Translate

الثلاثاء، 26 أبريل 2022

كتاب الكبائر لمحمد بن عثمان الذهبي

كتاب الكبائر لمحمد بن عثمان الذهبي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و لا عدوان إلا على الظالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد سيد المرسلين و إمام المتقين و على آله و صحبه أجمعين أما بعد فهذا كتاب مشتمل على ذكر جمل في الكبائر و المحرمات و المنهيات الكبائر
الكبائر : ما نهى الله و رسوله عنه في الكتاب و السنة و الأثر عن السلف الصالحين و قد ضمن الله تعالى في كتابه العزيز لمن اجتنب الكبائر و المحرمات أن يكفر عنه الصغائر من السيئات لقوله تعالى :
{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم و ندخلكم مدخلا كريما }
فقد تكفل الله تعالى بهذا النص لمن اجتنب الكبائر أن يدخله الجنة
و قال تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش و إذا ما غضبوا هم يغفرون } و قال تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة }
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الصلوات الخمسة و الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ] فتعين علينا الفحص عن الكبائر ما هي لكي يجتنبها المسلمون فوجدنا العلماء رحمهم الله تعالى قد اختلفوا فيها فقيل هي سبع و احتجوا بقول النبي صلى الله تعالى عليه و على آله و سلم [ اجتنبوا السبع الموبقات ] فذكر منها الشرك بالله و السحر و قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق و أكل مال اليتيم و أكل الربا و التولي يوم الزحف و قذف المحصنات الغافلات المؤمنات متفق عليه و قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع و صدق و الله ابن عباس و أما الحديث فما فيه حصر الكبائر و الذي يتجه و يقوم عليه الدليل أن من ارتكب شيئا من هذه العظائم مما فيه حد في الدنيا كالقتل و الزنا و السرقة أو جاء فيه وعيد في الآخرة من عذاب أو غضب أو تهديد أو لعن فاعله على لسان نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فإنه كبيرة و لا بد من تسليم أن بعض الكبائر أكبر من بعض ألا ترى أنه صلى الله عليه و سلم عد الشرك بالله من الكبائر مع أن مرتكبه مخلد في النار و لا يغفر له أبدا قال الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء }
الكبيرة الأولى : الشرك بالله فأكبر الكبائر الشرك بالله تعالى و هو نوعان : أحدهما ـ أن يجعل لله ندا و يعبد غيره من حجر أو شجر أو شمس أو قمر أو نبي أو شيخ أو نجم أو ملك أو غير ذلك و هذا هو الشرك الأكبر الذي ذكره الله عز و جل قال الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء } و قال الله تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } و قال الله تعالى : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار }
و الآيات في ذلك كثيرة
فمن أشرك بالله ثم مات مشركا فهو من أصحاب النار قطعا كما أن من آمن بالله و مات مؤمنا فهو من أصحاب الجنة و إن عذب بالنار و في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ـ ثلاثا ـ قالوا : بلى يا رسول الله قال : الإشراك بالله و عقوق الوالدين و كان متكئا فجلس فقال : ألا و قول الزور ألا و شهادة الزور ] فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت و قال صلى الله عليه و سلم [ اجتنبوا السبع الموبقات ] فذكر منها الشرك بالله و قال صلى الله عليه و سلم [ من بدل دينه فاقتلوه ] الحديث
و النوع الثاني من الشرك : الرياء بالأعمال كما قال الله تعالى : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا }
أي لا يرائي بعمله أحدا و قال صلى الله عليه و سلم : [ إياكم و الشرك الأصغر قالوا يا رسول الله و ما الشرك الأصغر ؟ قال : الرياء يقول الله تعالى يوم يجازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤونهم بأعمالكم في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ] و قال صلى الله عليه و سلم [ يقول الله : من عمل عملا أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك و أنا منه بريء ] و قال [ من سمع سمع الله به و من رايا رايا الله به ] و عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه و آله و سلم قال : [ رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع و العطش و رب قائم ليس له من قيامه إلا السهر ] يعني أنه إذا لم يكن الصلاة و الصوم لوجه الله تعالى فلا ثواب له كما روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ مثل الذي يعمل للرياء و السمعة كمثل الذي يملأ كيسه حصى ثم يدخل السوق ليشتري به فإذا فتحه قدام البائع فإذا هو حصى و ضرب به وجهه و لا منفعة له في كيسه سوى مقالة الناس له ما أملا كيسه و لا يعطي به شيئا فكذلك الذي يعمل للرياء و السمعة فليس له من عمله سوى مقالة الناس و لا ثواب له في الآخرة ] قال الله تعالى : { و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } يعني الأعمال التي عملوها لغير وجه الله تعالى أبطلنا ثوابها و جعلناها كالهباء المنثور و هو الغبار الذي يرى في شعاع الشمس و روى عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يؤمر بفئام ـ أي بجماعات ـ من الناس يوم القيامة إلى الجنة حتى إذا دنوا منها و استنشقوا رائحتها و نظروا إلى قصورها و إلى ما أعد لأهلها فيها نودوا أن اصرفوهم عنها فإنهم لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة و ندامة ما رجع الأولون و الآخرون بمثلها فيقولون : ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثواب ما أعددت لأوليائك كان أهون علينا فيقول الله تعالى : ذلك ما أردت بكم كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظام و إذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤون الناس بأعمالكم خلاف ما تعطوني من قلوبكم هبتم الناس و لم تهابوني و أجللتم الناس و لم تجلوني و تركتم للناس و لم تتركوا لي ـ يعني لأجل الناس ـ فاليوم أذيقكم أليم عقابي مع ما حرمتكم من جزيل ثوابي ] و سأل رجل رسول الله ما النجاة ؟ فقال صلى الله عليه و سلم : [ أن لا تخادع الله قال : و كيف يخادع الله ؟ قال : أن تعمل عملا أمرك الله و رسوله به و تريد به غير وجه الله و اتق الرياء فإنه الشرك الأصغر و إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء : يا مرائي يا غادر يا فاجر يا خاسر ضل عملك و بطل أجرك فلا أجر لك عندنا اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع ] و سئل بعض الحكماء رحمهم الله من المخلص : فقال : المخلص الذي يكتم حسانته كما يكتم سيئاته و قيل لبعضهم : ما غاية الإخلاص ؟ قال : أن لا تحب محمدة الناس و قال الفضيل بن عباس رضي الله عنه : ترك العمل لأجل الناس رياء و العمل لأجل الناس شرك و الإخلاص أن يعافيك الله منهما اللهم عافنا منهما و اعف عنا
الكبيرة الثانية : قتل النفس قال تعالى : { و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه و أعد له عذابا عظيما } و قال تعالى : { و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر و لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق و لا يزنون و من يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا * إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا } و قال تعالى : { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } و قال تعالى : { و إذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت } و قال النبي صلى الله عليه و سلم [ اجتنبوا السبع الموبقات ] فذكر قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق و قال رجل للنبي صلى الله عليه و سلم : أي ذنب أعظم عند الله تعالى ؟ قال : [ أن تجعل لله ندا و هو خلقك قال : ثم أي ؟ قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال : ثم أي ؟ قال أن تزاني حليلة جارك ] فأنزل الله تعالى تصديقها : { و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر و لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق و لا يزنون } الآية و قال صلى الله عليه و سلم [ إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل و المقتول في النار ] قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال [ لأنه كان حريصا على قتل صاحبه ]
قال الإمام أبو سليمان رحمه الله : هذا إنما يكون كذلك إذا لم يكونا يقتتلان على تأويل إنما على عداوة بينهما و عصبية أو طلب دنيا أو رئاسة أو علو فأما من قاتل أهل البغي على الصفة التي يجب قتالهم بها أو دفع عن نفسه أو حريمه فإنه لا يدخل في هذه لأنه مأمور بالقتال للذب عن نفسه غير قاصد به قتل صاحبه إلا إن كان حريصا على قتل صاحبه و من قاتل باغيا أو قاطع طريق من المسلمين فإنه لا يحرص على قتله إنما يدفعه عن نفسه فإن انتهى صاحبه كف عنه و لم يتبعه فإن الحديث لم يرد في أهل هذه الصفة فأما من خالف هذا النعت فهو الذي يدخل في هذا الحديث الذي ذكرنا و الله أعلم
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما ] و قال صلى الله عليه و آله و سلم أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء و في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ الكبائر الإشراك بالله و قتل النفس و اليمين الغموس ] و سميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في النار و قال صلى الله عليه و سلم : [ لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل ] مخرج في الصحيحين و قال صلى الله عليه و سلم [ من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة و إن رائحتها لتوجد من مسيرة أربعين عاما ] أخرجه البخاري
فإذا كان هذا في قتل المعاهد ـ و هو الذي أعطى عهدا من اليهود و النصارى في دار الإسلام ـ فكيف يقتل المسلم و قال صلى الله عليه و سلم [ ألا و من قتل نفسا معاهدة لها ذمة الله و ذمة رسوله فقد أخفر ذمة الله و لا يرح رائحة الجنة و إن ريحها ليوجد من مسيرة خمسين خريفا ] صححه الترمذي و قال صلى الله عليه و سلم [ من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله تعالى ] رواه الإمام أحمد و عن معاوية رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا ] نسأل الله العافية
الكبيرة الثالثة : في السحر لأن الساحر لا بد و أن يكفر قال الله تعالى :
{ و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } و ما للشيطان الملعون غرض في تعليمه الإنسان السحر إلا ليشرك به قال الله تعالى مخبرا عن هاروت و ماروت :
{ و ما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء و زوجه و ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله و يتعلمون ما يضرهم و لا ينفعهم و لقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } أي من نصيب
فترى خلقا كثيرا من الضلال يدخلون في السحر و يظنونه حراما فقط و ما يشعرون أنه الكفر فيدخلون في تعليم السيمياء و عملها و هي محض السحر و في عقد الرجل عن زوجته و هو سحر و في محبة الرجل للمرأة و بغضها له و أشباه ذلك بكلمات مجهولة أكثرها شرك و ضلال
و حد الساحر : القتل لأنه كفر بالله أو مضارع الكفر قال النبي صلى الله عليه و سلم [ اجتنبوا السبع الموبقات ] فذكر منها السحر و الموبقات المهلكات فليتق العبد ربه و لا يدخل فيما يخسر به الدنيا و الآخرة و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ حد الساحر ضربه بالسيف ] و الصحيح أنه من قول جندب و عن بجالة بن عبدة أنه قال : أتانا كتاب عمر رضي الله عنه قبل موته بسنة أن اقتلوا كل ساحر و ساحرة و عن وهب بن منبه قال : قرأت في بعض الكتب : يقول الله عز و جل لا إله إلا أنا ليس مني من سحر و لا من سحر له و لا من تكهن له و لا من تطير و لا من تطير له و عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاثة لا يدخلون الجنة : مدمن خمر و قاطع رحم و مصدق بالسحر ] رواه الإمام أحمد في مسنده و عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا قال : [ الرقي و التمائم و التولة شرك ] التمائم : جمع تميمة و هي خرزات و حروز يعلقها الجهال على أنفسهم و أولادهم و دوابهم يزعمون أنها ترد العين و هذا من فعل الجاهلية و من اعتقد ذلك فقد أشرك و التولة بكسر التاء و فتح الواو : نوع السحر و هو تحبيب المرأة إلى زوجها و جعل ذلك من الشرك لاعتقاد الجهال أن ذلك يؤثر بخلاف ما قدر الله تعالى قال الخطابي رحمه الله : و أما إذا كانت الرقية بالقرآن أو بأسماء الله تعالى فهي مباحة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يرقي الحسن و الحسين رضي الله عنهما فيقول : [ أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان و هامة و من كل عين لامة ] و بالله المستعان و عليه التكلان
الكبيرة الرابعة : في ترك الصلاة قال الله تعالى : { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا * إلا من تاب و آمن و عمل صالحا }
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس معنى أضاعوها تركوها بالكلية و لكن أخروها عن أوقاتها و قال سعيد بن المسيب إمام التابعين رحمه الله : هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر و لا يصلي العصر إلى المغرب و لا يصلي المغرب إلى العشاء و لا يصلي العشاء إلى الفجر و لا يصلي الفجر إلى طلوع الشمس فمن مات و هو مصر على هذه الحالة و لم يتب وعده الله بغي و هو واد في جهنم بعيد قعره خبيث طعمه و قال الله تعالى في آية أخرى : { فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون } أي غافلون عنها متهاونون بها و قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون قال : [ هو تأخير الوقت ] أي تأخير الصلاة عن وقتها سماهم مصلين لكنهم لما تهاونوا و أخروها عن وقتها وعدهم بويل و هو شدة العذاب و قيل : هو واد بجهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره و هو مسكن من يتهاون بالصلاة و يؤخرها عن وقتها إلا أن يتوب إلى الله و يندم على ما فرط و قال الله تعالى في آية أخرى : { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم و لا أولادكم عن ذكر الله و من يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون }
قال المفسرون : المراد بذكر الله في هذه الآية الصلوات الخمس فمن اشتغل بماله في بيعه و شرائه و معيشته و ضيعته و أولاده عن الصلاة في وقتها كان من الخاسرين و هكذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة فإن صلحت فقد أفلح و أنجح و إن نقصت فقد خاب و خسر ]
و قال الله تعالى مخبرا عن أصحاب الجحيم :
{ ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * و لم نك نطعم المسكين * و كنا نخوض مع الخائضين * و كنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين * فما تنفعهم شفاعة الشافعين }
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ العهد الذي بيننا و بينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ بين العبد و بين الكفر ترك الصلاة ] حديثان صحيحان
و في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من فاتته صلاة العصر حبط عمله ] و في السنن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله و يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهم على الله ] متفق عليه و قال صلى الله عليه و سلم : [ من حافظ عليها كانت له نورا و برهانا و نجاة يوم القيامة و من لم يحافظ عليها لم تكن له نورا و لا برهانا و لا نجاة يوم القيامة و كان يوم القيامة مع فرعون و قارون و هامان و أبي بن خلف ]
و قال عمر رضي الله عنه : أما أنه لا حظ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة
قال بعض العلماء رحمهم الله : و إنما يحشر تارك الصلاة مع هؤلاء الأربعة لأنه إنما يشتغل عن الصلاة بماله أو بملكه أو بوزارته أو بتجارته فإن اشتغل بماله حشر مع قارون و إن اشتغل بملكه حشر مع فرعون و إن اشتغل بوزارته حشر مع هامان و إن اشتغل بتجارته حشر مع أبي بن خلف تاجر الكفار بمكة و روى الإمام أحمد [ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله عز و جل ]
و روى البيهقي بإسناده : [ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله تعالى في الإسلام ؟ قال الصلاة لوقتها و من ترك الصلاة فلا دين له و الصلاة عماد الدين ] و لما طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له : الصلاة يا أمير المؤمنين قال : نعم أما إنه لا حظ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة و صلى رضي الله عنه و جرحه يثعب دما و قال عبد الله بن شقيق التابعي رضي الله عنه : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يرون من الأعمال تركه كفر غير الصلاة و سئل علي رضي الله عنه عن امرأة لا تصلي فقال : من لم يصلي فهو كافر و قال ابن مسعود رضي الله عنه من لم يصل فلا دين له و قال ابن عباس رضي الله عنهما : من ترك صلاة واحدة متعمدا لقي الله تعالى و هو عليه غضبان و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لقي الله و هو مضيع للصلاة لم يعبأ الله بشيء من حسناته ـ أي ما يفعل و ما يصنع بحسناته ـ إذا كان مضيعا للصلاة ] و قال ابن حزم : لا ذنب بعد الشرك أعظم من تأخير الصلاة عن وقتها و قتل مؤمن بغير حق و قال إبراهيم النخعي : من ترك الصلاة فقد كفر و قال أيوب السختياني مثل ذلك و قال عون بن عبد الله : إن العبد إذا أدخل قبره سئل عن الصلاة أول شيء يسأل عنه فإن جازت له نظر فيما دون ذلك من عمله و إن لم تجز له لم ينظر في شيء من عمله بعد و قال صلى الله عليه و سلم : [ إذا صلى العبد الصلاة في أول الوقت صعدت إلى السماء و لها نور حتى تنتهي إلى العرش فتستغفر لصاحبها إلى يوم القيامة و تقول : حفظك الله كما حفظتني و إذا صلى العبد الصلاة في غير وقتها صعدت إلى السماء و عليها ظلمة فإذا انتهت إلى السماء تلف كما يلف الثوب الخلق و يضرب بها وجه صاحبها و تقول : ضيعك الله كما ضيعتني ] و روى أبو داود في سننه :
[ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاتهم ـ من تقدم قوما و هم له كارهون و من استعبد محررا و رجل أتى الصلاة دبارا ] و الدبار أن يأتيها بعد أن تفوته و جاء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا عظيما من أبواب الكبائر ] فنسأل الله التوفيق و الإعانة إنه جواد كريم و أرحم الراحمين
فصل ـ متى يؤمر الصبي بالصلاة :
روى أبو داود في السنن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها ] و في رواية : [ مروا أولادكم بالصلاة و هم أبناء سبع و اضربوهم عليها و هم أبناء عشر و فرقوا بينهم في المضاجع ]
قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله : هذا الحديث يدل على إغلاظ العقوبة له إذا بلغ تاركا لها
و كان بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يحتج به في وجوب قتله إذا تركها متعمدا بعد البلوغ و يقول : إذا استحق الضرب و هو غير بالغ فيدل على أنه يستحق بعد البلوغ من العقوبة ما هو أبلغ من الضرب و ليس بعد الضرب شيء أشد من القتل
و قد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم تارك الصلاة فقال مالك و الشافعي و أحمد رحمهم الله : تارك الصلاة يقتل ضربا بالسيف في رقبته ثم اختلفوا في كفره إذا تركها من غير عذر حتى يخرج وقتها فقال إبراهيم النخعي و أيوب السختياني و عبد الله بن المبارك و أحمد بن حنبل و اسحاق بن راهوية : هو كافر و استدلوا بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ العهد الذي بيننا و بينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ] و بقوله صلى الله عليه و سلم : [ بين الرجل و بين الكفر ترك الصلاة ]
فصل
و قد ورد في الحديث : [ أن من حافظ على الصلوات المكتوبة أكرمه الله تعالى بخمس كرامات يرفع عنه ضيق العيش و عذاب القبر و يعطيه كتابه بيمينه و يمر على الصراط كالبرق الخاطف و يدخل الجنة بغير حساب ] و من تهاون بها عاقبه الله بخمس عشرة عقوبة خمس في الدنيا و ثلاث عند الموت و ثلاث في القبر و ثلاث عند خروجه من القبر فأما اللاتي في الدنيا : فالأولى : ينزع البركة من عمره و الثانية : يمحي سيماء الصالحين من وجهه و الثالثة : كل عمل يعمله لا يأجره الله عليه و الرابعة : لا يرفع له دعاء إلى السماء و الخامسة : ليس له حظ في دعاء الصالحين و أما اللاتي تصيبه عند الموت فإنه يموت ذليلا و الثانية : يموت جائعا و الثالثة : يموت عطشانا و لو سقي بحار الدنيا ما روي من عطشه و أما اللاتي تصيبه في قبره فالأولى : يضيق عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه و الثانية : يوقد عليه القبر نارا يتقلب على الجمر ليلا و نهارا و الثالثة : يسلط عليه في قبره ثعبان اسمه الشجاع الأقرع عيناه من نار و أظفاره من حديد طول كل ظفر مسيرة يوم يكلم الميت فيقول أنا الشجاع الأقرع و صوته مثل الرعد القاصف يقول : أمرني ربي أن أضربك على تضييع صلاة الصبح إلى طلوع الشمس و أضربك على تضييع صلاة الظهر إلى العصر و أضربك على تضييع صلاة العصر إلى المغرب و أضربك على تضييع صلاة المغرب إلى العشاء و أضربك على تضييع صلاة العشاء إلى الصبح فكلما ضربه ضربة يغوص في الأرض سبعين ذراعا فلا يزال في الأرض معذبا إلى يوم القيامة و أما اللاتي تصيبه عند خروجه من قبره في موقف القيامة فشدة الحساب و سخط الرب و دخول النار و في رواية : فإنه يأتي يوم القيامة و على وجهه ثلاثة أسطر مكتوبات السطر الأول : يا مضيع حق الله السطر الثاني : يا مخصوصا بغضب الله السطر الثالث : كما ضيعت في الدنيا حق الله فآيس اليوم من رحمة الله و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا كان يوم القيامة يؤتى بالرجل فيوقف بين يدي الله عز و جل فيأمر به إلى النار فيقول : يا رب لماذا ؟ فيقول الله تعالى : لتأخير الصلاة عن أوقاتها و حلفك بي كاذبا
وعن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال يوما لأصحابه : [ اللهم لا تدع فينا شقيا و لا محروما ] ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ أتدرون من الشقي المحروم ؟ قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : تارك الصلاة ]
و روي أنه أول من يسود يوم القيامة وجوه تاركي الصلاة و أن في جهنم واديا يقال له الملحم فيه حيات كل حية ثخن رقبة البعير طولها مسيرة شهر تلسع تارك الصلاة فيغلي سمها في جسمه سبعين سنة ثم يتهرى لحمه
حكاية : روي أن امرأة من بني إسرائيل جاءت إلى موسى عليه السلام فقالت : يا رسول الله إني أذنبت ذنبا عظيما و قد تبت منه إلى الله تعالى فادع الله أن يغفر لي ذنبي و يتوب علي : فقال لها موسى عليه السلام : و ما ذنبك ؟ قالت : يا نبي الله إني زنيت و ولدت ولدا فقتلته فقال لها موسى عليه السلام : اخرجي يا فاجرة لا تنزل نار من السماء فتحرقنا بشؤمك فخرجت من عنده منكسرة القلب فنزل جبريل عليه السلام و قال : يا موسى الرب تعالى يقول لك لما رددت التائبة يا موسى أما وجدت شرا منها قال موسى : يا جبريل و من هو شر منها ؟ قال : تارك الصلاة عامدا متعمدا
حكاية أخرى عن بعض السلف أنه أتى أختا له ماتت فسقط كيس منه فيه مال في قبرها فلم يشعر به أحد حتى انصرف عن قبرها ثم ذكره فرجع إلى قبرها فنبشه بعدما انصرف الناس فوجد القبر يشعل عليها نارا فرد التراب عليها و رجع إلى أمه باكيا حزينا فقال : يا أماه أخبريني عن أختي و ما كانت تعمل ؟ قالت : و ما سؤالك عنها ؟ قال : يا أمي رأيت قبرها يشتعل عليها نارا قال : فبكت و قالت يا ولدي كانت أختك تتهاون بالصلاة و تؤخرها عن وقتها فهذا حال من يؤخر الصلاة عن وقتها فكيف حال من لا يصلي ؟ فنسأل الله تعالى أن يعيننا على المحافظة عليها في أوقاتها إنه جواد كريم
فصل : في عقوبة من ينقر الصلاة و لا يتم ركوعها و لا سجودها و قد روي في تفسير قول الله تعالى : { فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون } أنه الذي ينقر الصلاة و لا يتم ركوعها و لا سجودها
و ثبت في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رجلا دخل المسجد و رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس فيه فصلى الرجل ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فرد عليه السلام ثم قال له : ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع فصلى كما صلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فرد عليه السلام ثم قال : ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع فصلى كما صلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فرد عليه السلام و قال : ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاث مرات فقال في الثالثة : و الذي بعثك بالحق يا رسول الله ما أحسن غيره فعلمني فقال صلى الله عليه و سلم : إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا و افعل ذلك في صلاتك كلها ] و روى الإمام أحمد رضي الله عنه عن البدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع و السجود ] و رواه أبو داود أيضا و الترمذي و قال : حديث حسن صحيح و في رواية أخرى : [ حتى يقيم ظهره في الركوع و السجود ]
و هذا نص عن النبي صلى الله عليه و سلم في أن من صلى و لم يقم ظهره بعد الركوع و السجود كما كان فصلاته باطلة و هذا في صلاة الفرض و كذا الطمأنينة أن يستقر كل عضو في موضعه
و ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أشد الناس سرقة الذي يسرق من صلاته : قيل و كيف يسرق من صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها و لا سجودها و لا القراءة فيها ]
و روى الإمام أحمد [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه و سجوده ]
و قال صلى الله عليه و سلم : [ تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ]
و عن أبي موسى قال : صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما بأصحابه ثم جلس فدخل رجل فقام يصلي فجعل يركع و ينقر سجوده فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ترون هذا لو مات مات على غير ملة محمد صلى الله عليه و آله و سلم ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم ! ] أخرجه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه
و عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من مصل إلا و ملك عن يمينه و ملك عن يساره فإن أتمها عرجا بها إلى الله تعالى و إن لم يتمها ضربا بها وجهه ]
و روى البيهقي بسنده عن [ عبادة بن الصامت : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من توضأ أحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة فأتم ركوعها و سجودها و القراءة فيها قالت الصلاة : حفظك الله كما حفظتني ثم صعد بها إلى السماء و لها ضوء و نور ففتحت لها أبواب السماء حتى ينتهي بها إلى الله تعالى فتشفع لصاحبها و إذا لم يتم ركوعها و لا سجودها و لا القراءة فيها قالت الصلاة : ضيعك الله كما ضيعتني ثم صعد بها إلى السماء و عليها ظلمة فأغلقت دونها أبواب السماء ثم تلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها ]
و [ عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الصلاة مكيال فمن وفي وفي له و من طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين : قال الله تعالى : { ويل للمطففين } و المطفف هو المنقص للكيل أو الوزن أو الذراع أو الصلاة وعدهم الله بويل و هو واد في جهنم تستغيث جهنم من حره نعوذ بالله منه ]
و [ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا سجد أحدكم فليضع وجهه و أنفه و يديه على الأرض فإن الله تعالى أوحى إلي أن أسجد على سبعة أعضاء : الجبهة و الأنف و الكفين و الركبتين و صدور القدمين و أن لا أكف شعرا و لا ثوبا فمن صلى و لم يعطي كل عضو منها حقه لعنه ذلك العضو حتى يفرغ من صلاته ]
و روى البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه رأى رجلا يصلي و لا يتم ركوع الصلاة و لا سجودها فقال له حذيفة صليت و لو مت و أنت تصلي هذه الصلاة مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه و سلم
و في رواية أبي داود أنه قال : منذ كم تصلي هذه الصلاة ؟ قال : منذ أربعين سنة قال : ما صليت منذ أربعين سنة شيئا و لو مت مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه و آله سلم !
و كان الحسن البصري يقول : يقول يا ابن آدم أي شيء يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك و أنت أول ما تسأل عنها يوم القيامة كما تقدم من قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أول ما يحاسب العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح و أنجح و إن فسدت فقد خاب و خسر فإن انتقص من الفريضة شيء يقول الله تعالى : انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله كذلك ]
فينبغي للعبد أن يستكثر من النوافل حتى يكمل به ما انتقص من فرائضه و بالله التوفيق
فصل : في عقوبة تارك الصلاة في جماعة مع القدرة قال الله تعالى : { يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة و قد كانوا يدعون إلى السجود و هم سالمون }
و ذلك يوم القيامة يغشاهم ذل الندامة و قد كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود
قال إبراهيم التيمي : يعني إلى الصلاة المكتوبة بالأذان و الإقامة و قال سعيد بن المسيب : كانوا يسمعون : حي على الصلاة حي على الفلاح فلا يجيبون و هم أصحاء سالمون
و قال كعب الأحبار : و الله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين تخلفوا عن الجماعة فأي وعيد أشد و أبلغ من هذا لمن ترك الصلاة في الجماعة مع القدرة على إتيانها ؟ و أما من السنة فما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة في الجماعة فأحرق بيوتهم عليهم بالنار ] و لا يتوعد بحرق بيوتهم عليهم إلا على ترك واجب مع ما في البيوت من الذرية و المتاع
و في صحيح مسلم أن رجلا أعمى أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد و سأل النبي صلى الله عليه و سلم أن يرخص له أن يصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال : هل تسمع النداء بالصلاة ؟ قال : نعم قال : فأجب ]
و رواه أبو داود [ عن عمرو بن أم مكتوم أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام و السباع و أنا ضرير البصر شاسع الدار ـ أي بعيد الدار ـ و لي قائد لا يلائمني فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي ؟ فقال : هل تسمع النداء ؟ قال نعم قال : فأجب فإني لا أجد لك رخصة ]
فهذا ضرير البصر شكى ما يجد من المشقة في مجيئه إلى المسجد و ليس له قائد يقوده إلى المسجد و مع هذا لم يرخص له النبي صلى الله عليه و سلم في الصلاة في بيته فكيف بمن يكون صحيح البصر سليما لا عذر له ؟ و لهذا لما سئل ابن عباس رضي الله عنهما : عن رجل يصوم النهار و يقوم الليل و لا يصلي في جماعة و لا يجمع فقال : إن مات على هذا فهو في النار
و قال أبو هريرة رضي الله عنه لأن تمتلىء أذن ابن آدم رصاصا مذابا خير له من أن يسمع النداء و لا يجيب
و روي [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سمع المنادي بالصلاة فلم يمنعه من اتباعه عذر قيل و ما العذر يا رسول الله ؟ قال خوف أو مرض لم تقبل منه الصلاة التي صلى يعني في بيته ]
و أخرج الحاكم في مستدركه عن [ ابن عباس أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و ثلاثة لعنهم الله : من تقدم قوما و هم له كارهون و امرأة باتت و زوجها عليها ساخط و رجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب ]
و قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد قيل : و من جار المسجد ؟ قال : من سمع الأذان
و روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : من سره أن يلقى الله غدا مسلما ـ يعني يوم القيامة ـ فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادي بهن فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى و إنهن من سنن الهدى و لو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم و لو تركتم سنة نبيكم لضللتم و لقد رأيتنا و ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق أو مريض و لقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين رجلين حتى يقام في الصف أو حتى يجيء إلى المسجد لأجل صلاة الجماعة
و كان الربيع بن خيثم قد سقط شقه في الفالج فكان يخرج إلى الصلاة يتوكأ على رجلين فيقال له : يا أبا محمد قد رخص لك أن تصلي في بيتك أنت معذور فيقول : هو كما تقولون و لكن أسمع المؤذن يقول : حي على الصلاة حي على الفلاح فمن استطاع أن يجيبه و لو زحفا أو حبوا فليفعل
و قال حاتم الأصم : فاتتني مرة صلاة الجماعة فعزاني أبو اسحاق البخاري وحده و لو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف إنسان لأن مصيبة الدين عند الناس أهون من مصيبة الدنيا !
و كان بعض السلف يقول : ما فاتت أحدا صلاة الجماعة إلا بذنب أصابه و قال ابن عمر خرج عمر يوما إلى حائط له فرجع و قد صلى الناس العصر فقال عمر : إنا لله و إنا إليه راجعون فاتتني صلاة العصر في الجماعة أشهدكم أن حائطي على المساكين صدقة ليكون كفارة لما صنع عمر رضي الله عنه و الحائط البستان فيه النخل
فصل :
و يكون اعتناؤه بحضور صلاة العشاء و الفجر أشد فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين يعني العشاء و الفجر و لو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما و لو حبوا ]
و قال ابن عمر : كنا إذا تخلف منا إنسان في صلاة العشاء و الصبح في الجماعة أسأنا به الظن أن يكون قد نافق
حكاية : عن عبيد الله بن عمر القواريري رضي الله عنه قال : لم تكن تفوتني صلاة العشاء في الجماعة قط فنزل بي ليلة ضيف فشغلت بسببه و فاتتني صلاة العشاء في الجماعة فخرجت أطلب الصلاة في مساجد البصرة فوجدت الناس كلهم قد صلوا و غلقت المساجد فرجعت إلى بيتي و قلت : قد ورد في الحديث : إن صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفرد بسبع و عشرين درجة فصليت العشاء سبعا و عشرين مرة ثم نمت فرأيت في المنام كأني مع قوم على خيل و أنا أيضا على فرس و نحن نستبق و أنا أركض فرسي فلا ألحقهم فالتفت إلى أحدهم فقال لي : لا تتعب فرسك فلست تلحقنا : قلت : و لم ؟ قال : لأنا صلينا العشاء في جماعة و أنت صليت وحدك فانتبهت و أنا مغموم حزين لذلك فنسأل الله المعونة و التوفيق إنه جواد كريم
الكبيرة الخامسة : منع الزكاة قال الله تعالى : { لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة }
و قال الله تعالى : { و ويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة } فسماهم المشركين و قال الله تعالى : { و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون }
و ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما من صاحب ذهب و لا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه و جنبيه و ظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس فيرى سبيله إما إلى الجنة و إما إلى النار قيل يا رسول الله فالإبل ؟ قال : و لا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها و تعضه بأفواهها كلما مر عليه أولها رد عليه آخرها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس فيرى سبيله إما إلى الجنة و إما إلى النار قيل : يا رسول الله فالبقر و الغنم ؟ قال : و لا صاحب بقر و لا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر ليس فيها عقصاء و لا جلحاء و لا عضباء تنطحه بقرونها و تطؤه بأظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخرها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس فيرى سبيله إما إلى الجنة و إما إلى النار ]
و قال صلى الله عليه و سلم : [ أول ثلاثة يدخلون النار ـ أمير مسلط و ذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله تعالى من ماله و فقير فخور ]
و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من كان له مال يبلغه حج بيت الله تعالى و لم يحج أو تجب فيه الزكاة و لم يزك سأل الرجعة عند الموت فقال له رجل : اتق الله يا ابن عباس فإنما يسأل الرجعة الكفار فقال ابن عباس : سأتلوا عليك بذلك قرآنا قال الله تعالى : { و أنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق }
أي أؤدي الزكاة { و أكن من الصالحين } أي أحج قيل له : فما يوجب الزكاة ؟ قال : إذا بلغ المال مائتي درهم وجبت فيه الزكاة قيل فما يوجب الحج ؟ قال : الزاد و الرحلة
و لا تجب الزكاة في الحلي المباح إذا كان معدا للإستعمال فإن كان معدا للقنية أو الكراء و جبت فيه الزكاة و تجب في قيمة عروض التجارة و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزميته ـ أي بشدقيه ـ فيقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية :
{ و لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } ] أخرجه البخاري
و عن ابن مسعود رضي الله عنه في قول الله تعالى في ما نعي الزكاة : { يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم } قال : لا يوضع دينار على دينار و لا درهم على درهم و لكن يوسع جلدة حتى يوضع كل دينار و درهم على حدته
فإن قيل : لم خص الجباه و الجنوب و الظهور بالكي ؟ قيل : لأن الغني البخيل إذا رأى الفقير عبس وجهه و زوى ما بين عينيه و أعرض بجنبه فإذا قرب منه ولي بظهره فعوقب بكي هذه الأعضاء ليكون الجزاء من جنس العمل
و قال صلى الله عليه و سلم : [ خمس بخمس قالوا : يا رسول الله و ما خمس بخمس ؟ قال : ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم و ما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر و ما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت و لا طففوا المكيال و الميزان إلا منعوا النبات و أخذوا بالسنين و لا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر ]
موعظة : قل للذين شغلهم في الدنيا غرورهم إنما في غد ثبورهم ما نفعهم ما جمعوا إذا جاء محذورهم يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم فكيف غابت عن قلوبهم و عقولهم يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم أخذ المال إلى دار ضرب العقاب فجعل في بودقة ليحمي ليقوي العذاب فصفح صفائح كي يعم الكي الإهاب ثم جيء بمن عن الهدى قد غاب يسعى إلى مكان لا مع قوم يسعى نورهم ثم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم إذا لقيهم الفقير لقي الأذى فإن طلب منهم شيئا طار منهم لهب الغضب كالجذا فإن لطفوا به قالوا أعنتكم ذا و سؤال هذا لذا و لو شاء ربك لأغنى المحتاج و أعوز ذا و نسوا حكمة الخالق في غنى ذا و فقر ذا واعجبا كم يلقاهم من غم إذا ضمتهم قبورهم يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم سيأخذها الوارث منهم غير تعب و يسأل عنها الجامع من أين اكتسب ما اكتسب ألا إن الشوك له و للوارث الرطب أين حرص الجامعين أين عقولهم يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم لو رأيتهم في طبقات النار يتقلبون على جمرات الدرهم و الدينار و قد غلت اليمين مع اليسار لما بخلوا مع الإيسار لو رأيتهم في الجحيم يسقون من الحميم و قد ضج صبورهم يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم كم كانوا يوعظون في الدنيا و ما فيهم من يسمع كم خوفوا من عقاب الله و ما فيهم من يفزع كم أنبئوا بمنع الزكاة و ما فيهم من يدفع فكأنهم بالأموال و قد انقلبت شجاعا أقرع فما هي عصا موسى و لا طورهم يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم
( حكاية ) : روي عن محمد بن يوسف الفريابي قال : خرجت أنا و جماعة من أصحابي في زيارة أبي سنان رحمه الله فلما دخلنا عليه و جلسنا عنده قال : قوموا بنا نزور جارا لنا مات أخوه و نعزيه فيه فقمنا معه و دخلنا على ذلك الرجل فوجدناه كثير البكاء و الجزع على أخيه فجلسنا نسليه و نعزيه و هو لا يقبل تسلية و لا تعزية فقلنا : أما تعلم أن الموت سبيل لا بد منه ! قال : بلى و لكن أبكي على ما أصبح و أمسى فيه أخي من العذاب فقلنا له : هل أطلعك الله على الغيب ؟ قال : لا و لكن لما دفنته و سويت التراب عليه و انصرف الناس جلست عند قبره إذ صوت من قبره يقول : آه أقعدوني وحيدا أقاسي العذاب قد كنت أصلي قد كنت أصوم قال : فأبكاني كلامه فنبشت عنه التراب لأنظر حاله و إذا القبر يشتعل عليه نارا و في عنقه طوق من نار فحملتني شفقة الأخوة و مددت يدي لأرفع الطوق عن رقبته فاحترقت أصابعي و يدي ثم أخرج إلينا يده فإذا هي سوداء محترقة قال فرددت عليه التراب و انصرفت فكيف لا أبكي على حاله و أحزن عليه ؟ فقلنا : فما كان أخوك يعمل في الدنيا ؟ قال : كان لا يؤدي الزكاة من ماله قال فقلنا هذا تصديق قول الله تعالى :
{ و لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة }
و أخوك عجل له العذاب في قبره إلى يوم القيامة قال : ثم خرجنا من عنده و أتينا أبا ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم و ذكرنا له قصة الرجل و قلنا له : يموت اليهودي و النصراني و لا نرى فيهم ذلك ! فقال : أولئك لا شك أنهم في النار و إنما يريكم الله في أهل الإيمان لتعتبروا قال الله تعالى : { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد }
فنسأل الله العفو و العافية إنه جواد كريم
الكبيرة السادسة : إفطار يوم من رمضان بلا عذر قال الله تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }
و ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و حج البيت و صوم رمضان ]
و قال صلى الله عليه و سلم : [ من أفطر يوما من رمضان بلا عذر لم يقضه صيام الدهر و إن صامه ] و عن ابن عباس رضي الله عنهما [ عري الإسلام و قواعد الدين ثلاث : شهادة أن لا إله إلا الله و الصلاة و صوم رمضان ] فمن ترك واحدة منهن فهو كافر نعوذ بالله من ذلك
الكبيرة السابعة : في ترك الحج مع القدرة عليه قال الله تعالى : { و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا }
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من ملك زادا و راحلة تبلغه حج بيت الله الحرام و لم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ] و ذلك لأن الله تعالى يقول : { و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا }
و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جدة و لم يحج فليضربوا عليهم الجزية و ما هم بمسلمين
و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ما من أحد لم يحج و لم يؤد زكاة ماله إلا سأل الرجعة عند الموت فقيل : له إنما يسأل الرجعة الكفار قال : و إن ذلك في كتاب الله تعالى : { و أنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق } أي أؤدي الزكاة { و أكن من الصالحين } أي أحج { و لن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها و الله خبير بما تعملون }
قيل : فيم تجب الزكاة ؟ قال : بمائتي درهم و قيمتها من الذهب قيل فما يوجب الحج ؟ قال : الزاد و الراحلة و عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال : مات لي جار موسر لم يحج فلم أصل عليه
الكبيرة الثامنة : عقوق الوالدين قال الله تعالى : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } أي برا و شفقة و عطفا عليهما { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما } : أي لا تقل لهما بتبرم إذا كبرا و أسنا و ينبغي أن تتولى خدمتهما ما توليا من خدمتك على أن الفضل للمتقدم و كيف يقع التساوي و قد كانا يحملان أذاك راجين حياتك و أنت إن حملت أذاهما رجوت موتهما ثم قال الله تعالى : { و قل لهما قولا كريما } أي لينا لطيفا { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } و قال الله تعالى : { أن اشكر لي و لوالديك إلي المصير } فانظر رحمك الله كيف قرن شكرهما بشكره قال ابن عباس رضي الله عنهما : ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها ( إحداهما ) قول الله تعالى : { أطيعوا الله و أطيعوا الرسول } فمن أطاع الله و لم يطع الرسول لم يقبل منه ( الثانية ) قول الله تعالى : { و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة } فمن صلى و لم يزك لم يقبل منه ( الثالثة ) قول الله تعالى : { أن اشكر لي و لوالديك } فمن شكر الله و لم يشكر لوالديه لم يقبل منه و لذا قال النبي صلى الله عليه و سلم [ رضى الله في رضى الوالدين و سخط الله في سخط الوالدين ]
و [ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : جاء رجل يستأذن النبي صلى الله عليه و سلم في الجهاد معه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أحي والداك ؟ قال : نعم قال : ففيهما فجاهد ] مخرج في الصحيحين فانظر كيف فضل بر الوالدين و خدمتهما على الجهاد !
