نزاع معروف في مذهب الشافعي وأحمد ولكن المشهور من مذهب أحمد عدم الوجوب وإنما أوجبه طائفة من أصحابه، لكون الأب له على أصله أن يتملك مال ولده فيكون قبوله كتملك المباحات. والمشهور من مذهب الشافعي الوجوب ببذل الابن بالفعل.
والمقصود هنا: الفرق بين ما لا يتم الواجب إلا به وما لا يتم الوجوب إلا به وأن الكلام في القسم الثاني إنما هو فيما لا يتم الواجب إلا به كقطع المسافة في الجمعة والحج ونحو ذلك فعلى المكلف فعله باتفاق المسلمين لكن من ترك الحج وهو بعيد الدار عن مكة، أو ترك الجمعة وهو بعيد الدار عن الجامع، فقد ترك أكثر مما ترك قريب الدار ومع هذا فلا يقال: إن عقوبة هذا أعظم من عقوبة قريب الدار.
والواجب: ما يكون تركه سببا للذم والعقاب فلو كان هذا الذي لزمه فعله بطريق التبع مقصودا بالوجوب لكان الذم والعقاب لتاركه أعظم فيكون من ترك الحج من أهل الهند والأندلس أعظم عقابا ممن تركه من أهل مكة والطائف ومن ترك الجمعة من أقصى المدينة أعظم عقابا ممن تركها من جيران المسجد الجامع فلما كان من المعلوم أن ثواب البعيد أعظم وعقابه إذا ترك ليس أعظم من عقاب القريب: نشأت من ههنا الشبهة: هل هو واجب أو ليس بواجب؟
والتحقيق: أن وجوبه بطريق اللزوم العقلي لا بطريق قصد الأمر، بل الأمر بالفعل قد لا يقصد طلب لوازمه وإن كان عالما بأنه لا بد من وجودها، وإن كان ممن تجوز عليه الغفلة فقد لا تخطر بقلبه اللوازم. ومن فهم هذا انحلت عنه شبه الكعبي: هل في الشريعة مباح أم لا؟ فإن الكعبي زعم أنه لا مباح في الشريعة... إلخ، فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها ويبغض من يفعل ذلك كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه.
ثم إن قوله الذي يعارض به النصوص لا بد أن يلبس فيه حقا بباطل بحسب ما يقول من الألفاظ المجملة المتشابهة، ولهذا قال الإمام أحمد في أول ما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله مما كتبه في حبسه - وقد ذكره الخلال في كتاب السنة والقاضي أبو يعلى، وأبو الفضل التميمي، وأبو الوفاء ابن عقيل، وغير واحد من أصحاب أحمد ولم ينفه أحد منهم عنه والحمد لله.
والمقصود قوله: - يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم. فإن كانوا في مقام دعوة الناس إلى قولهم والتزامهم به أمكن أن يقال لهم: لا يجب على أحد أن يجيب داعيا إلا إلى ما دعا إليه رسول الله ﷺ فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن على الناس إجابة من دعا إليه ولا له دعوة الناس إلى ذلك ولو قدر أن ذلك المعنى حق، وهذه الطريق تكون أصلح إذا لبس ملبس منهم على ولاة الأمور وأدخلوه في بدعهم. كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك فكان من أحسن مناظرتهم أن يقال: ائتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلى ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة. وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل.
ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقا أو اعتقادا زعم أن الإيمان لا يتم إلا به مع العلم بأن الرسول لم يذكره وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة قال الشافعي - رحمه الله -: البدعة بدعتان: بدعة خالفت كتابا وسنة وإجماعا وأثرا عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ فهذه بدعة ضلالة. وبدعة لم تخالف شيئا من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر: نعمت البدعة هذه هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل ويروى عن مالك رحمه الله أنه قال: إذا قل العلم ظهر الجفا وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء.
ولهذا تجد قوما كثيرين يحبون قوما ويبغضون قوما لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها بل يوالون على إطلاقها أو يعادون من غير أن تكون منقولة نقلا صحيحا عن النبي ﷺ وسلف الأمة ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها ولا يعرفون لازمها ومقتضاها. وسبب هذا إطلاق أقوال ليست منصوصة وجعلها مذاهب يدعى إليها ويوالي ويعادي عليها وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ كان يقول في خطبته: «إن أصدق الكلام كلام الله إلخ.. » فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة نبيه وما اتفقت عليه الأمة فهذه الثلاثة هي أصول معصومة وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول. وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها غير النبي ﷺ ولا ينصب لهم كلاما يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون. والخوارج إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه وجعلوا من خالف ذلك كافرا، لاعتقادهم أنه خالف القرآن فمن ابتدع أقوالا ليس لها أصل في القرآن وجعل من خالفها كافرا كان قوله شرا من قول الخوارج.
ويجب أن يعلم أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه، بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ولا وفى بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ولا أفاد كلامه العلم واليقين.
وقد أوجب الله على المؤمنين الإيمان بالرسول والجهاد معه ومن الإيمان به تصديقه في كل ما أخبر به ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به وألحد في أسماء الله وآياته.
ومن المعلوم أنه لا بد في كل مسألة دائرة بين النفي والإثبات من حق ثابت في نفس الأمر، أو تفصيل لكن من لم يكن عارفا بآثار السلف وحقائق أقوالهم وحقيقة ما جاء به الكتاب والسنة، وحقيقة المعقول الصريح الذي لا يتصور أن يناقض ذلك لم يمكنه أن يقول بمبلغ علمه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة. وإذا كان الله يغفر لمن جهل تحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل، مع كونه لم يطلب العلم فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأ تحقيقا لقوله: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [1].
وأهل السنة جزموا بالنجاة لكل من اتقى الله تعالى، كما نطق به القرآن وإنما توقفوا في شخص معين، لعدم العلم بدخوله في المتقين. وحال سائر أهل الأقوال الضعيفة الذين يحتجون بظاهر القرآن على ما يخالف السنة إذا خفي الأمر عليهم مع أنه لم يوجد في ظاهر القرآن ما يخالف السنة كمن قال: من الخوارج: لا يصلي في السفر إلا أربعا. ومن قال إن الأربع أفضل. ومن قال: لا نحكم بشاهد ويمين. وما دل عليه ظاهر القرآن حق وأنه ليس بعام مخصوص فإنه ليس هناك عموم لفظي وإنما هو مطلق كقوله: { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ } [2] ؛ فإنه عام في الأعيان مطلق في الأحوال وقوله: { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } [3]، عام في الأولاد مطلق في الأحوال. ولفظ الظاهر يراد به ما يظهر للإنسان وقد يراد به ما يدل عليه اللفظ. فالأول يكون بحسب مفهوم الناس وفي القرآن مما يخالف الفهم الفاسد شيء كثير.
======
فصل في تعليل الحكم الواحد بعلتين
وقال شيخ الإسلام رحمه الله
فصل في تعليل الحكم الواحد بعلتين: وما يشبه ذلك من وجود مقدر واحد بين قادرين ووجود الفعل الواحد من فاعلين فنقول:
النزاع وإن كان مشهورا في ذلك فأكثر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم يجوز تعليل الحكم بعلتين وكثير من الفقهاء والمتكلمين يمنع ذلك. فالنزاع في ذلك يعود إلى نزاع تنوعي، ونزاع في العبارة، وليس بنزاع تناقض ونظير ذلك النزاع في تخصيص العلة، فإن هذا فيه خلاف مشهور بين الطوائف كلها من أصحابنا وغيرهم حتى يذكر ذلك روايتان عن أحمد. وأصل ذلك أن مسمى العلة قد يعني به العلة الموجبة وهي: التامة التي يمتنع تخلف الحكم عنها فهذه لا يتصور تخصيصها ومتى انتقضت فسدت ويدخل فيها ما يسمى جزء العلة، وشرط الحكم، وعدم المانع فسائر ما يتوقف الحكم عليه يدخل فيها. وقد يعني بالعلة: ما كان مقتضيا للحكم يعني: أن فيه معنى يقتضي الحكم ويطلبه وإن لم يكن موجبا فيمتنع تخلف الحكم عنه فهذه قد يقف حكمها على ثبوت شروط وانتفاء موانع فإذا تخصصت فكان تخلف الحكم عنها لفقدان شرط أو وجود مانع لم يقدح فيها وعلى هذا فينجبر النقص بالفرق. وإن كان التخلف عنها لا لفوات شرط ولا وجود مانع كان ذلك دليلا على أنها ليست بعلة، إذ هي بهذا التقدير علة تامة إذا قدر أنها جميعها بشروطها وعدم موانعها موجودة حكما والعلة التامة يمتنع تخلف الحكم عنها فتخلفه يدل على أنها ليست علة تامة والمقصود من التنظير: أن سؤال النقض الوارد على العلة مبني على تخصيص العلة وهو ثبوت الوصف بدون الحكم. وسؤال عدم التأثير عكسه وهو ثبوت الحكم بدون الوصف وهو ينافي عكس العلة كما أن الأول ينافي طردها. والعكس مبني على تعليل الحكم بعلتين.
وجمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم وإن كانوا لا يشترطون الانعكاس في العلل الشرعية ويجوزون تعليل الحكم الواحد بعلتين، فهم مع ذلك يقولون: العلة تفسد بعدم التأثير، لأن ثبوت الحكم بدون هذا الوصف يبين أن هذا الوصف ليس علة، إذا لم يخلف هذا الوصف وصفا آخر يكون علة له فهم يوردون هذا السؤال في الموضع الذي ليست العلة فيه إلا علة واحدة إما لقيام الدليل على ذلك، وإما لتسليم المستدل لذلك. والمقصود هنا أن نبين أن النزاع في تعليل الحكم بعلتين يرجع إلى نزاع تنوع ونزاع في العبارة لا إلى نزاع تناقض معنوي، وذلك أن الحكم الواحد بالجنس والنوع لا خلاف في جواز تعليله بعلتين يعني أن بعض أنواعه أو أفراده يثبت بعلة، وبعض أنواعه أو أفراده يثبت بعلة أخرى كالإرث الذي يثبت بالرحم وبالنكاح وبالولاء والملك الذي يثبت بالبيع والهبة والإرث وحل الدم الذي يثبت بالردة والقتل والزنا ونواقض الوضوء وموجبات الغسل وغير ذلك.
وأما التنازع بينهم في الحكم المعين الواحد بالشخص، مثل من لمس النساء ومس ذكره وبال: هل يقال: انتقاض وضوئه ثبت بعلل متعددة؟ فيكون الحكم الواحد معللا بعلتين. ومثل من قتل وارتد وزنى، ومثل الربيبة إذا كانت محرمة بالرضاع كما قال النبي ﷺ في درة بنت أم سلمة لما قالت له أم حبيبة: إنا نتحدث أنك ناكح درة بنت أم سلمة فقال: بنت أبي سلمة؟ فقالت: نعم فقال: «إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي، لأنها بنت أخي من الرضاعة. أرضعتني وأبا سلمة ثويبة مولاة أبي لهب» وكما قال أحمد في بعض ما يذكره: هذا كلحم خنزير ميت حرام من وجهين. وأمثال ذلك.
فنقول: لا نزاع بين الطائفتين في أمثال هذه الأمور أن كل واحدة من العلتين مستقلة بالحكم في حال الانفراد وأنه يجوز أن يقال: إنه اجتمع لهذا الحكم علتان كل واحدة منهما مستقلة به إذا انفردت فهذا أيضا مما لا نزاع فيه وهو معنى قولهم: يجوز تعليله بعلتين على البدل بلا نزاع.
ولا يتنازع العقلاء أن العلتين إذا اجتمعتا لم يجز أن يقال: إن الحكم الواحد ثبت بكل منهما حال الاجتماع على سبيل الاستقلال، فإن استقلال العلة بالحكم هو ثبوته بها دون غيرها. فإذا قيل: ثبت بهذه دون غيرها، وثبت بهذه دون غيرها: كان ذلك جمعا بين النقيضين وكان التقدير: ثبت بهذه ولم يثبت بها، وثبت بهذه ولم يثبت بها فكان ذلك جمعا بين إثبات التعليل بكل منهما وبين نفي التعليل عن كل منهما وهذا معنى ما يقال: إن تعليله بكل منهما على سبيل الاستقلال ينفي ثبوته بواحدة منهما وما أفضى إثباته إلى نفيه كان باطلا.
وهنا يتقابل النفاة والمثبتة، والنزاع لفظي، فتقول النفاة: إثبات الحكم بهذه العلة على سبيل الاستقلال ينافي إثباته بالأخرى على سبيل الاستقلال. وتقول المثبتة: نحن لا نعني بالاستقلال: الاستقلال في حال الاجتماع وإنما نعني: أن الحكم ثبت بكل منهما، وهي مستقلة به إذا انفردت. فهؤلاء لم ينازعوا الأولين في أنهما حال الاجتماع لم تستقل واحدة منهما به وأولئك لم ينازعوا هؤلاء في أن كل واحدة من العلتين مستقلة حال انفرادها.
فهذا هو الكلام في العلتين المجتمعتين.
وأما الحكم الثابت حين اجتماعهما فقد يكون مختلفا كحل القتل الثابت بالردة وبالزنا وبالقصاص، فإن هذه الأحكام مختلفة غير متماثلة لا يسد كل واحد منها مسد الآخر وقد تكون الأحكام متماثلة كانتقاض الوضوء فالذين يمنعون تعليل الحكم بعلتين يقولون: الثابت بالعلل أحكام متعددة لا حكم واحد لا سيما عند من سلم لهم على أحد قولي الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما: أنه إذا نوى التوضؤ أو الاغتسال من حدث بعض الأسباب لم يرتفع الحدث الآخر. والخلاف معروف في اجتماع ذلك في الحدث الأصغر والأكبر وهو ينزع إلى اجتماع الأمثال في المحل الواحد، وأن الأمثال هل هي متضادة أم لا؟ وفيه نزاع معروف. ومن يقول بتعليل الحكم الواحد بعلتين لا ينازع في أنه إذا اجتمع علتان كان الحكم أقوى وأوكد مما إذا انفردت إحداهما، ولهذا إذا جاء تعليل الحكم الواحد بعلتين في كلام الشارع أو الأئمة كان ذلك مذكورا لبيان توكيد ثبوت الحكم وقوته كقول أحمد في بعض ما يغلظ تحريمه: هذا كلحم خنزير ميت فإنه ذكر ذلك لتغليظ التحريم وتقويته وهذا أيضا يرجع إلى أن الإيجاب والتحريم والإباحة هل يتفاوت في نفسه؟ فيكون إيجاب أعظم من إيجاب، وتحريم أعظم من تحريم؟ وهذا فيه أيضا نزاع والمشهور عند أكثر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: تجويز تفاوت ذلك ومنع منه طائفة منهم ابن عقيل وغيرهم.
وكذلك النزاع في أنه هل يكون عقل أكمل من عقل؟ وهو يشبه النزاع في أن التصديق والمعرفة التي في القلب هل تتفاوت؟ وقد ذكر في ذلك روايتان عن أحمد والذي عليه أئمة السنة المخالفون للمرجئة: أن جميع ذلك يتفاوت ويتفاضل وكذلك سائر صفات الحي من الحب والبغض، والإرادة والكراهة، والسمع والبصر، والشم والذوق واللمس والشبع والري والقدرة والعجز وغير ذلك فالنزاع في هذا كالنزاع في جواز اجتماع المثلين مثل سوادين وحلاوتين فإنه لا نزاع أنه قد يكون أحد السوادين أقوى وإحدى الحلاوتين أقوى لكن هل يقال: إنه اجتمع في المحل سوادان وحلاوتان؟ أو هو سواد واحد قوي؟ وهذا أيضا نزاع لفظي. فقول من يقول: إنه اجتمع في المحل حكمان كإيجابين وتحريمين وإباحتين وهو شبيه بقول من يقول: اجتمع سوادان وقول من يقول: هو حكم واحد مؤكد كقول من يقول: سواد واحد قوي وكلا القولين مقصودهما واحد فإن التوكيد لا ينافي تعدد الأمثال إذ التوكيد قد يكون بتكرير الأمثال كقول النبي ﷺ: «والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا» وقول القائل: ثم ثم. وجاء زيد جاء زيد وأمثال ذلك فالقول بثبوت أحكام والقول بثبوت حكم قوي مؤكد هما سواء في المعنى.
ومن المعلوم أنه سواء قال القائل: ثبت أحكام متعددة أو حكم قوي مؤكد فذلك المجموع لم يحصل إلا بمجموع العلتين لم تستقل به إحداهما ولا تستقل به إحداهما لا في حال الاجتماع ولا في حال الانفراد فكل منهما جزء من العلة التي لهذا المجموع لا علة له كما أنه من المعلوم أن كل واحدة من العلتين مستقلة بأصل الحكم الواحد حال انفرادها ولكن لفظ الواحد فيه إجمال كما أن في لفظ الاستقلال إجمالا فكما أن من أثبت استقلال العلة حال الانفراد لا يعارض من نفى استقلالها حال الاجتماع فكذلك من قال: يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين إذا أراد به أن كلا منهما تستقل به حال الانفراد فهذا لا نزاع فيه. ومن قال: إن المجموع الواحد الحاصل بمجموعهما لا يحصل بأحدهما فهذا لا نزاع فيه. ومن جعل هذا المجموع أحكاما متعددة لم يعارض قول من جعله واحدا إذا عنى به وحدة النوع في المحل الواحد فيكون المقصود أن الحكم الواحد بالنوع تارة يكون شخصان منه في محلين فهذا ظاهر. وتارة يجتمع منه شخصان في محل واحد فهما نوعان باعتبار أنفسهما وهما شخص واحد باعتبار محلهما. فمن قال: إن الحكم الحاصل بالعلتين حكم واحد فإن أراد به نوعا واحدا في عين واحدة فقد صدق ومن أراد به شخصين من نوع في عين واحدة فقد صدق.
======
فصل في العلتين لا تكونان مستقلتين بحكم واحد حال الاجتماع
وقد تبين بذلك أن العلتين لا تكونان مستقلتين بحكم واحد حال الاجتماع وهذا معلوم بالضرورة البديهية بعد التصور، فإن الاستقلال ينافي الاشتراك، إذ المستقل لا شريك له فالمجتمعان على أمر واحد لا يكون أحدهما مستقلا به. وأن الحكم الثابت بعلتين - سواء قيل: هو أحكام، أو حكم واحد مؤكد - لا تستقل به إحداهما بل كل منهما جزء من علته، لا علة له. وهكذا يقال في اجتماع الأدلة على المدلول الواحد: أنها توجب علما مؤكدا، أو علوما متماثلة. ومن هنا يحصل بها من الإيضاح والقوة ما لا يحصل بالواحد وهذا داخل في القاعدة الكلية وهو: أن المؤثر الواحد - سواء كان فاعلا بإرادة واختيار أو بطبع، أو كان داعيا إلى الفعل وباعثا عليه - متى كان له شريك في فعله وتأثيره كان معاونا ومظاهرا له ومنعه أن يكون مستقلا بالحكم منفردا به ولزم من ذلك حاجة كل منهما إلى الآخر وعدم استغنائه بنفسه في فعله وأن الاشتراك موجب للافتقار مزيل للغنى، فإن المشتركين في الفعل متعاونان عليه وأحدهما لا يجوز - إذا لم يتغير بالاشتراك والانفراد - أن يفعل وحده ما فعله هو والآخر فإنه إذا فعل شيئا حال الانفراد - وقدر أنه لم يتغير، وأنه اجتمع بنظيره - امتنع أن يكون مفعولهما حال الاشتراك هو مثل مفعول كل منهما حال الانفراد، فإن المفعول إذا لم يكن له وجود إلا من الفاعل، والفاعل حال انفراده له مفعول، فإذا اجتمعا كان مفعولهما جميعا أكثر أو أكبر من مفعول أحدهما وإلا كان الزائد كالناقص بخلاف ما إذا تغير الفاعل كالإنسان الذي يرفع هو وآخر خشبة أو يصنع طعاما ثم هو وحده مثل ذلك، فإن ذلك لا بد أن يكون بتغيير منه في إرادته وحركته وآلاته ونحو ذلك وإلا فإذا استوى حالاه امتنع تساوي المفعولين حال الانفراد والاشتراك.
وفي الجملة فكل من المشتركين في مفعول فأحدهما مفتقر إلى الآخر في وجود ذلك المفعول، محتاج إليه فيه وإلا لم يكونا مشتركين، لأن كلا منهما إما أن يكون مستقلا بالفعل منفردا به، أو لا يكون فإن كان مستقلا به منفردا به امتنع أن يكون له فيه شريك أو معاون وإن لم يكن مستقلا منفردا به لم يكن المفعول به وحده بل به وبالآخر ولم يكن هو وحده كافيا في وجود ذلك المفعول بل كان محتاجا إلى الآخر في وجود ذلك المفعول مفتقرا إليه فيه.
وهذا يقتضي أنه ليس رب ذلك المفعول ولا مالكه ولا خالقه بل هو شريك فيه.