و في الصحيحين [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر : الإشراك بالله و عقوق الوالدين ] فانظر كيف قرن الإساءة إليهما و عدم البر و الإحسان بالإشراك و في الصحيحين أيضا [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يدخل الجنة عاق و لا منان و لا مدمن خمر ] و عنه صلى الله عليه و سلم قال : [ لو علم الله شيئا أدنى من الأف لنهى عنه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة و ليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ لعن الله العاق لوالديه ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ لعن الله من سب أباه لعن الله من سب أمه ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه يعني العقوبة في الدنيا قبل يوم القيامة ]
و قال كعب الأحبار رحمه الله : إن الله ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقا لوالديه ليعجل له العذاب و أن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان بارا بوالديه ليزيده برا و خيرا و من برهما أن ينفق عليهما إذا احتاجا فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن أبي يريد أن يحتاج مالي فقال صلى الله عليه و سلم : [ أنت و مالك لأبيك ] و سئل كعب الأحبار عن عقوق الوالدين ما هو ؟ قال هو إذا أقسم عليه أبوه أو أمه لم يبر قسمها و إذا أمره بأمر لم يطع أمرهما و إذا سألاه شيئا لم يعطهما و إذا ائتمناه خانهما
و سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن أصحاب الأعراف من هم و ما الأعراف ؟ فقال : أما الأعراف فهو جبل بين الجنة و النار و إنما سمي الأعراف لأنه مشرف على الجنة و النار و عليه أشجار و ثمار و أنهار و عيون و أما الرجال الذين يكونون عليه فهم رجال خرجوا إلى الجهاد بغير رضا آبائهم و أمهاتهم فقتلوا في الجهاد فمنعهم القتل في سبيل الله من دخول النار و منعهم عقوق الوالدين عن دخول الجنة فهم على الأعراف حتى يقضي الله فيهم أمره
و في الصحيحين [ أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله من أحق الناس مني بحسن الصحبة ؟ قال أمك قال ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أبوك ثم الأقرب فالأقرب ] فحض على بر الأم ثلاث مرات و على بر الأب مرة واحدة و ما ذاك إلا لأن عناءها أكثر و شفقتها أعظم مع ما تقاسيه من حمل و طلق و ولادة و رضاعة و سهر ليل
رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلا قد حمل أمه على رقبته و هو يطوف بها حول الكعبة فقال : يابن عمر أتراني جازيتها ؟ قال : و لا بطلقة واحدة من طلقاتها و لكن قد أحسنت و الله يثيبك على القليل كثيرا
و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أربعة نفر حق على الله أن لا يدخلهم الجنة و لا يذيقهم نعيمها : مدمن خمر و آكل ربا و آكل مال اليتيم ظلما و العاق لوالديه إلا أن يتوبوا ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ الجنة تحت أقدام الأمهات ] و جاء رجل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه فقال : يا أبا الدرداء إني تزوجت امرأة و إن أمي تأمرني بطلاقها فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن : دعوة المظلوم و دعوة المسافر و دعوة الوالد على ولده ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ الخالة بمنزلة الأم أي في البر و الإكرام و الصلة و الإحسان ] و عن وهب بن منبه قال : إن الله تعالى أوحى إلى موسى صلوات الله و سلامه عليه يا موسى وقر والديك فإن من وقر والديه مددت في عمره و وهبت له ولدا يوقره و من عق والديه قصرت في عمره و وهبت له ولدا يعقه
و قال أبو بكر بن أبي مريم : قرأت في التوراة أن من يضرب أباه يقتل و قال وهب : قرأت في التوراة : على من صك والده الرجم
و عن عمرو بن مرة الجهني قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أرأيت إذا صليت الصلوات الخمس و صمت رمضان و أديت الزكاة و حججت البيت فماذا لي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من فعل ذلك كان مع النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين إلا أن يعق والديه ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ لعن الله العاق والديه ] و جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ رأيت ليلة أسري بي أقواما في النار معلقين في جذوع من نار فقلت : يا جبريل من هؤلاء قال : الذين يشتمون آباءهم و أمهاتهم في الدنيا ]
و روي أن من شتم والديه ينزل عليه في قبره جمر من نار بعدد كل قطر ينزل من السماء إلى الأرض و يروى أنه إذا دفن عاق والديه عصره القبر حتى تختلف فيه أضلاعه و أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة : المشرك و الزاني و العاق لوالديه
و قال بشر : ما من رجل يقرب من أمه حيث حيث يسمع كلامها إلا كان أفضل من الذي يضرب بسيفه في سبيل الله و النظر إليها أفضل من كل شيء [ و جاء رجل و امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يختصمان في صبي لهما فقال الرجل : يا رسول الله ولدي خرج من صلبي و قالت المرأة : يا رسول الله حمله خفا و وضعه شهوة و حملته كرها و وضعته كرها و أرضعته حولين كاملين فقضى به رسول الله صلى الله عليه و سلم لأمه ]
( موعظة ) : أيها المضيع لآكد الحقوق المعتاض من بر الوالدين العقوق الناسي لما يجب عليه الغافل عما بين يديه بر الوالدين عليك دين و أنت تتعاطاه باتباع الشين تطلب الجنة بزعمك و هي تحت أقدام أمك حملتك في بطنها تسعة أشهر كأنها تسع حجج و كابدت عند الوضع ما يذيب المهج و أرضعتك من ثديها لبنا و أطارت لأجلك وسنا و غسلت بيمينها عنك الأذى و آثرتك على نفسها بالغذاء و صيرت حجرها لك مهدا و أنالتك إحسانا و رفدا فإن أصابك مرض أو شكاية أظهرت من الأسف فوق النهاية و أطالت الحزن و النحيب و بذلت مالها للطبيب و لو خيرت بين حياتك و موتها لطلبت حياتك بأعلى صوتها هذا و كم عاملتها بسوء الخلق مرارا فدعت لك بالتوفيق سرا و جهارا فلما احتاجت عند الكبر إليك جعلتها من أهون الأشياء عليك فشبعت و هي جائعة و رويت و هي قانعة و قدمت عليها أهلك و أولادك بالإحسان و قابلت أياديها بالنسيان و صعب لديك أمرها و هو يسير و طال عليك عمرها و هو قصير هجرتها و مالها سواك نصير هذا و مولاك قد نهاك عن التأفف و عاتبك في حقها بعتاب لطيف ستعاقب في دنياك بعقوق البنين و في أخراك بالبعد من رب العالمين يناديك بلسان التوبيخ و التهديد ( ذلك بما قدمت يداك و أن الله ليس بظلام للعبيد ) :
( لأمك حق لو علمت كثير ... كثيرك يا هذا لديه يسير )
( فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي ... لها من جواها أنة و زفير )
( و في الوضع لو تدري عليها مشقة ... فمن غصص منها الفؤاد يطير )
( و كم غسلت عنك الأذى بيمينها ... و ما حجرها إلا لديك سرير )
( و تفديك بما تشتكيه بنفسها ... و من ثديها شرب لديك نمير )
( و كم مرة جاعت و أعطتك قوتها ... حنانا و إشفاقا و أنت صغير )
( فآها لذي عقل و يتبع الهوى ... و آها لأعمى القلب و هو بصير )
( فدونك فارغب في عميم دعائها ... فأنت لما تدعو إليه فقير )
[ حكي أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه و سلم شاب يسمى علقمة و كان كثير الإجتهاد في طاعة الله في الصلاة و الصوم و الصدقة فمرض و اشتد مرضه فأرسلت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن زوجي علقمة في النزع فأردت أن أعلمك يا رسول الله بحاله فأرسل النبي صلى الله عليه و سلم عمارا و صهيبا و بلالا و قال : امضوا إليه و لقنوه الشهادة فمضوا إليه و دخلوا عليه فوجدوه في النزع فجعلوا يلقنونه ( لا إله إلا الله ) و لسانه لا ينطق بها فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يخبرونه أنه لا ينطق لسانه بالشهادة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هل من أبويه أحد حي ؟ قيل : يا رسول الله أم كبيرة السن فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال للرسول : قل لها إن قدرت على المسير إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و إلا فقري في المنزل حتى يأتيك قال : فجاء إليها الرسول فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : نفسي لنفسه فداء أنا أحق بإتيانه فتوكأت و قامت على عصا و أتت رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلمت فرد عليها السلام و قال لها : يا أم علقمة أصدقيني و إن كذبت جاء الوحي من الله تعالى كيف كان حال ولدك علقمة ؟ قالت : يا رسول الله كثير الصلاة كثير الصيام كثير الصدقة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فما حالك ؟ قالت : يا رسول الله أنا عليه ساخطة قال : و لم ؟ قالت : يا رسول الله كان يؤثر علي زوجته و يعصيني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن سخط أم علقمة حجب لسان علقمة عن الشهادة ثم قال : يا بلال انطلق و اجمع لي حطبا كثيرا قالت يا رسول الله و ما تصنع ؟ قال : أحرقه بالنار بين يديك قالت : يا رسول الله ولدي لا يحتمل قلبي أن تحرقه بالنار بين يدي قال : يا أم علقمة عذاب الله أشد و أبقى فإن سرك أن يغفر الله له فارضي عنه فوالذي نفسي بيده لا ينتفع علقمة بصلاته و لا بصيامه و لا بصدقته ما دمت عليه ساخطة فقالت : يا رسول الله إني أشهد الله تعالى و ملائكته و من حضرني من المسلمين أني قد رضيت عن ولدي علقمة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : انطلق يا بلال إليه وانظر هل يستطيع أن يقول لا إله إلا الله أم لا ؟ فلعل أم علقمة تكلمت بما ليس في قلبها حياء مني فانطلق فسمع علقمة من داخل الدار يقول : لا إله إلا الله فدخل بلال فقال : يا هؤلاء إن سخط أم علقمة حجب لسانه عن الشهادة و أن رضاها أطلق لسانه ثم مات علقمة من يومه فحضره رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر بغسله و كفنه ثم صلى عليه و حضر دفنه ثم قام على شفير قبره و قال : يا معشر المهاجرين و الأنصار من فضل زوجته على أمه فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا إلا أن يتوب أن يتوب إلى الله عز و جل و يحسن إليها و يطلب رضاها فرضى الله في رضاها و سخط الله في سخطها فنسأل الله أن يوفقنا لرضاه و أن يجنبنا سخطه إنه جواد كريم رؤوف رحيم ]
الكبيرة التاسعة : هجر الأقارب قال الله تعالى : { و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام } أي و اتقوا الأرحام أن تقطعوها و قال الله تعالى : { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم و أعمى أبصارهم } و قال الله تعالى : { الذين يوفون بعهد الله و لا ينقضون الميثاق * و الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل و يخشون ربهم و يخافون سوء الحساب } و قال الله تعالى : { يضل به } أي بالقرآن { كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين * الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه و يقطعون ما أمر الله به أن يوصل و يفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون }
أعظم ذلك ما بين العبد و بين الله ما عهده الله على العبيد
و في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يدخل الجنة قاطع رحم ]
فمن قطع أقاربه الضعفاء و هجرهم و تكبر عليهم و لم يصلهم ببره و إحسانه و كان غنيا و هم فقراء فهو داخل في هذا الوعيد محروم عن دخول الجنة إلا أن يتوب إلى الله عز و جل و يحسن إليهم و قد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من كان له أقارب ضعفاء و لم يحسن إليهم و يصرف صدقته إلى غيرهم لم يقبل الله منه صدقته و لا ينظر إليه يوم القيامة ] و إن كان فقيرا وصلهم بزيارتهم و التفقد لأحوالهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : صلوا أرحامكم و لو بالسلام
و قال صلى الله عليه و سلم : [ من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليصل رحمه ] و في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ليس الواصل بالكافيء و لكن الواصل الذي من إذا قطعت رحمه وصلها ]
و قال صلى الله عليه و سلم : يقول الله تعالى [ أنا الرحمن و هي الرحم فمن وصلها وصلته و من قطعها قطعته ] و عن علي رضي الله عنهما أنه قال لولده : يا بني لا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعونا في كتاب الله في ثلاثة مواضع
و روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه جلس يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أحرج على قاطع رحم إلا قام من عندنا فلم يقم أحد إلا شاب من أقصى الحلقة فذهب إلى عمته لأنه كان قد صارمها منذ سنين فصالحها فقالت له عمته : ما جاء بك يا ابن أخي فقال إني جلست إلى أبي هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أحرج كل قاطع رحم إلا قام من عندنا فقالت له عمته : ارجع إلى أبي هريرة و اسأله لم ذلك فرجع إله و أخبره بما جرى له مع عمته و سأله : لم لا يجلس عندك قاطع رحم ؟ فقال أبو هريرة : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم ] و حكي أن رجلا من الأغنياء حج إلى بيت الله الحرام فلما وصل إلى مكة أودع من ماله ألف دينار عند رجل كان موسوما بالأمانة و الصلاح إلى أن يقف بعرفات فلما وقف بعرفات و رجع إلى مكة وجد الرجل قد مات فسأل أهله عن ماله علم أنه لم يكن لهم به علم فأتى علماء مكة فأخبرهم بحاله و ماله فقالوا له : إذا كان نصف الليل فأت زمزم و انظر فيها و ناد يا فلان باسمه فإن كان من أهل الجنة فسيجيبك بأول مرة فمضى الرجل و نادى في زمزم فلم يجبه أحد فجاء إليهم و أخبرهم فقالوا : إنا لله و إنا إليه راجعون نخشى أن يكون صاحبك من أهل النار اذهب إلى أرض اليمن ففيها بئر يسمى برهوت يقال أنه على فم جهنم فانظر فيه بالليل و ناد يا فلان فإن كان من أهل النار فسيجيبك منها فمضى إلى اليمن و سأل عن البئر فدل عليها فأتاها بالليل و نظر فيها و نادى يا فلان فأجابه فقال : أين ذهبي ؟ قال دفنته في الموضع الفلاني من داري و لم ائتمن عليه ولدي فأتهم و احفر هناك تجده فقال له : ما الذي أنزلك هاهنا و كنا نظن بك الخير ؟ فقال : كان لي أخت فقيرة هجرتها و كنت لا أحنو عليها فعاقبني الله سبحانه بسببها و أنزلني الله هذه المنزلة
و تصديق ذلك في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه و سلم : [ لا يدخل الجنة قاطع ] يعني قاطع رحم كالأخت و الخالة و العمة و بنت الأخت و غيرهم من الأقارب فنسأل الله التوفيق لطاعته إنه جواد كريم
الكبيرة العاشرة : الزنا و بعضه أكبر من بعض قال الله تعالى :
{ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا } و قال الله تعالى : { و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر و لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق و لا يزنون و من يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا * إلا من تاب }
و قال الله تعالى : { الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة و لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر و ليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين }
قال العلماء : هذا عذاب الزانية و الزاني في الدنيا إذا كانا عزبين غير متزوجين فإن كانا متزوجين أو قد تزوجا و لو مرة في العمر فإنهما يرجمان بالحجارة إلى أن يموتا كذلك ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ فإن لم يستوف القصاص منهما في الدنيا و ماتا من غير توبة فإنهما يعذبان في النار بسياط من نار ]
كما ورد أن الزبور مكتوبا : إن الزناة معلقون بفروجهم في النار يضربون عليها بسياط من حديد فإذا استغاث من الضرب نادته الزبانية أين كان هذا الصوت و أنت تضحك و تفرح و تمرح و لا تراقب الله تعالى و لا تستحي منه ؟ ! و ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن و لا يسرق السارق حين يسرق و هو مؤمن و لا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن و لا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها و هو مؤمن ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان كاظلة على رأسه ثم إذا أقلع رجع إليه الإيمان ]
و قال صلى الله عليه و سلم : [ من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه ] و الحديث النبوي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا ينظر إليهم و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم شيخ زان و ملك كذاب و عائل مستكبر ]
و [ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله تعالى ؟ قال : أن تجعل لله ندا و هو خلقك فقلت : إن ذلك لعظيم ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي ؟ قال أن تزني بحليلة جارك ] ـ يعني زوجة جارك ـ فأنزل الله عز و جل تصديق ذلك : { و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر و لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق و لا يزنون و من يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا * إلا من تاب }
فانظر رحمك الله كيف قرنا الزنا بزوجة الجار بالشرك بالله و قتل النفس التي حرم الله عز و جل إلا بالحق و هذا الحديث مخرج في الصحيحين
و في صحيح البخاري في حديث منام النبي صلى الله عليه و سلم الذي رواه سمرة بن جندب و فيه أنه صلى الله عليه و سلم جاءه جبريل و ميكائيل قال : فانطلقنا فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق و أسفله واسع فيه لغط و أصوات قال : فاطلعنا فيه فإذا رجال و نساء عراة فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا ـ أي صاحوا من شدة حره ـ فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء الزناة و الزواني ـ يعني من الرجال و النساء فهذا عذابهم إلى يوم القيامة
نسأل الله العفو و العافية
و عن عطاء في تفسير قول الله تعالى عن جهنم { لها سبعة أبواب } : قال : أشد تلك الأبواب غما و حرا و كربا و أنتنها ريحا للزناة الذين ارتكبوا الزنى بعد العلم و عن مكحول الدمشقي قال : يجد أهل النار رائحة منتنة فيقولون ما وجدنا أنتن من هذه الرائحة فيقال لهم هذه ريح فروج الزناة و قال ابن زيد أحد أئمة التفسير : إنه ليؤذي أهل النار ريح فروج الزناة و في العشر الآيات التي كتبها الله لموسى عليه السلام : و لا تسرق و لا تزن فأحجب عنك وجهي فإذا كان الخطاب لنبيه موسى عليه السلام فكيف بغيره ؟ !
[ و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أن إبليس يبث جنوده في الأرض و يقول لهم : أيكم أضل مسلما ألبسته التاج على رأسه فأعظمهم فتنة أقربهم إليه منزلة فيجيء إليه أحدهم فيقول له : لم أزل بفلان حتى طلق امرأته فيقول : ما صنعت شيئا سوف يتزوج غيرها ثم يجيء الآخر فيقول لم أزل بفلان حتى ألقيت بينه و بين أخيه العداوة فيقول ما صنعت شيئا سوف يصالحه ثم يجيء الآخر فيقول لم أزل بفلان حتى زنى فيقول إبليس نعم فيدنيه منه و يضع التاج على رأسه نعوذ بالله من شرور الشيطان و جنوده ]
[ و عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء فإذا زنى العبد نزع الله منه سربال الإيمان فإن تاب رده عليه و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : يا معشر المسلمين اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال ثلاث في الدنيا و ثلاث في الآخرة فأما التي في الدنيا : فذهاب بهاء الوجه و قصر العمر و دوام الفقر و أما التي في الآخرة فسخط الله تبارك و تعالى و سوء الحساب و العذاب بالنار ] و عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من مات مصرا على شرب الخمر سقاه الله تعالى من نهر الغوطة و هو نهر يجري في النار من فروج المومسات ] يعني الزانيات يجري من فروحهن قيح و صديد في النار ثم يسقى ذلك لمن مات مصرا على شرب الخمر
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما من ذنب بعد الشرك بالله أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في فرج لا يحل له و قال أيضا عليه الصلاة و السلام : في جهنم واد فيه حيات كل حية ثخن رقبة البعير تلسع تارك الصلاة فيغلي سمها في جسمه سبعين سنة ثم يتهرى لحمه و إن في جهنم واديا اسمه جب الحزن فيه حيات و عقارب كل عقرب بقدر البغل لها سبعون شوكة في كل شوكة راوية سم ثم تضرب الزاني و تفرغ سمها في جسمه يجد مرارة وجعها ألف سنة ثم يتهرى لحمه و يسيل من فرجه القيح و الصديد ]
وورد أيضا : أن من زنى بامرأة كانت متزوجة كان عليها و عليه في القبر نصف عذاب هذه الأمة فإذا كان يوم القيامة يحكم الله سبحانه و تعالى زوجها في حسناته هذا إن كان بغير علمه فإن علم و سكت حرم الله عليه الجنة لأن الله تعالى كتب على باب الجنة أنت حرام على الديوث و هو الذي يعلم بالفاحشة في أهله و يسكت و لا يغار
و ورد أيضا أن من وضع يده على امرأة لا تحل له بشهوة جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه فإن قبلها قرضت شفتاه في النار فإن زنى بها نطقت فخذه و شهدت عليه يوم القيامة و قالت : أنا للحرام ركبت فينظر الله تعالى إليه بغضب فيقع لحم وجهه فيكابر و يقول : ما فعلت فيشهد عليه لسانه فيقول : أنا بما لا يحل نطقت و تقول يداه : أنا للحرام تناولت و تقول عيناه أنا للحرام نظرت و تقول رجلاه : أنا لما لا يحل مشيت و يقول فرجه : أنا فعلت و يقول الحافظ من الملائكة : و أنا سمعت و يقول الآخر : و أنا كتبت و يقول الله تعالى : و أنا اطلعت و سترت ثم يقول الله تعالى : يا ملائكتي خذوه و من عذابي أذيقوه فقد اشتد غضبي على من قل حياؤه مني و تصديق ذلك في كتاب الله عز و جل :
{ يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون }
و أعظم الزنا الزنا بالأم و الأخت و امرأة الأب و بالمحارم و قد صحح الحاكم : من وقع على ذات محرم فاقتلوه و عن البراء أن خاله بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى رجل عرس بامرأة أبيه أن يقتله و يخمس ماله فنسأل الله المنان بفضله أن يغفر لنا ذنوبنا إنه جواد كريم
الكبيرة الحادية عشرة : اللواط قد قص الله عز و جل علينا في كتابه العزيز قصة قوم لوط في غير موضع من ذلك قول الله تعالى :
{ فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها و أمطرنا عليها حجارة من سجيل } أي من طين طبخ حتى صار كالآجر { منضود } أي يتلو بعضه بعضا { مسومة } أي معلمة بعلامة تعرف بها بأنها ليست من حجارة أهل الدنيا { عند ربك } أي في خزانته التي لا يتصرف في شيء منها إلا بإذنه { و ما هي من الظالمين ببعيد } ما هي من ظالمي هذه الأمة إذا فعلوا فعلهم أن يحل بهم ما حل بأولئك من العذاب
و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أخوف ما أخاف عليكم عمل قوم لوط و لعن من فعل فعلهم ثلاثا فقال : لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط ] و قال عليه الصلاة السلام : [ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل و المفعول به ] قال ابن عباس رضي الله عنهما ينظر أعلى بناء في القرية فيلقى منه ثم يتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط
و أجمع المسلمون على أن التلوط من الكبائر التي حرم الله تعالى : { أتأتون الذكران من العالمين * و تذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون } أي مجازون من الحلال إلى الحرام
و قال الله تعالى في آية أخرى مخبرا عن نبيه لوط عليه السلام :
{ و نجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين }
و كان اسم قريتهم سدوم و كان أهلها يعملون الخبائث التي ذكرها الله سبحانه في كتابه كانوا يأتون الذكران من العالمين في أدبارهم و يتضارعون في أنديتهم مع أشياء أخرى كانوا يعملونها من المنكرات
و روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : عشر خصال من أعمال قوم لوط ـ تصفيف الشعر و حل الأزرار و رمي البندق و الحذف بالحصى و اللعب بالحمام الطيارة و الصفير بالأصابع و فرقعة الأكعب و إسبال الإزار و حل أزر الأقبية و إدمان شرب الخمر و إتيان الذكور و ستزيد عليها هذه الأمة مساحقة النساء النساء
و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ سحاق النساء بينهن زنا ] و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أربعة يصبحون في غضب الله و يمسون في سخط الله تعالى قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : المتشبهون من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال و الذي يأتي البهيمة و الذي يأتي الذكر يعني اللواط ] و روي أنه إذا ركب الذكر الذكر اهتز عرش الرحمن خوفا من غضب الله تعالى و تكاد السموات أن تقع على الأرض فتمسك الملائكة بأطرافها و تقرأ قل هو الله أحد إلى آخرها حتى يسكن غضب الله عز و جل
و جاء النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ سبعة يلعنهم الله تعالى و لا ينظر إليهم يوم القيامة و يقول ادخلوا النار مع الداخلين : الفاعل و المفعول به ـ يعني اللواط و ناكح البهيمة و ناكح الأم و ابنتها و ناكح يده إلا أن يتوبوا ]
و روي أن قوما يحشرون يوم القيامة و أيديهم حبالى من الزنا كانوا يعبثون في الدنيا بمذاكيرهم و روي أن من أعمال قوم لوط : اللعب بالنرد و المسابقة بالحمام و المهارشة بين الكلاب و المناطحة بين الكباش و المناقرة بالديوك و دخول الحمام بلا مئزر و نقص الكيل و الميزان ويل لمن فعلها
و في الأثر من لعب باحمام القلابة لم يمت حتى يذوق ألم الفقر و قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن اللوطي إذا مات من غير توبة فإنه يمسخ في قبره خنزيرا
و قال صلى الله عليه و سلم : [ لا ينظر الله إلى رجل أتى ذكرا أو امرأة في دبرها ]
و قال أبو سعيد الصعلوكي : سيكون في هذه الأمة قوم يقال لهم اللوطيون و هم على ثلاثة أصناف صنف ينظرون و صنف يصافحون و صنف يعملون ذلك العمل الخبيث
و النظر بشهوة إلى المرأة و الأمرد زنا لما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ زنا العين النظر و زنا اللسان النطق و زنا اليد البطش و زنا الرجل الخطى و زنا الأذن الاستماع و النفس تمني و تشتهي و الفرج يصدق ذلك و يكذبه ] و لأجل ذلك بالغ الصالحون في الإعراض عن المردان و عن النظر إليهم و عن مخالطتهم و مجالستهم قال الحسن بن ذكوان : لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صورا كصور العذارى فهم أشد فتنة من النساء و قال بعض التابعين : ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضار من الغلام الأمرد يقعد إليه و كان يقال : لا يبيتن رجل مع أمرد في مكان واحد و حرم بعض العلماء الخلوة مع الأمرد في بيت أو حانوت أو حمام قياسا على المرأة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما ] و في المردان من يفوق النساء بحسنه فالفتنة به أعظم و إنه يمكن في حقه من الشر ما لا يمكن في حق النساء و يتسهل في حقه من طريق الريبة و الشر ما لا يتسهل في حق المرأة فهو بالتحريم أولى و أقاويل السلف في التنفير منهم و التحذير من رؤيتهم أكثر من أن تحصر و سموهم الإنتان لأنهم مستقذرون شرعا و سواء في كل ما ذكرناه نظر المنسوب إلى الصلاح و غيره و دخل سفيان الثوري الحمام فدخل عليه صبي حسن الوجه فقال : أخرجوه عني أخرجوه فإني أرى مع كل امرأة شيطانا و أرى مع كل صبي حسن بضعة عشر شيطانا
و جاء رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله و معه صبي حسن فقال الإمام ما هذا منك ؟ قال ابن أختي قال : لا تجيء به إلينا مرة أخرى و لا تمش معه في طريق لئلا يظن بك من لا يعرفك و لا يعرفه سوءا
و روي أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي صلى الله عليه و سلم كان فيهم أمرد حسن فأجلسه النبي صلى الله عليه و سلم خلف ظهره و قال : إنما كانت فتنة داود عليه السلام من النظر و أنشدوا شعرا :
( كل الحوادث مبدؤها من النظر ... و معظم النار من مستصغر الشرر )
( و المرء ... ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغير موقوف على الخطر )
( كم نظرة فعلت في قلب صاحبها ... فعل السهام بلا قوس و لا وتر )
( يسر ناظره ما ضر خاطره ... لا مرحبا بسرور عاد بالضرر )
و كان يقال النظر بريد الزنا و في الحديث : النظر سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركه لله أورث الله قلبه حلاوة عبادة يجدها إلى يوم القيامة
فصل : في عقوبة من أمكن من نفسه طائعا : عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه وجد في بعض النواحي رجلا ينكح في دبره فاستشار أبو بكر الصحابة رضي الله عنهم في أمره فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إن هذا ذنب لم يعمله إلا أمة واحدة قوم لوط و قد أعلمنا الله تعالى بما صنع بهم أرى أن يحرق بالنار فكتب أبو بكر إليه أحرقه بالنار فأحرقه خالد رضي الله عنه
و قال علي رضي الله عنه : من أمكن من نفسه طائعا حتى ينكح ألقى الله عليه شهوة النساء و جعله شيطانا رجيما في قبره إلى يوم القيامة
و أجمعت الأمة أنه من فعل بمملوكه فهو لوطي مجرم و مما روي أن عيسى ابن مريم عليه السلام مر في سياحته على نار توقد على رجل فأخذ عيسى عليه السلام ماء ليطفىء عنه فانقلبت النار صبيا و انقلب الرجل نارا فتعجب عيسى عليه السلام من ذلك و قال : يا رب ردهما إلى حالهما في الدنيا لأسألهما عن خبرهما فأحياهما الله تعالى فإذا هما رجل و صبي فقال لهما عيسى عليه السلام : ما خبركما ؟ فقال الرجل : يا روح الله إني كنت في الدنيا مبتلي بحب هذا الصبي فحملتني الشهوة إن عملت معه الفاحشة فلما أن مت و مات الصبي صير نارا يحرقني مرة و أصير نارا أحرقه مرة فهذا عذابنا إلى يوم القيامة نعوذ بالله من عذاب الله و نسأل الله العفو و العافية و التوفيق لما يحب و يرضى
فصل : و يلتحق باللواط إتيان المرأة في دبرها مما حرمه الله تعالى و رسوله و قال الله عز و جل : { نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم } أي كيف شئتم مقبلين و مدبرين في صمام واحد أي موضع واحد و سبب نزول هذه الآية أن اليهود في زمن النبي صلى الله عليه و سلم كانوا يقولون : إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فأنزل الله هذه الآية تكذيبا لهم : { نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم } مجيبة أو غير مجيبة غير أن ذلك في صمام واحد أخرجه مسلم
و في رواية اتقوا الدبر و الحيضة و قوله في صمام واحد أي في موضع واحد و هو الفرج لأنه موضع الحرث أي موضع مزرع الولد و أما الدبر فإنه محل النجو و ذلك خبيث مسقذر و قد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ملعون من أتى حائضا أو امرأة في دبرها ]
و روى الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد ] فمن جامع امرأته و هي حائض أو جامعها في دبرها فهو ملعون و داخل في هذا الوعيد الشديد و كذا إذا أتى كاهنا و هو المنجم و من يدعي معرفة الشيء المسروق و يتكلم على الأمور المغيبات فسأله عن شيء منها فصدقه
و كثير من الجهال واقعون في هذه المعاصي و ذلك من قلة معرفتهم و سماعهم للعلم و لذلك قال أبو الدرداء : كن عالما أو متعلما أو محبا و لا تكن الخامس فتهلك و هو الذي لا يعلم و لا يتعلم و لا يستمع و لا يحب من يعمل ذلك و يجب على العبد أن يتوب إلى الله من جميع الذنوب و الخطايا و يسأل الله العفو عما مضى منه في جهله و العافية فيما بقي من عمره اللهم إنا نسألك العفو و العافية في الدين و الدنيا و الآخرة إنك أرحم الراحمين
الكبيرة الثانية عشرة : الربا قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة و اتقوا الله لعلكم تفلحون } و قال الله تعالى : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم الذي قد مسه الشيطان و صرعه { ذلك } أي ذلك الذي أصابهم { بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا }
أي حلالا فاستحلوا ما حرم الله فإذا بعث الله الناس يوم القيامة خرجوا مسرعين إلا أكلة الربا فإنهم يقومون و يسقطون كما يقوم المصروع كلما قام صرع لأنهم لما أكلوا الربا الحرام في الدنيا أرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم يوم القيامة فهم كلما أردوا النهوض سقطوا و يريدون الإسراع مع الناس فلا يقدرون
و قال قتادة : إن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا و ذلك علم لأكلة الربا فهم به أهل الموقف و [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لما أسري بي مررت بقوم بطونهم بين أيديهم كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم قد مالت بهم بطونهم منضدين على سابلة آل فرعون و آل فرعون يعرضون على النار غدوا و عشيا قال فيقبلون مثل الإبل المنهزمة لا يسمعون و لا يعقلون فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بطونهم فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيردونهم مقبلين و مدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا و الآخرة قال صلى الله عليه و سلم : فقلت يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ]
و في رواية قال : [ لما عرج بي سمعت في السماء السابعة فوق رأسي رعدا و صواعق و رأيت رجالا بطونهم بين أيديهم كالبيوت فيها حيات و عقارب ترى من ظاهر بطونهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : فقال هؤلاء أكلة الربا ]
و روي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه : إذا ظهر الزنا و الربا في قرية أذن الله بهلاكها و عن عمر مرفوعا : إذا ضن الناس بالدينار و الدرهم و تبايعوا بالعينة و تتبعوا أذناب البقر و تركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم و قال صلى الله عليه و سلم : [ ما ظهر في قوم الربا إلا ظهر فيهم الجنون و لا ظهر في قوم الزنا إلا ظهر فيهم الموت و ما بخس قوم الكيل و الوزن إلا منعهم الله القطر ]
و جاء في حديث فيه طول : أن آكل الربا يعذب من حين يموت إلى يوم القيامة بالسباحة في النهر الأحمر الذي هو مثل الدم و يلقم الحجارة و هو المال الحرام الذي جمعه في الدنيا يكلف المشقة فيه و يلقم حجارة من نار كما ابتلع الحرام الذي جمعه في الدنيا هذا العذاب له في البرزخ قبل يوم القيامة مع لعنة الله له كما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة و لا يذيقهم نعيمها : مدمن الخمر و آكل الربا و آكل مال اليتيم بغير حق و العاق لوالديه إلا أن يتوبوا ]
و قد ورد أن أكلة الربا يحشرون في صورة الكلاب و الخنازير من أجل حيلتهم على أكل الربا كما مسخ أصحاب السبت حين تحيلوا على إخراج الحيتان التي نهاهم الله عن اصطيادها يوم السبت فحفروا لها حياضا تقع فيها يوم السبت فيأخذونها يوم الأحد فلما فعلوا ذلك مسخهم الله قردة و خنازير و هكذا الذين يتحيلون على الربا بأنواع الحيل فإن الله لا تخفى عليه حيل المحتالين قال أيوب السختياني : يخادعون الله كما يخادعون صبيا و لو أتوا الأمر عيانا كان أهون عليهم و قال صلى الله عليه و سلم : [ الربا سبعون بابا أهونها مثل أن ينكح الرجل أمه و أن أربي الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم ] فصح أنه باب من أعظم أبواب الربا
و [ عن أنس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر الربا و عظم شأنه فقال : الدرهم الذي يصيبه الرجل من الربا أشد من ست و ثلاثين زنية في الإسلام ] و عنه صلى الله عليه و سلم قال : [ الربا سبعون حوبا أهونها كوقع الرجل على أمه و في رواية أهونها كالذي ينكح أمه ] و الحوب : الإثم
و عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : الزائد و المستزيد في النار ـ يعني الآخذ و المعطي فيه سواء نسأل الله العافية
فصل : عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إذا كان لك على رجل دين فأهدى لك شيئا فلا تأخذه فإنه ربا و قال الحسن رحمه الله : إذا كان لك على رجل دين فما أكلت من بيته فهو سحت و هذا من قوله صلى الله عليه و سلم : [ كل قرض جر نفعا فهو ربا ] و قال ابن مسعود أيضا : من شفع لرجل شفاعة فأهدى إليه هدية فهي سحت و تصديقه من قوله صلى الله عليه و سلم : [ من شفع لرجل شفاعة فأهدى له عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا ] أخرجه أبو داود فنسأل الله العفو و العافية في الدين الدنيا و الآخرة
الكبيرة الثالثة عشرة : أكل مال اليتيم و ظلمه قال الله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا } و قال الله تعالى : { و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده }
و [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في المعراج : فإذا أنا برجال و قد وكل بهم رجال يفكون لحالهم و آخرون يجيئون بالصخور من النار فيقذفونها بأفواههم و تخرج من أدبارهم فقلت : يا جبريل من هن هؤلاء ؟ قال : الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ] رواه مسلم
و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يبعث الله عز و جل قوما من قبورهم تخرج النار من بطونهم تأجج أفواههم نارا فقيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : ألم تر أن الله تعالى يقول : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } ]
و قال السدي رحمه الله تعالى : يحشر آكل مال اليتيم ظلما يوم القيامة و لهب النار يخرج من فيه و من مسامعه و أنفه و عينه كل من رآه يعرفه أنه آكل مال اليتيم
قال العلماء : فكل ولي ليتيم إذا كان فقيرا فأكل من ماله بالمعروف بقدر قيامه عليه في مصالحه و تنمية ماله فلا بأس عليه و ما زاد على المعروف فسحت حرام لقول الله تعالى : { و من كان غنيا فليستعفف و من كان فقيرا فليأكل بالمعروف }
و في الأكل بالمعروف أربعة أقوال : أحدهما : أنه الأخذ على وجه القرض و الثاني : الأكل بقدر الحاجة من غير إسراف و الثالث : أنه أخذ بقدر إذا عمل لليتيم عملا و الرابع : أنه الأخذ عند الضرورة فإن أيسر قضاه و إن لم يوسر فهو في حل و هذه الأقوال ذكرها ابن الجوزي في تفسيره
و في البخاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أنا و كافل اليتيم في الجنة هكذا و أشار بالسبابة و الوسطى و فرج بينهما ] و في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه و سلم قال : [ كافل اليتيم له أو لغيره أنا و هو كهاتين في الجنة و أشار بالسبابة و الوسطى ]
كفالة اليتيم هي القيام بأموره و السعي في مصالحه من طعامه و كسوته و تنمية ماله إن كان له مال و إن كان لا مال له أنفق عليه و كساه ابتغاء وجه الله تعالى و قوله في الحديث : له أو لغيره ـ أي سواء كان اليتيم قرابة أو أجنبيا منه فالقرابة مثل أن يكفله جده أو أخوه أو أمه أو عمه أو زوج أمه أو خاله أو غيره من أقاربه و الأجنبي من ليس بينه و بينه قرابة
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من ضم يتيما من المسلمين إلى طعامه و شرابه حتى يغنيه الله تعالى أوجب الله له الجنة إلا أن يعمل ذنبا لا يغفر ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ من مسح رأس يتيم لا يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنة و من أحسن إلى يتيم أو يتيمه عنده كنت أنا و هو هكذا في الجنة ]
و قال رجل لأبي الدرداء رضي الله عنه : أوصني بوصية قال : ارحم اليتيم و أدنه منك و أطعمه من طعامك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاه رجل يشتكي قسوة قلبه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أردت أن يلين قلبك فادن اليتيم منك و امسح رأسه و أطعمه من طعامك فإن ذلك يلين قلبك و تقدر على حاجتك
و مما حكي عن بعض السلف قال : كنت في بداية أمري مكبا على المعاصي و شرب الخمر فظفرت يوما بصبي يتيم فقير فأخذته و أحسنت إله و أطعمته و كسوته و أدخلته الحمام و أزلت شعثه و أكرمته كما يكرم الرجل ولده بل أكثر فبت ليلة بعد ذلك فرأيت في النوم أن القيامة قامت و دعيت إلى الحساب و أمر بي إلى النار لسوء ما كنت عليه من المعاصي فسحبتني الزبانية ليمضوا بي إلى النار و أنا بين أيديهم حقير ذليل يجروني سحبا إلى النار و إذا بذلك اليتيم قد اعترضني بالطريق و قال : خلو عنه يا ملائكة ربي حتى أشفع له إلى ربي فإنه قد أحسن إلي و أكرمني فقالت الملائكة : إنا لم نؤمر بذلك و إذا النداء من قبل الله تعالى يقول : خلوا عنه فقد وهبت له ما كان منه بشفاعة اليتيم و إحسانه إليه قال : فاستيقظت و تبت إلى الله عز و جل و بذلت جهدي في إيصال الرحمة إلى الأيتام و لهذا قال أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه و سلم : خير البيوت بيت فيه يتيم يحسن إليه و شر البيوت بيت فيه يتيم يساء إليه و أحب عباد الله إلى الله تعالى من اصطنع صنعا إلى يتيم أو أرملة و روي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : يا داود كن لليتيم كالأب الرحيم و كن للأرملة كالزوج الشفيق و اعلم كما تزرع كذا تحصد : معناه أنك كما تفعل كذلك يفعل معك أي لا بد أن تموت و يبقى لك ولد يتيم أو امرأة أرملة و قال داود عليه السلام في مناجاته : إلهي ما جزاء من أسند اليتيم و الأرملة ابتغاء وجهك ؟ قال : جزاؤه أن أظله في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي معناه ظل عرشي يوم القيامة
و مما جاء في فضل الإحسان إلى الأرملة و اليتيم عن بعض العلويين ـ و كان نازلا ببلخ من بلاد العجم و له زوجة علوية و له منها بنات و كانوا في سعة و نعمة فمات الزوج و أصاب المرأة و بناتها بعده الفقر و القلة فخرجت ببناتها إلى بلدة أخرى خوف شماتة الأعداء و اتفق خروجها في شدة البرد فلما دخلت ذلك البلد أدخلت بناتها في بعض المساجد المهجورة و مضت تحتال لهم في القوت فمرت بجمعين : جمع على رجل مسلم و هو شيخ البلد و جمع على رجل مجوسي و هو ضامن البلد فبدأت بالمسلم و شرحت حالها له و قالت : أنا امرأة علوية و معي بنات أيتام أدخلتهم بعض المساجد المهجورة و أريد الليلة قوتهم فقال لها : أقيمي عندي البينة أنك علوية شريفة فقالت : أنا امرأة غريبة ما في البلد من يعرفني فأعرض عنها فمضت من عنده منكسرة القلب فجاءت إلى ذلك الرجل المجوسي فشرحت له حالها و أخبرته أن معها بنات أيتام و هي امرأة شريفة غريبة و قصت عليه ما جرى لها مع الشيخ المسلم فقام و أرسل بعض نسائه و أتوا بها و بناتها إلى داره فأطعمهن أطيب الطعام و ألبسهن أفخر اللباس و باتوا عنده في نعمة و كرامة قال فلما انتصف الليل رأى ذلك الشيخ المسلم في منامه كأن القيامة قد قامت و قد عقد اللواء على رأس النبي صلى الله عليه و سلم و إذا القصر من الزمرد الأخضر شرفاته من اللؤلؤ و الياقوت و فيه قباب اللؤلؤ و المرجان فقال : يا رسول الله لمن هذا القصر ؟ قال لرجل مسلم موحد فقال : يا رسول الله أنا رجل مسلم موحد
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أقم عندي البينة أنك مسلم موحد قال : فبقي متحيرا فقال له صلى الله عليه و سلم : لما قصدتك المرأة العلوية قلت أقيمي عندي البينة أنك علوية فكذا أنت أقم عندي البينة أنك مسلم : فانتبه الرجل حزينا على رده المرأة خائبة ثم جعل يطوف بالبلد و يسأل عنها حتى دل عليها أنها عند المجوسي فأرسل إليه فأتاه فقال له : أريد منك المرأة الشريفة العلوية و بناتها فقال : ما إلى هذا من سبيل و قد لحقني من بركاتهم ما لحقني قال : خذ مني ألف دينار و سلمهن إلي فقال لا أفعل فقال : لا بد منهن فقال : الذي تريده أنت أنا أحق به و القصر الذي رأيته في منامك خلق لي أتدل علي بالإسلام ؟ فوالله ما نمت البارحة أنا و أهل داري حتى أسلمنا كلنا على يد العلوية و رأيت مثل الذي رأيت في منامك و قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : العلوية و بناتها عندك ؟ قلت : نعم يا رسول الله قال : القصر لك و لأهل دارك و أنت و أهل دارك من أهل الجنة خلقك الله مؤمنا في الأزل قال : فانصرف المسلم و به من الحزن و الكآبة ما لا يعلمه إلا الله فانظر رحمك الله إلى بركة الإحسان إلى الأرملة و الأيتام نا أعقب صاحبه من الكرامة في الدنيا !
و لهذا ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الساعي على الأرملة و المساكين كالمجاهد في سبيل الله ] قال الراوي أحسبه قال : [ و كالقائم لا يفتر و كالصائم لا يفطر ] و الساعي عليهم هو القائم بأمورهم و مصالحهم ابتغاء وجه الله تعالى وفقنا لله لذلك بمنه و كرامه أنه جواد كريم رؤوف غفور رحيم
الكبيرة الرابعة عشرة : الكذب على الله عز و جل و على رسوله صلى الله عليه و سلم
قال الله عز و جل :
{ و يوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة }
قال الحسن : هم الذين يقولون : إن شئنا فعلنا و إن شئنا لم نفعل قال ابن الجوزي في تفسيره : و قد ذهب طائفة من العلماء إلى أن الكذب على الله و على رسوله كفر ينقل عن الملة و لا ريب أن الكذب على الله و على رسوله في تحليل حرام و تحريم حلال كفر محض و إنما الشأن في الكذب عليه فيما سوى ذلك
و قال صلى الله عليه و سلم : [ من كذب علي بني له بيت في جهنم ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ و من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ من روى عني حديثا و هو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ]
و قال صلى الله عليه و سلم : [ إن كذبا علي ليس ككذب على غيري من كذب علي معمدا فليتبوأ مقعده من النار ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ من يقل عني ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ يطبع المؤهل على كل شيء إلا الخيانة و الكذب ] نسأل الله التوفيق و العصمة إنه جواد كريم
الكبيرة الخامسة عشرة : الفرار من الزحف و إذا لم يزد على ضعف المسلمين إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة و إن بعدت قال الله تعالى :
{ و من يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله و مأواه جهنم و بئس المصير }
و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : و ما هن يا رسول الله ؟ قال : الشرك بالله و السحر و قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق و أكل الربا و أكل مال اليتيم و التولي يوم الزحف و قذف المحصنات الغافلات المؤمنات ]
و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين }
فكتب الله عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين ثم نزلت :
{ الآن خفف الله عنكم و علم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين و إن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله و الله مع الصابرين } فكتب أن لا يفر مائة من مائتين رواه البخاري
الكبيرة السادسة عشرة : غش الإمام الرعية و ظلمه لهم قال الله تعالى : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس و يبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم }
و قال الله تعالى : { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار * مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء }
و قال الله تعالى : { و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون }
و قال الله تعالى : { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون }
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من غشنا فليس منا ] و قال عليه السلام : [ الظلم ظلمات يوم القيامة ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أيما راع غش رعيته فهو في النار ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ من استرعاه الله رعية ثم لم يحطها بنصيحة إلا حرم الله عليه الجنة ] أخرجه البخاري و في لفظ : [ يموت يوم يموت و هو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ]
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما من حاكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة و ملك آخذ بقفاه فإن قال ألقه ألقاه فهوى في جهنم أربعين خريفا ] رواه الإمام أحمد
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ويل للأمراء ويل للعرفاء ويل للأمناء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا يعذبون و لم يكونوا عملوا من شيء ]
و قال صلى الله عليه و سلم : [ ليأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط ]
و قال صلى الله عليه و سلم : [ ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه إما أطلقه عدله أو أوبقه جوره ]
و من دعاء رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اللهم من ولي من أمر هذه الأمة شيئا فرفق بهم فارفق به و من شفق عليهم فاشفق عليه ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم و خلتهم و فقرهم احتجب الله دون حاجته و خلته و فقره ]
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ سيكون أمراء فسقة جورة فمن صدقهم بكذبهم و أعانهم على ظلمهم فليس مني و لست منه و لن يرد على الحوض ]
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صنفان من أمتي لن تنالهم شفاعتي : سلطان ظلوم غشوش و غال في الدين يشهد عليهم و يتبرأ منهم ]
و قال عليه السلام : [ أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام جائر ] و في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أيها الناس مروا بالمعروف و انهوا عن النكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم و قبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم إن الأحبار من اليهود و الرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عمهم بالبلاء ]
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ]
[ و من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا ]
و في الحديث أيضا [ من لا يرحم لا يرحم لا يرحم الله من لا يرحم الناس ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ الإمام العادل يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ] و قال : [ المقسطون على منابر من نور و الذين يعدلون في حكمهم و أهليهم و ما ولوا ]
و لما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم معاذا رضي الله عنه إلى اليمن قال : [ إياك و كرائم أموالهم و اتقي دعوة المظلوم فإنها ليس بينها و بين الله حجاب ] رواه البخاري و قال عليه الصلاة و السلام : : [ ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة : فذكر منهم الملك الكذاب و قال : إنكم ستحرصون على الإمارة و ستكون ندامة يوم القيامة ] رواه البخاري و فيه أيضا : [ و إنا و الله لا نولي هذا العمل أحدا سأله أو أحدا حرص عليه ]
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا كعب بن عجرة أعاذك الله من إمارة السفهاء أمراء يكونون من بعدي لا يهتدون بهدي و لا يستنون بسنتي ] و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة و من غلب جوره عدله فله النار ]
و قال : [ ستحرصون على الإمارة و ستكون ندامة يوم القيامة ]
و قال عمر لأبي ذر رضي الله عنهما : حدثني بحديث سمعته من رسول الله فقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ يجاء بالوالي يوم القيامة فينبذ به على جسر جهنم فيرتج به الجسر ارتجاجة لا يبقى منه مفصل إلا زال عن مكانه فإن كان مطيعا لله في عمله مضى به و إن كان عاصيا لله في عمله انخرق به الجسر فهوى به في جهنم مقدار خمسين عاما ] فقال عمر : من يطلب العمل بها يا أبا ذر ؟ قال : من سلت لله أنفه و ألصق خده بالتراب
و قال عمر بن المهاجر قال لي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم قل : يا عمر ما تصنع
يا راضيا باسم الظالم كم عليك من المظالم السجن جهنم و الحق الحاكم و لا حجة لك فيما تخاصم القبر مهول فتذكر حبسك و الحساب طويل فخلص نفسك و العمر كيوم فبادر شمسك تفرح بمالك و الكسب خبيث و تمرح بآمالك و السير حثيث إن الظلم لا يترك منه قدر أنملة فإذا رأيت ظالما قد سطا فنم له فربما بات فأخذت جنبه من الليل نملة أي قروح في الجسد
الكبيرة السابعة عشر : الكبر الكبر و الفخر و الخيلاء و العجب و التيه ـ قال الله تعالى : { و قال موسى إني عذت بربي و ربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } و قال الله تعالى : { إنه لا يحب المستكبرين }
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بينما رجل يتبختر في مشيه إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلل فيها إلى يوم القيامة ] و قال عليه الصلاة و السلام : [ يحشر الجبارون المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس يغشاهم الذل من كل مكان ] و قال بعض السلف أول ذنب عصي الله به الكبر
قال الله تعالى : { و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى و استكبر و كان من الكافرين }
فمن استكبر على الحق لم ينفعه إيمانه كما فعل إبليس
و عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال : [ لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال ذرة من كبر ] رواه مسلم
و قال الله تعالى : { إن الله لا يحب كل مختال فخور } و قال صلى الله عليه و سلم : قال الله تعالى : [ العظمة إزاري و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما ألقيته في النار ] رواه مسلم المنازعة : المجاذبة
و قال صلى الله عليه و آله و سلم : [ اختصمت الجنة و النار فقالت الجنة مالي ما يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم ؟ و قالت النار أوثرت بالجبارين و المتكبرين ] الحديث و قال الله تعالى : { و لا تصعر خدك للناس و لا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور } أي لا تمل خدك معرضا متكبرا و المرح التبختر
و قال سلمة بن الأكوع : [ أكل رجل عند رسول الله صلى الله عليه و سلم بشماله قال : كل بيمينك قال : لا أستطيع فقال : لا استطعت ما منعه إلا الكبر فما رفعها إلى فيه بعد ] رواه مسلم و قال عليه الصلاة و السلام : [ ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتل جواظ مستكبر ] : العتل الغليظ الجافي و الجواظ : الجموع المنوع و قيل الضخم المختال في مشيته و قيل البطين
[ عن ابن عمر رضي الله عنهما : قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ما من رجل يختال في مشيته و يتعاظم في نفسه إلا لقي الله و هو عليه غضبان ] و صح من حديث أبي هريرة : [ أول ثلاثة يدخلون النار : أمير مسلط أي ظالم و غني لا يؤدي الزكاة و فقير فخور ] و في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم : المسبل المنان و المنفق سلعته بالحلف الكاذب ] و المسبل هو الذي يسبل إزاره أو ثيابه أو سراويله حتى يكون إلى قدميه لأنه صلى الله عليه و سلم قال : [ ما أسبل من الكعبين من الإزار فهو في النار ]
و أشر الكبر الذي فيه من يتكبر على العباد بعلمه و يتعاظم في نفسه بفضيلته فإن هذا لم ينفعه علمه فإن من طلب العلم للآخرة كسره علمه وخشع قلبه و استكانت نفسه و كان على نفسه بالمرصاد فلا يفتر عنها بل يحاسبها كل وقت و يتفقدها فإن غفل عنها جمحت عن الطريق المستقيم و أهلكته و من طلب العلم للفخر و الرياسة و بطر على المسلمين و تحامق عليهم و ازدراهم فهذا من أكبر الكبر و لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم
الكبيرة الثامنة عشرة : شهادة الزور قال الله تعالى : { و الذين لا يشهدون الزور } الآية و في الأثر عدلت شهادة الزور الشرك بالله تعالى مرتين و قال الله تعالى : { و اجتنبوا قول الزور }
و في الحديث : [ لا تزول قدما شاهد الزور يوم القيامة حتى تجب له النار ] قال المصنف رحمه الله تعالى : شاهد الزور قد ارتكب عظائم ( أحدها ) الكذب و الإفتراء قال الله تعالى : { إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب }
و في الحديث : [ يطبع المؤمن على كل شيء ليس الخيانة و الكذب ] و ( ثانيها ) إنه ظلم الذي شهد حتى أخذ بشهادته ماله و عرضه و روحه و ( ثالثها ) : إنه ظلم الذي شهد له بأن ساق إليه المال الحرام فأخذه بشهادته فوجبت له النار و قال صلى الله عليه و سلم : [ من قضيت له من مال أخيه بغير حق فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار ] و ( رابعها ) : أباح ما حرم الله تعالى و عصمه من المال و الدم و العرض قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ الإشراك بالله و عقوق الوالدين ألا و قول الزور ألا و شهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ] رواه البخاري فنسأل الله تعالى السلامة و العافية من كل بلاء
الكبيرة التاسعة عشر : شرب الخمر قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } فقد نهى عز و جل في هذه الآية عن الخمر و حذر منها و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث ] فمن لم يجتنبها فقد عصى الله و رسوله و استحق العذاب بمعصية الله و رسوله قال الله تعالى : { و من يعص الله و رسوله و يتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب مهين }
و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزل تحريم الخمر مشى الصحابة بعضهم إلى بعض و قالوا حرمت الخمر و جعلت عدلا للشرك
و ذهب عبد الله بن عمرو إلى أن الخمر أكبر الكبائر و هي بلا ريب أم الخبائث و قد لعن شاربها في غير حديث و عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل مسكر خمر و كل خمر حرام و من شرب الخمر في الدنيا و مات و لم يتب منها و هو مدمنها لم يشربها في الآخرة ] رواه مسلم و روى مسلم : [ عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن على الله عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قيل : يا رسول الله و ما طينة الخبال ؟ قال : عرق أهل النار أو عصارة أهل النار ]
و في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من شرب الخمر في الدنيا يحرمها في الآخرة ]
ذكر أن مدمن الخمر كعابد وثن : رواه الإمام أحمد في مسنده [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : مدمن الخمر كعابد وثن ]
ذكر أن مدمن الخمر إذا مات و لم يتب لا يدخل الجنة : روى النسائي [ من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يدخل الجنة عاق و لا مدمن خمر ] و في رواية [ ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة مدمن الخمر و العاق لوالديه و الديوث و هو الذي يقر السوء في أهله ]
ذكر أن السكران لا يقبل منه حسنة : روى [ جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ثلاثة لا تقبل لهم صلاة و لا ترفع لهم حسنة إلى السماء : العبد الآبق حتى يرجع إلى مواليه فيضع يده في أيديهم و المرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى عنها و السكران حتى يصحو ]
و الخمر ما خامر العقل أي غطاه سواء كان رطبا أو يابسا أو مأكولا أو مشروبا و [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يقبل الله لشارب الخمر صلاة ما دام في جسده شيء منها ] و في رواية [ من شرب الخمر لم يقبل الله منه شيئا و من سكر منها لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب ثم عاد كان حقا على الله أن يسقيه من مهل جهنم ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من شرب الخمر و لم يسكر أعرض الله عنه أربعين ليلة و من شرب الخمر و سكر لم يقبل الله منه صرفا و لا عدلا أربعين ليلة فإن مات فيها مات كعابد وثن و كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال قيل : يا رسول الله و ما طينة الخبال ؟ قال : عصارة أهل النار القيح و الدم ]
و قال عبد الله بن أبي أوفى : من مات مدمنا للخمر مات كعابد اللات و العزى قيل : أرأيت مدمن الخمر هو الذي لا يستفيق من شربها ؟ قال : لا و لكن هو الذي يشربها إذا وجدها و لو بعد سنين
ذكر أن من شرب الخمر لا يكون مؤمنا حين يشربها : [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : لا يسرق السارق حين يسرق و هو مؤمن و لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن و لا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن و التوبة معروضة بعد ] أخرجه البخاري و في الحديث : [ من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه ] و فيه : من شرب الحمر ممسيا أصبح مشركا و من شربها مصبحا أمسى مشركا و فيه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن رائحة الجنة لتوجد من مسيرة خمسمائة عام و لا يجد ريحها عاق و لا منان و لا مدمن خمر و لا عابد وثن ] و روى الإمام أحمد من [ حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يدخل الجنة مدمن خمر و لا مؤمن بسحر و لا قاطع رحم و من مات و هو يشرب الخمر سقاه الله من نهر الغوطة و هو ماء يجري من فروج المومسات ـ أي الزانيات يؤذي أهل النار ريح فروجهن ]
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله بعثني رحمة و هدى للعالمين بعثني لأمحق المعازف و المزامير و أمر الجاهلية و أقسم ربي تعالى بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من الخمر إلا سقيته مثلها من حميم جهنم و لا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيته إياها في حظائر القدس مع خير الندماء ]
ذكر من لعن في الخمر : روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لعنت الخمر بعينها و شاربها و ساقيها و بائعها و مبتاعها و عاصرها و معتصرها و حاملها و المحمولة إليه و آكل ثمنها ] و رواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ أتاني جبريل عليه السلام فقال : يا محمد إن الله لعن الخمر و عاصرها و معتصرها و بائعها و مبتاعها و شاربها و آكل ثمنها و حاملها و المحمولة إليه و ساقيها و مستقيها ]
ذكر النهي عن عيادة شربة الخمر إذا مرضوا و كذلك لا يسلم عليهم :
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : لا تعودوا شراب الخمر إذا مرضوا قال البخاري و قال ابن عمر لا تسلموا على شربة الخمر و قال صلى الله عليه و سلم : [ لا تجالسوا شراب الخمر و لا تعودوا مرضاهم و لا تشهدوا جنائزهم و إن شارب الخمر يجيء يوم القيامة مسودا وجهه مدلعا لسانه على صدره يسيل لعابه يقذره كل من رآه و عرفه أنه شارب خمر ]
قال بعض العلماء : إنما نهى عن عيادتهم و السلام عليهم لأن شارب الخمر فاسق ملعون قد لعنه الله و رسوله كما تقدم في قوله : لعن الله الخمور و شاربها الحديث فإن اشتراها و عصرها كان ملعونا مرتين و إن سقاها لغيره كان ملعونا ثلاث مرات فلذلك نهى عن عيادته و السلام عليه إلا أن يتوب فمن تاب تاب الله عليه
ذكر أن الخمر لا يحل التداوي بها : [ عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : اشتكت ابنة لي فنبذت لها في كوز فدخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يغلي فقال : ما هذا يا أم سلمة ؟ فذكرت له أني أداوي به ابنتي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها ]
ذكر أحاديث متفرقة رويت في الخمر : من ذلك ما ذكره أبو نعيم في الحلية عن أبي موسى رضي الله عنه قال : أتي النبي صلى الله عليه و سلم بنبيذ في جرة له نشيش فقال : [ اضربوا بهذا الحائط فإن هذا شرب من لا يؤمن بالله و اليوم الآخر ]
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من كان في صدره آية من كتاب الله و صب عليها الخمر يجيء يوم القيامة كل حرف من تلك الآية فيأخذ بناصيته حتى يوقفه بين يدي الله تبارك و تعالى فيخاصمه و من خاصمه القرآن خصم فالويل لمن كان القرآن خصمه يوم القيامة ] و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما من قوم اجتمعوا على مسكر في الدنيا إلا جمعهم الله في النار فيقبل بعضهم على بعض يتلاومون يقول أحدهم للآخر : يا فلان لا جزاك الله عني خيرا فأنت الذي أوردتني هذا المورد و يقول له الآخر مثل ذلك ] و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من شرب الخمر في الدنيا سقاه الله من سم الأساودة شربة يتساقط لحم وجهه في الإناء قبل أن يشربها فإذا شربها تساقط لحمه و جلده يتأذى به أهل النار ألا وشاربها و عاصرها و معتصرها و حاملها و المحمولة إليه و آكل ثمنها شركاء في إثمها لا يقبل الله منهم صلاة و لا صوم و لا حجا حتى يتوبوا فإن ماتوا قبل التوبة كان حقا على الله أن يسقيهم بكل جرعة شربوها في الدنيا من صديد جهنم ألا و كل مسكر خمر و كل خمر حرام ]
و يدخل في قوله صلى الله عليه و سلم كل مسكر خمر : الحشيشة كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى روي : [ أن شربة الخمر إذا أتوا على الصراط يتخطفهم الزبانية إلى نهر الخبال فيسقون بكل كأس شربوها من الخمر شربة من نهر الخبال فلو أن تلك الشربة تصب من السماء لأحرقت السماوات من حرها ] نعوذ بالله منها
ذكر الآثار عن السلف في الخمر : ذكر ابن مسعود رضي الله عنه قال : إذا مات شارب الخمر فادفنوه ثم اصلبوه على خشبة ثم انبشوا عنه قبره فإن لم تروا وجهه مصروفا عن القبلة و إلا فاتركوه مصلوبا و عن الفضيل بن عياض أنه حضر عند تلميذ له حضرته الوفاة فجعل يلقنه الشهادة و لسانه لا ينطق بها فكررها عليه فقال : لا أقولها و أنا بريء منها فخرج الفضيل من عنده و هو يبكي ثم رآه بعد مدة في منامه و هو يسحب به إلى النار فقال له : يا مسكين بم نزعت منك المعرفة ؟ فقال : يا أستاذ كان بي علة فأتيت بعض الأطباء فقال لي تشرب في كل سنة قدحا من الخمر و إن لم تفعل تبقى بك علتك فكنت أشربها في كل سنة لأجل التداوي ! فهذا حال من شربها للتداوي فكيف حال من يشربها لغير ذلك ؟ نسأل الله العفو و العافية من كل بلاء
و سئل بعض التائبين عن سبب توبته فقال : كنت أنبش القبور فرأيت فيها أمواتا مصروفين عن القبلة فسألت أهليهم عنهم فقالوا : كانوا يشربون الخمر في الدنيا و ماتوا من غير توبة و قال بعض الصالحين : مات لي ولد صغير فلما دفنته رأيته بعد موته في المنام و قد شاب رأسه فقلت : يا ولدي دفنتك و أنت صغير فما الذي شيبك ؟ فقال : يا أبتي دفن إلى جانبي رجل ممن كان يشرب الخمر في الدنيا فزفرت جهنم لقدومه زفرة لم يبق منها طفل إلا شاب رأسه من شدة زفرتها نعوذ بالله منها و نسأل الله العفو و العافية مما يوجب العذاب في الآخرة
فالواجب على العبد أن يتوب إلى الله تعالى قبل أن يدركه الموت و هو على أشر حالة فيلقى في النار نعوذ بالله منه
فصل : و الحشيشة المصنوعة من ورق القنب حرام كالخمر يحد شاربها كما يحد شارب الخمر و هي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل و المزاج حتى يصير في الرجل تخنث و دياثة و غير ذلك من الفساد و الخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى المخاصمة و المقاتلة و كلاهما يصد عن ذكر الله و عن الصلاة
و قد توقف بعض العلماء المتأخرين في حدها و رأى أن أكلتها تعزر بما دون الحد حيث ظنها تغير العقل من غير طرب بمنزلة البنج و لم يجد العلماء المتقدمين فيها كلاما و ليس كذلك بل أكلتها ينشون و يشتهونها كشراب الخمر و أكثر حتى لا يصبروا عنها و تصدهم عن ذكر الله و الصلاة إذا أكثرا منها مع ما فيها من الدياثة و التخنث و فساد المزاج و العقل و غير ذلك لكن لما كانت جامدة مطعومة ـ ليست شرابا ـ تنازع العلماء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب الإمام أحمد و غيره فقيل : هي نجسة كالخمر المشروبة و هذا هو الإعتبار الصحيح و قيل : لا لجمودها و قيل يفرق بين جامدها و مائعها و بكل حال : فهي داخلة فيما حرم الله و رسوله من الخمر المسكر لفظا و معنى قال أبو موسى : يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع و هو من العسل ينبذ حتى يشتد و المزر و هو الذرة و الشعير ينبذ حتى يشتد قال : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أعطى جوامع الكلم بخواتمه فقال صلى الله عليه و سلم : [ كل مسكر حرام ] رواه مسلم و قال صلى الله عليه و سلم : [ ما أسكر كثيره فقليله حرام ] و لم يفرق صلى الله عليه و سلم بين نوع و نوع لكونه مأكولا أو مشروبا على أن الخمر قد يصطنع بها يعني الخبز و هذه الحشيشة قد تذاب بالماء و تشرب و الخمر يشرب و يؤكل و الحشيشة تشرب و تؤكل و إنما لم يذكرها العلماء لأنها لم تكن على عهد السلف الماضي و إنما حدثت في مجيء التتار إلى بلاد الإسلام و قد قيل في وصفها شعرا :
( فآكلها و زارعها حلالا ... فتلك على الشقي مصيبتان )
فوالله ما فرح إبليس بمثل فرحه بالحشيشة لأنه زينها للأنفس الخسيسة فاستحلوها و استرخصوها :
( قل لمن يأكل الحشيشة جهلا ... عشت بأكلها بأقبح عيشة )
( قيمة المرء جوهر فلماذا ... يا أخا الجهل بعته بحشيشة )
حكاية : عن عبد الملك بن مروان : أن شابا جاء إليه باكيا حزينا فقال : يا أمير المؤمنين إني ارتكبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة ؟ قال و ما ذنبك ؟ قال : ذنبي عظيم قال : و ما هو فتب إلى الله تعالى فإنه يقبل التوبة عن عباده و يعفو عن السيئات قال : يا أمير المؤمنين كنت أنبش القبور و كنت أرى فيها أمورا عجيبة قال : و ما رأيت ؟ قال يا أمير المؤمنين نبشت ليلة قبرا فرأيت صاحبه قد حول وجهه عن القبلة فخفت منه و أردت الخروج فإذا أنا بقائل يقول في القبر : ألا تسأل عن الميت لماذا حول وجهه عن القبلة ؟ فقلت : لماذا حول ؟ قال : لأنه كان مستخفا بالصلاة هذا جزاء مثله ثم نبشت قبرا آخر فرأيت صاحبه قد حول خنزيرا و قد شد بالسلاسل و الأغلال في عنقه فخفت منه و أردت الخروج و إذا بقائل يقول لي : ألا تسأل عن عمله و لماذا يعذب ؟ فقلت : لماذا ؟ فقال : كان يشرب الخمر في الدنيا و مات من غير توبة و الثالث يا أمير المؤمنين نبشت قبرا فوجدت صاحبه قد شد بالأرض بأوتار من نار و أخرج لسانه من قفاه فخفت و رجعت و أردت الخروج فنوديت : ألا تسأل عن حاله لماذا ابتلي ؟ فقالت : لماذا ؟ فقال : كان لا يتحرز من البول و كان ينقل الحديث بين الناس فهذا جزاء مثله و الرابع يا أمير المؤمنين نبشت قبرا فوجدت صاحبه قد اشتعل نارا فخفت منه و أردت الخروج فقيل : ألا تسأل عنه و عن حاله ؟ فقلت و ما حاله ؟ فقال : كان تاركا للصلاة و الخامس يا أمير المؤمنين نبشت قبرا فرأيته قد وسع على الميت مد البصر و فيه نور ساطع و الميت نائم على سرير و قد أشرق نوره و عليه ثياب حسنة فأخذتني منه هيبة و أردت الخروج فقيل لي : هلا تسأل عن حاله لماذا أكرم بهذه الكرامة فقلت : لماذا أكرم ؟ فقيل لي : لأنه كان شابا طائعا نشأ في طاعة الله عز و جل و عبادته فقال عبد الملك عند ذلك : إن في هذا لعبرة للعاصين و بشارة للطائعين فالواجب على المبتلي بهذه المعائب المبادرة إلى التوبة و الطاعة جعلنا الله و إياكم من الطائعين و جنبنا أفعال الفاسقين إنه جواد كريم
الكبيرة العشرون : القمار قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون }
و الميسر هو القمار بأي نوع كان : نرد أو شطرنج أو فصوص أو كعاب أو جوز أو بيض أو حصى أو غير و هو من أكل أموال الناس بالباطل الذي نهى الله عنه بقوله : { و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } و داخل في قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة ] و في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من قال لصاحبه تعالى أقامرك فليتصدق ] فإذا كان مجرد القول يوجب الكفارة أو الصدقة فما ظنك بالفعل ؟ !
فصل : اختلف العلماء في النرد و الشطرنج إذا خليا عن رهن اتفقوا على تحريم اللعب بالنرد لما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير و دمه ] أخرجه مسلم و قال صلى الله عليه و سلم : [ من لعب بالنرد فقد عصى الله و رسوله ] و قال ابن عمر رضي الله عنه اللعب بالنرد قمار كالدهن بودك الخنزير
قال : و أما الشطرنج فأكثر العلماء على تحريم اللعب بها سواء كان برهن أو بغيره أما الرهن فهو قمار بلا خلاف و أما الكلام إذا خلا عن الرهن فهو أيضا قمار حرام عند أكثر العلماء و حكي إباحته في رواية عن الشافعي : إذا كان في خلوة و لم يشغل عن واجب و لا عن صلاة في وقتها و سئل النووي رحمه الله عن العب بالشطرنج أحرام أم جائز ؟ فأجاب رحمه الله تعالى : هو حرام عند أكثر أهل العلم و سئل أيضا رحمه الله عن لعب الشطرنج هل يجوز أم لا و هل يأثم اللاعب بها أم لا ؟ أجاب رحمه الله : إن فوت به صلاة عن وقتها أو لعب بها على عوض فهو حرام و إلا فمكروه عند الشافعي و حرام عند غيره و هذا كلام النووي في فتاويه
و الدليل على تحريمه على قول الأكثرين في قول الله تعالى : { حرمت عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير } إلى قوله { و أن تستقسموا بالأزلام } قال سفيان و وكيع بن الجراح : هي الشطرنج و قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الشطرنج ميس الأعاجم و مر رضي الله عنه على قوم يلعبون بها فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفى خير له من أن يمسها ثم قال : و الله لغير هذا خلقتم و قال أيضا رضي الله عنه : صاحب الشطرنج أكذب الناس يقول أحدهم : قتلت و ما قتل و مات و ما مات و قال أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه : لا يلعب بالشطرنج إلا خاطىء
و قيل لاسحاق بن راهوية أترى في اللعب بالشطرنج بأس ؟ فقال : البأس كله فيه فقيل له : إن أهل الثغور يلعبون بها لأجل الحرب فقال : هو فجور و سئل محمد بن كعب القرظي عن اللعب بالشطرنج فقال : أدنى ما يكون فيها أن اللاعب بها يعرض يوم القيامة أو قال يحشر يوم القيامة مع أصحاب الباطل
و سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن الشطرنج فقال : هي أشر من النرد و تقدم الكلام عن تحريمه و سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله عن الشطرنج فقال : الشطرنج من النرد بلغنا عن ابن عباس أنه ولي مالا ليتيم فوجدها فوجدها في تركة والد اليتيم فأحرقها و لو كان اللعب بها حلالا لما جاز له أن يحرقها لكونها مال اليتيم و لكن لما كان اللعب بها حراما أحرقها فتكون من جنس الخمر إذا وجد في مال اليتيم وجبت إراقته كذلك الشطرنج و هذا مذهب حبر الأمة رضي الله عنه و قيل لإبراهيم النخعي : ما تقول في اللعب بالشطرنج ؟ فقال : إنها ملعونة
و روى أبو بكر الأثرم في جامعه [ عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الله في كل يوم ثلثمائة رضي الله عنه ستين نظرة إلى خلقه ليس لصاحب الشاه فيها نصيب ـ يعني لا عب الشطرنج لأنه يقول شاه مات ] و روى أبو بكر الأجري باسناده [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بهذه الأزلام النرد و الشطرنج و ما كان من اللهو فلا تسلموا عليهم فإنهم إذا اجتمعوا و أكبوا عليها جاءهم الشيطان بجنوده فأحدق بهم كلما ذهب واحد منهم يصرف بصره عنها لكزه الشيطان بجنوده فلا يزالون يلعبون حتى يتفرقوا كالكلاب اجتمعت على جيفة فأكلت منها حتى ملأت بطونها ثم تفرقت و لأنهم يكذبون عليها فيقولون : شاه مات ] و روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أشد الناس عذابا يوم القيامة صاحب الشاه يعني صاحب الشطرنج ألا تراه يقول قتلته و الله مات و الله افترى و كذب على الله ]
و قال مجاهد : ما من ميت يموت إلا مثل له جلساؤه الذين كان يجالسهم فاحتضر رجل ممن كان يلعب بالشطرنج فقيل له : قل لا إله إلا الله فقال : شاهك ثم مات فغلب على لسانه ما كان يعتاده حال حياته في اللعب فقال عوض كلمة الإخلاص : شاهك و هذا كما جاء في إنسان آخر ممن كان يجالس شراب الخمر إنه حين حضره الموت فجاءه إنسان يلقنه الشهادة فقال له : اشرب و اسقني ثم مات فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم و هذا كما جاء في حديث مروي : يموت كل إنسان على ما عاش عليه و يبعث على ما مات عليه فنسأل الله المنان بفضله أن يتوفانا مسلمين لا مبدلين و لا مغيرين و لا ضالين و لا زائغين إنه جواد كريم
الكبيرة الحادية و العشرون : قذف المحصنات قال الله تعالى :
{ إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون }
و قال الله تعالى : { و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة و لا تقبلوا لهم شهادة أبدا و أولئك هم الفاسقون }
بين الله تعالى في الآية أن من قذف امرأة محصنة حرة عفيفة عن الزنا و الفاحشة إنه ملعون في الدنيا و الآخرة و له عذاب عظيم و عليه في الدنيا الحد ثمانون جلدة و تسقط شهادته و إن كان عدلا و في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ اجتنبوا السبع الموبقات ] فذكر منها قذف المحصنات الغافلات المؤمنات و القذف أن يقول لامرأة أجنبية حرة عفيفة مسلمة : يا زانية أو يا باغية أو يا قحبة أو يقول لزوجها : يا زوج القحبة أو يقول لولدها : يا ولد الزانية أو يا ابن القحبة أو يقول لبنتها يا بنت الزانية أو يا بنت القحبة فإن القحبة عبارة عن الزانية فإذا قال ذلك أحد من رجل أو امرأة كمن قال لرجل : يا زاني أو لصبي حر يا علق أو يا منكوح وجب عليه الحد ثمانون جلدة إلا أن يقيم بينة بذلك و البينة كما قال الله : أربعة شهداء يشهدون على صدقه فيما قذف به تلك المرأة أو ذاك الرجل فإن لم يقم بينة جلد إذا طالبته بذلك التي قذفها أو إذا طالبه بذلك الذي قذفه و كذلك إذا قذف مملوكه أو جاريته بأن قال لمملوكه : يا زاني أو لجاريته يا زانية أو يا باغية أو يا قحبة لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال ] و كثير من الجهال واقعون في هذا الكلام الفاحش الذي عليهم فيه العقوبة في الدنيا و الآخرة و لهذا ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها النار أبعد مما بين المشرق و المغرب فقال له معاذ بن جبل يا رسول الله و إنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ و هل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ؟ ] و في الحديث : [ من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ] و قال الله تبارك و تعالى في كتابه العزيز : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } و قال عقبة بن عامر : يا رسول الله ما النجاة ؟ قال : [ أمسك عليك لسانك و ليسعك بيتك و ابك على خطيئتك و إن أبعد الناس إلى الله القلب القاسي ]
و قال صلى الله عليه و سلم : [ إن أبغض الناس إلى الله الفاحش المبذي الذي يتكلم بالفحش و رديء الكلام ] وقانا الله و إياكم شر ألسنتنا بمنه و كرمه إنه جواد كريم
الكبيرة الثانية و العشرون : الغلول من الغنيمة و هي من بيت المال و من الزكاة قال الله تعالى :
{ إن الله لا يحب الخائنين } و قال الله تعالى { و ما كان لنبي أن يغل و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة }
و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه و عظم أمره ثم قال لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع يخفق فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ] أخرج هذا الحديث مسلم
قوله : على رقبته رقاع تخفق ـ أي ثياب و قماش قوله : على رقبته صامت ـ أي ذهب أو فضة فمن أخذ شيئا من هذه الأنواع المذكورة من الغنيمة قبل أن تقسم بين الغانمين أو من بيت المال بغير إذن الإمام أو من الزكاة التي تجمع للفقراء جاء يوم القيامة حامله على رقبته كما ذكر الله تعالى في القرآن { و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة }
و لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أدوا الخيط و المخيط و إياكم و الغلول بأنه عار على صاحبه يوم القيامة ] و [ لقول النبي صلى الله عليه و سلم لما استعمل ابن اللتيبة على الصدقة و قدم و قال : هذا لكم و هذا أهدي لي فصعد النبي صلى الله عليه و سلم المنبر و حمد الله و أثنى عليه إلى أن قال : و الله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا جاء يوم القيامة يحمله فلا أعرف رجلا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيصر ثم رفع يده صلى الله عليه و سلم فقال : اللهم هل بلغت ؟ ]
و [ عن أبي هريرة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى خيبر ففتح علينا فلم نغنم ذهبا و لا ورقا غنمنا المتاع ـ الطعام ـ و الثياب ثم انطلقنا إلى الوادي ـ يعني وادي القرى ـ و مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد وهبه له رجل من بني جذام يدعى رفاعة بن يزيد من بني الضبيب فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله صلى الله عليه و سلم يحل رحله فرمي بسهم فكان به حتفه فقلنا : هنيئا له بالشهادة يا رسول الله فقال رسول الله : كلا و الذي نفسي بيده إن الشملة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم لم تصبها المقاسم قال ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال : أصبت يوم خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم شراك أو شراكان من نار ] متفق عليه و [ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل يقال له كركرة فمات فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها ] و [ عن زيد بن خالد الجهني أن رجلا غل في غزوة خيبر فامتنع النبي صلى الله عليه و سلم من الصلاة عليه و قال : إن صاحبكم غل في سبيل الله قال ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزا من خرز اليهود ما يساوي درهمين ] و قال الإمام أحمد رحمه الله : ما نعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم امتنع من الصلاة على أحد إلا على الغال و قاتل نفسه و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ هدايا العمال غلول ]
و في الباب أحاديث كثيرة و يأتي بعضها في باب الظلم و الظلم على ثلاثة أقسام : أحدهما : أكل المال بالباطل و ثانيها : ظلم العباد بالقتل و الضرب و الكسر و الجراح و ثالثها : ظلم العباد بالشتم و اللعن و السب و القذف و قد خطب النبي صلى الله عليه و سلم بمنى فقال : [ ألا إن دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ] متفق عليه
و قال صلى الله عليه و سلم : [ لا يقبل الله صلاة بغير طهور و لا صدقة من غلول ] فنسأل الله التوفيق لما يحب و يرضى أنه جواد كريم
الكبيرة الثالثة و العشرون : السرقة قال الله تعالى : { السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله و الله عزيز حكيم }
قال ابن شهاب : نكل الله بالقطع في سرقة أموال الناس و الله عزيز في انتقامه من السارق حكيم فيما أوجبه من قطع يده
و قال صلى الله عليه و سلم : [ لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن و لا يسرق السارق حين يسرق و هو مؤمن و لكن التوبة معروضة ]
و [ عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم ] و [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا و في رواية قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن ] قيل لعائشة رضي الله عنها : و ما ثمن المجن ؟ قالت : ربع دينار و في رواية قال : [ اقطعوا في ربع دينار و لا تقطعوا فيما دون ذلك ] كان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم و الدينار اثني عشر درهما
و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لعن الله السارق الذي يسرق البيضة فتقطع يده و يسرق الحبل فتقطع يده ] قال الأعمش كانوا يرون أنه بيض الحديد و الحبل كانوا يرون أن منها ما يساوي ثمنه ثلاثة دراهم
و [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : كانت مخزومية تستعير المتاع و تجحده فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه فيها فكلم النبي صلى الله عليه و سلم فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : يا أسامة لا أراك تشفع في حد من حدود الله تعالى ثم قام النبي صلى الله عليه و سلم خطيبا فقال : إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه و إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه و الذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ] فقطع يد المخزومية
و عن عبد الرحمن بن جرير قال : سألنا فضالة بن عبيد عن تعليق يد السارق في عنقه أمن السنة ؟ قال : [ أتي النبي صلى الله عليه و سلم بسارق فقطع يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه ] قال العلماء : و لا تنفع السارق توبته إلا أن يرد ما سرقه فإن كان مفلسا تحلل من صاحب المال و الله أعلم
الكبيرة الرابعة و العشرون : قطع الطريق قال الله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم }
قال الواحدي رحمه الله : معنى يحاربون الله و رسوله يعصونهما و لا يطيعونهما كل من عصاك فهو محارب لك و يسعون في الأرض فسادا أي بالقتل و السرقة و أخذ الأموال و كل من أخذ السلاح على المؤمنين فهو محارب لله و رسوله و هذا قول مالك و الأوزاعي و الشافعي قوله تعالى : { أن يقتلوا } إلى قوله { أو ينفوا من الأرض } قال الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أو أدخلت للتخير و معناها الإباحة إن شاء الإمام قتل و إن شاء صلب و إن شاء نفى و هذا قول الحسن و سعيد بن المسيب و مجاهد و قال في رواية عطية أو ليست للإباحة إنما هي مرتبة للحكم باختلاف الجنايات فمن قتل و أخذ المال قتل و صلب و من أخذ المال و لم يقتل قطع و من سفك الدماء و كف عن الأموال قتل و من أخاف السبيل و لم يقتل نفي من الأرض و هذا مذهب الشافعي رضي الله عنه و قال الشافعي أيضا : يحد كل واحد بقدر فعله فمن وجب عليه القتل و الصلب قتل قبل صلبه كراهية تعذيبه و يصلب ثلاثا ثم ينزل و من وجب عليه القتل دون الصلب قتل و دفع إلى أهله يدفنونه و من وجب عليه القطع دون القتل قطعت يده اليمنى ثم حسمت فإن عاد و سرق ثانية قطعت رجله اليسرى فإن عاد و سرق قطعت يده اليسرى لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال في السارق : [ إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ] و لأنه فعل أبو بكر و عمر رضي الله عنهما و لا مخالف لهما من الصحابة و وجه كونها اليسرى اتفاق من صار إلى قطع الرجل بعد اليد على أنها اليسرى و ذلك معنى قوله تعالى { من خلاف }
و قوله تعالى : { أو ينفوا من الأرض } قال ابن عباس : هو أن يهدر الإمام دمه فيقول من لقيه فليقتله هذا فيمن يقدر عليه فأما من قبض عليه فنفيه من الأرض الحبس و السجن لأنه إذا حبس و منع من التقلب في البلاد فقد نفي منها أنشد ابن قتيبة لبعض المسجونين سعرا :
( خرجنا من الدنيا و نحن من أهلها
... فلسنا من الأحياء فيها و لا الموتى )
( إذا جاءنا السجان يوما لحاجة
... عجبنا و قلنا جاء هذا من الدنيا )
قال : فبمجرد قطع الطريق و إخافة السبيل قد ارتكب الكبيرة فكيف إذا أخذ المال أو جرح أو قتل ؟ فقد فعل عدة كبائر مع ما غالبهم عليه من ترك الصلاة و إنفاق ما يأخذونه في الخمر و الزنا و اللواطة و غير ذلك نسأل الله العافية من كل بلاء و محنة إنه جواد كريم غفور رحيم
الكبيرة الخامسة و العشرون : اليمين الغموس قال الله تعالى : { إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة و لا يكلمهم الله و لا ينظر إليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم }
قال الواحدي : نزلت في رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه و سلم في ضيعة فهم المدعي عليه أن يحلف فأنزل فأنزل الله هذه الآية فنكل المدعي عليه عن اليمين و أقر للمدعي بحقه و عن [ عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من حلف على يمين و هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله تعالى و هو عليه غضبان ]
فقال الأشعث : في و الله نزلت كان بيني و بين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ألك بينة ؟ قلت : لا قال لليهودي : احلف قلت يا رسول الله إنه إذن يحلف فيذهب بمالي فأنزل الله تعالى : { إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا } أي عرضا يسيرا من الدنيا و هو ما يحلفون عليه كاذبين { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } أي لا نصيب لهم في الآخرة { و لا يكلمهم الله } أي بكلام يسرهم { و لا ينظر إليهم } نظر ا يسرهم يعني نظر الرحمة { و لا يزكيهم } و لا يزيدهم خيرا و لا يثني عليهم
و [ عن عبد الله بن مسعود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من حلف على مال امرىء مسلم بغير حق لقي الله و هو عليه غضبان ] قال عبد الله ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم تصديقه من كتاب الله { إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا } إلى آخر الآية أخرجاه في الصحيحين و [ عن أبي أمامة قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار و حرم عليه الجنة فقال رجل : و إن كان يسيرا يا رسول الله ؟ قال : و إن كان قضيبا من أراك ] أخرجه مسلم في صحيحه قال حفص بن ميسرة : ما أشد هذا الحديث فقال : أليس في كتاب الله تعالى : { إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا } ؟ الآية و [ عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم فقرأ بها رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث مرات فقال أبو ذر : خابوا و خسروا يا رسول الله من هم ؟ قال : المسبل و المنان و المنفق سلعته بالحلف الكاذب و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الكبائر الإشراك بالله عقوق الوالدين و قتل النفس و اليمين الغموس ] أخرجه البخاري في صحيحه و الغموس هي التي يتعمد الكذب فيها سميت غموسا لأنها تغمس الحالف في الإثم و قيل تغمسه في النار
فصل : و من ذلك الحلف بغير الله عز و جل كالنبي و الكعبة و الملائكة و السماء و الماء و الحياة و الأمانة و هي من أشد ما هنا و الروح و الرأس و حياة السلطان و نعمة السلطان و تربة فلان
[ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن حلف فليحلف بالله أو ليصمت ] و في رواية في الصحيح [ فمن كان حالفا فلا يحلف إلا بالله أو ليسكت ]
و [ عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تحلفوا بالطواغي و لا بآبائكم ] رواه مسلم الطواغي : جمع طاغية و هي الأصنام و منه الحديث : هذه طاغية دوس أي صنمهم و معبودهم و [ عن بريدة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من حلف بالأمانة فليس منا ] رواه أبو داود و غيره و [ عنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من حلف فقال إني بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال و إن كان صادقا فلن يرجع إلى الإسلام سالما ]
و [ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلا يقول : و الكعبة فقال : لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من حلف بغير الله فقد كفر و أشرك ] رواه الترمذي و حسنه ابن حبان في صحيحه و الحاكم و قال صحيح على شرطهم قال : و فسر بعض العلماء قوله [ كفر أو أشرك ] على التغليظ كما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الرياء شرك ]
و قال صلى الله عليه و سلم : من حلف فقال في حلفه و اللات و العزى فليقل لا إله إلا الله و قد كان في الصحابة من هو حديث عهد بالحلف بها قبل إسلامه فربما سبق لسانه إلى الحلف بها فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يبادر بقوله : لا إله إلا الله ليكفر بذلك ما سبق إلى لسانه و بالله التوفيق
الكبيرة السادسة و العشرون : الظلم بأكل أموال الناس و أخذها ظلما و ظلم الناس و الشتم و التعدي و الإستطالة على الضعفاء
قال الله تعالى : { و لا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار * مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم و أفئدتهم هواء * و أنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك و نتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال * و سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم و تبين لكم كيف فعلنا بهم و ضربنا لكم الأمثال } و قال الله تعالى : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس } و قال الله تعالى : { و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون }
و قال صلى الله عليه و سلم : [ إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ] ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم : { و كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى و هي ظالمة إن أخذه أليم شديد }
و قال صلى الله عليه و سلم : [ من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شيء فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون دينار و لا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ]
و قال صلى الله عليه و سلم عن ربه تبارك و تعالى : أنه قال : [ يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أتدرون من المفلس ؟ قالوا : يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له و لا متاع فقال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة و زكاة و صيام و حج فيأتي و قد شتم هذا و أخذ مال هذا و نبش عن عرض هذا و ضرب هذا و سفك دم هذا فيؤخذ لهذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من خطاياهم فطرح عليه ثم طرح في النار ] و هذه الأحاديث كلها في الصحاح و تقدم حديث : [ إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة ] و تقدم قوله لمعاذ حين بعثه إلى اليمين : [ و اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها و بين الله حجاب ] و في الصحيح : [ من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة ]
و في بعض الكتب يقول الله تعالى : [ اشتد غضبي على من ظلم من لم يجد له ناصرا غيري ] و أنشد بعضهم :
( لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا ... فالظلم يرجع عقباه إلى الندم )
( تنام عيناك و المظلوم منتبه ... يدعو عليك و عين الله لم تنم )
و كان بعض السلف يقول : لا تظلم الضعفاء فتكون من أشرار الأقوياء و قال أبو هريرة رضي الله عنه : إن الحباري لتموت في وكرها هزالا من ظلم الظالم و قيل مكتوب في التوراة : ينادي مناد من وراء الجسر ـ يعني الصراط ـ يا معشر الجبابرة الطغاة و يا معشر المترفين الأشقياء إن الله يحلف بعزته و جلاله أن لا يجاوز هذا الجسر اليوم ظالم عن جابر قال : لما رجعت مهاجرة الحبشة عام الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ألا تخبروني بأعجب ما رأيتم بأرض الحبشة ؟ فقال فتية كانوا منهم : بلى يا رسول الله بينما نحن يوما جلوس إذ مرت بنا عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قلة ماء فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت المرأة على ركبتيها و انكسرت قلتها فلما قامت التفتت إليه ثم قالت : سوف تعلم يا غادر إذا وضع الله الكرسي و جمع الله الأولين و الآخرين و تكلمت الأيدي و الأرجل بما كانوا يكسبون سوف تعلم من أمري و أمرك عنده غدا قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صدقت كيف يقدس الله قوما لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم ؟ ]
( إذا ما الظلوم استوطأ مركبا ... و لج عتوا في قبيح اكتسابه )
( فكله إلى صرف الزمان و عدله ... سيبدو له ما لم يكن في حسابه )
و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خمسة غضب الله عليهم إن شاء أمضى غضبه عليهم في الدنيا و إلا أمر بهم في الآخرة إلى النار : أمير قوم يأخذ حقه من رعيته و لا ينصفهم من نفسه و لا يدفع الظلم عنهم و زعيم قوم يطيعونه و لا يساوي بين القوي و الضعيف و يتكلم بالهوى و رجل لا يأمر أهله و ولده بطاعة الله و لا يعلمهم أمر دينهم و رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل و لم يوفه أجرته و رجل ظلم امرأة صداقها ]
و عن عبد الله بن سلام قال : إن الله تعالى لما خلق الخلق و استووا على أقدامهم رفعوا رؤوسهم إلى السماء و قالوا : يا رب مع من أنت ؟ قال : مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه و عن وهب بن منبه قال : بني جبار من الجبابرة قصرا و شيده فجاءت عجوز فقيرة فبنت إلى جانبه كوخا تأوي إليه فركب الجبار يوما و طاف حول القصر فرأى الكوخ فقال : لمن هذا ؟ فقيل لامرأة فقيرة تأوي إليه فأمر به فهدم فجاءت العجوز فرأته مهدوما فقالت : من هدمه ؟ فقيل : الملك رآه فهدمه فرفعت العجوز رأسها إلى السماء و قالت : يا رب إذا لم أكن أنا حاضرة فأين كنت أنت ؟ قال : فأمر الله جبريل أن يقلب القصر على من كان فيه فقلبه
و قيل لما حبس خالد بن برمك و ولده قال : يا أبتي بعد العز صرنا في القيد و الحبس فقال : يا بني دعوة المظلوم سرت بليل غفلنا عنها و لم يغفل الله عنها و كان يزيد بن حكيم يقول : ما هبت أحدا قط هيبتي رجلا ظلمته و أنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله يقول لي : حسبي الله : الله بيني و بينك
و حبس الرشيد أبا العتاهية الشاعر فكتب إليه من السجن هذين البيتين شعرا :
( أما و الله إن الظلم شوم ... و ما زال المسيء هو المظلوم )
( ستعلم يا ظلوم إذا التقينا ... غدا عند المليك من الملوم )
و عن أبي أمامة قال : يجيء الظالم يوم القيامة حتى إذا كان على جسر جهنم لقيه المظلوم و عرفه ما ظلمه به فما يبرح الذين ظلموا بالذين ظلموا حتى ينزعوا ما بأيديهم من الحسنات فإن لم يجدوا لهم حسنات حملوا عليهم من سيئاتهم مثل ما ظلموهم حتى يردوا إلى الدرك الأسفل من النار
و [ عن عبد الله بن أنيس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلا بهما فيناديهم مناد بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة أو أحد من أهل النار أن يدخل النار و عنده مظلمة أن أقصه حتى اللطمة فما فوقها و لا يظلم ربك أحد قلنا يا رسول الله كيف و إنما نأتي حفاة عراة فقال : بالحسنات و السيئات جزاء و لا يظلم ربك أحدا ] و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ من ضرب سوطا ظلما اقتص منه يوم القيامة ] و مما ذكر أن كسرى اتخذ مؤدبا لولده يعلمه و يؤدبه حتى إذا بلغ الولد الغاية في الفضل و الأدب استحضره المؤدب يوما و ضربه ضربا شديدا من غير جرم و لا سبب فحقد الولد على المعلم إلى أن كبر و مات أبوه فتولى الملك بعده فاستحضر المعلم و قال له : ما حملك على أن ضربتني في يوم كذا و كذا ضريا وجيعا من غير جرم و لا سبب فقال المعلم : اعلم أيها الملك أنك لما بلغت الغاية في الفضل و الأدب علمت أنك تنال الملك بعد أبيك فأردت أن أذيقك ألم الضرب و ألم الظلم حتى لا تظلم أحدا فقال : جزاك الله خيرا ثم أمر له بجائزة و صرفه
و من الظلم أخذ مال اليتيم و تقدم حديث معاذ بن جبل حين قال له رسول الله : واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها و بين الله حجاب
و في رواية أن دعاء المظلوم يرفع فوق الغمام و يقول الرب تبارك و تعالى : و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين و أنشدوا شعرا :
( توق دعا المظلوم إن دعاءه ... ليرفع فوق السحب ثم يجاب )
( توق دعا من ليس بين دعائه ... و بين إله العالمين حجاب )
( و لا تحسبن الله مطرحا له ... و لا أنه يخفى عليه خطاب )
( فقد صح أن الله قال و عزتي ... لأنصر المظلوم و هو مثاب )
( فمن لك يصدق ذا الحديث فإنه ... جهول و إلا عقله فمصاب )
فصل : و من أعظم الظلم المماطلة بحق عليه مع قدرته على الوفاء لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ مطل الغني ظلم ] و في رواية [ لي الواجد ظلم يحل عرضه و عقوبته ] أي يحل شكايته و حبسه
فصل : و من الظلم أن يظلم المرأة حقها من صداقها و نفقتها و كسوتها و هو داخل في قوله صلى الله عليه و سلم [ لي الواجد ظلم يحل عرضه و عقوبته ]
و عن بن مسعود رضي الله عنه قال : يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينادي به على رؤوس الخلائق هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه قال : فتفرح المرأة أن يكون لها حق على أبيها أو أخيها أو زوجها ثم قرأ : فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون قال فيغفر الله من حقه ما شاء و لا يغفر من حقوق الناس شيئا فينصب العبد للناس ثم يقول الله تعالى لأصحاب الحقوق : ائتوا إلى حقوقكم قال فيقول الله تعالى للملائكة : خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل ذي حق حقه بقدر طلبته فإن كان وليا لله و فضل له مثقال ذرة ضاعفها الله تعالى له حتى يدخله الجنة بها و إن كان عبدا شقيا و لم يفضل له شيء فتقول الملائكة : ربنا فنيت حسناته و بقي طالبوه فيقول الله : خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صك له صكا إلى النار و يؤيد ذلك ما تقدم من قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أتدرون من المفلس ؟ فذكر أن المفلس من أمته من يأتي يوم القيامة بصلاة و زكاة و صيام و يأتي و قد شتم هذا و ضرب هذا و أخذ مال هذا فيؤخذ من حسناته و لهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ]
فصل : و من الظلم أن يستأجر أجيرا أو إنسانا في عمل و لا يعطيه أجرته لما ثبت في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يقول الله تعالى : [ ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة و من كنت خصمه خصمته : رجل أعطى بي غدر و رجل باع حرا فأكل ثمنه و رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل و لم يعطه أجرته ] و كذلك إذا ظلم يهوديا أو نصرانيا أو نقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه فهو داخل في قوله تعالى : أنا حجيجه ـ أو قال أنا خصمه ـ يوم القيامة و من ذلك أن يحلف على دين في ذمته كاذبا فاجرا لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار و حرم عليه الجنة قيل : يا رسول الله و إن كان شيئا يسيرا ؟ قال و إن قضيبا من أراك ]
( فخف القصاص غدا إذا وفيت ما ... كسبت يداك اليوم بالقسطاس )
( في موقف ما فيه إلا شاخص ... أو مهطع أو مقنع للراس )
( أعضاؤهم فيه الشهود و سجنهم ... نار و حاكمهم شديد البأس )
( أن تمطل اليوم الحقوق مع الغنى ... فغدا تؤديها مع الإفلاس )
و قد روي أنه لا أكره للعبد يوم القيامة من أن يرى من يعرفه خشية أن يطالبه بمظلمة ظلمه بها في الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لتؤدين الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلل منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار و لا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته و إن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ثم طرح في النار ] و [ روى عبد الله بن أبي الدنيا بسنده إلى أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أول من يختصم يوم القيامة الرجل و امرأته و الله ما يتكلم لسانها و لكن يداها و رجلاها يشهدان عليها بما كانت تعنث لزوجها في الدنيا و يشهد على الرجل يده و رجله بما كان يولي زوجته من خير أو شر ثم يدعى بالرجل و خدمه مثل ذلك فما يؤخذ منهم دوانيق و لا قراريط و لكن حسنات هذا الظالم تدفع إلى هذا المظلوم و سيئات هذا المظلوم تحمل على هذا الظالم ثم يؤتى بالجبارين في مقامع من حديد فيقال سوقوهم إلى النار ] و كان شريح القاضي يقول : سيعلم الظالمون حتى من انتقصوا أن الظالم ينتظر العقاب و المظلوم ينتظر النصر و الثواب
و روي أنه أراد الله بعبده خيرا سلط عليه من يظلمه و دخل طاوس اليماني على هشام بن عبد الملك فقال له : اتق الله يوم الأذان قال هشام : و ما يوم الأذان ؟ قال : قال الله تعالى : { فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين } فصعق هشام فقال طاوس : هذا ذا الصفة فكيف بذل المعاينة ؟ يا راضيا باسم الظالم كم عليك من المظالم ؟ السجن جهنم و الحق الحاكم !