ويقتضي أنه لم يكن غنيا عن الشريك في ذلك المفعول بل كان مفتقرا إليه فيه محتاجا إليه فيه.
وذلك يقتضي عجزه وعدم قدرته عليه حال الانفراد أيضا كما نبهنا عليه من أن الإنسان لا ينفرد بما شاركه فيه غيره وإن لم يتغير تغيرا يوجب تمام قدرته على ما شاركه فيه الغير وذلك أن الفاعل إذا كان حال الانفراد قادرا تام القدرة، والتقدير أنه مريد للمفعول إرادة جازمة، إذ لو لم يرده إرادة جازمة لما وجد حال الانفراد ولا حال الاجتماع والاشتراك: إذ الإرادة التي ليست بجازمة لا يوجد مرادها الذي يفعله المريد بحال والإرادة الجازمة بلا قدرة لا يوجد مرادها والإرادة الجازمة مع القدرة التامة تستلزم وجود المراد فلو كان أحد المشتركين تام القدرة تام الإرادة لوجب وجود المفعول به وحده ووجوده به وحده يمنع وجوده بالآخر فيلزم اجتماع النقيضين وهو: وجود المفعول به وحده: وعدم وجود المفعول به وحده وأن يكون فاعلا غير فاعل وذلك ظاهر البطلان.
وهذا التمانع ليس هو أن كل واحد من الفاعلين يمنع الآخر كما يقال إذا أراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه، أو إماتة شخص والآخر إحياءه وإنما هو تمانع ذاتي وهو: أنه تمانع اشتراك شريكين تامي القدرة والإرادة في مفعول هما عليه تاما القدرة والإرادة فإن من كان على الشيء تام القدرة وهو له تام الإرادة وجب وجود المفعول به وحده وإذا كان الآخر كذلك وجب وجود المفعول به. وهذان يتتابعان ويتمانعان إذ الإثبات يمنع النفي والنفي يمنع الإثبات تمانعا وتناقضا ذاتيا. فتبين أن الاشتراك موجب لنقص الشريك في نفس القدرة وإذا قدر اثنان مريدان لأمر من الأمور فلا بد من أمرين: إما أن يكون المفعول الذي يفعله هذا ليس هو المفعول الذي يفعله الآخر ولكن كل منهما مستقل ببعض المفعول.
وإما أن يكون المفعول الذي اشتركا فيه لا يقدر أحدهما على أن يفعله إذا انفرد إلا أن يتجدد له قدرة أكمل من القدرة التي كانت موجودة حال الاشتراك فإذا كان المفعول واحدا قد اختلط بعضه ببعض على وجه لا يمكن انفراد فاعل ببعضه وفاعل آخر ببعضه: امتنع فيه اشتراك الامتياز كاشتراك بني آدم في مفعولاتهم التي يفعل هذا بعضها وهذا بعضها وامتنع فيه اشتراك الاختلاط إلا مع عجز أحدهما ونقص قدرته وأنه ليس على شيء قدير وهذا الذي ذكرناه بقولنا: إن الاشتراك موجب لنقص القدرة.
======
فصل في أن العلتين كلا منهما ليس واجبا بنفسه بل مفتقرا إلى غيره
ثم يقال: هذا أيضا يقتضي أن كلا منهما ليس واجبا بنفسه غنيا قويا بل مفتقرا إلى غيره في ذاته وصفاته كما كان مفتقرا إليه في مفعولاته وذلك أنه إذا كان كل منهما مفتقرا إلى الآخر في مفعولاته عاجزا عن الانفراد بها - إذ الاشتراك مستلزم لذلك كما تقدم - فإما أن يكون قابلا للقدرة على الاستقلال بحيث يمكن ذلك فيه أو لا يمكن.
والثاني ممتنع لأنه إذا امتنع أن يكون الشيء مقدورا ممكنا لواحد امتنع أن يكون مقدورا ممكنا لاثنين فإن حال الشيء في كونه مقدورا ممكنا لا يختلف بتعدد القادر عليه وتوحده فإذا امتنع أن يكون مفعولا مقدورا لواحد امتنع أن يكون مفعولا مقدورا لاثنين وإذا جاز أن يكون مفعولا مقدورا عليه لاثنين هو ممكن جاز أن يكون أيضا لواحد. وهذا بين إذا كان الإمكان والامتناع لمعنى في الممكن المفعول المقدور عليه إذ صفات ذاته لا تختلف في الحال وكذلك إذا كان لمعنى في القادر فإن القدرة القائمة باثنين لا يمتنع أن تقوم بواحد، بل إمكان ذلك معلوم ببديهة العقل فإن من المعلوم ببديهة العقل أن الصفات بأسرها من القدرة وغيرها: كل ما كان محلها متحدا مجتمعا كان أكمل لها في أن يكون متعددا متفرقا ولهذا كان الاجتماع والاشتراك في المخلوقات يوجب لها من القوة والقدرة ما لا يحصل لها إذا تفرقت وانفردت وإن كانت أحوالها باقية بل الأشخاص والأعضاء وغيرها من الأجسام المفترقة قد قام بكل منها قدرة فإذا قدر اتحادها واجتماعها كانت تلك القدرة أقوى وأكمل، لأنه حصل لها من الاتحاد والاجتماع بحسب الإمكان ما لم يكن حين الافتراق والتعداد.
وهذا يبين أن القدرة القائمة باثنين إذا قدر أن ذينك الاثنين كانا شيئا واحدا تكون القدرة أكمل فكيف لا تكون مساوية للقدرة القائمة بمحلين؟ وإذا كان من المعلوم أن المحلين المتباينين اللذين قام بهما قدرتان إذا قدر أنهما محل واحد وأن القدرتين قامتا به لم تنقص القدرة بذلك بل تزيد علم أن المفعول الممكن المقدور عليه لقادرين منفصلين إذا قدر أنهما بعينهما قادر واحد قد قام به ما قام بهما لم ينقص بذلك بل يزيد فعلم أنه يمكن أن يكون كل منهما قابلا للقدرة على الاستقلال فإن ذلك ممكن فيه. فتبين أنه ليس يمكن في المشتركين على المفعول الواحد أن يكون كل منهما قادرا عليه بل من الممكن أن يكونا شيئا واحدا قادرا عليه فتبين أن كلا منهما يمكن أن يكون أكمل مما هو عليه وأن يكون بصفة أخرى وإذا كان يمكن في كل منهما أن تتغير ذاته وصفاته ومعلوم أنه هو لا يمكن أن يكمل نفسه وحده ويغيرها إذ التقدير أنه عاجز عن الانفراد بمفعول منفصل عنه فأن يكون عاجزا عن تكميل نفسه وتغييرها أولى وإذا كان هذا يمكن أن يتغير ويكمل وهو لا يمكنه ذلك بنفسه لم يكن واجب الوجود بنفسه، بل يكون فيه إمكان وافتقار إلى غيره. والتقدير: أنه واجب الوجود بنفسه غير واجب الوجود بنفسه فيكون واجبا ممكنا وهذا تناقض إذ ما كان واجب الوجود بنفسه تكون نفسه كافية في حقيقة ذاته وصفاته لا يكون في شيء من ذاته وأفعاله وصفاته مفتقرا إلى غيره، إذ ذلك كله داخل في مسمى ذاته بل ويجب أن لا يكون مفتقرا إلى غيره في شيء من أفعاله ومفعولاته فإن أفعاله القائمة به داخلة في مسمى نفسه وافتقاره إلى غيره في بعض المفعولات يوجب افتقاره في فعله وصفته القائمة به إذ مفعوله صدر عن ذلك فلو كانت ذاته كافية غنية لم تفتقر إلى غيره في فعلها فافتقاره إلى غيره بوجه من الوجوه دليل عدم غناه وعلى حاجته إلى الغير وذلك هو الإمكان المناقض لكونه واجب الوجود بنفسه. ولهذا لما كان وجوب الوجود من خصائص رب العالمين والغنى عن الغير من خصائص رب العالمين: كان الاستقلال بالفعل من خصائص رب العالمين وكان التنزه عن شريك في الفعل والمفعول من خصائص رب العالمين فليس في المخلوقات ما هو مستقل بشيء من المفعولات وليس فيها ما هو وحده علة تامة وليس فيها ما هو مستغنيا عن الشريك في شيء من المفعولات بل لا يكون في العالم شيء موجود عن بعض الأسباب إلا يشاركه سبب آخر له فيكون - وإن سمي علة - علة مقتضية سببية لا علة تامة ويكون كل منهما شرطا للآخر.
كما أنه ليس في العالم سبب إلا وله مانع يمنعه في الفعل فكل ما في المخلوق مما يسمى علة أو سببا أو قادرا أو فاعلا أو مؤثرا - فله شريك هو له كالشرط وله معارض هو له مانع وضد وقد قال سبحانه: { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [1] ؛ والزوج يراد به: النظير المماثل والضد المخالف. وهذا كثير فما من مخلوق إلا له شريك وند والرب سبحانه وحده هو الذي لا شريك له ولا ند ولا مثل له بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولهذا لا يستحق غيره أن يسمى خالقا ولا ربا مطلقا ونحو ذلك لأن ذلك يقتضي الاستقلال والانفراد بالمفعول المصنوع وليس ذلك إلا لله وحده.
ولهذا وإن تنازع بعض الناس في كون العلة يكون ذات أوصاف وادعى أن العلة لا تكون إلا ذات وصف واحد فإن أكثر الناس خالفوا في ذلك وقالوا: يجوز أن تكون ذات أوصاف بل قيل: لا يكون في المخلوق علة ذات وصف واحد إذ ليس في المخلوق ما يكون وحده علة ولا يكون في المخلوق علة إلا ما كان مركبا من أمرين فصاعدا فليس في المخلوقات واحد يصدر عنه شيء فضلا عن أن يقال: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد بل لا يصدر من المخلوق شيء إلا عن اثنين فصاعدا. وأما الواحد الذي يفعل وحده فليس إلا الله فكما أن الوحدانية واجبة له لازمة له فالمشاركة واجبة للمخلوق لازمة له والوحدانية مستلزمة للكمال والكمال مستلزم لها. والاشتراك مستلزم للنقصان والنقصان مستلزم له. والوحدانية مستلزمة للغنى عن الغير والقيام بنفسه ووجوبه بنفسه وهذه الأمور من الغنى والوجوب بالنفس والقيام بالنفس مستلزمة للوحدانية والمشاركة مستلزمة للفقر إلى الغير والإمكان بالنفس وعدم القيام بالنفس وكذلك الفقر والإمكان وعدم القيام بالنفس مستلزم للاشتراك.
فهذه وأمثالها من دلائل توحيد الربوبية وأعلامها وهي من دلائل إمكان المخلوقات المشهودات وفقرها وأنها مربوبة فهي من أدلة إثبات الصانع لأن ما فيها من الافتراق والتعداد والاشتراك يوجب افتقارها وإمكانها والممكن المفتقر لا بد له من واجب غني بنفسه وإلا لم يوجد ولو فرض تسلسل الممكنات المفتقرات فهي بمجموعها ممكنة والممكن قد علم بالاضطرار أنه مفتقر في وجوده إلى غيره فكل ما يعلم أنه ممكن فقير فإنه يعلم أنه فقير أيضا في وجوده إلى غيره فلا بد من غني بنفسه واجب الوجود بنفسه وإلا لم يوجد ما هو فقير ممكن بحال.
وهذه المعاني تدل على توحيد الربوبية، وعلى توحيد الإلهية، وهو: التوحيد الواجب الكامل الذي جاء به القرآن، لوجوه قد ذكرنا منها ما ذكرنا في غير هذا الموضع. مثل: أن المتحركات لا بد لها من حركة إرادية ولا بد للإرادة من مراد لنفسه وذلك هو الإله. والمخلوق يمتنع أن يكون مرادا لنفسه كما يمتنع أن يكون فاعلا بنفسه فإذا امتنع أن يكون فاعلان بأنفسهما امتنع أن يكون مرادان بأنفسهما.
=========
المنحرفون من أتباع الأئمة على أنواع
وقال شيخ الإسلام:
المنحرفون من أتباع الأئمة في الأصول والفروع، كبعض الخراسانيين من أهل جيلان وغيرهم المنتسبين إلى أحمد وغير أحمد، انحرافهم أنواع:
أحدها: قول لم يقله الإمام ولا أحد من المعروفين من أصحابه بالعلم كما يقوله بعضهم من قدم روح بني آدم ونور الشمس والقمر والنيران وقال بعض متأخريهم بقدم كلام الآدميين وخرس الناس إذا رفع القرآن وتكفير أهل الرأي ولعن أبي فلان وقدم مداد المصحف.
الثاني: قول قاله بعض علماء أصحابه وغلط فيه كقدم صوت العبد ورواية أحاديث ضعيفة يحتج فيها بالسنة في الصفات والقدر، والقرآن والفضائل، ونحو ذلك.
الثالث: قول قاله الإمام فزيد عليه قدرا أو نوعا كتكفيره نوعا من أهل البدع كالجهمية فيجعل البدع نوعا واحدا حتى يدخل فيه المرجئة والقدرية أو ذمه لأصحاب الرأي بمخالفة الحديث والإرجاء فيخرج ذلك إلى التكفير واللعن أو رده لشهادة الداعية وروايته وغير الداعية في بعض البدع الغليظة فيعتقد رد خبرهم مطلقا مع نصوصه الصرائح بخلافه وكخروج من خرج في بعض الصفات إلى زيادة من التشبيه. الرابع: أن يفهم من كلامه ما لم يرده أو ينقل عنه ما لم يقله.
الخامس: أن يجعل كلامه عاما أو مطلقا وليس كذلك ثم قد يكون في اللفظ إطلاق أو عموم فيكون لهم فيه بعض العذر وقد لا يكون كإطلاقه تكفير الجهمية الخلقية مع أنه مشروط بشروط انتفت فيمن ترحم عليه من الذين امتحنوه وهم رءوس الجهمية.
السادس: أن يكون عنه في المسألة اختلاف فيتمسكون بالقول المرجوح. السابع: أن لا يكون قد قال أو نقل عنه ما يزيل شبهتهم مع كون لفظه محتملا لها.
الثامن: أن يكون قوله مشتملا على خطأ.
فالوجوه الستة تبين من مذهبه نفسه أنهم خالفوه وهو الحق والسابع خالفوا الحق وإن لم يعرف مذهبه نفيا وإثباتا والثامن خالفوا الحق وإن وافقوا مذهبه.
فالقسمة ثلاثية، لأنهم إذا خالفوا الحق فإما أن يكونوا قد خالفوه أيضا أو وافقوه أو لم يوافقوه ولم يخالفوه لانتفاء قوله في ذلك وكذلك إذا وافقوا الحق فإما أن يوافقوه هو أو يخالفوه، أو ينتفي الأمران.
وأهل البدع في غير الحنبلية أكثر منهم في الحنبلية بوجوه كثيرة، لأن نصوص أحمد في تفاصيل السنة ونفي البدع أكثر من غيره بكثير فالمبتدعة المنتسبون إلى غيره إذا كانوا جهمية أو قدرية أو شيعة أو مرجئة، لم يكن ذلك مذهبا للإمام إلا في الإرجاء، فإنه قول أبي فلان وأما بعض التجهم فاختلف النقل عنه ولذلك اختلف أصحابه المنتسبون إليه ما بين سنية وجهمية، ذكور وإناث، مشبهة ومجسمة، لأن أصوله لا تنفي البدع وإن لم تثبتها. وفي الحنبلية أيضا مبتدعة، وإن كانت البدعة في غيرهم أكثر وبدعتهم غالبا في زيادة الإثبات في حق الله وفي زيادة الإنكار على مخالفهم بالتكفير وغيره، لأن أحمد كان مثبتا لما جاءت به السنة، منكرا على من خالفها مصيبا في غالب الأمور مختلفا عنه في البعض ومخالفا في البعض.
وأما بدعة غيرهم فقد تكون أشد من بدعة مبتدعهم في زيادة الإثبات والإنكار، وقد تكون في النفي وهو الأغلب كالجهمية، والقدرية، والمرجئة، والرافضة.
وأما زيادة الإنكار من غيرهم على المخالف من تكفير وتفسيق فكثير. والقسم الثالث من البدع: الخلو عن السنة نفيا وإثباتا وترك الأمر بها والنهي عن مخالفتها وهو كثير في المتفقهة والمتصوفة.
=======
فصل في المتكلم باللفظ العام لا بد أن يقوم بقلبه معنى عام
وقال رحمه الله تعالى:
المتكلم باللفظ العام لا بد أن يقوم بقلبه معنى عام، فإن اللفظ لا بد له من معنى ومن قال: العموم من عوارض الألفاظ دون المعاني فما أراد - والله أعلم - إلا المعاني الخارجة عن الذهن كالعطاء والمطر على أن قوله مرجوح فإذا حكم بحكم عام لمسمى من أمر أو نهي، أو خبر سلب أو إيجاب فهذا لا بد أن يستشعر ذلك المعنى العام والحكم عليه ولا يجب أن يتصور الأفراد من جهة تميز بعضها عن بعض بل قد لا يتصور ذلك إذا كانت مما لا ينحصر للبشر وإنما يتصورها ويحكم عليها من جهة المعنى العام المشترك بينها سواء كانت صيغة العموم اسم جمع، أو اسم واحد فإنه لا بد أن يعم الاسم تلك المسميات لفظا ومعنى فهو يحكم عليها باعتبار القدر المشترك العام بينها وقد يستحضر أحيانا بعض آحاد ذلك العام بخصوصه أو بعض الأنواع بخصوصه وقد يستحضر الجميع إن كان مما يحصر وقد لا يستحضر ذلك بل يكون عالما بالأفراد على وجه كلي جملة لا تفصيلا ثم إن ذلك الحكم يتخلف عن بعض تلك الآحاد لمعارض.
مثل أن يقول: أعط لكل فقير درهما فإذا قيل له: فإن كان كافرا أو عدوا فقد ينهى عن الإعطاء.
فهذا الذي أراد دخوله في العموم إما أن يريد دخوله بخصوصه، أو لمجرد شمول المعنى له من غير استشعار خصوصه، بحيث لم يقم به ما يمنع الدخول مع قيام المقتضي للدخول.
وأما الأول فقد أراد دخوله بعينه فهذا نظير ما ورد عليه اللفظ العام من السبب وهذا إحدى فوائد عطف الخاص على العام وهو: ثبوت المعنى المشترك فيه من غير معارض وإن كان من فوائده أن يتبين دخوله بعموم المعنى المشترك: وبخصوص المعنى المميز وإن لم يكن الحكم ثابتا للمشترك.
وأما الذي لم يرد دخوله في العموم: فإما أن يكون حين التكلم بالعموم قد استشعر قيام المعارض فيه فذاك يمنعه عن أن يكون أراد دخوله في حكم المعنى العام مع قيام المقتضي فيه، وهو المعنى العام وإما أن يكون قد استشعر ذلك قبل التكلم بالعام وذهل وقت التكلم بالعموم عن دخوله وخروجه.
فالأول كالمخصص المقارن وهذا كالمخصص السابق وإما أن يستشعر ذلك المعنى بعد تكلمه بالعام مع علمه بأنه لا يريد بالعموم ما قام فيه ذلك المعارض فهنا قد يقال: قد دخل في اللفظ العام من غير تخصيص واستشعار المانع من إرادته فيما بعد يكون نسخا، لأن المقتضي للدخول في الإرادة هو ثبوت ذلك المعنى فيه وهو حاصل.
وهذا المعنى إنما يصلح أن يكون مانعا من الإرادة إذا استشعر حين الخطاب، ولم يكن مستشعرا.
ومن قال هذا فقد يقول في استشعار المانع السابق: لا يؤثر إلا إذا قارن بل إذا غفل وقت التعميم عن إخراج شيء دخل في الإرادة العامة كما دخل في استشعار المعنى العام، إذ التخصيص بيان ما لم يرد باللفظ العام وهذا الفرد قد أريد باللفظ العام، لأنه لا يشترط إرادته بخصوصه وإنما يراد إرادة القدر المشترك، وذاك حاصل.
وقد يقال: بل هذا لم يرده بالاسم العام، لأنه إنما أراد بالاسم العام ما لم يقم فيه معارض وكل من الأمرين وإن كان لم يتصور المعارض مفصلا ذلك المعنى فمراده أن ذلك المعنى مقتض لإرادته لا موجب لثبوت الحكم فيه بمجرد ذلك المعنى من غير التفات إلى المعارض وإذا كان مراده أن ذلك المعنى مقتض: فإذا عارض ما هو عنده مانع لم يكن قد أراده فمدار الأمر على أن ثبوت المعنى العام يقتضي ثبوت الإرادة في مراده إلا أن يزول عن بعضها أو ثبوت المقتضي لإرادة الأفراد والمقتضي يقتضي ثبوت الأفراد إذا لم يعارضه معارض.
وعلى هذا فلو لم يستشعر المعارض المانع، لكن إذا استشعره لعلم أنه لا يريده: هل يقال: لم يتناوله حكمه وإرادته من جهة المعنى وإن تناوله لفظه ومعنى لفظه العام؟ قد يقال ذلك، فإنه أراد المعنى الكلي المشترك باعتبار معناه العام ولم يرد من الأفراد ما فيه معنى معارض لذلك المعنى العام راجحا عليه عنده ثم لا يكلف استشعار الموانع مطلقا في الأنواع والأشخاص لكثرتها ولو استشعر بعضها لم يحسن التعرض، لنفي كل مانع مانع منها، فإن الكلام فيه هجنة ولكنة، وطول، وعي فقد يتعسر أو يتعذر علم الموانع، أو بيانها، أو هما جميعا.
فهنا ما قام بالأفراد من الخصائص المعارضة مانع من إرادة المتكلم وإن كان لفظه ومعناه العام يشمل ذلك باعتبار القدر المشترك.
وعلى هذا فإذا كان ذلك المانع يحتمل أنه يكون عنده مانعا، ويحتمل ألا يكون فهل نحكم بدخوله لقيام المقتضي وانتفاء المخصص بالأصل، أو نقف فيه لأن المقتضي قائم والمعارض محتمل؟ فيه نظر. فإن لصاحب القول الثاني أن يقول: هذا المانع يمنع أن يكون المقتضي مقتضيا مع قيام هذا المانع. وللأول أن يقول: بل اقتضاؤه ثابت والمانع مشكوك فيه والأظهر التوقف في إرادة المتكلم حينئذ.
=====
قاعدة في تعليل الحسنات
وقال شيخ الإسلام
قاعدة الحسنات تعلل بعلتين: إحداهما: ما تتضمنه من جلب المصلحة والمنفعة.
والثانية: ما تتضمنه من دفع المفسدة والمضرة. وكذلك السيئات تعلل بعلتين:
إحداهما: ما تتضمنه من المفسدة والمضرة.
والثانية: ما تتضمنه من الصد عن المنفعة والمصلحة. مثال ذلك قوله تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ } [1]، فبين الوجهين جميعا فقوله: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } بيان لما تتضمنه من دفع المفاسد والمضار فإن النفس إذا قام بها ذكر الله ودعاؤه - لا سيما على وجه الخصوص - أكسبها ذلك صبغة صالحة تنهاها عن الفحشاء والمنكر كما يحسه الإنسان من نفسه، ولهذا قال تعالى: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } [2]، فإن القلب يحصل له من الفرح والسرور وقرة العين ما يغنيه عن اللذات المكروهة ويحصل له من الخشية والتعظيم لله والمهابة. وكل واحد من رجائه وخشيته ومحبته ناه ينهاه. وقوله: { وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ } [3] بيان لما فيها من المنفعة والمصلحة أي ذكر الله الذي فيها أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر فإن هذا هو المقصود لنفسه كما قال: { إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ } [4]، والأول تابع فهذه المنفعة والمصلحة أعظم من دفع تلك المفسدة، ولهذا كان المؤمن الفاسق يئول أمره إلى الرحمة والمنافق المتعبد أمره صائر إلى الشقاء فإن الإيمان بالله ورسوله هو جماع السعادة وأصلها. ومن ظن أن المعنى ولذكر الله أكبر من الصلاة فقد أخطأ، فإن الصلاة أفضل من الذكر المجرد بالنص والإجماع. والصلاة ذكر الله لكنها ذكر على أكمل الوجوه فكيف يفضل ذكر الله المطلق على أفضل أنواعه؟ ومثال ذلك قوله ﷺ: «عليكم بقيام الليل فإنه قربة إلى ربكم، ودأب الصالحين قبلكم ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيئات ومطردة لداعي الحسد» فبين ما فيه من المصلحة بالقرب إلى الله وموافقة الصالحين ومن دفع المفسدة بالنهي عن المستقبل من السيئات، والتكفير للماضي منها وهو نظير الآية.
وكذلك قوله: { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات } [5]، فهذا دفع المؤذي ثم قال: { ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [6]، فهذا مصلحة وفضائل الأعمال وثوابها وفوائدها ومنافعها كثير في الكتاب والسنة من هذا النمط كقوله في الجهاد: { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَار } [7]، إلى قوله: { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } [8]، فبين ما فيه من دفع مفسدة الذنوب ومن حصول مصلحة الرحمة بالجنة فهذا في الآخرة وفي الدنيا النصر والفتح وهما أيضا دفع المضرة وحصول المنفعة ونظائره كثيرة. وأما من السيئات فكقوله: { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ } [9]، فبين فيه العلتين:
إحداهما: حصول مفسدة العداوة الظاهرة والبغضاء الباطنة والثانية: المنع من المصلحة التي هي رأس السعادة وهي ذكر الله والصلاة فيصد عن المأمور به إيجابا أو استحبابا.
وبهذا المعنى عللوا أيضا كراهة أنواع الميسر من الشطرنج ونحوه فإنه يورث هذه المفسدة ويصد عن المأمور به وكذلك الغناء فإنه يورث القلب نفاقا ويدعو إلى الزنى ويصد القلب عن ما أمر به من العلم النافع والعمل الصالح فيدعو إلى السيئات وينهى عن الحسنات مع أنه لا فائدة فيه والمستثنى منه عارضه ما أزال مفسدته كنظائره.
وكذلك البدع الاعتقادية والعملية، تتضمن ترك الحق المشروع الذي يصد عنه من الكلم الطيب والعمل الصالح إما بالشغل عنه وإما بالمناقضة وتتضمن أيضا حصول ما فيها من مفسدة الباطل اعتقادا وعملا. وهذا باب واسع إذا تؤمل انفتح به كثير من معاني الدين.
وقال: فصل قاعدة شرعية: شرع الله ورسوله للعمل بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعا بوصف الخصوص والتقييد، فإن العام والمطلق لا يدل على ما يختص بعض أفراده ويقيد بعضها فلا يقتضي أن يكون ذلك الخصوص والتقييد مشروعا، ولا مأمورا به فإن كان في الأدلة ما يكره ذلك الخصوص والتقييد كره وإن كان فيها ما يقتضي استحبابه استحب وإلا بقي غير مستحب ولا مكروه.
مثال ذلك: أن الله شرع دعاءه وذكره شرعا مطلقا عاما. فقال: { اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرا } [10]، وقال: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [11]، ونحو ذلك من النصوص فالاجتماع للدعاء والذكر في مكان معين، أو زمان معين، أو الاجتماع لذلك: تقييد للذكر والدعاء لا تدل عليه الدلالة العامة المطلقة بخصوصه وتقييده لكن تتناوله، لما فيه من القدر المشترك فإن دلت أدلة الشرع على استحباب ذلك كالذكر والدعاء يوم عرفة بعرفة، أو الذكر والدعاء المشروعين في الصلوات الخمس، والأعياد والجمع وطرفي النهار، وعند الطعام والمنام واللباس، ودخول المسجد والخروج منه، والأذان والتلبية وعلى الصفا والمروة ونحو ذلك صار ذلك الوصف الخاص مستحبا مشروعا استحبابا زائدا على الاستحباب العام المطلق. وفي مثل هذا يعطف الخاص على العام، فإنه مشروع بالعموم والخصوص كصوم يوم الاثنين والخميس بالنسبة إلى عموم الصوم وإن دلت أدلة الشرع على كراهة ذلك كان مكروها مثل اتخاذ ما ليس بمسنون سنة دائمة، فإن المداومة في الجماعات على غير السنن المشروعة بدعة كالأذان في العيدين والقنوت في الصلوات الخمس والدعاء المجتمع عليه أدبار الصلوات الخمس أو البردين منها والتعريف المداوم عليه في الأمصار والمداومة على الاجتماع لصلاة تطوع، أو قراءة أو ذكر كل ليلة، ونحو ذلك، فإن مضاهاة غير المسنون بالمسنون بدعة مكروهة كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار والقياس. وإن لم يكن في الخصوص أمر ولا نهي بقي على وصف الإطلاق كفعلها أحيانا على غير وجه المداومة مثل التعريف أحيانا كما فعلت الصحابة والاجتماع أحيانا لمن يقرأ لهم أو على ذكر أو دعاء، والجهر ببعض الأذكار في الصلاة كما جهر عمر بالاستفتاح وابن عباس بقراءة الفاتحة. وكذلك الجهر بالبسملة أحيانا. وبعض هذا القسم ملحق بالأول فيكون الخصوص مأمورا به كالقنوت في النوازل وبعضها ينفى مطلقا ففعل الطاعة المأمور بها مطلقا حسن وإيجاب ما ليس فيه سنة مكروه. وهذه القاعدة إذا جمعت نظائرها نفعت وتميز بها ما هو البدع من العبادات التي يشرع جنسها من الصلاة والذكر والقراءة وأنها قد تميز بوصف اختصاص تبقى مكروهة لأجله أو محرمة كصوم يومي العيدين والصلاة في أوقات النهي كما قد تتميز بوصف اختصاص تكون واجبة لأجله أو مستحبة كالصلوات الخمس والسنن الرواتب. ولهذا قد يقع من خلقه العبادة المطلقة والترغيب فيها في أن شرع من الدين ما لم يأذن به الله كما قد يقع من خلقه العلم المجرد في النهي عن بعض المستحب أو ترك الترغيب. ولهذا لما عاب الله على المشركين أنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وأنهم حرموا ما لم يحرمه الله.
وهذا كثير في المتصوفة من يصل ببدع الأمر لشرع الدين وفي المتفقهة من يصل ببدع التحريم إلى الكفر.
======
فصل في الإيجاب والتحريم
وقال:
الإيجاب والتحريم قد يكون نعمة، وقد يكون عقوبة، وقد يكون محنة. فالأول كإيجاب الإيمان والمعروف، وتحريم الكفر والمنكر وهو الذي أثبته القائلون بالحسن والقبح العقليين والعقوبة كقوله: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [1]، وقوله: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } [2]، إلى قوله: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ } [3]، وقوله: { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [4]، فسماها آصارا وأغلالا والآصار في الإيجاب والأغلال في التحريم. وقوله: { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } [5]، ويشهد له قوله: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [6]، وقوله: { مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } [7]، فإن هذا النفي العام ينفي كل ما يسمى حرجا والحرج: الضيق فما أوجب الله ما يضيق، ولا حرم ما يضيق وضده السعة والحرج مثل الغل وهو: الذي لا يمكنه الخروج منه مع حاجته إلى الخروج وأما المحنة فمثل قوله: { إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ } [8] الآية. ثم ذلك قد يكون بإنزال الخطاب وهذا لا يكون إلا في زمن الأنبياء وقد انقطع. وقد يكون بإظهار الخطاب لمن لم يكن سمعه، ثم سمعه وقد يكون باعتقاد نزول الخطاب أو معناه وإن كان اعتقادا مخطئا لأن الحكم الظاهر تابع لاعتقاد المكلف.
فالتكليف الشرعي إما أن يكون باطنا وظاهرا، مثل الذي تيقن أنه منزل من عند الله. وإما أن يكون ظاهرا، مثل الذي يعتقد أن حكم الله هو الإيجاب أو التحريم، إما اجتهادا وإما تقليدا وإما جهلا مركبا بأن نصب سبب يدل على ذلك ظاهرا دون ما يعارضه تكليف ظاهر، إذ المجتهد المخطئ مصيب في الظاهر لما أمر به، وهو مطيع في ذلك هذا من جهة الشرع وقد يكون من جهة الكون بأن يخلق سبحانه ما يقتضي وجود التحريم الثابت بالخطاب والوجوب الثابت بالخطاب كقوله: { واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [9]، فأخبر أنه بلاهم بفسقهم حيث أتى بالحيتان يوم التحريم ومنعها يوم الإباحة. كما يؤتى المحرم المبتلى بالصيد يوم إحرامه. ولا يؤتى به يوم حله، أو يؤتى بمن يعامله ربا ولا يؤتى بمن يعامله بيعا. ومن ذلك مجيء الإباحة والإسقاط نعمة وهذا كثير كقوله: { الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ } [10]، وقد تقدم نظائرها.
وقال رحمه الله أما في المسائل الأصولية فكثير من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يوجب النظر والاستدلال على كل أحد حتى على العامة والنساء حتى يوجبوه في المسائل التي تنازع فيها فضلاء الأمة قالوا: لأن العلم بها واجب ولا يحصل العلم إلا بالنظر الخاص. وأما جمهور الأمة فعلى خلاف ذلك، فإن ما وجب علمه إنما يجب على من يقدر على تحصيل العلم وكثير من الناس عاجز عن العلم بهذه الدقائق فكيف يكلف العلم بها؟ وأيضا فالعلم قد يحصل بلا نظر خاص بل بطرق أخر: من اضطرار وكشف وتقليد من يعلم أنه مصيب وغير ذلك. وبإزاء هؤلاء قوم من المحدثة والفقهاء والعامة قد يحرمون النظر في دقيق العلم والاستدلال والكلام فيه حتى ذوي المعرفة به وأهل الحاجة إليه من أهله ويوجبون التقليد في هذه المسائل أو الإعراض عن تفصيلها. وهذا ليس بجيد أيضا، فإن العلم النافع مستحب وإنما يكره إذا كان كلاما بغير علم أو حيث يضر فإذا كان كلاما بعلم ولا مضرة فيه فلا بأس به وإن كان نافعا فهو مستحب فلا إطلاق القول بالوجوب صحيحا ولا إطلاق القول بالتحريم صحيحا.
وكذلك المسائل الفروعية: من غالية المتكلمة والمتفقهة من يوجب النظر والاجتهاد فيها على كل أحد حتى على العامة وهذا ضعيف، لأنه لو كان طلب علمها واجبا على الأعيان فإنما يجب مع القدرة والقدرة على معرفتها من الأدلة المفصلة تتعذر أو تتعسر على أكثر العامة. وبإزائهم من أتباع المذاهب من يوجب التقليد فيها على جميع من بعد الأئمة: علمائهم، وعوامهم.
ومن هؤلاء من يوجب التقليد بعد عصر أبي حنيفة ومالك مطلقا ثم هل يجب على كل واحد اتباع شخص معين من الأئمة يقلده في عزائمه ورخصه؟ على وجهين.
وهذان الوجهان ذكرهما أصحاب أحمد والشافعي لكن هل يجب على العامي ذلك؟ والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد. فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد؟ هذا فيه خلاف والصحيح أنه يجوز حيث عجز عن الاجتهاد: إما لتكافؤ الأدلة وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد وإما لعدم ظهور دليل له، فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه وانتقل إلى بدله وهو التقليد كما لو عجز عن الطهارة بالماء. وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزي والانقسام فالعبرة بالقدرة والعجز وقد يكون الرجل قادرا في بعض عاجزا في بعض لكن القدرة على الاجتهاد لا تكون إلا بحصول علوم تفيد معرفة المطلوب فأما مسألة واحدة من فن فيبعد الاجتهاد فيها والله سبحانه أعلم.
======
فصل في التمذهب
وقال شيخ الإسلام
وأما حلف كل واحد: أن أفضل المذاهب مذهب فلان: فهذا إن كان كل منهم يعتقد أن الأمر كما حلف عليه ففيها قولان:
أظهرهما: لا يحنث واحد منهم.
والثاني: يحنثون إلا واحدا منهم، فإن حنثه مشكوك فيه، يجوز أن يكون صادقا ويجوز كونهم سواء فيحنثون كلهم وإذا حنثوا إلا واحدا منهم وقد وقع الشك في عينه فهي كما لو قال أحد الزوجين: إن كان غرابا فزوجته طالق وقال الآخر: إن لم يكن غرابا فزوجته طالق وهذه فيها قولان في مذهب أحمد وغيره:
أحدهما: لا يقع بواحد منهما طلاق وهو مذهب الشافعي وغيره لكن يكف كل منهما عن وطء زوجته قيل: حتما وقيل: ردعا.
والقول الثاني: أنه يقع بأحدهما كما لو كان الحالف واحدا وأوقعه بإحدى زوجتيه وعلى هذا فهل تخرج المطلقة بالقرعة، أو يوقف الأمر؟ على قولين أيضا في مذهب أحمد والوقف قول الشافعي.
والصحيح أن من حلف على شيء يعتقده كما لو حلف عليه فتبين بخلافه فلا طلاق عليه وأما مالك فإنه يحنث الجميع ولو تبين صدق الحالف، بناء على أصله فيمن حلف على ما لا يعلم صحته كما لو حلف أنه يدخل الجنة والنزاع فيها كالنزاع في أصل تلك المسألة.
وجمهور العلماء لا يوقعون الطلاق لأجل الشك ومالك يوقعه لعدم علم الحالف بما حلف عليه فهذه كما لو حلف واحد على ما لا يعلمه ولم يناقضه غيره مثل أن يحلف أن مذهب فلان أفضل وهو غير عالم بذلك.==
سئل عن تقليد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد
وسئل: عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد: فهل ينكر عليه أم يهجر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين؟
فأجاب: الحمد لله. مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين والله أعلم.
=======
سئل عمن سئل عن مذهبه فقال إنه محمدي
وسئل رضي الله عنه: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في رجل سئل إيش مذهبك؟ فقال: محمدي أتبع كتاب الله وسنة رسوله محمد ﷺ فقيل لا، ينبغي لكل مؤمن أن يتبع مذهبا ومن لا مذهب له فهو شيطان فقال: إيش كان مذهب أبي بكر الصديق والخلفاء بعده - رضي الله عنهم -؟ فقيل له: لا ينبغي لك إلا أن تتبع مذهبا من هذه المذاهب فأيهما المصيب؟ أفتونا مأجورين
فأجاب: الحمد لله. إنما يجب على الناس طاعة الله والرسول وهؤلاء أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله: { وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } [1]، إنما تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله لا استقلالا ثم قال: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } [2]. وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول ﷺ في كل ما يوجبه ويخبر به بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ. واتباع شخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما يسوغ له ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق بل كل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله فيفعل المأمور ويترك المحظور. والله أعلم.
=======
سئل عن رجل تفقه في مذهب من المذاهب واشتغل بعده بالحديث
وسئل شيخ الإسلام: عن رجل تفقه في مذهب من المذاهب الأربعة وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث فرأى أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخا ولا مخصصا ولا معارضا وذلك المذهب مخالف لها: فهل يجوز له العمل بذلك المذهب؟ أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالأحاديث ويخالف مذهبه؟
فأجاب: الحمد لله. قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله ﷺ ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله ﷺ حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول: أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله ﷺ ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ.
وهؤلاء الأئمة الأربعة رضي الله عنهم قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه وذلك هو الواجب عليهم، فقال أبو حنيفة: هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بمالك فسأله عن مسألة الصاع، وصدقة الخضراوات، ومسألة الأجناس، فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت.
ومالك كان يقول: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة أو كلاما هذا معناه.
والشافعي كان يقول: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي. وفي مختصر المزني لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه قال: مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء.
والإمام أحمد كان يقول: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري وتعلموا كما تعلمنا. وكان يقول: من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال وقال: لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»، ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرا فيكون التفقه في الدين فرضا. والتفقه في الدين: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية.
فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها في الدين لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصيلية في جميع أموره فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه ويلزمه ما يقدر عليه. وأما القادر على الاستدلال، فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقا وقيل: يجوز مطلقا وقيل: يجوز عند الحاجة، كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال وهذا القول أعدل الأقوال.
والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزي والانقسام بل قد يكون الرجل مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين:
إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره واشتغال على مذهب إمام آخر.
وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه وحينئذ فتكون موافقته لإمام يقاوم ذلك الإمام وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح.
وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر وليس اجتهاده قائما في هذه المسألة، لضعف آلة الاجتهاد في حقه.
أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النص فهذا يجب عليه اتباع النصوص وإن لم يفعل كان متبعا للظن وما تهوى الأنفس وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من يقول: قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص وأنا لا أعلمها فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [1]، وقال النبي ﷺ: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح فعليك أن تتبع ذلك ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضا راجحا كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم.
وإذا كان الإمام المقلد قد سمع الحديث وتركه - لا سيما إذا كان قد رواه أيضا - فمثل هذا وحده لا يكون عذرا في ترك النص فقد بينا فيما كتبناه في رفع الملام عن الأئمة الأعلام نحو عشرين عذرا للأئمة في ترك العمل ببعض الحديث وبينا أنهم يعذرون في الترك لتلك الأعذار وأما نحن فمعذورون في تركها لهذا القول.
فمن ترك الحديث لاعتقاده أنه لم يصح، أو أن راويه مجهول ونحو ذلك، ويكون غيره قد علم صحته وثقة راويه: فقد زال عذر ذلك في حق هذا ومن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه، أو القياس، أو عمل لبعض الأمصار، وقد تبين للآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه، وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر، ومقدم على القياس والعمل: لم يكن عذر ذلك الرجل عذرا في حقه، فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان وخفاءها عنها أمر لا ينضبط طرفاه لا سيما إذا كان التارك للحديث معتقدا أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار أهل المدينة النبوية وغيرها الذين يقال: إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ أو معارض براجح وقد بلغ من بعده أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه بل عمل به طائفة منهم، أو من سمعه منهم، ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض للنص.
وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: أنت أعلم أم الإمام الفلاني؟ كانت هذه معارضة فاسدة، لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة ولست أعلم من هذا ولا هذا ولكن نسبة هؤلاء إلى الأئمة كنسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر: فكذلك موارد النزاع بين الأئمة وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسألة تيمم الجنب وأخذوا بقول من هو دونهما كأبي موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة وتركوا قول عمر في دية الأصابع وأخذوا بقول معاوية لما كان معه من السنة أن النبي ﷺ قال: «هذه وهذه سواء».
وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة فقال له: قال أبو بكر وعمر فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله ﷺ وتقولون قال أبو بكر وعمر؟.
وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوا بقول عمر فتبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه فألحوا عليه فقال لهم: أمر رسول الله ﷺ أحق أن يتبع أم أمر عمر؟ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر وابن عباس.
ولو فتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي ﷺ في أمته وهذا تبديل للدين يشبه ما عاب الله به النصارى في قوله: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [2]، والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله وحده.
=====
سئل هل لازم المذهب مذهب أم لا
وسئل شيخ الإسلام قدس الله روحه هل لازم المذهب مذهب أم لا؟.
فأجاب: وأما قول السائل: هل لازم المذهب مذهب أم ليس بمذهب؟ فالصواب: أن مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبا عليه بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه في المقال غير التزامه اللوازم التي يظهر أنها من قبل الكفر والمحال مما هو أكثر فالذين قالوا بأقوال يلزمها أقوال يعلم أنه لا يلتزمها لكن لم يعلم أنها تلزمه ولو كان لازم المذهب مذهبا للزم تكفير كل من قال عن الاستواء أو غيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة، فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة وكل من لم يثبت بين الاسمين قدرا مشتركا لزم أن لا يكون شيء من الإيمان بالله ومعرفته والإقرار به إيمانا، فإنه ما من شيء يثبته القلب إلا ويقال فيه نظير ما يقال في الآخر ولازم قول هؤلاء يستلزم قول غلاة الملاحدة المعطلين الذين هم أكفر من اليهود والنصارى.
لكن نعلم أن كثيرا ممن ينفي ذلك لا يعلم لوازم قوله بل كثير منهم يتوهم أن الحقيقة ليست إلا محض حقائق المخلوقين وهؤلاء جهال بمسمى الحقيقة والمجاز وقولهم افتراء على اللغة والشرع وإلا فقد يكون المعنى الذي يقصد به نفي الحقيقة نفي مماثلة صفات الرب سبحانه لصفات المخلوقين قيل له: أحسنت في نفي هذا المعنى الفاسد ولكن أخطأت في ظنك أن هذا هو حقيقة ما وصف الله به نفسه فصار هذا بمنزلة من قال: إن الله ليس بسميع حقيقة، ولا بصير حقيقة، ولا متكلم حقيقة، لأن الحقيقة في ذلك هو ما يعهده من سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم والله تعالى منزه عن ذلك.
فيقال له: أصبت في تنزيه الله عن مماثلته خلقه، لكن أخطأت في ظنك أنه إذا كان الله سميعا حقيقة بصيرا حقيقة متكلما حقيقة كان هذا متضمنا لمماثلته خلقه. فكذلك لو قال القائل: إذا قلنا: إنه مستو على عرشه حقيقة لزم التجسيم والله منزه عنه فيقال له: هذا المعنى الذي سميته تجسيما ونفيته هو لازم لك إذا قلت: إن له علما حقيقة، وقدرة حقيقة وسمعا حقيقة: وبصرا حقيقة، وكلاما حقيقة، وكذلك سائر ما أثبته من الصفات، فإن هذه الصفات هي في حقنا أعراض قائمة بجسم فإذا كنت تثبتها لله تعالى مع تنزيهك له عن مماثلة المخلوقات وما يدخل في ذلك من التجسيم: فكذلك القول في الاستواء، ولا فرق.
فإن قلت: أهل اللغة إنما وضعوا هذه الألفاظ لما يختص به المخلوق فلا يكون حقيقة في غير ذلك.
قلت: ولكن هذا خطأ بإجماع الأمم: مسلمهم وكافرهم وبإجماع أهل اللغات فضلا عن أهل الشرائع والديانات وهذا نظير قول من يقول: إن لفظ الوجه إنما يستعمل حقيقة في وجه الإنسان دون وجه الحيوان والملك والجني أو لفظ العلم إنما استعمل حقيقة في علم الإنسان دون علم الملك والجني ونحو ذلك بل قد بينا أن أسماء الصفات عند أهل اللغة بحسب ما تضاف إليه، فالقدر المشترك أن نسبة كل صفة إلى موصوفها كنسبة تلك الصفة إلى موصوفها فالقدر المشترك هو النسبة فنسبة علم الملك والجني ووجوههما إليه كنسبة علم الإنسان ووجهه إليه وهكذا في سائر الصفات والله أعلم.
فأجاب: وأما قول السائل: هل لازم المذهب مذهب أم ليس بمذهب؟ فالصواب: أن مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبا عليه بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه في المقال غير التزامه اللوازم التي يظهر أنها من قبل الكفر والمحال مما هو أكثر فالذين قالوا بأقوال يلزمها أقوال يعلم أنه لا يلتزمها لكن لم يعلم أنها تلزمه ولو كان لازم المذهب مذهبا للزم تكفير كل من قال عن الاستواء أو غيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة، فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة وكل من لم يثبت بين الاسمين قدرا مشتركا لزم أن لا يكون شيء من الإيمان بالله ومعرفته والإقرار به إيمانا، فإنه ما من شيء يثبته القلب إلا ويقال فيه نظير ما يقال في الآخر ولازم قول هؤلاء يستلزم قول غلاة الملاحدة المعطلين الذين هم أكفر من اليهود والنصارى.
لكن نعلم أن كثيرا ممن ينفي ذلك لا يعلم لوازم قوله بل كثير منهم يتوهم أن الحقيقة ليست إلا محض حقائق المخلوقين وهؤلاء جهال بمسمى الحقيقة والمجاز وقولهم افتراء على اللغة والشرع وإلا فقد يكون المعنى الذي يقصد به نفي الحقيقة نفي مماثلة صفات الرب سبحانه لصفات المخلوقين قيل له: أحسنت في نفي هذا المعنى الفاسد ولكن أخطأت في ظنك أن هذا هو حقيقة ما وصف الله به نفسه فصار هذا بمنزلة من قال: إن الله ليس بسميع حقيقة، ولا بصير حقيقة، ولا متكلم حقيقة، لأن الحقيقة في ذلك هو ما يعهده من سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم والله تعالى منزه عن ذلك. فيقال له: أصبت في تنزيه الله عن مماثلته خلقه، لكن أخطأت في ظنك أنه إذا كان الله سميعا حقيقة بصيرا حقيقة متكلما حقيقة كان هذا متضمنا لمماثلته خلقه.
فكذلك لو قال القائل: إذا قلنا: إنه مستو على عرشه حقيقة لزم التجسيم والله منزه عنه فيقال له: هذا المعنى الذي سميته تجسيما ونفيته هو لازم لك إذا قلت: إن له علما حقيقة، وقدرة حقيقة وسمعا حقيقة: وبصرا حقيقة، وكلاما حقيقة، وكذلك سائر ما أثبته من الصفات، فإن هذه الصفات هي في حقنا أعراض قائمة بجسم فإذا كنت تثبتها لله تعالى مع تنزيهك له عن مماثلة المخلوقات وما يدخل في ذلك من التجسيم: فكذلك القول في الاستواء، ولا فرق.
فإن قلت: أهل اللغة إنما وضعوا هذه الألفاظ لما يختص به المخلوق فلا يكون حقيقة في غير ذلك. قلت: ولكن هذا خطأ بإجماع الأمم: مسلمهم وكافرهم وبإجماع أهل اللغات فضلا عن أهل الشرائع والديانات وهذا نظير قول من يقول: إن لفظ الوجه إنما يستعمل حقيقة في وجه الإنسان دون وجه الحيوان والملك والجني أو لفظ العلم إنما استعمل حقيقة في علم الإنسان دون علم الملك والجني ونحو ذلك بل قد بينا أن أسماء الصفات عند أهل اللغة بحسب ما تضاف إليه، فالقدر المشترك أن نسبة كل صفة إلى موصوفها كنسبة تلك الصفة إلى موصوفها فالقدر المشترك هو النسبة فنسبة علم الملك والجني ووجوههما إليه كنسبة علم الإنسان ووجهه إليه وهكذا في سائر الصفات والله أعلم.
=======
سئل عمن لازم مذهبا هل ينكر عليه مخالفته
وسئل شيخ الإسلام أن يشرح ما ذكره نجم الدين بن حمدان: من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل ولا تقليد أو عذر آخر؟.
فأجاب: هذا يراد به شيئان:
أحدهما: أن من التزم مذهبا معينا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه، ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله، فإنه يكون متبعا لهواه وعاملا بغير اجتهاد ولا تقليد فاعلا للمحرم بغير عذر شرعي فهذا منكر. وهذا المعنى هو الذي أورده الشيخ نجم الدين وقد نص الإمام أحمد وغيره على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا أو حراما ثم يعتقده غير واجب ولا حرام بمجرد هواه مثل أن يكون طالبا لشفعة الجوار فيعتقدها أنها حق له ثم إذا طلبت منه شفعة الجوار اعتقدها أنها ليست ثابتة أو مثل من يعتقد إذا كان أخا مع جد أن الإخوة تقاسم الجد فإذا صار جدا مع أخ اعتقد أن الجد لا يقاسم الإخوة أو إذا كان له عدو يفعل بعض الأمور المختلف فيها كشرب النبيذ المختلف فيه ولعب الشطرنج وحضور السماع أن هذا ينبغي أن يهجر وينكر عليه فإذا فعل ذلك صديقه اعتقد ذلك من مسائل الاجتهاد التي لا تنكر فمثل هذا ممكن في اعتقاده حل الشيء وحرمته ووجوبه وسقوطه بحسب هواه هو مذموم بخروجه خارج عن العدالة وقد نص أحمد وغيره على أن هذا لا يجوز. وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها وإما بأن يرى أحد رجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر وهو أتقى لله فيما يقوله فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا فهذا يجوز بل يجب وقد نص الإمام أحمد على ذلك.
وما ذكره ابن حمدان: المراد به القسم الأول، ولهذا قال: من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقليد أو عذر شرعي فدل على أنه إذا خالفه لدليل فتبين له بالقول الراجح أو تقليد يسوغ له أن يقلد في خلافه، أو عذر شرعي أباح المحظور الذي يباح بمثل ذلك العذر لم ينكر عليه.
وهنا مسألة ثانية قد يظن أنه أرادها ولم يردها لكنا نتكلم على تقدير إرادتها وهو أن من التزم مذهبا لم يكن له أن ينتقل عنه قاله بعض أصحاب أحمد وكذلك غير هذا ما يذكره ابن حمدان أو غيره، يكون مما قاله بعض أصحابه وإن لم يكن منصوصا عنه وكذلك ما يوجد في كتب أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة كثير منه يكون مما ذكره بعض أصحابهم وليس منصوصا عنهم، بل قد يكون المنصوص عنهم خلاف ذلك. وأصل هذه المسألة أن العامي هل عليه أن يلتزم مذهبا معينا يأخذ بعزائمه ورخصه؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد وهما وجهان لأصحاب الشافعي والجمهور من هؤلاء وهؤلاء لا يوجبون ذلك والذين يوجبونه يقولون: إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه ما دام ملتزما له أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه.
ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني مثل: أن يلتزم مذهبا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه ونحو ذلك: فهذا مما لا يحمد عليه بل يذم عليه في نفس الأمر، ولو كان ما انتقل إليه خيرا مما انتقل عنه وهو بمنزلة من لا يسلم إلا لغرض دنيوي أو يهاجر من مكة إلى المدينة لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها وقد كان في زمن النبي ﷺ رجل هاجر لامرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له: مهاجر أم قيس فقال النبي ﷺ على المنبر في الحديث الصحيح: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه». وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني مثل أن يتبين رجحان قول على قول فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الله ورسوله: فهو مثاب على ذلك، بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر ألا يعدل عنه ولا يتبع أحدا في مخالفة الله ورسوله فإن الله فرض طاعة رسوله ﷺ على كل أحد في كل حال وقال تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [1]، وقال تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [2]، وقال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [3].
وقد صنف الإمام أحمد كتابا في طاعة الرسول ﷺ وهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين فطاعة الله ورسوله وتحليل ما حلله الله ورسوله وتحريم ما حرمه الله ورسوله وإيجاب ما أوجبه الله ورسوله: واجب على جميع الثقلين: الإنس والجن واجب على كل أحد في كل حال: سرا وعلانية لكن لما كان من الأحكام ما لا يعرفه كثير من الناس رجع الناس في ذلك إلى من يعلمهم ذلك، لأنه أعلم بما قاله الرسول وأعلم بمراده فأئمة المسلمين الذين اتبعوهم وسائل وطرق وأدلة بين الناس وبين الرسول يبلغونهم ما قاله ويفهمونهم مراده بحسب اجتهادهم واستطاعتهم وقد يخص الله هذا العالم من العلم والفهم ما ليس عند الآخر وقد يكون عند ذلك في مسألة أخرى من العلم ما ليس عند هذا.
وقد قال تعالى: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } [4]، فهذان نبيان كريمان حكما في قضية واحدة، فخص الله أحدهما بالفهم، وأثنى على كل منهما.
والعلماء ورثة الأنبياء واجتهاد العلماء في الأحكام كاجتهاد المستدلين على جهة الكعبة، فإذا صلى أربعة أنفس كل واحد منهم بطائفة إلى أربع جهات لاعتقادهم أن القبلة هناك: فإن صلاة الأربعة صحيحة والذي صلى إلى جهة الكعبة واحد وهو المصيب الذي له أجران كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر». وأكثر الناس إنما التزموا المذاهب بل الأديان بحكم ما تبين لهم فإن الإنسان ينشأ على دين أبيه أو سيده أو أهل بلده كما يتبع الطفل في الدين أبويه وسابيه وأهل بلده ثم إذا بلغ الرجل فعليه أن يقصد طاعة الله ورسوله حيث كانت ولا يكون ممن إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة وطاعة الله والرسول إلى عادته وعادة أبيه وقومه فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد.
وكذلك من تبين له في مسألة من المسائل الحق الذي بعث الله به رسوله ثم عدل عنه إلى عادته فهو من أهل الذم والعقاب.
وأما من كان عاجزا عن معرفة حكم الله ورسوله وقد اتبع فيها من هو من أهل العلم والدين ولم يتبين له أن قول غيره أرجح من قوله فهو محمود يثاب لا يذم على ذلك ولا يعاقب وإن كان قادرا على الاستدلال ومعرفة ما هو الراجح، وتوقى بعض المسائل فعدل عن ذلك إلى التقليد فهو قد اختلف في مذهب أحمد المنصوص عنه. والذي عليه أصحابه أن هذا آثم أيضا وهو مذهب الشافعي وأصحابه وحكي عن محمد بن الحسن وغيره أنه يجوز له التقليد مطلقا وقيل: يجوز تقليد الأعلم. وحكى بعضهم هذا عن أحمد كما ذكره أبو إسحاق في اللمع وهو غلط على أحمد، فإن أحمد إنما يقول: هذا في أصحابه فقط على اختلاف عنه في ذلك وأما مثل مالك والشافعي وسفيان، ومثل إسحاق بن راهويه وأبي عبيد فقد نص في غير موضع على أنه لا يجوز للعالم القادر على الاستدلال أن يقلدهم وقال: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري. وكان يحب الشافعي ويثني عليه ويحب إسحاق ويثني عليه ويثني على مالك والثوري وغيرهما من الأئمة ويأمر العامي أن يستفتي إسحاق وأبا عبيد وأبا ثور وأبا مصعب؛ وينهى العلماء من أصحابه كأبي داود وعثمان بن سعيد وإبراهيم الحربي، وأبي بكر الأثرم وأبي زرعة، وأبي حاتم السجستاني ومسلم وغيرهم: أن يقلدوا أحدا من العلماء. ويقول: عليكم بالأصل بالكتاب والسنة.
وسئل أن يشرح ما ذكره نجم الدين بن حمدان في آخر كتاب الرعاية وهو قوله: من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقليد أو عذر آخر ويبين لنا ما أشكل علينا من كون بعض المسائل يذكر فيها في الكافي والمحرر والمقنع والرعاية والخلاصة والهداية روايتان أو وجهان، ولم يذكر الأصح والأرجح فلا ندري بأيهما نأخذ؟ وإن سألونا عنه أشكل علينا؟.
فأجاب: الحمد لله. أما هذه الكتب التي يذكر فيها روايتان أو وجهان ولا يذكر فيها الصحيح: فطالب العلم يمكنه معرفة ذلك من كتب أخرى، مثل كتاب التعليق للقاضي أبي يعلى والانتصار لأبي الخطاب وعمد الأدلة لابن عقيل. وتعليق القاضي يعقوب البرزيني وأبي الحسن ابن الزاغوني وغير ذلك من الكتب الكبار التي يذكر فيها مسائل الخلاف ويذكر فيها الراجح. وقد اختصرت رءوس مسائل هذه الكتب في كتب مختصرة مثل رءوس المسائل للقاضي أبي الحسين وقد نقل عن الشيخ أبي البركات صاحب المحرر أنه كان يقول لمن يسأله عن ظاهر مذهب أحمد: أنه ما رجحه أبو الخطاب في رءوس مسائله. ومما يعرف منه ذلك كتاب المغني للشيخ أبي محمد وكتاب شرح الهداية لجدنا أبي البركات وقد شرح الهداية غير واحد كأبي حليم النهرواني وأبي عبد الله بن تيمية صاحب التفسير الخطيب عم أبي البركات وأبي المعالي ابن المنجا وأبي البقاء النحوي لكن لم يكمل ذلك.
وقد اختلف الأصحاب فيما يصححونه فمنهم من يصحح رواية ويصحح آخر رواية فمن عرف ذلك نقله ومن ترجح عنده قول واحد على قول آخر اتبع القول الراجح ومن كان مقصوده نقل مذهب أحمد نقل ما ذكروه من اختلاف الروايات والوجوه والطرق كما ينقل أصحاب الشافعي وأبي حنيفة ومالك مذاهب الأئمة، فإنه في كل مذهب من اختلاف الأقوال عن الأئمة واختلاف أصحابهم في معرفة مذهبهم ومعرفة الراجح شرعا: ما هو معروف.
ومن كان خبيرا بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل وإن كان له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح في الشرع، وأحمد كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصا كما يوجد لغيره ولا يوجد له قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه قول يوافق القول الأقوى وأكثر مفاريده التي لم يختلف فيها مذهبه يكون قوله فيها راجحا كقوله بجواز فسخ الإفراد والقران إلى التمتع وقبوله شهادة أهل الذمة على المسلمين عند الحاجة كالوصية في السفر وقوله بتحريم نكاح الزانية حتى تتوب وقوله بجواز شهادة العبد وقوله بأن السنة للمتيمم أن يمسح الكوعين بضربة واحدة. وقوله في المستحاضة بأنها تارة ترجع إلى العادة وتارة ترجع إلى التمييز، وتارة ترجع إلى غالب عادات النساء، فإنه روي عن النبي ﷺ فيها ثلاث سنن، عمل بالثلاثة أحمد دون غيره.
وقوله بجواز المساقاة والمزارعة على الأرض البيضاء والتي فيها شجر وسواء كان البذر منهما أو من أحدهما وجواز ما يشبه ذلك وإن كان من باب المشاركة ليس من باب الإجارة ولا هو على خلاف القياس ونظير هذا كثير. وأما ما يسميه بعض الناس مفردة لكونه انفرد بها عن أبي حنيفة والشافعي مع أن قول مالك فيها موافق لقول أحمد أو قريب منه وهي التي صنف لها الهراسي ردا عليها وانتصر لها جماعة كابن عقيل والقاضي أبي يعلى الصغير وأبي الفرج ابن الجوزي وأبي محمد بن المثنى: فهذه غالبها يكون قول مالك وأحمد أرجح من القول الآخر وما يترجح فيها القول الآخر يكون مما اختلف فيه قول أحمد وهذا: كإبطال الحيل المسقطة للزكاة والشفعة ونحو ذلك الحيل المبيحة للربا والفواحش ونحو ذلك وكاعتبار المقاصد والنيات في العقود والرجوع في الأيمان إلى سبب اليمين وما هيجها مع نية الحالف، وكإقامة الحدود على أهل الجنايات كما كان النبي ﷺ وخلفاؤه الراشدون يقيمونها كما كانوا يقيمون الحد على الشارب بالرائحة والقيء ونحو ذلك وكاعتبار العرف في الشروط وجعل الشرط العرفي كالشرط اللفظي والاكتفاء في العقود المطلقة بما يعرفه الناس وأن ما عده الناس بيعا فهو بيع وما عدوه إجارة فهو إجارة وما عدوه هبة فهو هبة وما عدوه وقفا فهو وقف لا يعتبر في ذلك لفظ معين ومثل هذا كثير.