فصل : في الحذر من الدخول على الظلمة و مخالطتهم و معونتهم قال الله تعالى { و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار } و الركون ههنا السكون إلى الشيء و الميل إليه بالمحبة قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا تميلوا كل الميل في المحبة و لين الكلام و المودة و قال السدي و ابن زيد : لا تداهنوا الظلمة و قال عكرمة : هو أن يطيعهم و يودهم و قال أبو العالية : لا ترضوا بأعمالهم { فتمسكم النار } فيصيبكم لفحها { و ما لكم من دون الله من أولياء } و قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما لكم من مانع يمنعكم من عذاب الله { ثم لا تنصرون } لا تمنعون من عذابه و قال الله تعالى : { احشروا الذين ظلموا و أزواجهم } أي أشباههم و أمثالهم و أتباعهم [ و عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : سيكون أمراء يغشاهم غواش أو حواش من الناس يظلمون و يكذبون فمن دخل عليهم و صدقهم بكذبهم و أعانهم على ظلمهم فليس مني و لست منه و من لم يدخل عليهم و لم يعنهم على ظلمهم فهو مني و أنا منه ] و [ عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم من أعان ظالما سلط عليه ] و قال سعيد بن المسيب رحمه الله : لا تملأوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لئلا تحبط أعمالكم الصالحة و قال مكحول الدمشقي : ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة و أعوانهم ؟ فما يبقى أحد مد لهم حبرا أو حبر لهم دواة أو بري لهم قلما فما فوق ذلك إلا حضر معهم فيجمعون في تابوت من نار فيلقون في جهنم و جاء رجل خياط إلى سفيان الثوري فقال : إني رجل أخيط ثياب السلطان هل أنا من أعوان الظلمة ؟ فقال سفيان بل أنت من الظلمة أنفسهم و لكن أعوان الظلمة من يبيع منك الإبرة و الخيوط
و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أول من يدخل النار يوم القيامة السواطون الذين يكون معهم الأسواط يضربون بها الناس بين يدي الظلمة ] و عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : الجلاوزة و الشرط كلاب النار يوم القيامة الجلاوزة أعوان الظلمة
و قد روي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن مر بني اسرائيل أن لا يتلو من ذكري فإني أذكر من ذكرني و أن ذكري إياهم أن ألعنهم و في رواية فإني أذكر من ذكرني منهم باللعنة و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يقف أحدكم في موقف يضرب فيه رجل مظلوم فإن اللعنة تنزل على من حضر ذلك المكان إذا لم يدفعوا عنه ]
و روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أتى رجل في قبره فقيل له : إنا ضاربوك مائة ضربة فلم يزل يتشفع إليهم حتى صاروا إلى ضربة واحدة فضربوه فالتهب القبر عليه نارا فقال : لم ضربتموني هذه الضربة ؟ فقالوا : إنك صليت صلاة بلا طهور و مررت برجل مظلوم فلم تنصره ] فهذا حال من لم ينصر المظلوم مع القدرة على نصره فكيف حال الظالم ! ؟
و قد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقال يا رسول الله : أنصره إذا كان مظلوما فكيف أنصره إذا كان ظالما ؟ تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره ]
و مما حكي قال بعض العارفين : رأيت في المنام رجلا ممن يخدم الظلمة و المكاسين بعد موته بمدة في حالة قبيحة فقلت له ما أحوالك ؟ قال : شر حال فقلت : إلى أين صرت ؟ قال : إلى عذاب الله قلت : فما حال الظلمة عنده ؟ قال شر حال أما سمعت قول الله عز و جل : { و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } و مما حكي قال بعضهم رأيت رجلا مقطوع اليد من الكتف و هو ينادي من رآني فلا يظلمن أحدا فتقدمت إليه فقلت له : يا أخي ما قصتك ؟ قال : يا أخي قصة عجيبة و ذلك أني كنت من أعوان الظلمة فرأيت يوما صيادا و قد اصطاد سمكة كبيرة فأعجبتني فجئت إليه فقلت : أعطني هذه السمكة فقال : لا أعطيكها أنا آخذ بثمنها قوتا لعيالي فضربته و أخذتها منه قهرا و مضيت بها قال : فبينا أنا أمشي بها حاملها إذ عضت على إبهامي عضة قوية فلما جئت بها إلى بيتي و ألقيتها من يدي ضربت على إبهامي و آلمتني ألما شديدا حتى لم أنم من شدة الوجع و الألم و ورمت يدي فلما أصبحت أتيت الطبيب و شكوت إليه الألم فقال : هذه بدء الآكلة أقطعها و إلا تقطع يدك فقطعت إبهامي ثم ضربت على يدي فلم أطق النوم و لا القرار من شدة الألم فقيل لي : إقطع كفك فقطعته و انتشر الألم إلى الساعد و آلمني ألما شديدا و لم أطق القرار و جعلت أستغيث من شدة الألم : فقيل لي : اقطعها إلى المرفق فقطعتها فانتشر الألم إلى العضد و ضربت على عضدي أشد من الألم الأول فقيل اقطع يدك من كتفك و إلا سرى إلى جسدك كله فقطعتها فقال لي بعض الناس : ما سبب ألمك ؟ فذكرت قصة السمكة فقال لي : لو كنت رجعت في أول ما أصابك الألم إلى صاحب السمكة و استحللت منه و أرضيته لما قطعت من أعضائك عضوا فاذهب الآن إليه و اطلب رضاه قبل أن يصل الألم إلى بدنك قال : فلم أزل أطلبه في البلد حتى وجدته فوقعت على رجليه أقبلها و أبكي و قلت له : يا سيدي سألتك بالله إلا عفوت عني فقال لي : و من أنت ؟ قلت : أنا الذي أخذت منك السمكة غصبا و ذكرت ما جرى و أريته يدي فبكى حين رآها ثم قال : يا أخي قد أحللتك منها لما قد رأيته بك من هذا البلاء فقلت : يا سيدي بالله هل كنت قد دعوت علي لما أخذتها ؟ قال : نعم قلت : اللهم إن هذا تقوى علي بقوته على ضعفي على ما رزقتني ظلما فأرني قدرتك فيه فقلت : يا سيدي قد أراك الله قدرته في و أنا تائب إلى الله عز و جل عما كنت عليه من خدمة الظلمة و لا عدت أقف لهم على باب و لا أكون من أعوانهم ما دمت حيا إن شاء الله و بالله التوفيق
موعظة : إخواني كم أخرج الموت نفسا من دارها لم يدارها و كم أنزل أجسادا بجارها لم يجارها و كم أجرى العيون كالعيون بعد قرارها ـ شعر :
( يا معرضا بوصال عيش ناغم ... ستصد عنه طائعا أو كارها )
( إن الحوادث تزعج الأحرار عن ... أوطانها و الطير عن أوكارها )
أين من ملك المغارب و المشارق و عمر النواحي و غرس الحدائق و نال الأماني و ركب العوائق ؟ صاح به من داره غراب بين ناعق و طرقه في لهوه أقطع طارق و زجرت عليه رعود و صواعق و حل به ما شيب بعض المفارق و قلاه الحبيب الذي لم يفارق و هجره الصديق و الرفيق الصادق و نقل من جوار المخلوقين إلى جوار الخالق نازله و الله الموت فلم يحاشه و أذله بالقهر بعد عز جاشه و أبدله خشن التراب بعد لين فراشه و مزقه الدود في قبره كتمزيق قماشه و بقي في ضنك شديد من معاشه و بعد عن الصديق فكأنه لم يماشه ما نفعه و الله الإحتراز و لا ردت عنه الركاز بل ضره من الزاد الأعواز و صار و الله عبرة للمجتاز و قطع شاسعا من السبل الأوفاز و بقي رهينا لا يدري أهلك أم فاز و هذا لك بعد أيام و ما أنت فيه الآن أحلام و دنياك لا تصلح و ما سمعت ستراه غدا على التمام و يقع لي ولك ويحك ! أما يؤثر فيك الكلام ؟
الكبيرة السابعة و العشرون : المكاس و هو داخل في قول الله تعالى : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس و يبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم }
و المكاس من أكبر أعوان الظلمة بل هو من الظلمة أنفسهم فإنه يأخذ ما لا يستحق و يعطيه لمن لا يستحق و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ المكاس لا يدخل الجنة ] و قال صلى الله عليه و سلم : لا يدخل الجنة صاحب مكس [ رواه أبو داود و ما ذاك إلا لأنه يتقلد مظالم العباد و من أين للمكاس يوم القيامة أن يؤدي للناس ما أخذ منهم ؟ إنما يأخذون من حسناته إن كان له حسنات ! و هو داخل في قول النبي صلى الله عليه و سلم : ] أتدرون من المفلس قالوا يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له و لا متاع إن المفلس من أمتي من يأتي بصلاة و زكاة و صيام و حج و يأتي و قد شتم هذا و ضرب هذا و أخذ مال هذا فيؤخذ لهذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار [
و في حديث المرأة التي طهرت نفسها بالرجم : لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له أو لقبلت منه و المكاس من فيه شبه من قاطع الطريق و هو من اللصوص و جابي المكس و كاتبه و شاهده و آخذه من جندي و شيخ و صاحب رواية شركاء في الوزر آكلون للسحت و الحرام و صح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ] لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت النار أولى به [ و السحت : كل حرام قبيح الذكر يلزم منه العار
و ذكره الواحدي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى : { قل لا يستوي الخبيث و الطيب } و عن جابر أن رجلا قال : يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي و إني جمعت من بيعها مالا فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله تعالى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة إن الله لا يقبل إلا الطيب فأنزل الله تعالى تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم :
{ قل لا يستوي الخبيث و الطيب و لو أعجبك كثرة الخبيث }
قال عطاء و الحسن : الحلال و الحرام فنسأل الله العفو و العافية
موعظة : أين من حصن الحصون المشيدة و احترس و عمر الحدائق فبالغ و غرس و نصب لنفسه سرير العز و جلس و بلغ المنتهى و رأى الملتمس و ظن في نفسه البقاء و لكن خاب الظن في النفس أزعجه و الله هازم اللذات و اختلس و نازله بالقهر فأنزله عن الفرس و وجه به إلى دار البلاء فانطمس و تركه في ظلام ظلمة من الجهل و الدنس فالعاقل من أباد أيامه فإن العواقب في خلس ينظر :
( تبني و تجمع و الآثار تندرس ... و تأمل اللبث و الأعمار تختلس )
( ذا اللب فكر فما في العيش من طمع ... لا بد ما ينتهي أمر و ينعكس )
( أين الملوك و أبناء الملوك و من ... كانوا إذا الناس قاموا هيبة جلسوا )
( و من سيوفهم في كل معترك ... تخشى و دونهم الحجاب و الحرس )
( أضحكوا بمهلكة في وسط معركة
... صرعى و صاروا ببطن الأرض و انطمسوا )
( و عمهم حدث و ضمهم جدث ... بأتوافهم جثث في الرمس قد حبسوا )
( كأنهم قط ما كانوا و ما خلقوا ... و مات ذكرهم بين الورى و نسوا )
( و الله لو عاينت عيناك ما صنعت ... أيدي البلا بهم و الدود يفترس )
( لعاينت منظرا تشجى القلوب له ... و أبصرت منكرا من دونه البلس )
( من أوجه ناضرات حار ناظرها ... في رونق الحسن منها كيف ينطمس )
( و أعظم باليات ما بها رمق ... و ليس تبقى لهذا و هي تنتهس )
( و السن ناطقات زانها أدب ... ما شأنها شأنها بالافة الخرس )
( حتام يا ذا النهي لا ترعوي سفها ... و دمع عينيك لا يهمي و ينبجس )
موعظة : يا من يرحل في كل يوم مرحلة و كتابه قد حوى حتى الخردلة ما ينتفع بالنذير و النذر متصلة و لا يصغي إلى ناصح و قد عذله و دروعه مخرقه و السهام مرسلة و نور الهدى قد بدا و لكن ما رآه و لا تأمله و هو يؤمل البقا و يرى مصير من قد أمله قد انعكف بعد الشيب على العيب بصبابة و وله كن كيف شئت فبين يديك الحساب و الزلزلة و نعم جلدك فلا بد للديدان أن تأكله
فيا عجبا من فتور مؤمن موقن بالجزاء و المسألة استيقن من غرور وبله و يحك يا هذا من استدعاك و فتح منزله فقد أولاك لو علمت منزله فبادر ما بقي من عمرك و استدرك أوله فبقية عمر المؤمن جوهرة قيمة
الكبيرة الثامنة و العشرون : أكل الحرام و تناوله على أي وجه كان قال الله عز و جل : { و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }
أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني باليمين الباطلة الكاذبة يقتطع بها الرجل مال أخيه بالباطل و الأكل بالباطل على وجهين أحدهما أن يكون على جهة الظلم نحو الغصب و الخيانة و السرقة والثاني على جهة الهزل و اللعب كالذي يؤخذ في القمار و الملاهي و نحو ذلك و في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة ] و في صحيح مسلم حين ذكر النبي صلى الله عليه و سلم : [ الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب و مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه حرام و غذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ] و [ عن أنس رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله : ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال صلى الله عليه و سلم : يا أنس أطب كسبك تجب دعوتك فإن الرجل ليرفع اللقمة من الحرام إلى فيه فلا يستجاب له دعوة أربعين يوما ] و روى البيهقي باسناده إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم و إن الله يعطي الدنيا من يحب و من لا يحب و لا يعطي الدين إلا من يحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه و لا يكسب عبد مالا حراما فينفق منه فيبارك له فيه و لا يتصدق منه فيقبل منه و لا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السيء بالسيء و لكن يمحو السيء بالحسن ] و [ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الدنيا حلوة خضرة من اكتسب فيها مالا من حله و أنفقه في حقه أثابه الله و أورثه جنته و من اكتسب فيها مالا من غير حله و أنفقه في غير حقه أدخله الله تعالى دار الهوان و رب متخوض فيما اشتهت نفسه من الحرام له النار يوم القيامة ] و جاء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أي باب أدخله النار ] و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لأن يجعل أحدكم في فيه ترابا خير من أن يجعل في فيه حراما ] و قد روي عن يوسف بن أسباط رحمه الله قال : إن الشاب إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه : انظروا من أين مطعمه فإن كان مطعم سوء قال : دعوه يتعب و يجتهد فقد كفاكم نفسه إن إجهاده مع أكل الحرام لا ينفعه و يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه و سلم [ عن الرجل الذي مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه حرام و غذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ؟ ] و قد روي في حديث أن ملكا على بيت المقدس ينادي كل يوم و كل ليلة : من أكل حراما لم يقبل الله منه صرفا و لا عدلا الصرف : النافلة و العدل : الفريضة و قال عبد الله بن المبارك : ( لأن أرد درهما من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف و مائة ) و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من حج بمال حرام فقال لبيك قال ملك : لا لبيك و لا سعديك حجك مردود عليك ] و روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من اشترى ثوبا بعشرة دراهم و في ثمنه درهم من حرام لم يقبل الله له صلاة ما دام عليه ] و قال وهب بن الورد : لو قمت قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك أحلال أم حرام و قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( لا يقبل الله صلاة امرىء و في جوفه حرام حتى يتوب إلى الله تعالى منه ) و قال سفيان الثوري : من أنفق الحرام في الطاعة كمن طهر الثوب بالبول و الثوب لا يطهره إلا الماء و الذنب لا يكفره إلا الحلال و قال عمر رضي الله عنه : ( كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام ) و [ عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة جسد غذي بالحرام ] و عن زيد بن أرقم قال : كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج ـ أي قد كاتبه على مال ـ و كان يجيئه كل يوم بخراجه فيسأله : من أين أتيت بها ؟ فإن رضيه أكله و إلا تركه قال فجاءه ذات ليلة بطعام و كان أبو بكر صائما فأكل منه لقمة و نسي أن يسأله ثم قال له : من أين جئت بهذا ؟ فقال : كنت تكهنت لأناس بالجاهلية و ما كنت أحسن الكهانة إلا أني خدعتهم فقال أبو بكر : أف لك كدت تهلكني ! ثم أدخل يده في فيه فجعل يتقيأ و لا يخرج فقيل له : إنها لا تخرج إلا بالماء فدعا بماء فجعل يشرب و يتقيأ حتى قاء كل شيء في بطنه فقيل له : يرحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة ؟ فقال رضي الله عنه : لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ] فخشيت أن ينبت بذلك في جسدي من هذه اللقمة و قد تقدم قوله صلى الله عليه و سلم : [ لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام ] و إسناده صحيح قال العلماء رحمهم الله : و يدخل في هذا الباب : المكاس و الخاتن و الزغلي و السارق و البطال و آكل الربا و موكله و آكل مال اليتيم و شاهد الزور و من استعار شيئا فجحده و آكل الرشوة و منقص الكيل و الوزن و من باع شيئا فيه عيب فغطاه و المقامر و الساحر و المنجم و المصور و الزانية و النائحة و العشرية و الدلال إذا أخذ أجرته بغير إذن من البائع و مخبر المشتري بالزائد و من باع حرا فأكل ثمنه
( فصل ) روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يؤتى يوم القيامة بأناس معهم من الحسنات كأمثال جبل تهامة حتى إذا جيء بهم جعلها الله هباء منثورا ثم يقذف بهم في النار فقيل يا رسول الله : كيف ذلك ؟ قال : كانوا يصلون و يصومون و يزكون و يحجون غير أنهم كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه فأحبط الله أعمالهم ] و عن بعض الصالحين أنه رؤي بعد موته في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ قال : خيرا غير أني محبوس عن الجنة بإبرة استعرتها فلم أردها فنسأل الله تعالى العفو و العافية و التوفيق لما يحب و يرضى إنه جواد كريم رءوف رحيم
( موعظة ) عباد الله أما الليالي و الأيام تهدم الآجال ؟ أما مآل المقيم في الدنيا إلى زوال أما آخر الصحة يؤول إلى الإعتلال أما غاية السلامة نقصان الكمال أما بعد استقرار المنى هجوم الآجال أما أنبئتم عن الرحيل و قد قرب الإنتقال أما بانت لكم العبر و ضربت لكم الأمثال ؟
( و عزيز ناعم ذل له ... كل صعب المرتقى وعر المرام )
( فكساه بعد لين ملبس ... خشنا بالرغم منه في الرغام )
( و وجوه ناضرات بدلت ... بعد لون الحسن لونا كالقتام )
( و شموس طالعات أفلت ... بعد ذاك النور منها بالظلام )
( و منيف شامخ بنيانه ... لين الأعطاف مهتز القوام )
( أف للدنيا فما شيمتها ... غير نقض العقد أو خفر الذمام )
( فاستعدوا الزاد تنجوا و اعملوا ... صالحا من قبل تقويض الخيام )
يا متعلقا بزخرف يروق بقاؤه كلمح البروق يا مضيعا في الهوى واجبات الحقوق تبارز الخالق و تستحي من المخلوق ؟ يا مؤثرا أعلى العلالي ساترا ذلك الفسوق ألا سترى ذلك الفسوق ! يا متولها مهاد الهوى و هو في سجن الردى مرموق إبك على نفسك العليلة فإنك بالبكاء محقوق عجبا لمن رأى فعل الموت لصحبه و أيقن بتلفه و ما قضى نحبه و سكن الإيمان بالآخرة في قلبه و نام غافلا على جنبه و نسي جزاءه على جرمه و ذنبه و أعرض إلى ربه من الهوى عن ربه كأني به و قد سقي كأس حمام يستغيث من شربه و أفرده الموت عن أهله و سربه و نقله إلى قبره ذل فيه بعد عجبه فياذا اللب جز على قبره و عج به لقد خرقت المواعظ المسامع و ما أراه انتفع به السامع لقد بدا نور المطالع لكنه أعمى المطالع و لقد بانت العبر بآثار الغير لمن اغتر بالمصارع فما بالها لا تسكب المدامع ؟ يا عجبا لقلب عند ذكر الحق غير خاشع لقد نشبت فيه مخالب المطامع يا من شيبه قد أتى هل ترى ما مضى من العمر براجع ؟ انتبه لما بقي و انته و راجع فالهول عظيم و الحساب شديد و الطريق شاسع إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع
الكبيرة التاسعة و العشرون : أن يقتل الإنسان نفسه قال الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما * ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا }
قال الواحدي في تفسير هذه الآية : و لا تقتلوا أنفسكم أي لا يقتل بعضكم بعضا لأنكم أهل دين واحد فأنتم كنفس واحدة هذا قول ابن عباس و الأكثرين و ذهب قوم إلى أن هذا النهي عن قتل الإنسان نفسه و يدل على صحة هذا ما أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد المنصوري بإسناده عن عمرو بن العاص قال : احتلمت في ليلة باردة و أنا في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت فصليت بأصحابي الصبح فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا عمرو صليت بأصحابك و أنت جنب ؟ فأخبرته الذي منعني من الإغتسال فقلت أني سمعت الله يقول : { و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يقل شيئا فدل هذا الحديث على أن عمرو تأول هذه الآية هلاك نفسه لا نفس غيره و لم ينكر ذلك عليه النبي صلى الله عليه و سلم قوله { و من يفعل ذلك } كان ابن عباس يقول : الإشارة تعود إلى كل ما نهى عنه من أول السورة إلى هذا الموضع و قال قوم الوعيد راجع إلى أكل المال بالباطل و قتل النفس المحرمة و قوله تعالى : { عدوانا و ظلما } مع العدوان أن يعدو ما أمر الله به { و كان ذلك على الله يسيرا } أي أنه قادر على إيقاع ما توعد به من إدخال النار و عن جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحذ بها يده فما رقأ الدم حتى مات قال الله تعالى : بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة ] مخرج في الصحيحين و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا فيها أبدا و من قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا و من نزل من جبل فقتل نفسه فهو ينزل في نار جهنم خالدا فيها أبدا ] مخرج في الصحيحين و في حديث ثابت بن الضحاك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لعن المؤمن كقتله و من قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله و من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة ] و في الحديث الصحيح [ عن الرجل الذي آلمته الجراح فاستعجل الموت فقتل نفسه بذباب سيفه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هو من أهل النار ] فنسأل الله أن يلهمنا رشدنا و أن يعيذنا من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا إنه جواد كريم غفور رحيم
( موعظة ) ابن آدم كيف تظن أعمالك مشيدة و أنت تعلم أنها مكيدة ؟ و كيف تترك معاملة المولى و تعلم أنها مفيدة ؟ و كيف تقصر في زادك و قد تحققت أن الطريق بعيدة ؟ يا معرضا عنا إلى متى هذا الجفا و الإعراض ؟ يا غافلا عن الموت و العمر لا شك في انقراض يا مغترا في أمله و أيدي المنايا في أجله تقرضه بمقراض يا مغرورا بصحته و بدنه كل يوم في انتقاص يا من يفني كل يوم بعضه ستفنى و الله الأبعاض يا غافلا عن الزاد و قد أنذره بعد السواد البياض يا قليل الإحتراس و نبل المنايا طوال عراض يا من يساق إلى موارد التلف و قد نزحت الحياض يا ضاحكا و عيون الفنا غير غماض لمن هذه الأوقات بين يديه كيف يقدر جفنه على الأغماض !