=======
موالاة علماء المسلمين
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله الحبر الكامل العلامة الأوحد الحافظ الزاهد، العابد الورع، الرباني المقذوف في قلبه النور الإلهي والعلوم الرفيعة والفنون البديعة الآخذ بأزمة الشريعة الناكص عن الآراء المزلة والأهواء المضلة المقتفي لآثار السلف علما وعملا مفتي الفرق مجتهد العصر أوحد الدهر تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية - أدام الله بركته ورفع في الدنيا والآخرة محله ودرجته -: الحمد لله على آلائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أرضه وسمائه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم لقائه وسلم تسليما.
وبعد: فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم إذ كل أمة قبل مبعث محمد ﷺ فعلماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول في أمته والمحيون لما مات من سنته بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا.
وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما يتعمد مخالفة رسول الله ﷺ في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له من عذر في تركه.
======
أعذار العلماء في الخطأ في الأحكام
وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي ﷺ قاله.
والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ. وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة.
السبب الأول: ألا يكون الحديث قد بلغه. ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالما بموجبه وإذا لم يكن قد بلغه وقد قال في تلك القضية بموجب ظاهر آية أو حديث آخر، أو بموجب قياس، أو موجب استصحاب: فقد يوافق ذلك الحديث تارة ويخالفه أخرى. وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض الأحاديث، فإن الإحاطة بحديث رسول الله ﷺ لم تكن لأحد من الأمة. وقد كان النبي ﷺ يحدث، أو يفتي، أو يقضي، أو يفعل الشيء فيسمعه أو يراه من يكون حاضرا ويبلغه أولئك أو بعضهم لمن يبلغونه فينتهي علم ذلك إلى من يشاء الله من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ثم في مجلس آخر قد يحدث أو يفتي أو يقضي أو يفعل شيئا ويشهده بعض من كان غائبا عن ذلك المجلس ويبلغونه لمن أمكنهم فيكون عند هؤلاء من العلم ما ليس عند هؤلاء وعند هؤلاء ما ليس عند هؤلاء وإنما يتفاضل العلماء من الصحابة ومن بعدهم بكثرة العلم أو جودته. وأما إحاطة واحد بجميع حديث رسول الله ﷺ فهذا لا يمكن ادعاؤه قط واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله ﷺ وسنته وأحواله خصوصا الصديق رضي الله عنه، الذي لم يكن يفارقه حضرا ولا سفرا بل كان يكون معه في غالب الأوقات حتى إنه يسمر عنده بالليل في أمور المسلمين. وكذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فإنه ﷺ كثيرا ما يقول: «دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ثم مع ذلك لما سئل أبو بكر - رضي الله عنه - عن ميراث الجدة قال: ما لك في كتاب الله من شيء وما علمت لك في سنة رسول الله ﷺ من شيء ولكن اسأل الناس فسألهم فقام المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فشهدا أن النبي ﷺ أعطاها السدس»، وقد بلغ هذه السنة عمران بن حصين أيضا وليس هؤلاء الثلاثة مثل أبي بكر وغيره من الخلفاء ثم قد اختصوا بعلم هذه السنة التي قد اتفقت الأمة على العمل بها. وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن يعلم سنة الاستئذان حتى أخبره بها أبو موسى واستشهد بالأنصار وعمر أعلم ممن حدثه بهذه السنة. ولم يكن عمر أيضا يعلم أن المرأة ترث من دية زوجها بل يرى أن الدية للعاقلة حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان - وهو أمير لرسول الله ﷺ على بعض البوادي - يخبره «أن رسول الله ﷺ ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها» فترك رأيه لذلك وقال: لو لم نسمع بهذا لقضينا بخلافه. ولم يكن يعلم حكم المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - «أن رسول الله ﷺ قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب». ولما قدم سرغ وبلغه أن الطاعون بالشام استشار المهاجرين الأولين الذين معه ثم الأنصار ثم مسلمة الفتح فأشار كل عليه بما رأى ولم يخبره أحد بسنة حتى قدم عبد الرحمن بن عوف فأخبره بسنة رسول الله ﷺ في الطاعون وأنه قال: «إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه». وتذاكر هو وابن عباس أمر الذي يشك في صلاته فلم يكن قد بلغته السنة في ذلك حتى قال عبد الرحمن بن عوف عن النبي ﷺ: «إنه يطرح الشك ويبني على ما استيقن». وكان مرة في السفر فهاجت ريح فجعل يقول: من يحدثنا عن الريح؟ قال أبو هريرة: فبلغني وأنا في أخريات الناس فحثثت راحلتي حتى أدركته فحدثته بما أمر به النبي ﷺ عند هبوب الريح. فهذه مواضع لم يكن يعلمها حتى بلغه إياها من ليس مثله ومواضع أخر لم يبلغه ما فيها من السنة فقضى فيها أو أفتى فيها بغير ذلك مثل ما قضى في دية الأصابع أنها مختلفة بحسب منافعها وقد كان عند أبي موسى وابن عباس - وهما دونه بكثير في العلم - علم بأن النبي ﷺ قال: «هذه وهذه سواء يعني: الإبهام والخنصر»، فبلغت هذه السنة لمعاوية رضي الله عنه في إمارته فقضى بها ولم يجد المسلمون بدا من اتباع ذلك ولم يكن عيبا في عمر - رضي الله عنه - حيث لم يبلغه الحديث. وكذلك كان ينهي المحرم عن التطيب قبل الإحرام، وقبل الإفاضة إلى مكة بعد رمي جمرة العقبة هو وابنه عبد الله رضي الله عنهما وغيرهما من أهل الفضل ولم يبلغهم «حديث عائشة رضي الله عنها: طيبت رسول الله ﷺ لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف».
وكان يأمر لابس الخف أن يمسح عليه إلى أن يخلعه من غير توقيت واتبعه على ذلك طائفة من السلف ولم تبلغهم أحاديث التوقيت التي صحت عند بعض من ليس مثلهم في العلم وقد روي ذلك عن النبي ﷺ من وجوه متعددة صحيحة.
وكذلك عثمان رضي الله عنه لم يكن عنده علم بأن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيت الموت حتى حدثته الفريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري بقضيتها لما توفي زوجها وأن النبي ﷺ قال لها: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» فأخذ به عثمان.
وأهدي له مرة صيد كان قد صيد لأجله فهم بأكله حتى أخبره علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ رد لحما أهدي له. وكذلك علي رضي الله عنه قال، كنت إذا سمعت من رسول الله ﷺ حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه وإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر وذكر حديث صلاة التوبة المشهور.
وأفتى هو وابن عباس وغيرهما بأن المتوفى عنها إذا كانت حاملا تعتد بأبعد الأجلين ولم يكن قد بلغتهم «سنة رسول الله ﷺ في سبيعة الأسلمية حيث أفتاها النبي ﷺ بأن عدتها وضع حملها». وأفتى هو وزيد وابن عمر وغيرهم بأن المفوضة إذا مات عنها زوجها فلا مهر لها ولم تكن بلغتهم سنة رسول الله ﷺ في بروع بنت واشق. وهذا باب واسع يبلغ المنقول منه عن أصحاب رسول الله ﷺ عددا كثيرا جدا. وأما المنقول منه عن غيرهم فلا يمكن الإحاطة به، فإنه ألوف فهؤلاء كانوا أعلم الأمة وأفقهها وأتقاها وأفضلها فمن بعدهم أنقص، فخفاء بعض السنة عليه أولى فلا يحتاج إلى بيان.
فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة أو إماما معينا فهو مخطئ خطأ فاحشا قبيحا. ولا يقولن قائل: الأحاديث قد دونت وجمعت، فخفاؤها والحال هذه بعيد. لأن هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين ومع هذا فلا يجوز أن يدعي انحصار حديث رسول الله ﷺ في دواوين معينة ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله ﷺ: فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم ولا يكاد ذلك يحصل لأحد.
بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير، لأن كثيرا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول، أو بإسناد منقطع، أو لا يبلغنا بالكلية فكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين وهذا أمر لا يشك فيه من علم القضية. ولا يقولن قائل: من لم يعرف الأحاديث كلها لم يكن مجتهدا. لأنه إن اشترط في المجتهد علمه بجميع ما قاله النبي ﷺ وفعله فيما يتعلق بالأحكام: فليس في الأمة مجتهد وإنما غاية العالم أن يعلم جمهور ذلك ومعظمه بحيث لا يخفى عليه إلا القليل من التفصيل ثم إنه قد يخالف ذلك القليل من التفصيل الذي يبلغه.
السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده إما لأن محدثه أو محدث محدثه أو غيره من رجال الإسناد مجهول عنده أو متهم أو سيئ الحفظ. وإما لأنه لم يبلغه مسندا بل منقطعا، أو لم يضبط لفظ الحديث مع أن ذلك الحديث قد رواه الثقات لغيره بإسناد متصل بأن يكون غيره يعلم من المجهول عنده الثقة أو يكون قد رواه غير أولئك المجروحين عنده، أو قد اتصل من غير الجهة المنقطعة وقد ضبط ألفاظ الحديث بعض المحدثين الحفاظ، أو لتلك الرواية من الشواهد والمتابعات ما يبين صحتها؛ وهذا أيضا كثير جدا.
وهو في التابعين وتابعيهم إلى الأئمة المشهورين من بعدهم أكثر من العصر الأول أو كثير من القسم الأول فإن الأحاديث كانت قد انتشرت واشتهرت لكن كانت تبلغ كثيرا من العلماء من طرق ضعيفة وقد بلغت غيرهم من طرق صحيحة غير تلك الطرق فتكون حجة من هذا الوجه مع أنها لم تبلغ من خالفها من هذا الوجه ولهذا وجد في كلام غير واحد من الأئمة تعليق القول بموجب الحديث على صحته فيقول: قولي في هذه المسألة كذا وقد روي فيها حديث بكذا، فإن كان صحيحا فهو قولي.
السبب الثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره مع قطع النظر عن طريق آخر سواء كان الصواب معه أو مع غيره أو معهما عند من يقول: كل مجتهد مصيب، ولذلك أسباب: منها: أن يكون المحدث بالحديث يعتقده أحدهما ضعيفا، ويعتقده الآخر ثقة. ومعرفة الرجال علم واسع، ثم قد يكون المصيب من يعتقد ضعفه، لاطلاعه على سبب جارح وقد يكون الصواب مع الآخر لمعرفته أن ذلك السبب غير جارح، إما لأن جنسه غير جارح، أو لأنه كان له فيه عذر يمنع الجرح. وهذا باب واسع وللعلماء بالرجال وأحوالهم في ذلك من الإجماع والاختلاف مثل ما لغيرهم من سائر أهل العلم في علومهم. ومنها: ألا يعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حدث عنه وغيره يعتقد أنه سمعه لأسباب توجب ذلك معروفة. ومنها: أن يكون للمحدث حالان: حال استقامة وحال اضطراب مثل أن يختلط أو تحترق كتبه فما حدث به في حال الاستقامة صحيح وما حدث به في حال الاضطراب ضعيف فلا يدري ذلك الحديث من أي النوعين؟ وقد علم غيره أنه مما حدث به في حال الاستقامة. ومنها: أن يكون المحدث قد نسي ذلك الحديث فلم يذكره فيما بعد أو أنكر أن يكون حدثه معتقدا أن هذا علة توجب ترك الحديث. ويرى غيره أن هذا مما يصح الاستدلال به. والمسألة معروفة. ومنها: أن كثيرا من الحجازيين يرون ألا يحتج بحديث عراقي أو شامي إن لم يكن له أصل بالحجاز حتى قال قائلهم: نزلوا أحاديث أهل العراق بمنزلة أحاديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقيل لآخر: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله حجة؟ قال: إن لم يكن له أصل بالحجاز فلا وهذا لاعتقادهم أن أهل الحجاز ضبطوا السنة فلم يشذ عنهم منها شيء وأن أحاديث العراقيين وقع فيها اضطراب أوجب التوقف فيها. وبعض العراقيين يرى ألا يحتج بحديث الشاميين وإن كان أكثر الناس على ترك التضعيف بهذا فمتى كان الإسناد جيدا كان الحديث حجة سواء كان الحديث حجازيا أو عراقيا أو شاميا أو غير ذلك. وقد صنف أبو داود السجستاني كتابا في مفاريد أهل الأمصار من السنن يبين ما اختص به أهل كل مصر من الأمصار من السنن التي لا توجد مسندة عند غيرهم مثل المدينة، ومكة، والطائف، ودمشق وحمص والكوفة والبصرة وغيرها. إلى أسباب أخر غير هذه.
السبب الرابع: اشتراطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطا يخالفه فيها غيره مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب والسنة واشتراط بعضهم أن يكون المحدث فقيها إذا خالف قياس الأصول واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان فيما تعم به البلوى إلى غير ذلك مما هو معروف في مواضعه.
السبب الخامس: أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه وهذا يرد في الكتاب والسنة مثل الحديث المشهور عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يجنب في السفر فلا يجد الماء؟ فقال: لا يصل حتى يجد الماء فقال له عمار: يا أمير المؤمنين أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأجنبنا فأما أنا فتمرغت كما تمرغ الدابة وأما أنت فلم تصل فذكرت ذلك للنبي ﷺ فقال: «إنما يكفيك هكذا وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه؟» فقال له عمر: اتق الله يا عمار فقال: إن شئت لم أحدث به. فقال: بل نوليك من ذلك ما توليت. فهذه سنة شهدها عمر ثم نسيها حتى أفتى بخلافها وذكره عمار فلم يذكر وهو لم يكذب عمارا بل أمره أن يحدث به. وأبلغ من هذا أنه خطب الناس فقال: لا يزيد رجل على صداق أزواج النبي ﷺ وبناته إلا رددته. فقالت امرأة: يا أمير المؤمنين لم تحرمنا شيئا أعطانا الله إياه؟ ثم قرأت: { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا } [1]، فرجع عمر إلى قولها وقد كان حافظا للآية ولكن نسيها. وكذلك ما روي أن عليا ذكر الزبير يوم الجمل شيئا عهده إليهما رسول الله ﷺ فذكره حتى انصرف عن القتال. وهذا كثير في السلف والخلف.
السبب السادس: عدم معرفته بدلالة الحديث تارة لكون اللفظ الذي في الحديث غريبا عنده مثل لفظ المزابنة والمحاقلة والمخابرة والملامسة والمنابذة والغرر، إلى غير ذلك من الكلمات الغريبة التي قد يختلف العلماء في تفسيرها وكالحديث المرفوع: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق»؛ فإنهم قد فسروا الإغلاق بالإكراه ومن يخالفه لا يعرف هذا التفسير.
وتارة لكون معناه في لغته وعرفه غير معناه في لغة النبي ﷺ وهو يحمله على ما يفهمه في لغته بناء على أن الأصل بقاء اللغة كما سمع بعضهم آثارا في الرخصة في النبيذ فظنوه بعض أنواع المسكر، لأنه لغتهم وإنما هو ما ينبذ لتحلية الماء قبل أن يشتد، فإنه جاء مفسرا في أحاديث كثيرة صحيحة.
وسمعوا لفظ الخمر في الكتاب والسنة فاعتقدوه عصير العنب المشتد خاصة بناء على أنه كذلك في اللغة وإن كان قد جاء من الأحاديث أحاديث صحيحة تبين أن الخمر اسم لكل شراب مسكر.
وتارة لكون اللفظ مشتركا أو مجملا، أو مترددا بين حقيقة ومجاز، فيحمله على الأقرب عنده وإن كان المراد هو الآخر كما حمل جماعة من الصحابة في أول الأمر الخيط الأبيض والخيط الأسود على الحبل وكما حمل آخرون قوله: { فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ } [2]، على اليد إلى الإبط. وتارة لكون الدلالة من النص خفية، فإن جهات دلالات الأقوال متسعة جدا يتفاوت الناس في إدراكها وفهم وجوه الكلام بحسب منح الحق سبحانه ومواهبه ثم قد يعرفها الرجل من حيث العموم ولا يتفطن لكون هذا المعنى داخلا في ذلك العام ثم قد يتفطن له تارة ثم ينساه بعد ذلك. وهذا باب واسع جدا لا يحيط به إلا الله وقد يغلط الرجل فيفهم من الكلام ما لا تحتمله اللغة العربية التي بعث الرسول ﷺ بها.
السبب السابع: اعتقاده أن لا دلالة في الحديث. والفرق بين هذا وبين الذي قبله أن الأول لم يعرف جهة الدلالة والثاني عرف جهة الدلالة لكن اعتقد أنها ليست دلالة صحيحة بأن يكون له من الأصول ما يرد تلك الدلالة سواء كانت في نفس الأمر صوابا أو خطأ مثل أن يعتقد أن العام المخصوص ليس بحجة وأن المفهوم ليس بحجة وأن العموم الوارد على سبب مقصور على سببه أو أن الأمر المجرد لا يقتضي الوجوب، أو لا يقتضي الفور أو أن المعرف باللام لا عموم له أو أن الأفعال المنفية لا تنفي ذواتها ولا جميع أحكامها أو أن المقتضي لا عموم له، فلا يدعي العموم في المضمرات والمعاني إلى غير ذلك مما يتسع القول فيه فإن شطر أصول الفقه تدخل مسائل الخلاف منه في هذا القسم وإن كانت الأصول المجردة لم تحط بجميع الدلالات المختلف فيها وتدخل فيه أفراد أجناس الدلالات: هل هي من ذلك الجنس أم لا؟ مثل أن يعتقد أن هذا اللفظ المعين مجمل بأن يكون مشتركا لا دلالة تعين أحد معنييه أو غير ذلك.
السبب الثامن: اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة مثل معارضة العام بخاص أو المطلق بمقيد أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب أو الحقيقة بما يدل على المجاز إلى أنواع المعارضات. وهو باب واسع أيضا، فإن تعارض دلالات الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحر خضم.
السبب التاسع: اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه، أو نسخه، أو تأويله إن كان قابلا للتأويل بما يصلح أن يكون معارضا بالاتفاق مثل آية أو حديث آخر أو مثل إجماع وهذا نوعان: أحدهما: أن يعتقد أن هذا المعارض راجح في الجملة فيتعين أحد الثلاثة من غير تعيين واحد منها.
وتارة يعين أحدها بأن يعتقد أنه منسوخ، أو أنه مؤول.
ثم قد يغلط في النسخ فيعتقد المتأخر متقدما وقد يغلط في التأويل بأن يحمل الحديث على ما لا يحتمله لفظه أو هناك ما يدفعه وإذا عارضه من حيث الجملة فقد لا يكون ذلك المعارض دالا وقد لا يكون الحديث المعارض في قوة الأول إسنادا أو متنا وتجيء هنا الأسباب المتقدمة وغيرها في الحديث الأول والإجماع المدعي في الغالب إنما هو عدم العلم بالمخالف. وقد وجدنا من أعيان العلماء من صاروا إلى القول بأشياء متمسكهم فيها عدم العلم بالمخالف مع أن ظاهر الأدلة عندهم يقتضي خلاف ذلك لكن لا يمكن العالم أن يبتدئ قولا لم يعلم به قائلا، مع علمه بأن الناس قد قالوا خلافه حتى إن منهم من يعلق القول فيقول: إن كان في المسألة إجماع فهو أحق ما يتبع وإلا فالقول عندي كذا وكذا وذلك مثل من يقول: لا أعلم أحدا أجاز شهادة العبد.
وقبولها محفوظ عن علي وأنس وشريح وغيرهم ويقول: أجمعوا على أن المعتق بعضه لا يرث وتوريثه محفوظ عن علي وابن مسعود وفيه حديث حسن عن النبي ﷺ.
ويقول آخر: لا أعلم أحدا أوجب الصلاة على النبي ﷺ في الصلاة وإيجابها محفوظ عن أبي جعفر الباقر، وذلك أن غاية كثير من العلماء أن يعلم قول أهل العلم الذين أدركهم في بلاده وأقوال جماعات غيرهم كما تجد كثيرا من المتقدمين لا يعلم إلا قول المدنيين والكوفيين وكثير من المتأخرين لا يعلم إلا قول اثنين أو ثلاثة من الأئمة المتبوعين وما خرج عن ذلك فإنه عنده يخالف الإجماع، لأنه لا يعلم به قائلا وما زال يقرع سمعه خلافه فهذا لا يمكنه أن يصير إلى حديث يخالف هذا، لخوفه أن يكون هذا خلافا للإجماع أو لاعتقاده أنه مخالف للإجماع والإجماع أعظم الحجج. وهذا عذر كثير من الناس في كثير مما يتركونه وبعضهم معذور فيه حقيقة، وبعضهم معذور فيه وليس في الحقيقة بمعذور وكذلك كثير من الأسباب قبله وبعده.
السبب العاشر: معارضته بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله مما لا يعتقده غيره أو جنسه معارض، أو لا يكون في الحقيقة معارضا راجحا، كمعارضة كثير من الكوفيين الحديث الصحيح بظاهر القرآن واعتقادهم أن ظاهر القرآن من العموم ونحوه مقدم على نص الحديث ثم قد يعتقد ما ليس بظاهر ظاهرا لما في دلالات القول من الوجوه الكثيرة. ولهذا ردوا حديث الشاهد واليمين وإن كان غيرهم يعلم أن ليس في ظاهر القرآن ما يمنع الحكم بشاهد ويمين ولو كان فيه ذلك فالسنة هي المفسرة للقرآن عندهم.
وللشافعي في هذه القاعدة كلام معروف ولأحمد فيها رسالته المشهورة في الرد على من يزعم الاستغناء بظاهر القرآن عن تفسير سنة رسول الله ﷺ وقد أورد فيها من الدلائل ما يضيق هذا الموضع عن ذكره.
ومن ذلك دفع الخبر الذي فيه تخصيص لعموم الكتاب أو تقييد لمطلقه أو فيه زيادة عليه واعتقاد من يقول ذلك أن الزيادة على النص كتقييد المطلق نسخ وأن تخصيص العام نسخ وكمعارضة طائفة من المدنيين الحديث الصحيح بعمل أهل المدينة بناء على أنهم مجمعون على مخالفة الخبر وأن إجماعهم حجة مقدمة على الخبر كمخالفة أحاديث خيار المجلس بناء على هذا الأصل وإن كان أكثر الناس قد يثبتون أن المدنيين قد اختلفوا في تلك المسألة وأنهم لو أجمعوا وخالفهم غيرهم لكانت الحجة في الخبر.
وكمعارضة قوم من البلدين بعض الأحاديث بالقياس الجلي بناء على أن القواعد الكلية لا تنقض بمثل هذا الخبر. إلى غير ذلك من أنواع المعارضات سواء كان المعارض مصيبا أو مخطئا.
فهذه الأسباب العشرة ظاهرة وفي كثير من الأحاديث يجوز أن يكون للعالم حجة في ترك العمل بالحديث لم نطلع نحن عليها، فإن مدارك العلم واسعة ولم نطلع نحن على جميع ما في بواطن العلماء والعالم قد يبدي حجته وقد لا يبديها وإذا أبداها فقد تبلغنا وقد لا تبلغ وإذا بلغتنا فقد ندرك موضع احتجاجه وقد لا ندركه سواء كانت الحجة صوابا في نفس الأمر أم لا لكن نحن وإن جوزنا هذا فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم، إلى قول آخر قاله عالم يجوز أن يكون معه ما يدفع به هذه الحجة وإن كان أعلم، إذ تطرق الخطأ إلى آراء العلماء أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعية فإن الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عباده بخلاف رأي العالم.
والدليل الشرعي يمتنع أن يكون خطأ إذا لم يعارضه دليل آخر ورأي العالم ليس كذلك ولو كان العمل بهذا التجويز جائزا لما بقي في أيدينا شيء من الأدلة التي يجوز فيها مثل هذا لكن الغرض أنه في نفسه قد يكون معذورا في تركه له ونحن معذورون في تركنا لهذا الترك وقد قال سبحانه: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ } [3]، الآية وقال سبحانه: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ } [4].
وليس لأحد أن يعارض الحديث عن النبي ﷺ بقول أحد من الناس كما قال ابن عباس رضي الله عنهما لرجل سأله عن مسألة فأجابه فيها بحديث فقال له: قال أبو بكر وعمر فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله ﷺ وتقولون قال أبو بكر وعمر؟ وإذا كان الترك يكون لبعض هذه الأسباب، فإذا جاء حديث صحيح فيه تحليل أو تحريم أو حكم، فلا يجوز أن يعتقد أن التارك له من العلماء الذين وصفنا أسباب تركهم يعاقب، لكونه حلل الحرام أو حرم الحلال، أو حكم بغير ما أنزل الله.
وكذلك إن كان في الحديث وعيد على فعل: من لعنة أو غضب أو عذاب ونحو ذلك، فلا يجوز أن يقال: إن ذلك العالم الذي أباح هذا أو فعله داخل في هذا الوعيد.
وهذا مما لا نعلم بين الأمة فيه خلافا إلا شيئا يحكى عن بعض معتزلة بغداد مثل المريسي وأضرابه: أنهم زعموا أن المخطئ من المجتهدين يعاقب على خطئه وهذا لأن لحوق الوعيد لمن فعل المحرم مشروط بعلمه بالتحريم، أو بتمكنه من العلم بالتحريم، فإن من نشأ ببادية أو كان حديث عهد بالإسلام وفعل شيئا من المحرمات غير عالم بتحريمها لم يأثم ولم يحد وإن لم يستند في استحلاله إلى دليل شرعي. فمن لم يبلغه الحديث المحرم واستند في الإباحة إلى دليل شرعي أولى أن يكون معذورا، ولهذا كان هذا مأجورا محمودا لأجل اجتهاده قال الله سبحانه: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } [5]، إلى قوله { وَعِلْمًا } فاختص سليمان بالفهم، وأثنى عليهما بالحكم والعلم. وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» فتبين أن المجتهد مع خطئه له أجر، وذلك لأجل اجتهاده وخطؤه مغفور له، لأن درك الصواب في جميع أعيان الأحكام إما متعذر أو متعسر وقد قال تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [6]، وقال تعالى: { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [7].
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لأصحابه عام الخندق: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم صلاة العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة وقال بعضهم: لم يرد منا هذا، فصلوا في الطريق. فلم يعب واحدة من الطائفتين» فالأولون تمسكوا بعموم الخطاب فجعلوا صورة الفوات داخلة في العموم والآخرون كان معهم من الدليل ما يوجب خروج هذه الصورة عن العموم فإن المقصود المبادرة إلى القوم.
وهي مسألة اختلف فيها الفقهاء اختلافا مشهورا: هل يخص العموم بالقياس؟ ومع هذا فالذين صلوا في الطريق كانوا أصوب.
وكذلك «بلال رضي الله عنه لما باع الصاعين بالصاع أمره النبي ﷺ برده» ولم يرتب على ذلك حكم آكل الربا من التفسيق واللعن والتغليظ لعدم علمه بالتحريم، وكذلك عدي بن حاتم وجماعة من الصحابة لما اعتقدوا أن قوله تعالى: { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } [8]، معناه الحبال البيض والسود فكان أحدهم يجعل عقالين أبيض وأسود ويأكل حتى يتبين أحدهما من الآخر فقال النبي ﷺ لعدي: «إن وسادك إذا لعريض إنما هو بياض النهار وسواد الليل» فأشار إلى عدم فقهه لمعنى الكلام ولم يرتب على هذا الفعل ذم من أفطر في رمضان وإن كان من أعظم الكبائر بخلاف الذين أفتوا المشجوج في البرد بوجوب الغسل فاغتسل فمات، فإنه قال: «قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال»؛ فإن هؤلاء أخطئوا بغير اجتهاد، إذ لم يكونوا من أهل العلم.
وكذلك «لم يوجب على أسامة بن زيد قودا ولا دية ولا كفارة لما قتل الذي قال: لا إله إلا الله في غزوة الحرقات»؛ فإنه كان معتقدا جواز قتله بناء على أن هذا الإسلام ليس بصحيح مع أن قتله حرام. وعمل بذلك السلف وجمهور الفقهاء في أن ما استباحه أهل البغي من دماء أهل العدل بتأويل سائغ لم يضمن بقود ولا دية ولا كفارة، وإن كان قتلهم وقتالهم محرما.
وهذا الشرط الذي ذكرناه في لحوق الوعيد لا يحتاج أن يذكر في كل خطاب، لاستقرار العلم به في القلوب كما أن الوعد على العمل مشروط بإخلاص العمل لله، وبعدم حبوط العمل بالردة ثم إن هذا الشرط لا يذكر في كل حديث فيه وعد.
ثم حيث قدر قيام الموجب للوعيد فإن الحكم يتخلف عنه لمانع وموانع لحوق الوعيد متعددة: منها التوبة ومنها الاستغفار ومنها الحسنات الماحية للسيئات ومنها بلاء الدنيا ومصائبها ومنها شفاعة شفيع مطاع ومنها رحمة أرحم الراحمين. فإذا عدمت هذه الأسباب كلها ولن تعدم إلا في حق من عتا وتمرد وشرد على الله شراد البعير على أهله فهنالك يلحق الوعيد به، وذلك أن حقيقة الوعيد بيان أن هذا العمل سبب في هذا العذاب فيستفاد من ذلك تحريم الفعل وقبحه أما أن كل شخص قام به ذلك السبب يجب وقوع ذلك المسبب به فهذا باطل قطعا، لتوقف ذلك المسبب على وجود الشرط وزوال جميع الموانع.
وإيضاح هذا أن من ترك العمل بحديث فلا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن يكون تركا جائزا باتفاق المسلمين كالترك في حق من لم يبلغه، ولا قصر في الطلب مع حاجته إلى الفتيا أو الحكم كما ذكرناه عن الخلفاء الراشدين وغيرهم فهذا لا يشك مسلم أن صاحبه لا يلحقه من معرة الترك شيء، وإما أن يكون تركا غير جائز فهذا لا يكاد يصدر من الأئمة إن شاء الله تعالى لكن قد يخاف على بعض العلماء أن يكون الرجل قاصرا في درك تلك المسألة: فيقول مع عدم أسباب القول وإن كان له فيها نظر واجتهاد أو يقصر في الاستدلال فيقول قبل أن يبلغ النظر نهايته مع كونه متمسكا بحجة أو يغلب عليه عادة أو غرض يمنعه من استيفاء النظر لينظر فيما يعارض ما عنده وإن كان لم يقل إلا بالاجتهاد والاستدلال فإن الحد الذي يجب أن ينتهي إليه الاجتهاد قد لا ينضبط للمجتهد.
ولهذا كان العلماء يخافون مثل هذا خشية ألا يكون الاجتهاد المعتبر قد وجد في تلك المسألة المخصوصة فهذه ذنوب، لكن لحوق عقوبة الذنب بصاحبه إنما تنال لمن لم يتب وقد يمحوها الاستغفار والإحسان والبلاء والشفاعة والرحمة ولم يدخل في هذا من يغلبه الهوى ويصرعه حتى ينصر ما يعلم أنه باطل أو من يجزم بصواب قول أو خطئه من غير معرفة منه بدلائل ذلك القول نفيا وإثباتا، فإن هذين في النار كما قال النبي ﷺ: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة فأما الذي في الجنة فرجل علم الحق فقضى به وأما اللذان في النار فرجل قضى للناس على جهل ورجل علم الحق وقضى بخلافه» والمفتون كذلك. لكن لحوق الوعيد للشخص المعين أيضا له موانع كما بيناه فلو فرض وقوع بعض هذا من بعض الأعيان من العلماء المحمودين عند الأمة - مع أن هذا بعيد أو غير واقع - لم يعدم أحدهم أحد هذه الأسباب، ولو وقع لم يقدح في إمامتهم على الإطلاق فإنا لا نعتقد في القوم العصمة بل تجوز عليهم الذنوب ونرجو لهم مع ذلك أعلى الدرجات، لما اختصهم الله به من الأعمال الصالحة والأحوال السنية وإنهم لم يكونوا مصرين على ذنب وليسوا بأعلى درجة من الصحابة رضي الله عنهم والقول فيهم كذلك فيما اجتهدوا فيه من الفتاوى والقضايا والدماء التي كانت بينهم وغير ذلك.
ثم إنهم مع العلم بأن التارك الموصوف معذور بل مأجور لا يمنعنا أن نتبع الأحاديث الصحيحة التي لا نعلم لها معارضا يدفعها وأن نعتقد وجوب العمل على الأمة ووجوب تبليغها. وهذا مما لا يختلف العلماء فيه. ثم هي منقسمة إلى: ما دلالته قطعية، بأن يكون قطعي السند والمتن وهو ما تيقنا أن رسول الله ﷺ قاله وتيقنا أنه أراد به تلك الصورة.
وإلى ما دلالته ظاهرة غير قطعية. فأما الأول فيجب اعتقاد موجبه علما وعملا، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء في الجملة وإنما قد يختلفون في بعض الأخبار هل هو قطعي السند أو ليس بقطعي؟ وهل هو قطعي الدلالة أو ليس بقطعي؟ مثل اختلافهم في خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول والتصديق أو الذي اتفقت على العمل به فعند عامة الفقهاء وأكثر المتكلمين أنه يفيد العلم وذهب طوائف من المتكلمين إلى أنه لا يفيده. وكذلك الخبر المروي من عدة جهات يصدق بعضها بعضا من أناس مخصوصين قد تفيد العلم اليقيني لمن كان عالما بتلك الجهات، وبحال أولئك المخبرين، وبقرائن وضمائم تحتف بالخبر وإن كان العلم بذلك الخبر لا يحصل لمن لم يشركه في ذلك.
ولهذا كان علماء الحديث الجهابذة فيه المتبحرون في معرفته قد يحصل لهم اليقين التام بأخبار، وإن كان غيرهم من العلماء قد لا يظن صدقها فضلا عن العلم بصدقها ومبنى هذا على أن الخبر المفيد للعلم يفيده من كثرة المخبرين تارة ومن صفات المخبرين أخرى ومن نفس الإخبار به أخرى ومن نفس إدراك المخبر له أخرى ومن الأمر المخبر به أخرى فرب عدد قليل أفاد خبرهم العلم لما هم عليه من الديانة والحفظ الذي يؤمن معه كذبهم أو خطؤهم وأضعاف ذلك العدد من غيرهم قد لا يفيد العلم. هذا هو الحق الذي لا ريب فيه وهو قول جمهور الفقهاء والمحدثين وطوائف من المتكلمين.
وذهب طوائف من المتكلمين وبعض الفقهاء إلى أن كل عدد أفاد العلم خبرهم بقضية أفاد خبر مثل ذلك العدد العلم في كل قضية وهذا باطل قطعا لكن ليس هذا موضع بيان ذلك.
فأما تأثير القرائن الخارجة عن المخبرين في العلم بالخبر فلم نذكره، لأن تلك القرائن قد تفيد العلم لو تجردت عن الخبر وإذا كانت بنفسها قد تفيد العلم لم تجعل تابعة للخبر على الإطلاق كما لم يجعل الخبر تابعا لها بل كل منهما طريق إلى العلم تارة وإلى الظن أخرى وإن اتفق اجتماع ما يوجب العلم به منهما أو اجتماع موجب العلم من أحدهما وموجب الظن من الآخر وكل من كان بالأخبار أعلم قد يقطع بصدق أخبار لا يقطع بصدقها من ليس مثله وتارة يختلفون في كون الدلالة قطعية لاختلافهم في أن ذلك الحديث: هل هو نص أو ظاهر؟ وإذا كان ظاهرا فهل فيه ما ينفي الاحتمال المرجوح أو لا؟ وهذا أيضا باب واسع فقد يقطع قوم من العلماء بدلالة أحاديث لا يقطع بها غيرهم إما لعلمهم بأن الحديث لا يحتمل إلا ذلك المعنى أو لعلمهم بأن المعنى الآخر يمنع حمل الحديث عليه أو لغير ذلك من الأدلة الموجبة للقطع.
وأما القسم الثاني وهو الظاهر فهذا يجب العمل به في الأحكام الشرعية باتفاق العلماء المعتبرين فإن كان قد تضمن حكما علميا مثل الوعيد ونحوه فقد اختلفوا فيه: فذهب طوائف من الفقهاء إلى أن خبر الواحد العدل إذا تضمن وعيدا على فعل فإنه يجب العمل به في تحريم ذلك الفعل ولا يعمل به في الوعيد إلا أن يكون قطعيا وكذلك لو كان المتن قطعيا لكن الدلالة ظاهرة وعلى هذا حملوا قول عائشة رضي الله عنها: أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ إلا أن يتوب قالوا: فعائشة ذكرت الوعيد لأنها كانت عالمة به ونحن نعمل بخبرها في التحريم وإن كنا لا نقول بهذا الوعيد لأن الحديث إنما ثبت عندنا بخبر واحد.
وحجة هؤلاء أن الوعيد من الأمور العلمية، فلا تثبت إلا بما يفيد العلم وأيضا فإن الفعل إذا كان مجتهدا في حكمه لم يلحق فاعله الوعيد. فعلى قول هؤلاء يحتج بأحاديث الوعيد في تحريم الأفعال مطلقا ولا يثبت بها الوعيد إلا أن تكون الدلالة قطعية ومثله احتجاج أكثر العلماء بالقراءات التي صحت عن بعض الصحابة مع كونها ليست في مصحف عثمان رضي الله عنه فإنها تضمنت عملا وعلما وهي خبر واحد صحيح فاحتجوا بها في إثبات العمل ولم يثبتوها قرآنا لأنها من الأمور العلمية التي لا تثبت إلا بيقين. وذهب الأكثرون من الفقهاء وهو قول عامة السلف إلى أن هذه الأحاديث حجة في جميع ما تضمنته من الوعيد، فإن أصحاب رسول الله ﷺ والتابعين بعدهم ما زالوا يثبتون بهذه الأحاديث الوعيد كما يثبتون بها العمل ويصرحون بلحوق الوعيد الذي فيها للفاعل في الجملة وهذا منتشر عنهم في أحاديثهم وفتاويهم وذلك لأن الوعيد من جملة الأحكام الشرعية التي ثبتت بالأدلة الظاهرة تارة وبالأدلة القطعية أخرى، فإنه ليس المطلوب اليقين التام بالوعيد بل المطلوب الاعتقاد الذي يدخل في اليقين والظن الغالب كما أن هذا هو المطلوب في الأحكام العملية.
ولا فرق بين اعتقاد الإنسان أن الله حرم هذا وأوعد فاعله بالعقوبة المجملة واعتقاده أن الله حرمه وأوعده عليه بعقوبة معينة من حيث إن كلا منهما إخبار عن الله فكما جاز الإخبار عنه بالأول بمطلق الدليل فكذلك الإخبار عنه بالثاني بل لو قال قائل: العمل بها في الوعيد أوكد، كان صحيحا.
ولهذا كانوا يسهلون في أسانيد أحاديث الترغيب والترهيب ما لا يسهلون في أسانيد أحاديث الأحكام، لأن اعتقاد الوعيد يحمل النفوس على الترك فإن كان ذلك الوعيد حقا كان الإنسان قد نجا وإن لم يكن الوعيد حقا بل عقوبة الفعل أخف من ذلك الوعيد لم يضر الإنسان إذا ترك ذلك الفعل خطؤه في اعتقاده زيادة العقوبة لأنه إن اعتقد نقص العقوبة فقد يخطئ أيضا وكذلك إن لم يعتقد في تلك الزيادة نفيا ولا إثباتا فقد يخطئ فهذا الخطأ قد يهون الفعل عنده فيقع فيه فيستحق العقوبة الزائدة إن كانت ثابتة أو يقوم به سبب استحقاق ذلك.
فإذا الخطأ في الاعتقاد على التقديرين تقدير اعتقاد الوعيد وتقدير عدمه سواء والنجاة من العذاب على تقدير اعتقاد الوعيد أقرب فيكون هذا التقدير أولى. وبهذا الدليل رجح عامة العلماء الدليل الحاظر على الدليل المبيح وسلك كثير من الفقهاء دليل الاحتياط في كثير من الأحكام بناء على هذا وأما الاحتياط في الفعل فكالمجمع على حسنه بين العقلاء في الجملة فإذا كان خوفه من الخطإ بنفي اعتقاد الوعيد مقابلا لخوفه من الخطإ في عدم هذا الاعتقاد: بقي الدليل الموجب لاعتقاده والنجاة الحاصلة في اعتقاده دليلين سالمين عن المعارض.
وليس لقائل أن يقول عدم الدليل القطعي على الوعيد دليل على عدمه كعدم الخبر المتواتر على القراءات الزائدة على ما في المصحف، لأن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول عليه ومن قطع بنفي شيء من الأمور العلمية لعدم الدليل القاطع على وجودها كما هو طريقة طائفة من المتكلمين فهو مخطئ خطأ بينا لكن إذا علمنا أن وجود الشيء مستلزم لوجود الدليل وعلمنا عدم الدليل وقطعنا بعدم الشيء المستلزم لأن عدم اللازم دليل على عدم الملزوم وقد علمنا أن الدواعي متوفرة على نقل كتاب الله ودينه فإنه لا يجوز على الأمة كتمان ما يحتاج إلى نقله حجة عامة فلما لم ينقل نقلا عاما صلاة سادسة ولا سورة أخرى علمنا يقينا عدم ذلك.