الكبيرة الثلاثون : الكذب في غالب أقواله قال الله تعالى : { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } و قال الله تعالى : { قتل الخراصون } أي الكاذبون و قال الله تعالى : { إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب }
و في الصحيحين [ عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الصدق يهدي إلى البر و إن البر يهدي إلى الجنة و ما يزال الرجل يصدق و يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا و إن الكذب يهدي إلى الفجور و إن الفجور يهدي إلى النار و ما يزال الرجل يكذب و يتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ] و في الصحيحين أيضا أنه صلى الله عليه و سلم قال : [ آية المنافق ثلاث و إن صلى و صام و زعم أنه مسلم : إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا ائتمن خان ] و قال عليه الصلاة و السلام : [ أربع من كن فيه كان منافقا خالصا و من كانت فيه خصلة منها كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا ائتمن خان و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر ] و في صحيح البخاري في حديث منام النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ فأتينا على رجل مضطجع لقفاه و آخر قائم عليه بكلوب من حديد يشرشر شدقه إلى قفاه و عيناه إلى قفاه ثم يذهب إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل في الجانب الأول فما يرجع إليه حتى يصح مثل ما كان فيفعل به كذلك إلى يوم القيامة فقلت لهما : من هذا ؟ فقالا : إنه كان يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ يطبع المؤمن على كل شيء ليست الخيانة و الكذب ] و في الحديث : [ إياكم و الظن فإن الظن أكذب الحديث ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ ثلاثة لا يكلمهم الله و لا ينظر إليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم : شيخ زان و ملك كذاب و عائل مستكبر ] العائل : الفقير و قال صلى الله عليه و سلم : [ ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به الناس فيكذب ويل له ويل له ويل له ] و أعظم من ذلك الحلف كما أخبر الله تعالى عن المنافقين بقوله : { و يقولون على الله الكذب و هم يعلمون } و في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم : رجل على فضل ما يمنعه ابن السبيل و رجل بايع رجلا سلعة فحلف بالله لأخذتها بكذا و كذا فصدقه و أخذها و هو على غير ذلك و رجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها وفى له و إن لم يعطه لم يف له ] و قال صلى الله عليه و سلم [ كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق و أنت له به كاذب ] و في الحديث أيضا : [ من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين و ليس بعاقد ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فرى الفرى على الله أن يري الرجل عينيه ما لم تريا ] معناه أن يقول رأيت في منامي كيت و كيت و لم يكن رأى شيئا و قال ابن مسعود رضي الله عنه : لا يزال العبد يكذب و يتحرى الكذب حتى ينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتب عند الله من الكاذبين
فينبغي للمسلم أن يحفظ لسانه عن الكلام إلا كلاما ظهرت فيه المصلحة فإن في السكوت سلامة و السلامة لا يعدلها شيء و في صحيح البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ] فهذا الحديث المتفق على صحته نص صريح في أنه لا ينبغي للإنسان أن يتكلم إلا إذا كان الكلام خيرا و هو الذي ظهرت مصلحته للمتكلم قال أبو موسى قلت يا رسول الله أي المسلمين أفضل ؟ قال : [ من سلم المسلمون من لسانه و يده ] و في الصحيحين : [ إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها ـ أي ما يفكر فيها بأنها حرام ـ يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق و المغرب ] و في موطأ الإمام مالك من رواية بلال بن الحارث المزني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى بها له رضوانه إلى يوم يلقاه و إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه ] و الأحاديث الصحيحة بنحو ما ذكرنا كثيرة و فيما أشرنا إليه كفاية و سئل بعضهم : كم وجدت في ابن آدم من العيوب ؟ فقال : هي أكثر من أن تحصى و الذي أحصيت ثمانية آلاف عيب و وجدت خصلة إن استعملها سترت العيوب كلها و هي حفظ اللسان جنبنا الله معاصيه و استعملناه فيما يرضيه إنه جواد كريم
( موعظة ) أيها العبد : لا شيء أعز عليك من عمرك و أنت تضيعه و لا عدو لك كالشيطان و أنت تطيعه و لا أضر من موافقة نفسك و أنت تصافيها و لا بضاعة سوى ساعات السلامة و أنت تسرف فيها لقد مضى من عمرك الأطايب فما بقي بعد شيب الذوائب ؟ يا حاضر البدن و القلب غائب اجتماع العيب الشيب من جملة المصائب يمضي زمن الصبا و حب الحبائب كفى زاجرا واعظا تشيب منه الذوائب يا غافلا فإنه أفضل المناقب أين البكا لخوف العظيم الطالب أين الزمان الذي ضاع في الملاعب ؟ نظرت فيه آخر العواقب كم في القيامة مع دمع ساكب على ذنوب قد حواها كتاب الكاتب ! من لي إذا قمت في موقف المحاسب و قيل لي : ما صنعت في كل واجب ؟
كيف ترجو النجاة و تلهو باسر الملاعب إذا أتتك الأماني بظن الكاذب الموت صعب شديد مر المشارب يلقي شره بكأس صدور الكتائب فانظر لنفسك و انتظر قدوم الغائب يأتي بقهر و يرمي بسهم صائب يا آملا أن تبقى سليما من النوائب بنيت بيتا كنسيج العناكب أين الذين علوا متون الركايب ضاقت بهم المنايا سبل المذاهب و أنت بعد قليل حليف المصايب فانظر و تفكر و تدبر قبل العجايب
الكبيرة الحادية و الثلاثون : القاضي السوء قال الله تعالى : { و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } و قال الله تعالى : { و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } و قال الله تعالى : { و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون }
روى الحاكم بإسناده و في صحيحه [ عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا يقبل الله صلاة إمام حكم بغير ما أنزل الله ]
و صحح الحاكم أيضا من [ حديث بريدة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : القضاة ثلاثة : قاض في الجنة و قاضيان في النار قاض عرف الحق فقضى به فهو في الحنة و قاض عرف الحق فجار متعمدا فهو في النار و قاض قضى بغير علم فهو في النار قالوا فما ذنب الذي يجهل ؟ قال : ذنبه أن لا يكون قاضيا حتى يعلم ] و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من جعل قاضيا فقد ذبح من غير سكين ] و قال الفضيل بن عياض رحمه الله ينبغي للقاضي أن يكون يوما في القضاء و يوما في البكاء على نفسه و قال محمد بن واسع رحمه الله : أول من يدعى يوم القيامة إلى الحساب القضاة و [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يود أنه لم يقض بين اثنين في تمرة ] و [ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن القاضي ليزل في زلقة في جهنم أبعد من عدن ] و [ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ليس من وال و لا قاض إلا يؤتى به يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عز و جل على الصراط ثم تنشر سريرته فتقرأ على رؤوس الخلائق فإن كان عدلا نجاه الله بعدله و إن كان غير ذلك انتفض به ذلك الجسر انتفاضا فصار بين كل عضو من أعضائه مسيرة كذا و كذا ثم ينخرق به الجسر إلى جهنم ] و قال مكحول : لو خيرت بين القضاء و بين ضرب عنقي لاخترت ضرب عتقي على القضاء و قال أيوب السختياني : إني وجدت أعلم الناس أشدهم هربا منه و قيل للثوري : إن شريحا قد استقضي فقال : أي رجل قد أفسدوه ! و دعا مالك بن المنذر محمد بن واسع ليجعله على قضاء البصرة فأبى فعاوده و قال : لتجلسن و إلا جلدتك فقال : إن تفعل فإنك سلطان و إن ذليل الدنيا خير من ذليل الآخرة ! و قال وهب بن منبه : إذا هم الحاكم بالجور أو عمل به أدخل الله النقص على أهل مملكته حتى في الأسواق و الأرزاق و الزرع و الضرع شيء و إذا هم بالخير أو العدل أدخل الله البركة في أهل مملكته كذلك و كتب عامل من عمال حمص إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه : أما بعد فإن مدينة حمص قد تهدمت و احتاجت إلى اصلاح فكتب إليه عمر : حصنها بالعدل و نق طرقها من الجور و السلام قال : و يحرم على القاضي أن يحكم و هو غضبان و إذا اجتمع في القاضي قلة علم و سوء قصد و أخلاق زعرة و قلة ورع فقد تم خسرانه و وجب عليه أن يعزل نفسه و يبادر بالخلاص فنسأل الله العفو و العافية و التوفيق لما يحب و يرضى إنه جواد كريم
موعظة : يا من عمره كلما زاد نقص يا من يأمن ملك الموت و قد اقتص يا مائلا إلى الدنيا هل سلمت من النقص ؟ يا مفرطا في عمره هل بادرت الفرص ؟ يا من إذا ارتقى في منهاج الهدى ثم لاج له الهوى نكص من لك يوم الحشر عند نشر القصص عجبا لنفس أمست بالليل هاجعة و نسيت أهوال يوم الواقعة و لأن تقرعها المواعظ فتصغي لها سامعة ثم تعود الزواجر عنها ضائعة و النفوس غدت في كرم الكريم طامعة ليست له في حال من الأحوال طائعة و الأقدام سعت في الهوى في طرق شاسعة بعد أن وضحت من الهدى سبل واسعة و الهمم شرعت في مشارع الهوى متنازعه لم تكن موعظة العقول لها نافعة و قلوب تضمر التوبة إذا فزعت بزواجر رادعه ثم تعود إلى ما لا يحل مرارا متتابعة
الكبيرة الثانية و الثلاثون : أخذ الرشوة على الحكم قال الله تعالى : { و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم و أنتم تعلمون }
أي لا تدلو بأموالكم إلى الحكام أي لا تصانعوهم بها و لا ترشوهم ليقتطعوا لكم حقا لغيركم و أنتم تعلمون أنه لا يحل لكم و [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لعن الله الراشي و المرتشي في الحكم ] أخرجه الترمذي و قال حديث حسن و [ عن عبد الله بن عمرو : لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم الراشي و المرتشي ]
قال العلماء : فالراشي هو الذي يعطي الرشوة و المرتشي هو الذي يأخذ الرشوة و إنما تلحق اللعنة الراشي إذا قصد بها أذية مسلم أو ينال بها ما لا يستحق أما إذا أعطى ليتوصل إلى حق له و يدفع عن نفسه ظلما فإنه غير داخل في اللعنة و أم الحاكم فالرشوة عليه حرام أبطل بها حقا أو دفع بها ظلما و قد روي في حديث آخر : إن اللعنة على الرائش أيضا و هو الساعي بينهما و هو تابع للراشي في قصده خيرا لم تلحقه اللعنة و إلا لحقته
فصل : و من ذلك ما روى أبو داود في سننه [ عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من شفع لرجل شفاعة فأهدى له عليها هدية فقد أتى بابا كبيرا من أبواب الربا ] و [ عن ابن مسعود قال : السحت أن تطلب لأخيك الحاجة فتقضى فيهدى إليك هدية فتقبلها منه و عن مسروق أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها فأهدى إليه صاحب المظلمة و صيفا فردها و لم يقبلها و قال سمعت ابن مسعود يقول : من رد عن مسلم مظلمة فأعطاه على ذلك قليلا أو كثيرا فهو سحت فقال الرجل : يا أبا عبد الرحمن ما كنا نظن أن السحت إلا الرشوة في الحكم فقال : ذلك كفر نعوذ بالله منه و نسأل الله العفو و العافية من كل بلاء و مكروه ]
الحكاية : عن الإمام أبي عمر الأوزعي رحمه الله ـ و كان يسكن ببيروت ـ أن نصرانيا جاء إليه فقال : إن والي بعلبك ظلمني بمظلمة و أريد أن تكتب إليه و أتاه بقلة عسل فقال الأوزاعي رحمه الله : إن شئت رددت القلة و كتبت لك إليه و إن شئت أخذت القلة فكتبت له إلى الوالي أن ضع عن هذا النصراني من خراجه فأخذ القلة و الكتاب و مضى إلى الوالي فأعطاه الكتاب فوضع عنه ثلاثين درهما بشفاعة الإمام رحمه الله و حشرنا في زمرته
موعظة : عباد الله : تدبروا العواقب و احذروا قوة المناقب و اخشوا عقوبة المعاقب و خافوا سلب السالب فإنه و الله طالب غالب أين الذين قعدوا في طلب المنى و قاموا و داروا على توطئة دار الرحيل و حاموا ؟ ما أقل ما لبثوا و ما أوفى ما أقاموا ! لقد وبخوا في نفوسهم في قعر قبورهم على ما أسلفوا و لاموا
( أما والله لو علم الأنام ... لما خلقوا لما هجموا و ناموا )
( لقد خلقوا لأمر لو رأته ... عيون قلوبهم تاهوا و هاموا )
( ممات ثم قبر ثم حشر ... و توبيخ و أهوال عظام )
( ليوم الحشر قد عملت رجال ... فصلوا من مخافته و صاموا )
( و نحن إذا أمرنا أو نهينا ... كأهل الكهف إيقاظ نيام )
يا من بأقذار الخطايا قد تلطخ و بآفات البلايا قد تضمخ يا من سمع كلام من لام و وبخ يعقد عقد التوبة حتى إذا أمسى يفسخ يا مطلقا لسانه و الملك يحصى و ينسخ يا من طير الهوى في صدره قد عشش و فرخ كم أباد الموت ملوكا كالجبال الشمخ كم أزعج قواعد كانت في الكبر ترسخ و أسكنهم ظلم اللحود و من ورائهم برزخ يا من قلبه من بدنه بالذنوب أوسخ يا مبارزا بالعظائم أتأمن أن يخسف بك أو تمسخ يا من لازم العيب بعد اشتماله الشيب ففعله يؤرخ و الحمد لله دائما و أبدا
الكبيرة الثالثة و الثلاثون : تشبه النساء بالرجال و تشبه الرجال بالنساء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال و المتشبهين من الرجال بالنساء ] و في رواية : [ لعن الله الرجله من النساء ] و في رواية قال : [ لعن الله المخنثين من الرجال و المترجلات من النساء ] يعني اللاتي يتشبهن بالرجال في لبسهم و حديثهم و عن [ أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لعن الله المرأة تلبس لبسة الرجل و الرجل يلبس لبسة المرأة ]
فإذا لبست المرأة زي الرجال من المقالب و الفرج و الأكمام الضيقة فقد شابهت الرجال في لبسهم فتلحقها لعنة الله و رسوله و لزوجها إذا أمكنها من ذلك أي رضي به و لم ينهها لأنه مأمور بتقويمها على طاعة الله و نهيها عن المعصية لقول الله تعالى { قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس و الحجارة } أي أدبوهم و علموهم و مروهم بطاعة الله و انهوهم عن معصية الله كما يحب ذلك عليكم في حق أنفسكم و لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته الرجل راع في أهله و مسؤول عنهم يوم القيامة ] و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ألا هلكت الرجال حين أطاعوا النساء ] و قال الحسن والله ما أصبح اليوم رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا أكبه الله تعالى في النار و قال صلى الله عليه و سلم : [ صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس و نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها و إن ريحها ليوجد من مسيرة كذا و كذا ] أخرجه مسلم
قوله : كاسيات أي من نعم الله عاريات من شكرها و قيل : هو أن تلبس المرأة ثوبا رقيقا يصف لون بدنها و معنى مائلات قيل عن طاعة الله و ما يلزمهن حفظه مميلات أي يعلمن غيرهن الفعل المذموم و قيل مائلات متبخترات مميلات لأكتافهن و قيل مائلات يمتشطن المشطة الميلاء و هي مشطة البغايا و مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة رؤوسهن كأسنمة البخت أي يكبرنها و يعظمنها بلف عصابة أو عمامة أو نحوهما و عن نافع قال : كان ابن عمر و عبد الله ابن عمرو عند الزبير بن عبد المطلب إذ أقبلت امرأة تسوق غنما متنكبة قوسا فقال عبد الله بن عمر : أرجل أنت أم امرأة ؟ فقالت : امرأة فالتفت إلى ابن عمرو فقال : إن الله تعالى لعن على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم المتشبهات من النساء بالرجال و المتشبهون من الرجال بالنساء
و من الأفعال التي تلعن عليها المرأة إظهار الزينة و الذهب و اللؤلؤ من تحت النقاب و تطيبها بالمسك و العنبر و الطيب إذا خرجت و لبسها الصباغات و الأزر و الحرير و الأقبية القصار مع تطويل الثوب و توسعة الأكمام و تطويلها إلى غير ذلك إذا خرجت و كل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه و يمقت فاعله في الدنيا و الآخرة و هذه الأفعال التي قد غلبت على أكثر النساء قال عنهن النبي صلى الله عليه و سلم : [ اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء ] و قال صلى الله عليه و سلم : ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء فنسأل الله أن يقينا فتنتهن و أن يصلحهن و إيانا بمنه و كرمه
موعظة : ابن آدم كأنك بالموت و قد فجأك و هجم و ألحقك بمن سبقك من الأمم و نقلك إلى بيت الوحدة و الظلم و من ذلك إلى عسكر الموتى مخيمة بين الخيم مفرقا من مالك ما اجتمع و من شملك ما انتظم و لا تدفعه بكثرة الأموال و لا بقوة الخدم و ندمت على التفريط غاية الندم فيا عجبا لعين تنام و طالبها لم ينم متى تحذر مما توعد و تهدد و متى تضرم نار الخوف في قلبك و تتوقد إلى متى حسناتك تضمحل و سيئاتك تجدد إلى متى لا يهولك زجر الواعظ و إن شدد إلى متى أنت بين الفتور و التواني تتردد متى تحذر يوما فيه الجلود تنطق و تشهد متى تترك ما يفني فيما لا ينفذ متى تهب بك في بحر الوجد ريح الخوف و الرجاء متى تكون في الليل قائما إذا سجا أين الذين عاملوا مولاهم و انفردوا و قاموا في الدجى و ركموا و سجدوا و قدموا إلى باب في الأسحار و وفدوا و صاموا هواجر النهار فصبروا و اجتهدوا لقد ساروا و تخلفت وفاتك ما وجدوا و بقيت في أعقابهم و إن لم تلحق بعدوا :
( يا نائم الليل متى ترقد ... قم يا حبيبي قد دنا الموعد )
( من نام حتى ينقضي ليله ... لم يبلغ المنزل أو يجهد )
( فقل لذوي الألباب أهل التقى ... قنطرة العرض لكم موعد )
الكبيرة الرابعة و الثلاثون : الديوث المستحسن على أهله و القواد الساعي بين الإثنين بالفساد
قال الله تعالى : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة و الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك و حرم ذلك على المؤمنين }
عن [ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه و الديوث و رجلة النساء ] و روى النسائي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر و العاق لوالديه و الديوث الذي يقر الخبث في أهله ] يعني يستحسن على أهله نعوذ بالله من ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى : فمن كان يظن بأهله الفاحشة و يتغافل لمحبته فيها أو لأن لها عليه دينا و هو عاجز أو صداقا ثقيلا أو له أطفال صغار فترفعه إلى القاضي و تطلب فرضهم فهو دون من يعرض عنه و لا خير فيمن لا غيرة له فنسأل الله العافية من كل بلاء ومحنة إنه جواد كريم
موعظة : أيها المشغول بالشهوات الفانيات متى تستعد لممات آت حتى متى لا تجتهد في إلحاق القوافل الماضيات أتطمع و أنت رهين الوساد في لحاق السادات ؟ هيهات هيهات هيهات ! آملا في زعمه اللذات إحذر هجوم هازم اللذات احذر مكائده فهي كوامن في عدة الأنفاس و اللحظات :
( تمضي حلاوة ما أخفيت و بعدها ... تبقى عليك مرارة التبعات )
( يا حسرة العاصين يوم معادهم ... لو أنهم سبقوا إلى الجنات )
( لو لم يكن إلا الحياء من الذي ... ستر العيوب لأكثروا الحسرات )
يا من صحيفته بالذنوب قد حفت و موازينه بكثرة الذنوب قد خفت أما رأيت أكفاء عن مطامعها كفت أما رأيت عرائس آحاد إلى اللحود قد زفت أما عاينت أبدان المترفين و قد أدرجت في الأكفان و لفت أما عاينت طور الأجسام في الأرحام و متى تنتبه لخلاص نفسك أيها الناعس متى تعتبر بربع غيرك الدارس ؟ أين الأكاسر الشجعان الفوارس و أين المنعمون بالجواري و الظباء الخنس الكوانس أين المتكبرون ذوو الوجوه العوابس أين من اعتاد سعة القصور ! حبس في القبور في أضيق المحابس ! أين الرافل في أثوابه عري في ترابه عن الملابس أين الغافل في أمله و أهله عن أجله سلبته أكف الخالس أين جامع الأموال سلب المحروس و هلك الحارث ! حق لمن علم مكر الدنيا أن يهجرها و لمن جهل نفسه أن يزجرها و لمن تحقق نقلته أن يذكرها و لمن غمر بالنعماء أن يشكرها و لمن دعي إلى دار السلام أن يقطع مفاوز الهوى ليحضرها
الكبيرة الخامسة و الثلاثون : المحلل و المحلل له صح من حديث [ ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن المحلل المحلل له ] قال الترمذي : و العمل على ذلك عند أهل العلم منهم عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان و عبد الله بن عمر و هو قول الفقهاء من التابعين و رواه الإمام أحمد في مسنده و النسائي في سننه أيضا باسناد صحيح و [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المحلل فقال : لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة و لا استهزاء بكتاب الله عز و جل حتى يذوق العسيلة ] و رواه أبو اسحاق الجوزاني و [ عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : هو المحلل لعن الله المحلل و المحلل له ] رواه ابن ماجه بإسناد صحيح و عن ابن عمر أن رجلا سأله فقال : ما تقول في امرأة تزوجتها أحلها لزوجها لم يأمرني و لم يعلم ؟ فقال له ابن عمر : لا إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها و إن كرهتها فارقتها و إنا كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و أما الآثار عن الصحابة و التابعين فقد روى الأثرم و ابن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لا أوتي بمحلل و لا محلل إلا رجمتها و سئل عمر بن الخطاب عن تحليل المرأة لزوجها فقال : ـ ذلك السفاح ـ و عن عبد الله بن شريك العامري قال : سمعت ابن عمر رضي الله عنهما و قد سئل عن رجل طلق ابنة عم له ثم ندم و رغب فيها فأراد رجل أن يتزوجها ليحلها له فقال ابن عمر : كلاهما زان و إن مكثا عشين سنة أو نحو ذلك إذا كان يعلم أنه يريد أن يحللها و عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل رجل فقال : ابن عمي طلق امرأته ثلاثا ثم ندم فقال : ابن عمك عصى ربه فأندمه و أطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا فقال : كيف ترى في رجل يحلها له ؟ فقال : من يخادع الله يخدعه و قال إبراهيم النخعي : إذا كان نية أحد الثلاثة الزوج الأول أو الزوج الآخر أو المرأة التحليل فنكاح الآخر باطل و لا تحل للأول و قال الحسن البصري : إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فقد أفسد و قال سعيد بن المسيب إمام التابعين في رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول فقال لا تحل و ممن قال بذلك مالك بن أنس و الليث بن سعد و سفيان الثوري و الإمام أحمد و قال اسماعيل بن سعيد : سألت الإمام أحمد عن الرجل يتزوج المرأة و في نفسه أن يحللها لزوجها الأول و لم تعلم المرأة بذلك ؟ فقال : هو محلل و إن أراد بذلك الإحلال فهو ملعون و مذهب الشافعي رحمه الله : إذا شرط التحليل في العقد بطل العقد لأنه عقد بشرط قطعه دون غايته فبطل كنكاح المتعة و إن وجد الشرط قبل العقد فالأصح الصحة و إن عقد كذلك و لم يشرط في العقد و لا قبله لم يفسد العقد و إن تزوجها على أنه إذا أحلها طلقها ففيه قولان أصحهما أن يبطل و وجه البطلان أنه شرط يمنع صحته دوام النكاح فأشبه التأقيت و هذا هو الأصح في الرافعي و وجه الثاني أنه شرط فاسد قارن العقد فلا يبطل كما لو تزوجها بشرط أن لا يتزوج عليها و لا يسافر بها و الله أعلم فنسأل الله أن يوفقنا لما يرضيه و يجنبنا معاصيه إنه جواد كريم غفور رحيم
موعظة : لله در قوم تركوا الدنيا قبل تركها و أخرجوا قلوبهم بالنفر عن ظلام شكلها التقطوا أيام السلامة فغنموا و تلذذوا بكلام مولاهم فاستسلموا لأمره و سلموا و أخذوا مواهبه بالشكر و تسلموا هجروا في طاعته لذيذ الكرى و هربوا إليه من جميع الورى و آثروا طاعته ايثار من علم و دري و رضوا فلم يعترضوا على ما جرى و باعوا أنفسهم فيا نعم البيع و يا نعم الشراء أسلموا إليه سلموا الروح و خدموه و الصدر لخدمته مشروح و قرعوا بابه و إذا الباب مفتوح و واصلوا البكا فالجفن بالدمع مقروح و قاموا في الأسحار قيام من يبكي و ينوح و صبروا على مقطعات الصوف و لبس المسوح و راضوا أنفسهم فإذا المذموم ممدوح تعرفهم بسيماهم عليهم آثار الصدق تلوح قد عبقوا بنشر أنسه رائحة ارتياحهم تفوح من طيب الثنا روائح لهم بكل مكان تستنشق ممسكة النفحات إلا أنها وحشية لسواهم لا تعبق
الكبيرة السادسة و الثلاثون : عدم التنزه من البول و هو شعار النصارى قال الله تعالى : { و ثيابك فطهر } و [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر النبي صلى الله عليه و سلم بقبرين فقال : إنهما ليعذبان و ما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة و أما الآخر فكان لا يستبرىء من البول أي لا يتحرز منه ] مخرج في الصحيحين و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه ] رواه الدارقطني
ثم إن من لم يتحرز من البول في بدنه و ثيابه فصلاته غير مقبولة و روى الحافظ أبو نعيم في الحلية [ عن شقي بن ماتع الأصبحي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى يسعون ما بين الحميم و الجحيم و يدعون بالويل و الثبور و يقول أهل النار لبعضهم البعض : ما بال هؤلاء قد آذونا على ما بنا من الأذى قال : فرجل مغلق عليه تابوت من جمر و رجل يجر أمعاءه و رجل يسيل فمه قيحا و دما و رجل يأكل لحمه قال : فيقال لصاحب التابوت : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ فيقول : إن الأبعد مات و في عنقه أموال الناس ثم يقال للذي يجر أمعاءه : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ فيقول : إن الأبعد كان لا يبالي أين ما أصاب البول منه و لا يغسله ثم يقال للذي يسيل فمه قيحا و دما : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ فيقول : إن الأبعد كان ينظر كل كلمة قبيحة فيستلذها و في رواية : كان يأكل لحوم الناس و يمشي بالنميمة ثم يقال للذي يأكل لحمه : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ فيقول : إن الأبعد كان يأكل لحوم الناس ـ يعني بالغيبة ـ ]
فنسأل الله العفو و العافية بمنه و كرمه إنه أرحم الراحمين
موعظة : أيها العبيد تذكروا في مصارع الذين سبقوا و تدبروا في عواقبهم أين انطلقوا و اعلموا أنهم قد تقاسموا و افترقوا أما أهل الخير فسعدوا و أما أهل الشر فشقوا فانظر لنفسك قبل أن تلقى ما لقوا :
( و المرء مثل هلال عند مطلعه ... يبدو ضئيلا لطيفا ثم يتسق )
( يزداد حتى إذا ما تم أعقبه ... كر الجديدين نقصا ثم يمتحق )
( كان الشباب رداء قد بهجت به ... فقد تطاير منه للبلا خرق )
( و مات مبتسم جد المشيب به ... كالليل ينهض في أعجازه الأفق )
( عجبت و الدهر لا تفنى عجائبه ... من راكنين إلى الدنيا و قد صدقوا )
( و طالما نغصت بالفجع صاحبها ... بطارق الفجع و التنغيص قد طرقوا )
( دار لعهد بها الآجال مهلكة ... و ذو التجارب فيها خائف فرق )
( يا للرجال مخدوع بباطلها ... بعد البيان و مغرور بها يثق )
( أقول و النفس تدعوني لزخرفها ... أين الملوك ملوك الناس و السوق )
( أين الذين إلى لذاتها جنحوا ... قد كان قبلهم عيش و مرتفق )
( أمست مساكنهم قفرا معطلة ... كأنهم لم يكونوا قبلها خلقوا )
( يا أهل لذة دار لا بقاء لها ... إن اغترارا بظل زائل حمق )
الكبيرة السابعة و الثلاثون : الرياء قال الله تعالى مخبرا عن المنافقين :
{ يراؤون الناس و لا يذكرون الله إلا قليلا } و قال الله تعالى : { فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراؤون * و يمنعون الماعون } و قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس } الآية و قال الله تعالى : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا }
أي لا يرائي بعمله و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد في سبيل الله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما فعلت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبت و لكنك فعلت ليقال هو جريء و قد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أقي في النار و رجل وسع الله عليه و أعطاه من أصناف المال فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال : كذبت و لكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار و رجل تعلم العلم و علمه و قرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم و علمته و قرأت فيك القرآن قال : كذبت و لكنك تعلمت ليقال هو عالم و قرأت ليقال هو قارىء ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ] رواه مسلم و قال صلى الله عليه و سلم : [ من سمع سمع الله به ومن يرائي يراءى به ] قال الخطابي معناه من عمل عملا على غير إخلاص إنما يريد أن يراه الناس و يسمعوه جوزي على ذلك بأنه يشهره و يفضحه فيبدو عليه ما كان يبطنه و يسره من ذلك و الله أعلم و قال عليه الصلاة و السلام : [ اليسير من الرياء شرك ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فقيل : و ما هو يا رسول الله ؟ قال الرياء ] يقول الله تعالى يوم يجازي العباد بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم بأعمالكم فانظروا هل تجدون عندهم جزاء و قيل في قول الله تعالى : { و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } قيل : كانوا عملوا أعمالا كانوا يرونها في الدنيا حسنات بدت لهم يوم القيامة سيئات و كان بعض السلف إذا قرأ هذه الآية يقول : ويل لأهل الرياء و قيل : إن المرائي ينادى به يوم القيامة بأربعة أسماء : يا مرائي يا غادر يا فاجر يا خاسر اذهب فخذ أجرك ممن عملت له فلا أجر لك عندنا و قال الحسن : المرائي يريد أن يغلب قدر الله فيه هو رجل سوء يريد أن يقول الناس هو صالح فكيف يقولون و قد حل من ربه محل الإردياء ؟ فلا بد من قلوب المؤمنين أن تعرفه و قال قتادة : إذا راءى العبد يقول الله : انظروا إلى عبدي كيف يستهزىء بي و روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظر إلى رجل و هو يطأطى رقبته فقال : يا صاحب الرقبة إرفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب و قيل : إن أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه أتى على رجل في المسجد و هو ساجد يبكي في سجوده و يدعو فقال له أبو أمامة : أنت أنت لو كان هذا في بيتك ! و قال محمد بن مبارك الصوري : أظهر السمت في الليل فإنه أشرف من إظهاره بالنهار لأن السمت بالنهار للمخلوقين و السمت بالليل لرب العالمين و قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه : للمرائي ثلاث علامات : يكسل إذا كان وحده و ينشط إذا كان في الناس و يزيد في العمل إذا أثني عليه و ينقص إذا ذم به و قال الفضيل بن عياض رحمه الله : ترك العمل لأجل الناس رياء و العمل لأجل الناس شرك و الإخلاص أن يعاقبك الله منهما
فنسأل الله المعونة و الإخلاص في الأعمال و الأقوال و الحركات و السكنات إنه جواد كريم
موعظة : عباد الله ! إن أيامكم قلائل و مواعظكم قواتل فليخبر الأواخر الأوائل و ليستيقظ الغافل قبل سير القوافل يا من يوقن أنه لا شك راحل و ما له زاد و لا رواحل يا من لج في لجة الهوى متى ترتقي إلى الساحل ؟ هل انتبهت من رقاد شامل و حضرت المواعظ بقلب غير غافل و قمت في الليل قيام عاقل و كتبت بالدموع سطور الرسائل تخفي بها زفرات الندم و الوسائل و بعثتها في سفينة دمع سائل لعلها ترسى على الساحل وا أسفاه لمغرور جهول غافل لقد أثقل بعد الكهولة بالذنب الكاهل و قد ضيع البطالة و بذل الجاهل و ركن إلى ركوب الهوى ركبة مائل يبني البنيان و يشيد المعاقل و هو عن ذكر قبره متشاغل و يدعي بعد هذا أنه عاقل تالله لقد سبقه الأبطال إلى أعلى المنازل و هو يؤمل في بطالته فوز العامل و هيهات هيهات ما فاز باطل بطائل :
( أيها المعجب فخرا ... بمقاصير البيوت )
( إنما الدنيا محل ... لقيام و قنوت )
( فغدا تنزل بيتا ... ضيقا بعد النحوت )
( بين أقوام سكوت ... ناطقات في الصموت )
( فارض في الدنيا بثو ... ب و من العيش بقوت )
( و اتخذ بيتا ضعيفا ... مثل بيت بيت العنكبوت )
( ثم قل : يا نفس هذا ... بيت مثواك فموتي )
الكبيرة الثامنة و الثلاثون : التعلم للدنيا و كتمان العلم قال الله تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } يعني العلماء بالله عز و جل قال ابن عباس : يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي و عزتي و سلطاني و قال مجاهد و الشعبي : العالم من خاف الله تعالى و قال الربيع بن أنس من لم يخش الله فليس بعالم و قال الله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون }
نزلت هذه الآية في علماء يهود و أراد ( بالبينات ) الرجم و الحدود و الأحكام و بالهدى أمر محمد عليه الصلاة و السلام و نعته { من بعد ما بيناه للناس } أي بني إسرائيل { في الكتاب } أي في التوراة { أولئك } يعني الذين يكتمون { يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون } قال ابن عباس : كل شيء لا الجن و الأنس و قال ابن مسعود : ما تلاعن اثنان من المسلمين إلا رجعت تلك اللعنة على اليهود و النصارى الذين يكتمون أمر محمد صلى الله عليه و سلم و صفته و قال الله تعالى : { و إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس و لا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون }
قال الواحدي : نزلت هذه الآية في يهود المدينة أخذ الله ميثاقهم في التوراة ليبينن شأن محمد صلى الله عليه و سلم و نعته و مبعثه و لا يخفونه و هو قوله تعالى : { لتبيننه للناس و لا تكتمونه } و قال الحسن : هذا ميثاق الله تعالى على علماء اليهود أن يبينوا للناس ما في كتابهم و فيه ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قوله { فنبذوه وراء ظهورهم } قال ابن عباس : أي ألقوا ذلك الميثاق خلف ظهورهم { و اشتروا به ثمنا قليلا } يعني ما كانوا يأخذونه من سفلتهم برياستهم في العلم و قوله : { فبئس ما يشترون } قال ابن عباس : قبح شراؤهم و خسروا و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من تعلم علم مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة ] يعني ريحها رواه أبو داود و قد مر حديث أبي هريرة في الثلاثة الذين يسحبون إلى النار أحدهم الذي يقال له : إنما تعلمت ليقال عالم و قد قيل و قال صلى الله عليه و سلم : [ من ابتغى العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء أو تقبل أفئدة الناس إليه فإلى النار ] و في لفظ [ أدخله الله النار ] أخرجه الترمذي و قال صلى الله عليه و سلم : [ من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ] و كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أعوز بك من علم لا ينفع ] و قال صلى الله عليه و سلم [ من تعلم علما لم يعمل به لم يزده العلم إلا كبرا ] و [ عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يجاء بالعالم السوء يوم القيامة فيقذف في النار فيدور بقصبه كما يدور الحمار بالرحا فيقال له بما لقيت هذا و إنما اهتدينا بك فيقول : كنت أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ] و قال هلال بن العلاء : طلب العلم شديد و حفظه أشد من طلبه و العمل به أشد من حفظه و السلامة منه أشد من العمل به فنسأل الله السلامة من كل بلاء و التوفيق لما يحب و يرضى إنه جواد كريم
( موعظة ) ابن آدم ! متى تذكر عواقب الأمور ؟ متى ترحل الرحال عن هذه القصور ؟ إلى متى في جميع ما تبني تدور ؟ أين من كان من قبلكم في المنازل و الدور ؟ أين من ظن بسوء تدبيره أنه لا يحور ؟ رحل و الله الكل فاجتمعوا في القبور ؟ و استوطنوا أ خشن المهاد إلى نفخ الصور فإذا قاموا إلى فصل القضاء و السماء تمور كشفوا الحجاب المخفي و هتك المستور و ظهرت عجائب الأفعال و حصل ما في الصدور و نصب الصراط فكم من قدم عثور و وضعت عليه كلاليب لخطف كل مغرور و أصبحت وجوه المتقين تشرق كالبدور وباءوا بتجارة لن تبور و دعا أهل الفجور بالويل و الثبور و جيء بالنار تقاد بالأزمة و هي تفور إذ ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا و هي تفور ليس في الدنيا لمن آمن بالبعث سرور إنما يفرح بالدنيا جهول أو كفور
( إنما الدنيا متاع ... كل ما فيها غرور )
( فتذكر هول يوم ... السما فيه تمور )
الكبيرة التاسعة و الثلاثون : الخيانة قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله و الرسول و تخونوا أماناتكم و أنتم تعلمون }
قال الواحدي رحمه الله تعالى : نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بني قريظة لما حاصرهم و كان أهله و ولده فيهم فقالوا : يا أبا لبابة ما ترى لنا إن نزلنا على حكم سعد فينا ؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه أي أنه الذبح فلا تفعلوا فكانت تلك منه خيانة لله و رسوله قال أبو لبابة : فما زالت قدماي من مكاني حتى عرفت أني خنت الله و رسوله و قوله : { و تخونوا أماناتكم و أنتم تعلمون } عطف على النهي أي و لا تخونوا أماناتكم قال ابن عباس : الأمانات الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد يعني الفرائض يقول : لا تنقضوها قال الكلبي : أما خيانة الله و رسوله فمعصيتهما و أما خيانة الأمانة : فكل واحد مؤتمن على ما افترضه الله عليه إن شاء خانها و إن شاء أداها لا يطلع عليه أحد إلا الله تعالى و قوله { و أنتم تعلمون } أنها أمانة من غير شبهة و قال تعالى : { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } : أي لا يرشد كيد من خان أمانته يعني أنه يفتضح في العاقبة بحرمان الهداية و قال عليه الصلاة و السلام : [ آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا ائتمن خان ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا إيمان لمن لا أمانة له و لا دين لمن لا عهد له ] و الخيانة قبيحة في كل شيء و بعضها شر من بعض و ليس من خانك في فلس كمن خانك في أهلك و مالك و ارتكب العظائم و عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أد الأمانة إلى من ائتمنك و لا تخن من خانك ] و في الحديث أيضا : [ يطبع المؤمن على كل شيء ليس الخيانة و الكذب ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يقول الله أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه ] و فيه أيضا : [ أول ما يرفع من الناس الأمانة و آخر ما يبقى الصلاة و رب مصل لا خير فيه ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إياكم و الخيانة فإنها بئست البطانة ] و قال عليه الصلاة و السلام : [ هكذا أهل النار و ذكر منهم رجلا لا يخفى له طمع و إن دق إلا خانه ] و قال ابن مسعود : يؤتى يوم القيامة بصاحب الأمانة الذي خان فيها فيقال له : أد أمانتك فيقول : أنى يا رب و قد ذهبت الدنيا ؟ قال فتمثل له كهيئتها يوم أخذها في قعر جهنم ثم يقال له إنزل إليها فأخرجها قال : فينزل إليها فيحملها على عاتقه فهي عليه أثقل من جبال الدنيا حتى إذا ظن أنه ناج هوت و هوى في أثرها أبد الآبدين ثم قال : الصلاة أمانة و الوضوء أمانة و الغسل أمانة و الوزن أمانة و الكيل أمانة و أعظم ذلك الودائع
اللهم عاملنا بلطفك و تداركنا بعفوك
( موعظة ) عباد الله ! ما أشرف الأوقات و قد ضيعتموها و ما أجهل النفوس و قد أطعتموها و ما أدق السؤال عن الأموال فانظروا كيف جمعتموها و ما أحفظ الصحف بالأعمال فتدبروا ما أودعتموها قبل الرحيل عن القليل و المناقشة عن النقير و الفتيل قبل أن تنزلوا بطون اللحود و تصيروا طعاما للدود في بيت بابه مسدود و لو قيل فيه للعاصي ما تختارلقال أعود و لا أعود :
( أين أهل الديار من قوم نوح ... ثم عاد من بعدهم و ثمود )
( بينما القوم في النمارق و الإستبـ ... رق أفضت إلى التراب الخدود )
( و صحيح أضحى يعود مريضا ... و هو أدنى للموت ممن يعود )
الكبيرة الأربعون : المنان قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى }
قال الواحدي هو أن يمن بما أعطى و قال الكلبي بالمن على الله في صدقته و الأذى لصاحبها و في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ثلاثة لا يكلمهم الله و لا ينظر إليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم : المسبل و المنان و المنفق سلعته بالحلف الكاذب ] المسبل هو الذي يسبل إزاره أو ثيابه أو قميصه أو سراويله حتى تكون إلى القدمين لأنه صلى الله عليه و سلم قال : [ ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار ] و في الحديث أيضا : [ ثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه و المدمن الخمر و المنان ] رواه النسائي و فيه أيضا : [ لا يدخل الجنة خب و لا بخيل و لا منان ] و الخب هو المكر و الخديعة و المنان هو الذي يعطي شيئا أو يتصدق به ثم يمن به و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إياكم و المن بالمعروف فإنه يبطل الشكر و يمحق الأجر ] ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم قول الله عز و جل : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى } و سمع ابن سيرين رجلا يقول لآخر : أحسنت إليك و فعلت و فعلت فقال له ابن سيرين : اسكت فلا خير في المعروف إذا أحصي و كان بعضهم يقول : من بمعروفه سقط من شكره و من أعجب بعمله حبط أجره و أنشد الشافعي رحمه الله تعالى :
( لا تحملن من الأنام ... بأن يمنوا عليك منه )
( و اختر لنفسك حظها ... و اصبر فإن الصبر جنه )
( منن الرجال على القلوب ... أشد من وقع الأسنة )
و أنشد أيضا بعضهم فقال :
( و صاحب سلفت منه إلي يد ...
أبطأ عليه مكافاتي فعاداني )
( لما تيقن أن الدهر حاربني
... أبدى الندامة مما كان أولاني )
( أفسدت بالمن ما قدمت من حسن
... ليس الكريم إذا أعطى بمنان )
( موعظة ) يا مبادرا بالخطايا ما أجهلك إلى متى تغتر بالذي أمهلك كأنه قد أهملك ؟ فكأنك بالموت و قد جاء بك و أنهلك و إذا الرحيل و قد أفزعك الملك و أسرك البلا بعد الهوى و عقلك و ندمت على وزر عظيم قد أثقلك يا مطمئنا بالفاني ما أكثر زللك و يا معرضا عن النصح كأن النصح ما قيل لك أين حبيبك الذي كان و أين انتقل ؟ أما وعظك التلف في جسده و المقل أين كثير المال أين طويل الأمل أما خلا وحده في لحده بالعمل أين من جر ثوبه الخيلاء غافلا و رفل ؟ أما سافر به و إلى الآن ما وصل أين من تنعم في قصره فكأنه في الدنيا ما كان و في قبره لم يزل أين من تفوق و احتفل ؟ غاب و الله نجم سعوده و أفل أين الأكاسرة و الجبابرة العتاة الأول ملك أموالهم سواهم و الدنيا دول
الكبيرة الحادية و الأربعون : التكذيب بالقدر قال الله تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } قال ابن الجوزي في تفسيره : في سبب نزولها قولان أحدهما أن مشركي مكة أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه و آله و سلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية انفرد بإخراجه مسلم و روى أبو أمامة أن هذه الآية في القدرية و القول الثاني : أن أسقف نجران جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد تزعم أن المعاصي بقدر و ليس كذلك فقال صلى الله عليه و سلم : [ أنتم خصماء الله ] فنزلت هذه الآية :
{ إن المجرمين في ضلال و سعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر }
و روى [ عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا جمع الله الأولين و الآخرين يوم القيامة أمر مناديا فنادى نداء يسمعه الأولون و الآخرون : أين خصماء الله ؟ فتقوم القدرية فيؤمر بهم إلى النار ] يقول الله { ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر } و إنما قيل لهم خصماء الله لأنهم يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدر المعصية على العبد ثم يعذبه عليها و روى هشام بن حسان عن الحسن قال : و الله لو أن قدريا صام حتى يصير كالحبل ثم صلى حتى يصير كالوتر لكبه الله على وجهه في سقر ثم قيل له ذق مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر و روى مسلم في صحيحه [ من حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كل شيء بقدر حتى العجز و الكيس ] و قال ابن عباس : كل شيء خلقناه بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه قال الله تعالى : { و الله خلقكم و ما تعملون }
قال ابن جرير : فيها وجهان أحدهما : أن تكون بمعنى المصدر فيكون المعنى : و الله خلقكم و عملكم و الثاني : أن تكون بمعنى الذي فيكون المعنى : و الله خلقكم و خلق الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام و في هذه الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة و الله أعلم و قال الله تعالى : { فألهمها فجورها و تقواها } الإلهام إيقاع الشيء في النفس قال سعيد بن جبير : ألزمها فجورها و تقواها و قال ابن زايد : جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى و خذلانه إياها للفجور و الله أعلم و في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال : [ إن الله من على قوم فألهمهم الخير فأدخلهم في رحمته و ابتلى قوما فخذلهم و ذمهم على أفعالهم و لم يستطيعوا غير ابتلاهم فعذبهم و هو عادل ] { لا يسأل عما يفعل و هم يسألون } و [ عن معاذ ابن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بعث الله نبيا قط و في أمته قدرية و مرجئه إن الله لعن القدرية و المرجئة على لسان سبعين نبيا ]
و [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : القدرية مجوس هذه الأمة ] و [ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لكل أمة مجوس و مجوس هذه الأمة الذين يزعمون أن لا قدر و أن الأمر أنف قال : فإذا لقيتهم فأخبرهم أني منهم بريء و أنهم براء مني ] ثم قال [ و الذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبل حتى يؤمن بالقدر خيره و شره ] ثم ذكر حديث جبريل و سؤاله النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و تؤمن بالقدر خيره و شره ]
قوله أن تؤمن بالله : الإيمان بالله هو التصديق بأنه سبحانه و تعالى موجود موصوف بصفات الجلال و الكمال منزه عن صفات النقص و أنه فرد صمد خالق جميع المخلوقات متصرف فيها بما يشاء يفعل في ملكه ما يريد و الإيمان بالملائكة هو التصديق بعبوديتهم لله :
{ بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من خشيته مشفقون }
و الإيمان بالرسل هو التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى أيدهم الله بالمعجزات الدالة على صدقهم و أنهم بلغوا عن الله تعالى رسالاته و بينوا للمكلفين ما أمرهم الله به و أنه يجب احترامهم و أن لا يفرق بين أحد منهم و الإيمان باليوم الآخر هو التصديق بيوم القيامة و ما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت و النشر و الحشر و الحساب و الميزان و الصراط و الجنة و النار و أنهما دار ثوابه و عقابه للمحسنين و المسيئين إلى غير ذلك مما صح به النقل و الإيمان بالقدر : هو التصديق بما تقدم ذكره و حاصله ما دل عليه قوله سبحانه { و الله خلقكم و ما تعملون } و قوله { إنا كل شيء خلقناه بقدر } و من ذلك قوله صلى الله عليه و سلم في حديث ابن عباس : [ و اعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك و لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام و جفت الصحف ]
و مذهب السلف و أئمة الخلف أن من صدق بهذه الأمور تصديقا جازما لا ريب فيه و لا تردد كان مؤمنا حقا سواء كان ذلك عن براهين قاطعة أو اعتقادات جازمة و الله أعلم
( فصل ) أجمع سبعون رجلا من التابعين و أئمة المسلمين و السلف و فقهاء الأمصار على أن السنة التي توف عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم أولها : الرضا بقضاء الله و قدره و التسليم لأمره و الصبر تحت حكمه و الأخذ بما أمر الله به و النهي عما نهى الله عنه و إخلاص العمل لله و الإيمان بالقدر خيره و شره و ترك المراء و الجدال و الخصومات في الدين و المسح على الخفين و الجهاد مع كل خليفة برا و فاجرا و الصلاة على من مات من أهل القبلة
و الإيمان : قول و عمل و نية يزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية و القرآن كلام الله نزل به جبريل على نبيه محمد صلى الله عليه و سلم غير مخلوق و الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منه من عدل أو جور و لا نخرج على الأمراء بالسيف و إن جاروا و لا نكفر أحدا من أهل القبلة و إن عمل الكبائر إلا إن استحلوها و لا نشهد لأحد من أهل القبلة لخير أتى به إلا من شهد له النبي صلى الله عليه و سلم : و الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين و نترحم على جميع أزواج النبي صلى الله عليه و سلم و أولاده و أصحابه رضي الله عنهم أجمعين
فائدة : فيها من كلام الناس ما هو كفر صرحت به العلماء منها : ما لو سخر باسم من أسماء الله أو بأمره أو وعده أو وعيده كفر و لو قال لو أمرني الله بكذا ما فعلت كفر و لو صارت القبلة في هذه الجهة ما صليت إليها كفر و لو قيل له : ألا تترك الصلاة فإن الله يؤاخذك فقال لو آخذني بها مع ما في من المرض و الشدة لظلمني كفر و لو قال : لو شهد عندي الأنبياء و الملائكة بكذا ما صدقت كفر و لو قيل له قلم أظافرك فإنها سنة فقال لا أفعل و إن كانت سنة كفر و لو قال فلان في عيني كاليهودي كفر و لو قال أن الله جلس للإنصاف أو قام للإنصاف كفر و جاء في وجه : من قال لمسلم لا ختم الله لك بخير أو سلبك الإيمان كفر و جاء أيضا أن من طلب يمين إنسان فأراد أن يحلف بالله فقال أريد أن تحلف بالطلاق كفر و اختلفوا في من قال رؤيتي لك كرؤية الموت فقال بعضهم يكفر و لو قال لو كان فلان نبيا ما آمنت به كفر و لو قال إن كان ما قاله صدقا نجونا كفر و لو صلى بغير وضوء استهزاء أو استحلالا كفر و لو تنازع رجلان فقال أحدهما لا حول و لا قوة إلا بالله فقال له الآخر لا حول و لا قوة إلا بالله لا تغني من جوع كفر و لو سمع أذان المؤذن فقال إنه يكذب كفر و لو قال : لا أخاف القيامة كفر و لو وضع متاعه فقال : سلمته إلى الله فقال له رجل سلمته إلى من لا يتبع السارق كفر و لو جلس رجل على مكان مرتفع تشبيها بالخطيب فسألوه المسائل و هم يضحكون أو قال أحدهم قصعة ثريد خير من العلم كفر و لو ابتلى بمصائب فقال : أخذت مالي و ولدي و ماذا تفعل كفر و لو ضرب ولده أو غلامه فقال له رجل ألست بمسلم ؟ فقال : لا ـ متعمدا ـ كفر و لو تمنى أن لا يحرم الله الزنا أو القتل أو الظلم كفر و لو شد على وسطه حبلا فسئل عنه فقال هذا زنار فالأكثرون على أنه يكفر و لو قال معلم الصبيان : اليهود خير من المسلمين لأنهم يعطون معلمي صبيانهم كفر و لو قال النصراني خير من المجوسي كفر و لو قيل لرجل ما الإيمان فقال لا أدري كفر و من ذلك ألفاظ مستكرهة مستنكرة و هي : لا دين لك لا إيمان لك لا يقين لك أنت فاجر أنت منافق أنت زنديق أنت فاسق و من ذا و أشباهه كله حرام و يخشى على العبد بها سلب الإيمان و الخلود في النار
فنسأل الله المنان بلطفه أن يتوفانا مسلمين على الكتاب و السنة إنه أرحم الراحمين
( موعظة ) عباد الله ! أين الذين كنزوا الكنوز و جمعوا و ثملوا من الشهوات و شبعوا و أملوا البقاء فما نالوا فيها ما طمعوا و فنيت أعمارهم بما غروا به و خدعوا ؟ نصب لهم شيطانهم أشراك الهوى فوقعوا و جاءهم ملك الموت فذلوا و خضعوا و أخرجهم من ديارهم فلا و الله ما رجعوا فهم مفترقون في القبور فإذا نفخ في الصور اجتمعوا
( و كيف قرت لأهل العلم أعينهم ... أو استلذوا لذيذ العيش أو هجموا )
( و الموت ينذرهم جهرا علانية ... لو كان للقوم أسماع لقد سمعوا )
( و النار ضاحية لابد موردهم ... و ليس يدرون من ينجو و من يقع )
( قد أمست الطير و الأنعام آمنة ... و النون في البحر لا يخشى لها فزع )
( و الآدمي بهذا الكسب مرتهن ... له رقيب على الأسرار يطلع )
( حتى يرى فيه يوم الجمع منفردا ... و خصمه الجلد و الأبصار و السمع )
( و إذ يقومون و الأشهاد قائمة ... و الجن و الأنس و الأملاك قد خشعوا )
( و طارت الصحف في الأيدي منتشرة ... فيها السرائر و الأخبار تطلع )
( فكيف بالناس و الأنباء واقفة ... عما قليل و ما تدري بما تقع )
( أفي الجنان و فوز لا انقطاع له ... أم في الجحيم فلا تبقي و لا تدع )
( تهوي بسكانها طورا و ترفعهم ... إذا رجوا مخرجا من غمها قمعوا )
( طال البكاء فلم ينفع تضرعهم ... هيهات لا رقية تغني و لا جزع )
الكبيرة الثانية و الأربعون : التسمع على الناس و ما يسرون قال الله تعالى : { و لا تجسسوا } قال ابن الجوزي رحمه الله : قرأ أبو زيد و الحسن و الضحاك و ابن سيرين بالحاء قال أبو عبيدة : التجسس و التحسس واحد ـ و هو البحث ـ و منه الجاسوس و قال يحيى بن أبي كثير : التجسس بالجيم عن عورات الناس و بالحاء الاستماع لحديث القوم قال المفسرون : التجسس : البحث عن عيب المسلمين و عوراتهم فالمعنى : لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه ليطلع عليه إذا ستره الله و قيل لابن مسعود : هذا الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا قال : إنا نهينا عن التجسس فإن يظهر لنا شيء نأخذ به
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من استمع إلى حديث قوم و هم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة ] أخرجه البخاري و الآنك : الرصاص المذاب نعوذ بالله منه و نسأل الله التوفيق لما يحب و يرضى إنه جواد كريم
( موعظة ) عباد الله ! إن المنايا قد دقت و اقتربت فالنفوس رهينة قد جمعت و تعبت كأنكم بأكف الردى قد أخذت و سلبت رب شمس طالعة على القبر قد غربت يا فراخ الفنا ! فخاخ البلى قد نصبت عباد الله : كل المعاصي قد سطرت و كتبت و النفوس رهينة بما جنت و اكتسبت لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت يا من يغتر بالأماني و الآمال الكواذب و مبارز بالقبايح و ما يدري من يحارب يا حاضر البدن غير أن القلب غائب أرضيت أن تفوتك الخيرات و الرغائب ؟ يا من عمره يفنى في ممره و يسري كالنجائب يا من شاب و ما تاب هذا من العجائب يا عجبا كيف نام المطلوب و ما غفل الطالب ؟ !
الكبيرة الثالثة و الأربعون : النمام و هو من ينقل الحديث بين الناس على جهة الإفساد بينهم هذا بيانها :
و أما أحكامها فهي حرام بإجماع المسلمين و قد تظاهرت على تحريمها الدلائل الشرعية من الكتاب و السنة قال الله تعالى :
{ و لا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم }
و في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يدخل الجنة نمام ] و في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بقبرين قال : [ إنهما ليعذبان و ما يعذبان في كبير أما أنه كبير أما أحدهما فكان لا يستبرىء من بوله و أما الآخر فكان يمشي بالنميمة ثم أخذ جريدة رطبه فشقها اثنتين و غرز في كل قبر واحدة و قال لعله أن يخف عنهما ما لم ييبسا ]
و قوله : و ما يعذبان في كبير أي ليس بكبير تركه عليهما أو ليس بكبير في زعمهما و لهذا قال في رواية أخرى : [ بلى إنه كبير ] و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه و هؤلاء بوجه و من كان ذا لسانين في الدنيا فإن الله يجعل له لسانين من نار يوم القيامة ] و معنى من كان ذا لسانين أي يتكلم مع هؤلاء بكلام و هؤلاء بكلام و هو بمعنى صاحب الوجهين قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله : إنما تطلق في الغالب على من ينم قول الغير إلى المقول فيه بقوله فلان يقول فيك كذا و ليست النميمة مخصوصة بذلك بل حدها كشف ما يكره كشفه سواء كره المنقول عنه أو المنقول إليه أو ثالث و سواء أكان الكشف بالقول أو الكتابة أو الرمز أو الإيماء أو نحوها و سواء كان من الأقوال أو الأعمال و سواء كان عيبا أو غيره فحقيقة النميمة إفشاء السر و هتك الستر عما يكره كشفه و ينبغي للإنسان أن يسكت عن كل ما رآه من أحوال الناس إلا ما في حكايته فائدة للمسلمين أو دفع معصية قال : و كل من حملت إليه نميمة و قيل له قال فيك فلان كذا و كذا لزمه ستة أحوال :
الأول : أن لا يصدقه لأنه نمام فاسق و هو مردود الخبر
الثاني : أن ينهاه عن ذلك و ينصحه و يقبح فعله
الثالث : أن يبغضه في الله عز و جل فإنه بغيض عند الله و البغض في الله واجب
الرابع : أن لا يظن في المنقول عنه السوء لقوله تعالى : { اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم }
الخامس : أن لا يحمله ما حكي له على التجسس و البحث عن تحقق ذلك قال الله سبحانه و تعالى : { و لا تجسسوا }
السادس : أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه فلا يحكي نميمته
و قد جاء أن رجلا ذكر لعمر بن عبد العزيز رجلا بشيء فقال عمر : يا هذا إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } و إن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية { هماز مشاء بنميم } و إن شئت عفونا عنك فقال : العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبدا
و رفع إنسان رقعة إلى الصاحب بن عباد رحمه الله يحثه فيها على أخذ مال اليتيم و كان له مال كثير فكتب على ظهر الرقعة : النميمة قبيحة و إن كانت صحيحة و الميت رحمه الله و اليتيم جبره الله و المال ثمره الله و الساعي لعنه الله
و قال الحسن البصري : من نقل إليك حديثا فاعلم أنه ينقل إلى غيرك حديثك و هذا مثل قول الناس : من نقل إليك نقل عنك فاحذره و قال ابن المبارك : ولد الزنا لا يكتم الحديث أشار به إلى أن كل من لا يكتم الحديث و مشى بالنميمة دل على أنه ولد الزنا استنباطا من قول الله تعالى : { عتل بعد ذلك زنيم } و الزنيم هو الدعي
و روي أن بعض السلف الصالحين زار أخا له و ذكر له عن بعض إخوانه شيئا يكرهه فقال له : يا أخي أطلت الغيبة و أتيتني بثلاث جنايات : بغضت إلي أخي و شغلت قلبي بسببه و اتهمت نفسك الأمينة و كان بعضهم يقول : من أخبرك بشتم عن أخيك فهو الشاتم لك و جاء رجل إلى علي بن الحسين رضي الله عنهما فقال : إن فلانا شتمك و قال عنك كذا و كذا فقال : اذهب بنا إليه فذهب معه و هو يرى أنه ينتصر لنفسه فلما وصل إليه قال : يا أخي إن كان ما قلت في حقا فغفر الله لي و إن كان ما قلت في باطلا فغفر الله لك و قيل في قول الله تعالى : { حمالة الحطب } يعني امرأة أبي لهب إنها كانت تنقل الحديث بالنميمة سمى النميمة حطبا لأنها سبب العداوة كما أن الحطب سبب لاشتعال النار و يقال عمل النمام أضر من عمل الشيطان لأن عمل الشيطان بالوسوسة و عمل النمام بالمواجهة
حكاية : روي أن غلاما يباع و هو ينادي عليه ليس به عيب إلا أنه نمام فقط فاستخف بالعيب و اشتراه فمكث عنده أياما ثم قال لزوجة سيده : إن سيدي يريد أن يتزوج عليك أو يتسرى و قال أنه لا يحبك فإن أردت أن يعطف عليك و يترك ما عزم عليه فإذا نام فخذي الموسى و احلقي شعرات من تحت لحيته و اتركي الشعرات و اتركي الشعرات معك فقالت في نفسها : نعم و اشتغل قلب المرأة و عزمت على ذلك إذا نام زوجها ثم جاء إلى زوجها و قال سيدي : إن سيدتي زوجتك قد اتخذت لها صديقا و محبا غيرك و مالت إليه و تريد أن تخلص منك و قد عزمت على ذبحك الليلة و إن لم تصدقني فتناوم لها الليلة و انظر كيف تجيء إليك و في يدها شيء تريد أن تذبحك به و صدقه سيده فلما كان الليل جاءت المرأة بالموسى لتحلق الشعرات من تحت لحيته و الرجل يتناوم لها فقال في نفسه : و الله صدق الغلام بما قال فلما وضعت المرأة الموسى و أهوت إلى حلقه قام و أخذ الموسى منها و ذبحها به فجاء أهلها فرأوها مقتولة فقتلوه فوقع القتال بين الفريقين بشؤم ذلك العبد المشئوم فلذلك سمى الله النمام فاسقا في قوله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين }
( موعظة ) يا من أسره الهوى فما يستطيع له فكاكا يا غافلا عن التلف و قد أدركه إدراكا يا مغرورا بسلامته و قد نصب له الموت أشراكا تفكر في ارتحالك و أنت على حالك فإن لم تبك فتباكى
( بكيت فما تبكي شباب صباك ... كفاك نذير الشيب فيك كفاك )
( ألم تر أن الشيب قد قام ناعيا ... مكان الشباب الغض ثم نعاك )
( ألم تر يوما مر إلا كأنه ... بإهلاكه للهالكين عناكا )
( ألا أيها الفاني و قد حان حينه ... أتطمع أن تبقى فلست هناكا )
( ستمضي و يبقى ما تراه كما ترى ... فينساك ما خلفته هو ذاكا )
( تموت كما مات الذين نسيتهم ... و تنسى و يهوى الحي بعد هواكا )
( كأنك قد أقصيت بعد تقرب ... إليك و إن باك عليك بكاكا )
( كأن الذي يحثو عليك من الثرى ... يريد بما يحثو عليك رضاكا )
( كأن خطوب الدهر لم تجر ساعة ... عليك إذا الخطب الجليل أتاكا )
( ترى الأرض كم فيها رهون دفينة ... غلقن فلم يقبل من فكاكا )
الكبيرة الرابعة و الأربعون : اللعان قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ سباب المسلم فسوق و قتاله كفر ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ لعن المؤمن كقتله ] أخرجه البخاري و في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يكون اللعانون شفعاء و لا شهداء يوم القيامة ] و قال عليه الصلاة و السلام : [ لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا ] و في الحديث : [ ليس المؤمن بطعان و لا بلعان و لا بالفاحش و لا بالبذيء ] و البذيء : هو الذي يتكلم بالفحش و رديء الكلام و عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يمينا و شمالا فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن إن كان أهلا لذلك و إلا رجعت إلى قائلها ] و قد عاقب النبي صلى الله عليه و سلم من لعنت ناقتها بأن سلبها إياها قال عمران بن حصين : [ بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره و امرأة من الأنصار على ناقة فضجت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : خذوا ما عليها و دعوها فإنها ملعونة ] قال عمران فكأني أنظر إليها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد أخرجه مسلم و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه المسلم ] و عن عمرو بن قيس قال إذا ركب الرجل دابته قالت : اللهم اجعله بي رفيقا رحيما فإذا لعنها قالت : على أعصانا لله و رسوله لعنة الله عز و جل
( فصل ) في جواز لعن أصحاب المعاصي غير المعنيين المعروفين قال الله تعالى : { ألا لعنة الله على الظالمين } و قال : { ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } و ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لعن الله آكل الربا و موكله و شاهده و كاتبه ] و إنه قال : [ لعن الله المحلل و المحلل له ] و أنه قال : [ لعن الله الواصلة و المستوصلة و الواشمة و المستوشمة و النامصة و المتنمصة ] فالواصلة : هي التي تصل شعرها و المستوصلة : هي التي يوصل لها و النامصة : هي التي تنتف الشعر من الحاجبين و المتنمصة : التي يفعل بها ذلك و أنه صلى الله عليه و سلم لعن الصالقة و الحالقة و الشاقة فالصالقة : هي التي ترفع صوتها عند المصيبة و الحالقة : هي التي تحلق شعرها عند المصيبة و الشاقة : هي التي تشق ثيابها عند المصيبة و أنه صلى الله عليه و سلم لعن المصورين و أنه لعن من غير منار الأرض أي حدودها و أنه قال : [ لعن الله من لعن والديه و لعن من سب أمه ] و في السنن أنه قال : [ لعن الله من أضل أعمى عن الطريق و لعن الله من أتى بهيمة و لعن الله من عمل عمل قوم لوط ] و أنه لعن من أتى كاهنا أو أتى امرأة في دبرها و لعن النائحة و من حولها و لعن من أم قوما و هم له كارهون و لعن الله امرأة باتت و زوجها عليها ساخط و لعن رجلا سمع : حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب و لعن من ذبح لغير الله و لعن السارق و لعن من سب الصحابة و لعن المخنثين من الرجال و المترجلات من النساء و لعن المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال و لعن المرأة تلبس لبسة الرجل و الرجل يلبس لبسة المرأة و لعن من سل سخيمته على الطريق يعني تغوط على طريق الناس و لعن السلتاء و المرأة السلتاء : التي لا تخضب يديها و المرأة التي لا تكتحل ولعن من خبب امرأة على زوجها أو مملوكا على سيده ـ يعني أفسدها أو أفسده ـ و لعن من أتى حائضا أو امرأة في دبرها و لعن من أشار إلى أخيه بحديدة و لعن مانع الصدقة يعني الزكاة و لعن من انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه و لعن من كوى دابة في وجهها و لعن الشافع و المشفع في حدود الله إذا بلغ الحاكم و لعن المرأة إذا خرجت من دارها بغير إذن زوجها و لعنها إذا باتت هاجرة فراش زوجها حتى ترجع و لعن تارك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إذا أمكنه و لعن الفاعل و المفعول به ـ يعني اللواط ـ و لعن الخمرة و شاربها و ساقيها و مستقيها و بائعها و مبتاعها و عاصرها و معتصرها و حاملها و المحمولة إليه و آكل ثمنها و الدال عليها و قال صلى الله عليه و سلم : [ ستة لعنتهم لعنهم الله و كل نبي مجاب الدعوة : المكذب بقدر الله و الزائد في كتاب الله و المتسلط بالجبروت ليعز من أذل الله و يذل من أعزه الله و المستحل لحرم الله و المستحل من عترتي ما حرم الله و التارك لسنتي و لعن الزاني بامرأة جاره و لعن ناكح يده و لعن ناكح الأم و ابنتها و لعن الراشي و المرتشي في الحكم و الرائش يعني الساعي بينهما و لعن من كتم العلم و لعن المحتكر و لعن من أخفر مسلما يعني خذله و لم ينصره و لعن الوالي إذا لم يكن فيه رحمة و لعن المتبتلين من الرجال الذين يقولون لا نتزوج و المتبتلات من النساء و لعن راكب الفلاة وحده و لعن من أتى بهيمة نعوذ بالله من لعنته و لعنة رسوله ]
( فصل ) إعلم أن لعنة المسلم المصون حرام بإجماع المسلمين و يجوز لعن أصحاب الأوصاف المذمومة كقولك : لعن الله الظالمين لعن الله الكافرين لعن الله اليهود و النصارى لعن الله الفاسقين لعن الله المصورين و نحو ذلك كما تقدم و أما لعن إنسان بعينه ممن اتصف بشيء من المعاصي كيهودي أو نصراني أو ظالم أو زان أو سارق أو آكل ربا فظواهر الأحاديث إنه ليس بحرام و أشار الغزالي رحمه الله إلى تحريمه إلا في حق من علمنا أنه مات على الكفر كأبي لهب و أبي جهل و فرعون و هامان و أشباههم قال : لأن اللعن هو الإبعاد عن رحمة الله و ما ندري ما يختم به لهذا الفاسق و الكافر قال : و أما الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بأعيانهم كما قال : [ اللهم العن رعلا و ذكوان و عصية عصوا الله و رسوله ] و هذه ثلاث قبائل من العرب فيجوز أنه صلى الله عليه و سلم علم موتهم على الكفر قال و يقرب من اللعن الدعاء على الإنسان بالشر حتى الدعاء على الظالم كقول الإنسان لا أصح الله جسمه و لا سلمه الله و ما جرى مجراه و كل ذلك مذموم و كذلك لعن جميع الحيوانات و الجمادات فهذا كله مذموم قال بعض العلماء : من لعن من لا يستحق اللعن فليبادر بقوله إلا أن يكون لا يستحق
( فصل ) و يجوز للآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر و كل مؤدب أن يقول لمن يخاطبه في ذلك : ويلك أو يا ضعيف الحال أو يا قليل النظر لنفسه أو يا ظالم نفسه أو ما أشبه ذلك بحيث لا يتجاوز إلى الكذب و لا يكون فيه لفظ قذف صريح أو كناية أو تعريض و لو كان صادقا في ذلك و إنما يجوز ما قدمناه و يكون الغرض من ذلك التأديب و الزجر و يكون الكلام أوقع في النفس و الله أعلم
اللهم نزه قلوبنا عن التعليق بمن دونك و اجعلنا من قوم تحبهم و يحبونك و اغفر لنا و لوالدينا و لجميع المسلمين
( موعظة ) يا قليل الزاد و الطريق بعيد يا مقبلا على ما يضر تاركا لما يفيد أتراك يخفى عليك الأمر الرشيد إلى متى تضيع الزمان و هو يحصي برقيب و عتيد :
( مضى أمسك الماضي شهيدا معدلا ... و أعقبه يوم عليك شهيد )
( فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة ... فبادر بإحسان و أنت حميد )
( و لا تبق فضل الصالحات إلى غد ... فرب غد يأتي و أنت فقيد )
( إذا ما المنايا أخطأتك و صادفت ... حميمك فاعلم أنها ستعود )
الكبيرة الخامسة و الأربعون : الغدر و عدم الوفاء بالعهد قال الله تعالى : { و أوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا }
قال الزجاج : كل ما أمر الله به أو نهى عنه فهو من العهد و قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود }
قال الواحدي : قال ابن عباس في رواية الوالبي ( العهود ) يعني ما أحل و ما حرم و ما فرض و ما حد في القرآن و قال الضحاك بالعهود التي أخذ الله على هذه الأمة أن يفوا بها مما أحل و حرم و ما فرض من الصلاة و سائر الفرائض و العهود و كذا العهود جمع عهد : العقد بمعنى المعقود و هو الذي أحكم ما فرض الله علينا فقد أحكم ذلك و لا سبيل إلى نقضه بحال و قال مقاتل بن حبان : { أوفوا بالعقود } التي عهد الله إليكم بالقرآن مما أمركم به من طاعته أن تعلموا بها و نهيه الذي نهاكم عنه و بالعهود الذي بينكم و بين المشركين و فيما يكون من العهد بين الناس و الله أعلم و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أربع من كن فيه كان منافقا خالصا و من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب و إذا ائتمن خان و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر ] مخرج في الصحيحين و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لكل غادر لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان ابن فلان ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يقول الله عز و جل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر و رجل باع حرا فأكل ثمنه و رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل و لم يعطه أجره ] أخرجه البخاري و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة و لا حجة له و من مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ] أخرجه مسلم و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أحب أن يزحزح عن النار و يدخل الجنة فلتأته منيته و هو يأمن بالله و اليوم الآخر و ليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه و من بايع إماما فأعطاه صفقة يده و ثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر ]
الكبيرة السادسة و الأربعون : تصديق الكاهن و المنجم قال الله تعالى : { و لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }
قال الواحدي في تفسير قوله تعالى : { و لا تقف ما ليس لك به علم } قال الكلبي : لا تقل ما ليس لك به علم و قال قتادة : لا تقل سمعت و لم تسمع و رأيت و لم تر و علمت و لم تعلم و المعنى : لا تقولن في شيء بما لا تعلم { إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } قال الوالبي عن ابن عباس : يسأل الله العباد فيم استعملوها و في هذا زجر عن النظر إلى ما لا يحل و الاستماع إلى ما يحرم و إرادة ما لا يجوز و الله أعلم و قال الله تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول } قال ابن الجوزي : عالم الغيب هو الله عز و جل وحده لا شريك له في ملكه فلا يظهر : أي فلا يطلع على غيبه الذي لا يعلمه أحد من الناس إلا من ارتضى من رسول لأن الدليل على صدق الرسل إخبارهم بالغيب و المعنى أن من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من الغيب ففي هذا دليل على أن من زعم أن النجوم تدل على الغيب فهو كافر و الله أعلم
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم و روينا في الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الصبح في أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس بوجهه فقال : [ هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم قال : أصبح من عبادي مؤمن و كافر فأما من قال : مطرنا بفضل الله و رحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب و أما من قال : مطرنا بنوء كذا و كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب ]
قال العلماء : إن قال مسلم مطرنا بنوء كذا يريد أن النوء هو الموجد و الفاعل المحدث للمطر صار كافرا مرتدا بلا شك و إن قال مريدا أنه علامة نزول المطر و ينزل المطر عند هذه العلامة و نزوله بفعل الله خلقه لم يكفر و اختلفوا في كراهته و المختار أنه مكروه لأنه من ألفاظ الكفار و هذا ظاهر الحديث
و قوله : في أثر سماء ـ السماء هنا المطر و الله أعلم و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أتى عرافا فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوما ] رواه مسلم و عن عائشة رضي الله عنها قالت : سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم أناس عن الكهان فقال : [ ليس بشيء قالوا : يا رسول الله أليس قد قال كذا و كذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تلك الكلمة من الحق يحفظها الجني فيقرها في إذن وليه ـ أي يلقيها ـ فيخلط معها مائة كذبة ] مخرج في الصحيحين و [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان ـ و هو السحاب ـ فتذكر الأمر قضي في السماء فيسترق الشيطان السمع فيسمعه فيوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ] رواه البخاري
و [ عن قبيصة بن أبي المخارق رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : العيافة و الطيرة و الطرق من الجبت ] رواه أبو داود و قال : الطرق : الزجر أي زجر الطير و هو من يتيامن أو يتشاءم بطيرانه فإن طار إلى جهة اليمين تيمن و إن طار إلى جهة اليسار تشاءم قال أبو داود : العيافة الخط قال الجوهري : الجبت كلمة يقع على النم و الكاهن و الساحر و نحو ذلك و [ عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ] و قال علي بن أبي طالب : الكاهن ساحر و الساحر كافر فنسأل الله العافية و العصمة في الدنيا و الآخرة
موعظة : عباد الله تفكروا في سلفكم قبل تلفكم و انظروا في أموركم قبل حلول قبوركم فتأهبوا للرحيل قبل فوت تحويلكم أين الأقرن الأخوان أين من شيد الإيوان رحلوا و الله عن الأوطان و مزقت في اللحود تلك الأكفان هتف نذيرهم بأهل العرفان ـ كل من عليها فان ـ تقلبت بهم الأحوال و لعب بهم في أيدي الليالي و شغلوا عن الأولاد و الأموال و نسيهم أحباؤهم بعد ليال عانقوا التراب و فارقوا الأموال فلو أذن لأحدهم في المقال لقال :
( من رآنا فليحدث نفسه ... إنه وقف على قرب زوال )
( و صروف الدهر لا يبقى لها ... و لما تأتي به صم الجبال )
( رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال )
( و الأباريق عليهم قدمت ... وعتاق الخيل تردى بالجلال )
( عمروا دهرا بعيش ناعم ... أبيض دهرهم غير محال )
( ثم أضحوا لعب الدهر بهم ... و كذلك الدهر يودي بالرجال )
الكبيرة السابعة و الأربعون ـ نشوز المرأة على زوجها قال الله تعالى : { و اللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن و اهجروهن في المضاجع و اضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا }
قال الواحدي رحمه الله تعالى : النشوز ههنا معصية الزوج و هو الترفع عليه بالخلاف و قال عطاء : هو أن تتعطر له و تمنعه نفسها و تتغير عما كانت تفعله من الطواعية { فعظوهن } بكتاب الله و ذكروهن ما أمرهن الله به { و اهجروهن في المضاجع } قال ابن عباس هو أن يوليها ظهره على الفراش و لا يكلمها و قال الشعبي و مجاهد : هو أن يهجر مضاجعتها فلا يضاجعها { و اضربوهن } ضربا غير مبرح و قال ابن عباس أدبا مثل اللكزة و للزوج أن يتلافى نشوز امرأته بما أذن الله له مما ذكره الله في هذه الآية { فإن أطعنكم } فيما يلتمس منهن { فلا تبغوا عليهن }
قال ابن عباس : فلا تتجنوا عليهن العلل و الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأت لعنتها الملائكة حتى تصبح ] و في لفظ ـ فبات و هو عليها غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح ـ و لفظ الصحيحين أيضا : [ إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها زوجها ]
و [ عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة و لا ترفع لهم إلى السماء حسنة : العبد الآبق حتى يرجع إلى مواليه فيضع يده في أيديهم المرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى عنها و السكران حتى يصحو ]
و [ عن الحسن قال حدثني من سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : أول ما تسأل عنه المرأة يوم القيامة عن صلاتها و عن بعلها ] و في الحديث : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يحل لامرأة تؤمن بالله و اليوم الآخر أن تصوم و زوجها شاهد إلا بإذنه و لا تأذن في بيته إلا بإذنه ] أخرجه البخاري و معنى شاهد أي حاضر غير غائب و ذلك في صوم التطوع فلا تصوم حتى تستأذنه لأجل وجوب حقه و طاعته و قال صلى الله عليه و سلم : [ لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ] رواه الترمذي و قالت [ عمة حصين بن محصن و ذكرت زوجها للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : انظري من أين أنت منه فإنه جنتك و نارك ] أخرجه النسائي و [ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها و هي لا تستغني عنه ] و جاء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا خرجت المرأة من بيت زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع أو تتوب ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أيما امرأة ماتت و زوجها عنها راض دخلت الجنة ]
فالواجب على المرأة أن تطلب رضا زوجها و تجتنب سخطه و لا تمتنع منه متى أرادها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلتأته و إن كانت على التنور ] قال العلماء : إلا أن يكون لها عذر من حيض أو نفاس فلا يحل لها أن تجيئه و لا يحل للرجل أيضا أن يطلب ذلك منها في حال الحيض و النفاس و لا يجامعها حتى تغتسل لقول الله تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض و لا تقربوهن حتى يطهرن } أي لا تقربوا جماعهن حتى يطهرن قال ابن قتيبة : يطهرن ينقطع عنهن الدم فإذا تطهرن أي اغتسلن بالماء و الله أعلم
و لما تقدم عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أتى حائضا أو امرأة من دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد ] و في حديث آخر : [ ملعون من أتى حائضا أو امرأة في دبرها ] و النفاس مثل الحيض إلى الأربعين فلا يحل للمرأة أن تطيع زوجها إذا أراد إتيانها في حال الحيض و النفاس و تطيعه فيما عدا ذلك و ينبغي للمرأة أن تعرف أنها كالمملوك للزوج فلا تتصرف في نفسها و لا في ماله إلا بإذنه و تقدم حقه على حقها و حقوق أقاربه على حقوق أقاربها و تكون مستعدة لتمتعه بها بجميع أسباب النظافة و لا تفتخر عليه بجمالها و لا تعيبه بقبح إن كان فيه قال الأصمعي : دخلت البادية فإذا امرأة حسناء لها بعل قبيح فقلت لها : كيف ترضين لنفسك أن تكوني تحت مثل هذا ؟ فقالت : اسمع يا هذا لعله أحسن فيما بينه و بين الله خالقه فجعلني ثوابه و لعلي أسأت فجعله عقوبتي
و قالت عائشة رضي الله عنها : يا معشر النساء لو تعلمن بحق أزواجكن عليكن لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بخد وجهها
و قال صلى الله عليه و سلم : [ نساؤكم من أهل الجنة الودود التي إذا آذت أو أوذيت أتت زوجها حتى تضع يدها في كفه فتقول : لا أذوق غمضا حتى ترضى ]
و يجب على المرأة أيضا دوام الحياء من زوجها و غض طرفها قدامه و الطاعة لأمره و السكوت عند كلامه و القيام عند قدومه و الابتعاد عن جميع ما يسخطه و القيام معه عند خروجه و عرض نفسها عليه عند نومه و ترك الخيانة له في غيبته في فراشه و ماله و بيته و طيب الرائحة و تعاهد الفم بالسواك و بالمسك و الطيب و دوام الزينة بحضرته و تركها الغيبة و إكرام أهله و أقاربه وترى القليل منه كثيرا
( فصل ) في فضل المرأة الطائعة لزوجها و شدة عذاب العاصية ينبغي للمرأة الخائفة من الله تعالى أن تجتهد لطاعة الله و طاعة زوجها و تطلب رضاه جهدها فهو جنتها و نارها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أيما امرأة ماتت و زوجها راض عنها دخلت الجنة ] و في الحديث أيضا : [ إذا صلت المرأة خمسها و صامت شهرها و أطاعت بعلها فلتدخل من أي أبواب الجنة شاءت ]
و روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يستغفر للمرأة المطيعة لزوجها الطير في الهواء و الحيتان في الماء و الملائكة في السماء و الشمس و القمر ما دامت في رضا زوجها و أيما امرأة عصت زوجها فعليها لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين و أيما امرأة كلحت في وجه زوجها فهي في سخط الله إلى أن تضاحكه و تسترضيه و أيما امرأة خرجت من دارها بغير إذن زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع ]
و جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أيضا قال : [ أربع من النساء في الجنة و أربع في النار فأما الأربع اللواتي في الجنة : فامرأة عفيفة طائعة لله و لزوجها ولود صابرة قانعة باليسير مع زوجها ذات حياء إن غاب عنها حفظت نفسها و ماله و إن حضر أمسكت لسانها عنه و الرابعة امرأة مات عنها زوجها و لها أولاد صغار فحبست نفسها على أولادها و ربتهم و أحسنت إليهم و لم تتزوج خشية أن يضيعوا و أما الأربع اللواتي في النار من النساء : فامرأة بذيئة اللسان على زوجها أي طويلة اللسان على زوجها أي طويلة اللسان فاحشة الكلام إن غاب عنها زوجها لم تصن نفسها و إن حضر آذته بلسانها و الثانية : امرأة تكلف زوجها ما لا يطيق و الثالثة : امرأة لا تستر نفسها من الرجال و تخرج من بيتها متبرجة و الرابعة : امرأة ليس لها هم إلا الأكل و الشرب و النوم و ليس لها رغبة في الصلاة و لا في طاعة الله و لا طاعة رسوله و لا طاعة زوجها فالمرأة إذا كانت بهذه الصفة و تخرج من بيتها بغير إذن زوجها كانت ملعونة من أهل النار إلا أن تتوب إلى الله ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ] و ذلك بسبب قلة طاعتهن لله و رسوله و لأزواجهن و كثرة تبرجهن و التبرج إذا أرادت الخروج لبست أفخر ثيابها و تجملت و تحسنت و خرجت تفتن الناس بنفسها فإن سلمت هي بنفسها لم يسلم الناس منها و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان ]
و أعظم ما تكون المرأة من الله ما كانت في بيتها و في الحديث أيضا المرأة عورة فاحبسوها في البيوت فإن المرأة إذا خرجت إلى الطريق قال لها أهلها : أين تريدين ؟ قالت : أعود مريضا أشيع جنازة فلا يزال بها الشيطان حتى تخرج عن دارها و ما التمست المرأة رضا الله بمثل أن تقعد في بيتها و تعبد ربها و تطيع بعلها و قال علي رضي الله عنه لزوجته فاطمة رضي الله عنها : يا فاطمة ما خير للمرأة ؟ قالت : أن لا ترى الرجال و لا يروها و كان علي رضي الله عنه يقول : ألا تستحون ألا تغارون ؟ يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال تنظر إليهم و ينظرون إليها ! [ و كانت عائشة و حفصة رضي الله عنهما يوما عند النبي صلى الله عليه و سلم جالستين فدخل ابن أم مكتوم و كان أعمى فقال النبي صلى الله عليه و سلم احتجبا منه فقالتا : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا و لا يعرفنا ؟ فقال صلى الله عليه و سلم : أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه ] ؟
فكما أنه ينبغي للرجل أن يغض من طرفه عن النساء فكذلك ينبغي للمرأة أن تغض طرفها عن الرجال كما تقدم من قول فاطمة رضي الله عنها : إن خير ما للمرأة أن لا ترى الرجال و لا يروها فإن اضطرت للخروج لزيارة والديها و أقاربها و لأجل حمام و نحوه مما لا بد لها منه فلتخرج بإذن زوجها غير متبرجة في ملحفة و سخة في ثياب بيتها و تغض طرفها في مشيتها و تنظر إلى الأرض لا يمينا و لا شمالا فإن لم تفعل ذلك و إلا كانت عاصية و قد حكي أن امرأة كانت من المتبرجات في الدنيا و كانت تخرج من بيتها متبرجة فماتت فرآها بعض أهلها في المنام و قد عرضت على الله عز و جل في ثياب رقاق فهبت ريح فكشفتها فأعرض الله عنها و قال : خذوا بها ذات الشمال إلى النار فإنها كانت من المتبرجات في الدنيا
و قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : [ دخلت على النبي صلى الله عليه و سلم أنا و فاطمة رضي الله عنها و وجدناه يبكي بكاء شديدا فقلت له : فداك أبي و أمي يا رسول الله ما الذي أبكاك ؟ قال : يا علي ليلة أسري بي إلى السماء رأيت نساء من أمتي يعذبن بأنواع العذاب فبكيت لما رأيت من شدة عذابهن و رأيت امرأة معلقة بشعرها يغلي دماغها و رأيت امرأة معلقة بلسانها و الحميم يصب في حلقها و رأيت امرأة قد شدت رجلاها إلى ثدييها و يداها إلى ناصيتها و رأيت امرأة معلقة بثدييها و رأيت امرأة رأسها رأس خنزير و بدنها بدن حمار عليها ألف ألف لون من العذاب و رأيت امرأة على صورة الكلب و النار تدخل من فيها و تخرج من دبرها و الملائكة يضربون رأسها بمقامع من نار
فقامت فاطمة رضي الله عنها و قالت : حبيبي و قرة عيني ما كان أعمال هؤلاء حتى وضع عليهن العذاب ؟ فقال صلى الله عليه و سلم : يا بنية أما المعلقة بشعرها فإنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال و أما التي كانت معلقة بلسانها فإنها كانت تؤذي زوجها و أما المعلقة بثدييها فإنها كانت تفسد فراش زوجها و أما التي تشد رجلاها إلى ثدييها و يداها إلى ناصيتها و قد سلط عليها الحيات و العقارب فإنها كانت لا تنظف بدنها من الجنابة و الحيض و تستهزىء بالصلاة و أما التي رأسها رأس خنزير و بدنها بدن حمار فإنها كانت نمامة كذابة و أما التي على صورة الكلب و النار تدخل من فيها و تخرج من دبرها فإنها كانت منانة حسادة ]
و [ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تؤذي المرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله و يا بنية الويل لامرأة تعصي زوجها ]
( فصل ) : و إذا كانت المرأة مأمورة بطاعة زوجها و بطلب رضاه فالزوج أيضا مأمور بالإحسان إليها و اللطف بها و الصبر على ما يبدو منها من سوء خلق و غيره و إيصالها حقها من النفقة و الكسوة و العشرة الجميلة لقول الله تعالى : { و عاشروهن بالمعروف } و لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ استوصوا بالنساء ألا إن لكم على نسائكم حقا و لنسائكم عليكم حقا فحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن و طعامهن و حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون و لا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ] و قوله صلى الله عليه و سلم : [ عوان ] أي أسيرات جمع عانية و هي الأسيرة شبه رسول الله صلى الله عليه و سلم المرأة في دخولها تحت حكم الرجل بالأسير
و قال صلى الله عليه و سلم : [ خيركم خيركم لأهله ] و في رواية [ خيركم ألطفكم بأهله ] و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم شديد اللطف بالنساء و قال صلى الله عليه و سلم : [ أيما رجل صبر على سوء خلق امرأته أعطاه الله الأجر مثل ما أعطى أيوب عليه السلام على بلائه و أيما امرأة صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها الله من الأجر مثل ما أعطى آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ]
و قد روي أن رجلا جاء إلى عمر رضي الله عنه يشكو خلق زوجته فوقف على باب عمر ينتظر خروجه فسمع امرأة عمر تستطيل عليه بلسانها و تخاصمه و عمر ساكت لا يرد عليها فانصرف الرجل راجعا و قال : إن كان هذا حال عمر مع شدته و صلابته ـ و هو أمير المؤمنين ـ فكيف حالي ؟ فخرج عمر فرآه موليا عن بابه فناداه و قال : ما حاجتك يا رجل ؟ فقال يا أمير المؤمنين جئت أشكو إليك سوء خلق امرأتي و استطالتها علي فسمعت زوجتك كذلك فرجعت و قلت : إذا كان حال أمير المؤمنين مع زوجته فكيف حالي ؟ فقال عمر : يا أخي إني احتملتها لحقوق لها علي : إنها طباخة لطعامي خبازة لخبزي غسالة لثيابي مرضعة لولدي و ليس ذلك كله بواجب عليها و يسكن قلبي بها عن الحرام فأنا احتملتها لذلك فقال الرجل : يا أمير المؤمنين و كذلك زوجتي قال عمر : فاحتملها يا أخي فإنما هي مدة يسيرة
و حكي أن بعض الصالحين كان له أخ في الله و كان من الصالحين يزوره في كل سنة مرة فجاء لزيارته فطرق الباب فقالت امرأته : من ؟ فقال : أخو زوجك في الله جئت لزيارته فقالت : راح يحتطب لا رده الله و لا سلمه و فعل به و فعل و جعلت تذمذم عليه فبينما هو واقف على الباب و إذا بأخيه قد أقبل من نحو الجبل و قد حمل حزمة الحطب على ظهر أسد و هو يسوق بين يديه فجاء فسلم على أخيه و رحب به و دخل المنزل و أدخل الحطب و قال للأسد : اذهب بارك الله فيك ثم أدخل أخاه و المرأة على حالها تذمذم و تأخذ بلسانها و زوجها لا يرد عليها فأكل مع أخيه شيئا ثم ودعه و انصرف و هو متعجب من صبر أخيه على تلك المرأة قال : فلما كان العام الثاني جاء أخوه لزيارته على عادته فطرق الباب فقالت امرأته : من بالباب ؟ قال أخو زوجك فلان في الله فقالت مرحبا بك و أهلا و سهلا اجلس فإنه سيأتي إن شاء الله بخير و عافية قال : فتعجب من لطف كلامها و أدبها إذ جاء أخوه و هو يحمل الحطب على ظهره فتعجب أيضا لذلك فجاء فسلم عليه و دخل الدار و أدخله و أحضرت المرأة طعاما لهما و جعلت تدعو لهما بكلام لطيف فلما أراد أن يفارقه قال : يا أخي أخبرني عما أريد أن أسألك عنه قال : و ما هو يا أخي ؟ قال : عام أول أتيتك فسمعت كلام امرأة بذيئة اللسان قليلة الأدب تذم كثيرا و رأيتك قد أتيت من نحو الجبل و الحطب على ظهر الأسد و هو مسخر بين يديك و رأيت العام كلام المرأة لطيفا لا تذمذم و رأيتك قد أتيت بالحطب على ظهرك فما السبب ؟ قال يا أخي : توفيت تلك المرأة الشرسة و كنت صابرا على خلقها و ما يبدو منها كنت معها في تعب و أنا أحتملها فكان الله قد سخر لي الأسد الذي رأيت يحمل عني الحطب بصبري عليها و احتمالي لها فلما توفيت تزوجت هذه المرأة الصالحة و أنا في راحة معها فانقطع عني الأسد فاحتجت أن أحمل الحطب على ظهري لأجل راحتي مع هذه المرأة المباركة الطائعة فنسأل الله أن يرزقنا الصبر على ما يحب و يرضى إنه جواد كريم
الكبيرة الثامنة و الأربعون : التصوير في الثياب و الحيطان و الحجر و الدراهم و سائر الأشياء سواء كانت من شمع أو عجين أو حديد أو نحاس أو صوف أو غير ذلك و الأمر بإتلافها
قال الله تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا }
قال عكرمة : هم الذين يصنعون الصور و عن [ ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم : أحيوا ما خلقتم ] مخرج في الصحيحين و [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم من سفر و قد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم تلون وجهه و قال : يا عائشة : أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله عز و جل ] قالت عائشة رضي الله عنها : فقطعته فجعلت منه وسادتين مخرج في الصحيحين القرام بكسر القاف و هو الستر و السهوة كالصفة تكون بين يدي البيت و [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب في نار جهنم ] مخرج في الصحيحين و [ عنه رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة و ليس بنافخ فيها أبدا ] و عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يقول الله عز و جل : و من أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة أو ليخلقوا ذرة ] مخرج في الصحيحين
و قال صلى الله عليه و سلم : [ يخرج عنق من النار يوم القيامة فيقول : إني وكلت بثلاثة : بكل من دعا مع الله إلها آخر و بكل جبار عنيد و بالمصورين ]
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب و لا صورة ] مخرج في الصحيحين
و في سنن أبي داود [ عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب و لا صورة و لا جنب ] وقال الخطابي رحمه الله تعالى قوله صلى الله عليه و سلم : [ لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب و لا صورة و لا جنب ] يريد الملائكة الذين ينزلون بالرحمة و البركة دون الملائكة الذين هم الحفظة فإنهم لا يفارقون الجنب و غير الجنب و قد قيل : إنه لم يرد الجنب الذي أصابته الجنابة فأخر الإغتسال إلى أوان حضور الصلاة و لكنه الذي يجنب و لا يغتسل و يتهاون بالغسل و يتخذه عادة فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد و في هذا تأخير الإغتسال عن أول وقت وجوبه
و قالت عائشة رضي الله عنها : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينام و هو جنب و لا يمس ماء ]
و أما الكلب فهو أن يقتني كلبا لا لزرع و لا لضرع و لا صيد فأما إذا اضطر إليه فلا حرج للحاجة إليه في بعض الأمور أو لحراسة داره إذا اضطر إليه فلا حرج عليه إن شاء الله
و أما الصور فهي كل مصور من ذوات الأرواح سواء كانت لها أشخاص منتصبة أو كانت منقوشة في سقف أو جدار أو موضوعة في نمط أو منسوجة في ثوب أو مكان فإن قضية العموم تأتي عليه فليجتنب و بالله التوفيق
و يجب إتلاف الصور لمن قدر على إتلافها و إزالتها روى مسلم في صحيحه [ عن حيان بن حصين قال : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها و لا قبرا مشرفا إلا سويته ]
فنسأل الله التوفيق لما يحب و يرضى إنه جواد كريم
الكبيرة التاسعة و الأربعون : اللطم و النياحة و شق الثوب و حلق الرأس و نتفه و الدعاء بالويل و الثبور عند المصيبة
روينا في صحيح البخاري [ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس منا من لطم الخدود و شق الجيوب و دعا بدعوى الجاهلية ]
و روينا في صحيحهما [ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : بريء من الصالقة و الحالقة و الشاقة ] الصالقة : التي ترفع صوتها بالنياحة و الحالقة : التي تحلق شعرها و تنتفه عند المصيبة و الشاقة : التي تشق ثيابها عند المصيبة و كل هذا حرام باتفاق العلماء و كذلك يحرم نشر الشعر و لطم الخدود و خمش الوجه و الدعاء بالويل و الثبور
و عن [ أم عطية رضي الله عنها قالت : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم في البيعة أن لا ننوح ] رواه البخاري و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في الأنساب و النياحة على الميت ] رواه مسلم
و [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم النائحة و المستمعة ] رواه تعالى داود و [ عن أبي بردة قال : وجع أبو موسى الأشعري فغشي عليه و رأسه في حجر امرأة من أهله فأقبلت تصيح برنة فلم يستطع أن يرد عليها فلما أفاق قال : أنا بريء مما برىء منه رسول الله صلى الله عليه و سلم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بريء من الصالقة و الحالقة و الشاقة ]
و عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته تعدد عليه فتقول : و اكذا واكذا فقال حين أفاق : ما قلت شيئا إلا قيل لي أنت كذا أنت كذا أخرجه البخاري
و في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ الميت يعذب في قبره بما نيح عليه ] و عن أبي موسى رضي الله عنه قال : ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول : واسيداه واجبلاه واكذا واكذا و نحو ذلك إلا و كل به ملكان يلهزانه : أهكذا أنت ؟ أخرجه الترمذي
و قال صلى الله عليه و سلم : [ النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة و عليها سربال من قطران و درع من جرب ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة و لهو و لعب و مزامير شيطان و صوت عند مصيبة خمش في وجوه و شق في جيوب ورنة شيطان ] و قال الحسن : صوتان ملعونان مزمار عند نغمة و رنة عند مصيبة
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن هذه النوائح يجعلن صفين في النار فينبحن في أهل النار كما تنبح الكلاب ] و عن الأوزاعي : أن عمر بن الخطاب سمع صوت بكاء فدخل و معه غيره فمال عليهن ضربا حتى بلغ النائحة فضربها حتى سقط خمارها و قال : اضرب فإنها نائحة و لا حرمة لها إنها لا تبكي بشجوكم إنها تهريق دموعها لأخذ دراهمكم و إنها تؤذي موتاكم في قبورهم و أحياكم في دورهم لأنها تنهي عن الصبر و قد أمر الله به و تأمر بالجزع و قد نهى الله عنه
و اعلم أن النياحة : رفع صوت بالندب : تعديد النائحة بصوتها محاسن الميت و قيل : هو البكاء عليه مع ذكر محاسنه
قال العلماء : و يحرم رفع الصوت بإفراط بالبكاء و أما البكاء على الميت من غير ندب و لا نياحة فليس بحرام روينا في صحيح البخاري و مسلم [ عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عاد سعد بن عبادة و معه عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم فبكى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه و سلم بكوا فقال : ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين و لا بحزن القلب و لكن يعذب بهذا أو يرحم ] و أشار إلى لسانه و روينا في صحيحهما [ عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال سعد : ما هذا يا رسول الله ؟ قال : هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده و إنما يرحم الله من عباده الرحماء ] و روينا في صحيح البخاري [ عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل على ابنه إبراهيم و هو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه و سلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف : و أنت يا رسول الله ؟ قال : يا ابن عوف : إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى فقال : إن العين لتدمع و القلب يحزن و لا نقول إلا ما يرضي ربنا و إنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ]
و أما الأحاديث الصحيحة : أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه فليست على ظاهرها و إطلاقها بل هي مؤولة و اختلف العلماء في تأويلها على أقوال أظهرها و الله أعلم أنها محمولة على أن يكون له سبب في البكاء إما أن يكون قد أوصاهم به أو غير ذلك
قال أصحاب الشافعي : و يجوز قبل الموت و بعده و لكن قبله أولى للحديث الصحيح : [ فإذا وجبت فلا تبكين باكية ] و قد نص الشافعي و الأصحاب لأنه يكره البكاء بعد الموت كراهة تنزيه و لا يحرم و تأولوا حديث [ فلا تبكين باكية ] على الكراهة و الله أعلم
( فصل ) و إنما كان للنائحة هذا العذاب و اللعنة لأنها تأمر بالجزع و تنهى عن الصبر و الله و رسوله قد أمر بالصبر و الاحتساب و نهيا عن الجزع و السخط قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر و الصلاة إن الله مع الصابرين }
قال عطاء عن ابن عباس يقول : إني معكم أنصركم و لا أخذلكم قال الله تعالى : { و لنبلونكم } أي لنعاملنكم معاملة المبتلي لأن الله يعلم عاقبة الأمور فلا يحتاج إلى الابتلاء ليعلم العاقبة و لكنه يعاملهم معاملة من يبتلي فمن صبر أثابه على صبره و من لم يصبر لم يستحق الثواب و قول الله { بشيء من الخوف و الجوع } قال ابن عباس : يعني خوف العدو و الجوع يعني المجاعة و القحط { و نقص من الأموال } يعني الخسران و النقصان في المال و هلاك المواشي { و الأنفس } بالموت و القتل و المرض و الشيب { و الثمرات } يعني الحوائج و أن لا تخرج الثمرة كما كانت تخرج ثم ختم الآية بتبشير الصابرين ليدل على أن من صبر على هذه المصائب كان على وعد الثواب من الله تعالى فقال تعالى : { و بشر الصابرين } ثم نعتهم فقال : { الذين إذا أصابتهم مصيبة } أي نالتهم نكبة مما ذكر و لا يقال فيما أصيب بخير مصيبة { قالوا إنا لله } عبيد الله فيصنع بنا ما يشاء { و إنا إليه راجعون } بالهلاك و بالفناء و معنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى انفراده بالحكم إذ قد ملك في الدنيا قوما الحكم فإذا زال حكم العباد رجع الأمر إلى الله عز و جل
و [ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما من مصيبة يصاب بها المؤمن إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها ] رواه مسلم و [ عن علقمة بن مرثد بن سابط عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا مات ولد العبد يقول الله للملائكة قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : حمدك و استرجع فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة و سموه بيت الحمد [ و عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يقول الله تعالى ما لعبدي عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسب إلا الجنة ] رواه البخاري
و قال عليه الصلاة و السلام : [ من سعادة بني آدم رضاه بما قضى الله و من شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله تعالى ] و عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : إذا قبض ملك الموت عليه السلام روح المؤمن قام على الباب و لأهل البيت ضجة فمنهم الصاكة وجهها و منهم الناشرة شعرها و منهم الداعية بويلها فيقول ملك الموت عليه السلام : مم هذا الجزع و مم هذا الفزع ؟ فوالله ما انتقصت لأحد منكم عمرا و لا ذهبت لأحد منكم برزق و لا ظلمت لأحد منكم شيئا فإن كانت شكايتكم و سخطكم علي فإني و الله مأمور و إن كان على ميتكم فإنه مقهور و إن كان على ربكم فأنتم به كافرون و إن لي بكم عودة بعد عودة حتى لا أبقي منكم أحدا
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و الذي نفسي بيده لو يرون مكانه و يسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم و لبكوا على أنفسهم ]
( فصل في التعزية ) [ عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من عزى مصابا فله مثل أجره ] رواه الترمذي
و [ عن أبي بردة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة رضي الله عنها : من عزى ثكلى كسي بردا من الجنة ] رواه الترمذي
و [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة رضي الله عنها : ما أخرجك يا فاطمة من بيتك ؟ قالت : أتيت أهل هذا البيت فترحمت إليهم ميتهم و عزيتهم به ]
و [ عن عمرو حزم عن النبي صلى الله عليه و سلم : ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة ]
و اعلم رحمك الله أن التعزية هي التصبير و ذكر ما يسلي صاحب الميت و يخفف حزنه و يهون مصيبته و هي مستحبة لأنها مشتملة على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هي أيضا داخلة في قول الله تعالى : { و تعاونوا على البر و التقوى } و هذا من أحسن ما يستدل به في التعزية
و أعلم أن التعزية ـ هي الأمر بالصبر ـ مستحبة قبل الدفن و بعده قال أصحاب الشافعي : من حين يموت الميت و تبقى بعد الدفن إلى ثلاثة أيام قال أصحابنا و تكره التعزية بعد ثلاثة أيام لأن التعزية تسكن قلب المصاب و الغالب سكون قلبه بعد الثالثة فلا يجدد له الحزن هكذا قاله الجماهير من أصحابنا و قال أبو العباس من أصحابنا : لا بأس بالتعزية بعد ثلاثة أيام بل تبقى أبدا و إن طال الزمان قال النووي رحمه الله و المختار أنها لا تفعل بعد ثلاثة أيام إلا في صورتين استثناهما أصحابنا و هما إذا كان المعزى أو صاحب المصيبة غائبا حال الدفن و اتفق رجوعه بعد ثلاثة أيام و التعزية بعد الدفن أفضل منها قبله لأن أهل الميت مشغولون بتجهيزه و لأن وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر هذا إذا لم ير منهم جزعا فإن رآه قدم التعزية ليسكنهم و الله أعلم و يكره الجلوس للتعزية يعني أن يجتمع أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية و لفظ التعزية مشهور و أحسن ما يعزى به ما روينا في الصحيحين [ عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال : أرسلت إحدى بنات رسول الله صلى الله عليه و سلم للرسول تدعوه و تخبره أن ابنا لها في الموت فقال عليه الصلاة و السلام للرسول : ارجع إليها فأخبرها إن لله ما أخذ و له ما أعطى و كل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر و لتحتسب ] و ذكر تمام الحديث قال النووي رحمه الله : فهذا الحديث من أعظم قواعد الإسلام المشتملة على مهمات كثيرة من أصول الدين و فروعه و الأداب و الصبر على النوازل كلها و الهموم و الأسقام و غير من ذلك من الأغراض
و معنى قوله صلى الله عليه و سلم : [ إن لله ما أخذ ] أن العالم كله ملك لله لم يأخذ ما هو لكم بل هو أخذ ما هو له عندكم في معنى العارية و قوله : [ و له ما أعطي ] ما وهبه لكم ليس خارجا عن ملكه بل هو له سبحانه يفعل فيه ما يشاء [ و كل شيء عنده بأجل مسمى ] فلا تجزعوا فإن من قبضه فقد انقضى أجله المسمى فمحال تأخيره أو تقديمه عنه فإذا علمتم هذا كله فاصبروا و احتسبوا ما نزل بكم و الله أعلم
و [ عن معاوية بن أياس عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه فقد رجلا من أصحابه فسأل عنه فقالوا : يا رسول الله ابنه الذي رأيته هلك فلقيه النبي صلى الله عليه و سلم فسأله عن ابنه فأخبره أنه هلك فعزاه عليه ثم قال : يا فلان إيما كان أحب إليك أن تمتع به عمرك أو لا تأتي غدا بابا من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك ؟ فقال : يا نبي الله يسبقني إلى الجنة يفتحها لي و هو أحب إلي قال : فذلك لك فقيل : يا رسول الله هذا له خاصة أم للمسلمين عامة ؟ قال : بل للمسلمين عامة ] و [ عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه خرج إلى البقيع فأتى امرأة جاثية على قبر تبكي فقال لها : يا أمة الله اتقي الله و اصبري قالت : يا عبد الله إني أنا الحرى الثكلى قال : يا أمة الله اتقي الله و اصبري قالت : يا عبد الله لو كنت مصابا عذرتني قال : يا أمة الله اتقي الله و اصبري قالت : يا عبد الله قد أسمعتني فانصرف قال : فانصرف عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم و بصر بها رجل من المسلمين فأتاها فسألها ما قال لك الرجل ؟ فأخبرته بما قال و بما ردت عليه فقال لها أتعرفينه ؟ قالت : لا و الله قال : ويحك ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فبادرت تسعى حتى أدركته فقالت : يا رسول الله أصبر قال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى ] أي إنما يجمل الصبر عند مفاجأة المصيبة و أما فيما بعد فيقع السلو طبعا و في صحيح مسلم : مات ابن لأبي طلحة من أم سليم فقالت لأهله : لا تحدثوا أبا طلحة حتى أكون أنا أحدثه فجاء أبو طلحة فقربت إليه عشاء فأكل و شرب ثم تصنعت له أحسن ما كانت تتصنع قبل ذلك فوقع بها فلما رأت أنه قد شبع و أصاب منها قالت : يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم ؟ قال : لا قالت أم سليم : فاحتسب ابنك قال : فغضب أبو طلحة فقال : تركتني حتى إذا تلطخت أخبرتني بابني و الله لا تغلبيني على الصبر فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فاخبره بما كان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بارك الله لكما في ليلتكما ] فذكر الحديث و في الحديث : [ ما أعطي أحدا عطاء خيرا و أوسع من الصبر ] و قال علي رضي الله عنه للأشعث بن قيس : إنك إن صبرت إيمانا و احتسابا و إلا سلوت كما تسلو البهائم و كتب حكيم إلى رجل قد أصيب بمصيبة : إنك قد ذهب منك ما رزئت به فلا يذهبن عنك ما عرضت عنه و هو الأجر و قال آخر : العاقل يصنع أول يوم من أيام المصيبة ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام قلت : قد علم أن ممر الزمان يسلي المصاب فلذلك أمر الشارع بالصبر عند الصدمة الأولى و بلغ الشافعي رضي الله عنه أن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله مات له ابن فجزع عليه عبد الرحمن جزعا شديدا فبعث إليه الشافعي رحمه الله يقول : يا أخي عز نفسك بما تعزي به غيرك و استقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك و اعلم أن أمضى المصائب فقد سرور و حرمان أجر فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر ؟ فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه و قد نأى عنك ألهمك الله عند المصائب صبرا و احرز لنا و لك بالصبر أجرا و كتب إليه يقول :
( إني معزيك لا أني على ثقة ... من الحياة و لكن سنة الدين )
( فما المعزي بباق بعد ميته ... و لا المعزى و لو عاش إلى حين )
و كتب رجل إلى بعض إخوانه يعزيه بابنه : أما بعد فإن الولد على والده ما عاش حزن و فتنه فإذا قدمه فصلاة و رحمة فلا تحزن على ما فاتك من حزنه و فتنته و لا تضيع ما عوضك الله تعالى من صلاته و رحمته و قال موسى بن المهدي لإبراهيم بن سلمة و عزاه بابنه : أسرك و هو بلية و فتنة و أحزنك و هو صلاة و رحمة ؟
و عزى رجل رجلا فقال : إن من كان لك في الآخرة أجرا خير ممن كان في الدنيا سرورا و فرحا
و عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه دفن ابنا له ثم ضحك عند القبر فقيل له : أتضحك عند القبر ؟ فقال : أردت أن أرغم الشيطان و عن ابن جريج رحمه الله قال : من لم يتعرض مصيبته بالأجر و الإحتساب سلا كما تسلو البهائم و عن حميد الأعرج قال : رأيت سعيد بن جبير رحمه الله يقول في ابنه و نظر إليه : إني أعلم خير خلة فيك قيل و ما هي ؟ قال : بموت فاحتسبه
و عن الحسن البصري رحمه الله : إن رجلا حزن على ولد له و شكا ذلك إليه فقال الحسن كان ابنك يغيب عنك ؟ قال : نعم كان غيبته أكثر من حضوره قال : فاتركه غائبا فإنه لم يغب عنك غيبة إلا لك فيها أجر أعظم من هذه فقال : يا أبا سعيد هونت علي وجدي على ابني
و دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه فقال : يا بني كيف تجدك ؟ ؟ قال : أجدني في الحق قال : يا بني لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك قال : يا أبت لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب
و مات ابن الإمام الشافعي فأنشد يقول :
( و ما الدهر إلا هكذا فاصطبر له ... رزيه مال أو فراق حبيب )
و وقعت في رجل عروة الآكلة فقطعها من الساق و لم يمسكه أحد و هو شيخ كبير و لم يدع ورده تلك الليلة إلا إنه قال : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا و تمثل بهذه الأبيات :
( لعمري ما أهويت كفي لريبة ... و لا نقلتني نحو فاحشة رجلي )
( و لا قادني سمعي و لا بصري لها ... و لا دلني رأيي عليها و لا عقلي )
( و أعلم أني لم تصبني مصيبة ... من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي )
و قال رضي الله عنه : اللهم إن كنت ابتليت فقد عافيت و إن كنت أخذت فقد أبقيت أخذت عضوا و أبقيت أعضاء و أخذت إبنا و أبقيت أبناء
و قدم على الوليد في تلك الليلة رجل أعمى من بني عبس فسأله عن عينيه فقال : بت ليلة في بطن واد و لم أعلم في الأرض عبسيا ماله على مالي فطرقنا سيل فذهب ما كان لي من مال و أهل و ولد غير بعير و صبي و كان البعير صعبا فند ـ أي شرد ـ فاتبعته فما جاوزت الصبي إلا بيسير حتى سمعت صوته فرجعت فإذا رأس الصبي في بطنه فقتله ثم اتبعت البعير لأخذه فنفحني برجله فأصاب وجهي فحطمه و أذهب عيني فأصبحت لا أهل لي و لا مال و لا ولد و لا بعير فقال الوليد : انطلقوا به إلى عروة ليعلم أن في الأرض من هو أشد منه بلاء
و ذكر أن عثمان رضي الله عنه لما ضرب جعل يقول و الدماء تسيل على لحيته : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين اللهم إني أستعين بك عليهم و استعينك على جميع أموري و أسألك الصبر على ما ابتليتني
و قال المدائني : رأيت بالبادية امرأة لم أرى جلدا أنضر منها و لا أحسن وجها منها فقلت : تالله إن فعل هذا بك الاعتدال و السرور فقالت : كلا و الله إني لبدع أحزان و خلف هموم و سأخبرك : كان لي زوج و كان لي منه إبنان فذبح أبوهما شاة في يوم الأضحى و الصبيان يلعبان فقال الأكبر للأصغر : أتريد أن أريك كيف ذبح أبي الشاة قال : نعم فذبحه فلما نظر إلى الدم جزع ففزع نحو الجبل فأكله الذئب فخرج أبوه في طلبه فتاه أبوه فمات عطشا فأفردني الدهر فقلت لها و كيف أنت و الصبر ؟ فقالت : لو دام لي لدمت له و لكنه كان جرحا فاندمل
و [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من كان له فرطان من أمتي دخل الجنة يعني ولدين
قالت عائشة رضي الله عنها : بأبي أنت و أمي فمن كان له فرط ؟ قال صلى الله عليه و سلم : و من كان له فرط يا موفقة فمن لم يكن له فرط من أمتك ؟ قال أنا فرط أمتي لم يصابوا بمثلي ]
و [ عن عبيدة رضي الله عنه عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا من النار فقال أبو الدرداء : قدمت اثنين قال : و اثنين : قال أبي كعب سيد القراء قدمت واحدا قال صلى الله عليه و سلم : و واحدا و لكن ذلك في أول صدمة ] و عن وكيع قال : كان لإبراهيم الحربي ابن و كان له عشرة سنة قد حفظ القرآن و تفقه من الفقه و الحديث شيئا كثيرا فمات فجئت أعزيه قال لي : كنت أشتهي موت ابني هذا قلت يا أبا اسحاق أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا ؟ قد أنجب و حفظ القرآن و تفقه الفقه و الحديث قال : نعم رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت و كأن صبيانا في أيديهم قلال ماء يستقبلون الناس يسقونهم و كان اليوم يوم حار شديد حره قال فقلت لأحدهم : اسقني من هذا الماء قال : فنظر إلي و قال لي : ليس أنت أبي : فقلت و من أنتم ؟ نحن الصبيان الذين متنا في الإسلام و خلفنا آباءنا نستقبلهم فنسقيهم الماء قال : فلهذا تمنيت موته
و روى مسلم عن أبي حسان قال : قلت لأبي هريرة رضي الله عنه حدثنا بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا قال : نعم صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فيأخذ بثوبه أو قال بيده فلا ينتهي حتى يدخل الجنة
و عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال : كنت في أول أمري مكبا على اللهو و شرب الخمر فاشتريت جارية و تسريت بها و ولدت لي بنتا فأحببتها حبا شديدا إلى أن دبت و مشت فكنت إذا جلست لشرب الخمر جاءت و جذبتني عليه فأهرقته بين يدي فلما بلغت من العمر سنتين ماتت فاكمدني حزنها قال : فلما كان ليلة النصف من شعبان بت و أنا ثمل من الخمر فرأيت في النوم كأن القيامة قد قامت و خرجت من قبري و إذا بتنين قد تبعني يريد أكلي ـ و التنين الحية العظيمة ـ قال : فهربت منه فتبعني و صار كلما أسرعت يهرع خلفي و أنا خائف منه فمررت في طريقي على شيخ نقي الثياب ضعيف فقلت يا شيخ بالله أجرني من هذا التنين الذي يريد أكلي و إهلاكي فقال : يا ولدي أنا شيخ كبير و هذا أقوى مني و لا طاقة لي به و لكن مر و أسرع فلعل الله أن ينجيك منه قال : فأسرعت في الهرب و هو ورائي فأشرفت على طبقات النار و هي تفور فكدت أن أهوي فيها و إذا قائل يقول : لست من أهلي فرجعت هاربا و التنين في أثري فأشرفت على جبل مستنير و فيه طاقات و عليها أبواب و ستور و إذا بقائل يقول : أدركوا هذا البائس قبل أن يدركه عدوه فتحت الأبواب و رفعت الستور و أشرقت علي منها أطفال بوجوه كالأقمار و إذا ابنتي معهم فلما رأتني نزلت إلى كفة من نور و ضربت بيدها اليمنى إلى التنين فولى هاربا و جلست في حجري وقالت يا أبت : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق } فقلت : يا بنية و أنتم تعرفون القرآن ؟ قالت : نحن أعرف به منكم قلت : يا بنية ما تصنعون ههنا ؟ قالت : نحن من مات من أطفال المسلمين أسكنا ههنا إلى يوم القيامة ننتظركم تقدمون علينا فقلت : يا بنية ما هذا التنين الذي يطاردني و يريد إهلاكي ؟ قالت : يا أبت ذلك عملك السوء قويته فأراد إهلاكك فقلت : و من ذلك الشيخ الضعيف الذي رأيته ؟ قالت : ذلك عملك الصالح أضعفته حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء فتب إلى الله و لا تكن من الهالكين قال ثم ارتفعت عني و استيقظت فتبت إلى الله من ساعتي
فانظر رحمك الله إلى بركة الذرية إذا ماتوا صغارا ذكورا كانوا أو إناثا و إنما يحصل للوالدين النفع بهما في الآخرة إذا صبروا و احتسبوا و قالوا : الحمد لله إنا لله و إنا إليه راجعون فيحصل لهم ما وعد الله تعالى بقوله : { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله } أي نحن و أموالنا يصنع بنا ما يشاء { و إنا إليه راجعون } إقرار بالهلاك و الفناء
و [ عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أصاب عبدا مصيبة إلا بإحدى خلتين إما بذنب لم يكن الله ليغفر له إلا بتلك المصيبة أو بدرجة لم يكن الله يبلغه إياها إلا بتلك المصيبة ]
و قال سعيد بن جبير : لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم تعط الأنبياء قبلهم { إنا لله و إنا إليه راجعون } و لو أعطيته الأنبياء عليهم السلام لأعطيه يعقوب عليه السلام إذ يقول : يا أسفي على يوسف
و [ عن أم سلمة رضي الله عنهما قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من قال عند المصيبة { إنا لله و إنا إليه راجعون } اللهم أجرني في مصيبتي و اخلف لي خيرا منها إلا آجره الله و أخلف له خيرا منها قالت فلما توفي أبو سلمة قالت : من خير من أبي سلمة ؟ ثم قلتها فأخلفني الله رسول الله صلى الله عليه و سلم ] رواه مسلم
و عن الشعبي أن شريحا قال : إني لأصاب المصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات : أحمده إذا لم يكن أعظم منها و أحمده إذ رزقني الصبر عليها و أحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب و أحمده إذ لم يجعلها في ديني و قوله { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } الصلوات من الله الرحمة و المغفرة { و أولئك هم المهتدون } يريد الذين اهتدوا للترجيع و قيل إلى الجنة و الثواب
و عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : نعم العدلان و نعم العلاوة { أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة } نعم العدلان { و أولئك هم المهتدون } نعم العلاوة
و أما إذا سخط صاحب المصيبة و دعا بالويل و الثبور أو لطم خدا أو شق جيبا أو نشر شعرا أو حلقة أو قطعة أو نتفه فله السخط من الله تعالى و عليه اللعنة رجلا كان أو امرأة
و قد روي أيضا أن الضرب على الفخذ عند المصيبة يحبط الأجر و قد روي أن من أصابته مصيبة فخرق عليها ثوبا أو لطم خدا أو شق جيبا أو نتف شعرا فكأنما رمحا يريد أن يحارب ربه و قد تقدم أن الله عز و جل لا يعذب ببكاء العين و لا بحزن القلب و لكن يعذب بهذا ـ يعني ما يقول صاحب المصيبة بلسانه يعني من الندب و النياحة ـ و قد تقدم أن الميت يعذب في قبره بما نيح عليه إذا قالت النائحة : و اعضداه وا ناصراه و اكاسياه جبذ الميت و قيل له أنت عضدها ؟ أنت ناصرها ؟ أنت كاسها ؟ فالنواح حرام لأنه مهيج للحزن و دافع عن الصبر و فيه مخالفة التسليم للقضاء و الإذعان لأمر الله تعالى حكاية : قال صالح المري : كنت ذات ليلة جمعة بين المقابر فنمت وإذا بالقبور قد شققت و خرج الأموات منها و جلسوا حلقا حلقا و نزلت عليهم أطباق مغطية و إذا فيهم شاب يعذب بأنواع العذاب من بينهم قال : فتقدمت إليه و قلت يا شاب ما شأنك من بين هؤلاء القوم ؟ فقال : يا صالح بالله عليك بلغ ما آمرك به و أد الأمانة و ارحم غربتي لعل الله عز و جل أن يجعل لي على يديك مخرجا : إني لما مت و لي والدة جمعت النوادب و النوائح يندبن علي و ينحن كل يوم فأنا معذب بذلك النار عن يميني و عن شمالي و خلفي و أمامي لسوء مقال أمي فلا جزاها الله عني خيرا ثم بكي حتى بكيت لبكائه ثم قال : يا صالح بالله عليك اذهب إليها فهي في المكان الفلاني و علم لي المكان و قل لها لم تعذبي ولدك يا أماه ربيتني و من الأسواء وقيتني فلما مت في العذاب رميتني
يا أماه لو رأيتني : الأغلال في عنقي و القيد في قدمي و ملائكة العذاب تضربني و تنهرني فلو رأيت سوء حالي لرحمتني و إن لم تتركي ما أنت عليه من الندب و النياحة الله بيني و بينك يوم تشقق سماء عن سماء و يبرز الخلائق لفصل القضاء قال صالح : فاستيقظت فزعا و مكثت في مكاني قلقا إلى الفجر فلما أصبحت دخلت البلد و لم يكن لي هم إلا الدار التي لأم الصبي الشاب فاستدللت عليها فأتيتها فإذا بالباب مسود و صوت النوادب و النوائح خارج من الدار فطرقت الباب فخرجت إلي عجوز فقالت ما تريد يا هذا ؟ فقلت : أريد أم الشاب الذي مات فقالت : ما تصنع بها هي مشغولة بحزنها فقلت : أرسليها إلي معي رسالة من ولدها فدخلت فأخبرتها فخرجت أم و عليها ثياب سود و وجهها قد اسود من كثرة البكاء و اللطم فقالت لي : من أنت ؟ قلت : أنا صالح المري جرى لي البارحة في المقابر مع ولدك كذا و كذا رأيته في العذاب و هو يقول : يا أمي ربيتني و من الأسواء وقيتيني فلما مت في العذاب رميتيني و إن لم تتركي ما أنت عليه الله بيني و بينك يوم تشقق سماء عن سماء فلما سمعت ذلك غشي عليها و سقطت إلى الأرض فلما أفاقت بكت بكاء شديدا و قالت : يا ولدي يعز علي و لو علمت ذلك بحالك ما فعلت و أنا تائبة إلى الله تعالى من ذلك ثم دخلت و صرفت النوائح و لبست غير تلك الثياب و أخرجت إلي كيسا فيه دراهم كثيرة و قالت : يا صالح تصدق بهذه عن ولدي قال صالح : فودعتها و دعوت لها و انصرفت و تصدقت عن ولدها بتلك الدراهم فلما كان ليلة الجمعة الأخرى أتيت المقابر على عادتي فنمت فرأيت أهل القبور قد خرجوا من قبورهم و جلسوا على عادتهم و أتتهم الأطباق و إذ ذاك الشاب ضاحك فرح مسرور فجاءه أيضا طبق فأخذه فلما رآني جاء إلي فقال : يا صالح جزاك الله عني خيرا خفف الله عني العذاب و ذلك بترك أمي ما كانت تفعل و جاءني ما تصدقت به عني قال صالح : فقلت و ما هذه الأطباق ؟ فقال : هذه هدايا الأحياء لأمواتهم من الصدقة و القراءة و الدعاء ينزل عليهم كل ليلة جمعة يقال له هذه هدية فلان إليك فارجع إلى أمي و أقرئها مني السلام و قل لها جزاها الله عني خيرا قد وصل إلي ما تصدقت به عني و أنت عندي عن قريب فاستعدي
قال صالح : ثم استيقظت و أتيت بعد أيام إلى دار أم الشاب و إذا بنعش موضوع على الباب فقلت لمن هذا ؟ فقالوا : لأم الشاب فحضرت الصلاة عليها و دفنت إلى جانب ولدها بتلك المقبرة فدعوت لهما و انصرفت
فنسأل الله أن يتوفانا مسلمين و يلحقنا بالصالحين و يعصمنا من النار إنه جواد كريم رؤوف رحيم
الكبيرة الخمسون : البغي قال الله تعالى : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس و يبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم }
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد و لا يفخر أحد على أحد ] رواه مسلم
و في الأثر : لو بغى جبل على جبل لجعل الله الباغي منهما دكا
و قال صلى الله عليه و سلم : [ ما من ذنب أجدر أن يجعل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي و قطيعة الرحم ]
و قد خسف الله بقارون الأرض حين بغى على قومه فقد أخبر الله تعالى عنه بقوله : { إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم } إلى قوله : { فخسفنا به و بداره الأرض } الآية قال ابن الجوزي رحمه الله : في بغي قارون أقوال أحدها : أنه جعل للبغية جعلا على أن تقذف موسى عليه السلام بنفسها ففعلت فاستحلفها موسى على ما قالت فاخبرته بقصتها مع قارون و كان هذا بغية قاله ابن عباس
و الثاني : أنه بغى بالكفر بالله عز و جل قاله الضحاك
و الثالث : بالكفر قاله قتادة
و الرابع : أنه أطال ثيابه شبرا قاله عطاء الخرساني أنه كان يخدم فرعون فاعتدى على بني اسرائيل فظلمهم حكاه الماوردي
قوله { فخسفنا به و بداره الأرض } الآية لما أمر قارون البغية بقذف موسى على ما سبق شرحه غضب موسى فدعا عليه فأوحى الله إليه : إني قد أمرت الأرض أن تعطيك فمرها فقال موسى : يا أرض خذيه فأخذته حتى غيبت سريره فلما رأى قارون ذلك ناشد موسى بالرحم فقال : يا أرض خذيه فأخذته حتى غيبت قدميه فما زال يقول : يا أرض خذيه حتى غيبته فأوحى الله إليه : يا موسى و عزتي و جلالي لو استغاث بي لأغثته ! قال ابن عباس فخسفت به الأرض إلى الأرض السفلى قال سمرة بن جندب : إنه كل يوم يخسف به قامة قال مقاتل : فلما هلك قارون قال بنو اسرائيل إنما أهلكه موسى ليأخذ ماله و داره فخسف الله بداره و ماله بعد ثلاثة أيام
{ فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله } أي يمنعونه من الله { و ما كان من المنتصرين } أي من الممتنعين مما أنزل به و الله أعلم
اللهم إنك إذا قبلت سلمت و إذا أعرضت أسلمت و إذا وفقت أهمت و إذا خذلت إتهمت
اللهم اذهب ظلمة ذنوبنا بنور معرفتك و هداك و اجعلنا ممن أقبلت عليه فأعرض عمن سواك و اغفر لنا و لوالدينا و سائر المسلمين آمين
الكبيرة الحادية و الخمسون : الاستطالة على الضعيف و المملوك و الجارية و الزوجة و الدابة
لأن الله تعالى قد أمر بالإحسان إليهم بقوله تعالى :
{ و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا و بذي القربى و اليتامى والمساكين و الجار ذي القربى و الجار الجنب و الصاحب بالجنب و ابن السبيل و ما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا }
قال الواحدي : في قوله تعالى { و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا } : أخبرنا أحمد بن إبراهيم المهرجاني بإسناده [ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه و سلم على حمار فقال : يا معاذ لبيك و سعديك يا رسول الله قال : هل تدري ما حق الله على العباد و ما حق العباد على الله ؟ قلت : الله و رسوله أعلم قال : فإن حق الله على العباد أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا و حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا ]
و [ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم أعرابي فقال : يا نبي الله أوصني قال : لا تشرك بالله شيئا و إن قطعت و حرقت و لا تدع الصلاة لوقتها فإنها ذمة الله و لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر ]
قوله : { و بالوالدين إحسانا } يريد البر بهما مع اللطف و لين الجانب و لا يغلظ لهما الجواب و لا يحد النظر إليهما و لا يرفع صوته عليهما بل يكون بين أيديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللا لهما قوله : { و بذي القربى } قال يصلهم و يتعطف عليهم { و اليتامى } يرفق بهم و يدنيهم و يمسح رؤوسهم { و المساكين } ببذل يسير ورد جميل { و الجار ذي القربى } يعني الذي بينك و بينه قرابة فله حق القرابة و حق الجوار و حق الإسلام و { و الجار الجنب } هو الذي ليس بينك و بينه قرابة يقال رجل جنب إذا كان غريبا متباعدا أهله و قوم أجانب و الجنابة : البعد [ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ] و [ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الجار ليتعلق بالجار يوم القيامة يقول : يا رب أوسعت على أخي هذا و اقترب علي أمسي طاويا و يمسي هذا شبعان سله لم أغلق بابه و حرمني ما قد أوسعت به عليه ]
{ و الصاحب بالجنب } قال ابن عباس و مجاهد : هو الرفيق في السفر له حق الجوار و حق الصحبة { و ابن السبيل } : هو الضعيف يجب اقراؤه إلى أن يبلغ حيث يريد و قال ابن عباس : هو عابر السبيل تؤويه و تطعمه حتى يرحل عنك { و ما ملكت أيمانكم } : يريد المملوك يحسن رزقه و يعفو عنه فيما يخطىء قوله : { إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا } قال ابن عباس : يريد بالمختال العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق الله و الفخور هو الذي يفخر على عباد الله بما خوله الله من كرامته و ما أعطاه من نعمه [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : بينما رجل شاب ممن كان قبلكم يمشي في حلة مختالا فخورا إذ ابتلعته الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة ] و [ عن أسامة قال : سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من جر ثوبه خيلا لم ينظر الله إليه يوم القيامة ] هذا ما ذكره الواحدي
[ و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عند خروجه من الدنيا في آخر مرضه يوصي بالصلاة و بالإحسان إلى المملوك و يقول : الله الله الصلاة و ما ملكت أيمانكم ]
و في الحديث : [ حسن الملكة يمن و سوء الملكة شؤم ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا يدخل الجنة سيء الملكة ]
قال [ أبو مسعود رضي الله عنه : كنت أضرب مملوكا لي بالسوط فسمعت من صوتا من ورائي : اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام قال قلت يا رسول الله لا أضرب مملوكا لي بعده أبدا ] و في رواية سقط السوط من يدي من هيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم و في رواية : فقلت هو حر لوجه الله فقال : [ أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار يوم القيامة ] رواه مسلم و روى مسلم أيضا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من ضرب غلاما له حدا لم يأته أو لطمه فكفارته أن يعتقه ] و من حديث حكيم بن حزام قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا ]
و في الحديث من ضرب بسوط ظلما اقتص منه يوم القيامة و قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم كم نعفو عن الخادم ؟ قال : [ في اليوم سبعين مرة ] و كان في يد النبي صلى الله عليه و سلم يوما سواك فدعا خادما له فأبطأ عليه فقال : : [ لولا القصاص لضربتك بهذا السواك ] و كان لأبي هريرة رضي الله عنه جارية زنجية فرفع يوما عليها السوط فقال : لولا القصاص لأغشيتكيه و لكن سأبيعك لمن يوفيني ثمنك اذهبي فأنت حرة لوجه الله
و جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله إني قلت لأمتي يا زانية قال : [ و هل رأيت عليها ذلك ؟ قالت : لا أما أنها ستستقيد منك يوم القيامة فرجعت إلى جاريتها فأعطتها سوطا و قالت : اجلديني فأبت الجارية فأعتقتها ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته بعتقها فقال : ( عسى ) أي عسى أن يكفر عتقك لها ما قذفتها به ]
و في الصحيحين [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من قذف مملوكه و هو بريء مما قاله جلد يوم القيامة حدا إلا أن يكون كما قال ] و في الحديث [ للملوك طعامه و كسوته و لا يكلف ما لا يطيق ] و كان صلى الله عليه و سلم يوصيهم عند خروجه من الدنيا و يقول : [ الله الله في الصلاة و ما ملكت أيمانكم أطعموهم مما تأكلون و اكسوهم مما تكتسون و لا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون فإن كلفتموهم فأعينوهم و لا تعذبوا خلق الله فإنه ملككم إياهم و لو شاء لملكهم إياكم ]
و دخل جماعة على سلمان الفارسي رضي الله عنه و هو أمير على المدائن فوجدوه يعجن عجين أهله فقالوا له : ألا تترك الجارية تعجن ؟ فقال رضي الله عنه : إنا أرسلناها في عمل فكرهنا أن نجمع عليها عملا آخر و قال بعض السلف : لا تضرب الملوك في كل ذنب و لكن احفظ له ذلك فإذا عصى الله فاضربه على معصية الله و ذكره الذنوب التي بينك و بينه
( فصل ) و من أعظم الإساءة إلى الملوك و الجارية التفريق بينه و بين ولده أو بينه و بين أخيه لما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من فرق بين والدة و ولدها فرق الله بينه و بين أحبته يوم القيامة ] قال علي كرم الله وجهه : [ وهب لي رسول الله صلى الله عليه و سلم غلامين أخوين فبعث أحدهما فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : رده رده ] و من ذلك أن يجوع الملوك و الجارية و الدابة يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته ] و من ذلك أن يضرب الدابة ضربا وجيعا أو يحبسها و لا يقوم بكفايتها أو يحملها فوق طاقتها فقد روي في تفسير قول الله تعالى : { و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } الآية قيل : يؤتى بهم و الناس وقوف يوم القيامة فيقضي بينهم حتى أنه ليؤخذ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء حتى يقاد للذرة من الذرة ثم يقال لهم : كونوا ترابا فهنالك يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا و هذا من الدليل على القضاء بين البهائم و بينها و بين بني آدم حتى إن الإنسان لو ضرب دابة بغير حق أو جوعها أو عطشها أو كلفها فوق طاقتها فإنها تقتص منه يوم القيامة بقدر ما ظلمها أو جوعها و الدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عذبت امرأة في هرة ربطتها حتى ماتت جوعا لا هي أطعمتها و سقتها إذ حبستها و لا تركتها تأكل من خشاش الأرض ] أي من حشراتها
و في الصحيح [ أنه صلى الله عليه و سلم رأى امرأة معلقة في النار و الهرة تخدشها في وجهها و صدرها و هي تعذبها كما عذبتها في الدنيا بالحبس و الجوع و هذا عام في سائر الحيوان و كذلك إذا حملها فوق طاقتها تقتص منه يوم القيامة لما ثبت في الصحيحين ] أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت : إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث ] فهذه بقرة أنطقها الله في الدنيا تدافع عن نفسها بأنها لا تؤذى و لا تستعمل في غير ما خلقت له فمن كلفها غير طاقتها أو ضربها بغير حق فيوم القيامة تقتص منه بقدر ضربه و تعذيبه
قال أبو سليمان الداراني : ركبت مرة حمارا فضربته مرتين أو ثلاثا فرفع رأسه و نظر إلي و قال يا أبا سليمان هو القصاص يوم القيامة فإن شئت فأقلل و إن شئت فأكثر : قال : فقلت لا أضرب شيئا بعده أبدا
و مر ابن عمر بصبيان من قريش قد نصبوا طيرا و هم يرمونه و قد جعلوا لصاحبه كل خاطئة من نبلهم فلما رأوا ابن عمر تفرقوا فقال من فعل هذا ؟ [ لعن الله من فعل هذا إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن من اتخذ فيه الروح غرضا و الغرض كالهدف و ما يرمى إليه ] و نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أن تصبر البهائم يعني أن تحبس للقتل ] و إن كان مما أذن الشرع بقتله كالحية و العقرب و الفأرة و الكلب العقور قتله بأول دفعة و لا يعذبه لقوله عليه الصلاة و السلام [ إذا قتلتم فأحسنوا القتلة و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة و ليحد أحدكم شفرته و ليرح ذبيحته ]
و كذلك لا يحرقه بالنار لما ثبت في الحديث الصحيح [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا و فلانا بالنار و إن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما ]
قال ابن مسعود : [ كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفره فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت ترفرف فجاء النبي صلى الله عليه و سلم و قال : من فجع هذه بولدها ؟ ردوا عليها ولديها ] و رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم قرية نمل ـ أي مكان نمل ـ قد أحرقناها فقال : [ من حرق هذه ؟ قلنا : نحن فقال عليه الصلاة و السلام : إنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا ربها ] و فيه من النهي عن القتل و التعذيب بالنار حتى في القملة و البرغوث و غيرهما
فصل : و يكره قتل الحيوان عبثا لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله يوم القيامة و قال : يا رب سل هذا لم قتلني عبثا و لم يقتلني لمنفعة ؟ ]
و يكره صيد الطير أيام فراخه لما روي ذلك في الأثر و يكره ذبح الحيوان بين يدي أمه لما روي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله قال : ذبح رجل عجلا بين يدي أمه فأيبس الله يده
فصل : في فضل عتق المملوك [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو من أعضائه عضوا من أعضائه من النار حتى يعتق فرجه بفرجه ] أخرجه البخاري
و [ عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : أيما امرىء مسلم أعتق امرأ مسلما كان فكاكا له من النار يجزى كل عضو منه عضوا منه و أيما امرىء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزي كل عضوين منهما عضوا منه و أيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة إلا كانت فكاكها من النار يجزى كل عضو منها ] رواه الترمذي و صححه
اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين و عبادك الصالحين
الكبيرة الثانية و الخمسون : أذى الجار ثبت في الصحيحين [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و الله لا يؤمن و الله لا يؤمن قيل من يا رسول الله ؟ قال من لا يأمن جاره بوائقه ] أي غوائله و شروره و في رواية : [ لا يدخل الجنة من لا يؤمن جاره بوائقه ] و سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أعظم الذنب عند الله فذكر ثلاث خلال : [ أن تجعل لله ندا و هو خلقك و أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك و أن تزني بحليلة جارك ] و في الحديث : [ من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره ] و الجيران ثلاثة : جار مسلم قريب له حق الجوار و حق الإسلام و حق القرابة و جار مسلم له حق الجوار و حق الإسلام و الجار الكافر له حق الجوار و كان ابن عمر رضي الله عنهما له جار يهودي فكان إذا ذبح الشاة يقول : احملوا إلى جارنا اليهودي منها و روي أن الجار الفقير يتعلق بالجار الغني يوم القيامة و يقول : يا رب سل هذا لم منعني معروفه و أغلق عني بابه
و ينبغي للجار أن يحمل أذى الجار فهو من جملة الإحسان إليه [ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا قمت به دخلت الجنة فقال : كن محسنا فقال : يا رسول الله كيف أعلم أني محسن ؟ قال : سل جيرانك فإن قالوا أنك محسن فأنت محسن و إن قالوا أنك مسيء فأنت مسيء ] ذكره البيهقي من رواية أبي هريرة و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أغلق بابه عن جاره مخافة على أهله و ماله فليس بمؤمن و ليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه ]
و قيل : لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر من أن يزني بامرأة جاره و لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره و في سنن أبي داود [ من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يشكوه جاره فقال له اذهب فاصبر فأتاه مرتين أو ثلاثا ثم قال اذهب فاطرح متاعك على الطريق ففعل فجعل الناس يمرون به و يسألونه عن حاله فيخبرهم خبره مع جاره فجعلوا يلعنون جاره و يقولون : فعل الله به و فعل و يدعون عليه فجاء إليه جاره و قال : يا أخي ارجع إلى منزلك فإنك لن ترى ما تكره أبدا ]
و أن يحتمل أذى جاره و إن كان ذميا فقد روي عن سهل بن عبد الله التستري رحمه الله أنه كان له جار ذمي و كان قد انبثق من كنيفه إلى بيت في دار سهل بثق فكان سهل يضع كل يوم الجفنة تحت ذلك البثق فيجتمع ما يسقط فيه من كنيف المجوسي و يطرحه بالليل حيث لا يراه أحد فمكث رحمه الله على هذه الحال زمانا طويلا إلى أن حضرت سهلا الوفاة فاستدعى جاره المجوسي و قال له : ادخل ذلك البيت و انظر ما فيه فدخل فرأى ذلك البثق و القذر يسقط منه في الجفنة فقال ما هذا الذي أرى ؟ قال سهل : هذا منذ زمان طويل يسقط من دارك إلى هذا البيت و أنا أتلقاه بالنهار و ألقيه بالليل و لولا أنه حضرني أجلي و أنا أخاف أن لا تتسع أخلاق غيري لذلك و إلا لم أخبرك فافعل ما ترى فقال المجوسي : أيها الشيخ أنت تعاملني بهذه المعاملة منذ زمان طويل و أنا مقيم على كفري ؟ مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله ثم مات سهل رحمه الله
فنسأل الله أن يهدينا و إياكم لأحسن الأخلاق و الأعمال و الأقوال و أن يحسن عاقبتنا إنه جواد كريم رؤوف رحيم
الكبيرة الثالثة و الخمسون : أذى المسلمين و شتمهم قال الله تعالى : { و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا } و قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم و لا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن و لا تلمزوا أنفسكم و لا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان و من لم يتب فأولئك هم الظالمون }
و قال الله تعالى : { و لا تجسسوا و لا يغتب بعضكم بعضا }
و قال صلى الله عليه و سلم : [ إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس أو تركه الناس اتقاء فحشه ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ عباد الله إن الله وضع الحرج إلا من افترض بعرض أخيه فذلك الذي حرج أو هلك ]
و في الحديث [ كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه ] و قال عليه الصلاة و السلام [ المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخذله و لا يحقره بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم ] و فيه أيضا [ سباب المسلم فسوق و قتاله كفر ]
و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله إن فلانة تصلي الليل و تصوم النهار و تؤذي جيرانها بلسانها فقال : لا خير فيها هي في النار ] صححه الحاكم و في الحديث أيضا [ اذكروا محاسن موتاكم و كفوا عن مساوءهم ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من دعا رجلا بالكفر أو قال يا عدو الله و ليس كذلك إلا حار عليه ] و قال عليه الصلاة و السلام : [ مررت ليلة أسري بي بقوم لهم أظافر من النحاس يخمشون بها وجوههم و صدورهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس و يقعون في أعراضهم ]
( فصل ) في الترهيب من الإفساد و التحريش بين المؤمنين و بين البهائم و الدواب : صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب و لكن في التحريش بينهم ] فكل من حرش بين اثنين من بني آدم و نقل بينهما ما يؤذي أحدهما فهو نمام من حزب الشيطان من أشر الناس كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا أخبركم بشراركم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : شراركم المشاؤون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبرءاء العنت ] و العنت المشقة و صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يدخل الجنة نمام ] و النمام هو الذي ينقل الحديث بين الناس و بين اثنين بما يؤذي أحدهما أو يوحش قلبه على صاحبه أو صديقه بأن يقول له : قال عنك فلان كذا و كذا و فعل كذا و كذا إلا أن يكون في ذلك مصلحة أو فائدة كتحذيره من شر يحدث أو يترتب و أما التحريش بين البهائم و الدواب و الطير و غيرها فحرام كمناقرة الديوك و نطاح الكباش و تحريش الكلاب بعضها على بعض و ما أشبه ذلك و قد نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فمن فعل ذلك فهو عاص لله و رسوله و من ذلك إفساد قلب المرأة على زوجها و العبد على سيده لما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ملعون من خبب امرأة على زوجها أو عبدا على سيده ] نعوذ بالله من ذلك
( فصل ) في الترغيب في الإصلاح بين الناس قال الله تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس و من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما } قال مجاهد : هذه الآية عامة بين الناس يريد أنه لا خير فيما يتناجى فيه الناس و يخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير و هو قوله { إلا من أمر بصدقة } ثم حذف المضاف { أو معروف } قال ابن عباس : بصلة الرحم و بطاعة الله و يقال لأعمال البر كلها معروف لأن العقول تعرفها قوله تعالى : { أو إصلاح بين الناس } هذا مما حث عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ لأبي أيوب الأنصاري ألا أدلك على صدقة هي خير لك من حمر النعم قال : بلى يا رسول الله قال : تصلح بين الناس إذا تفاسدوا و تقرب بينهم إذا تباعدوا ] و روت [ أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر لله ]
و روي أن رجلا قال لسفيان : ما أشد هذا الحديث قال سفيان : ألم تسمع إلى قول الله تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف } الآية فهذا هو بعينه
ثم علم سبحانه أن ذلك إنما ينفع من ابتغى به ما عند الله قال الله تعالى : { و من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما } أي ثوابا لا حد له
و في الحديث [ ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا ] رواه البخاري و قالت أم كلثوم [ و لم أسمعه صلى الله عليه و سلم يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاثة أشياء : في الحرب و الإصلاح بين الناس و حديث الرجل زوجته و حديث المرأة زوجها ] و [ عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شر فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلح بينهم في أناس معه من أصحابه ] رواه البخاري
و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما عمل شيء أفضل من مشي إلى الصلاة أو إصلاح ذات البين و حلف جائز بين المسلمين ]
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أصلح بين اثنين أصلح الله أمره و أعطاه بكل كلمة تكلم بها عتق رقبة و رجع مغفورا له ما تقدم من ذنبه ] و بالله التوفيق
اللهم عاملنا بلطفك و تداركنا بعفوك يا أرحم الراحمين
الكبيرة الرابعة و الخمسون : أذية عباد الله و التطول عليهم قال الله تعالى : { و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا }
و قال الله تعالى : { و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين }
و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ] و في رواية : [ فقد بارزني بالمحاربة أي أعلمته أني محارب له ] و في الحديث [ أن أبا سفيان أتى على سلمان و صهيب و بلال في نفر فقالوا : ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها فقال أبو بكر رضي الله عنه : أتقولون هذا لشيخ قريش و سيدهم ؟ فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال : يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لقد أغضبت ربك فأتاهم أبو بكر رضي الله عنه فقال : يا أخوتاه أغضبتكم ؟ قالوا : لا يغفر الله لك يا أخي ] و قولهم مأخذها : أي لم تستوف حقها منه
( فصل ) في قوله تعالى :
{ و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه } الآيات و هذه الآيات في تفضيل الفقراء و سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم أول من آمن به الفقراء و كذلك كل نبي أرسل أول من آمن به الفقراء فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجلس مع فقراء أصحابه مثل سلمان و صهيب و بلال و عمار بن ياسر رضي الله عنهم فأراد المشركون أن يحتالوا عليه في طرد الفقراء لما سمعوا أن علامة الرسل أن يكون أول أتباعهم الفقراء فجاء بعض رؤساء المشركين فقالوا : يا محمد اطرد الفقراء عنك فإن نفوسنا تأنف أن تجالسهم فلو طردتهم عنك لآمن بك أشراف الناس و رؤساؤهم فأنزل الله تعالى : { و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه }
فلما أيس المشركون من طردهم قالوا : يا محمد إن لم تطردهم فاجعل لنا يوما و لهم يوما فأنزل الله تعالى :
{ و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا }
أي لا تتعداهم و لا تتجاوز بنظرك رغبة عنهم و طلبا لصحبة أبناء الدنيا
{ و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر }
ثم ضرب لهم مثل الغني و الفقير بقوله { و اضرب لهم مثلا رجلين } { و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا } فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعظم الفقراء و يكرمهم
و لما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة هاجروا معه فكانوا في صفة المسجد مقيمين متبتلين فسموا أصحاب الصفة فكان ينتمي إليهم من يهاجر من الفقراء حتى كثروا رضي الله عنهم هؤلاء شاهدوا ما أعد الله لأوليائه من الإحسان و عاينوه بنور الإيمان فلم يعلقوا قلوبهم بشيء من الأكوان بل قالوا : إياك نعبد و لك نخضع و نسجد و بك نهتدي و نسترشد و عليك نتوكل و نعتمد و بذكرك نتنعم و نفرح و في ميدان ودك نرتع و نسرح و لك نعمل و نكدح و عن بابك أبدا لا نبرح فحينئذ عمر لهم سبيله و خاطب فيهم رسوله فقال : { و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة } الآية أي : و لا تطرد قوما أمسوا على ذكر ربهم يتقلبون و إن أصبحوا فلبابه ينقلبون لا تطرد قوما المساجد مأواهم و الله مطلوبهم و مولاهم و الجوع طعامهم و السهر إذا نام الناس أدامهم و الفقر و الفاقة شعارهم و المسكنة و الحياء دثارهم ربطوا خيل عزمهم على باب مولاهم و بسطوا وجوههم في محاريب نجواهم فالفقر عام و خاص فالعام الحاجة إلى الله تعالى و هذا وصف كل مخلوق مؤمن و كافر و هو معنى قوله تعالى { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله } الآية و الخاص وصف أولياء الله و أحبائه خلو اليدين من الدنيا و خلو القلب من التعلق بها اشتغالا بالله عز و جل و شوقا إليه و أنسا بالفراغ و الخلوة مع الله عز و جل
اللهم أذقنا حلاوة مناجاتك و أن تسلك بنا طريق مرضاتك و اقطع عنا كل ما يبعدنا من حضرتك و يسر لنا ما يسرته لأهل محبتك و اغفر لنا و لوالدينا و للمسلمين
الكبيرة الخامسة و الخمسون : إسبال الإزار و الثوب و اللباس و السراويل تعززا و عجبا و فخرا و خيلاء
قال الله تعالى : { و لا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور }
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار ]
و قال عليه الصلاة و السلام : [ لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا ] و قال عليه الصلاة و السلام : [ ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا ينظر إليهم و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم : المسبل و المنان و المنفق سلعته بالحلف الكاذب ]
و في الحديث أيضا : [ بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيه إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ]
و قال عليه الصلاة و السلام : [ من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ] و قال صلى الله عليه و سلم [ الإسبال في الإزار و العمامة من جر شيئا منها خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ]
و قال عليه الصلاة و السلام : [ إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه و لا حرج عليه فيما بينه و بين الكعبين ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار ]
و هذا عام في السراويل و الثوب و الجبة و القباء و الفرجية و غيرها من اللباس فنسأل الله العافية و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما رجل يصلي مسبلا إزاره قال له رسول الله : اذهب فتوضأ ثم جاء فقال اذهب فتوضأ فقال له رجل يا رسول الله ما لك أمرته أن يتوضأ ؟ ثم سكت عنه فقال : إنه كان يصلي و هو مسبل إزاره و لا يقبل الله صلاة رجل مسبلا إزاره ]
و لما قال صلى الله عليه و سلم : [ من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنك لست ممن يفعله خيلاء ]
اللهم عاملنا بلطفك الحسن الجميل برحمتك يا أرحم الراحمين
الكبيرة السادسة و الخمسون : لبس الحرير و الذهب للرجال في الصحيحين [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ] و هذا عام في الجند و غيرهم لقوله صلى الله عليه و سلم : [ حرم لبس الحرير و الذهب على ذكور أمتي ]
و [ عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نشرب في آنية الذهب و الفضة و أن نأكل فيها و عن لبس الحرير و الديباج و أن نجلس عليها ] أخرجه البخاري
فمن استحل لبس الحرير من الرجال فهو كافر و إنما رخص فيه الشارع صلى الله عليه و سلم لمن به حكة أو جرب أو غيره و للمقاتلين عند لقاء العدو و أما لبس الحرير للزينة في حق الرجال فحرام بإجماع المسلمين سواء كان قباء أو قبطيا أو كلوثة و كذلك إذا كان الأكثر حريرا كان حراما و كذلك الذهب لبسه حرام على الرجال سواء كان خاتما أو حياصة أو سقط سيف حرام لبسه و عمله و قد رأى النبي صلى الله عليه و سلم في يد رجل خاتما من ذهب فنزعه و قال : [ يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده ] و كذلك طراز الذهب و كلوثة الزركش حرام على الرجال و اختلف العلماء في جواز إلباس الصبي الحرير و الذهب فرخص فيه قوم و منع آخرون لعموم قوله صلى الله عليه و سلم عن الحرير و الذهب : [ هذان حرام على ذكور أمتي حل لأناثهم ] فدخل الصبي في النهي و هذا مذهب الإمام أحمد و آخرين رحمهم الله
فنسأل الله التوفيق لما يحب و يرضى إنه جواد كريم
الكبيرة السابعة و الخمسون : اباق العبد روى مسلم في صحيحه [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ أيما عبد أبق فقد برئت منه الذمة ] و روى ابن خزيمة في صحيحه [ من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة و لا يصعد لهم إلى السماء حسنة : العبد الآبق حتى يرجع إلى مولاه و المرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى و السكران حتى يصحو ] و [ عن فضالة بن عبيد مرفوعا : ثلاثة لا يسأل عنهم : رجل فارق الجماعة و عصى إمامه و عبد آبق و مات عاصيا و امرأة غاب عنها زوجها و قد كفاها المؤونة فتبرجت بعده ـ أي أظهرت محاسنها كما يفعل أهل الجاهلية ] و هم ما بين عيسى و محمد صلى الله عليه و سلم كذا ذكره الواحدي رحمه الله
الكبيرة الثامنة و الخمسون : الذبح لغير الله عز و جل مثل من يقول : بسم الشيطان أو الصنم أو باسم الشيخ فلان قال الله تعالى : { و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } قال ابن عباس : يريد الميتة و المنخنقة إلى قوله : { و ما ذبح على النصب } و قال الكلبي : ما لم يذكر اسم الله عليه أو يذبح لغير الله تعالى و قال عطاء : ينهي عن ذبائح كانت تذبحها قريش و العرب على الأوثان و قوله : { إنه لفسق } يعني : و إن كل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة فسق أو خروج عن الحق و الدين { و إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } أي يوسوس الشيطان لوليه فيلقي في قلبه الجدال بالباطل و هو أن المشركين جادلوا المؤمنين في الميتة قال ابن عباس : أوحى الشيطان إلى أوليائه من الأنس كيف تعبدون شيئا لا تأكلون ما يقتل و أنتم تأكلون ما قتلتم ؟ فأنزل الله هذه الآية { و إن أطعتموهم } يعني في استحلال الميتة { إنكم لمشركون } قال الزجاج : و في هذا دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله أو حرم شيئا مما أحل الله فهو مشرك
فإن قيل : كيف أبحتم ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية و الآية كالنص في التحريم ؟ قلت : إن المفسرين فسروا ما لم يذكر اسم الله عليه في هذه الآية بالميتة و لم يحمله أحد على ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية و في الآية أشياء تدل أن الآية في تحريم الميتة و منها قوله { و إنه لفسق } و لا يفسق آكل ذبيحة المسلم التارك للتسمية
و منها قوله { و إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } و المناظرة إنما كانت في الميتة بإجماع من المفسرين لا في ذبيحة تارك التسمية من المسلمين و منها قوله { و إن أطعتموهم إنكم لمشركون } و الشرك في استحلال الميتة لا في استحلال الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها
و قد أخبرنا أبو منصور بإسناده [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أرأيت الرجل منا يذبح و ينسى أن يسمي الله تعالى ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم اسم الله على فم كل مسلم ]
و أخبرنا أبو منصور أيضا بإسناده [ عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يكفيه اسمه و إن نسي يسمي حين يذبح فليسم و يذكر الله ثم ليأكل ]
و [ أخبرنا عمرو بن أبي عمرو بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أن قوما قالوا : يا رسول الله إن قوما يأتونا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : سموا عليه و كلوا ] هذا آخر كلام الواحدي رحمه الله و قد تقدم قوله صلى الله عليه و سلم : [ لعن الله من ذبح لغير الله ]
الكبيرة التاسعة و الخمسون : فيمن ادعى إلى غير أبيه و هو يعلم [ عن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من ادعى إلى غير أبيه و هو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ] رواه البخاري
و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كافر ] رواه البخاري
و فيه أيضا [ من ادعى إلى غير أبيه فعليه لعنة الله ] و عن زيد بن شريك قال : رأيت عليا رضي الله عنه يخطب على المنبر فسمعته يقول : و الله ما عندنا من كتاب نقرؤه إلا كتاب الله تعالى و ما في هذه الصحيفة فنشرها فإذا فيها أسنان الإبل و شيء من الجراحات و فيها : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ المدينة حرام ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين لا يقبل الله يوم القيامة منه صرفا و لا عدلا و من تولى غير مواليه فعليه مثل ذلك و ذمة المسلمين واحدة ] رواه البخاري و [ عن أبي ذر أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : ليس منا رجلا ادعى إلى غير أبيه و هو يعلمه إلا كفر و من ادعى ما ليس له فليس منا و ليتبوأ مقعده من النار و من دعا رجلا بالكفر أو قال يا عدو الله و ليس كذلك إلا حار عليه ] أي رجع عليه و رواه مسلم فنسأل الله العفو و العافية و التوفيق لما يحب و يرضى إنه جواد كريم
الكبيرة الستون : الجدل و المراء و اللدد قال الله تعالى : { و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا و يشهد الله على ما في قلبه و هو ألد الخصام * و إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل و الله لا يحب الفساد }
و مما يذم من الألفاظ : المراء و الجدال و الخصومة
قال الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله : المراء طعنك في كلام لإظهار خلل فيه لغير غرض سوى تحقير قائله و إظهار مزيتك عليه و قال : و أما الجدال فعبارة عن أمر يتعلق بإظهار المذاهب و تقريرها قال : و أما الخصومة فلجاج في الكلام ليستوفي به مقصودا من مال غيره و تارة يكون ابتداء و تارة يكون اعتراضا و المراء لا يكون إلا اعتراضا هذا كلام الغزالي
و قال النووي رحمه الله : اعلم أن الجدال قد يكون بحق و قد يكون بباطل قال الله تعالى : { و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } و قال الله تعالى : { و جادلهم بالتي هي أحسن } و قال الله تعالى : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } قال : فإن كان الجدال للوقوف على الحق و تقريره كان محمودا و إن كان في مدافعة الحق أو كان جدالا بغير علم كان مذموما و على هذا التفصيل تنزل النصوص الواردة في إباحته و ذمه و المجادلة و الجدال بمعنى واحد قال بعضهم : ما رأيت شيئا أذهب للدين و لا أنقص للمروءة و لا أشغل للقلب من الخصومة
( فإن قلت ) لا بد للإنسان من الخصومة لاستيفاء حقوقه ( فالجواب ) ما أجاب به الغزالي رحمه الله : اعلم أن الذم المتأكد إنما هو لمن خاصم بالباطل و بغير علم كوكيل القاضي فإنه يتوكل في الخصومة قبل أن يعرف الحق في أي جانب هو فيخاصم بغير علم
و يدخل في الذم أيضا من يطلب حقه لأنه لا يقتصر على قدر الحاجة بل يظهر اللدد و الكذب و الإيذاء و التسليط على خصمه كذلك من خلط بالخصومة كلمات تؤذي و ليس له إليها حاجة في تحصيل حقه كذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم و كسره فهذا هو المذموم
و أما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد و إسراف و زيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد و لا إيذاء ففعل هذا ليس حراما و لكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا لأن ضبط اللسان في الخصومة على حد الإعتدال متعذر و الخصومة توغر الصدور و تهيج الغضب و إذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما حتى يفرح كل واحد منهما بمساءة الآخر و يحزن لمسرته و يطلق لسانه في عرضه فمن خاصم فقد تعرض لهذه الآفات و أقل ما فيها اشتغال القلب حتى أنه يكون في صلاته و خاطره متعلق بالمحاججة و الخصومة فلا تبقى حاله على الإستقامة و الخصومة مبدأ الشر و كذا الجدال و المراء فينبغي للإنسان ألا يفتح عليه باب الخصومة إلا لضرورة لا بد منها
روينا في كتاب للترمذي [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كفى بك إثما أن لا تزال مخاصما ]
و جاء عن علي رضي الله عنه قال : إن الخصومة لها قحم قلت القحم بضم القاف و فتح الحاء المهملة و هي : المهالك
( فصل ) [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من جادل في خصومة بغير علم لم يزل في سخط حتى ينزع ]
و [ عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدال ثم تلا { ما ضربوه لك إلا جدلا } الآية ]
و قال صلى الله عليه و سلم : [ أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم و جدال منافق في القرآن و دنيا تقطع أعناقكم ] رواه ابن عمر
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ المراء في القرآن كفر ]
( فصل ) : يكره التغيير في الكلام بالتشدق و تكلف السجع بالفصاحة بالمقدمات التي يعتادها المتفاصحون فكل ذلك من التكلف المذموم بل ينبغي أن يقصد في مخاطبته لفظا يفهمه جليا و لا يثقله
روينا في كتاب الترمذي [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة ] قال الترمذي : حديث حسن و روينا فيه أيضا [ عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن من أحبكم إلي و أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا و إن من أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون و المتشدقون و المتفيهقون قالوا : يا رسول الله قد علمنا الثرثارون و المتشدقون فما المتفيهقون ؟ قال : المتكبرون ] قال الترمذي حديث حسن قال : و الثرثار هو كثير الكلام و المتشدق من يتطاول على الناس في الكلام و يبذو عليهم
و اعلم أنه لا يدخل في الذم تحسين ألفاظ الخطب و المواعظ إذا لم يكن فيها إفراط و أغراب إلا أن المقصود منها تهييج القلوب إلى طاعة الله تعالى و لحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر و الله أعلم
الكبيرة الحادية و الستون : منع فضل الماء قال الله تعالى :
{ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين }
قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ ]
و قال عليه الصلاة و السلام : [ من منع فضل مائه و فضل كلئه منعه الله فضله يوم القيامة ]
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاثة لا يكلمهم الله و لا ينظر إليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم : رجل على فضل ماء بفلاة يمنعه ابن السبيل و رجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها و فى له و إن لم يعطه منها لم يف له و رجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذتها بكذا و كذا فصدقه و هو على غير ذلك ] أخرجاه في الصحيحين و زاد البخاري : [ و رجل منع فضل مائه فيقول الله اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ]
الكبيرة الثانية و الستون : نقص الكيل و الزراع و ما أشبه ذلك قال الله تعالى : { ويل للمطففين } يعني الذين ينقصون الناس و يبخسون حقوقهم بالكيل و الوزن قوله : { الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون } يعني يستوفون حقوقهم منها قال الزجاج : المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم و كذلك إذا اتزنوا و لم يذكر إذا اتزنوا لأن الكيل و الوزن بهما الشراء و البيع فيما يكال و يوزن فأحدهما يدل على الآخر { و إذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } أي ينقصون في الكيل و الوزن و قال السدي : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و بها رجل يقال له أبو جهينة له مكيالان يكيل بأحدهما و يكتال بالآخر فأنزل الله هذه الآية
و [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خمس بخمس قالوا يا رسول الله و ما خمس بخمس ؟ قال : ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم و ما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر و ما ظهرت فيهم الفاحشة إلا أنزل الله بهم الطاعون ـ يعني كثرة الموت ـ و لا طففوا الكيل إلا منعوا النبات و أخذوا بالسنين و لا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر ] { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون } قال الزجاج : المعنى لو ظنوا أنهم مبعوثون ما ما نقصوا في الكيل و الوزن { ليوم عظيم } أي يوم القيامة { يوم يقوم الناس } من قبورهم { لرب العالمين } أي لأمره و لجزائه و حسابه و هم يقومون بين يديه لفصل القضاء و عن مالك بن دينار قال دخل علي جار لي و قد نزل به الموت و هو يقول : جبلين من نار جبلين من نار قال قلت : ما تقول ؟ قال يا أبا يحيى كان لي مكيالان كنت أكيل بأحدهما و أكتال بالآخر و قال مالك بن دينار : فقمت فجعلت أضرب أحدهما بالآخر فقال يا أبا يحيى كلما ضربت أحدهما بالآخر ازداد الأمر عظما و شدة فمات في مرضه
و المطفف : هو الذي ينقص الكيل و الوزن مطففا لأنه لا يكاد يسرق إلا الشيء الطفيف و ذلك ضرب من السرقة و الخيانة و أكل الحرام ثم وعد الله من فعل ذلك بويل و هو شدة العذاب و قيل واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره و قال بعض السلف : أشهد على كل كيال أو وزان بالنار لأنه لا يكاد يسلم إلا من عصم الله و قال بعضهم : دخلت على مريض و قد نزل به الموت فجعلت ألقنه الشهادة و لسانه لا ينطق بها ؟ فلما أفاق قلت له : يا أخي ما لي ألقنك الشهادة و لسانك لا ينطق بها ؟ قال يا أخي لسان الميزان على لساني يمنعني من النطق بها فقلت له : بالله أكنت تزن ناقصا ؟ قال : لا و الله و لكن ما كنت أقف مدة لأختبر صحة ميزاني فهذا حال من لا يعتبر صحة ميزانه فكيف حال من يزن ناقصا ؟ !
و قال نافع : كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول : اتق الله و أوف الكيل و الوزن فإن المطففين يوقفون حتى أن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم و كذا التاجر إذا شد يده في الذراع وقت البيع و أرخى وقت الشراء و كان بعض السلف يقول : ويل لمن يبيع بحبة يعطيها ناقصة جنة عرضها السماوات و الأرض و ويح لمن يشتري الويل بحبة يأخذها زائدة فنسأل الله العفو و العافية من كل بلاء و محنة إنه جواد كريم
الكبيرة الثالثة و الستون : الأمن من مكر الله قال الله تعالى { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة } أي أخذهم عذابنا من حيث لا يشعرون قال الحسن : من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له و من قتر عليه فلم ير أنه ينظر إليه فلا رأي له ثم قرأ هذه الآية :
{ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون }
و قال : مكر بالقوم و رب الكعبة أعطوا حاجتهم ثم أخذوا
و [ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب و هو مقيم على معصيته فإنما ذلك منه استدراج ثم قرأ : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } ]
الإبلاس : اليأس من النجاة عند ورود الهلكة و قال ابن عباس أيسوا من كل خير و قال الزجاج : المبلس الشديد الحسرة اليائس الحزين
و في الأثر : أنه لما مكر بإبليس ـ و كان من الملائكة ـ طفق جبريل و ميكال يبكيان فقال الله عز و جل لهما : مالكما تبكيان ؟ قالا : يا رب ما نأمن مكرك فقال الله تعالى : هكذا كونا لا تأمنا مكري و كان النبي صلى الله عليه و سلم يكثر أن يقول : [ يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ] فقيل له يا رسول الله أتخاف علينا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ]
و في الحديث الصحيح [ إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه و بينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ]
و في صحيح البخاري [ عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار و إنه من الجنة و يعمل الرجل بعمل أهل الجنة و إنه من أهل النار و إنما الأعمال بالخواتيم ]
و قد قص الله تعالى في كتابه العزيز قصة بلعام و إنه سلب الإيمان بعد العلم و المعرفة و كذلك برصيصا العابد مات على الكفر و روي أنه كان رجل بمصر ملتزم المسجد لللآذان و الصلاة و عليه بهاء العبادة و أنوار الطاعة فرقي يوما المنارة على عادته للآذان و كان تحت المنارة دار لنصراني ذمي فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار ـ و كانت جميلة ـ فافتتن بها و ترك الآذان و نزل إليها فقالت له : ما شأنك و ما تريد ؟ فقال : أنت أريد قالت : لا أجيبك إلى ريبة قال لها أتزوجك قالت له : أنت مسلم و أبي لا يزوجني بك قال : أتنصر قالت له : إن فعلت أفعل فتنصر ليتزوجها و أقام معهم في الدار فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقى إلى سطح كان في الدار فسقط فمات فلا هو فاز بدينه و لا هو تمتع بها نعوذ بالله من مكره و سوء العافية و سوء الخاتمة و [ عن سالم عن عبد الله قال : كان كثيرا ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحلف لا و مقلب القلوب ] رواه البخاري و معناه يصرفها أسرع من ممر الريح على اختلاف في القبول و الرد و الإرادة و الكراهة و غير ذلك من الأوصاف و في التنزيل { و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه } قال مجاهد : المعنى يحول بين المرء و عقله حتى لا يدري ما تصنع بنانه { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } أي عقل و اختار الطبري أن يكون ذلك إخبارا من الله تعالى أنه أملك لقلوب العباد منهم و أنه يحول بينهم و بينها إن شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئا إلا بمشيئة الله عز و جل و [ قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك فقلت : يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا فهل تخشى ؟ قال : و ما يؤمنني يا عائشة و قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء إذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه ] فإذا كانت الهداية معروفة و الإستقامة على مشيئته موقوفة و العاقبة مغيبة و الإرادة غير مغالبة فلا تعجب بإيمانك و عملك و صلاتك و صومك و جميع قربك ذلك إن كان من كسبك فإنه من خلق ربك و فضله الدار عليك فمهما افتخرت بذلك كنت مفتخرا بمتاع غيرك ربما سلبه عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف العير
فكم من روضة أمست و زهرها يانع عميم أضحت و زهرها يابس هشيم إذ هبت عليها الريح العقيم كذلك العبد يمسي و قلبه بطاعة الله مشرق سليم و يصبح و هو بمعصية الله مظلم سقيم ذلك تقدير العزيز العظيم
ابن آدم الأقلام عليك تجري و أنت في غفلة لا تدري ابن آدم دع المغاني و الأوتار و المنازل و الديار و التنافس في هذه الدار حتى ترى ما فعلت في أمرك الأقدار قال الربيع : سئل الإمام الشافعي رحمه الله
تعالى :
ينادي مناد من قبل العرش : أين فلان أين فلان فلا يسمع أحد ذلك الصوت إلا و تضطرب فرائصه قال فيقول الله عز و جل لذلك الشخص : أنت المطلوب هلم إلى العرض على خالق السموات و الأرض فيشخص الخلق بأبصارهم اتجاه العرش و يوقف ذلك الشخص بين يدي الله عز و جل فيلقي الله عز و جل عليه من نوره يستره عن المخلوقين ثم يقول له : عبدي أما علمت أني كنت أشاهد عملك في دار الدنيا ؟ فيقول : بلى يا رب فيقول الله تعالى : عبدي أما سمعت بنقمتي و عذابي لمن عصاني ؟ فيقول : بلى يا رب فيقول الله تعالى : أما سمعت بجزائي و ثوابي لمن أطاعني ؟ فيقول : بلى يا رب فيقول الله تعالى : يا عبدي عصيتني ؟ فيقول : يا رب قد كان ذلك فيقول الله تعالى : عبدي فما ظنك اليوم بي ؟ فيقول يا رب أن تعفو عني فيقول الله تعالى : عبدي تحققت أني أعفو عنك ؟ فيقول : نعم يا رب لأنك رأيتني على المعصية و سترتها علي : قال فيقول الله عز و جل : قد عفوت عنك و غفرت لك و حققت ظنك خذ كتابك بيمينك فما كان فيه من حسنة فقد قبلتها و ما كان من سيئة فقد غفرتها لك و أنا الجواد الكريم
إلهنا لولا محبتك للغفران ما أمهلت من يبارزك بالعصيان و لولا عفوك و كرمك ما سكنت الجنان
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا
اللهم انظر إلينا نظر الرضى و أثبتنا في ديوان أهل الصفا و نجنا من ديوان أهل الجفا
اللهم حقق بالرجاء آمالنا و حسن في جميع الأحوال أعمالنا و سهل في بلوغ رضاك سبلنا و خذ إلى الخيرات بنواصينا و آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار
الكبيرة الرابعة و الستون الكبيرة الرابعة والستون
الكبيرة الخامسة و الستون : تارك الجماعة فيصلي وحده من غير عذر [ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لقوم يتخلفون عن الجماعة : لقد هممت أن آمر رجل يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجماعة بيوتهم ] رواه مسلم و قال عليه الصلاة و السلام : [ لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين ] رواه مسلم
و قال صلى الله عليه و سلم : [ من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه ] أخرجه أبو داود و النسائي و قال : [ من ترك الجمعة من غير عذر و لا ضرر كتب منافقا في ديوان لا يمحى و لا يبدل ]
و [ عن حفصة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : رواح الجمعة واجب على كل محتلم ] أي على كل بالغ
فنسأل الله التوفيق لما يحب و يرضى إنه جواد كريم
الكبيرة السادسة و الستون : الإصرار على ترك صلاة الجمعة و الجماعة من غير عذر
قال الله تعالى : { يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة و قد كانوا يدعون إلى السجود و هم سالمون }
قال كعب الأحبار : ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات
و قال سعيد بن المسيب إمام التابعين رحمه الله : كانوا يسمعون حي على الصلاة حي على الفلاح فلا يجيبون و هم سالمون أصحاء
و في الصحيحين [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و الذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب يحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة في الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ] و في رواية لمسلم من حديث أبي هريرة : [ لقد هممت أن آمر فتيتي أن يجمعوا لي حزما من حطب ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم ] و في هذا الحديث الصحيح و الآية التي قبله وعيد شديد لمن يترك صلاة الجماعة من غير عذر فقد روى أبو داود في سننه [ بإسناد إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سمع المنادي فلم يمنعه من إتيانه عذر ـ قيل و ما العذر يا رسول الله قال خوف أو مرض ـ لم تقبل منه الصلاة التي صلى ] يعني في بيته
و روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل يصوم النهار و يقوم الليل و لا يصلي في جماعة و لا يجمع فقال : إن مات هذا فهو في النار
و روى مسلم [ أن رجلا أعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي ؟ فرخص له فلما ولى دعاه فقال : هل تسمع النداء بالصلاة ؟ قال : نعم قال : فأجب ] و في رواية أبي داود [ أن ابن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم و قال : يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام و السباع و أنا ضرير البصر فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي ؟ فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ؟ قال : نعم قال : فأجب فحي هلا ] و في رواية [ أنه قال : يا رسول الله إني ضرير شاسع الدار و لي قائد لا يلائمني فهل لي رخصة ] : و قوله ( فحي هلا ) أي تعال و أقبل
و روى الحاكم في مستدركه على شرط الصحيحين [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر فلا صلاة له قالوا و ما العذر يا رسول الله ؟ قال : خوف أو مرض ] و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لعن الله ثلاثة ـ من تقدم قوما و هم له كارهون و امرأة باتت و زوجها عليها ساخط و رجلا سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب ]
قال أبو هريرة : لأن تمتلىء أذن ابن آدم رصاصا مذابا خير من أن يسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا يجيب
و قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد قيل من جار المسجد ؟ قال : من يسمع الآذان قال أيضا : من سمع النداء فلم يأته لم تجاوز صلاته رأسه إلا من عذر
و قال ابن مسعود رضي الله عنه : من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن فإن الله تعالى شرع لنبيكم صلى الله عليه و سلم سنن الهدى و إنها من سنن الهدى و لو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم و لو تركتم سنة نبيكم لضللتم و لقد رأيتنا و ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق أو مريض و لقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف يعني يتكىء عليهما من ضعفه حرصا على فضلها و خوفا من الإثم في تركها
( فصل ) : و فضل صلاة الجماعة عظيم كما في تفسير قوله تعالى : { و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } إنهم المصلون الصلوات الخمس في الجماعات و في قوله تعالى : { و نكتب ما قدموا و آثارهم } أي خطاهم
و في الصحيح [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته أحدهما تحط خطيئة و الأخرى ترفع درجة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه الذي صلى فيه يقولون : اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يؤذ فيه أو يحدث فيه ]
و قال صلى الله عليه و سلم : [ ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا و يرفع به الدرجات ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء على المكاره و كثرة الخطا إلى المساجد و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط ] رواه مسلم
الكبيرة السابعة و الستون : الإضرار في الوصية قال الله تعالى : { من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار }
أي غير مدخل الضرر على الورثة و هو أن يوصي بدين ليس عليه يريد بذلك ضرر الورثة فمنع الله منه و قال الله تعالى : { وصية من الله و الله عليم حليم }
قال ابن عباس : يريد ما أحل الله من فرائضه في الميراث { و من يطع الله و رسوله } في شأن المواريث { يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله } قال مجاهد فيما فرض الله من المواريث
و قال عكرمة عن ابن عباس من لم يرض بقسم الله و يتعد ما قال الله { يدخله نارا }
و قال الكلبي يعني يكفر بقسمة الله المواريث و يتعدى حدوده استحلالا { يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب مهين } و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار ] ثم قرأ أبو هريرة هذه الآية { من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار } رواه أبو داود
و جاء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من فر بميراث وارث قطع الله ميراثه من الجنة ]
و قال عليه الصلاة و السلام : [ إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ] صححه الترمذي
الكبيرة الثامنة و الستون : المكر و الخديعة قال الله عز و جل : { و لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله }
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ المكر و الخديعة في النار ]
و قال صلى الله عليه و سلم : [ لا يدخل الجنة خب و لا بخيل و لا منان ] و قال الله تعالى عن المنافقين : { يخادعون الله و هو خادعهم } قال الواحدي يعاملون عمل المخادع على خداعهم و ذلك أنهم يعطون نورا كما يعطى المؤمنون فإذا مضوا على الصراط أطفىء نورهم و بقوا في الظلمة
و قال صلى الله عليه و سلم في حديث : [ و أهل النار خمسة و ذكر منهم رجلا لا يصبح و لا يمسي إلا و هو يخادعك عن أهلك و مالك ]
الكبيرة التاسعة و الستون : من جس على المسلمين و دل على عوراتهم فيه حديث حاطب بن أبي بلتعة و أن عمر أراد قتله بما فعل فمنعه رسول الله صلى الله عليه و سلم من قتله لكونه شهد بدرا إذا ترتب على جسه وهن على الإسلام و أهله و قتل أو سبي أو نهب أو شيء من ذلك فهذا ممن سعى في الأرض فسادا و أهلك الحرث و النسل فيتعين قتله و حق عليه العذاب فنسأل الله العفو و العافية
و بالضرورة يدري كل ذي جس أن النميمة إذا كانت من أكبر المحرمات فنميمة الجاسوس أكبر و أعظم
نعوذ بالله من ذلك و نسأله العفو و العافية إنه لطيف خبير جواد كريم
الكبيرة السبعون : سب أحد من الصحابة رضوان الله عليهم ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يقول الله تعالى : [ من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم و لا نصيفه ] مخرج في الصحيحين
و قال صلى الله عليه و سلم : [ الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم و من أبغضهم فببغضي أبغضهم و من آذاهم فقد آذاني و من آذاني فقد آذى الله و من آذى الله أوشك أن يأخذه ] أخرجه الترمذي
ففي هذا الحديث و أمثاله بيان حالة من جعلهم غرضا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و سبهم و افترى عليهم و عابهم كفرهم و اجترأ عليهم
و قوله صلى الله عليه و سلم : ( الله الله ) كلمة تحذير و انذار كما يقول المحذر : النار النار أي احذروا النار و قوله : ( لا تتخذوهم غرضا بعدي ) أي لا تتخذوهم غرضا للسب و الطعن كما يقال : اتخذ فلان غرضا لسبه أي هدفا للسب ) و قوله : ( فمن أحبهم فبحبي أحبهم و من أبغضهم فببغضي أبغضهم ) فهذا من أجل الفضائل و المناقب لأن محبة الصحابة لكونهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و نصروه و آمنوا به و عزروه و واسوه بالأنفس و الأموال فمن أحبهم فإنما أحب النبي صلى الله عليه و سلم فحب أصحابي النبي صلى الله عليه و سلم عنوان محبتي و بغضهم عنوان بغضه كما جاء في الحديث الصحيح : [ حب الأنصار من الإيمان و بغضهم من النفاق ] و ما ذاك إلا لسابقتهم و مجاهدتهم أعداء الله بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم و كذلك حب علي رضي الله عنه من الإيمان و بغضه من النفاق و إنما يعرف فضائل الصحابة رضي الله عنهم من تدبر أحوالهم و سيرهم و آثارهم في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم و بعد موته من المسابقة إلى الإيمان و المجاهدة للكفار و نشر الدين و اظهار شعائر الإسلام و إعلاء كلمة الله و رسوله و تعليم فرائضه و سننه و لولاهم ما وصل إلينا من الدين أصل و لا فرع و لا علمنا من الفرائض و السنن سنة و لا فرضا و لا علمنا من الأحاديث و الأخبار شيئا
فمن طعن فيهم أو سبهم فقد خرج من الدين و مرق من ملة المسلمين لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم و إضمار الحقد فيهم و إنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم و ما لرسول الله صلى الله عليه و سلم من ثنائه عليهم و فضائله و مناقبهم و حبهم و لأنهم أرضى الوسائل من المأثور و الوسائط من المنقول و الطعن في الوسائط طعن في الأصل و الازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول هذا ظاهر لمن تدبره و سلم من النفاق و من الزندقة و الإلحاد في عقيدته و حسبك ما جاء في الأخبار و الآثار من ذلك كقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله اختارني و اختار لي أصحابا فجعل لي منهم وزراء و أنصار و أصهار فمن سبهم فعليه لعنة الملائكة و الناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا و لا عدلا ]
و [ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنا نسب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سب أصحابي فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين ]
و [ عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله اختارني و اختار لي أصحابي و جعل لي أصحابا و إخوانا و أصهارا و سيجيء قوم بعدهم يعيبونهم و ينقصونهم فلا تواكلوهم و لا تشاربوهم و لا تناكحوهم و لا تصلوا عليهم و لا تصلوا معهم ]
و [ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا ذكر أصحابي فأمسكوا و إذا ذكر النجوم فأمسكوا و إذا ذكر القدر فأمسكوا ]
قال العلماء : معناه من فحص عن سر القدر في الخلق و هو : أي الإمساك علامة الإيمان و التسليم لأمر الله و كذلك النجوم و من اعتقد أنها فعالة أو لها تأثير من إرادة الله عز و جل فهو مشرك و كذلك من ذم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بشيء وتتبع عثراتهم و ذكر عيبا و أضافه إليهم كان منافقا بل الواجب على المسلم حب الله و حب رسوله و حب ما جاء به و حب من يقوم بأمره و حب من يأخذ بهديه و يعمل بسنته و حب آله و أصحابه و أزواجه و أولاده و غلمانه و خدامه و حب من يحبهم و بغض من يبغضهم لأن أوثق عرى الإيمان الحب في الله و البغض في الله
قال أيوب السختياني رضي الله عنه : من أحب أبا بكر فقد أقام منار الدين و من أحب عمر فقد أوضح السبيل و من أحب عثمان فقد استنار بنور الله و من أحب عليا فقد استمسك بالعروة الوثقى و من قال الخير في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد برىء من النفاق
فصل : و أما مناقب الصحابة و فضائلهم فأكثر من أن تذكر و أجمعت علماء السنة أن أفضل الصحابة العشرة المشهود لهم و أفضل العشرة : أبو بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أحمعين و لا يشك في ذلك إلا مبتدع منافق خبيث
و قد نص النبي صلى الله عليه و سلم في حديث العرباض بن سارية حيث قال : [ عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور ] الحديث
و الخلفاء الراشدون هم : أبو بكر و عمر و عثمان و علي رضي الله عنهم أجمعين و أنزل الله في فضائل أبي بكر رضي الله عنه آيات من القرآن قال الله تعالى :
{ و لا يأتل أولو الفضل منكم و السعة أن يؤتوا أولي القربى و المساكين } الآية
لا خلاف إن ذلك فيه فنعته بالفضل رضوان الله عليه و قال تعالى : { ثاني اثنين إذ هما في الغار } الآية لا خلاف أيضا أن ذلك في أبي بكر رضي الله عنه شهدت له الربوبية بالصحبة و بشره بالسكينة و حلاه بثاني اثنين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من يكون أفضل من ثاني اثنين الله ثالثهم ؟ و قال الله تعالى :
{ و الذي جاء بالصدق و صدق به أولئك هم المتقون }
قال جعفر الصادق : لا خلاف إن الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم و الذي صدق به أبو بكر رضي الله عنه و أي منقبة أبلغ من ذلك فيهم ؟ رضي الله عنهم أجمعين
الصفحة الرئيسيةحول الموقعاتصل بناترجمات القرانأعلى الصفحة

ISLAMICBOOK.WS © 2022 | جميع الحقوق متاحة لجميع المسلمين


===========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج10. الادب المفرد للبخاري {من1182 الي1322 }

  ج10. الادب المفرد للبخاري {من 1182 الي 1322  }   المحتويات المقدمة باب الاحتباء باب من برك على ركبتيه باب الاستلقاء باب الضجعة...