وباب الوعيد ليس من هذا الباب، فإنه لا يجب في كل وعيد على فعل أن ينقل نقلا متواترا كما لا يجب ذلك في حكم ذلك الفعل فثبت أن الأحاديث المتضمنة للوعيد يجب العمل بها في مقتضاها: باعتقاد أن فاعل ذلك الفعل متوعد بذلك الوعيد لكن لحوق الوعيد به متوقف على شروط، وله موانع. وهذه القاعدة تظهر بأمثلة منها أنه قد صح عن النبي ﷺ أنه قال: «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه» وصح عنه من غير وجه أنه «قال لمن باع صاعين بصاع يدا بيد: أوه عين الربا» كما قال: «البر بالبر ربا إلا هاء وهاء» الحديث وهذا يوجب دخول نوعي الربا: ربا الفضل وربا النسأ في الحديث. ثم إن الذين بلغهم قول النبي ﷺ: «إنما الربا في النسيئة» فاستحلوا بيع الصاعين بالصاع يدا بيد، مثل ابن عباس رضي الله عنه، وأصحابه: أبي الشعثاء، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير وعكرمة، وغيرهم من أعيان المكيين الذين هم من صفوة الأمة علما وعملا: لا يحل لمسلم أن يعتقد أن أحدا منهم بعينه أو من قلده بحيث يجوز تقليده: تبلغهم لعنة آكل الربا، لأنهم فعلوا ذلك متأولين تأويلا سائغا في الجملة. وكذلك ما نقل عن طائفة من فضلاء المدنيين من إتيان المحاش مع ما رواه أبو داود عن النبي ﷺ أنه قال: «من أتى امرأة في دبرها فهو كافر بما أنزل على محمد» أفيستحل مسلم أن يقول إن فلانا وفلانا كانا كافرين بما أنزل على محمد وكذلك «قد ثبت عنه ﷺ أنه لعن في الخمر عشرة: عاصر الخمر ومعتصرها وشاربها».
وثبت عنه من وجوه أنه قال: «كل شراب أسكر فهو خمر» وقال: «كل مسكر خمر». وخطب عمر رضي الله عنه على منبره ﷺ فقال بين المهاجرين والأنصار: الخمر ما خامر العقل. وأنزل الله تحريم الخمر وكان سبب نزولها ما كانوا يشربونه في المدينة ولم يكن لهم شراب إلا الفضيخ لم يكن لهم من خمر الأعناب شيء. وقد كان رجال من أفاضل الأمة علما وعملا من الكوفيين يعتقدون أن لا خمر إلا من العنب وأن ما سوى العنب والتمر لا يحرم من نبيذه إلا مقدار ما يسكر ويشربون ما يعتقدون حله.
فلا يجوز أن يقال: إن هؤلاء مندرجون تحت الوعيد لما كان لهم من العذر الذي تأولوا به أو لموانع أخر فلا يجوز أن يقال: إن الشراب الذي شربوه ليس من الخمر الملعون شاربها فإن سبب القول العام لا بد أن يكون داخلا فيه ولم يكن بالمدينة خمر من العنب ثم «إن النبي ﷺ قد لعن البائع للخمر» وقد باع بعض الصحابة خمرا حتى بلغ عمر فقال: قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول الله ﷺ قال: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها» ولم يكن يعلم أن بيعها محرم ولم يمنع عمر رضي الله عنه علمه بعدم علمه أن يبين جزاء هذا الذنب، ليتناهى هو وغيره عنه بعد بلوغ العلم به. وقد لعن العاصر والمعتصر، وكثير من الفقهاء يجوزون للرجل أن يعصر لغيره عنبا وإن علم أن من نيته أن يتخذه خمرا فهذا نص في لعن العاصر مع العلم بأن المعذور تخلف الحكم عنه لمانع. وكذلك لعن الواصلة والموصولة في عدة أحاديث صحاح ثم من الفقهاء من يكرهه فقط.
وقال النبي ﷺ: «إن الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» ومن الفقهاء من يكرهه كراهة تنزيه. وكذلك قوله ﷺ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» يجب العمل به في تحريم قتال المؤمنين بغير حق ثم إنا نعلم أن أهل الجمل وصفين ليسوا في النار، لأن لهما عذرا وتأويلا في القتال وحسنات منعت المقتضي أن يعمل عمله.
وقال ﷺ في الحديث الصحيح: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء يمنعه ابن السبيل فيقول الله له: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا إن أعطاه رضي وإن لم يعطه سخط ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبا: لقد أعطي بها أكثر مما أعطي» فهذا وعيد عظيم لمن منع فضل مائه مع أن طائفة من العلماء يجوزون للرجل أن يمنع فضل مائه.
فلا يمنعنا هذا الخلاف أن نعتقد تحريم هذا محتجين بالحديث ولا يمنعنا مجيء الحديث أن نعتقد أن المتأول معذور في ذلك لا يلحقه هذا الوعيد. وقال ﷺ: «لعن الله المحلل والمحلل له». وهو حديث صحيح قد روي عنه من غير وجه وعن أصحابه مع أن طائفة من العلماء صححوا نكاح المحلل مطلقا.
ومنهم من صححه إذا لم يشترط في العقد ولهم في ذلك أعذار معروفة، فإن قياس الأصول عند الأول أن النكاح لا يبطل بالشروط، كما لا يبطل بجهالة أحد العوضين وقياس الأصول عند الثاني أن العقود المجردة عن شرط مقترن لا تغير أحكام العقود، ولم يبلغ هذا الحديث من قال هذا القول. هذا هو الظاهر، فإن كتبهم المتقدمة لم تتضمنه ولو بلغهم لذكروه آخذين به أو مجيبين عنه، أو بلغهم وتأولوه، أو اعتقدوا نسخه، أو كان عندهم ما يعارضه فنحن نعلم أن مثل هؤلاء لا يصيبه هذا الوعيد لو أنه فعل التحليل معتقدا حله على هذا الوجه ولا يمنعنا ذلك أن نعلم أن التحليل سبب لهذا الوعيد وإن تخلف في حق بعض الأشخاص لفوات شرط أو وجود مانع.
وكذلك استلحاق معاوية رضي الله عنه زياد بن أبيه المولود على فراش الحارث بن كلدة، لكون أبي سفيان كان يقول: إنه من نطفته مع أنه ﷺ قد قال: «من ادعي إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام» وقال: «من ادعي إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» حديث صحيح. وقضى أن الولد للفراش وهو من الأحكام المجمع عليها فنحن نعلم أن من انتسب إلى غير الأب الذي هو صاحب الفراش فهو داخل في كلام الرسول ﷺ مع أنه لا يجوز أن يعين أحد دون الصحابة فضلا عن الصحابة فيقال: إن هذا الوعيد لاحق به لإمكان أنه لم يبلغهم قضاء رسول الله ﷺ بأن الولد للفراش واعتقدوا أن الولد لمن أحبل أمه واعتقدوا أن أبا سفيان هو المحبل لسمية أم زياد فإن هذا الحكم قد يخفى على كثير من الناس لا سيما قبل انتشار السنة مع أن العادة في الجاهلية كانت هكذا، أو لغير ذلك من الموانع المانعة هذا المقتضي للوعيد أن يعمل عمله: من حسنات تمحو السيئات وغير ذلك.
وهذا باب واسع، فإنه يدخل فيه جميع الأمور المحرمة بكتاب أو سنة إذا كان بعض الأمة لم يبلغهم أدلة التحريم فاستحلوها أو عارض تلك الأدلة عندهم أدلة أخرى رأوا رجحانها عليها مجتهدين في ذلك الترجيح بحسب عقلهم وعلمهم، فإن التحريم له أحكام من التأثيم والذم والعقوبة والفسق وغير ذلك لكن لها شروط وموانع فقد يكون التحريم ثابتا وهذه الأحكام منتفية لفوات شرطها أو وجود مانع، أو يكون التحريم منتفيا في حق ذلك الشخص مع ثبوته في حق غيره.
وإنما رددنا الكلام لأن للناس في هذه المسألة قولين:
أحدهما - وهو قول عامة السلف والفقهاء -: أن حكم الله واحد وأن من خالفه باجتهاد سائغ مخطئ معذور مأجور فعلى هذا يكون ذلك الفعل الذي فعله المتأول بعينه حراما لكن لا يترتب أثر التحريم عليه لعفو الله عنه فإنه لا يكلف نفسا إلا وسعها.
والثاني: في حقه ليس بحرام لعدم بلوغ دليل التحريم له، وإن كان حراما في حق غيره فتكون نفس حركة ذلك الشخص ليست حراما. والخلاف متقارب وهو شبيه بالاختلاف في العبارة. فهذا هو الذي يمكن أن يقال في أحاديث الوعيد إذا صادفت محل خلاف إذ العلماء مجمعون على الاحتجاج في تحريم الفعل المتوعد عليه سواء كان محل وفاق أو خلاف بل أكثر ما يحتاجون إليه الاستدلال بها في موارد الخلاف لكن اختلفوا في الاستدلال بها على الوعيد إذا لم تكن قطعية على ما ذكرناه.
هامش
[البقرة: 187]
[النساء: 20]
[المائدة: 6]
[البقرة: 134]
[النساء: 59]
[الأنبياء: 78]
[الحج: 78]
[البقرة: 185]
=====
المجتهد ودخوله تحت أحكام الوعيد
فإن قيل: فهلا قلتم إن أحاديث الوعيد لا تتناول محل الخلاف، وإنما تتناول محل الوفاق وكل فعل لعن فاعله أو توعد بغضب أو عقاب حمل على فعل اتفق على تحريمه لئلا يدخل بعض المجتهدين في الوعيد إذا فعل ما اعتقد تحليله بل المعتقد أبلغ من الفاعل، إذ هو الآمر له بالفعل فيكون قد ألحق به وعيد اللعن أو الغضب بطريق الاستلزام؟؟ قلنا: الجواب من وجوه:
أحدها: أن جنس التحريم إما أن يكون ثابتا في محل خلاف أو لا يكون فإن لم يكن ثابتا في محل خلاف قط لزم أن لا يكون حراما إلا ما أجمع على تحريمه فكل ما اختلف في تحريمه يكون حلالا وهذا مخالف لإجماع الأمة وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام.
وإن كان ثابتا ولو في صورة فالمستحل لذلك الفعل المحرم من المجتهدين إما أن يلحقه ذم من حلل الحرام أو فعله وعقوبته أو لا؟ فإن قيل: إنه يلحقه، أو قيل: إنه لا يلحقه: فكذلك التحريم الثابت في حديث الوعيد اتفاقا والوعيد الثابت في محل الخلاف على ما ذكرناه من التفصيل بل الوعيد إنما جاء على الفاعل وعقوبة محلل الحرام في الأصل أعظم من عقوبة فاعله من غير اعتقاد، فإذا جاز أن يكون التحريم ثابتا في صورة الخلاف ولا يلحق المحلل المجتهد عقوبة ذلك الإحلال للحرام، لكونه معذورا فيه، فلأن لا يلحق الفاعل وعيد ذلك الفعل أولى وأحرى.
وكما لم يلزم دخول المجتهد تحت حكم هذا التحريم من الذم والعقاب وغير ذلك: لم يلزم دخوله تحت حكمه من الوعيد، إذ ليس الوعيد إلا نوعا من الذم والعقاب فإن جاز دخوله تحت هذا الجنس فما كان الجواب عن بعض أنواعه كان جوابا عن البعض الآخر ولا يغني الفرق بقلة الذم وكثرته، أو شدة العقوبة وخفتها، فإن المحذور في قليل الذم والعقاب في هذا المقام كالمحذور في كثيره فإن المجتهد لا يلحقه قليل ذلك ولا كثيره بل يلحقه ضد ذلك من الأجر والثواب.
الثاني: أن كون حكم الفعل مجمعا عليه أو مختلفا فيه أمور خارجة عن الفعل وصفاته وإنما هي أمور إضافية بحسب ما عرض لبعض العلماء من عدم العلم. واللفظ العام إن أريد به الخاص فلا بد من نصب دليل يدل على التخصيص إما مقترن بالخطاب عند من لا يجوز تأخير البيان وإما موسع في تأخيره إلى حين الحاجة عند الجمهور.
ولا شك أن المخاطبين بهذا على عهد رسول الله ﷺ كانوا محتاجين إلى معرفة حكم الخطاب فلو كان المراد باللفظ العام في لعنة آكل الربا والمحلل ونحوهما المجمع على تحريمه - وذلك لا يعلم إلا بعد موت النبي ﷺ وتكلم الأمة في جميع أفراد ذلك العام - لكان قد أخر بيان كلامه إلى أن تكلم جميع الأمة في جميع أفراده وهذا لا يجوز.
الثالث: أن هذا الكلام إنما خوطبت الأمة به لتعرف الحرام فتجتنبه ويستندون في إجماعهم إليه، ويحتجون في نزاعهم به فلو كانت الصورة المرادة هي ما أجمعوا عليه فقط لكان العلم بالمراد موقوفا على الإجماع فلا يصح الاحتجاج به قبل الإجماع فلا يكون مستندا للإجماع لأن مستند الإجماع يجب أن يكون متقدما عليه فيمتنع تأخره عنه فإنه يفضي إلى الدور الباطل فإن أهل الإجماع حينئذ لا يمكنهم الاستدلال بالحديث على صورة حتى يعلموا أنها مرادة ولا يعلمون أنها مرادة حتى يجتمعوا فصار الاستدلال موقوفا على الإجماع قبله والإجماع موقوفا على الاستدلال قبله إذا كان الحديث هو مستندهم فيكون الشيء موقوفا على نفسه فيمتنع وجوده ولا يكون حجة في محل الخلاف لأنه لم يرد وهذا تعطيل للحديث عن الدلالة على الحكم في محل الوفاق والخلاف وذلك مستلزم أن لا يكون شيء من النصوص التي فيها تغليظ للفعل أفادنا تحريم ذلك الفعل وهذا باطل قطعا.
الرابع: أن هذا يستلزم أن لا يحتج بشيء من هذه الأحاديث إلا بعد العلم بأن الأمة أجمعت على تلك الصورة فإذا الصدر الأول لا يجوز أن يحتجوا بها، بل ولا يجوز أن يحتج بها من يسمعها من في رسول الله ﷺ ويجب على الرجل إذا سمع مثل هذا الحديث ووجد كثيرا من العلماء قد عملوا به ولم يعلم له معارض: أن لا يعمل به حتى يبحث عنه هل في أقطار الأرض من يخالفه؟ كما لا يجوز له أن يحتج في مسألة بالإجماع إلا بعد البحث التام وإذا يبطل الاحتجاج بحديث رسول الله ﷺ بمجرد خلاف واحد من المجتهدين فيكون قول الواحد مبطلا لكلام رسول الله ﷺ وموافقته محققة لقول رسول الله ﷺ وإذا كان ذلك الواحد قد أخطأ صار خطؤه مبطلا لكلام رسول الله ﷺ. وهذا كله باطل بالضرورة، فإنه إن قيل: لا يحتج به إلا بعد العلم بالإجماع: صارت دلالة النصوص موقوفة على الإجماع وهو خلاف الإجماع وحينئذ فلا يبقى للنصوص دلالة، فإن المعتبر إنما هو الإجماع والنص عديم التأثير. فإن قيل: يحتج به إذ لا يعلم وجود الخلاف فيكون قول واحد من الأمة مبطلا لدلالة النص وهذا أيضا خلاف الإجماع وبطلانه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام.
الخامس: أنه إما أن يشترط في شمول الخطاب اعتقاد جميع الأمة للتحريم أو يكتفى باعتقاد العلماء. فإن كان الأول لم يجز أن يستدل على التحريم بأحاديث الوعيد حتى يعلم أن جميع الأمة - حتى الناشئين بالبوادي البعيدة والداخلين في الإسلام من المدة القريبة - قد اعتقدوا أن هذا محرم وهذا لا يقوله مسلم بل ولا عاقل، فإن العلم بهذا الشرط متعذر. وإن قيل: يكتفى باعتقاد جميع العلماء قيل له: إنما اشترطت إجماع العلماء حذرا من أن يشمل الوعيد لبعض المجتهدين وإن كان مخطئا وهذا بعينه موجود فيمن لم يسمع دليل التحريم من العامة فإن محذور شمول اللعنة لهذا كمحذور شمول اللعنة لهذا ولا ينجي من هذا الإلزام أن يقال: ذلك من أكابر الأمة وفضلاء الصديقين وهذا من أطراف الأمة فإن افتراقهما من هذا الوجه لا يمنع اشتراكهما في هذا الحكم، فإن الله سبحانه كما غفر للمجتهد إذا أخطأ غفر للجاهل إذا أخطأ ولم يمكنه التعلم بل المفسدة التي تحصل بفعل واحد من العامة محرما لم يعلم تحريمه ولم يمكنه معرفة تحريمه، أقل بكثير من المفسدة التي تنشأ من إحلال بعض الأئمة لما قد حرمه الشارع وهو لم يعلم تحريمه ولم يمكنه معرفة تحريمه.
ولهذا قيل: احذروا زلة العالم فإنه إذا زل زل بزلته عالم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ويل للعالم من الأتباع. فإن كان هذا معفوا عنه مع عظم المفسدة الناشئة من فعله: فلأن يعفى عن الآخر مع خفة مفسدة فعله أولى. نعم يفترقان من وجه آخر، وهو أن هذا اجتهد فقال باجتهاد وله من نشر العلم وإحياء السنة ما تنغمر فيه هذه المفسدة وقد فرق الله بينهما من هذا الوجه فأثاب المجتهد على اجتهاده وأثاب العالم على علمه ثوابا لم يشركه فيه ذلك الجاهل فهما مشتركان في العفو مفترقان في الثواب ووقوع العقوبة على غير المستحق ممتنع جليلا كان أو حقيرا فلا بد من إخراج هذا الممتنع من الحديث بطريق يشمل القسمين.
السادس: أن من أحاديث الوعيد ما هو نص في صورة الخلاف مثل لعنة المحلل له فإن من العلماء من يقول: إن هذا لا يأثم بحال فإنه لم يكن ركنا في العقد الأول بحال حتى يقال: لعن لاعتقاده وجوب الوفاء بالتحليل. فمن اعتقد أن نكاح الأول صحيح وإن بطل الشرط فإنها تحل للثاني: جرد الثاني عن الإثم بل وكذلك المحلل فإنه إما أن يكون ملعونا على التحليل أو على اعتقاده وجوب الوفاء بالشرط المقرون بالعقد فقط أو على مجموعهما، فإن كان الأول أو الثالث حصل الغرض وإن كان الثاني فهذا الاعتقاد هو الموجب للعنة سواء حصل هناك تحليل أو لم يحصل وحينئذ فيكون المذكور في الحديث ليس هو سبب اللعنة، وسبب اللعنة لم يتعرض له وهذا باطل. ثم هذا المعتقد وجوب الوفاء إن كان جاهلا فلا لعنة عليه.
وإن كان عالما بأنه لا يجب فمحال أن يعتقد الوجوب إلا أن يكون مراغما للرسول ﷺ فيكون كافرا فيعود معنى الحديث إلى لعنة الكفار والكفر لا اختصاص له بإنكار هذا الحكم الجزئي دون غيره فإن هذا بمنزلة من يقول: لعن الله من كذب الرسول في حكمه بأن شرط الطلاق في النكاح باطل.
ثم هذا كلام عام عموما لفظيا ومعنويا وهو عموم مبتدأ ومثل هذا العموم لا يجوز حمله على الصور النادرة، إذ الكلام يعود لكنة وعيا كتأويل من يتأول قوله: «أيما امرأة نكحت من غير إذن وليها»، على المكاتبة. وبيان ندوره: أن المسلم الجاهل لا يدخل في الحديث والمسلم العالم بأن هذا الشرط لا يجب الوفاء به لا يشترطه معتقدا وجوب الوفاء به إلا أن يكون كافرا والكافر لا ينكح نكاح المسلمين إلا أن يكون منافقا وصدور هذا النكاح على مثل هذا الوجه من أندر النادر ولو قيل إن مثل هذه الصورة لا تكاد تخطر ببال المتكلم لكان القائل صادقا.
وقد ذكرنا الدلائل الكثيرة في غير هذا الموضع على أن هذا الحديث قصد به المحلل القاصد وإن لم يشترط وكذلك الوعيد الخاص من اللعنة والنار وغير ذلك قد جاء منصوصا في مواضع مع وجود الخلاف فيها مثل حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: «لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» قال الترمذي حديث حسن وزيارة النساء رخص فيها بعضهم وكرهها بعضهم ولم يحرمها. وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي ﷺ: «لعن الله الذين يأتون النساء في محاشهن» وحديث أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون».
وقد تقدم حديث الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم وفيهم من منع فضل مائه وقد لعن بائع الخمر وقد باعها بعض المتقدمين. وقد صح عنه من غير وجه أنه قال: «من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» وقال: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» مع أن طائفة من الفقهاء يقولون: إن الجر والإسبال للخيلاء مكروه غير محرم.
وكذلك قوله ﷺ: «لعن الله الواصلة والمستوصلة» وهو من أصح الأحاديث. وفي وصل الشعر خلاف معروف.
وكذلك قوله: «إن الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم». ومن العلماء من لم يحرم ذلك.
السابع: أن الموجب للعموم قائم، والمعارض المذكور لا يصلح أن يكون معارضا، لأن غايته أن يقال: حمله على صور الوفاق والخلاف يستلزم دخول بعض من لا يستحق اللعن فيه فيقال: إذا كان التخصيص على خلاف الأصل فتكثيره على خلاف الأصل فيستثنى من هذا العموم من كان معذورا بجهل أو اجتهاد أو تقليد. مع أن الحكم شامل لغير المعذورين كما هو شامل لصور الوفاق فإن هذا التخصيص أقل، فيكون أولى.
الثامن: أنا إذا حملنا اللفظ على هذا كان قد تضمن ذكر سبب اللعن ويبقى المستثنى قد تخلف الحكم عنه لمانع ولا شك أن من وعد وأوعد ليس عليه أن يستثنى من تخلف الوعد أو الوعيد في حقه لمعارض فيكون الكلام جاريا على منهاج الصواب. أما إذا جعلنا اللعن على فعل المجمع على تحريمه أو سبب اللعن هو اعتقاد المخالف للإجماع: كان سبب اللعن غير مذكور في الحديث مع أن ذلك العموم لا بد فيه من التخصيص أيضا فإذا كان لا بد من التخصيص على التقديرين فالتزامه على الأول أولى لموافقة وجه الكلام وخلوه عن الإضمار.
التاسع: أن الموجب لهذا إنما هو نفي تناول اللعنة للمعذور وقد قدمنا فيما مضى أن أحاديث الوعيد إنما المقصود بها بيان أن ذلك الفعل سبب لتلك اللعنة فيكون التقدير هذا الفعل سبب اللعن فلو قيل: هذا لم يلزم منه تحقق الحكم في حق كل شخص، لكن يلزم منه قيام السبب إذا لم يتبعه الحكم ولا محذور فيه وقد قررنا فيما مضى أن الذم لا يلحق المجتهد حتى إنا نقول: إن محلل الحرام أعظم إثما من فاعله ومع هذا فالمعذور معذور. فإن قيل: فمن المعاقب فإن فاعل هذا الحرام إما مجتهد أو مقلد له وكلاهما خارج عن العقوبة؟.
قلنا: الجواب من وجوه.
أحدها: أن المقصود بيان أن هذا الفعل مقتض للعقوبة سواء وجد من يفعله أو لم يوجد فإذا فرض أنه لا فاعل إلا وقد انتفى فيه شرط العقوبة، أو قد قام به ما يمنعها: لم يقدح هذا في كونه محرما بل نعلم أنه محرم ليجتنبه من يتبين له التحريم ويكون من رحمة الله بمن فعله قيام عذر له وهذا كما أن الصغائر محرمة وإن كانت تقع مكفرة باجتناب الكبائر وهذا شأن جميع المحرمات المختلف فيها فإن تبين أنها حرام - وإن كان قد يعذر من يفعلها مجتهدا أو مقلدا - فإن ذلك لا يمنعنا أن نعتقد تحريمها.
الثاني: أن بيان الحكم سبب لزوال الشبهة المانعة من لحوق العقاب، فإن العذر الحاصل بالاعتقاد ليس المقصود بقاءه بل المطلوب زواله بحسب الإمكان ولولا هذا لما وجب بيان العلم ولكان ترك الناس على جهلهم خيرا لهم ولكان ترك دلائل المسائل المشتبهة خيرا من بيانها.
الثالث: أن بيان الحكم والوعيد سبب لثبات المجتنب على اجتنابه ولولا ذلك لانتشر العمل بها.
الرابع: أن هذا العذر لا يكون عذرا إلا مع العجز عن إزالته وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق فقصر فيها لم يكن معذورا.
الخامس: أنه قد يكون في الناس من يفعله غير مجتهد اجتهادا يبيحه، ولا مقلدا تقليدا يبيحه فهذا الضرب قد قام فيه سبب الوعيد من غير هذا المانع الخاص فيتعرض للوعيد ويلحقه، إلا أن يقوم فيه مانع آخر من توبة أو حسنات ماحية أو غير ذلك ثم هذا مضطرب، قد يحسب الإنسان أن اجتهاده أو تقليده مبيح له أن يفعل ويكون مصيبا في ذلك تارة ومخطئا أخرى لكن متى تحرى الحق ولم يصده عنه اتباع الهوى فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
العاشر: أنه إن كان إبقاء هذه الأحاديث على مقتضياتها مستلزما لدخول بعض المجتهدين تحت الوعيد، وإذا كان لازما على التقديرين بقي الحديث سالما عن المعارض فيجب العمل به. بيان ذلك: أن كثيرا من الأئمة صرحوا بأن فاعل الصورة المختلف فيها ملعون منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه سئل عمن تزوجها ليحلها ولم تعلم بذلك المرأة ولا زوجها فقال: هذا سفاح وليس بنكاح «لعن الله المحلل والمحلل له». وهذا محفوظ عنه من غير وجه، وعن غيره، منهم الإمام أحمد بن حنبل، فإنه قال: إذا أراد الإحلال فهو محلل وهو ملعون وهذا منقول عن جماعات من الأئمة في صور كثيرة من صور الخلاف في الخمر والربا وغيرهما. فإن كانت اللعنة الشرعية وغيرها من الوعيد الذي جاء لم يتناول إلا محل الوفاق: فيكون هؤلاء قد لعنوا من لا يجوز لعنه، فيستحقون من الوعيد الذي جاء في غير حديث مثل قوله ﷺ: «لعن المسلم كقتله» وقوله ﷺ فيما رواه ابن مسعود رضي الله عنه: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» متفق عليهما. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إن الطعانين واللعانين لا يكونون يوم القيامة شفعاء ولا شهداء». وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال «لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا» رواهما مسلم وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء» رواه الترمذي وقال: حديث حسن وفي أثر آخر: «ما من رجل يلعن شيئا ليس له بأهل إلا حارت اللعنة عليه». فهذا الوعيد الذي قد جاء في اللعن - حتى قيل: إن من لعن من ليس بأهل كان هو الملعون وإن هذا اللعن فسوق، وأنه مخرج عن الصديقية والشفاعة والشهادة - يتناول من لعن من ليس بأهل فإذا لم يكن فاعل المختلف فيه داخلا في النص لم يكن أهلا فيكون لاعنه مستوجبا لهذا الوعيد فيكون أولئك المجتهدون الذين رأوا دخول محل الخلاف في الحديث مستوجبين لهذا الوعيد فإذا كان المحذور ثابتا على تقدير إخراج محل الخلاف وتقدير بقائه علم أنه ليس بمحذور ولا مانع من الاستدلال بالحديث وإن كان المحذور ليس ثابتا على واحد من التقديرين فلا يلزم محذور ألبتة، وذلك أنه إذا ثبت التلازم، وعلم أن دخولهم على تقدير الوجود مستلزم لدخولهم على تقدير العدم: فالثابت أحد الأمرين: إما وجود الملزوم واللازم وهو دخولهم جميعا أو عدم اللازم والملزوم وهو عدم دخولهم جميعا، لأنه إذا وجد الملزوم وجد اللازم، وإذا عدم اللازم عدم الملزوم.
وهذا القدر كاف في إبطال السؤال، لكن الذي نعتقده أن الواقع عدم دخولهم على التقديرين على ما تقرر وذلك أن الدخول تحت الوعيد مشروط بعدم العذر في الفعل وأما المعذور عذرا شرعيا فلا يتناوله الوعيد بحال والمجتهد معذور بل مأجور فينتفي شرط الدخول في حقه فلا يكون داخلا سواء اعتقد بقاء الحديث على ظاهره أو أن في ذلك خلافا يعذر فيه وهذا إلزام مفحم لا محيد عنه إلا إلى وجه واحد وهو أن يقول السائل: أنا أسلم أن من العلماء المجتهدين من يعتقد دخول مورد الخلاف في نصوص الوعيد ويوعد على مورد الخلاف بناء على هذا الاعتقاد فيلعن مثلا من فعل ذلك الفعل لكن هو مخطئ في هذا الاعتقاد خطأ يعذر فيه ويؤجر فلا يدخل في وعيد من لعن بغير حق، لأن ذلك الوعيد هو عندي محمول على لعن محرم بالاتفاق فمن لعن لعنا محرما بالاتفاق تعرض للوعيد المذكور على اللعن وإذا كان اللعن من موارد الاختلاف لم يدخل في أحاديث الوعيد كما أن الفعل المختلف في حله ولعن فاعله لا يدخل في أحاديث الوعيد فكما أخرجت محل الخلاف من الوعيد الأول أخرج محل الخلاف من الوعيد الثاني.
وأعتقد أن أحاديث الوعيد في كلا الطرفين لم تشمل محل الخلاف لا في جواز الفعل ولا في جواز لعنة فاعله سواء اعتقد جواز الفعل أو عدم جوازه فإني على التقديرين لا أجوز لعنة فاعله ولا أجوز لعنة من لعن فاعله ولا أعتقد الفاعل ولا اللاعن داخلا في حديث وعيد ولا أغلظ على اللاعن إغلاظ من يراه متعرضا للوعيد بل لعنه لمن فعل المختلف فيه عندي من جملة مسائل الاجتهاد وأنا أعتقد خطأه في ذلك كما قد أعتقد خطأ المبيح فإن المقالات في محل الخلاف ثلاثة:
أحدها: القول بالجواز.
والثاني: القول بالتحريم ولحوق الوعيد.
والثالث: القول بالتحريم الخالي من هذا الوعيد الشديد. وأنا قد أختار هذا القول الثالث: لقيام الدليل على تحريم الفعل وعلى تحريم لعنة فاعل المختلف فيه مع اعتقادي أن الحديث الوارد في توعد الفاعل وتوعد اللاعن لم يشمل هاتين الصورتين. فيقال للسائل: إن جوزت أن تكون لعنة هذا الفاعل من مسائل الاجتهاد جاز أن يستدل عليها بالظاهر المنصوص، فإنه حينئذ لا أمان من إرادة محل الخلاف من حديث الوعيد والمقتضي لإرادته قائم فيجب العمل به، وإن لم تجوز أن يكون من مسائل الاجتهاد كان لعنه محرما تحريما قطعيا.
ولا ريب أن من لعن مجتهدا لعنا محرما تحريما قطعيا كان داخلا في الوعيد الوارد للاعن وإن كان متأولا كمن لعن بعض السلف الصالح فثبت أن الدور لازم سواء قطعت بتحريم لعنة فاعل المختلف فيه أو سوغت الاختلاف فيه وذلك الاعتقاد الذي ذكرته لا يدفع الاستدلال بنصوص الوعيد على التقديرين وهذا بين.
ويقال له أيضا: ليس مقصودنا بهذا الوجه تحقيق تناول الوعيد لمحل الخلاف وإنما المقصود تحقيق الاستدلال بحديث الوعيد على محل الخلاف والحديث أفاد حكمين: التحريم والوعيد وما ذكرته إنما يتعرض لنفي دلالته على الوعيد فقط والمقصود هنا إنما هو بيان دلالته على التحريم فإذا التزمت أن الأحاديث المتوعدة للاعن لا تتناول لعنا مختلفا فيه: لم يبق في اللعن المختلف فيه دليل على تحريمه وما نحن فيه من اللعن المختلف فيه كما تقدم فإذا لم يكن حراما كان جائزا.
أو يقال: فإذا لم يقم دليل على تحريمه لم يجز اعتقاد تحريمه والمقتضي لجوازه قائم وهي الأحاديث اللاعنة لمن فعل هذا وقد اختلف العلماء في جواز لعنته ولا دليل على تحريم لعنته على هذا التقدير فيجب العمل بالدليل المقتضي لجواز لعنته السالم عن المعارض.
وهذا يبطل السؤال: فقد دار الأمر على السائل من جهة أخرى وإنما جاء هذا الدور الآخر لأن عامة النصوص المحرمة للعن متضمنة للوعيد فإن لم يجز الاستدلال بنصوص الوعيد على محل الخلاف لم يجز الاستدلال بها على لعن مختلف فيه كما تقدم.
ولو قال: أنا أستدل على تحريم هذه اللعنة بالإجماع.
قيل له: الإجماع منعقد على تحريم لعنة معين من أهل الفضل أما لعنة الموصوف فقد عرفت الخلاف فيه وقد تقدم أن لعنة الموصوف لا تستلزم إصابة كل واحد من أفراده إلا إذا وجدت الشروط وارتفعت الموانع وليس الأمر كذلك. ويقال له أيضا: كل ما تقدم من الأدلة الدالة على منع حمل هذه الأحاديث على محل الوفاق ترد هنا وهي تبطل هذا السؤال هنا كما أبطلت أصل السؤال وليس هذا من باب جعل الدليل مقدمة من مقدمات دليل آخر حتى يقال: هذا مع التطويل إنما هو دليل واحد إذ المقصود منه أن نبين أن المحذور الذي ظنوه هو لازم على التقديرين فلا يكون محذورا فيكون دليل واحد قد دل على إرادة محل الخلاف من النصوص، وعلى أنه لا محذور في ذلك وليس بمستنكر أن يكون الدليل على مطلوب مقدمة في دليل مطلوب آخر وإن كان المطلوبان متلازمين.
الحادي عشر: أن العلماء متفقون على وجوب العمل بأحاديث الوعيد فيما اقتضته من التحريم فإنما خالف بعضهم في العمل بآحادها في الوعيد خاصة فأما في التحريم فليس فيه خلاف معتد محتسب وما زال العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم رضي الله عنهم أجمعين في خطابهم وكتابهم يحتجون بها في موارد الخلاف وغيره بل إذا كان في الحديث وعيد كان ذلك أبلغ في اقتضاء التحريم على ما تعرفه القلوب وقد تقدم أيضا التنبيه على رجحان قول من يعمل بها في الحكم واعتقاد الوعيد وأنه قول الجمهور، وعلى هذا فلا يقبل سؤال يخالف الجماعة.
الثاني عشر: أن نصوص الوعيد من الكتاب والسنة كثيرة جدا والقول بموجبها واجب على وجه العموم والإطلاق من غير أن يعين شخص من الأشخاص فيقال: هذا ملعون ومغضوب عليه أو مستحق للنار لا سيما إن كان لذلك الشخص فضائل وحسنات، فإن من سوى الأنبياء تجوز عليهم الصغائر والكبائر مع إمكان أن يكون ذلك الشخص صديقا أو شهيدا أو صالحا، لما تقدم أن موجب الذنب يتخلف عنه بتوبة أو استغفار أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة أو لمحض مشيئته ورحمته.
فإذا قلنا بموجب قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [1]، وقوله تعالى: { وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [2]، وقوله تعالى: { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا } [3]، إلى غير ذلك من آيات الوعيد. أو قلنا بموجب قوله ﷺ: «لعن الله من شرب الخمر أو عق والديه أو من غير منار الأرض» أو «لعن الله السارق» أو «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه» أو «لعن الله لاوي الصدقة والمعتدي فيها» أو «من أحدث في المدينة حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» أو «من جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه يوم القيامة» أو «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»، و«من غشنا فليس منا» أو «من ادعي إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فالجنة عليه حرام» أو «من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» أو «من استحل مال امرئ مسلم بيمين كاذبة فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة» أو «لا يدخل الجنة قاطع» إلى غير ذلك من أحاديث الوعيد. لم يجز أن نعين شخصا ممن فعل بعض هذه الأفعال ونقول: هذا المعين قد أصابه هذا الوعيد، لإمكان التوبة وغيرها من مسقطات العقوبة ولم يجز أن نقول: هذا يستلزم لعن المسلمين، ولعن أمة محمد ﷺ أو لعن الصديقين أو الصالحين، لأنه يقال: الصديق والصالح متى صدرت منه بعض هذه الأفعال فلا بد من مانع يمنع لحوق الوعيد به مع قيام سببه ففعل هذه الأمور ممن يحسب أنها مباحة باجتهاد أو تقليد أو نحو ذلك غايته أن يكون نوعا من أنواع الصديقين الذين امتنع لحوق الوعيد بهم لمانع كما امتنع لحوق الوعيد به لتوبة أو حسنات ماحية أو غير ذلك.
واعلم أن هذه السبيل هي التي يجب سلوكها، فإن ما سواها طريقان خبيثان:
أحدهما: القول بلحوق الوعيد لكل فرد من الأفراد بعينه ودعوى أن هذا عمل بموجب النصوص، وهذا أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب والمعتزلة وغيرهم وفساده معلوم بالاضطرار وأدلته معلومة في غير هذا الموضع.
الثاني: ترك القول والعمل بموجب أحاديث رسول الله ﷺ، ظنا أن القول بموجبها مستلزم للطعن فيما خالفها.
وهذا الترك يجر إلى الضلال واللحوق بأهل الكتابين الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم فإن النبي ﷺ قال: «لم يعبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فاتبعوهم وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم» ويفضي إلى طاعة المخلوق في معصية الخالق ويفضي إلى قبح العاقبة وسوء التأويل المفهوم من فحوى قوله تعالى: { أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } [4]. ثم إن العلماء يختلفون كثيرا، فإن كان كل خبر فيه تغليظ خالفه مخالف ترك القول بما فيه من التغليظ أو ترك العمل به مطلقا لزم من هذا من المحذور ما هو أعظم من أن يوصف: من الكفر والمروق من الدين وإن لم يكن المحذور من هذا أعظم من الذي قبله لم يكن دونه فلا بد أن نؤمن بالكتاب ونتبع ما أنزل إلينا من ربنا جميعه ولا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض وتلين قلوبنا لاتباع بعض السنة وتنفر عن قبول بعضها بحسب العادات والأهواء فإن هذا خروج عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم والضالين.
والله يوفقنا لما يحبه ويرضاه من القول والعمل في خير وعافية لنا ولجميع المسلمين. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتخبين وأزواجه أمهات المؤمنين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
هامش
[النساء: 59]
[النساء: 10]
[النساء: 14]
[النساء: 29، 30]
=====
سئل عن الشيخ عبد القادر والإمام أحمد
وسئل: عن الشيخ عبد القادر أنه أفضل المشايخ والإمام أحمد أنه أفضل الأئمة فهل هذا صحيح أم لا؟
فأجاب: أما ترجيح بعض الأئمة والمشايخ على بعض، مثل من يرجح إمامه الذي تفقه على مذهبه، أو يرجح شيخه الذي اقتدى به على غيره، كمن يرجح الشيخ عبد القادر أو الشيخ أبا مدين، أو أحمد أو غيرهم: فهذا الباب أكثر الناس يتكلمون فيه بالظن وما تهوى الأنفس، فإنهم لا يعلمون حقيقة مراتب الأئمة والمشايخ ولا يقصدون اتباع الحق المطلق بل كل إنسان تهوى نفسه أن يرجح متبوعه فيرجحه بظن يظنه وإن لم يكن معه برهان على ذلك وقد يفضي ذلك إلى تحاجهم وقتالهم وتفرقهم وهذا مما حرم الله ورسوله كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [1]، قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدع والفرقة. فما دخل في هذا الباب مما نهى الله عنه ورسوله من التعصب والتفرق والاختلاف والتكلم بغير علم: فإنه يجب النهي عنه فليس لأحد أن يدخل فيما نهى الله عنه ورسوله وأما من ترجح عنده فضل إمام على إمام أو شيخ على شيخ بحسب اجتهاده كما تنازع المسلمون: أيهما أفضل الترجيع في الأذان أو تركه؟ أو إفراد الإقامة أو تثنيتها؟ وصلاة الفجر بغلس أو الإسفار بها؟ والقنوت في الفجر أو تركه؟ والجهر بالتسمية، أو المخافتة بها، أو ترك قراءتها؟ ونحو ذلك: فهذه مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والأئمة فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده من كان فيها أصاب الحق فله أجران ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر وخطؤه مغفور له فمن ترجح عنده تقليد الشافعي لم ينكر على من ترجح عنده تقليد مالك ومن ترجح عنده تقليد أحمد لم ينكر على من ترجح عنده تقليد الشافعي ونحو ذلك. ولا أحد في الإسلام يجيب المسلمين كلهم بجواب عام: أن فلانا أفضل من فلان فيقبل منه هذا الجواب، لأنه من المعلوم أن كل طائفة ترجح متبوعها فلا تقبل جواب من يجيب بما يخالفها فيه كما أن من يرجح قولا أو عملا لا يقبل قول من يفتي بخلاف ذلك لكن إن كان الرجل مقلدا فليكن مقلدا لمن يترجح عنده أنه أولى بالحق فإن كان مجتهدا اجتهد واتبع ما يترجح عنده أنه الحق ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقد قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [2]، لكن عليه أن لا يتبع هواه ولا يتكلم بغير علم قال تعالى: { هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ } [3]، وقال تعالى { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } [4]، وما من إمام إلا له مسائل يترجح فيها قوله على قول غيره ولا يعرف هذا التفاضل إلا من خاض في تفاصيل العلم والله أعلم.
=========
=============
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق